فصل: تفسير الآية رقم (59)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

جملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏ باعتبار ما تفرّع عليها من قوله‏:‏ ‏{‏فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏ عطفاً ينبئ عن الحالة المحمودة، بعد ذكر الحالة المذمومة‏.‏

وجواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف دلّ عليه المعطوف عليه، وتقديره‏:‏ لكان ذلك خيراً لهم‏.‏

والإيتاء‏:‏ الإعطاء، وحقيقته إعطاء الذوات ويطلق مجازاً على تعيين المواهب كما في ‏{‏وآتاه الله الملك والحكمة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 251‏]‏ وفي ‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما آتاهم الله‏}‏ من هذا القبيل، أي ما عيّنه لهم، أي لِجماعتهم من الصدقات بنوطها بأوصاف تحقّقت فيهم كقوله‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ الآية‏.‏

وإيتاء الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاؤه المال لمن يرى أن يعطيه ممّا جعل الله له التصرّف فيه، مثل النفَل في المغانم، والسلَب، والجوائز، والصلات، ونحو ذلك، ومنه إعطاؤه من جعل الله لهم الحقّ في الصدقات‏.‏

ويجوز أن يكون إيتاء الله عين إيتاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإنّما ذكر إيتاء الله للإشارة إلى أنّ ما عينه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما عيّنه الله لهم، كما في قوله‏:‏ ‏{‏سيؤتينا الله من فضله ورسوله‏}‏ أي ما أوحى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم وقوله‏:‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وحسب‏:‏ اسم بمعنى الكافي، والكفاية تستعمل بمعنى الاجتزاء، وتستعمل بمعنى ولي مهمّ المكفي، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا حسبنا الله‏}‏ وهي هنا من المعنى الأول‏.‏

ورضي إذا تعدّى إلى المفعول دلّ على اختيارِ المرضيّ، وإذا عدّي بالباء دلّ على أنّه صار راضياً بسبب ما دخلت عليه الباء، كقوله‏:‏ ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وإذا عدّي ب ‏(‏عن‏)‏ فمعناه أنّه تجاوز عن تقصيره أو عن ذنبه ‏{‏فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 96‏]‏‏.‏

فالقول هنا مراد به الكلام مع الاعتقاد، فهو كناية عن اللازم مع جواز إرادة الملزوم، فإذا أضمروا ذلك في أنفسهم فذلك من الحالة الممدوحة ولكن لمّا وقع هذا الكلام في مقابلة حكاية اللَّمز في الصدقات، واللَّمز يكون بالكلام دلالة على الكراهية، جعل ما يدلّ على الرضا من الكلام كناية عن الرضى‏.‏

وجملة ‏{‏سيؤتينا الله من فضله ورسوله‏}‏ بيان لجملة ‏{‏حسبنا الله‏}‏ لأنّ كفاية المهمّ تقتضي تعهّد المكفي بالعوائد ودفع الحاجة، والإيتاءُ فيه بمعنى إعطاء الذوات‏.‏

والفضل زيادة الخير والمنافع ‏{‏إن الله لذو فضل على الناس‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏ والفضل هنا المعطَى‏:‏ من إطلاق المصدر وإرادة المفعول، بقرينة من التبعيضية، ولو جعلت ‏{‏من‏}‏ ابتدائية لصحّت إرادة معنى المصدر‏.‏

وجملة ‏{‏إنا إلى الله راغبون‏}‏ تعليل‏.‏ أي لأنّنا راغبون فضله‏.‏

وتقديم المجرور لإفادة القصر، أي إلى الله راغبون لا إلى غيره، والكلام على حذف مضاف، تقديره‏:‏ إنّا راغبون إلى ما عيّنه الله لنا لا نطلب إعطاء ما ليس من حقّنا‏.‏

والرغبة الطلب بتأدب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

هذه الآية اعتراض بين جملة‏:‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏ وجملة ‏{‏ومنهم الذين يؤذون النبي‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏ الآية‏.‏ وهو استطراد نشأ عن ذكر اللمز في الصدقات أدمج فيه تبيين مصارف الصدقات‏.‏

والمقصود من أداة الحصر‏:‏ أن ليس شيء من الصدقات بمستحقّ للذين لَمَزوا في الصدقات، وحَصْر الصدقات في كونها مستحقّة للأصناف المذكورة في هذه الآية، فهو قصر إضافي أي الصدقات لهؤلاء لا لكم‏.‏

وأمّا انحصارها في الأصناف الثمانية دون صنف آخر فيستفاد من الاقتصار عليها في مقام البيان إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معاً إلاّ على طريقة استعمال المشترك في معنييه‏.‏

والفقير صفة مشبّهة أي المتّصف بالفقر وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه، وضدّه الغني‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما‏}‏ في سورة النساء ‏(‏135‏)‏‏.‏

والمسكين ذو المسكنة، وهي المذلّة التي تحصل بسبب الفقر، ولا شكّ أنّ ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر، وإنّما النظر فيما إذا جُمع ذكرهما في كلام واحد؛ فقيل‏:‏ هو من قبيل التأكيد، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي علي الجبائي، وقيل‏:‏ يراد بكلّ من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى، واختلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة‏:‏ الأوضح منها أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجاً لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلّة‏.‏ والمسكين المحتاج احتياجاً يُلجئه إلى الضراعة والمذلّة، ونسب هذا إلى مالك، وأبي حنيفة، وابن عباس، والزهري، وابن السكّيت، ويونسَ بن حبيب؛ فالمسكين أشدّ حاجة لأنّ الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمّل ألم الخصاصة، والأكثرُ إنمّا يكون ذلك من شدّة الحاجة على نفس المحتاج‏.‏ وقد تقدّم الكلام عليهما عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبذي القربى واليتامى والمساكين‏}‏ في سورة النساء ‏(‏36‏)‏‏.‏

والعاملين عليها‏}‏ معناه العاملون لأجلها، أي لأجل الصدقات فحرف ‏(‏على‏)‏ للتعليل كما في قوله‏:‏ ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ أي لأجل هدايته إيّاكم‏.‏ ومعنى العمل السعي والخدمة وهؤلاء هم الساعون على الأحياء لجمع زكاة الماشية واختيار حرف ‏(‏على‏)‏ في هذا المقام لما يشعر به أصل معناه من التمكّن، أي العاملين لأجلها عملاً قوياً لأنّ السعاة يتجشّمون مشقّةً وعملاً عظيماً، ولعلّ الإشعار بذلك لقصد الإيمان إلى أنّ علّة استحقاقهم مركّبة من أمرين‏:‏ كون عملهم لفائدة الصدقة، وكونه شاقّاً، ويجوز أن تكون ‏(‏على‏)‏ دالَّة على الاستعلاء المجازي، وهو استعلاء التصرف كما يقال‏:‏ هو عامل على المدينة، أي العاملين للنبيء أو للخليفة على الصدقات أي متمكّنين من العمل فيها‏.‏

وممّن كان على الصدقة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حَمَل بن مالك بن النابغة الهذلي كان على صدقات هُذيل‏.‏

‏{‏والمؤلفة قلوبهم‏}‏ هم الذين تؤلّف، أي تُؤنَّس نفوسهم للإسلام من الذين دخلوا في الإسلام بحدثان عهدٍ، أو من الذين يرغَّبون في الدخول في الإسلام، لأنّهم قاربوا أن يُسلموا‏.‏

والتأليف‏:‏ إيجاد الألفة وهي التأنّس‏.‏

فالقلوب بمعنى النفوس‏.‏ وإطلاق القلب على ما به إدراك الاعتقاد شائع في العربية‏.‏

وللمؤلّفة قلوبهم أحوال‏:‏ فمنهم من كان حديثَ عهد بالإسلام، وعرف ضعف حينئذٍ في إسلامه، مثل‏:‏ أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، من مسلمة الفتح؛ ومنهم من هم كفار أشدّاء، مثل‏:‏ عامر بن الطفيل، ومنهم من هم كفار، وظهر منهم ميل إلى الإسلام، مثل‏:‏ صفوان بن أمية‏.‏ فمثل هؤلاء أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام، وقد بلغ عدد من عدّهم ابن العربي في «الأحكام» من المؤلفة قلوبهم‏:‏ تسعة وثلاثين رجلاً، قال ابن العربي‏:‏ وعدّ منهم أبُو إسحاق يعني القاضي إسماعيل بن إسحاق معاويةَ بن أبي سفيان، ولم يكن منهم وكيف يكون ذلك، وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقرآنه وخلطه بنفسه‏.‏

و ‏{‏الرقاب‏}‏ العبيد جمع رقَبة وتطلق على العبد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية وهي مغنية عن تقدير «فكّ الرقاب» لأنّ الظرفية جَعلت الرقاب كأنّها وُضعت الأموالُ في جماعتها، ولم يجرّ باللاّم لئلا يتوهّم أنّ الرقاب تدفع إليهم أموال الصدقات، ولكن تُبذل تلك الأموال في عتق الرقاب بشراء أو إعانة على نجوم كتابة، أو فداءِ أسرى مسلمين، لأنّ الأسرى عبيد لمن أسَّروهم، وقد مضى في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏والسائلين وفي الرقاب والغارمين‏}‏ المدينون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون، بحيث يُرْزأ دائنوهم شيئاً من أموالهم، أو يُرْزأ المدينون ما بقي لهم من مَال لإقامة أود الحياة، فيكون من صرف أمواللٍ من الصدقات في ذلك رحمةٌ للدائن والمدين‏.‏

و ‏{‏سبيل الله‏}‏ الجهاد، أي يصرف من أموال الصدقات ما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور، كلّ ذلك برّاً وبحراً‏.‏

و ‏{‏ابن السبيل‏}‏ الغريب بغَير قومه، أضيف إلى ‏{‏السبيل‏}‏ بمعنى الطريق‏:‏ لأنّه أولده الطريق الذي أتى به، ولم يكن مولوداً في القوم، فلهذا المعنى أطلق عليه لفظ ابن السبيل‏.‏

ولفقهاء الأمّة في الأحكام المستمدّة من هذه الآية طرائق جمّة، وأفهام مهمّة، ينبغي أن نلمّ بالمشهور منها بما لا يفضي بنا إلى الإطالة، وإنّ معانيَها لأوفرُ ممّا تفي به المقالة‏.‏

فأمّا ما يتعلّق بجعل الصدقات لهؤلاء الأصناف فبقطع النظر عن حمل اللام في قوله‏:‏ ‏{‏للفقراء‏}‏ على معنى الملك أو الإستحقاق، فقد اختلف العلماء في استحقاق المستحقّين من هذه الصدقات هل يجب إعطاء كلّ صنف مقداراً من الصدقات، وهل تجب التسوية بين الأصناف فيما يعطى كلّ صنف من مقدارها، والذي عليه جمهور العلماء أنّه لا يجب الإعطاء لجميع الأصناف، بل التوزيع موكول لاجتهاد وُلاَة الأمور يضعونها على حسب حاجة الأصناف وسعة الأموال، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعلي، وحذيفةَ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي، والحسن، ومالك، وأبي حنيفة‏.‏

