فصل: (فرع: وجوب تخليل الأصابع الملتوية)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: وجوب تخليل الأصابع الملتوية]

فإن كانت أصابعه ملتفة لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالتخليل... وجب عليه إيصال الماء إلى باطنها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خللوا بين أصابعكم، لا يخلل الله بينها النار». وإن كانت منفرجة يصل الماء إليها من غير تخليل.. استحب له التخليل بينها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبره: «وخلل بين الأصابع».
وكيفية استحباب التخليل: أن يبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختمها بإبهامها، ويبدأ بإبهام رجله اليسرى، ويختمها بخنصرها، ويكون ذلك من أسفل الرجل في باطن القدم.
وإن خلقت أصابعه مرتتقة، فلا يجب عليه أن يفتقها.
ويستحب له أن يغسل فوق المرفقين، وفوق الكعبين؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تأتي أمتي يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل».

.[مسألة: تكرار الغسل في الوضوء]

والواجب في الوضوء الغسل والمسح مرة مرة، والمرتان فضيلة، والثلاث سنة، والزيادة على ذلك مكروهة.
وقال بعض الناس: الثلاث واجبة.
وقال مالك: (السنة: مرة مرة).
دليلنا: ما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة، وقال: هذا وضوء، لا يقبل الله الصلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: من توضأ مرتين.. آتاه الله أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» ففي الخبر دليل على الفريقين. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم».
فمعنى قوله: (فقد أساء): لمخالفته السنة إذا نقص عن الثلاث.
ومعنى قوله: (ظلم): إذا زاد عليها، يعني جاوز الحد؛ لأن الظلم: مجاوزة الحد، وهي إساءة وظلم لا تقتضي العصيان والإثم.

.[مسألة: وجوب الترتيب في الوضوء]

ويجب الترتيب في الوضوء مع الذكر، وهو: أن يبدأ بغسل وجهه، ثم بيديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
فإن نسي الترتيب فهل يجزئه؟ فيه قولان، كما لو نسي الفاتحة حتى ركع، الصحيح: لا يجزئه.
وذهبت طائفة إلى: أن الترتيب ليس بواجب، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود. وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري، والنخعي، ومكحول. والأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وداود، والمزني. وهو اختيار الشيخ أبي نصر في " المعتمد ".
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]
قلنا: من هذه الآية أدلة:
منها قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، والفاء: للتعقيب، فمن قال: إنه يبدأ بغسل اليد، فقد خالف ظاهر القرآن.
والثاني: أن الله تعالى، بدأ بالوجه، ثم باليد بعده، والرأس أقرب إلى الوجه، فلو جازت البداية بالرأس لذكره بعد الوجه؛ لأنه أقرب إليه.
والثالث: أنه أدخل مسح الرأس بين غسل اليدين، وغسل الرجلين، وقطع النظير عن نظيره، فدل على: أنه قصد إيجاب الترتيب.
وروى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ مرتبًا مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.» ولأنها عبادة تشتمل على أفعال متغايرة في أصل وضعها، يرتبط بعضها ببعض، فوجب فيها الترتيب، كالصلاة والحج.
فقولنا: (تشتمل على أفعال) احتراز من الخطبة، فإنها تشتمل على أقوال متغايرة، ولا يجب فيها الترتيب.
وقولنا: (متغايرة) ـ يعني: نفلا وفرضًا، ومغسولا وممسوحًا ـ احتراز من غسل الجنابة والنجاسة، والعضو الواحد في الوضوء.
وقولنا: (في أصل وضعها) احتراز ممن وضع الجبيرة على بعض العضو، فإنه لا يجب عليه الترتيب بين المسح على الجبيرة، وغسل الصحيح من العضو؛ لأن المسح لم يجب في أصل وضع الطهارة على جميع الناس.
وقولنا: (يرتبط بعضها ببعضٍ) احتراز من جلد البكر وتغريبه في الزنا؛ فإنه لو تقدم التغريب على الجلد أجزأه.

