فصل: (فرع: حمى النبي لا ينقض)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: المعدن الباطن لمالك الأرض]

ومن ملك معدنًا باطنًا، ثم جاء غيره وأخذ منه شيئًا، فإن كان ذلك بغير إذن المالك. كان ما أخرجه لمالك المعدن، ولا أجرة للمخرج، وإن كان بإذنه.. نظرت:
فإن قال: استخرجه لنفسك، فأخرجه.. فالهبة فاسدة؛ لأنه مجهول، ويأخذه مالك المعدن، ولا أجرة للمخرج؛ لأنه أخرجه لنفسه.
فإن قيل: أليس لو قارضه على أن يكون الربح كله للعامل، فعمل وربح.. كان القراض فاسدًا، وكان الربح لرب المال وللعامل أجرة ما عمل؟
قال ابن الصباغ: فإن أصحابنا قالوا: الفرق بينهما: أن العمل وقع لغيره؛ لأن العمل في رأس المال وهو يعلم أنه لغيره، والبيع والشراء وقع لصاحب المال، وهاهنا عمل لنفسه؛ لأنه اعتقد أن ما يعمل فيه له.
قال ابن الصباغ: والفرق الجيد عندي: أن إذنه هاهنا تمليك للعين الموجودة، والعمل فيها لا يكون بالإذن؛ لأن عمله في ملك نفسه لا يفتقر إلى إذن غيره، فلم يستحق في مقابلته شيئًا. أما القراض: فإنه لا يملك فيه بالإذن إلا التصرف، وبه يملك الربح، فإذا لم يحصل له بتصرفه ملك ما يحصل بالتصرف، وحصل لغيره.. كان له أجرة العمل الذي حصل به ملك غيره.
وإن قال مالك المعدن: استخرجه لي، ولم يشرط له أجرة، فاستخرج له منه شيئًا.. كان المخرج لمالك المعدن.
وهل يستحق المخرج أجرة المثل على مالك المعدن؟ فيه أربعة أوجه، مضى ذكرها.
وإن شرط له أجرة معلومة على عمل معلوم، بأن قال: استأجرتك أن تحفر لي كذا وكذا يوما بكذا.. صح. وإن قال: إن أخرجت لي كذا وكذا فلك كذا.. صح، وكان جعالة.

.[مسألة: الحمى لموضع]

وأما الحمى: فهو أن يحمي الرجل موضعًا من الموات الذي فيه الكلأ ليرعى فيه البهائم، يقال: حمى الرجل يحمي حمى، وحامى يحامي محاماة، وحماء، فيجوز قصر الحمى ومده، والمشهور فيه: القصر. قال الشاعر:
أبحت حمى تهامة ثم نجد ** وما شيء حميت بمستباح

إذا ثبت هذا: فإن الحمى كان جائزًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيحمي لنفسه وللمسلمين؛ لما
روى الصعب بن جثامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله».
فأما لنفسه: فإنه ما حمى، وأما للمسلمين: فإنه قد حمى، والدليل عليه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى النقيع لخيل المجاهدين».
و(النقيع): بالنون: اسم للمكان الذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وبالباء: اسم لمقابر المدينة.
وأما آحاد الرعية: فليس لأحد منهم أن يحمي شيئًا من الموات؛ لأن الرجل العزيز في الجاهلية كان إذا انتجع بلدًا مخصبًا.. أوفى بكلب على جبل، أو نشز من الأرض ـ إن لم يكن جبل ـ ثم استعواه، ووقف له من يسمع منتهى صوته ـ وهو العواء ـ فحيث انتهى صوته.. حماه من كل ناحية لضعفاء ماشيته خاصة، ويرعى مع الناس في غيره، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وقال: «لا حمى إلا لله ولرسوله».
وأما إمام المسلمين: فليس له أن يحمي لنفسه، قولًا واحدًا، وهل له أن يحمي لخيل المجاهدين، ونعم الصدقة، ونعم من يضعف من المسلمين عن طلب النجعة؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حمى إلا لله ولرسوله»، ولأنه لا يجوز له أن يحمي لنفسه، فلا يحمي لغيره كآحاد الرعية.
والثاني: يجوز، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لما روي في بعض الأخبار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين».
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أتاه أعرابي من أهل نجد وقال: يا أمير المؤمنين: بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجعل ينفخ ويفتل شاربه ـ وكان إذا كره أمرًا فعل ذلك ـ فجعل الأعرابي يردد ذلك عليه، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت عليهم شبرًا في شبر).
قال مالك: (نبئت أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر)، وقال مرة: (من الخيل).
وروي: (أن عمر حمى موضعًا وولى عليه مولى له يسمى هنيًا، وقال: يا هني: ضم جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما.. يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة والغنيمة، إن تهلك ماشيته.. يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا، لا أبا لك؟ إن الماء والكلأ أهون علي من الدينار والدرهم، وايم الله: إنهم ليرون أني ظلمتهم، وإن البلاد لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت شبرًا من أرض المسلمين).
قال الشيخ أبو حامد: فقوله: (ضم جناحك للناس) أي: تواضع لهم ـ وقيل معناه: اتق الله؛ لأن ضم الجناح هو تقوى الله، فكأنه قال: اتق الله في المسلمين.
وقوله: (وأدخل رب الصريمة والغنيمة) أي: لا تمنع الضعفاء من هذا الحمى.
و(الصريمة) تصغير صرمة، وهي: ما بين العشر إلى الثلاثين من الإبل. وما دون العشر يقال له: الذود.
و(الغنيمة): تصغير غنم.
وأما قوله: (وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف) أي: لا تدخلها الحمى؛ لأنهما غنيان لا يضرهما هلاك نعمهما.
إذا ثبت هذا: وقلنا: يجوز للإمام أن يحمي.. فإنه يحمي قدرًا لا يضيق به على المسلمين؛ لأنه إنما يحمي للمصلحة، وليس من المصلحة إدخال الضرر على المسلمين.

