فصل: تفسير الآية رقم (54)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

الأظهر أن هذه الجملة من بقية القول، فهي عطف على جملة ‏{‏إي وربي إنه لحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏ إعلاماً لهم بهول ذلك العذاب عساهم أن يحذروه، ولذلك حذف المتعلِّق الثاني لفعل ‏(‏افتدت‏)‏ لأنه يقتضي مفدياً به ومفدياً منه، أي لافتدت به من العذاب‏.‏

والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام، ولذلك ذكر ‏{‏كل نفس‏}‏ دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به‏.‏

وجملة ‏{‏أن لكل نفس ظلمتْ ما في الأرض‏}‏ واقعة موقع شرط ‏(‏لو‏)‏‏.‏

و ‏{‏ما في الأرض‏}‏ اسم ‏(‏أن‏)‏‏.‏ و‏{‏ولكل نفس‏}‏ خبر ‏(‏أن‏)‏ وقدم على الاسم للاهتمام بما فيه من العموم بحيث ينص على أنه لا تسلم نفس من ذلك‏.‏ وجملة ‏{‏ظلمت‏}‏ صفة لِ ‏{‏لنفس‏}‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏لافتدت به‏}‏ جواب ‏(‏لو‏)‏‏.‏

فعموم ‏{‏كل نفس‏}‏ يشمل نفوس المخاطبين مع غيرهم‏.‏

ومعنى ‏{‏ظلمت‏}‏ أشركت، وهو ظلم النفس ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما في الأرض‏}‏ يعم كل شيء في ظاهر الأرض وباطنها لأن الظرفية ظرفية جمع واحتواء‏.‏

و ‏(‏افتدى‏)‏ مرادف فدى‏.‏ وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها به‏.‏

جملة مستأنفة معطوفة عطف كلام على كلام‏.‏ وضمير ‏{‏أسروا‏}‏ عائد إلى ‏{‏كل نفس‏}‏ باعتبار المعنى مع تغليب المذكر على المؤنث، وعبر عن الإسرار المستقبَلي بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه حتى كأنَّه قد مضى، والمعنى‏:‏ وسيسرُّون الندامة قطعاً‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وقُضيَ بينهم‏}‏‏.‏

والندامة‏:‏ الندم، وهو أسف يحصل في النفس على تفويت شيء ممكن عمله في الماضي، والندم من هواجس النفس، فهو أمر غير ظاهر ولكنه كثير، أي يصدر عن صاحبه قولٌ أو فعل يدل عليه، فإذا تجلد صاحب الندم فلم يظهر قولاً ولا فعلاً فقد أسر الندامة، أي قصرها على سِره فلم يظهرها بإظهار بعض آثارها، وإنما يكون ذلك من شدة الهول؛ فإنما أسروا الندامة لأنهم دهشوا لرؤية ما لم يكونوا يحتسبون فلم يطيقوا صراخاً ولا عويلاً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وقُضي بينهم‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وأسروا‏}‏ مستأنفة‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏قضي بينهم‏}‏ قضي فيهم، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل، فالقضاء بالعدل وقع فيهم، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد، بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 47‏]‏ فإن ذلك قضاء بين المرسل إليهم وبين الرسل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلنَسألنَّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ حالية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

تذييل تنهية للكلام المتعلق بصدق الرسول والقرآن وما جاء به من الوعيد وترقب يوْم البعث ويوم نزول العذاب بالمشركين‏.‏ وقد اشتمل هذا التذييل على مجمل تفصيل ذلك الغرض، وعلى تعليله بأن من هذه شؤونه لا يعجز عن تحقيق ما أخبر بوقوعه‏.‏

فكان افتتاحه بأن الله هو المتوحد بملك ما في السماوات والأرض فهو يتصرف في الناس وأحوالهم في الدنيا والآخرة تصرفاً لا يشاركه فيه غيره؛ فتصرفه في أمور السماء شامل للمغيبات كلها، ومنها إظهار الجزاء بدار الثواب ودار العذاب؛ وتصرفه في أمور الأرض شامل لتصرفه في الناس‏.‏ ثم أعقب بتحقيق وعده، وأعقب بتجهيل منكريه، وأعقب بالتصريح بالمهم من ذلك وهو الإحياء والإماتة والبعث‏.‏

وافتتح هذا التذييل بحرف التنبيه، وأعيد فيه حرف التنبيه للاستيعاء لسماعه، وللتنبيه على أنه كلام جامع هو حوصلة الغرض الذي سمعوا تفصيله آنفاً‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف ‏{‏إن‏}‏ للرد على المشركين لأنهم لما جعلوا لله شركاء فقد جعلوها غير مملوكة لله‏.‏ ولا يدفع عنهم ذلك أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ لأن ذلك اضطراب وخبط‏.‏