.[مسألة: استحباب الولاء]

ويوالي بين أعضائه، فإن فرق تفريقًا يسيرًا لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.
وإن فرق تفريقًا كثيرًا فهل تصح طهارته؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (لا تصح طهارته). وبه قال عمر؛ لما روى خالد بن معدان، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا على قدمه لمعة قدر درهم، لم يصبها الماء، فأمره بإعادة الوضوء، والصلاة».
ولأنها عبادة يبطلها الحدث، فأبطلها التفريق الكثير، كالصلاة. أو عبادة يرجع إلى شطرها مع العذر، فكانت الموالاة شرطًا فيها، كالصلاة، وفيها احتراز من تفرقة الزكاة.
والثاني: قال في الجديد: (تصح طهارته). وبه قال ابن عمر، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. فأمر بغسل هذه الأعضاء، والأمر يقتضي إيجاد المأمور به، سواء أوجده متواليًا أو متفرقًا.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه فدعي إلى جنازة، فأتى المسجد، فدعا بماء، فمسح على خفيه وصلى عليها».
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وبين ذهابه من السوق إلى المسجد تفريق كثير)؛ ولأنها عبادة لا يبطلها التفريق اليسير، فلم يبطلها التفريق الكثير، كالحج، وتفرقة الزكاة. وفيه احتراز من أفعال الصلاة.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا فرق لغير عذر، فأما إذا فرق لعذر، بأن ينقلب الوضوء، فيمضي في طلبه، أو ما أشبه ذلك، فيجوز قولا واحدًا. وهو قول مالك، والليث، وأحمد، واختاره المسعودي [" في الإبانة " ق\19].
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو نقل البغداديين من أصحابنا.
واختلف أصحابنا في حد التفريق الكثير:
فذهب أكثرهم إلى: أن حده هو: أن يجف الماء على العضو قبل أن يغسل ما بعده، في زمان معتدل، مع استواء الحال، ولا اعتبار بشدة الحر والريح، فإن الجفاف يسارع فيهما، ولا بشدة البرد، فإن الجفاف يبطئ فيه. ويعتبر: استواء حال المتوضئ، فإنه إذا كان محموما، فإن الجفاف يسارع إليه لأجل الحمى.
ومنهم من قال: التفريق الكثير: هو التطاول المتفاحش.

.[فرع: عدم الموالاة بين الغسل والتيمم]

وإن فرق في الغسل والتيمم تفريقًا كثيرًا، فهل يبطل؟
قال ابن الحداد، وابن القاص: لا يبطل قولا واحدًا.
وقال أكثر أصحابنا: هو على قولين: كالوضوء، وهو الأصح.
فإذا فرق تفريقًا كثيرًا، وقلنا بقوله القديم، لزمه استئناف الطهارة، ولا كلام.
وإن قلنا بقوله الجديد، لم يلزمه استئناف الطهارة، ولكن هل يلزمه استئناف النية؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، لأن النية قد انقطعت بطول الزمان.
والثاني: لا يلزمه.
قال ابن الصباغ: وهو الأظهر، لأن التفريق إذا جاز، لم ينقطع حكم الأول.

.[مسألة: ما يقال عقب الوضوء]