وعن مالك أنّ ذلك ممّا أجمع عليه الصحابة، قال ابن عبد البر‏:‏ ولا نعلم مخالفاً في ذلك من الصحابة، وعن حذيفة‏.‏ إنّما ذكر الله هذه الأصناف لتُعرف وأيّ صنف أعطيْت منها أجزأك‏.‏ قال الطبري‏:‏ الصدقة لسدّ خلّة المسلمين أو لسدّ خلّة الإسلام، وذلك مفهوم من مآخذ القرآن في بيان الأصناف وتعدادهم‏.‏ قلت وهذا الذي اختاره حذّاق النظّار من العلماء، مثل ابن العربي، وفخر الدين الرازي‏.‏

وذهب عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي‏:‏ إلى وجوب صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكلّ صنف ثُمن الصدقات فإن انعدم أحد الأصناف قسمت الصدقات إلى كسور بعدد ما بقي من الأصناف‏.‏ واتّفقوا على أنّه لا يجب توزيع ما يعطى إلى أحد الأصناف على جميع أفراد ذلك الصنف‏.‏

وأمّا ما يرجع إلى تحقيق معاني الأصناف، وتحديد صفاتها‏:‏ فالأظهر في تحقيق وصف الفقير والمسكين أنّه موكول إلى العرف، وأنّ الخصاصة متفاوتة وقد تقدّم آنفاً‏.‏ واختلف العلماء في ضبط المكاسب التي لا يكون صاحبها فقيراً، واتّفقوا على أن دار السكنى والخادم لا يُعدَّاننِ مالاً يرفع عن صاحبه وصف الفقر‏.‏

وأمّا القدرة على التكسّب، فقيل‏:‏ لا يعدّ القادر عليه فقيراً ولا يستحقّ الصدقة بالفقر وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وابن خويز منداد، ويحيى بن عُمر من المالكية‏.‏‏.‏‏.‏ ورويت في ذلك أحاديث رواها الدارقطني، والترمذي، وأبو داود‏.‏ وقيل‏:‏ إذا كان قوياً ولا مال له جاز له أخذ الصدقة، وهو المنقول عن مالك واختاره الترمذي‏.‏ والكيا الطبري من الشافعية‏.‏

وأمّا العاملون عليها فهم يتعيّنون بتعيين الأمير، وعن ابن عمر يعطون على قدر عملهم من الأجرة‏.‏ وهو قول مالك وأبي حنيفة‏.‏

وأمّا المؤلفة قلوبهم فقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عطايا متفاوتة من الصدقات وغيرها‏.‏ فأمّا الصدقات فلهم حقّ فيها بنصّ القرآن، وأما غير الصدقات فبفعل النبي صلى الله عليه وسلم واستمرّ عطاؤهم في خلافة أبي بكر، وزمننٍ من خلافة عمر، وكانوا يعطَون بالاجتهاد، ولم يكونوا يعيِّنون لهم ثُمن الصدقات ثم اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف، وهي مسألة غريبة لأنّها مبنية على جواز النسخ بدليل العَقْل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنيّة على هذا الأصل نظر‏.‏ وإنّما بناؤها على أنّه إذا تعطّل المصرف فلِمَن يردّ سهمه وينبغي أن تقاس على حكم سهم من مات من أهل الحبس أنّ نصيبه يصير إلى بقية المحبس عليهم‏.‏ وعن عمر بن الخطاب أنّه انقطع سهمهم بعزة الإسلام، وبه قال الحسن، والشعبي، ومالك بن أنس وأبو حنيفة، وقد قيل‏:‏ إنّ الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي، ولا شكّ أن عمر قَطع إعطاء المؤلّفة قلوبهم مع أنّ صنفهم لا يزال موجوداً، رأى أنّ الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتْباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكّن الإسلام من قلوبهم، ومِن العلماء من جعل فعل عمر وسكوتَ الصحابة عليه إجماعاً سكوتياً فجعلوا ذلك ناسخاً لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع، وفي عدّ الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمّة الأصول وفي هذا البناء نظر، كما علمت آنفاً وقال كثير من العلماء‏:‏ هم باقون إذا وُجدوا فإنّ الإمام ربما احتاج إلى أن يستألف على الإسلام، وبه قال الزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي، وأحمد بن حنبل، واختاره عبد الوهاب، وابن العربي، من المالكية قال ابن العربي‏:‏ «الصحيح عندي أنّه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا»‏.‏

أي فهو يرى بقاء هذا المصرف ويرى أنّ عدم إعطائهم في زمن عمر لأجْل عزة الإسلام، وهذا هو الذي صحّحه المتأخّرون‏.‏ قال ابن الحاجب في «المختصر» «والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم»‏.‏ وهذا الذي لا ينبغي تقلّد غيره‏.‏

وأمّا الرقاب فالجمهور على أنّ معنى ‏{‏وفي الرقاب‏}‏ في شراء الرقيق للعتق، ودفع ما على المكاتب من مال تحصُل به حريته، وهو رواية المدنيين عن مالك، وقيل لا يعان بها المكاتب ولو كان آخر نجم تحصُل به حريته، وروي عن مالك من رواية غير المدنيين عنه‏.‏ وقيل‏:‏ لا تعطى إلاّ في إعانة المكاتب على نجومه، دون العتق، وهو قول الليث، والنخعي، والشافعي‏.‏ واختلف في دفع ذلك في عتق بعض عبد أو نجوم كتابة ليس بها تمام حرية المكاتب، فقيل‏:‏ لا يجوز، وبه قال مالك والزهري وقيل يجوز ذلك‏.‏ وفداء الأسرى من فك الرقاب على الأصحّ من المذهب، وهو لابن عبد الحكم، وابن حبيب، خلافاً لأصبغ، من المالكية‏.‏

وأما الغارمون فشرطهم أن لا يكون دينهم في معصية إلاّ أن يتوبوا‏.‏ والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته يُعدّ من الغارمين عند ابن حبيب، خلافاً لابن الموّاز‏.‏

وسبيل الله لم يُختلف أنّ الغزو هو المقصود، فيعطى الغزاة المحتاجون في بلد الغزو، وإن كانوا أغنياء في بلدهم، وأمّا الغزاة الأغنيَاء في بلد الغزو فالجمهور أنّهم يعطَون‏.‏ وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يعطون‏.‏ والحق أنّ سبيل الله يشمل شراء العُدّة للجهاد من سلاح، وخيل، ومراكب بحرية، ونوتيه، ومجانيق، وللحُملان، ولبناء الحصون، وحفر الخنادق، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدوّ، قاله محمد بن عبد الحكم من المالكية ولم يُذكر أنّ له مخالفاً، وأشعر كلام القرطبي في التفسير أنّ قول ابن عبد الحكم مخالف لقول الجمهور‏.‏

وذهب بعض السلف أنّ الحجّ من سبيل الله يدخل في مصارف الصدقات، وروي عن ابن عمر، وأحمد، وإسحاق‏.‏ وهذا اجتهاد وتأويل، قال ابن العربي‏:‏ «وما جاء أثرٌ قطّ بإعطاء الزكاة في الحجّ»‏.‏

وأما ابن السبيل فلم يُختلف في الغريب المحتاج في بلد غربته أنّه مراد ولو وجد من يسلفه، إذ ليس يلزمه أن يدخل نفسه تحتَ منّة‏.‏ واختلف في الغني‏:‏ فالجمهور قالوا‏:‏ لا يعطى؛ وهو قول مالك، وقال الشافعي وأصبغ‏:‏ يعطى ولو كان غنياً في بلد غربتِه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فريضة من الله‏}‏ منصوب على أنّه مصدر مؤكِّد لمصدر محذوف يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات‏}‏ لأنّه يفيد معنى فَرضَ اللَّهُ أو أوجبَ، فأكّد بفريضة من لفظ المقدّر ومعناه‏.‏

والمقصود من هذا تعظيم شأن هذا الحكم والأمر بالوقوف عنده‏.‏

وجملة ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ تذييل إمّا أفاده الحصر ب ‏{‏إنّما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ إلخ، أي‏:‏ والله عليم حكيم في قصر الصدقات على هؤلاء، أيْ أنّه صادر عن العليم الذي يعلم ما يناسب في الأحكام، والحكيممِ الذي أحكم الأشياء التي خلقها أو شرعها‏.‏ والواو اعتراضية لأنّ الاعتراض يكون في آخر الكلام على رأي المحقّقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

عطف ذكر فيه خلق آخر من أخلاق المنافقين‏:‏ وهو تعلّلهم على ما يعاملهم به النبي والمسلمون من الحَذر، وما يطَّلعون عليه من فلتات نفاقهم، يزعمون أن ذلك إرجاف من المرجفين بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّه يُصدّق القالَة فيهم، ويتّهمهم بما يبلغه عنهم ممّا هم منه برآء يعتذرون بذلك للمسلمين، وفيه زيادة في الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشكّ في نفوس المسلمين في كمالات نبيئهم عليه الصلاة والسلام‏.‏

والتعبير بالنبي إظهار في مقام الإضمار لأنّ قبله ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏ فكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ «ومنهم الذين يؤذونك» فعُدل عن الإضمار إلى إظهار وصف النبي للإيذان بشناعة قولهم ولزيادة تنزيه النبي بالثناء عليه بوصف النبوءة بحيث لا تحكى مقالتهم فيه إلاّ بعد تقديم ما يشير إلى تنزيهه والتعريض بجرمهم فيما قالوه‏.‏

وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤذيه إذا بلغه‏.‏ وقد عُدّ من هؤلاء المنافقين، القائلين ذلك‏:‏ الجُلاَسُ بن سُويد، قبل توبته، ونَبْتَل بن الحارث، وعتاب بن قشير، ووديعة بن ثابت‏.‏ فمنهم من قال‏:‏ إن كان ما يقول محمّد حقّاً فنحن شرّ من الحمير، وقال بعضهم‏:‏ نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنّا ما قلنا فيقبل قولنا‏.‏

والأذَى‏:‏ الإضرار الخفيف، وأكثر ما يطلق على الضرّ بالقول والدسائس، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ وقد تقدّم في سورة آل عمران ‏(‏111‏)‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوذوا حتى أتاهم نصرنا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏‏.‏

ومضمون جملة‏:‏ ويقولون هو أذن‏}‏ عطفُ خاصّ على عامّ، لأنّ قولهم ذلك هو من الأذى‏.‏

والأذن الجارحة التي بها حاسّة السمع‏.‏ ومعنى ‏{‏هو أذن‏}‏ الإخبار عنه بأنّه آلة سمع‏.‏

