فصل: (فرع: حد الطهر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: حد الطهر]

وليس لأكثر الطهر حد بلا خلاف. وأما أقله.. فاختلف العلماء فيه:
فذهب الشافعي إلى: أن أقله خمسة عشر يومًا.
وقال عبد الملك بن الماجشون: أقله خمسة أيام.
وقال أحمد: (أقله ثلاثة أيام).
وقال يحيى بن أكثم: أقله تسعة عشر يومًا.
وقال بعضهم: أقله عشرة أيام.
وقال بعضهم: أقله ثمانية أيام.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النساء: «نقصان دينهن: أن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي». ولأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المعتدة بالأقراء ثلاثة أقراء، وأوجب على الآيسة ثلاثة أشهر، فبطل أن يكون أقام الشهر مقام أكثر الحيض وأكثر الطهر؛ لأن أكثر الطهر لا حد له. وبطل أن يكون أقامه مقام أقل الحيض وأقل الطهر؛ لأن أقلهما ستة عشر يومًا. وبطل أن يكون أقامه مقام أقل الحيض وأكثر الطهر؛ لأن أكثر الطهر لا حد له، فثبت: أنه أقامه مقام أقل الطهر وأكثر الحيض، وذلك ثلاثون يومًا.

.[فرع: دم الحامل]

وأما الدم الذي تراه الحامل.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه ليس بحيض، بل هو دم فساد. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها لا تحبل، فلا تحيض كالصغيرة. ولأنه لو كان حيضًا.. لحرم الطلاق، ولانقضت العدة بثلاثة أطهار منه.
والثاني: أنه حيض، وهو الصحيح؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخصف نعله، وأسارير وجهه تبرق، فقلت: يا رسول الله، أنت أحق بما قال أبو كبير الهذلي:
ومبرأ من كل غبر حيضة ** وفساد مرضعة وداء مغيل.

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل.

فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وأنت مبرأة من أن تكون أمك حملت بك في غبر الحيض». و (الغبر): البقية.
وإذا ثبت أن المرأة تحمل على الحيض.. ثبت أنها تحيض على الحمل. ولأن الحمل عارض لا يمنع دم العلة، وهو دم الاستحاضة، فلم يمنع دم الحبلة، وهو: دم الحيض، كالرضاع، أو لأنه دم لا يمنعه الرضاع، فلا يمنعه الحمل، كالاستحاضة.

.[فرع: أيام النقاء]

إذا رأت المرأة يومًا وليلة دمًا، ويومًا وليلة طهرًا، ولم يعبر ذلك الخمسة عشر يومًا.. فلا خلاف على المذهب: أن أيام الدم حيض، ولا خلاف أنها إذا رأت النقاء.. يجب عليها أن تغتسل، وتصلي، وتصوم. ويجوز للزوج وطؤها؛ لأن الظاهر بقاء الطهر، وعدم معاودة الدم.
فإذا عاودها الدم في اليوم الثالث.. فما حكم ذلك النقاء؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه حيض ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، ولأن الدم يسيل مرة وينقطع أخرى.
فعلى هذا: لا يجزئها الصوم إن كان فرضًا، ويجب عليها قضاؤه، ولا ثواب لها فيه إن كان نفلا، ولا إثم على الزوج ولا عليها بالوطء، ولا إثم عليها بفعل الصلاة، ولا يجب عليها إعادتها؛ لأن الحائض لا يجب عليها الصلاة.
والقول الثاني: أن أيام النقاء طهر، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف الحيض بأنه: أذى [البقرة: 222]. وأمر باعتزال النساء فيه حتى يطهرن، وليس هناك ما يستدل به على الحيض إلا وجود الدم، ولا ما يستدل به على الطهر إلا النقاء.
فعلى هذا: قد وقع ما فعلت في أيام النقاء من الصلاة والصوم والوطء موقعه.
فإذا رأت النقاء في اليوم الرابع، والسادس، والثامن، وما بعدها.. كان حكمه حكم اليوم الثاني.
فإن قيل: هلا قلتم ـ على القول الذي يجعل أيام النقاء حيضًا، إذا تكرر ذلك منها ـ: أن تؤمر فيه بما تؤمر الحائض، كما قلتم في المستحاضة في الشهر الثاني، إذا جاوز الدم عادتها؟
فالجواب: أن المستحاضة انضمت عادتها في الشهر الأول إلى الظاهر في الشهر الثاني، وهو بقاء الدم الذي تراه، ومجاوزته أكثر الحيض، فثبت على ذلك. وليس كذلك هاهنا؛ فإن الظاهر بقاء الطهر، فلم ينتقل عن هذا الظاهر بمجرد العادة.

