فصل: (فرع: حل زقا فيه جامد فذوبه آخر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: هيج طائراً لغيره وقع على جداره]

وإن وقع طائر لغيره على جداره، فهيجه، فطار.. لم يضمنه؛ لأنه كان ممتنعاً قبل ذلك. وإن مر في هواء داره، فرماه، فأتلفه.. وجب عليه الضمان؛ لأنه لا يملك منعه من المرور فيه.

.[مسألة: حل زقا فيه مائع فخرج]

فإن حل زقاً لغيره فيه مائع، أو راوية فيها ماء، فخرج المائع.. ففيه ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يخرج عقيب الحل، فيجب عليه الضمان؛ لأن خروجه كان بفعله.
الثانية: أن لا يخرج عقيب الحل، بل وقف، إلا أنه خرج منه شيء، فابتل الموضع الذي كان مشدوداً فخرج، أو ثقل أحد جانبيه ومال، فسقط وخرج ما فيه، ضمنه؛ لأنه خرج بسراية فعله، فهو كما لو جرح حيواناً، فسرت الجراحة إلى نفسه ومات.
الثالثة: أن يكون الزق منصوباً، ولا يميل بالحل، ووقف ساعة، ثم سقط بريح، أو بتحرك إنسان أو دابة، أو بزلزلة الأرض، قال ابن الصباغ: أو لم يعلم كيف سقط وذهب ما فيه، فلا يجب على الفاتح الضمان؛ لأنه لم يوجد الخروج بفعله، ولا بسبب فعله، فهو كما لو حفر بئراً، ووقع فيها إنسان.
وإن كان الذي في الزق جامداً، فذاب بالشمس وخرج، فإن كان الزق على صفة لو كان فيه مائع لم يخرج، بأن كان منصوباً.. فلا ضمان عليه؛ لأن الخروج لم يكن بفعله؛ وإنما كان بإذابة الشمس له، وإن كان الزق على صفة لو كان ما فيه مائعاً لخرج عقيب الحل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأن خروجه كان بإذابة الشمس لا بحله.
والثاني: يضمن، وهو الصحيح؛ لأن خروجه إنما كان بفعله؛ لأن الشمس إنما أذابته، وذلك لا يوجب الخروج لولا الفتح، فهو كما لو جرح رجلاً، فأصابه الحر أو البرد، وسرت الجراحة إلى نفسه، فمات.. فإن الضمان عليه.

.[فرع: حل زقا فيه جامد فذوبه آخر]

وإن حل زقا فيه جامد، وقرب إليه آخر ناراً، فذاب وخرج.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب على واحد منهما ضمان؛ لأن الخروج لم يحصل بالحل، ولا باشر صاحب النار الإتلاف، فهو كما لو نقب رجل حرزاً، وسرق منه آخر.. فإنه لا قطع على واحد منهما.
والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أن الضمان يجب على من أدنى النار؛ لأن التلف حصل به.

.[فرع: فتح زقا فنكسه آخر فخرج ما فيه]

وإن فتح رجل زقا مستعلي الرأس فيه مائع، فخرج منه شيء، ثم جاء آخر، فنكسه حتى خرج جميع ما فيه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: أن ما خرج قبل التنكيس.. يجب ضمانه على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب ضمانه عليهما نصفين؛ لأنه خرج بفعلهما.
والثاني: أن ما خرج قبل التنكيس.. على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب على الذي نكسه، كما لو جرح رجل رجلاً، وذبحه آخر.

.[مسألة: حل رباط سفينة فغرقت]

وإن حل رباط سفينة، فغرقت، فإن غرقت في الحال.. ضمنها؛ لأن غرقها حصل بفعله. فإن وقفت، ثم غرقت، فإن كان غرقها بسبب حادث، كهبوب ريح، أو ما أشبهه.. لم يضمن؛ لأنها غرقت بغير فعله، وإن غرقت من غير سبب.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن، كالزق إذا ثبت بعد حله، ثم سقط.
والثاني: يضمن؛ لأن الماء أحد المتلفات.