والإخبار ب ‏{‏هو أذن‏}‏ من صيغ التشبيه البليغ، أي كالأذن في تلقّي المسموعات لا يردّ منها شيئاً، وهو كناية عن تصديقه بكلّ ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود‏.‏ روي أنّ قائل هذا هو نَبْتَل بن الحارث أحد المنافقين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قل أذن خير لكم‏}‏ جملة ‏{‏قل‏}‏ مستأنفة استينافاً ابتدائياً، على طريقة المقاولة والمحاورة، لإبطال قولهم بقلب مقصدهم إغاظةً لهم، وكمداً لمقاصدهم، وهو من الأسلوب الحكيم الذي يَحمِل فيه المخاطَبُ كلامَ المتكلّم على غير ما يريده، تنبيهاً له على أنّه الأولى بأن يراد، وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏ ومنه ما جَرَى بين الحجّاج والقبعثرَى إذ قال له الحجاج متوعّدا إيّاه «لأحْمِلَنَّك على الأدهْم ‏(‏أراد لألْزِمنَّك القَيْد لا تفارقه‏)‏ فقال القبعثري‏:‏ «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب» فصرف مراده إلى أنّه أراد بالحمل معنى الركوب وإلى إرادة الفَرس الذي هو أدهم اللون من كلمة الأدهم‏.‏

وهذا من غيرة الله على رسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يعقّبه بالردّ والزجر، كما أعقب ما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏‏.‏ إلى هنا بل أعقبه ببيان بطلانه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم ما هو إبطال لزعمهم من أصله بصرف مقالتهم إلى معنى لائق بالرسول، حتّى لا يبقى للمحكي أثر، وهذا من لطائف القرآن‏.‏

ومعنى ‏{‏أذن خير‏}‏ أنّه يسمع ما يبلغه عنكم ولا يؤاخذكم؛ ويسمع معاذيركم ويقبلها منكم، فقبولهُ ما يسمعه ينفعكم ولا يضرّكم فهذا أذن في الخبر، أي في سماعه والمعاملة به وليَس أذناً في الشر‏.‏

وهذا الكلام إبطال لأن يكون ‏{‏أذن‏}‏ بالمعنى الذي أرادوه من الذم فإنّ الوصف بالأذن لا يختصّ بمن يقبل الكلام المفضي إلى شرّ بل هو أعمّ، فلذلك صحّ تخصيصه هنا بما فيه خير‏.‏ وهذا إعمال في غير المراد منه‏.‏ وهو ضرب من المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد في أحد الجانبين، فلا يُشكلْ عليك بأنّ وصف ‏{‏أذن‏}‏ إذا كان مقصوداً به الذّم كيف يضاف إلى الخير، لأنّ محلّ الذمّ في هذا الوصف هو قبول كلّ ما يسمع ممّا يترتّب عليه شرّ أو خير، بدون تمييز، لأنّ ذلك يوقع صاحبه في اضطراب أعماله ومعاملاته، فأمّا إذا كان صاحبه لا يقبل إلاّ الخير، ويرفض ما هو شرّ من القول، فقد صار الوصف نافعاً، لأنّ صاحبه التزم أن لا يقبل إلاّ الخير، وأن يحمل الناس عليه‏.‏ هذا تحقيق معنى المقابلة، وتصحيح إضافة هذا الوصف إلى الخير، فأمّا حملهُ على غير هذا المعنى فيصيّره إلى أنّه من طريقة القول بالموجَب على وجه التنازل وإرخاء العنان، أي هو أذن كما قلتم وَقد انتفعتم بوصفه ذلك إذ قبل منكم معاذيركم وتبرُّؤكم ممّا يبلغه عنكم، وهذا ليس بالرشيق لأنّ ما كان خيراً لهم قد يكون شرّاً لغيرهم‏.‏

وقرأ نافع وحده ‏{‏أذْن‏}‏ بسكون الذال فيهما وقرأ الباقون بضمّ الذال فيهما‏.‏

وجملة ‏{‏يؤمن بالله‏}‏ تمهيد لقوله بعده ‏{‏ويؤمن للمؤمنين‏}‏ إذ هو المقصود من الجواب لتمحّضه للخير وبعده عن الشرّ بأنّه يؤمن بالله فهو يعامل الناس بما أمر الله به من المعاملة بالعفو، والصفح، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، وبأنْ لا يؤاخذ أحد إلاّ ببيّنة، فالناس في أمن من جانبه فيما يبلُغ إليه لأنّه لا يعامل إلاّ بالوجه المعروف فكونه يؤمن بالله وازع له عن المؤاخذة بالظنّة والتهمة‏.‏

والإيمان للمؤمنين تصديقهم في ما يخبرونه، يقال‏:‏ آمن لفلان بمعنى صدَّقه، ولذلك عدّي باللام دون الباء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏ فتصديقه إيّاهم لأنّهم صادقون لا يكذبون، لأنّ الإيمان وازع لهم عن أن يخبروه الكذب، فكما أنّ الرسول لا يؤاخذ أحداً بخبر الكاذب فهو يعامل الناس بشهادة المؤمنين، فقوله‏:‏ ‏{‏ويؤمن للمؤمنين‏}‏ ثناء عليه بذلك يتضمّن الأمر به، فهو ضدّ قوله‏:‏

‏{‏يأيها الذين آمنو إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وعطف جملة ‏{‏ورحمة‏}‏ على جملتي ‏{‏يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين‏}‏ لأن كونه رحمة للذين يؤمنون بعد علمه بنفاقهم أثرٌ لإغضائه عن إجرامهم ولإمهالهم حتّى يَتمكن من الإيمان مَن وفّقه الله للإيمان منهم، ولو آخذهم بحالهم دون مهل لكان من سَبْققِ السيففِ العذل، فالمراد من الإيمان في قوله‏:‏ ‏{‏آمنوا‏}‏ الإيمان بالفعل، لا التظاهر بالإيمان، كما فَسّر به المفسّرون، يعنون بالمؤمنين المتظاهرين بالإيمان المبطنين للكفر، وهم المنافقون‏.‏

وقرأ حمزة بجرّ ‏{‏ورحمةٍ‏}‏ عطفاً على خير، أي أذن رحمةٍ، والمآل واحد‏.‏

وقد جاء ذكر هذه الخصلة مع الخصلتين الأخريَين على عادة القرآن في انتهاز فرصة الإرشاد إلى الخير، بالترغيب والترهيب، فرغَّبَهم في الإيمان ليكفِّروا عن سيّئاتهم الفارطة، ثم أعقب الترغيب بالترهيب من عواقب إيذاء الرسول بقوله‏:‏ ‏{‏والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم‏}‏ وهو إنذار بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا‏.‏ وفي ذكر النبي بوصف ‏{‏رسول الله‏}‏ إيماء إلى استحقاق مُؤذيه العذاب الأليم، فهو من تعليق الحكم بالمشتقّ المؤذن بالعلية‏.‏

وفي الموصول إيماء إلى أنّ علّة العذاب هي الإيذاء، فالعلةُ مركبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم، لأنّ ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم‏.‏

فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، لإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنّ المنافقين يحلفون الأيمَان الكاذبة، فلا تغرّهم أيمانهم، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي‏.‏

والمراد‏:‏ الحلف الكاذب، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها، على أنّه قد عُلِم أنّ أيمانهم كاذبة ممّا تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 42‏]‏‏.‏

فكاف الخطاب للمسلمين، وذلك يدلّ على أنّ المنافقين يحلفون على التبرّئي، ممّا يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن ذلك، فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ أي أحقّ منكم بأن يرضوهما، وسيأتي تعليل أحقّيّة الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيممِ رسوله، وإرضاءُ الرسول بتصديقه ومحبّته وإكرامه‏.‏

وإنّما أفرد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أن يرضوه‏}‏ مع أنّ المعاد اثنان لأنّه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير‏:‏ واللَّهُ أحقّ أن يرضوه ورسولُه كذلك، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذفُ الخبر إيجاز‏.‏ ومن نكتة ذلك الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين، ومنه قول ضابئ بن الحارث‏:‏

ومَن يك أمسَى بالمدينة رَحْلُه *** فإنِّي وقيَّارٌ بهَا لَغَرِيب

التقدير‏:‏ فإنّي لغريبٌ وقيارٌ بها غَريب أيضاً‏.‏ لأنّ إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما‏.‏

والضمير المنصوب في ‏{‏يرضوه‏}‏ عائد إلى اسم الجلالة، لأنّه الأهمّ في الخبر، ولذلك ابتدئ به، ألا ترى أنّ بيت ضابئ قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق ‏(‏إنّ‏)‏ الكائنة في الجملة الأولى، دون الجملة الثانية، وهذا الاستعمال هو الغالب‏.‏

وشرط ‏{‏إن كانوا مؤمنين‏}‏، مستعمل للحثّ والتوقّع لإيمانهم، لأنّ ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم، فاستعمل الشرط للتّوقع وللحثّ على الإيمان‏.‏ وفيه أيضاً تسجيل عليهم، إن أعادوا مثل صنيعهم، بأنّهم كافرون باللَّه ورسوله، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏‏}‏

هذه الجملة تتنزل من جملة ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ منزلة التعليل، لأنّ العاقل لا يرضى لنفسه عملاً يَؤول به إلى مثل هذا العذاب، فلا يُقدم على ذلك إلاّ مَن لاَ يعلم أنّ من يحادد الله ورسوله يصير إلى هذا المصير السيئ‏.‏

والاستفهام مستعمل في الإنكار والتشنيع، لأنّ عدم علمهم بذلك محقّق بِضرورة أنّهم كافرون بالرسول، وبأنّ رضى الله عند رضاه ولكن لمّا كان عدم علمهم بذلك غريباً لوجود الدلائل المقتضية أنّه ممّا يحقّ أن يعلموه، كان حال عدم العلم به حالاً منكراً‏.‏ وقد كثر استعمال هذا ونحوه في الإعلام بأمر مهمّ، كقوله في هذه السورة‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 78‏]‏ وقول مَوْيَال بن جهم المذحجي، أو مبشر بن هذيل الفزاري‏:‏

ألَمْ تعلَمي يا عَمْرَككِ اللَّهَ أنّني *** كريمٌ على حينَ الكرامُ قليل

فكأنّه قيل‏:‏ فلْيعلموا أنّه من يُحادد الله الخ‏.‏

والضمير المنصوب ب ‏{‏أنّه‏}‏ ضمير الشأن، وفسّر الضمير بجملة ‏{‏من يحادد الله‏}‏ إلى آخرها‏.‏

والمعنى‏:‏ ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يحادد الله ورسوله له نار جهنّم‏.‏

وفكّ الدَّالان من ‏{‏يحادد‏}‏ ولم يُدغما لأنّه وقع مجزوماً فجاز فيه الفَكّ والإدغام، والفكّ أشهر وأكثر في القرآن، وهو لغة أهل الحجاز، وقد ورد فيه الإدغام نحو قوله‏:‏ ‏{‏ومن يشاق الله‏}‏ في سورة الحشر ‏(‏4‏)‏ في قراءة جميع العشرة وهو لغة تميم‏.‏