.[مسألة: الصفرة والكدرة]

إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيها.. أمسكت عما تمسك عنه الحائض؛ لأن الظاهر أنه حيض. فإن انقطع لدون اليوم والليلة.. علمنا أنه دم فساد، ولم تأثم بخروج وقت الصلاة عنها؛ لأنا قد أمرنا بتركها، ووجب عليها قضاؤها لأنا قد تبينا أنه لم يكن حيضًا، ولا يفسد صومها.
وإن انقطع ليوم وليلة، أو لخمسة عشر يوما، أو لما بينهما، وهو أسود أو أحمر.. فهو حيض.
وإن كان في الدم صفرة أو كدورة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الصفرة والكدورة في أيام الحيض حيض).
واختلف أصحابنا فيه، على ثلاثة أوجه:
أحدهما ـ وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق، وأكثر أصحابنا ـ: أن الصفرة والكدرة حيض في أيام العادة، وفي غيرها من الأيام التي يمكن أن تكون أيام الحيض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
وهذا يتناول الصفرة، والكدرة.
والثاني: قال أبو سعيد الإصطخري: لا تكون الصفرة والكدرة حيضا، إلا إذا رأت ذلك في أيام العادة، بأن تكون قد حاضت في أيام من الشهر دمًا أسود، أو أحمر، ثم رأت ـ في الشهر الثاني في مثل تلك الأيام ـ صفرة أو كدرة. فأما إذا رأت المبتدأة صفرة، أو كدرة، أو رأت المعتادة في غير أيام العادة الصفرة أو الكدرة.. لم يكن ذلك حيضًا؛ لما روي «عن أم عطية، وكانت قد بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئًا» ولأنه ليس فيه أمارة الحيض، فلم يكن حيضًا.
والثالث ـ وهو اختيار أبي علي الطبري ـ: إن تقدمهما دم قوي، كالأسود، والأحمر، ولو بعض يوم؛ كانا حيضًا.
وإن لم يتقدمها دم قوي.. فليسا بحيض. وهو قول أبي ثور.
وقال أبو يوسف: الصفرة حيض، والكدرة ليست حيض، إلا أن يتقدمها دم.
والأول أصح: لأنه دم في زمان الإمكان، ولم يجاوز الأكثر، فكان حيضًا، كالأسود، وكما لو كان في أيام العادة.
وما روي عن أم عطية يعارضه ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت:كنا نعد الصفرة والكدرة حيضًا» وقولها أولى؛ لأنها أعلم.
فإن رأت المبتدأة خمسة أيام دما أسود، ثم رأت خمسة أيام دما أصفر أو كدرة، ثم رأت خمسة أيام دمًا أسود، وانقطع.. فعلى قول أبي سعيد الإصطخري: أن الصفرة والكدرة هاهنا ليست بحيض.
وعلى الوجه الذي اختاره أبو علي الطبري: الجميع هاهنا حيض.
وأما على قول عامة أصحابنا: فإن أبا العباس ابن سريج قال: تكون الصفرة والكدرة هاهنا طهرًا واقعا بين الدمين. فتكون على قولين في التلفيق؛ لأن عادة دم الحيض، كلما تطاول به الأيام.. رق وضعف، وتغيرت صفته.
فإذا رأت في الابتداء دما أسود، ثم رأت بعده صفرة، أو كدرة.. حمل على: أن الصفرة والكدرة بقية ذلك الدم.
فإذا رأت بعده دم أسود، علم أنه ليس ببقيته، بل هو بحكم الطهر.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي العباس؛ لأن عندهما: أن الصفرة والكدرة في زمان الإمكان حيض. وإنما يجيء على قول أبي سعيد الإصطخري.
وإن رأت الدم، وعبر على خمسة عشر يوما.. فقد اختلط الحيض بالاستحاضة؛ لأنا حكمنا بأن ابتداء الدم حيض، ولا يزيد الحيض على خمسة عشر يوما، ويجوز أن يكون قد وردت الاستحاضة على الحيض، لأن الحيض في النساء جبلة وعادة وصحة، لا تنقطع إلا من علة أو كبر، والاستحاضة مرض وسقم، والمرض يطرأ على الصحة، والصحة تطرأ على المرض، وأحدهما لا ينفي الآخر، فكذلك الحيض يطرأ على الاستحاضة، والاستحاضة تطرأ على الحيض، ولا بد من التمييز بينهما.
إذا ثبت هذا: فالمستحاضات على ثلاثة أضرب:
مبتدأة، ومميزة، ومعتادة. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحيض ثلاثة أخبار، جعلها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصولا في المستحاضات، ونحن نذكر كل واحدة منهن على ما ينقسم عليه أمرها، وما يتفرع عليها.

