فصل: (فرع: يجوز إقطاع مقاعد الأسواق):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: إحياء قرب العامر]

ويجوز إحياء الموات بقرب العامر إذا لم يكن من مرافق العامر.
وقال مالك: (لا يجوز إيحاء ذلك بغير إذن الإمام، ولم يحده بحد).
وقال أبو حنيفة: (لا يحيي إلا ما جاوز مدى الصوت من العامر، بأن يصيح إنسان في العامر، فالذي ينتهي إليه صوته من الموات.. لا يجوز إحياؤه).
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق.
وروى الشافعي، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أقطع الناس الدور، فقال حي من بني زهرة، يقال لهم:
بنو عبد زهرة: يا رسول الله: نكب عنا ابن أم عبد ـ أي: أخرج من جملتنا ابن مسعود ـ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولم ابتعثني الله إذا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه».
قال الشافعي: (وفي ذلك دلالة على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بالمدينة بين ظهراني عمارة الأنصار من المنازل، وأن ذلك ليس لأهل العامر).
وفي بعض نسخ المزني: (وأن ذلك لأهل العامر).
فإن كان الأول.. فمعناه: وأن ذلك ليس لأهل العامر منعه. وإن كان الثاني.. فمعناه: أن ذلك لأهل العامر أن يحيوه أيضًا، كغيرهم.
وأما معنى قوله: (أقطع الدور) فقد اختلف أصحابنا في تأويله:
فمنهم من قال: كان الذي أقطعهم دورًا قديمة عادية خربت. وهذا قول من يقول: إن ما كان مملوكًا ومات أهله في الجاهلية، ولا يعرف مالكه.. يجوز إحياؤه.
ومنهم من قال: إنه أقطعهم ما يبنونه دورًا. فسماها دورًا؛ لأنها تؤول إليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] فسمى العصير خمرًا؛ لأنه يؤول إليه.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق وهو على ميل من المدينة) ولم ينكر عليه أحد، ولأنه موات لم يملك، غير متعلق بمصلحة العامر، فجاز إحياؤه، كما لو زاد على مدى الصوت.

.[مسألة: لا يقطع لكافر في دار الإسلام]

وإذا أحيا الكافر الحربي أو الذمي مواتا في دار الإسلام.. لم يملكه بذلك، وليس للإمام أن يأذن له في ذلك.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز للإمام أن يأذن في ذلك، وإذا أحيا أرضًا مواتًا في بلاد الإسلام بالإذن.. ملكه).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني».
فوجه الدليل من الخبر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضاف الموات إلى الله لا على سبيل أنه يملكها؛ لأنه مالك لها ولغيرها، وإنما أضافها إلى الله تعالى تشريفًا لها؛ لأنها تملك بغير عوض ولا عن مالك، كما أضاف خمس الغنيمة إليه لشرفه؛ لأنه يملك بغير عوض ولا عن مملك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].
فلما لم يكن للكافر حق في خمس الغنيمة.. فكذلك في الموات في بلاد الإسلام. وإنما لم يضف الزكاة إليه؛ لأنها أوساخ الناس، ثم قال: «هي لكم مني» وهذا خطاب للمسلمين.

.[فرع: لا تحفر بئر تضر ببئر موات]

قال ابن الصباغ: إذا حفر بئرًا في موات للتملك، فجاء آخر فحفر قريبًا منها بئرًا ينسرق إليها ماء البئر الأولى.. لم يكن له ذلك.
قال أصحابنا: فلو حفر الثاني في ملكه بئرًا بحيث ينسرق ماء جاره إليه.. جاز.
والفرق بينهما: أن الذي يحفر في الموات يبتدئ التملك، وليس له أن يتملك الموات على وجه يضر بملك غيره، وليس كذلك هاهنا؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه، فلا يمنع من ذلك.
ولو حفر رجل في ملكه كنيفًا يفسد على جاره بئره.. قال القاضي أبو الطيب: لم يمنع من ذلك؛ لأنه يتصرف في ملكه، فهو بمنزلة أن يكون له دكان، فيخبز فيه، فيتأذى الجيران به، فلا يمنع.
وحكى في "المهذب" [1/431] أن بعض أصحابنا قال: ليس له أن يحفر في أصل حائطه حشًا؛ لأنه يضر بالحاجز الذي بينه وبين جاره في الأرض.. وليس بشيء.

