فصل: (فرع: شرط عدد المجمعين)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: شرط عدد المجمعين]

ومن شرط العدد أن يكونوا رجالًا بالغين، عاقلين، مسلمين، أحرارًا، مستوطنين؛ لما مضى ذكره.
إذا ثبت هذا: فالناس في الجمعة على أربعة أضرب:
ضرب: تجب عليهم الجمعة، وتنعقد بهم.
وضرب: لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم.
وضرب: لا تجب عليهم، وتنعقد بهم.
وضرب: تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان.
فأما الذين تجب عليهم وتنعقد بهم: فهم أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها.
وأما الذين لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم: فهم الصبيان، والخناثى، والنساء والمسافرون، والعبيد.
فلو اجتمع من أحدهم أربعون، وعقدوا الجمعة... لم تصح منهم.
وإن اجتمع أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها، وصلوا الجمعة، وصلى هؤلاء معهم... انعقدت لهم الجمعة تبعًا لغيرهم.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (إذا اجتمع المسافرون أو العبيد، وصلوا الجمعة بانفرادهم... صحت لهم الجمعة).
دليلنا: أنهم ليسوا من أهل فرض الجمعة... فلم تنعقد بهم: بانفرادهم، كالنساء.
وأما الذين لا تجب عليهم، وتنعقد بهم: فهم المرضى، ومن في طريقه مطر، ومن يخاف حضور الجامع، فإن حضروا... وجبت عليهم، وانعقدت بهم.
وأما الذين تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان:
فهم المقيمون في بلد على تنجز حاجة، مثل: المقيم على درس الفقه أو التجارة، بحيث لا يجوز له القصر.
قال أبو علي بن أبي هريرة: تنعقد بهم الجمعة؛ لأن كل من وجبت عليه الجمعة... تنعقد به، كالمستوطن.
وقال أبو إسحاق: لا تنعقد بهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقمها بعرفات بأهل مكة، وإن كانت دار إقامتهم؛ لأنها ليست بوطنٍ لهم.

.[مسألة:العدد شرط للخطبة]

العدد شرط في الخطبة.
وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: (لو خطب وحده، ثم حضر العدد، وصلى بهم الجمعة... جاز).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
والذكر - هاهنا - هو الخطبة؛ ولأنه ذكر هو شرط في الصلاة، فكان من شرطه حضور الجماعة، كتكبيرة الإحرام.
إذا ثبت هذا: فإنما يشترط حضور العدد عند ذكر الواجبات من الخطبة على ما يأتي ذكره، دون ما سواها، فإن انفضوا عنه بعد فراغه من الواجبات، فإن عادوا قبل أن يتطاول الفصل... بنى الإمام على الخطبة، وأحرم بهم بالجمعة، وإن رجعوا بعد أن تطاول الفصل - وحده: ما يعرفه الناس تطاولًا - قال الشافعي: (أحببت أن يعيد الخطبة، ثم يصلي بهم الجمعة، فإن لم يفعل صلى بهم الظهر).
واختلف أصحابنا في هذا:
فقال أبو العباس: تجب عليهم إعادة الخطبة والجمعة؛ لأن الوقت متسع لهما، وهم من أهل فرضها.
وقوله: (أحببت) لا يعرف للشافعي، وإنما هو: (أوجبت)، فصحفه الناقل.
وأما قوله: (صلى بهم الظهر) أراد: إذا ضاق الوقت عن الخطبة والجمعة.
وقال أبو إسحاق: يستحب إعادة الخطبة، ولا تبطل بطول الفصل؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة أخرى، وأما الصلاة: فتجب عليهم الجمعة؛ لأنه ممكن من فعلها، فإن صلى بهم الظهر... أساؤوا بذلك، وأجزأهم قولًا واحدًا، بخلاف من صلى الظهر في بيته، وهو من أهل الجمعة، فإن الإعادة تجب عليه في قوله الجديد؛ لأن الجمعة قد أقيمت بعد صلاته، وهاهنا لم تقم.
ومن أصحابنا من قال بظاهر كلام الشافعي، وأنه يستحب إعادة الخطبة والجمعة؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة ثانية.