والمستحب: لمن فرغ من الوضوء: أن يستقبل القبلة، ويقول ما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، فأحسن وضوءه، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ـ صادقًا من قلبه ـ اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أي باب شاء».
ويقول ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق، وطبع عليها بطابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة» أي: ختم بخاتم.
قال أبو علي في "الإفصاح": ويستحب له ألا ينفض يده، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان».
قال ابن الصباغ: وقد روت ميمونة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل، فجعل ينفض يديه».
ولما فرغ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ذكر الوضوء، قال: (وذلك أكمل الوضوء إن شاء الله).
فإن قيل: أفتراه كان شاكا فيما ذكر؟ والمشيئة تكون في المستقبل لا في الماضي، لا يقول الرجل: قمت إن شاء الله، وإنما يقول: أقوم إن شاء الله.
فعن ذلك جوابات:
الأول: قيل: أي ذلك أكمل الوضوء بمشيئة الله تعالى، أي: إن شاء الله تعالى أن يكون هذا أكمل الوضوء.
والثاني: قيل: هذه الجملة مشتملة على المفروضات والمسنونات، وليس يقطع على الله بصحة جميعها، ولا أنه على يقين من سائرها، فلهذا حسُن أن يقول: إن شاء الله.
و الثالث قيل: لأن من الناس من خالفه في أكمل الوضوء، لأن بعضهم يرى أن يجعل شيء من الماء فيما يلي حلقه ومؤخر الرأس، وكان ابن عمر يدخل الماء في عينيه.
و الرابع قيل: ليس يعود إلى الأكمل، لكن تقدير الكلام: وذلك أكمل الوضوء الذي من فعله.. حاز الفضل ورجا الثواب من الله إن شاء الله تعالى.
و الخامس قيل: معناه المستقبل لا الماضي، أي: الذي وصفته هو الكمال فتوضؤوا كذلك إن شاء الله.

.[مسألة: القول في تنشيف الأعضاء]

وأما تنشيف الأعضاء من بلل الوضوء والغسل: قال أصحابنا البغداديون: فلا خلاف أنه جائز، ولا خلاف أنه ليس بمستحب، ولكن هل يكره؟ اختلف الصحابة فيه على ثلاثة مذاهب:
فـالأول: روي عن عثمان، وأنس وبشير بن أبي مسعود، والحسن بن علي، أنهم قالوا: (لا بأس به في الوضوء والغسل)، وهو قول مالك، والثوري، لما روى قيس بن سعد، قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية، فالتحف بها، فرأيت أثر الورس على عكنه»، وروي «على كتفه».
والثاني: روي عن عمر: أنه كرهه في الوضوء والغسل، وبه قال ابن أبي ليلى، لما روت ميمونة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعت له غسلا فاغتسل، فلما فرغ ناولته المنديل، فلم يأخذه، وجعل ينفض يديه».
و الثالث قال ابن عباس: (لا بأس به في الغسل دون الوضوء).
قال أصحابنا: وليس للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه نص، والذي يقتضيه المذهب: أنه لا يحرم فعله، لحديث قيس بن سعد، والأولى أن يتركه، لحديث ميمونة، ولأنه أثر عبادة، فاستحب تركها، كخلوف فم الصائم.
وقال المسعودي [في الإبانة: ق\19] هل يستحب المسح بالخرقة؟ فيه وجهان.

.[مسألة: واجبات وسنن الطهارة]

قال أصحابنا: الطهارة تشتمل على واجبات، ومسنونات، وهيئات.
فالواجبات: ما كان شرطًا في الطهارة، وذلك ستة أشياء، لا خلاف فيها على المذهب، وهي: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب، وفي السابع ـ وهو الموالاة ـ قولان.
وأما المسنونات: فكل ما كان ليس بشرط في الطهارة، ولكنه راتب فيها، وهي أشياء:
المضمضة، والاستنشاق، وتخليل اللحية، واستيعاب مسح الرأس، ومسح الأذنين والعنق، والدفعة الثانية والثالثة، والبداية باليمين، وفي التسمية وغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء وجهان:
أحدهما: أنهما سُنَّة، والثاني: أنهما هيئة.
وأما الهيئات: فرتبتها دون رتبة المسنونات، وذلك كتخليل الأصابع، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتطويل الغرة.
ويدعو عند غسل الوجه، فيقول: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه.
وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني.
وعند غسل اليد اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري، ولا تغلل يدي إلى عنقي.
وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار.
وعند مسح الأذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم.