.[مسألة: أوقد ناراً في ملكه فأحرقت دار جاره]

إذا أوقد في ملكه ناراً، فطارت منها شرارة إلى دار جاره، فأحرقته.. نظرت:
فإن كان بتفريط من الموقد، بأن أوقد ناراً عظيمة لا تحتملها داره في العادة، أو أوقد في يوم ريح شديد.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر من اليوم ذي الريح أن النار تطير إلى دار جاره، والظاهر ممن أوقد في ملكه شيئاً لا يحتمله ملكه أن النار تطير إلى ملك غيره.
وإن أوقد ناراً يحتملها ملكه مع سكون الريح.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط فيما صنع، فهو كما لو حفر بئراً في ملكه، فوقع فيها إنسان.
قال الطبري: وإن أوقد ناراً في ملكه في وقت سكون الريح، فهبت ريح، فأطارت شرارة منها إلى دار جاره، فأحرقتها.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط.
قال ابن الصباغ: وإن كان لجاره شجرة، فأوقد في ملك نفسه ناراً، فجفت تلك الشجرة.. ضمنها؛ لأنه مفرط في ذلك؛ لأن ذلك لا يحصل بما جرت العادة فيه من النار المستعملة.
قال الطبري: وإن كانت أرضه متصلة بأرض جاره، وحرق أرضه، فأحرقت أرض جاره، ضمنها.

.[فرع: سقى أرضه فطغى الماء على أرض جاره]

وإن سقى أرضه، فتعدى الماء إلى أرض جاره، فغرقها، أو أفسد زرعها.. نظرت:
فإن كان مفرطاً، بأن ساق إلى أرضه ماء كثيراً لا تحتمله أرضه، أو أرسل إليها ماء قليلاً، إلا أنه لا حاجز بين أرضه وأرض جاره.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر أن أرض جاره تغرق بذلك.
وإن كان ما ساقه من الماء تحتمله أرضه.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعد.
قال أصحابنا: وهكذا: لو كان في أرضه جحر فأر، فإن لم يعلم به، وقد ساق إلى أرضه من الماء ما تحتمله أرضه، فانصب الماء في الجحر إلى أرض جاره وأفسدها.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد بذلك.

.[مسألة: ألقت الريح ثوباً في داره]

وإن ألقت الريح في داره ثوباً.. لزمه حفظه؛ لأنه صار أمانة في يده، فصار كاللقطة، فإن عرف صاحبه.. لزمه إعلامه، فإن لم يفعل.. لزمه الضمان؛ لأنه صار ممسكاً له بغير إذن صاحبه، فصار كالغاصب.
قال الصيمري: ولو أطارته الريح من داره قبل أن يعلم به.. فلا ضمان عليه، ولو علم به ولم يقبضه حتى أطارته الريح.. فأصح الوجهين: أنه لا ضمان عليه.
وإن وقع في داره طائر لغيره.. لم يلزمه إمساكه وتعريف صاحبه به؛ لأنه يتحفظ بنفسه.
وإن دخل إلى برجه، فأغلق عليه الباب، فإن نوى إمساكه لنفسه.. ضمنه، وإن لم ينو إمساكه لنفسه.. لم يضمنه؛ لأنه يملك التصرف في برجه.

.[مسألة: نقل المغصوب إلى غير بلد صاحبه]

إذا غصب منه شيئاً ببلد، ونقله الغاصب إلى بلد أخرى.. كان للمغصوب منه أن يطالب الغاصب بنقله إلى البلد الذي غصبه منه فيه.
وإن غصب منه شيئاً ببلد، فلقيه المغصوب منه ببلد أخرى، فطالبه به في تلك البلد، فإن لم يكن للعين المغصوبة مؤنة في النقل، كالدراهم، والدنانير.. لزم الغاصب دفعها إليه في البلد الأخرى، وإن كان لنقله مؤنة، كالطعام، وما أشبهه، فإن كانت قيمة الطعام في البلدين سواء، أو كانت قيمته في البلد الثاني أقل.. فللمغصوب منه أن يطالبه به في البلد الثاني؛ لأنه لا ضرر على الغاصب بذلك، وإن كانت قيمته في البلد الثاني أكثر.. كان المغصوب منه بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يرجع إلى البلد الأول؛ وبين أن يطالبه بقيمته بما يساوي في البلد الذي غصبه منه فيه؛ لأنه لا يجوز أن يلزم الغاصب أكثر مما غصبه.
قال البغداديون من أصحابنا: ولا يملك الغاصب العين المغصوبة، فإذا رجعا إلى البلد الأولى.. لزم الغاصب تسليم العين إلى المغصوب منه، واسترجع ما دفع من القيمة.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 307] هل له أن يسترد القيمة، ويدفع إليه العين؟ فيه وجهان.