والمحادَّة‏:‏ المُعاداة والمخالفة‏.‏

والفاء في فأن له نار جهنم‏}‏ لربط جواب شرط ‏{‏مَن‏}‏‏.‏

وأعيدت ‏{‏أنَّ‏}‏ في الجواب لتوكيد ‏{‏أنَّ‏}‏ المذكورة قبلَ الشرط توكيداً لفظياً، فإنّها لما دخلت على ضمير الشأن وكانت جملة الشرط وجوابه تفسيراً لضمير الشأن، كان حكم ‏{‏أنَّ‏}‏ سارياً في الجملتين بحيث لو لم تذكر في الجواب لعُلِم أنّ فيه معناها، فلمّا ذكرت كان ذكرها توكيداً لها، ولا ضيرَ في الفصل بين التأكيد والمؤكَّد بجملة الشرط، والفصل بين فاء الجواب ومدخولها بحرففٍ، إذ لا مانع من ذلك، ومن هذا القبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك للذين عملوا السوءَ بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 119‏]‏ وقول الحماسي، وهو أحد الأعراب‏:‏

وإنَّ امرءاً دامت مواثيق عهده *** على مثل هذا إنَّه لكريم

و ‏{‏جهنّم‏}‏ تقدّم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فحسبه جهنم وبئس المهاد‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏206‏)‏‏.‏

والإشارة بذلك إلى المذكور من العذاب أو إلى ضمير الشأن باعتبار تفسيره‏.‏ والمقصود من الإشارة‏:‏ تمييزه ليتقرّر معناه في ذهن السامع‏.‏

والخزي‏}‏ الذلّ والهوان، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏85‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله لكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمغيبات‏.‏

وظاهر الكلام أنّ الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأنّ نزول القرآن من الله وأنّ خبره صدق فلذلك تردّد المفسّرون في تأويل هذه الآية‏.‏ وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني «هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء‏.‏ فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنّه يظهر سرّهم الذي حذروا ظهوره‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏استهزءوا‏}‏ دلالة على ما ذكرناه، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلاّ مستهزئون بالمسلمين فيما بينهم، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر؛ لأنّهم لا يظهرون أنّ ذلك مفروض ففعل ‏{‏يحذر‏}‏ فأطلق على التظاهر بالحذر، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة، والقرينة قوله‏:‏ ‏{‏قل استهزءوا‏}‏ إذ لا مناسبة بين الحذر الحقّ وبين الاستهزاء لولا ذلك، فإنّ المنافقين لمّا كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم، لأنّهم لا يصدقون بذلك فتعيّن صرف فعل ‏{‏يحذر‏}‏ إلى معنى‏:‏ يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائِب المجاز‏.‏ وتأوّل الزجاج الآية بأنّ ‏{‏يحذر‏}‏ خبر مستعمل في الأمر، أي ليحذر‏.‏ وعلى تأويله تكون جملة ‏{‏قل استهزءوا‏}‏ استئنافاً ابتدائياً لا علاقة لها بجملة ‏{‏يحذر المنافقون‏}‏‏.‏ ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها، ذكرها الفخر‏.‏

وضميراً ‏{‏عليهم‏}‏ و‏{‏تنبئهم‏}‏ يجوز أن يعودا إلى المنافقين، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها‏.‏ وتكون ‏(‏على‏)‏ بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وهو كثير في الكلام، وتكون تعدية ‏{‏تنبئهم‏}‏ إلى ضمير المنافقين‏:‏ على نزع الخافض، أي تنبيء عنهم، أي تنبئ الرسول بما في قلوبهم‏.‏

ويجوز أن يكون تاء ‏{‏تنبئهم‏}‏ تاء الخطاب، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ تنبئهم أنت بما في قلوبهم، فيكون جملة ‏{‏تنبئهم بما في قلوبهم‏}‏ في محلّ الصفة ل ‏{‏سورة‏}‏ والرابط محذوف تقديره‏:‏ تنبّئهم بها، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر، لا في اعتقاد المنافقين، فموقع جملة ‏{‏تنبئهم بما في قلوبهم‏}‏ استطراد‏.‏

ويجوز أن يعود الضميراننِ للمسلمين، ولا يضرّ تخالف الضميرين مع ضمير ‏{‏قلوبهم‏}‏ الذي هو للمنافقين لا محالة، لأنّ المعنى يَرُدُّ كلّ ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه‏.‏

واختيرت صيغة المضارع في ‏{‏يحذر‏}‏ لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يجاد لنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏‏.‏

والسورة‏:‏ طائفة معيّنة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدّم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب‏.‏

والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نَبَّأ الخبر، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبإِ المرسلين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏‏.‏

والاستهزاء‏:‏ تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏ في أول البقرة ‏(‏14‏)‏‏.‏

والإخراج‏:‏ مستعمل في الإظهار مجازاً، والمعنى‏:‏ أنّ الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور‏:‏ مثل سورةِ المنافقين، وهذه السورةِ سورةِ براءة، حتّى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى‏:‏ ومنهم، ومنهم، ومنهم‏.‏

والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله‏:‏ ما تحذرون‏}‏ دون أن يقال‏:‏ إنّ الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم‏:‏ لأنّ الأهمّ من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة، فذكر الصلة واففٍ بالأمرين‏:‏ إظهارِ سرائرهم، وكونه في سورة تنزِل، وهو أنكى لهم، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص ‏(‏80‏)‏ ‏{‏ونرثه ما يقول‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وقال لأوتين مالا وولداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏ أي نرثه ماله وولده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

الظاهر أنّها معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله لكم ليرضوكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ أو على جملة ‏{‏ومنهم الذين يؤذون النبي‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏، فيكون المراد بجملة‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله لكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ أنّهم يحلفون إن لم تسألهم‏.‏ فالحلف الصادر منهم حلف على الأعمّ من براءتهم من النفاق والطعن، وجواب السؤال عن أمور خاصّة يُتهمون بها جواب يراد منه أنّ ما صدر منهم ليس من جنس ما يُتّهمون به، فإذا سئلوا عن حديث يجري بينهم يستراب منهم أجابوا بأنّه خوض ولعب، يريدون أنّه استجمام للراحة بين أتعاب السفر لما يحتاجه الكادُّ عملاً شاقّاً من الراحة بالمزح واللعب‏.‏ وروي أنّ المقصود من هذه الآية‏:‏ أنّ ركباً من المنافقين الذين خرجوا في غزوة تبوك نفاقاً، منهم‏:‏ وديعةُ بن ثابت العَوْفي، ومخشي بن حُمَيِّر الأشجعي، حليف بني سَلِمة، وقفوا على عَقَبَة في الطريق ينظرون جيش المسلمين فقالوا انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام هيهات هيهات فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مناجاتهم فأجابوا «إنّما كنّا نخوض ونلعب»‏.‏

وعندي أنّ هذا لا يتّجه لأنّ صيغة الشرط مستقبلة فالآية نزلت فيما هو أعمّ، ممّا يسألون عنه في المستقبل، إخباراً بما سيجيبون، فهم يسألون عمّا يتحدّثون في مجالسهم ونواديهم، التي ذكرها الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ لأنّهم كانوا كثيري الإنفراد عن مجالس المسلمين‏.‏ وحذف متعلّق السؤال لظهوره من قرينة قوله‏:‏ ‏{‏إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ولئن سألتهم عن حديثهم في خلواتهم، أعلم الله رسوله بذلك وفيه شيء من دلائل النبوءة‏.‏ ويجوز أن تكون الآية قد نزلت قبل أن يسألهم الرسول، وأنّه لمَّا سألهم بعدها أجابوا بما أخبرت به الآية‏.‏

والقصر للتعيين‏:‏ أي ما تحدثْنا إلاّ في خوض ولعب دون ما ظننته بنا من الطعن والأذى‏.‏

والخوض‏:‏ تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏68‏)‏‏.‏

واللعب تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏ في الأنعام ‏(‏32‏)‏، ولمّا كان اللعب يشمل الاستهزاء بالغير جاء الجواب عن اعتذارهم بقوله‏:‏ كنتم تستهزءون‏}‏ فلمّا كان اعتذارهم مبهماً ردّ عليهم ذلك إذ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جواب الموقن بحالهم بعد أن أعلمه بما سيعتذرون به فقال لهم ‏{‏أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون‏}‏، على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

والاستفهام إنكاري توبيخي‏.‏ وتقديم المعمول وهو ‏{‏أبالله‏}‏ على فعله العامل فيه لقصد قصر التعيين لأنّهم لما أتوا في اعتذارهم بصيغة قصر تعيين جيء في الردّ عليهم بصيغة قصر تعيين لإبطال مغالطتهم في الجواب، فاعلمهم بأنّ لعبهم الذي اعترفوا به ما كان إلاّ استهزاء بالله وآياته ورسوله لا بغير أولئك، فقصْر الاستهزاء على تعلّقه بمن ذكر اقتضى أنّ الاستهزاء واقع لا محالة لأنّ القصر قيد في الخبر الفعلي، فيقتضي وقوعَ الفعل، على ما قرّره عبد القاهر في معنى القصر الواقع في قول القائل‏:‏ أنَا سعيتُ في حاجتك وأنّه يؤكّد بنحو‏:‏ وحدي، أوْ لا غيري، وأنّه يقتضي وقوع الفعل فلا يقال‏:‏ ما أنا قلت هذا ولا غيري، أي ولا يقال‏:‏ أنا سعيت في حاجتك وغيري، وكذلك هنا لا يصحّ أن يفهم أبالله كنتم تستهزِئون أم لَمْ تكونوا مستهزئين‏.‏

والاستهزاء بالله وبآياته إلزام لهم‏:‏ لأنّهم استهزأوا برسوله وبدينه، فلزمهم الاستهزاء بالذي أرسله بآيات صدقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم‏}‏‏.‏

لمّا كان قولهم‏:‏ ‏{‏إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 65‏]‏ اعتذاراً عن مناجاتهم، أي إظهاراً للعذر الذي تناجَوا من أجله، وأنّه ما يحتاجه المتعَب‏:‏ من الارتياح إلى المزح والحديثثِ في غير الجدّ، فلمّا كشف الله أمر استهزائهم، أردفه بإظهار قلّة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبّسوا بما هو أشنع وأكبر ممّا اعتذروا عنه، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان‏.‏ فإن الله لمّا أظهر نفاقهم‏.‏ كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله، وهي ارتقاء في توبيخهم، فهي متضمّنة توكيداً لمضمون جملة ‏{‏أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 65‏]‏، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنّهم تلبّسوا بما هو أشدّ وهو الكفر، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها، على أنّ شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن تقطع ولا تعطف لأنّ التوبيخ يقتضي التعْداد، فتقع الجمل الموبَّخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد، اثنان، فالمعنى لا حاجة بكم للإعتذار عن التناجي فإنّكم قد عُرفتم بما هو أعظم وأشنع‏.‏

والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ في موضع العلّة من جملة‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ تعليلاً للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قد كفرتم‏}‏ يدلّ على وقوع الكفر في الماضي، أي قبل الاستهزاء، وذلك أنّه قد عُرف كفرهم من قبل‏.‏ والمراد بإسناد الإيمان إليهم‏:‏ إظهارُ الإيمان، وإلاّ فَهُم لم يؤمنوا إيماناً صادقاً‏.‏ والمراد بإيمانهم‏:‏ إظهارهم الإيمان، لا وقوع حقيقته‏.‏ وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة، أي بعد إيمان هو من شأنكم، وهذا تعريض بأنّه الإيمان الصوري غير الحقّ ونظيره قوله تعالى الآتي ‏{‏وكفروا بعد إسلامهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏ وهذا من لطائف القرآن‏.‏

‏{‏إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

جاءت هذه الجملة على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالتبشير للراغب في التوبة تذكيراً له بإمكان تدارك حاله‏.‏

ولمّا كان حال المنافقين عجيباً كانت البشارة لهم مخلوطة ببقية النذارة، فأنبأهم أنّ طائفة منهم قد يُعفى عنها إذا طلبت سبب العفو‏:‏ بإخلاص الإيمان، وأنّ طائفة تَبْقى في حالة العذاب، والمقام دالّ على أنّ ذلك لا يكون عبثاً ولا ترجيحاً بدون مُرجّح، فما هو إلاّ أنّ طائفة مرجّوة الإيمان، فيغفر عمّا قدّمته من النفاق، وأخرى تصرّ على النفاق حتّى الموت، فتصير إلى العذاب‏.‏ والآيات الواردة بعد هذه تزيد ما دلَّ عليه المقام وضوحاً من قوله‏:‏ ‏{‏نسوا الله فنسيهم إلى قوله عذاب مقيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67، 68‏]‏‏.‏ وقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولّوا يعذّبهم الله عذاباً أليما في الدنيا والآخرة‏}‏

‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وقد آمن بعض المنافقين بعد نزول هذه الآية، وذكر المفسّرون من هذه الطائفة مخشيَّا بن حُمَيِّر الأشجعي لمّا سمع هذه الآية تاب من النفاق، وحسن إسلامه، فعدّ من الصحابة، وقد جاهد يوم اليمامة واستشهد فيه، وقد قيل‏:‏ إنّه المقصود «بالطائفة» دون غيره فيكون من باب إطلاق لفظ الجماعة على الواحد في مقام الإخفاء والتعمية كقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَا بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ‏"‏ وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة بقية من المنافقين وكان عمر بن الخطاب في خلافته يتوسّمهم‏.‏

والباء في ‏{‏بأنهم كانوا مجرمين‏}‏ للسببية، والمجرم الكافر‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يُعفَ وتُعذبْ‏}‏ ببناء الفعلين إلى النائب، وقرأه عاصم بالبناء للفاعل وبنون العظمة في الفعلين ونصب ‏{‏طائفة‏}‏ الثاني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

يظهر أن تكون هذه الآية احتراساً عن أن يظنّ المنافقون أنّ العفو المفروض لطائفة منهم هو عفو ينال فريقاً منهم باقين على نفاقهم، فعقب ذلك ببيان أنّ النفاق حالة واحدة وأنّ أصحابه سواء، ليعلم بذلك أن افتراق أحوالهم بين عفو وعذاب لا يكون إلاّ إذا اختلفت أحوالهم بالإيمان والبقاءِ على النفاق، إلى ما أفادته الآية أيضاً من إيضاح بعض أحوال النفاق وآثاره الدالّة على استحقاق العذاب، ففصل هاته الجملة عن التي قبلها‏:‏ إمّا لأنّها كالبيان للطائفة المستحقّة العذاب، وإمّا أن تكون استئنافاً ابتدائياً في حكم الاعتراض كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏ وإمّا أن تكون اعتراضاً هي والتي بعدها بين الجملة المتقدمة وبين جملة ‏{‏كالذين من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 69‏]‏ كما سيأتي هنالك‏.‏

وزيد في هذه الآية ذكر ‏{‏المنافقات‏}‏ تنصيصاً على تسوية الأحكام لجميع المتّصفين بالنفاق‏:‏ ذكورهم وإناثهم، كيلا يخطر بالبال أن العفو يصادف نساءهم، والمؤاخذة خاصّة بذُكرَانِهم، ليعلم الناس أنّ لنساء المنافقين حظّا من مشاركة رجالهنّ في النفاق فيحذروهنّ‏.‏

و ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بعضهم من بعض‏}‏ اتّصالية دالّة على معنى اتّصال شيء بشيء وهو تبعيض مجازي معناه الوصلة والولاية، ولم يطلق على ذلك اسم الولاية كما أطلق على اتّصال المؤمنين بعضهم ببعض في قوله‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏ لما سيأتي هنالك‏.‏

وقد شمل قوله‏:‏ ‏{‏بعضهم من بعض‏}‏ جميع المنافقين والمنافقات، لأنّ كلّ فرد هو بعض من الجميع، فإذا كان كلّ بعض متّصلاً ببعض آخر، عُلم أنّهم سواء في الأحوال‏.‏

وجملة ‏{‏يأمرون بالمنكر‏}‏ مبيِّنة لمعنى الاتّصال والاستواءِ في الأحوال‏.‏

والمنكر‏:‏ المعاصي لأنّها ينكرها الإسلام‏.‏

والمعروف‏:‏ ضدّها، لأنّ الدين يعرفه، أي يرضاه، وقد تقدّما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏104‏)‏‏.‏

وقبض الأيدي‏:‏ كناية عن الشحّ، وهو وصف ذمّ لدلالته على القسوة، لأنّ المراد الشحّ على الفقراء‏.‏

والنسيانُ منهم مستعار للإشراك بالله، أو للإعراض عن ابتغاء مرضاته وامتثاللِ ما أمر به، لأنّ الإهمال والإعراض يشبه نسيان المعرَض عنه‏.‏

ونسيان الله إيَّاهم مُشاكلة أي حرمانه إياهم ممّا أعدَّ للمؤمنين، لأنّ ذلك يشبه النسيان عند قسمة الحظوظ‏.‏

وجملة‏:‏ إن المنافقين هم الفاسقون‏}‏ فذلكة للتي قبلها فلذلك فصلت لأنّها كالبيان الجامع‏.‏

وصيغة القصر في ‏{‏إن المنافقين هم الفاسقون‏}‏ قصر ادّعائي للمبالغة لأنّهم لمّا بلغوا النهاية في الفسوق جعل غيرهم كمن ليس بفاسق‏.‏

والإظهار في مقام الإضمار في قوله‏:‏ ‏{‏إن المنافقين‏}‏ لزيادة تقريرهم في الذهن لهذا الحكم‏.‏ ولتكون الجملة مستقلّة حتّى تكون كالمثل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

هذه الجملة إمّا استئنافٌ بياني ناشيء عن قوله‏:‏ ‏{‏إن المنافقين هم الفاسقون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏، وإمّا مبيِّنَةٌ لجملة ‏{‏فنسيهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ لأنّ الخلود في جهنم واللعنَ بَيَان للمرادِ من نسيان الله إيّاهم‏.‏

والوعد أعمّ من الوعيد، فهو يطلق على الإخبار بالتزام المخبِر للمخبَر بشيء في المستقبل نافع أو ضار أو لا نفع فيه ولا ضرّ ‏{‏هذا ما وعد الرحمن‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏‏.‏ والوعيد خاصّ بالضارّ‏.‏

وفعل المضي هنا‏:‏ إمّا للإخبار عن وعيد تقدّم وعَدَه الله المنافقين والمنافقات تذكيراً به لزيادة تحقيقه وإمّا لصوغ الوعيد في الصيغة التي تنشأ بها العُقود مثل ‏(‏بعت ووهبت‏)‏ إشعاراً بأنّه وعيد لا يتخلّف مثل العقد والالتزام‏.‏

والإظهار في مقام الإضمار لتقرير المحكوم عليه في ذهن السامع حتى يتمكّن اتّصافهم بالحكم‏.‏

وزيادة ذِكر ‏{‏الكفار‏}‏ هنا للدلالة على أنّ المنافقين ليسوا بأهون حالاً من المشركين إذ قد جمع الكفر الفريقين‏.‏

ومعنى ‏{‏هي حسبهم‏}‏ أنّها ملازمة لهم‏.‏ وأصل حَسْب أنّه بمعنى الكافي، ولمَّا كان الكافي يلازمه المكفي كني به هنا عن الملازمة، ويجوز أن يكون ‏{‏حسب‏}‏ على أصله ويكون ذكره في هذا المقام تهكماً بهم، كأنّهم طلبوا النعيم، فقيل‏:‏ حسبهم نار جهنم‏.‏

واللعن‏:‏ الإبعاد عن الرحمة والتحقير والغضب‏.‏

والعذاب المقيم‏:‏ إن كان المراد به عذاب جهنّم فهو تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها هي حسبهم‏}‏ لدفع احتمال إطلاق الخلود على طول المدّة، وتأكيد للكناية في قوله‏:‏ ‏{‏هي حسبهم‏}‏ وإن كان المراد به عذاباً آخر تعيّن أنّه عذاب في الدنيا وهي عذاب الخزي والمذلّة بين الناس‏.‏

وفي هذه الآية زيادة تقرير لاستحقاق المنافقين العذاب، وأنّهم الطائفة التي تعذب إذا بقُوا على نفاقهم، فتعيّن أنّ الطائفة المعفو عنها هم الذين يؤمنون منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قيل هذا الخطاب التفات، عن ضمائر الغيبة الراجعة إلى المنافقين، إلى خطابهم لقصد التفريع والتهديد بالموعظة، والتذكير عن الغرور بما هم فيه من نعمة الإمهال بأنّ آخر ذلك حبط الأعمال في الدنيا والآخرة، وأن يحقّ عليهم الخسران‏.‏

فكاف التشبيه في موضع الخبر عن مبتدأ محذوف دلّ عليه ضمير الخطاب، تقديره‏:‏ أنتم كالذين من قبلكم، أو الكاف في موضع نصب بفعل مقدّر، أي‏:‏ فعلتم كفعل الذين من قبلكم، فهو في موضع المفعول المطلق الدالّ على فعله، ومثله في حذف الفعل والإتيان بما هو مفعول الفعل المحذوف قول النمر بن تولب‏:‏