.[فرع: الانفضاض بعد الإحرام]

وإن أحرم الإمام بالجمعة، ثم انفضوا عنه... ففيه ثلاثة أقوال منصوصة للشافعي: أحدها - وهو الصحيح -: (أنهم إذا انفضوا عن الأربعين في أثناء الصلاة لم تصح الجمعة)؛ لأن العدد شرط في ابتداء الصلاة، فكان شرطًا في استدامتها، كالوقت والاستيطان.
والثاني: (إن بقي معه اثنان... أتم الجمعة)؛ لأنهم يصيرون ثلاثة، وذلك أقل الجمع.
والثالث: (إن بقي معه واحد... أتم الجمعة)؛ لأن اثنين يحصل معهما فضل الجماعة.
وخرج المزني قولين آخرين:
أحدهما: أنهم إن انفضوا بعد أن صلى بهم ركعة... أتمها جمعة، وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة أتمها ظهرًا، وهو قول مالك.
وإنما خرج المزني هذا من قول الشافعي: (إذا فرق الإمام الناس طائفتين في صلاة الخوف في البلد، فصلى بالطائفة الأولى ركعة من الجمعة، ثم قام في الثانية، ينتظر الثانية، فلما جاز أن يبقى وحده، ثم يتمها جمعة إذا جاءت الثانية... كذا هذا مثله).
والثاني: إذا انفضوا عنه بعد الإحرام. جاز أن يتمها جمعة وإن بقي وحده، وأخذ هذا من قول الشافعي: (إذا أحدث الإمام، وقلنا: لا يجوز الاستخلاف... جاز لهم أن يتموها جمعة)؛ لأن الشيء قد يكون شرطًا في الابتداء، ولا يكون شرطًا في الاستدامة، ألا ترى أن النية شرط في ابتداء الصلاة، دون استدامتها.
فمن أصحابنا من صوب المزني في هذا التخريج، فقال: في المسألة خمسة أقوال. ومنهم من خطأه في ذلك.

.[مسألة:خطبتا الجمعة]

ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان، وهما واجبتان، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال الحسن البصري: الخطبة مستحبة، وبه قال عبد الملك، وداود.
دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل الجمعة إلا بخطبتين) وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما قصرت الصلاة؛ لأجل الخطبة).
ولا تصح الخطبة والصلاة إلا بعد زوال الشمس.
وقال أحمد: (يجوز فعلها قبل الزوال). واختلف أصحابه في وقتها: فمنهم من قال: أول وقتها وقت صلاة العيد.
ومنهم من قال: يجوز فعلها في الساعة السادسة.
وقال مالك: (يجوز فعل الخطبة قبل الزوال، وأما صلاة الجمعة: فلا تجوز له قبل الزوال).
دليلنا: ما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة بعد الزوال»، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ولأنهما فرضا وقت، فلم يختلف وقتهما، كصلاة الحضر والسفر.
فإن دخل في الجمعة في وقتها، ثم خرج الوقت وهو فيها... لم تبطل الصلاة، بل يتمها ظهرًا، ولا يحتاج إلى تجديد نية.
قال صاحب "الفروع": وقد قيل: يحتاج إلى تجديد النية بعد خروج الوقت.
وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الوقت وهو فيها... بطلت صلاته).
وحكاه السنجي وجهًا آخر لبعض أصحابنا، وليس بمشهور.
وقال عطاء، ومالك، وأحمد: (يتمها جمعة).
دليلنا على أبي حنيفة: أنهما صلاتا وقت، فجاز بناء إحداهما على الأخرى، كصلاة الحضر على صلاة السفر.
وعلى من قال: يتمها جمعة: أن من كان شرطًا في ابتداء صلاة الجمعة... كان شرطًا في استدامتها، كسائر الشروط.
وإن أحرم بالجمعة، وشك وهو فيها، هل خرج وقتها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في "العدة":
أحدهما: ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه يتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاء الوقت.
والثاني: يتمها ظهرًا؛ لأن الأصل الظهر، وإنما جوز فعل الجمعة بشروط، فلا يجوز أن يفعلها حتى تتحقق الشروط.
وإن خرج من الصلاة، ثم شك، هل خرج الوقت وهو فيها؟ لم تجب عليه إعادتها؛ لأن الظاهر أنه أداها على الصحة.
وأما المسبوق فيها بركعة: إذا قام ليأتي بها، ثم خرج الوقت... ففيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\90]:
أحدهما: يتمها ظهرًا، كالإمام والجماعة.
والثاني: يتمها جمعة، لأن هذه الركعة تبتنى على جمعة قد تمت.
وإن تشاغلوا عن الجمعة، حتى ضاق الوقت... قال الشافعي:فإن علم الإمام أنه إذا خطب أقل خطبتين، وصلى أخف ركعتين، دخل وقت العصر قبل الفراغ منهما صلوا الظهر؛ لأنه لا يمكنهم صلاة الجمعة، وإن علم أنه يفرغ منها قبل دخول وقت العصر... صلاها جمعة.