وقدم خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ على اسمها للاهتمام باسمه تعالى ولإفادة القصر لرد اعتقادهم الشركة كما علمت‏.‏

وأكد بحرف التوكيد بعد حرف التنبيه في الموضعين للاهتمام به، ولرد إنكار منكري بعضه والذين هم بمنزلة المنكرين بعضه الآخر‏.‏

واللام في ‏{‏لله‏}‏ للملك، و‏(‏ما‏)‏ اسم موصول مفيد لعموم كل ما ثبتت له صلة الموصول من الموجودات الظاهرة والخفية‏.‏

ووعْد الله‏:‏ هو وعده بعذاب المشركين، وهو وعيد، ويجوز أن يكون وعده مراداً به البعث، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده وعْداً علينا إنا كنا فاعلين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏ فسمَّى إعادة الخلق وعْداً‏.‏

وأظهر اسم الجلالة في الجملة الثانية دون الإتيان بضميره لتكون الجملة مستقلة لتجري مجرى المثل والكلام الجامع‏.‏

ووقع الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون‏}‏ لأن الجملتين اللتين قبله أريد بهما الرد على معتقدي خلافهما فصارتا في قوة نفي الشك عن مضمونهما، فكأنه قيل‏:‏ لا شك يَحق في ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك يَشكّون‏.‏

وتقييد نفي العلم بالأكثر إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ولكنه يجحده مكابرة، كما قال في الآية السابقة ‏{‏ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ للمتحدث عنهم فيما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

استئناف أو اعتراض، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رُسلَها، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله إلى قوله‏:‏ ولو كانوا لا يبصرون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37 43‏]‏‏.‏ فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به، ولذلك كان الخطاب هنا عاماً لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي توجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول‏.‏ وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب ب ‏{‏يأيّها الناس‏}‏ التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة‏.‏

ويجوز أن يكون خطاباً للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب ‏{‏يأيها الناس‏}‏ فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدًى ورحمة للمؤمنين إدماجاً وتسجيلاً على المشركين بأنهم حَرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور، فانتفع المؤمنون بذلك‏.‏

وافتتاح الكلام ب ‏{‏قد‏}‏ لتأكيده، لأن في المخاطبين كثيراً ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن‏.‏

والمجيء‏:‏ مستعمل مجازاً في الإعلام بالشيء، كما استعمل للبلوغ أيضاً، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر، يُقال‏:‏ بلغني خبر كذا، ويقال أيضاً‏:‏ جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا‏.‏ وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز‏.‏

والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرئ عليهم، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي‏:‏ أنه موعظة، وأنه شفاء لما في الصدور، وأنه هدى، وأنه رحمةٌ للمؤمنين‏.‏

والموعظة‏:‏ الوعظ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر‏.‏ وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وعظهم‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 63‏]‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏‏.‏ ووصفها ب من ربكم‏}‏ للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها‏.‏

والشفاء تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وحقيقته‏:‏ زوال المرض والألم، ومجازه‏:‏ زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس، وهذا هو المراد هنا‏.‏

والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال‏.‏

والهدى تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ في طالع سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وأصله‏:‏ الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود‏.‏ ومجازه‏:‏ بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة‏.‏

والرحمة تقدمت في تفسير البسملة‏.‏

وقد أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكسَ له المرض، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليماً وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وَصَبَا، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلاً لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبَّهة بأجزاء الهيئة المشبَّه بها، فزواجرُ القرآن ومواعظه يُشبَّه بنصح الطبيب على وجه المكنية، وإبطالُه العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية، وتعاليمُه الدينية وآدابه تشبَّه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية، وعبر عنها بالهَدى، ورحمتُه للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية‏.‏

ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا، ويصح أن تجعل تخييلاً كأظفار المنية‏.‏ ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع‏.‏

فالأوصاف الثلاثة الأُول؛ ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك مَن قَبِلها وعمل بها، ومن أعرض عنها ونبذها، إلا أن وصفه بكونه هدًى لمَّا كان وصفاً بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع‏.‏ والوصف الرابع وهو الرحمة، خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأُول، فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة‏.‏ وهو ينظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