.[مسألة: أحكام المستحاضة المبتدأه غير المميزة]

فأما المستحاضة المبتدأة: فصفتها أن ترى المرأة أول ما طرقها الحيض دما بصفة واحدة، وعبر خمسة عشر يومًا.
فالخبر الذي جعله الشافعي أصلا فيها ما روي: «أن حمنة بنت جحش ـ وقيل: أم حبيبة بنت جحش ـ قالت: كنت أحيض حيضة كثيرة شديدة. وروي: (أنها استحيضت سبع سنين). قالت: فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته في بيت أختي زينب، فقلت يا رسول الله، إن لي حاجة، وإنه لحديث لا بد منه وإني لأستحيي منه. فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ما هو يا هنتاه؟ فقلت: إني أحيض حيضة كثيرة شديدة، فقد منعتني الصلاة والصوم، فما ترى؟ قال:أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب بالدم، فاحتشي به فقلت: هو أشد من ذلك، فقال: تلجمي، فقلت: هو أشد من ذلك، فقال اتخذي ثوبا فقلت: هو أشد من ذلك؛ إنما أثج ثجًا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنها ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي في علم الله ستا أو سبعا، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي أربعًا وعشرين ليلة، أو ثلاثًا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإنها تجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء ويطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن».
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:فيحتمل أن تكون حمنة مبتدأة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عادات النساء، فيكون هذا الخبر أصلا للمبتدأة. ويحتمل أن تكون حمنة معتادة، فردها إلى عادتها، فترد المبتدأة إلى اليقين، ولا يكون هذا الخبر أصلا لها.
فيخرج من بين هذين التأويلين في المبتدأة وغير المميزة قولان:
أحدهما: ترد إلى يوم وليلة؛ لأنه هو اليقين، وما زاد مشكوك فيه.
وعلى هذا: إلى ماذا ترد إليه من الطهر؟ فيه قولان، حكاهما في "العدة".
أحدهما: إلى أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوما، كما ردت إلى أقل الحيض.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنها ترد إلى غالب طهر النساء، وهو ما بقي من الشهر، فيكون لها على هذا القول ثلاثة أحوال:
حيض بيقين، وهو اليوم والليلة.
وطهر بيقين، وهو ما زاد على خمسة عشر يومًا.
وطهر مشكوك فيه، وهو ما زاد على يوم وليلة إلى خمسة عشر يومًا.
وعلى هذا ـ القول ـ: تكون حمنة معتادة، فيكون تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بين الست والسبع يحتمل: أن تكون شاكة في أن عادتها كانت ستا أو سبعًا، فقال لها: «تحيضي في علم الله ستًا أو سبعا». أي: فيما علمك الله، ومعناه: فيما تحفظين من عادتك.
ويكون تأويل قوله ـ على هذا ـ: «وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء ويطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن»؛ أي: أنك إذا حيضت نفسك ستًا أو سبعًا.. صرت بمنزلة سائر النساء اللواتي يحضن ستا أو سبعا، فذكر ذلك لها على وجه التشبية بغيرها من النساء؛ لأنه جعل عادتها كعادة غيرها.
والقول الثاني ـ في أصل المسألة ـ: أنها ترد إلى ست أو سبع، وهو إذا قلنا: إن حمنة كانت مبتدأة، وهو الأصح؛ لأنه لم ينقل: أنه سألها عن حيضها قبل ذلك، ولو كانت معتادة.. لسألها عن عادتها، وردها إليها.
فعلى هذا: يكون لها أربعة أحوال:
حيض بيقين، وهو الليلة واليوم.
وطهر بيقين؛ وهو ما زاد على خمسة عشر يومًا.
وحيض مشكوك فيه، وهو ما زاد على يوم وليلة إلى الست أو السبع.
وطهر مشكوك فيه، وهو ما زاد على الست أو السبع إلى تمام خمسة عشر يومًا.
وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة ـ على هذا القول ـ بين الست أو السبع.. فقال أصحابنا: يحتمل تأويلين:
أحدهما: أنه خيرها في ذلك، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الست عادة غالبة في النساء، والسبع عادة غالبة فيهن، وقد روي: أنه قال لها: «فأيهما قعدت.. فلا حرج؛ لأنك لم تخرجي عن عادة النساء».
والثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شك في العادة الغالبة، فردها إلى اجتهادها في ذلك، وهو اختيار الطبري، فيكون معنى قوله: "تحيضي في علم الله تعالى". يعني: إن كانت العادة في علم الله ستًا.. فتحيضي ستًا، وإن كانت سبعًا.. فتحيضي سبعًا.
فإذا قلنا بهذا التأويل.. فهل تعتبر نساء الناس. أو نساء أهلها وأقربائها وأهل بلدها؟ فيه وجهان:
أحدهما: تعتبر نساء العالم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كما تحيض النساء». والعموم يقتضي نساء العالم.
والثاني: تعتبر نساء أهلها وأهل بلدها؛ لأنها أقرب إليهن.
إذا ثبت هذا: فإن حال هذه المستحاضة في الشهر الأول بالصلاة والصوم: أن تؤمر بالإمساك عن ذلك من حين رأت الدم، فإذا جاوز الدم الخمسة عشر.. فإنا نأمرها بالاغتسال وبالصلاة والصوم، وتقضي ما تركت فيه الصوم في مدة الخمسة عشر. وأما الصلاة:
فإذا قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة.. قضت صلاة ما زاد على يوم وليلة إلى خمسة عشر يومًا.
وإن قلنا ترد إلى ست أو سبع.. قضت صلاة ما زاد على ذلك إلى خمسة عشر يومًا.
وأما في الشهر الثاني: فإنا نأمرها بالاغتسال والصوم والصلاة، عند انقضاء اليوم والليلة ـ إذا قلنا: ترد إليه ـ أو عند انقضاء الست أو السبع ـ إذا قلنا: ترد إليه ـ لأن الظاهر أنها مستحاضة في هذا الشهر كالأول.
فإن انقطع الدم في هذا الشهر لخمسة عشر يومًا أو لدونها.. علمنا أنها إنما كانت مستحاضة في الشهر الأول دون الثاني.
فعلى هذا: يلزمها إعادة ما صامت فيه، ولا إثم عليها بفعلها الصلاة والصوم والوطء؛ لأنا قد حكمنا لها بالطهر في الظاهر. فإذا انقطع الدم لخمسة عشر يومًا.. تيقنا أنه كان حيضًا.
وإن زاد الدم في هذا الشهر على خمسة عشر يومًا.. فإنها لا تقضي ما أتت به من الصلاة بعد الخمسة عشر؛ لأنه طهر بيقين. ولا تقضي ما أتت به من الصلاة في الطهر المشكوك فيه، وهو ما بعد اليوم والليلة إلى تمام خمسة عشر يوما في أحد القولين، أو ما بعد الست أو السبع في الثاني؛ لأنها إن كانت حائضا فيه.. فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرا فيه.. فقد صلت.
وهل تقضي ما أتت به من الصوم؟
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وعامة أصحابنا: فيه قولان، وحكاهما صاحب "المهذب" وجهين:
أحدهما: يجب عليها قضاء ذلك؛ لأنا نتيقن وجوب ذلك عليها، ونشك في سقوط ذلك عنها؛ لجواز أن تكون حائضًا فيه، فلم يسقط الفرض عنها بالشك.
والثاني: لا يجب عليها قضاؤه، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «فإذا علمت أنك قد طهرت.. فصلى ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي؛ فإنها تجزئك». فأخبر: أن صومها يجزئها، وما أجزأها.. فلا يجب قضاؤه. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا استحاضت المبتدأة.. ردت إلى أكثر الحيض، وهو عشرة أيام).
وقال أبو يوسف: يؤخذ بالصوم والصلاة بأقل الحيض. وبتحريم الوطء بأكثر الحيض.
وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات:
إحداهن: (ترد إلى عادة لداتها).
والثانية: (إلى عادة نسائها، ويستظهر بعد ذلك بثلاثة أيام، ما لم يجاوز خمسة عشر يوما).
والثالثة: (أنها تقعد خمسة عشر يوما).
ودليلنا ـ عليهم ـ: ما مضى من القولين.