.[مسألة:القيام في الخطبة]

القيام شرط في الخطبة، فإن خطب قاعدًا مع العجز... أجزأه، فإن كان قادرًا لم يصح.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (القيام ليس بشرط فيها بحال).
دليلنا: ما روى جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله».
وفي رواية عن جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الخطبتين، وهو قائم، فمن حدثك أنه كان يخطب قاعدًا... فقد كذبك، فقد صليت خلفه أكثر من ألفي صلاة»، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
فإن خطب الإمام قاعدًا، فإن علم المأمومون أنه عاجز عن القيام، أو أخبرهم: أنه عاجز... صحت صلاتهم؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا من جهته، وإن لم يعلموا بعجزه ولا أخبرهم صحت صلاتهم؛ لأن الظاهر من حاله: أنه ترك القيام لعجزه.
فإن بان أنه كان قادرًا على القيام، فإن كان الإمام أحد الأربعين... لم تصح الجمعة، لا له، ولا لهم، وإن كان زائدًا على الأربعين صحت الجمعة لهم دونه، كما قلنا فيمن صلى الجمعة خلف جنب.
ويفصل بين الخطبتين بجلسة بينهما، فإن خطب قاعدًا عند العجز... فصل بينهما بسكتةٍ، والجلسة واجبة.
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (الجلسة بينهما مستحبة غير واجبةٍ).
دليلنا: حديث جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصل بينهما بجلسة»، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
وهل يشترط فيهما الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة؟ فيه قولان: الأول: قال في القديم: (لا يشترط ذلك، وأنه مستحب). وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة، فلم يشترط فيه الطهارة، كالأذان.
والثاني: قال في الجديد: (يشترط ذلك). وهو الأصح؛ لأنه ذكر شرط في الصلاة، فاشترطت فيه الطهارة، كتكبيرة الإحرام، وينبغي أن يكون ستر العورة فيهما شرطًا على هذين القولين.

.[مسألة:الألفاظ الواجبة في الخطبة]

وأما الألفاظ في الخطبتين: فاتفق أصحابنا على وجوب ثلاثة ألفاظ فيها: حمد الله، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوصية بتقوى الله تعالى.
وأما القراءة: فالمشهور من مذهب الشافعي: أنها واجبة.
وحكى بعض أصحابنا قولًا آخر: أنها ليست بواجبة بواحدة منهما؛ لأن الشافعي قال في " الإملاء ": (فإن حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووعظ... أجزأه، وقد ضيع حظ نفسه). وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الشافعي قد نص على وجوبها في "الأم" [1/178].
ووجهه: حديث جابر بن سمرة.
فإذا قلنا بهذا: فاختلف أصحابنا في محلها:
فمنهم من قال: القراءة واجبة في كل واحدة من الخطبتين؛ لأن ما كان واجبًا في إحداهما، كان واجبًا فيهما، كسائر الألفاظ.
ومنهم من قال: تجب القراءة في إحدى الخطبتين لا بعينها؛ لأنه روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الخطبة». وذلك لا يقتضي أكثر من مرة.
وحكى في "الإفصاح" وجهًا ثالثًا: أن القراءة لا تجزئ إلا في الأولى، وهذا ليس بمشهور.
وأما الدعاء: فمن أصحابنا من قال: يجب؛ لأن المزني ذكره في أقل ما يجزئ من الخطبة.
ومنهم من قال: هو مستحب؛ لأنه لا يجب في غير الخطبة، فلا يجب فيها، كالتسبيح، وأما الدعاء للسلطان: فلا يستحب؛ لما روي: أنه سُئل عطاء عن ذلك؟ فقال: إنه محدث، وإنما كانت الخطبة تذكيرًا.