فقَيْد ‏{‏للمؤمنين‏}‏ متعلق ب ‏{‏رحمة‏}‏ بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين‏.‏ ومن المحققين من جعله قيداً ل ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ ناظراً إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون‏.‏

والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له، لأن الموعظة هي الكلام المحذّر من الضر ولهذا عقبت بقوله‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ فكانت عامة لمن خوطب ب ‏{‏يأيُّها الناس‏}‏‏.‏ وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء لكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله‏.‏

وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حَصَلت له حقيقتُهما، وأما لمن لم تحصل له آثارهما، فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك، وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق‏.‏

وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه ‏{‏شفاء ورحمة للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏، وصرح في آية ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ بأنه ‏{‏هدى للمتقين،‏}‏ فالأظهر أن قيد للمؤمنين راجع إلى ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ معاً إلى قاعدة القيد الوارد بعد مفردات، وأما رجوعه إلى ‏{‏شفاء‏}‏ فمحتمل، لأن وصف ‏{‏شفاء‏}‏ قد عُقب بقيد ‏{‏لما في الصدور‏}‏ فانقطع عن الوصفين اللذين بعده، ولأن تعريف ‏{‏الصدور‏}‏ باللام يقتضي العموم، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله‏.‏ وهو إطلاق كثير‏.‏ وصَدَّر به في «اللسان» و«القاموس»، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 69‏]‏‏.‏

وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله‏:‏ ‏{‏قد جاءتكم‏}‏ فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة‏.‏ ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم، كما دل عليه قوله بعده‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏ أي المؤمنون‏.‏ وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 174، 175‏]‏ فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما، وأن يقدروا قدر نعمتهما، وأن يعلموا أنها نعمة تفوق نعمة المال التي حُرم منها أكثر المؤمنين ومُنحها أكثر المشركين، فكانت الجملة حقيقة بأن تفتتح بفاء التفريع‏.‏

وجيء بالأمر بالقول معترضاً بين الجملة المفرعة والجملة المفرع عليها تنويهاً بالجملة المفرعة، بحيث يؤمر الرسول أمراً خاصاً بأن يقولها وإن كان جميع ما ينزل عليه من القرآن مأموراً بأن يقوله‏.‏

وتقدير نظم الكلام‏:‏ قل لهم فليفرحوا بفضل الله وبرحمته بِذلك ليفرحوا‏.‏

فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فليفرحوا‏}‏ فاء التفريع، و‏{‏بفضل الله وبرحمته‏}‏ مجرور متعلق بفعل ‏{‏فليفرحوا‏}‏ قُدم على متعلَّقه للاهتمام به للمسلمين ولإفادة القصر، أي بفضل الله وبرحمته دون ما سواه مما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏هو خير مما يجمعون‏}‏، فهو قصر قلب تعريضي بالرد على المشركين الذين ابتهجوا بعَرض المال فقالوا‏:‏ نحن أكثر أموالاً وأولاداً‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏فبذلك‏}‏ للمذكور، وهو مجموع الفضل والرحمة، واختير للتعبير عنه اسم الإشارة لما فيه من الدلالة على التنويه والتعظيم مع زيادة التمييز والاختصار‏.‏ ولما قصد توكيد الجملة كلها بما فيها من صيغة القصر قرن اسم الإشارة بالفاء تأكيداً لفاء التفريع التي في ‏{‏فليفرحوا‏}‏ لأنه لما قدم على متعلَّقه قرن بالفاء لإظهار التفريع في ابتداء الجملة، وقد حذف فعل ‏(‏ليفرحوا‏)‏ فصار مفيداً مفاد جملتين متماثلتين مع إيجاز بديع‏.‏ وتقدير معنى الكلام‏:‏ قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته لا سواهما فليفرحوا بذلك لا سواه‏.‏

والفرح‏:‏ شدة السرور‏.‏

ولك أن تجعل الكلام استئنافاً ناشئاً مما تقدم من النعمة على المؤمنين بالقرآن‏.‏ ولما قدم المجرور وهو ‏{‏بفضل الله وبرحمته‏}‏ حصل بتقديمه معنى الشرط فقرنت الجملة بعده بالفاء التي تربط الجواب لقصد إفادة معنى الشرط‏.‏ وهذا كثير في الاستعمال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 26‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «ففيهما فجاهد»، وقوله‏:‏ «كما تكونوا يوَلَّ عليكم» بجزم ‏(‏تكونوا‏)‏ وجزم ‏(‏يول‏)‏‏.‏ فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فبذلك‏}‏ رابطة للجواب، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فليفرحوا‏}‏ مؤكدة للربط‏.‏