.[مسألة: إشهاد اثنين على الغصب]

إذا ادعى على رجل أنه غصب منه عيناً، وأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدين يشهد أحدهما: أنه غصبها من يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه غصبها منه يوم الجمعة.. لم يتم الغصب بشهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعلين، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء، ويستحق.
وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده: أنه غصب من فلان، وكان غصبه يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه أقر عنده: أنه غصبه منه، وكان غصبه يوم الجمعة.. لم يثبت الغصب بشهادتهما، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء.
وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده يوم الخميس: أنه غصب هذا الشيء من فلان، وشهد الآخر: أنه أقر عنده يوم الجمعة: أنه غصب هذا الشيء من فلان.. قال الشيخ أبو حامد: فظاهر ما قال الشافعي في (الأم) [3/223] أنه لا يحكم بشهادتهما. قال: إلا أن أصحابنا كلهم قالوا: يحكم بشهادتهما؛ لأنهما اتفقا على الإقرار بغصب واحد، وإنما اختلف تاريخ وقت الإقرار، وكلام الشافعي يرجع إلى المسألة قبلها.

.[فرع: حلف بالطلاق أنه لم يغصب]

فإن ادعى على رجل أنه غصب منه عينا، فحلف المدعى عليه بطلاق امرأته: أنه ما غصبها منه، فأقام المدعي شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين بما ادعاه.. ثبت الغصب، ولم يحكم بطلاق امرأته؛ لأن الغصب يثبت بالشاهد واليمين، وبالشاهد والمرأتين، والطلاق لا يثبت بذلك.

.[مسألة: اتفقا على الغصب واختلفا في التلف]

وإن اتفقا على غصب عين، واختلفا في بقائها، فقال الغاصب: قد تلفت، وقال المغصوب منه: لم تتلف.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على التلف، وهل يستحق المغصوب [منه] بدلها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق بدلها؛ لأنه لا يدعي ذلك.
والثاني: يستحق؛ لأنه لما تعذر رجوعه إلى العين بيمين الغاصب.. رجع إلى بدلها، كالعبد المغصوب إذا هرب.

.[مسألة: اتفقا على التلف واختلفا في القيمة]

وإن اتفقا على تلف العين المغصوبة، واختلفا في قيمتها، فقال المغصوب منه: قيمتها مائة، وقال الغاصب: قيمتها خمسون، فإن أقام المغصوب منه شاهدين قد شاهدا العين المغصوبة، وقالا: قيمتها مائة.. حكم للمغصوب منه بذلك.
وإن لم يشهدا أن قيمتها مائة، ولكنهما وصفاها بصفة، فعلم أن ما كان بتلك الصفة من جنس تلك العين كانت قيمتها مائة.. لم يحكم بأن قيمتها مائة؛ لأن ذلك يختلف؛ ولأنه قد يكون بها عيب ينقص قيمتها.
وإن لم يكن مع المغصوب بينة.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر». والغاصب هاهنا منكر. ولأنه غارم، والأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به. قال الطبري: وإنما يقبل قول الغاصب مع يمينه إذا كان ما ذكره محتملاً، فأما إذا كان ما ذكره محالاً، مثل أن يقول: قيمة الجارية التي تلفت عندي درهم، فلا يقبل قوله؛ لأنه يقطع بكذبه.
فإن أقام الغاصب بينة: أن قيمة العين كانت خمسين، فقال المغصوب منه: بل كانت قيمتها مائة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\309] فالقول قول الغاصب في الزيادة؛ لأن الأصل عدمها.

.[مسألة: الاختلاف في نقص كان في العين]