.[فرع: حمى النبي لا ينقض]

إذا حمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواتًا لمصلحة، فإن كان ما حمى له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المصلحة باقيًا.. لم يجز لأحد إحياؤه، وإن زال ذلك المعنى.. فهل يجوز إحياؤه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما عاد ذلك المعنى فيحتاج إلى ذلك الحمى، كما قلنا في المحلة إذا خربت وفيها مسجد.. فلا يجوز نقضه ونقل خشبه، ولأن ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلوم أنه مصلحة، فلا يجوز تغييره، كما أمر بالرمل والاضطباع بسبب، ولم يزل بزوال ذلك السبب.
والثاني: يجوز إحياؤه.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الحكم إذا وجب لعلة.. زال بزوال العلة، بخلاف المسجد، فإنه يرجى عود العمارة فيحتاج إلى المسجد ولا يتمكن منه؛ لأنه لا يحتاج إلى الإنفاق عليه، وليس كذلك الحمى؛ لأنه إن عاد ذلك المعنى واحتيج إلى الحمى.. فإنه يحمى في الوقت، ولا شيء يتعذر.

.[فرع: حمى الحاكم]

وأما إذا حمى الإمام مواتًا لمصلحة، وقلنا: يصح حماه، فأحياه إنسان، فإن كان بإذن الإمام.. جاز وملكه إذا أحياه؛ لأن إذن الإمام نقض لذلك الحمى، وإن أحياه بغير إذنه.. قال ابن الصباغ.. فقد قيل: فيه وجهان، وقيل: هما قولان:
أحدهما: لا يملكه من أحياه؛ لأنها أرض محمية، فلم يملكها من أحياها، كالذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: يملكه؛ لأن الملك بالإحياء ثبت بالنص، وحمى الإمام اجتهاد، فكان النص مقدمًا على الاجتهاد.

.[فرع: توسع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ملك خيبر وغيرها]

قال الشيخ أبو حامد: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابتداء الإسلام ـ حيث كان الأمر ضيقًا ـ ما كان يدخر إلا قوت يوم لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي في بره، فلما انتشر
الإسلام، وكثرت الفتوح، وملك خيبر وبني النضير وغير ذلك.. اتسع، فكان يدخر قوت سنة لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي، وكان ممن يملك. وقال بعض الناس: ما كان يملك شيئًا، ولا يتأتى منه الملك، وإنما أبيح له ما يأكله وما يحتاج إليه، فأما تملك شيء: فلا. وهذا غلط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] فأضاف ذلك إليه، والإضافة تقتضي الملك، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها» و: «استولد مارية» ولا يكون ذلك إلا في ملك.

.[فرع: لا حق لعرق ظالم]:

روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «ليس لعرق ظالم حق».
قال الشافعي: (والعرق: ما وضع في الأرض للبقاء والدوام).
والعروق أربعة:
عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء.
وعرقان باطنان، وهما: البئر والنهر.