ولم يختلف المفسرون في أن القرآن مراد من فضل الله ورحمته‏.‏ وقد روي حديث عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ فضل الله القرآن‏.‏ ورحمته أن جعلكم من أهله ‏(‏يعني أن هداكم إلى اتباعه‏)‏‏.‏ ومثله عن أبي سعيد الخدْري والبراءِ موقوفاً، وهو الذي يقتضيه اللفظ فإن الفضل هو هداية الله التي في القرآن، والرحمة هي التوفيق إلى اتباع الشريعة التي هي الرحمة في الدنيا والآخرة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏هو خير مما يجمعون‏}‏ مبيّنة للمقصود من القصر المستفاد من تقديم المجرورين‏.‏

وأفرد الضمير بتأويل المذكور كما أفرد اسم الإشارة‏.‏ والضمير عائد إلى اسم الإشارة، أي ذلك خير مما يجمعون‏.‏

و ‏{‏ما يجمعون‏}‏ مراد به الأموال والمكاسب لأن فعل الجمع غلب في جمع المال‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جمع مالاً وعدده‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ومن المعتاد أن جامع المال يفرح بجمعه‏.‏

وضمير ‏{‏يجمعون‏}‏ عائد إلى ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءتكم موعظة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏ بقرينة السياق وليس عائداً إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏يفرحوا‏}‏ فإن القرائن تصرف الضمائر المتشابهة إلى مصارفها، كقول عباس بن مرداس‏:‏

عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا مَا جمَّعوا

ضمير ‏(‏أحرزوا‏)‏ عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله‏:‏ ‏(‏جمعهم‏)‏‏.‏ وضمير ‏(‏جمَّعوا‏)‏ عائد إلى المسلمين، أي لولا نحن لغنم المشركون ما جمَعه المسلمون من الغنائم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعمروها أكثر مما عمروه‏}‏ في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتمّ الظهور، وهو أيضاً المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذٍ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر‏.‏ وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النَّعْمة‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 14، 15‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم‏:‏ ‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد قال الله للنبيء صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52، 53‏]‏ حين قال له المشركون‏:‏ لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك، فكمدهم الله بأن المسلمين خيرٌ منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة‏.‏ وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يجمعون‏}‏ المقتضي تجدد الجمع وتكرره، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة‏.‏

والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يجمعون‏}‏ بياء الغيبة فالضمير عائد على معلوم من الكلام، أي مما يجمع المشركون من الأموال‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب ‏{‏مما تجمعون‏}‏ بتاء الخطاب فيكون خطاباً للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك‏.‏ ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفاً، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة‏.‏

وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله، فإنها كثيرة، منها واضح وخفي‏.‏ وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافتُه الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل ‏{‏يجمعون‏}‏ إلى ضمير ‏{‏الناس‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وهذا الفضل أخروي ودنيوي‏.‏ أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مَرضية‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27، 28‏]‏ فجعل رضاها حالاً لها وقت رجوعها إلى ربها‏.‏ قال فخر الدين‏:‏ «والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به‏.‏ وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد»‏.‏

ثم إن عدم دوامها يقتضي قصر مدة التمتع بها بخلاف اللذات الروحانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

استئناف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين‏.‏ وافتتاحه ب ‏{‏قل‏}‏ لقصد توجه الأسماع إليه‏.‏ ومناسبة وقوعه عقب ما تقدم أن الكلام المتقدم حكى تكذيبهم بالقرآن وادعاءهم أنه مفترى وأنه ليس بحق، ثم إبطال أن يكون القرآن مفترى على الله لأنه اشتمل على تفصيل الشريعة وتصديق الكتب السالفة، ولأنه أعجز مكذبيه عن معارضته‏.‏ فلما استوفى ذلك بأوضح حجة، وبانت لِقاصد الاهتداء المَحجة، لا جرم دالت النوبة إلى إظهار خطل عقولهم واختلال تكذيبهم، فإنه بعد أن كان تكذيباً بما لم يحيطوا بعلمه فقد ارتبكوا في دينهم بما يلزمهم منه مماثلة الحالة التي أنكروها، فإنهم قد وضعوا ديناً فجعلوا بعض أرزاقهم حلالاً لهم وبعضها حراماً عليهم فإن كان ذلك حقاً بزعمهم فمن الذي أبلغهم تلك الشرائع عن الله ولماذا تقبلوها عمن شرعها لهم ولم يكذبوه وهم لا يستطيعون أن يلتزموا ذلك، وإن كان ذلك من تلقاء أنفسهم فقد افتَروا على الله فلزمهم ما ألصقوه بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق بهم وبرأ الله منه رسوله، فهذا الاستدلال من الطريق المسمى بالقلب في علم الجدل‏.‏‏.‏