.[مسألة: المستحاضة المبتدأة المميزة]

وأما المستحاضة المميزة: فهي المرأة إذا ابتدأها الحيض، وعبر الخمسة عشر، إلا أن الدم على لونين: قوي، وضعيف، بأن يكون الدم في بعض الأيام ثخينا محتدما قانيا، وفي بعضها أحمر مشرقًا.
فـ (المحتدم): الحار، يقال: احتدم النهار: إذا اشتد حره.
و (القاني): هو الذي يضرب إلى السواد من شدة حمرته.
فالقوي هاهنا: هو الأسود.
وإن رأت بعض الأيام الدم أحمر مشرقًا، وفي بعضها أصفر.. فالقوي هاهنا: هو الأحمر.
إذا ثبت هذا: فإنها لا تغتسل عند تغير صفة الدم في الشهر الأول؛ لجواز أن لا يجاوز الدم خمسة عشر يومًا، فيكون الجميع حيضًا.
فإذا جاوز الدم خمسة عشر يومًا.. علمنا أنها مستحاضة، فيكون حيضها أيام الأسود مع الأحمر، أو أيام الأحمر مع الأصفر، بشرط أن لا ينقص القوي عن أقل الحيض ولا يزيد على أكثره. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا اعتبار بالتمييز، وإنما الاعتبار بالعادة. فإن لم يكن لها عادة.. ردت إلى أكثر الحيض).
دليلنا: ما روي: «أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اأ: إنما ذلك عرق، وليست بحيضة، إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك.. فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر.. فتوضئي وصلي».
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (إن دم الحيض بحراني).
و (البحراني): الأحمر، يريد: شديد الحمرة. وقيل: إنه يخرج من قعر الرحم.
ولأنه خارج يوجب الغسل، فجاز الرجوع إلى صفته عند الإشكال، كالمني.
فإن رأت السواد أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر يوما.. لم تكن مميزة؛ لأن الحيض لا ينقص عن يوم وليلة، ولا يزيد على خمسة عشر يومًا.
وإن رأت خمسة أيام دما أسود، وخمسة أيام دما أحمر، وخمسة أيام دمًا أسود، وانقطع.. فالكل حيض؛ لأنه لم يزد على أكثر الحيض، بخلاف ما لو كانت الخمس الثانية كدرة، أو صفرة على قول أبي العباس؛ لأن الأحمر أشبه بصفة دم الحيض.
إذا ثبت هذا: فإن المبتدأة إذا رأت يومًا وليلة دما أسود، ثم احمر الدم أو اصفر، وجاوز الخمسة عشر مع السواد.. فإنا نأمرها بالغسل عند انقضاء الخمسة عشر، وبالصلاة والصوم؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيضًا، ثم نأمرها بقضاء صوم الخمسة عشر يومًا، وبقضاء صلاة ما زاد على يوم وليلة.
فإن رأت السواد في الشهر الثاني يوما وليلة، أو ثلاثا، أو أربعًا، ثم احمر الدم أو اصفر.. فإنا نأمرها بالاغتسال عند تغير الدم، وبالصلاة والصوم؛ لأن الظاهر أنها مستحاضة في هذا الشهر كالأول. فإن لم يجاوز الدم الخمسة عشر في هذا الشهر.. علمنا أن الكل حيض، وعلمنا أنها إنما استحيضت بالأول دون الثاني.