.[باب حكم المياه]

إذا حفر الرجل بئرًا في ملكه.. فالبئر ملك له؛ لأن من ملك أرضًا ملكها إلى القرار، فإن نبع فيها ماء فهل يملكه؟ على وجهين، مضى ذكرهما في البيوع.
وإن حفر الرجل بئرًا في موات ليتملكها، فما لم ينبع فيها الماء.. فلا يملكها، لكنه متحجر لها، فإن نبع فيها الماء وكانت صلبة لا تفتقر إلى طي، أو كانت رخوة فطواها.. ملك البئر، وهل يملك ما فيها من الماء؟ على الوجهين.
وإن حفرها في موات لا ليتملكها، ولكن لينتفع بها، فنبع فيها الماء.. فإنه لا يملكها؛ لأنه لم يقصد تملكها، وإنما قصد الارتفاق بها، فلم يملكها. فما دام مقيمًا عليها.. فهو أحق بها؛ لأنه سابق إليها، فإن أزال يده عنها وجاء غيره.. كان أحق بها؛ لأنه ماء مباح.
إذا ثبت هذا: فإن الماء الذي ينبع في البئر التي يملكها، لا يلزمه أن يبذل لغيره منه ما يحتاج إليه لنفسه وماشيته وزرعه وشجره.
وأما ما يفضل عن حاجة نفسه وماشيته وزرعه وشجره: فيجب عليه أن يبذله لماشية غيره إذا كان بقرب هذا الماء كلأ مباح لا يمكن للماشية رعيه إلا بأن تشرب من هذا الماء، فيلزم مالك الماء بذل الماء بغير عوض. وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال أبو عبيدة بن حرب: لا يلزمه ذلك، وإنما يستحب له بذله، كما لا يلزمه بذل الكلأ في أرضه لماشية غيره.
ومن الناس من قال: يلزمه بذله بعوض، كبذل الطعام للمضطر. والأول أصح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ».
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ.. منعه الله فضل رحمته يوم القيامة» فأوجب عليه بذل الفضل من غير عوض، وتوعده على منعه. والتوعد لا يكون إلا على فعل معصية.
ولا يلزمه بذل فضل الماء لزرع غيره وشجره. ومن الناس من قال: يلزمه بذل الفضل لزرع غيره وشجره. وهذا ليس بصحيح؛ لأن التوعد إنما ورد في منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، ويخالف بذل الماء للماشية؛ لأن الماشية لها حرمة بنفسها، ولهذا يلزمه سقي ماشيته، والزرع والشجر لا حرمة له بنفسه، ولهذا لو كان له زرع أو شجر لم يلزمه سقيه.

.[فرع: الشرب من النهر المملوك]

قال ابن الصباغ: وإذا كان لرجل نهر مملوك.. جاز لكل أحد أن يتقدم ويشرب منه؛ لأنه به حاجة إلى ذلك، وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، إذا كان لا يؤثر فيه.

.[مسألة: الماء مباح مملوك حسب مكانه]

المياه على ثلاثة أضرب:
الأول: ماء مباح في موضع مباح.
والثاني: ماء مباح في موضع مملوك.
والثالث: ماء نبع في ملك.
فأما الماء المباح في موضع مباح: فمثل الماء في الأنهار العظيمة، كدجلة والفرات، وما جرى من ذلك إلى نهر صغير، وكالسيول في الموات، فهذا الماء الناس فيه شرع واحد، لكل أحد أن يأخذ منه، ومن قبض منه شيئًا.. ملكه، وفيه ورد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس في ثلاثة شركاء: الماء والنار والكلأ».
وأما الماء المباح في موضع مملوك: فمثل أن يحفر رجل ساقية إلى أرضه، ويرد فيها الماء من هذه الأنهار العظيمة، أو ينزل في أرضه ماء من المطر.. فهذا الماء مباح؛ لأنه ليس من نماء أرضه، وإنما هو على أصل الإباحة. ولا يملك المباح إلا بالتناول وهو: أن يأخذه في جرة أو جب، إلا أن صاحب الأرض أحق به لكونه في أرضه، ولا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه بغير إذنه، فإن خالف الغير ودخل إلى هذه الأرض، وأخذ شيئًا من هذا الماء.. ملكه، وكان متعديًا بدخول أرض غيره بغير إذنه.
قيل للشيخ أبي حامد: فإن سقى الرجل زرعه بماء مباح، أيملك الماء الذي في أرضه بين زرعه؟ قال: لا يملكه، كما لو دخل الماء إلى أرضه وفيه سمكة، فإنه لا يملك السمكة بدخولها إلى أرضه، وإنما يكون أحق بها من غيره.
وإن توحل في أرضه ظبي، أو عشش فيه طائر.. فإنه لا يملكه لكونه في أرضه، ولكن لا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه ويأخذ هذا الظبي والطير منها؛ لأنه لا يجوز له التخطي فيها بغير إذن مالكها، فإن خالف ودخلها، وأخذ الظبي والطير منها.. ملكه بالأخذ.
وحكى الطبري في "العدة" وجهًا آخر:
أنه يملك الظبي المتوحل في أرضه والطائر الذي عشش في أرضه، وليس بشيء. وإن نصب رجل شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه؛ لأن الشبكة كيده.
وأما الضرب الثالث ـ وهو الماء الذي ينبع في موضع مملوك ـ: فهو: أن ينبع في
أرضه عين ماء، أو يحفر في أرضه بئرًا أو عينًا، أو يحفر في الموات بئرًا ليتملكها، وينبع فيها الماء.. فقد مضى ذكر هذا في أول الباب.