.[فرع: الخطبة بالعربية]

ويشترط أن يأتي بالخطبة بالعربية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يخطبون بالعربية، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
فإن لم يوجد فيهم من يحسن الخطبة بالعربية... احتمل أن تجزئهم الخطبة بالعجمية، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية، كما قلنا في تكبيرة الإحرام.
ولفظ الوصية ليس بشرط في الخطبة، فلو قرأ آية فيها وصية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]... أجزأه؛ لأنها أبلغ من الوصية. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يجزئه أن يقول: الحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو سبحان الله).
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز حتى يأتي بكلام يسمى خطبة في العادة.
وعن مالك روايتان:
إحداهما: (أن من سبح أو هلل... أعاد ما لم يصل).
والثانية: (لا يجزئه إلا ما سمته العرب خطبة).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
ولم يبين كيفية الذكر، وكيفيته مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي في خطبته بجميع ما ذكرناه، وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يومًا، فقال: الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونستنصره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله... فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله... فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى».
قال الشافعي: وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب، فقال: ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق، يقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار، ألا فاعملوا، وكونوا من الله على حذر، ألا واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم - وفي رواية: على أموالكم - فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا... يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره».
وروي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الجمعة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته، واشتد غضبه، واحمرت وجنتاه، كأنه منذر جيش: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى، ثم قال: إن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، من ترك مالًا... فلأهله، ومن ترك دينًا أوضياعًا فإلي وعلي» وهذا يدل على وجوب الحمد والوصية.
قال أبو عبيد الهروي في " الغريب ": «خير الهدي هدي محمد»، أي: أحسن الطرائق، يقال: فلان حسن الهدي، أي: حسن المذاهب في الأمور كلها.
وقوله: " ضياعا " قال: فالضياع: العيال.
وقال القتيبي: وهو مصدر ضاع يضيع ضياعًا، أي: من ترك عيالًا عالة، فجاء بالمصدر نائبًا عن الاسم. كقوله: فمن مات وترك فقيرًا، أي: فقراء، فإذا كسرت الضاد... فهو جمع: ضائع، مثل: جائع وجياع.
وأما الدليل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].
قال أهل التفسير: أي: لا أذكر إلا وتذكر معي.
وأما الدليل على وجوب القراءة: فحديث جابر بن سمرة، وروت أم هشام بنت حارثة، قالت: «حفظت سورة (ق) من في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر».

.[فرع: يستحب في الخطبة]

ويستحب أن يرفع صوته بالخطبة؛ لحديث جابر، ولأن القصد بالخطبة الإعلام، فكان رفع الصوت أولى، فإن خطب سرًا بحيث يسمع نفسه لا غير... ففيه وجهان:
أحدهما: وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي -: أنه يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، كما لو خطب بالعربية، وهم عجم لا يفقهونه، أو كما لو جهر بالخطبة، وهم صم لا يسمعونه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه أخل بالمقصود، فهو كما لو خطب في نفسه، أو كما لو كتبها في درج، وقرؤوها في أنفسهم، وفهموها، ويخالف إذا خطب بالعربية، وهم عجم أو صم؛ لأنه لم يفرط هناك، وهاهنا قد فرط.