.[مسألة: الشك بعد انتهاء الوضوء]

إذا فرغ من الطهارة، ثم شك: هل مسح رأسه، أو غسل عضوًا من أعضاء الطهارة؟ ففيه وجهان:
أحدهما قال الشيخ أبو حامد: لا تأثير لهذا الشك، لأن الشك الطارئ بعد الفراغ من العبادة لا تأثير له، كما لو فرغ من الصلاة، ثم شك: هل ترك رُكنًا منها؟
والثاني: قال ابن الصباغ: لهذا الشك تأثير، كما لو طرأ عليه الشك في أثناء الطهارة، ولأن الطهارة تقصد للصلاة، ولهذا: ظهور أصلها بعد الفراغ منها،
كظهوره قبل الفراغ منها، وهو الماء، ولأنا لو لم نجعل لهذا الشك تأثيرًا لأدى إلى أن يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها.
ومن قال بالأول، قال: لا يمتنع ذلك، كما لو توضأ وشك: هل أحدث أم لا؟ فإنه يجوز له الدخول في الصلاة بطهارة مشكوك فيها.

.[فرع: الشك في الطهارتين]

وإن توضأ عن حدث فصلى به الظهر، ثم أحدث وتوضأ، فصلى به العصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس، في إحدى الطهارتين، ولا يعلم عينها، وجب عليه إعادة الصلاتين، لأنه تيقن أن إحداهما لم تسقط عنه فلزمه إعادتهما، ليسقط الفرض عنه بيقين.
وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز التفريق في الطهارة، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق استأنف الطهارة.
فلو لم يحدث بعد الظهر، ولكن جدد الطهارة للعصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارتين، قال الشيخ أبو حامد: لزمه إعادة الظهر، لأنه يشك: هل صلاها بطهارة صحيحة أو فاسدة، فلا يسقط عنه بالشك.
وأما العصر: فإن قلنا: إن من توضأ لمندوب، مثل: قراءة القرآن، والجلوس في المسجد، أو لتجديد الطهارة، يرتفع حدثه، لم يلزمه إعادة العصر.
وإن قلنا: لا يرتفع حدثه، أعاد العصر أيضًا، وما حكم الطهارة على هذا الوجه؟
إن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه وغسل رجليه.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة.

.[فرع: رفع الحدث بتجديد الوضوء]

وإن توضأ للصبح عن حدث فصلاها، ثم جدد الطهارة للظهر فصلاها، ثم أحدث فتوضأ للعصر فصلاها، ثم جدد الطهارة للمغرب فصلاها، ثم أحدث وتوضأ للعشاء فصلاها، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارات ولا يعرف عينها.
فإن قلنا: إن تجديد الطهارة يرفع الحدث، صحت له صلاة الظهر والمغرب، ووجب عليه إعادة الصبح والعصر والعشاء.
وإن قلنا: إن التجديد لا يرفع الحدث، أعاد جميع الصلوات.
وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة. وبالله التوفيق.

.[باب المسح على الخفين]