.[فرع: السقي من الأنهار]

وأما السقي بالماء: فإن كان الماء مباحًا في موضع مباح: فإن كان نهرًا عظيمًا لا يحصل فيه تزاحم، كدجلة والفرات، وكالسيول العظيمة.. فلكل أحد أن يسقي منه متى شاء وكيف شاء؛ لأنه لا ضرر على أحد بذلك.
وإن كان يحصل فيه تزاحم، بأن كان هذا الماء المباح في الموضع المباح قليلًا لا يمكن سقي الأرض إلا بجميعه.. فإن ترتيب السقي فيه: أن الأعلى يسقي أرضه منها إلى أن يجول الماء في أرضه ـ إذا كانت مستوية ـ إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى من تحته، وعلى هذا إلى أن تنتهي الأرضون؛ لما روى عبادة بن الصامت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في شرب النخل من سيل: أن للأعلى أن يسقي حتى يبلغ الماء إلى الكعبين، ثم للأسفل كذلك حتى ينتهي الأرضون».
وروى ابن الزبير: «أن الزبير ورجلًا من الأنصار اختصما في شراج الحرة التي يسقون بها النخل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: يا زبير اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك" فغصب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: «يا زبير اسق أرضك، واحبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر". قال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]».
قال أبو عبيد [في "غريب الحديث (4/2)] و(الشراج): جمع شرج، والشرج: نهر صغير. و(الحرة): أرض ملبسة بالحجارة. و(الجدر): الجدار.
فقيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أمر الزبير في المرة الأولى أن يسقي أرضه أقل من حقه مسامحة لجاره، فلما أغضبه الأنصاري.. أمره أن يسقي إلى الجدر، وعلم أن الماء إذا بلغ الجدر، بلغ إلى الكعب، وذلك قدر حقه.
وقيل: بل كان أمره في الأولى أن يسقي أرضه قدر حقه، وهو: أن يبلغ الماء إلى الكعب، فلما قال الأنصاري ما قال.. أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسقي أرضه أكثر من حقه عقوبة للأنصاري، إذ كانت العقوبات يومئذ في الأموال.
قال أصحابنا: والأول أشبه.
وفرع أبو جعفر الترمذي على هذا: إذا كان لرجل أرض بعضها أعلى من بعض، ولا يقف الماء في العالية إلى الكعبين حتى يحول في المتسفلة إلى الركبتين.. فليس له أن يحبس الماء في المتسفلة إلى الركبتين، ولكن يسقي المتسفلة إلى الكعبين، ثم يسدها، ويسقي العالية إلى الكعبين.
وفرع الترمذي والإصطخري على هذا فرعًا آخر وهو: إذا أراد رجل أن يحيي مواتًا ويجعل شربه من هذا النهر: فإن لم يضق الماء على الذين قد حصلت لهم الأرض والشرب من النهر قبل هذا.. كان للثاني أن يسقي معهم؛ لأن الماء مباح، ولا ضرر عليهم في ذلك.
وإن كان الماء يضيق على أهل الأرض.. لم يكن للثاني ذلك.
قال أبو سعيد الإصطخري: لأن من أحيا مواتًا.. ملكه، وملك مرافقه وما يصلح به. ومن مرافق هذه الأرض كفايتها من الماء، فإذا كان في إحياء هذا نقصان الماء عليهم.. لم يكن له ذلك.
وعلل الترمذي تعليلًا آخر، فقال: من سبق إلى شيء مباح.. كان أحق به، وهؤلاء الذين تقدم إحياؤهم سبقوا إلى هذا الماء والشرب منه، فكانوا أحق به من غيرهم.