حتّى إذا الكلاَّب قال لها *** كاليوممِ مطلوباً ولا طالِبا

أراد‏:‏ لم أر كاليوم، إلاّ أنّ عامل النصب مختلف بين الآية والبيت‏.‏

وقيل هذا من بقية المَقول المأمور بأن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم إيّاهم من قوله‏:‏ ‏{‏قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 65‏]‏ الآية‏.‏ فيكون ما بينهما اعتراضاً بقوله‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ إلخ فضمير الخطاب لهم جار على مقتضى الظاهر بدون التفات والكلام مسوق لتشبيه حالهم في مصيرهم إلى النار‏.‏

والإتيان بالموصول لأنّه أشمل وأجمع للأمم التي تقدّمت مثل عاد وثمود ممّن ضرب العرب بهم المثل في القوة‏.‏

و ‏{‏أشَدّ‏}‏ معناه أقوى، والقوة هنا القدرة على الأعمال الصعبة كقوله‏:‏ ‏{‏أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ أو يُراد بها العزّة وعُدّة الغلب باستكمال العَدد والعُدد، وبهذا المعنى أوقعت القوة تمييز ال ‏{‏أشد‏}‏ كما أوقعت مضافاً إليه شديد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمه شديد القوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وكثرة الأموال لها أسباب كثيرة‏:‏ منها طيب الأرض للزرع والغرس ورَعِي الأنعام والنحللِ، ومنها وفرة التجارة بحسن موقع الموطن بين مواطن الأمم، ومنها الاقتراب من البحار للسفر إلى الأقطار وصيد البحر، ومنها اشتمال الأرض على المعادن من الذهب والفضّة والحديد والمواد الصناعية والغذائية من النبات، كأشجار التوابل ولحاء الدبغ والصبغ والأدوية والزراريع والزيوت‏.‏

وكثرة الأولاد تأتي من الأمن بسبب بقاء الأنفس، ومن الخصب المؤثر قوة الأبدان والسلامة من المجاعات المعقبة للموتان، ومن حسن المُناخ بالسلامة من الأوبئة المهلكة، ومن الثروة بكثرة الأزواج والسراري والمراضع‏.‏

والاستمتاع‏:‏ التمتّع، وهو نوال أحدٍ المتاعَ الذي به التذاذ الإنسان وملائمه وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏24‏)‏‏.‏

والسين والتاء فيه للمبالغة في قوة التمتّع‏.‏

والخلاق‏:‏ الحَظ من الخير وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏200‏)‏‏.‏

وتفرّع فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ على ‏{‏كانوا أشد‏}‏‏:‏ لأنّ المقصود إدخاله في الحالة المشبه بها كما سيأتي‏.‏

وتفرَّع ‏{‏فاستمتعتم بخلاقكم‏}‏ على ما أفاده حرف الكاف بقوله‏:‏ ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ من معنى التشبيه، ولذلك لم تعطف جملة ‏{‏فاستمتعتم‏}‏ بواو العطف، فإنّ هذه الجملة هي المقصد من التشبيه وما تفرّع عليه، وقد كان ذكر هذه الجملة يغني عن ذكر جملة‏:‏ ‏{‏فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ لولا قصد الموعظة بالفريقين‏:‏ المشبّهِ بهم، والمشبّهين، في إعراض كليهما عن أخذ العدّة للحياة الدائمة وفي انصبابهما على التمتّع العاجل فلم يكتف في الكلام بالاقتصار على حال أحد الفريقين، قصداً للاعتناء بكليهما فذلك الذي اقتضى هذا الاطناب ولو اقتصر على قوله‏:‏ ‏{‏فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم‏}‏ ولم يذكر قبله ‏{‏فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ لحصل أصل المعنى ولم يستفد قصد الاهتمام بكلا الفريقين‏.‏

ولذلك لمّا تقرّر هذا المقصد في أنفس السامعين لم يحتج إلى نسج مثل هذا النظم في قوله‏:‏ ‏{‏وخضتم كالذي خاضوا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم‏}‏ تأكيد للتشبيه الواقع في قوله‏:‏ ‏{‏كالذين من قبلكم‏}‏ إلى قوله فاستمتعتم بخلاقكم للتنبيه على أنّ ذلك الجزء بخصوصه، من بين الحالة المشبهةِ والحالةِ المشبه بها، هو محلّ الموعظة والتذكير، فلا يغرّهم ما هم فيه من نعمة الإمهال والاستدراج، فقدّم قوله‏:‏ ‏{‏فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ وأتى بقوله‏:‏ ‏{‏كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم‏}‏ مؤكِّداً له دون أن يقتصر على هذا التشبيه الأخير، ليتأتى التأكيد، ولأنّ تقديم ما يتمّم تصوير الحالة المشبّه بها المركّبة، قبل إيقاع التشبيه، أشدّ تمكيناً لمعنى المشابهة عند السامع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كالذي خاضوا‏}‏ تشبيه لخوض المنافقين بخوض أولئك وهو الخوض الذي حكي عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 65‏]‏ ولبساطة هذا التشبيه لم يؤت فيه بمثل الأسلوب الذي أتي به في التشبيه السابق له‏.‏ أي‏:‏ وخضتم في الكفر والاستهزاء بآيات الله ورسوله كالخوض الذي خاضوه في ذلك، فأنتم وهم سواء، فيوشك أن يَحيق بكم ما حاق بهم، وكلامنا في هذين التشبيهين أدقّ ما كتب فيهما‏.‏

و ‏{‏الذي‏}‏ اسم موصول، مفرد، وإذ كان عائد الصلة هنا ضمير جمع تعيّن أن يكون المراد ب ‏{‏الذي‏}‏‏:‏ تأويله بالفريق أو الجَمْع، ويجوز أن يكون ‏{‏الذي‏}‏ هنا أصله الذين فخُفّف بحذف النون على لغة هذيل وتميم كقول الأشهب بن زميلة النهشلي‏:‏

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هُم القومُ كلُّ القوممِ يا أمَّ خالد

ونحاة البصرة يرون هذا الاستعمال خاصّاً بحالة أن تطول الصلة كالبيت فلا ينطبق عندهم على الآية، ونحاة الكوفة يجوزّونه ولو لم تطل الصلة، كما في الآية، وقد ادّعى الفرّاء‏:‏ أنّ ‏{‏الذي‏}‏ يكون موصولاً حرفياً مؤوّلاً بالمصدر، واستشهد له بهذه الآية، وهو ضعيف‏.‏

ولمّا وصفت حالة المشبه بهم من الأمم البائدة أعقب ذلك بالإشارة إليهم للتنبيه على أنّهم بسبب ذلك كانوا جديرين بما سيخبر به عنهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون‏}‏ وفيه تعريض بأنّ الذين شابهوهم في أحوالهم أحرياء بأن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك، وفي هذا التعريض من التهديد والنذارة معنى عظيم‏.‏

والخوض‏:‏ تقدّمت الحوالة على معرفته آنفاً‏.‏

والحبط‏:‏ الزوال والبطلان، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏217‏)‏‏.‏

والمراد بأعمالهم‏:‏ ما كانوا يعملونه ويكدحون فيه‏:‏ من معالجة الأموال والعيال والانكباب عليهما، ومعنى حبْطها في الدنيا استئصالها وإتلافها بحلول مختلف العذاب بأولئك الأمم، وفي الآخرة بعدم تعويضها لهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونرثه ما يقول‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 80‏]‏ أي في الدنيا ‏{‏ويأتينا فرداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 80‏]‏ أي في الآخرة لا مال له ولا ولد، كقوله‏:‏ ‏{‏ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏

وفي هذا كلّه تذكرة للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنْ لا يظنّوا أن الله لمّا أمهل المنافقين قد عفا عنهم‏.‏

ولمّا كانت خسارتهم جسيمة جعل غيرهم من الخاسرين كلاً خاسرين فحصرت الخسارة في هؤلاء بقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم الخاسرون‏}‏ قصراً مقصوداً به المبالغة‏.‏

وإعادة اسم الإشارة للاهتمام بتمييز المتحدّث عنهم لزيادة تقرير أحوالهم في ذهن السامع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

عاد الكلام على المنافقين‏:‏ فضمير ‏{‏ألم يأتهم‏}‏ و‏{‏من قبلهم‏}‏ عائدَاننِ إلى المنافقين الذين عاد عليهم الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 65‏]‏، أو الضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب مقيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 68‏]‏‏.‏

والاستفهام موجه للمخاطب تقريراً عنهم، بحيث يكون كالاستشهاد عليهم بأنّهم أتاهم نبأ الذين من قبلهم‏.‏

والإتيان مستعمل في بلوغ الخبر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه‏}‏ وقد تقدّم في سورة العقود ‏(‏41‏)‏، شُبْه حصول الخبر عند المخبَر بإتيان الشخص، بجامع الحصول بعد عدمه، ومن هذا القبيل قولهم‏:‏ بلغَه الخبر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأنذركم به ومن بلغ‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏19‏)‏‏.‏

والنبأ‏:‏ الخبر وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبإِ المرسلين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏‏.‏

وقوم نوح تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا نوحا إلى قومه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏59‏)‏‏.‏

ونوح‏:‏ تقدّم ذكره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏33‏)‏‏.‏

وعاد‏:‏ تقدّم الكلام عليهم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏65‏)‏‏.‏

وكذلك ثمود‏.‏ وقوم إبراهيم هم الكلدانيون، وتقدّم الكلام على إبراهيم وعليهم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏124‏)‏‏.‏

وإضافة أصحاب‏}‏ إلى ‏{‏مَدْيَنَ‏}‏ باعتبار إطلاق اسم مَدْيَن على الأرض التي كان يقطنها بنو مدين، فكما أنّ مدين اسم للقبيلة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيباً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏ كذلك هو اسم لموطن تلك القبيلة‏.‏ وقد تقدّم ذكر مَدين عند قوله‏:‏ ‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيباً‏}‏ في الأعراف ‏(‏85‏)‏‏.‏

والمؤتفكات‏}‏ عطف على ‏{‏أصحاب مدين‏}‏، أي نَبَأ المؤتفكات، وهو جمع مؤتفكة‏:‏ اسم فاعللٍ من الائْتِفَاك وهو الانقلابُ‏.‏ أي القرى التي انقلبت والمراد بها‏:‏ قرى صغيرة كانت مساكنَ قوم لوط وهي‏:‏ سدوم، وعمورة، وأدَمَة، وصِبْوِيم وكانت قرى متجاورة فخسف بها وصار عاليها سافلها‏.‏ وكانت في جهات الأردن حول البحر الميت، ونبأ هؤلاء مشهور معلوم، وهو خبر هلاكهم واستئصالهم بحوادث مهولة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أتتهم رسلهم‏}‏ تعليل أو استئناف بياني نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏نبأ الذين من قبلهم‏}‏ أي أتتهم رسلهم بدلائل الصدق والحقّ‏.‏