.[مسألة: العرف في إحياء الموات]

قال الشافعي: (والإحياء ما عرفه الناس إحياء لمثل المحيا).
وجملة ذلك: أن الشرع ورد بالإحياء مطلقًا، وما ورد به الشرع مطلقًا.. رجع فيه إلى العرف والعادة في ذلك الشيء، كما قلنا في أقل الحيض وأكثره، والتفرق في البيع والقبض فيه، والحرز في السرقة.
إذا ثبت هذا: فإن كان يحيي الموات دارًا للسكنى.. فإحياؤها أن يبني حيطان الدار بالحجارة، أو اللبن، أو الآجر، وما أشبه ذلك مما يبنى به.
قال الصيمري: ويبني الحيطان عالية، بحيث يمنع من أراده، ويسقف منها ولو بيتًا واحدًا؛ لأن الدار تراد للإيواء، ولتقي من البرد والحر والمطر، ولا يقيه إلا السقف، فإن لم يسقف كان متحجرًا.
وهل من شرط تمام الإحياء في الدار نصب الباب؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أن ذلك شرط؛ لأن الدور لا تكون دورًا إلا بذلك.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن عدم ذلك لا يمنع السكنى، وإنما يراد للحفظ.
وإن أراد أن يحيي الموات حظيرة للغنم، أو للحطب، أو للشوك.. فإحياؤها أن يبني حولها حائطًا بحجارة، أو لبن، أو آجر، أو ما أشبهه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له».
قال ابن الصباغ: وهل من شرط تمام إحيائها نصب الباب؟ على الوجهين في الدار.
وإن جمع ترابًا حول الحظيرة وسنمه، أو اتخذ حائطًا من حجارة نصبه من غير بناء، أو من حطب، أو شوك، أو خشب.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يملكه بذلك، ولكن يكون بذلك متحجرًا.
قال الشافعي: (لأن المسافر قد ينزل منزلًا وينصب الحجارة حول الخباء، ولا يكون ذلك إحياء).
وليس من شرط الحظيرة التسقيف؛ لأن ذلك لا يحتاج إليه في الحظيرة، بخلاف الدار للسكنى.
وإن أراد أن يحيي الموات للزراعة.. فإحياؤها أن يجمع ترابًا يحيط بها بما يبين به الأرض من غيرها، ويحرثها، ويسوق الماء إليها، فإن كانت تشرب من بئر.. حفر لها بئرًا، وإن كانت تشرب من ماء مباح.. فأن يطرق إليها طريقًا للماء، وإن كانت تشرب من ماء المطر.. فأن يطرق إليها طريقًا ينزل فيه الماء إليها.
وهل من شرط تمام إحيائها الزراعة فيها؟
قال الشافعي في " المختصر " [3/108] (ويزرعها) واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: إن الزرع ليس بشرط في الإحياء، وهو المنصوص في "الأم" [3/266] لأن الزراعة انتفاع من المحيا، فلم يكن شرطًا في الإحياء، كما لو أحيا حظيرة للغنم، فلا يشترط في إحيائها ترك الغنم فيها.
ومنهم من قال: إن ذلك شرط في الإحياء. وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأن الأرض لا تكون معمورة للزرع إلا بالزرع.
وحكى الشيخ أبو إسحاق وجهًا ثالثًا: أن أبا العباس قال: لا تكون الأرض محياة للزرع حتى يزرعها ويسقيها؛ لأن عمارتها للزراعة لا تكمل إلا بذلك.
قال الشافعي في "الأم": (وعمارة الأرض للغراس أن يغرس الأرض).
والفرق بين الزراعة والغرس على أحد الوجهين: أن الغراس يراد للبقاء، فهو كبناء الدار، والزرع لا يراد للبقاء، فهو كسكنى الدار.
وإن حفر في الموات بئرًا.. لم يتم الإحياء حتى يصل إلى الماء. فإن كانت الأرض صلبة.. فقد تم الإحياء، وإن كانت رخوة.. لم يتم الإحياء حتى يطويها.