.[فرع: السقي من ماء مملوك]

وأما السقي من الماء المملوك: فإن حفر رجل بئرًا في ملكه، أو نهرًا، ونبع فيه الماء.. فإنه يملك البئر والنهر، وفي ملكه للماء وجهان.
وسواء قلنا: يملكه، أو لا يملكه.. فليس لأحد أن يدخل ملكه بغير إذنه ليأخذ منه شيئًا، فيسقي هذا الرجل أرضه بهذا الماء كيف شاء.
وإن حفر بئرًا أو نهرًا في ملكه، ونزل فيها ماء مباح.. فإنه لا يملك هذا الماء، ولكنه أحق به؛ لكونه في أرضه، ويسقي به أرضه كيف شاء. فإن وقف رجل في موات بقرب هذه البئر ـ أو النهر ـ ورمى حبلًا عليه دول في هذه البئر.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ينتفع بما هو ملك غيره، ولكنه إن خالف وأخذ منه الماء.. ملكه.
وإن حفر جماعة نهرًا من موات ـ أو بئرًا ـ فنبع فيها الماء.. ملكوا النهر والبئر. وهل يملكون الماء؟ على الوجهين.
فإن أرادوا أن يتساووا في الملك.. تساووا في النفقة.
وإن أرادوا التفاضل في الملك.. تفاضلوا في النفقة؛ لأنهم إنما ملكوا بالعمارة.. فاختلف ملكهم باختلاف نفقاتهم.
إذا ثبت هذا: وأرادوا السقي بهذا الماء، فإن اتفقوا على المهايأة، وأن يسقي كل واحد منهم يومًا.. جاز، غير أن المهايأة لا تلزمهم، فمتى أرادوا نقضها.. جاز.
وإن أرادوا قسمته من غير مهايأة:
قال أبو جعفر الترمذي: أمكن ذلك، بأن تؤخذ خشبة مستوية الطرفين والوسط،
فتفتح فيها كواء على قدر حقوقهم، ثم توضع في مكان بين الأرضين والنهر، ويكون الموضع مستويًا، ثم يجمع الماء إلى ذلك الموضع، فيدخل في كل كوة قدر حق صاحبها، فإذا فعل ذلك.. فقد صار مقسومًا قسمة صحيحة، وليس لأحدهم أن يوسع كوته ولا يعمقها؛ لأنه يدخل فيها بذلك أكثر من حقه. فإن تغيرت.. أصلحها.
فإن أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل موضع القسمة، ويحفر ساقية إلى أرضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحريم مشترك بينه وبين غيره، فلم يكن له خرقه.
وإن أراد أحدهم أن يدير قبل موضع القسمة رحى.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يضعها في موضع مشترك بينه وبين غيره بغير إذن شركائه.
وإن أراد أن ينصب رحى بعد موضع القسمة في ساقيته التي تجري إلى أرضه.. جاز؛ لأنه وضع الرحى في ملك له منفرد به.
فإن أحيا رجل منهم مواتًا ليسقيها من مائه من هذا النهر وساقيته، أو كان له أرض أخرى ليس لها رسم شرب من هذا النهر، فأراد أن يسقيها منه بمائه ومن ساقيته.. فذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأنه يجعل لهذه الأرض شربًا من هذا النهر، فلم يكن له ذلك، كرجل له دار في درب لا ينفذ، فاشترى دارًا في درب آخر طريقها منه، فأراد أن ينفذ إحداهما إلى الأخرى، فإنه لا يكون له ذلك.
قال ابن الصباغ: وهذا وجه جيد عندي، غير أن الدارين قد اختلف أصحابنا فيها، فمنهم من جوز ذلك، ويمكن من جوز ذلك في الدارين أن يفرق بينها وبين الأرض؛ لأن الدار لا يستطرق منها إلى الدرب، وإنما يستطرق إلى أخرى، ومن أخرى إلى الدرب، وهاهنا يحمل في الساقية إليها، فيصير لها رسم في الشرب.