يجوز المسح على الخفين في الوضوء، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وقالت الشيعة، والخوارج:
لا يجوز المسح على الخفين، وهو قول أبي بكر بن داود.
وروي عن مالك في ذلك روايات:
إحداهن: (يجوز المسح عليه مؤقتًا) كقول الشافعي الجديد.
الثانية: (أنه أجاز المسح عليه أبدًا) كقول الشافعي القديم.
الثالثة: (أنه يمسح عليه في الحضر دون السفر).
الرابعة: (أنه يمسح عليه في السفر دون الحضر) وهي الصحيحة عنه.
والخامسة: (أنه كره المسح على الخفين).
السادسة: رواية رواها ابن أبي ذئب عنه: (أنه أبطل المسح في آخر أيامه). كقول الشيعة.
دليلنا: ما روى بلال: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه ومسح على خفيه».
وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله، أنسيت، لم تخلع الخفين؟ فقال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل». وهذا أمر اختيار، لا أمر إلزام.
وروي عن الحسن البصري، أنه قال: «حدثني سبعون من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه مسح على الخفين».
ولأن الحاجة تدعو إلي لبسه، وتلحقه المشقة في نزعه، فجاز المسح عليه، كالجبائر.
إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا نصر قال في " المعتمد ": غسل الرجلين أفضل من المسح على الخفين، على قياس قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الشعبي، والحكم، وحماد: المسح على الخفين أفضل من الغسل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه».
دليلنا: أن الغسل أصل، والمسح بدل منه، فكان أفضل منه.
وأما الخبر: فإنما هو حث على ألا يترك الرخصة رغبة عنها.
ولا يجوز مسح الخفين في الغسل الواجب، كغسل الجنابة، والحيض، لما روى صفوان بن عسال المرادي: قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين ـ أو سفرًا ـ ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول، أو نوم ثم نحدث بعد ذلك وضوءًا»، ولأن الغسل يندر، فلم تدع الحاجة إلى مسح الخفين فيه.
ولا يجوز المسح على الخفين في الغسل المسنون، كغسل الجمعة والعيدين، أي: لا يحكم له بصحة الغسل، لأنه يندر، فهو كغسل الجنابة.

.[مسألة: توقيت المسح]

روى الزعفراني: أن الشافعي قال في العراق: (يجوز المسح على الخفين من غير توقيت)، وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وبه قال الليث.
ووجهه: ما «روي عن أُبي بن عمارة بكسر العين، من المؤتلف والمختلف، وقال في الاستيعاب: هو بضم العين عُمارة: أنه قال: يا رسول الله، أمسح على الخف؟ قال: نعم، قلت: يومًا، قال: نعم، إلى أن بلغ سبعًا، قال: نعم وما بدا لك».
ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كمسح الرأس.
قال الزعفراني: ورجع الشافعي عن هذا قبل رحلته من عندنا إلى مصر، وقال: (يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن)، وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وهو قول عطاء، وشريح، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، وهو الأصح، لما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن»، ولأن المسح على الخفين إنما أجيز لتترفه رجله، ولا حاجة بالمقيم إلى ترك رجله في الخف فيما زاد على يوم وليلة، ولا بالمسافر فيما زاد على ثلاثة أيام ولياليهن، بل الحاجة تدعو إلى كشفها، لتسوية لفائفه وإراحة رجله.

.[مسألة: ابتداء مدة المسح]

وابتداء المدة من حين بعد لبس الخفين، لا من حين اللبس، ولا من حين الطهارة بعد الحدث.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود: (ابتداء المدة من حين المسح).
دليلنا: ما روي في حديث صفوان بن عسال المرادي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من الحدث إلى الحدث».
ولأن زمان الحدث زمان يستباح به المسح، فكان من وقته كبعد المسح.
إذا ثبت هذا: فأكثر ما يصلي المقيم بالمسح في الوقت خمس صلوات بغير حيلة ولا عذر، وبالحيلة ست صلوات وهو: أن يحدث بعد اللبس بعد أن توسط وقت الظهر ويصليها، ثم يصليها في اليوم الثاني في أول وقتها، ويمكنه أن يصلي سبع صلوات مع الحيلة والعذر، وهو: أن يصلي في اليوم الأول الظهر في آخر وقتها حين أحدث، ويصليها في اليوم الثاني في أول وقتها، ويقدم إليها العصر في المطر.
وأكثر ما يمكن للمسافر أن يصلي بالمسح من صلوات في وقتها: خمس عشرة صلاة من غير حيلة، ولا عذر، ومع الحيلة ست عشرة صلاة، وبالحيلة والعذر: سبع عشرة صلاة، كما ذكرنا في المقيم.
وإن كان السفر معصية، لم يجز له أن يمسح ما زاد على يوم وليلة، لأنه مستفاد بالسفر، والعاصي لا يجوز له الترخص برخص المسافرين.
وهل له أن يمسح يومًا وليلة؟ فيه وجهان، حكاهما في "الفروع"، المشهور: أنه يستبيح ذلك.