.[مسألة: العمارة في الموات]

تثبت الحقوإذا سبق إلى موات فشرع في عمارته.. كان متحجرًا له بذلك، وصار أحق به من غيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به».
فإن مات.. انتقل إلى وارثه؛ لأن يد الوارث تقوم مقام يد المورث.
وإن نقله إلى غيره.. صار الثاني أحق به؛ لأنه قد أقامه مقام نفسه.
وإن باعه.. فهل يصح بيعه؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيه وجهين، وحكاهما المسعودي قولين [في "الإبانة" ق \ 343]:
أحدهما: يصح؛ لأنه صار أحق به، فصح بيعه له كالمالك.
والثاني: لا يصح، وهو المذهب؛ لأنه لم يملكه، وإنما ملك أن يملك. فإن بادر غيره فأحياها:
فإن كان قبل أن يتطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يملكها الثاني؛ لأن يد الأول قد ثبتت عليها، وقد ملك أن يملكها، فلم يملكها غيره.
والثاني: أن الثاني يملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق بين أن تكون قد تحجرها غيره، أو لم يتحجرها.
وإن تطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها: فإن السلطان يستدعيه، ويقول له: إما أن تحييه، وإما أحياه غيرك، فإن استمهله.. قال الشيخ أبو حامد: أمهله يومًا، وثلاثًا، وشهرًا، فإن أحياه.. ملكه، وإن تركه.. زال ملكه عنه. وإن لم يتركه فجاء غيره وأحياه.. ملكه، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا عذر له مع تطاول المدة.

.[مسألة: المعادن في الموات]

والمعادن على ضربين: ظاهرة، وباطنة.
فأما الظاهرة: فهي ما لا يحتاج في الانتفاع بها إلى عمل، فهي مثل: الماء في الأنهار، والعيون، وكالنفط، والمومياء، والياقوت، والملح، والكحل، فهذا لا يملكه أحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له». فعلق الملك بالإحياء، وهذا لا يحتاج إلى إحياء.
إذا ثبت هذا: فإن الناس يشتركون فيها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاثة: النار، والماء، والكلأ».
فأما اشتراكهم في النار: فهو أن يضرم رجل نارًا في حطب مباح مطروح في موات. فأما إذا حطب الرجل حطبًا، وأضرم فيه نارًا.. فهو أحق بها، وله أن يمنع غيره منها.
وأما اشتراكهم في الكلأ: فهو الكلأ النابت في الموات.
وأما اشتراكهم في الماء: فهو الماء في الأنهار والعيون التي ليست بمملوكة.
فإذا سبق واحد إلى شيء من هذه المعادن الظاهرة.. أخذه وملكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به».
فإن أخذ منها وانصرف، وجاء غيره وأخذ منها وانصرف، وعلى هذا يأخذ واحد بعد واحد.. جاز. وإن جاء واحد وأطال يده عليها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يزيل الإمام يده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.. فهو أحق به».
والثاني: أن الإمام يزيل يده عنها؛ لأنه يصير متحجرًا، وتحجرها لا يجوز.
وإن جاء اثنان في حالة واحدة، فإن اتسع المعدن لهما.. أخذاه، ولا كلام. وإن ضاق المعدن عليهما، فإن كانا يأخذان شيئًا قليلًا، كالماء الذي يأخذانه ليشرباه، أو ليتطهرا به، وما أشبهه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإمام يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قدم؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
والثاني: أن الإمام ينصب رجلًا ليستقي منه لهما، ثم يقسمه بينهما؛ لأن قسمة ذلك ممكنة.
والثالث: أن الإمام يقدم أحدهما باجتهاده.
وإن كانا يأخذان الكثير للتجارة.. هايأ الإمام بينهما يومًا بيوم أو شهرًا بشهر على حسب ما يراه، ويقرع في البادئ منهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
وإن كان بقرب الساحل بقعة إذا حفرت وانساق الماء إليها ظهر بها ملح.. جاز إحياؤها؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بالعمل، فهي كالموات.
وأما المعادن الباطنة: وهي ما لا يتوصل إلى أخذ شيء منها إلا بعلاج وعمل، كمعدن الذهب والفضة والفيروز والرصاص والنحاس وما أشبهه، فإذا عمل فيها رجل ووصل إلى نيله.. ملك ما أخذ منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم. فهو أحق به».
وهل يملك المعدن؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يملكه؛ لأنه أرض غير مملوكة، لا يتوصل إلى منفعتها إلا بنفقة ومؤونة، فيملك بالإحياء، كالموات.
والثاني: لا يملكه بالإحياء، وهو الصحيح؛ لأن المحيا: ما يتكرر الانتفاع به بعد عمارته من غير إحداث عمارة وعمل آخر، فهذا لا يمكن في المعادن؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بعمل متجدد في كل شيء يأخذه.
قال الشافعي: (ولأنه لو ملكه.. لجاز بيعه، وبيعه لا يجوز؛ لأن المقصود منه مجهول).
فإذا قلنا: يملكه بالإحياء.. فإحياؤه هو العمل الذي يتوصل به إلى نيله، وقبل ذلك تحجر.
وإن قلنا: إنه لا يملكه.. فلا يجوز تحجره، بل لكل أحد أن يجيء ويأخذ منه.
فإن أطال المقام عليه، فهل تزال يده؟ على وجهين، كما قلنا في المعادن الظاهرة.
وإن سبق إليه اثنان في حالة واحدة.. فهو كما لو سبقا إلى معدن ظاهر على ما مضى. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق، وذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي: أنه لا يأتي فيه إلا وجهان:
أحدهما: يقرع بينهما.
والثاني: يقدم الإمام من يرى منهما. ولا يجيء الثالث، وهو: أن يقسم بينهما؛ لأن الموضع لا يتسع إلا لأحدهما.