وإن اختلفا في نقص كان في العين المغصوبة، بأن غصب منه عبداً ومات في يده، فقال الغاصب: كان سارقاً، فقيمته عشرة، وقال المغصوب منه: لم يكن سارقاً، فقيمته عشرون.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق:
أحدهما: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته.
والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أن القول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته.
وذكر ابن الصباغ: إذا قال المغصوب منه: كانت العين سليمة، وقال الغاصب: كان بها داء.. ففيه طريقان:
الطريق الأولى من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: القول قول الغاصب.
والثاني: القول قول المغصوب منه؛ لما ذكرناه.
والطريق الثانية منهم من قال: القول قول المغصوب منه، قولاً واحداً؛ لأن الأصل سلامته.
قال ابن الصباغ: وإذا غصب منه عبداً، فكان في يد الغاصب أعور، فقال الغاصب: هكذا غصبته، وقال المغصوب منه: إنما اعورَّ عندك.. فالقول قول الغاصب؛ لأنه غارم، ولأن الظاهر أن هذه صفة العبد لم تتغير، وإن كان بعد تلف العبد.. فالقول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته، ويخالف الحي؛ لأنه قد شوهد بهذه الصفة، بخلاف الميت.
وأما المسعودي: فقال [في (الإبانة) ق\ 309] إذا كان العبد أقطع اليد، فقال الغاصب: لم تخلق له يد، وقال المغصوب منه: بل خلقت، ولكن قطعت في يدك.. فالظاهر من المذهب: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل أنها لم تخلق له يد. وفيها قول آخر: أن القول قول المالك؛ لأن الظاهر أنها خلقت له. وإن اتفقا على: أنها خلقت له يد، ولكن قال المغصوب منه: قطعت في يدك، وقال الغاصب: غصبته وقد قطعت.. فالظاهر: أن القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم القطع. وفيه قول آخر: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته.

.[فرع: الاختلاف في صفة تزيد قيمة العبد]

وإن قال المغصوب منه: كان العبد كاتباً، وقال الغاصب: لم يكن كاتباً.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: القول قول المغصوب منه؛ لأنه أعرف بصفة ملكه.
والثاني: القول قول الغاصب، وهو الصحيح؛ لأن الأصل عدم الكتابة.
وإن غصب منه عبداً، فقال الغاصب: رددته حياً، ومات في يدك، وقال المغصوب منه: بل مات في يدك. وأقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه.. تعارضت البينتان، وسقطتا، وضمن الغاصب قيمة العبد؛ لأن الأصل بقاء العبد عنده حتى يثبت رده.
وقال أبو يوسف: بينة المالك أولى؛ لأن الأصل الغصب. وقال محمد: بينة الغاصب أولى؛ لأن الأصل براءة ذمته.
دليلنا: أن كل واحدة من البينتين تعارض الأخرى، فإحداهما تثبت موته في يد غير اليد التي تثبت الأخرى الموت فيها، فتعارضتا، وسقطتا.

.[فرع: الاختلاف في عين المغصوب]

وإن اختلفا في العين المغصوبة، فقال: غصبت مني عبداً، وقال: بل غصبت منه جارية.. قال أبو إسحاق المروزي: فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في القيمة.. فكذلك في الجنس مثله.
وإن قال: غصبت مني طعاماً حديثاً، وقال: بل غصبت منك طعاماً عتيقاً.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الحديث، ويلزمه أن يدفع إليه العتيق؛ لأنه أنقص من حقه.

.[مسألة: الاختلاف في انقلاب الخمر المغصوب خلا]

وإن غصب منه خمراً، وادعى المغصوب منه أنه انقلب خلا، وأنكر الغاصب الانقلاب.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الانقلاب.

.[مسألة: الاختلاف في ثوب العبد المغصوب]

وإن اختلف الغاصب والمغصوب منه في الثياب التي على العبد المغصوب.. فالقول قول الغاصب؛ لأن يده ثابتة عليها، وعلى العبد.

.[مسألة: غصب المغصوب من الغاصب]

ولو غصب المغصوب من الغاصب غاصب ثانٍ.. قال أبو المحاسن: لم يبرأ الثاني بتسليمه إلى الغاصب الأول.
وقال أبو حنيفة: (يبرأ).
دليلنا: أنه سلمه إلى غير المالك، فلا يبرأ، كما لو اجتمعا على غصبه.
إذا ثبت هذا: فلا يكون للغاصب الأول خصومة في انتزاعه من الثاني.
وقال أبو حنيفة: (له ذلك). وبه قال بعض أصحابنا.
دليلنا: أن الغاصب الأول ليس بمالك، فلا يملك انتزاعه، كالأجنبي.
ولو أقر: أنه غصب من رجل خاتماً، ثم ادعى المقر أن فصه له.. فهل يقبل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقبل؛ لأن اسم الخاتم يقع عليه من غير فص.
والثاني: لا يقبل، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الفص من جملة الخاتم، فلا يقبل قوله فيه من بعد الإقرار، كما لو ادعى شيئاً من الخاتم.
وإن أقر: أنه غصب منه أرضاً، ثم قال: أما الشجر الذي فيها: فهو لي.. فهل يقبل؟ فيه وجهان.
ولو قال رجل: غصبنا من فلان ألف درهم، ثم قال: كنا عشرة.. فقد قال محمد بن الحسن: لا يصدق، ويلزمه الكل. وقال زفر: يقبل قوله مع يمينه، وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن ما قاله محتمل، والأصل براءة ذمته. وبالله التوفيق.