.[مسألة:يسن للخطبة]

والسنة: أن يخطب على شيء مرتفع: إما منبرٍ، أو درجةٍ، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل المدينة... خطب مستندًا إلى جذع في المسجد، ثم صنع له المنبر، فصعده، وخطب عليه، فحن الجذع حتى سمعه أهل المسجد، فنزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه، وضمه حتى سكن».
ولأنه أبلغ في الإعلام.
ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب، وهو الموضع الذي يكون على يمين الإمام، إذا توجه إلى القبلة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع له منبره هكذا.
ويستحب للإمام إذا دخل المسجد أن يسلم على الناس عند دخوله، فإذا بلغ المنبر... صلى ركعتين تحية المسجد، ثم يصعد المنبر، فإذا بلغ إلى الدرجة التي تلي الدرجة التي يستريح بالقعود عليها التفت إلى الناس، وسلم عليهم.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره هذا السلام)؛ لأنه قد سلم عليهم عند دخوله، فلا معنى لإعادته.
دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم على من عند منبره، ثم يصعد، فإذا استقبل الناس بوجهه... سلم، ثم قعد»، ولأن الإمام يستدبرهم إذا صعد، فاستحب له أن يسلم عليهم إذا أقبل؛ ولهذا روي: (أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا مروا في طريق يحول بين بعضهم وبعض شجرة فيسلم بعضهم على بعض).
فإذا فرغ الإمام من السلام... جلس، وأذن المؤذن؛ لما روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصنع ذلك).
ولأنه قد يتعب في الصعود، فاستحب له الجلوس؛ لترجع إليه نفسه.
والمستحب: أن يكون المؤذن واحدًا، حكاه أبو علي في "الإفصاح"، والمحاملي، وغيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يؤذن له يوم الجمعة إلا واحد، ثم يقوم؛ لما ذكرناه من حديث جابر.
ويستحب أن يعتمد على عنزة، أو قوس، أو سيف، أو عصى؛ لما روى الحكم بن حزن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمد على قوس في خطبته»، ولأنه أسكن لجأشه.
قال الشافعي: (فإن لم يكن معه شيء... سكن نفسه: إما بأن يضع يمينه على شماله، أو بأن يرسل يديه ساكنتين، ويخطب خطبتين على ما مضى).
ويستحب أن يكون كلامه مسترسلًا معربًا بلا تمطيط ولا مد، ولا يأتي بالكلام الغريب المستنكر الذي تخفى عليهم أو على بعضهم المعاني فيه؛ لأن القصد بالخطبة الموعظة، ولا يحصل إلا بما ذكرناه.
ويستحب أن يقبل على الناس بوجهه في جميع الخطبة، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا.
وقال أبو حنيفة: (يلتفت يمينًا وشمالًا، كالمؤذن).
دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطبنا... استقبلناه بوجوهنا، واستقبلنا بوجهه». ولا يلتفت، ويفارق الأذان؛ فإن المقصود منه الإعلام، وذلك يحصل بكلمة، وهاهنا: المقصود السماع، فإذا التفت إلى يمينه... فوت على بعض الناس السماع، فكان أولى الجهات قصد وجهه، فإن خالف، وخطب مستقبل القبلة، مستدبر الناس صح، ولكنه قد خالف السنة.
وحكى الشاشي وجهًا آخر: أنه لا يجزئه، وليس بصحيح.

.[فرع: إن استغلق الكلام]

وإن ارتج على الإمام... فقد قال الشافعي في موضع: (ولا يلقن)، وقال في موضع: (يلقن).
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين:
فالموضع الذي قال: (لا يلقن) أراد: إذا رجى أن يفتح عليه، مثل: أن كان يردد الكلام في نفسه، والذي قال: (يلقن) أراد: إذا لم يرج انفتاحه.
والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ سورة في الصلاة، فنسى آية، فلما فرغ... قال: أليس فيكم أُبي؟، فقالوا: بلى، يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هلا رددت علي؟، فقال أُبي: ما كان الله ليراني وأنا أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا استطعمكم الإمام... فأطعموه)، يعني: الفتح عليه.
ويستحب أن يقصر الخطبة، قال الشافعي في القديم: (يخطب بقدر أقل سورة)، ولم يعين، وقد بينه في "الأم" [1/187]، فقال: (أن يأتي بالألفاظ الواجبة التي ذكرناها).
والأصل في ذلك... ما روي: أن عبد الله بن مسعود خطب، وأوجز، فقيل له: لو تنفست في خطبتك، فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «قصر الخطبة، وتطويل الصلاة، مئنة من فقه الرجل، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة».
قوله: " مئنة "، أي: مادة وقوة ودليل على فضل وكثرة علم.