.[فرع: غلبة المسلمين على أرض معدن]

وإن عمل جاهلي في الموات على معدن باطن، وظهر على نيله، ثم غلب المسلمون على تلك الأرض.. فهو كما لو لم يعمل عليه. وهل يملك بالإحياء؟ على القولين.
فإن قيل: هلا قلتم: إنه يصير غنيمة على القول الذي يقول: إن هذه المعادن تملك بالإحياء؟
فالجواب: أن المعادن إنما تملك بالإحياء إذا قصد المحيي تملكها، ونحن لا نعلم أن الجاهلي قصد تملكها أم لا، فجرى مجرى من حفر بئرًا في موات وارتحل عنها، فإنه يجوز لغيره الانتفاع بها؛ لأنا لا نعلم أنه يملكها أم لا؟

.[فرع: إحياء الأرض يقتضي ملكها وما فيها]

إذا أحيا رجل مواتًا.. ملكها. فإن ظهر بها معدن ذهب أو فضة أو غير ذلك مما ذكرنا.. ملك ذلك المعدن، قولًا واحدًا؛ لأنه قد ملك الأرض بالإحياء، فملك جميع أجزائها، والمعدن من أجزائها، فملكه، كما لو أحيا أرضًا فنبع فيها عين ماء. ويفارق إذا حفر في الموات معدنًا منفردًا في أحد القولين؛ لأنه لم يملك الأرض، وإنما قصد تملك المعدن، والموات لا تملك إلا بعمارة، ولا يوجد ذلك في المعدن.

.[مسألة: مقاعد الباعة في الأسواق]

ويجوز القعود بمقاعد الأسواق، ورحاب المساجد، والطرق الواسعة للبيع والشراء بإجماع الأمة على جواز ذلك.
فإن سبق رجل إلى شيء من هذه المواضع.. كان أحق به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى مناخ من سبق».
وله أن ينصب فيها ما يستظل به مما ينقله معه ولا يضر به على الناس، كالبواري ونحوه.
وليس له أن يبني فيها دكة ولا بيتًا؛ لأن في ذلك ضررًا على الناس.
فإن جاء آخر، وقعد بين يدي الأول حتى ضيق عليه المكان.. قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 344] كان له منعه.
فإن قام رجل من شيء من هذه المواضع وترك رحله فيه.. لم يكن لغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول لم تزل عنه. فإن نقل رحله عنه:
قال الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا: فلغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول زالت عنه.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 343] إذا فارق ذلك الموضع ليلًا.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وكذلك لو لم يقعد فيه يومًا أو يومين لمرض أو شغل.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وإن طالت غيبته.. بطل حقه، ولغيره أن يقعد فيه، ولا يرده عليه إذا عاد.
قال: وهكذا لو كان جالسًا في مسجد فسبقه الحدث فذهب ليتوضأ.. لم يكن لغيره أن يجلس في مكانه.

.[فرع: للإمام المنع من القعود]

وإن قعد رجل في شيء من هذه المواضع وأطال الإقامة.. فهل للإمام أن يزيل يده عنه؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن سبق إلى معدن ظاهر وأطال.
وإن جاء اثنان إلى ذلك الموضع في حالة واحدة، ولم يتسع المكان لهما.. ففيه وجهان
أحدهما: يقرع بينهما.
والثاني: يقدم الإمام أحدهما، كما قلنا في الرجلين إذا جاءا معًا إلى معدن ظاهر.
ولا يجيء الوجه الثالث هناك هاهنا ـ وهو: أن يقسم بينهما ـ لأن الموضع لا يتسع لهما، فلا فائدة في قسمته.