.[فرع: المبتدأة المميزة]

وإن رأت خمسة أيام دما أسود، وخمسة أيام طهرًا، وعشرة أيام دمًا أحمر.. فحيضها أيام الأسود، وأما أيام الأحمر: فاستحاضة؛ لأن الدم الأحمر لو زاد مع الأسود على خمسة عشر يومًا، ولم يفصل بينهما طهر.. لكان استحاضة، فإذا فصل بينهما طهر أولى.
قال أبو العباس: فإن رأت نصف يوم دمًا أسود، ونصف يوم دما أحمر، وكذلك فيما بعده، فلما كان يوم الخامس، رأت في جميعه دمًا أسود، ثم احمر الدم، وعبر الخمسة عشر يومًا.. فالدم الأحمر الذي وجد بعد الخامس استحاضة، وأما السواد في الخامس، وما قبله: فهو حيض، وأما الأحمر الذي وجد بين السواد: فهو في حكم الطهر، فيكون على قولين في التفليق.
قال أبو العباس: والأشبه هاهنا أن يكون حيضا ـ وإن كان الصحيح من القولين في الطهر الموجود بين الدمين: أنه طهر ـ لأن الأحمر هاهنا بصفة دم الحيض، فكان إلى الحيض أقرب.

.[فرع: ومن صور المستحاضة غير المميزة]

وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، ثم رأت نصف يوم دما أسود، ثم احمر الدم، وعبر الخمسة عشر.. فهذه مبتدأة، لا تمييز لها؛ لأنها لم تر السواد في يوم كامل، فيكون على القولين في المبتدأة.

.[فرع: ومن صور الاستحاضة]

وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، وخمسة أيام دما أسود؛ ثم احمر الدم، وعبر مع ما قبله الخمسة عشر.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن حيضها أيام السواد، وما قبله وبعده استحاضة؛ لأن السواد بصفة دم الحيض، فكان حيضًا، كما لو كان متقدمًا.
والثاني: أنها مبتدأة، لا تمييز لها؛ لأن الأحمر الأول له قوة السبق، والأسود له قوة الصفة، وما بعدهما مثل الأول في الصفة.
فعلى هذا: يكون على قولين، كالمبتدأة.
والثالث: أن حيضها العشر الأولى؛ لأن الأول له قوة السبق، والثاني له قوة الصفة، فتساويا، وما بعدهما استحاضة.
والأول أصح؛ لأن الصفة أقوى من الزمان.
فإن رأت خمسة أيام دمًا أحمر، وعشرة أيام دما أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر.. فعلى الوجه الأول: حيضها العشر الأسود، وما قبله وبعده استحاضة.
وعلى الثاني: لا تمييز لها، فترد إلى يوم وليلة في أحد القولين، أو إلى ست أو سبع من أول الأحمر.
وعلى الثالث: حيضها الخمس التي قبل العشر مع العشر، وما بعد العشر استحاضة.
وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، ثم أسود الدم إلى آخر الشهر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تمييز لها، فترد إلى يوم وليلة في أحد القولين، أو إلى ست أو سبع في الثاني، ويجعل ابتداء ذلك من أول الأحمر؛ لأن له قوة بالسبق، ولا حكم للأسود؛ لأنه زاد على أكثر الحيض.
والثاني: أن الأسود يرفع الأحمر ـ ومعنى قولنا: (يرفعه)، أي يسقط حكمه ـ ويكون ابتداء حيضها من أول الأسود يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الآخر؛ لأنه بصفة دم الحيض. والأول أصح.
وإن رأت خمسة عشر يوما دما أحمر، وخمسة عشر يوما دما أسود، وانقطع.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: فيه وجهان، كالتي قبلها:
أحدهما: لا تمييز لها، فحيضها من أول الدم الأحمر يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الثاني.
والثاني: أن حيضها الأسود؛ لأنه لم يزد على خمسة عشر يومًا.
وقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: يكون حيضها الأسود وجها واحدًا.