وجملة ‏{‏فما كان الله ليظلمهم‏}‏ تفريع على جملة ‏{‏أتتهم رسلهم‏}‏، والمفرّع هو مجموع الجملة إلى قوله‏:‏ ‏{‏يظلمون‏}‏ لأنّ الذي تفرّع على إتيان الرسل‏:‏ أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، والمكابرة، والتكذيب للرسل، وصمّ الآذان عن الحقّ، فأخذهم الله بذلك، ولكن نُظِم الكلام على هذا الأسلوب البديع إذا ابتدئ فيه بنفي أن يكون الله ظلمهم اهتماماً بذلك لفرط التسجيل عليهم بسوء صنعهم حتّى جُعل ذلك كأنّه هو المفرّع وجعل المفرّع بحسب المعنى في صورة الاستدراك‏.‏

ونُفِي الظلم عن الله تعالى بأبلغ وجه، وهو النفي المقترن بلام الجحود، بعد فعل الكون المنفي، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ من سورة العقود ‏(‏6‏)‏‏.‏

وأثبت ظُلمُهم أنفُسَهم لهم بأبلغ وجه إذْ أسند إليهم بصيغة الكون الماضي، الدالّ على تمكّن الظلم منهم منذ زمان مضى، وصيغ الظلم الكائن في ذلك الزمان بصيغة المضارع للدلالة على التجدّد والتكرّر، أي على تكرير ظلمهم أنفسهم في الأزمنة الماضية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

هذه تقابل قوله‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ لبيان أنّ الطائفة التي ينالها العفو هي الملتحقة بالمؤمنين‏.‏

فالجملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ وما بينهما جمل تسلسل بعضها عن بعض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ مقابل قوله‏:‏ في المنافقين ‏{‏بعضهم من بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وعبّر في جانب المؤمنين والمؤمنات بأنّهم أولياء بعضضٍ للإشارة إلى أنّ اللحمة الجامعة بينهم هي وَلاية الإسلام، فهم فيها على السواء ليس واحد منهم مقلّداً للآخر ولا تابعاً له على غير بصيرة لما في معنى الولاية من الإشعار بالإخلاص والتناصر بخلاف المنافقين فكأنّ بَعضَهم ناشئ من بعض في مذامّهم‏.‏

وزيد في وصف المؤمنين هنا ‏{‏يقيمون الصلاة‏}‏ تنويهاً بأنّ الصلاة هي أعظم المعروف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏ مقابل قوله في المنافقين ‏{‏ويقبضون أيديهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏ويطيعون الله ورسوله‏}‏ مقابل قوله في المنافقين ‏{‏نسوا الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ لأنّ الطاعة تقتضي مراقبة المطاع فهي ضدّ النسيان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك سيرحمهم الله‏}‏ مقابل قوله في المنافقين ‏{‏فنسيهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

والسين لتأكيد حصول الرحمة في المستقبل، فحرف الاستقبال يفيد مع المضارع ما تفيد ‏(‏قد‏)‏ مع الماضي كقوله‏:‏ ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والإشارةُ للدلالة على أنّ ما سيرد بعد اسم الإشارة صاروا أحرياءَ به من أجللِ الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله عزيز حكيم‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏سيرحمهم الله‏}‏ أي‏:‏ أنّه تعالى لعزّته ينفع أولياءه وأنّه لحكمته يضع الجزاء لمستحقّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

موقع هذه الجملة بعد قوله‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏، كموقع جملة‏:‏ ‏{‏وعد الله المنافقين والمنافقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 68‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ الآية‏.‏ وهي أيضاً كالاستئناف البياني الناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏أولئك سيرحمهم الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏ مثل قوله في الآية السابقة ‏{‏يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 21‏]‏ الآية‏.‏

وفعل المضي في قوله‏:‏ ‏{‏وعد الله‏}‏ إمّا لأنّه إخبار عن وَعد تقدّم في آي القرآن قُصد من الإخبار به التذكيرُ به لتحقيقه، وإمّا أن يكون قد صيغ هذا الوعد بلفظ المضي على طريقة صِيَغ العقود مثل بِعتُ وتَصدّقتُ، لكون تلك الصيغة معهودة في الالتزام الذي لا يَتخلّف‏.‏ وقد تقدّم نظيره آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 68‏]‏‏.‏

والإظهار في مقام الإضمار دون أن يقال‏:‏ وعَدهم الله‏:‏ لتقريرهم في ذهن السامع ليتمكّن تعلّق الفعل بهم فضلَ تمكّن في ذهن السامع‏.‏

وتقدّم الكلام على نحو قوله‏:‏ ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏25‏)‏‏.‏

وعطفُ ومساكن طيبة في جنات عدن‏}‏ على ‏{‏جنات‏}‏ للدلالة على أن لهم في الجنّات قصوراً ومساكن طيّبة، أي ليس فيها شيء من خبث المساكن من الأوساخ وآثار علاج الطبخ ونحوه نظير قوله‏:‏ ‏{‏ولهم فيها أزواج مطهرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏

و ‏(‏العدن‏)‏‏:‏ الخلد والاستقرار المستمرّ، فجنّات عدن هي الجنات المذكورة قبلُ، فذكرها بهذا اللفظ من الإظهار في مقام الإضمار مع التفنّن في التعبير والتنويه بالجنّات، ولذلك لم يقل‏:‏ ومساكن طيبة فيها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وعد الله المؤمنين‏}‏‏.‏ والرضوان بكسر الراء ويجوز ضمها‏.‏ وكسرُ الراء لغة أهل الحجاز، وضمّها لغة تميم‏.‏ وقرأه الجمهور بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمّ الراء ونظيره بالكسر قليل في المصادر ذات الألف والنون‏.‏ وهو مصدر كالرضى وزيادة الألف والنون فيه تدلّ على قوته، كالغُفران والشكران‏.‏

والتنكير في ‏{‏رضوان‏}‏ للتنويع، يدلّ على جنس الرضوان، وإنّما لم يقرن بلام تعريف الجنس ليتوسّل بالتنكير إلى الإشعار بالتعظيم فإنّ رضوان الله تعالى عَظيم‏.‏

و ‏{‏أكبرُ‏}‏ تفضيل لم يذكر معه المفضَّل عليه لظهوره من المقام، أي أكبر من الجنّات لأنّ رضوان الله أصل لجميع الخيرات‏.‏ وفيه دليل على أنّ السعادات الروحانية أعلى وأشرف من الجثمانية‏.‏

و ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى جميع ما ذكر من الجنّات والمساكن وصفاتهما والرضواننِ الإلهي‏.‏

والقصر في ‏{‏هو الفوز العظيم‏}‏ قصر حقيقي باعتبار وصف الفوز بعظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

لمّا أشعر قوله تعالى في الآية السابقة ‏{‏وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 68‏]‏‏.‏ بأنّ لهم عذابين عذاباً أخروياً وهو نار جهنم، تعيَّن أنّ العذاب الثاني عذاب دنيوي وهو عذاب القتل، فلمّا أعقب ذلك بشنائع المنافقين وبضرب المثل لهم بالأمم البائدة، أمر نبيئَهُ بجهاد المنافقين وهذا هو الجهاد الذي أنذروا به في سورة الأحزاب ‏(‏60، 61‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً‏}‏ فبعد أن أنذرهم الله بذلك فلم يرتدعوا ومضى عليهم من المدّة ما كُشفت فيه دخيلتُهم بما تكرّر منهم من بوادر الكفر والكيد للمسلمين، أنجز الله ما أنذرهم به بأن أمر رسوله بجهادهم‏.‏ والجهاد القتال لنصر الدين، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لآئم‏}‏ في سورة العقود ‏(‏54‏)‏‏.‏

وقُرن المنافقون هنا بالكفار‏:‏ تنبيهاً على أنّ سبب الأمر بجهاد الكفار قد تحقّق في المنافقين، فجهادهم كجهاد الكفار، ولأنّ الله لمّا قرنهم في الوعيد بعذاب الآخرة إذ قال‏:‏ ‏{‏وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 68‏]‏ وأومأ قوله هنالك بأنّ لهم عذاباً آخرَ، لا جرم جَمعَهم عند شرع هذا العذاب الآخرِ لهم‏.‏

فالجهاد المأمور للفريقين مختلف، ولفظ ‏(‏الجهاد‏)‏ مستعمل في حقيقتِه ومجازه‏.‏ وفائدة القرن بين الكفّار والمنافقين في الجهاد‏:‏ إلقاء الرعب في قلوبهم، فإنّ كلّ واحد منهم يخشى أن يظهر أمره فيعامَلَ معاملة الكفار المحاربين فيكون ذلك خاضداً شوكتَهم‏.‏

وأمّا جهادهم بالفعل فمتعذر، لأنّهم غير مظهرين الكفر، ولذلك تأوّل أكثر المفسّرين الجهادَ بالنسبة إلى المنافقين بالمقاومة بالحجّة وإقامة الحدود عند ظهور ما يقتضيها، وكان غالبُ من أقيم عليه الحدّ في عهد النبوءة من المنافقين‏.‏ وقال بعض السلف جهادهم ينتهي إلى الكشر في وجوههم‏.‏ وحملها الزجّاج والطبري على ظاهر الأمر بالجهاد، ونسبه الطبري إلى عبد الله بن مسعود، ولكنّهما لم يأتيا بمقنع من تحقيق المعنى‏.‏

وهذه الآية إيذان للمنافقين بأنّ النفاق يوجب جهادهم قطعاً لشأفتهم من بين المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعلمهم ويعرّفهم لحذيفةَ بن اليَمان، وكان المسلمون يعرفون منهم مَن تكرّرت بوادر أحواله، وفلتات مقاله‏.‏ وإنّما كان النبي ممسكاً عن قتلهم سَدّا لذريعة دخول الشكّ في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعُمر‏:‏ «لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه» لأنّ العامّة والغائبين عن المدينة لا يَبْلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوّهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة، فلمّا كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شكّ معه في وفاء المسلمين، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعتْه القبائل وتحقّقه المسلم والكافر، تمحّضت المصلحة في استئصال شافتهم، وانتفت ذريعة تطرّق الشكّ في أمان المسلمين، وعلم الله أنّ أجل رسوله عليه الصلاة والسلام قد اقترب، وأنّه إن بقيت بعده هذه الفئة ذات الفتنة تفاقم أمرها وعسر تداركها، واقتدى بها كلّ من في قلبه مرض، لا جرم آذنهم بحرب ليرتدعوا ويقلعوا عن النفاق‏.‏