.[فرع: مواضع النجعة في البادية]:

قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 343] المواضع التي ينزل بها أهل البادية للنجعة، فمن نزل بها.. فهو أحق بها، وكذا لو أرسل نعمه في صحراء.. فليس لغيره أن ينحي نعمه عنها، ويرسل نعمه فيها. والله تعالى أعلم

.[باب الإقطاع والحمى]

يجوز للإمام أن يقطع الموات لمن تملكها بالإحياء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع الزبير حفر فرسه ـ يعني: عدوه ـ فأجراه، فلما قام.. رمى بسوطه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقطعوا له من ميتتها سوطه»
و: (أقطع أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -)، وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق) ولم ينكر عليهما أحد، فدل على إجماعهم على صحة الإقطاع.
ولا يقطع الإمام أحدًا من الموات إلا ما يقدر المقطع له على إحيائه؛ لأنه إذا أقطعه ما لا يقدر على إحيائه.. استضر الناس بذلك من غير فائدة.
ومن أقطعه الإمام شيئًا.. صار أحق به، كالذي يتحجر شيئًا من الموات بابتداء العمل على ما مضى بيانه.

.[مسألة: إقطاع المعدن]

وأما إقطاع المعادن: فينظر فيه: فإن كان معدنًا ظاهرًا ـ وهو: الذي يتوصل إلى نيله من غير إحداث عمل ـ كالأنهار والعيون وما أشبهه.. فلا يصح إقطاعه؛ لما روي: «أن الأبيض بن حمال المازني وفد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقطعه ملح مأرب ـ فروي: أنه أقطعه، وروي: أنه أراد أن يقطعه ـ فقال له رجل من المجلس ـ قيل: إنه الأقرع بن حابس ـ: أتدري يا رسول الله ما الذي تقطعه؟ إنما تقطعه الماء العد، فانتزعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».
وفي رواية الشافعي [في "الأم" 3/265] قال: «فلا آذن"، وذكر في "المهذب" [1/432«فاستقاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأبيض: قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة، فقال: هو منك صدقة».
و(الماء العد): هو الذي لا ينقطع، وأراد: أنه بمنزلة ما لا ينقطع من الماء.
فإن قيل: في الخبر ما يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطعه إياه، ثم تبين أنه أخطأ فاسترده، وأن الخطأ عليه جائز.. قلنا: عن هذا أجوبة:
أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان أقطعه إياه ولم يخطئ في الحكم، وإنما أخطأ في الصورة؛ لأنه ظن أنه معدن باطن يحتاج الانتفاع به إلى نفقة ومؤنة، فلما أخبر أنه معدن ظاهر لا يحتاج إلى نفقة ومؤنة.. امتنع.
والثاني: أنه وإن أخطأ في الحكم فالخطأ في الحكم جائز على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وإنما لا يقرهم الله عليه بخلاف غيرهم، فإنهم يخطئون ويقرون عليه.
والثالث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن أقطعه، وإنما أراد أن يقطعه، فلما أخبر أنه كالماء العد.. امتنع من إقطاعه.
فعلى هذا: لم يخطئ في حكم ولا في صورة، بل كان وعده، ثم استقاله؛ لتطيب نفسه من النفقة.
وأما المعادن الباطنة ـ وهي: المعادن التي لا يتوصل إلى أخذ ما فيها إلا بحفر بعد حفر ـ كمعادن الذهب والفضة: فإن قلنا: يجوز تملكها بالإحياء.. جاز إقطاعها، كما قلنا في الموات، وإن قلنا: لا تملك بالإحياء.. فهل يجوز إقطاعها؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز إقطاعها؛ لأنها لا تملك بالإحياء، فلم يجز إقطاعها، كالمعادن الظاهرة.
والثاني: يجوز إقطاعها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم، وأخذ منه الزكاة»، ولأنه يجوز إقطاع ما لا يملك بالإحياء، كمقاعد الأسواق والطرق.
وإن شئت قلت: في المعادن الباطنة ثلاثة أقوال:
أحدها: تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها.
والثاني: لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها.
والثالث: لا تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها.
فإذا قلنا: يجوز إقطاعها.. لم يقطع الإمام منها رجلًا إلا ما يقوم بعمارته، كما قلنا في الموات.

.[فرع: يجوز إقطاع مقاعد الأسواق]:

ويجوز إقطاع مقاعد الأسواق، والطرق الواسعة، فإذا أقطعه الإمام شيئًا من ذلك.. صار أحق به من غيره. فإن قام عنه ونقل رحله عنه، ثم رجع إليه ووجد غيره فيه.. فالأول الذي أقطعه الإمام أحق به. وهذا هو الفرق في الارتفاق بهذه المواضع بغير الإقطاع، وبالإقطاع.