.[كتاب الشفعة]

الشفعة مشتقة من الشفع، وهو الاثنان؛ لأن الشفيع يضم إلى ملكه ملك المشتري. وقيل: إنها مشتقة من الشفاعة؛ لأن الشفيع يأخذها بلين ورفق، فكأنه مستشفع، إذ المشتري ليس بظالم. والشفعة من أمر الإسلام، ولم تكن في الجاهلية.
والأصل في ثبوتها: ما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود.. فلا شفعة».
وروى البخاري بإسناده عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «إنما جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة».
وفي رواية مسلم بن الحجاج عن جابر: أنه قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل مشترك لم يقسم، ربع، أو حائط، لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء.. أخذ، وإن شاء.. ترك، فإن باعه، ولم يؤذنه.. فهو أحق به».
و(الربع): اسم للدار مع بنائها، و(الحائط): اسم للبستان مع غراسه.
إذا ثبت هذا: فالأشياء في الشفعة على ثلاثة أضرب: ضرب ثبتت فيه الشفعة، سواء بيع منفرداً، أو مع غيره، وضرب لا تثبت فيه الشفعة بحال، وضرب تثبت فيه الشفعة تبعاً لغيره، ولا تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً.
فأما الضرب الأول ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً، أو مع غيره ـ: فهو
العراص، مثل: عرصة الأرض، والدار، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه فيها.. ثبتت لشريكه الشفعة فيه، وهو قول عامة العلماء، إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة بحال؛ لأن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك؛ لأن المشتري متى علم بأنه يؤخذ منه.. لم يرغب بالشراء، فيؤدي ذلك إلى الضرر بالبائع، وربما تقاعد شريكه عن الشراء منه.
ودليلنا عليه: ما ذكرناه من الأخبار، وما ذكره.. فغير صحيح؛ لأنا نشاهد الأشقاص تشترى مع علم المشتري باستحقاق الشفعة عليه.
وأما الضرب الثاني ـ وهو ما لا تثبت فيه الشفعة بحال ـ: فهو كل ما ينقل ويحول، مثل: الطعام، والثياب، والعبيد، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه في ذلك.. لم تثبت لشريكه فيه الشفعة، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال مالك: (تثبت الشفعة في جميع ذلك).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة». وهذا لا يتناول ما ينتقل.
وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة إلا في ربع، أو حائط». فنفى الشفعة عن غيرهما.
وأما الضرب الثالث ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة تبعا لغيره ـ: فهو الغراس، والبناء في الأرض، فإن باع أحد الشريكين نصيبه فيه منفردا عن الأرض.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه منقول، فلم تثبت فيه الشفعة، كالثياب، والعبيد.
وإن باع أحد الشريكين نصيبه في البناء والغراس مع نصيب من الأرض.. ثبتت فيه الشفعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ربع، أو حائط». و(الربع): هو الدار ببنائها، و(الحائط): هو البستان بأشجاره، ولأن البناء والغراس يرادان للبقاء والتأبيد، فتثبت فيهما الشفعة، كالأرض.
وإن باع أحد الشريكين نصيبه من الشجر مع نصيبه من قراره بالأرض دون ما يتخلل الشجر من بياض الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: تثبت فيه الشفعة؛ لأنه باع نصيبه من الشجر مع قراره من الأرض، فهو كما لو باع ذلك مع نصيبه من بياض الأرض.
والثاني: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأن قرارها تابع لها، فلا يصير الشجر تابعاً له.
وإن كان هناك دار سفلها لواحد، وعلوها مشترك بين جماعة، فباع أحد الشركاء في العلو نصيبه فيه، فإن كان السقف لصاحب السفل.. لم تثبت الشفعة في النصيب المبيع في العلو؛ لأنه بناء منفرد، وإن كان السقف لأهل العلو.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه بناء لا يتبع أرضا.
والثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن السقف يؤوى إليه، فهو كالعرصة.