والذي يوجب قتالهم أنّهم صرّحوا بكلمات الكفر، أي صرّح كلّ واحد بما يدلّ على إبطانه الكفر وسمعها الآخرون فرضوا بها، وصدرت من فريق منهم أقوال وأفعال تدلّ على أنّهم مستخفون بالدين، وقد توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب نزول هذه الآية‏.‏ ولعلّ من حكمة الإعلام بهذا الجهاد تهيئةَ المسلمين لِجهاد كلّ قوم ينقضون عُرى الإسلام وهم يزعمون أنّهم مسلمون، كما فعل الذين منعوا الزكاة وزعموا أنّهم لم يكفروا وإنّما الزكاة حقّ الرسول في حياته، وما ذلك إلاّ نفاقٌ من قادَتهم اتَّبعه دَهماؤهم، ولعلّ هذه الآية كانت سبباً في انزجار معظم المنافقين عن النفار وإخلاصِهم الإيمانَ كما ورد في قصّة الجُلَاس بن سُويد‏.‏ وكان قد كفَى الله شرّ متولّي كِبْر النفاق عبدِ اللَّه بننِ أبي بننِ سَلول بموته فكان كلّ ذلك كافياً عن إعمال الأمرِ بجهادهم في هذه الآية ‏{‏وكفى الله المؤمنين القتال‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وهذه الآية تدلّ على التكفير بما يدلّ على الكفر من قائله أو فاعله دلالةً بيّنة، وإن لم يكن أعلن الكفر‏.‏

‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ أمر بأنْ يكون غليظاً معهم‏.‏ والغلظة يأتي معناها عند قوله‏:‏ ‏{‏وليجدوا فيكم غلظة‏}‏ في هذه السورة ‏(‏123‏)‏‏.‏

وإنّما وجه هذا الأمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لأنّه جُبل على الرحمة فأمر بأن يتخلّى عن جبلّته في حقّ الكفار والمنافقين وأن لا يغضي عنهم كما كان شأنه من قبل‏.‏

وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكفارِ المؤلّفةِ قلوبهم على الإسلام وإنّما يبقى ذلك للداخلين في الإسلام حديثاً‏.‏

وجملة‏:‏ وبئس المصير‏}‏ تذييل‏.‏ وتقدّم نظيره مرات‏.‏ والمأوى ما يأوي إليه المرء من المكان، أي يرجع إليه‏.‏

والمصير المكان الذي يصير إليه المرء، أي يرجع فالاختلاف بينه وبين المأوى بالاعتبار، والجمع بينهما هنا تفنّن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نقموا إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏

لمّا كان معظم ما أخِذ على المنافقين هو كلماتٍ دالّةً على الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من دلائل الكفر وكانوا إذا نُقِل ذلك عنهم تنصّلوا منه بالأيمان الكاذبة، عُقّبت آية الأمر بجهادهم بالتنبيه على أنّ ما يتنصّلون به تنصلٌ كاذب وأن لا ثِقة بحَلفهم، وعلى إثبات أنّهم قالوا ما هو صريح في كفرهم‏.‏ فجملة ‏{‏يحلفون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً يثيره الأمر بجهادهم مع مشاهدة ظاهر أحوالهم من التنصّل ممّا نقل عنهم، إن اعتبر المقصود من الجملة تكذيبهم فِي حلفهم‏.‏

وقد تكون الجملة في محلّ التعليل للأمر بالجهاد إن اعتبر المقصود منها قوله‏:‏ ‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏ وما بعده، وأن ذلك إنّما أخَّر للاهتمام بتكذيب أيمانهم ابتداء، وأتِي بالمقصود في صورة جملة حاليَّة‏.‏ ومعلوم أنّ القيد هو المقصود من الكلام المقيَّد‏.‏ ويرجّح هذا أنّ معظم ما في الجملة هو شواهد كفرهم ونقضِهم عهد الإسلام، إذ لو كان المقصود خصوص تكذيبهم فيما حلفوا لاقتُصر على إثبات مقابله وهو ‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏، ولم يكن لما بعده مزيد اتّصال به‏.‏

وأيّاً ما كان فالجملة مستحقّة الفصل دون العطف‏.‏

ومفعول ما قالوا محذوف دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏‏.‏

وأكَّد صدور كلمة الكفر منهم، في مقابلة تأكيدهم نفي صدورها، بصيغة القَسم ليكون تكذيب قولهم مساوياً لقولهم في التأكيد‏.‏

وكلمةُ الكفر الكلام الدالّ عليه، وأصل الكلمة اللفظ الواحد الذي يتركّب منه ومن مثله الكلام المفيد، وتطلق الكلمة على الكلام إذا كان كلاماً جامعاً موجَزاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 8‏]‏ وفي الحديث‏:‏ «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل»

فكلمة الكفر جنس لكلّ كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله‏.‏ فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها، ما هي إلاّ أفرادٌ من هذا الجنس كما دلّ عليه إسناد القول إلى ضمير جماعةِ المنافقين‏.‏ فعن قتادة‏:‏ لا عِلْمَ لنا بأنّ ذلك من أيّ إذ كان لا خبر يوجب الحجّة ونتوصّل به إلى العلم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدلّ على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير، ومجاهد، وابن إسحاق أنّ الجُلاَسَ بضم الجيم وتخفيف اللام بنَ سُويد بننِ الصامت قال‏:‏ لئن كان ما يقول محمد حقّاً لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها، فأخبَر عنه ربيبُه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته، فحلف بالله ما قال ذلك، وقيل‏:‏ بل نزلت في عبد الله بن أُبي بن سَلُول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله‏:‏

‏{‏يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنّ الأعز منها الأذلّ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك‏.‏

فعلى هذه الروايات يكون إسناد القول إلى ضمير جمععٍ كناية عن إخفاء اسم القائل كما يقال ما بال أقوام يفعلون كذا‏.‏ وقد فعله واحد، أو باعتبار قوللِ واحدٍ وسماع البقية فجُعلوا مشاركين في التبعة كما يقال‏:‏ بنو فلان قتلوا فلاناً وإنّما قتله واحد من القبيلة، وعلى فرض صحّة وقوع كلمة من واحد معيّن فذلك لا يقتضي أنّه لم يشاركه فيها غيره لأنّهم كانوا يتآمرون على ما يختلقونه‏.‏ وكان ما يصدر من واحد منهم يتلقفه جلساؤه وأصحابه ويشاركونه فيه‏.‏

وأمّا إسناد الكفر إلى الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏وكفروا بعد إسلامهم‏}‏ فكذلك‏.‏

ومعنى ‏{‏بعد إسلامهم‏}‏ بعد أن أظهروا الإسلام في الصورة، ولذلك أضيف الإسلام إليهم كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 66‏]‏‏.‏

والهَمّ‏:‏ نيَّة الفعل سواء فُعل أم لم يفعل‏.‏

ونوال الشيء حصوله، أي همّوا بشيء لم يحصّلوه والذي همّوا به هو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك تواثقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يترصّدوا له في عَقبة بالطريق تحتها واددٍ فإذا اعتلاها ليْلاً يدفعونه عن راحلته إلى الوادي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً وقد أخذَ عَمَّار بن يَاسِر بخطام راحلته يقودها‏.‏ وكان حذيفة بن اليمان يسوقها فأحس حذيفة بهم فصاح بهم فهربوا‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما نقموا‏}‏ عطف على ‏{‏ولقد قالوا‏}‏ أي والحال أنّهم ما ينقمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على دخول الإسلاممِ المدينةَ شيئاً يدعوهم إلى ما يصنعونه من آثار الكراهية والعداوة‏.‏

والنقْم الامتعاض من الشيء واستنكاره وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏126‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله‏}‏ استثناء تهكّمي‏.‏ وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النابغة‏:‏

ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهِنَّ فُلُول من قِراع الكتائب

ونكتته أنّ المتكلّم يظهر كأنّه يبحث عن شيء ينقض حكمَه الخبري ونحوَه فيذكر شيئاً هو من مؤكدات الحكم للإشارة إلى أنّه استقصى فلم يجد ما ينقضه‏.‏

وإنّما أغناهم الله ورسوله بما جلبه حلول النبي عليه الصلاة والسلام بينهم من أسباب الرزق بكثرة عمل المهاجرين وبوفرة الغنائم في الغزوات وبالأمْن الذي أدخله الإسلام فيهم إذ جعل المؤمنين إخوة فانتفت الضغائن بينهم والثارات، وقد كان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانت بينهم حروبٌ تفانَوا فيها قُبيل الهجرة وهي حروب بعاث‏.‏

والفضل‏:‏ الزيادة في البذل والسخاء‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية‏.‏ وفي جعل الإغناء من الفضل كنايةٌ عن وفرة الشيء المغنَى به لأنّ ذا الفضللِ يعطي الجَزل‏.‏

وعطف الرسول على اسم الجلالة في فعل الإغناء لأنّه السبب الظاهر المباشر‏.‏

‏(‏74‏)‏ ‏{‏فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والاخرة وَمَا لَهُمْ فِى الارض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏‏.‏

التفريع على قوله‏:‏ ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏ على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس فلمّا أمر بجهادهم والغِلظة عليهم وتوعّدهم بالمصير إلى النار، فرّع على ذلك الإخبارَ بأنّ التوبة مفتوحة لهم وأنَّ تدارك أمرهم في مكنتهم، لأنّ المقصود من الأمر بجهادهم قطع شافة مضرّتهم أو أن يصلح حالهم‏.‏

والتوبة هي إخلاصهم الأيمانَ‏.‏ والضمير يعود إلى الكفّار والمنافقين، والضمير في ‏{‏يك‏}‏ عائد إلى مصدر ‏{‏يتوبوا‏}‏ وهو التوبُ‏.‏

والتولّي‏:‏ الإعراض والمراد به الإعراض عن التوبة‏.‏ والعذاب في الدنيا عذاب الجهاد والأسر، وفي الآخرة عذاب النار‏.‏

وجيء بفعل ‏{‏يك‏}‏ في جواب الشرط دون أن يقال فإن يتوبوا فهو خيرٌ لهم لتأكيد وقوع الخَيْر عند التوبة، والإيماءِ إلى أنّه لا يحصل الخير إلاّ عند التوبة لأنّ فعل التكوين مؤذن بذلك‏.‏

وحَذف نون «يكن» للتخفيف لأنّها لسكونها تهيّأت للحذف وحسَّنه وقوع حركة بعدها والحركة ثقيلة فلذلك شاع حذف هذه النون في كلامهم كقوله‏:‏ ‏{‏وإن تك حسنة يضاعفها‏}‏ في سورة النساء ‏(‏40‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يعذبهم الله‏}‏ الخ فتكون جواباً ثانياً للشرط، ولا يريبك أنّها جملة اسمية لا تصلح لمباشرة أداة الشرط بدون فاء رابطة‏.‏ لأنّه يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في المتبوعات فإنّ حرف العطف كاف في ربط الجملة تبعاً للجملة المعطوف عليها‏.‏

والمعنى أنّهم إن تولّوا لم يجدوا من ينصرهم مِن القبائل إذ لم يبق من العرب من لم يدخل في الإسلام إلاّ من لا يعبأ بهم عَدداً وعُدداً، والمراد نفي الولي النافع كما هو مفهوم الولي وأمّا من لا ينفع فهو حبيب وودود وليس بالولي‏.‏