ثم إن اختيار الاستدلال عليهم بشيء من تشريعهم في خصوص أرزاقهم يزيد هذا الاستدلال مناسبة بآخر الكلام الذي قبله ليظهر ما فيه من حسن التخلص إليه وذلك أن آخر الكلام المتقدم جملة ‏{‏هو خير مما يجمعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏، أي من أموالهم‏.‏ وتلك الأموال هي التي رزقهم الله إياها فجعلوا منها حلالاً ومنها حراماً وكَفروا نعمة الله إذ حرموا على أنفسهم من طيبات ما أعطاهم ربهم، وحسبهم بذلك شناعة بهم ملصقة، وأبواباً من الخير في وجوههم مغلقة‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أرأيتم‏}‏ و‏{‏ءَالله أذن لكم أم على الله تفترون‏}‏ تقريري باعتبار إلزامهم بأحد الأمرين‏:‏ إما أن يكون الله أذن لهم، أو أن يكونوا مفترين على الله، وقد شيب التقرير في ذلك بالإنكار على الوجهين‏.‏

والرؤية علمية، و‏{‏ما أنزل الله لكم من رزق‏}‏ هو المفعول الأول ل ‏(‏رأيتم‏)‏، وجملة ‏{‏فجعلتم منه‏}‏ الخ معطوفة على صلة الموصول بفاء التفريع، أي الذي أنزل الله لكم فجعلتم منه‏.‏ والاستفهام في ‏{‏آلله أذن لكم أم على الله تفترون‏}‏ مفعول ثان ل ‏(‏رأيتم‏)‏، ورابط الجملة بالمفعول محذوف، تقديره‏:‏ أذنكم بذلك، دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فجعلتم منه حراماً وحلالاً‏}‏‏.‏

و ‏{‏قل‏}‏ الثاني تأكيد ل ‏{‏قل‏}‏ الأول معترض بين جملة الاستفهام الأولى وجملة الاستفهام الثانية لزيادة إشراف الأسماع عليه‏.‏ وهي معادلة بهمزة الاستفهام لأنها بين الجملتين المعمولتين لفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏‏.‏ وفعل الرؤية معلق عن العمل في المفعول الثاني؛ لأن الأصح جواز التعليق عن المفعول الثاني‏.‏ وزعم الرضي أن الرؤية بصرية‏.‏ وقد بسطت القول في ذلك عند قوله‏:‏

‏{‏أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 58، 59‏]‏‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ متصلة وهي معادلة لهمزة الاستفهام لأن الاستفهام عن أحد الأمرين‏.‏

والرزق‏:‏ ما ينتفع به‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أو مما رزقكم الله‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وعبر عن إعطاء الرزق بالإنزال؛ لأن معظم أموالهم كانت الثمار والأعناب والحبوب، وكلها من آثار المطر الذي هو نازل من السحاب بتكوين الله، فأسند إنزاله إلى الله بهذا الاعتبار، ومعظم أموالهم الأنعام، وحياتها من العشب والكلأ وهي من أثر المطر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 24، 32‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وفي السماء رزقكم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏ أي سبب رزقكم وهو المطر‏.‏ وقد عُرف العرب بأنهم بنو ماء السماء‏.‏ وهو على المجاز في كلمة ‏(‏بني‏)‏ لأن الابن يطلق مجازاً على الملازم للشيء‏.‏ وقد عبر عن إعطاء الأنعام بالإنزال في قوله‏:‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ بهذا الاعتبار‏.‏

والمجعول حراماً هو ما حكى الله بعضه عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حِجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حُرمت ظهورها وقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورنا ومُحرَّم على أزواجنا‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 138، 139‏]‏‏.‏

ومحل الإنكار ابتداءً هو جعلهم بعض ما رزقهم الله حراماً عليهم‏.‏ وأما عطف حلالاً‏}‏ على ‏{‏حراماً‏}‏ فهو إنكار بالتبع لأنهم لما عمدوا إلى بعض ما أحل الله لهم فجعلوه حراماً ومَيَّزوه من جملة الرزق فقد جعلوا الحلال أيضاً حلالاً، أي بجعل جديد إذ قالوا هو حلال فجعلوا أنفسهم مهيمنين على أحكام الله إذ عمدوا إلى الحلال منها فقلبوه حراماً وأبقَوا بعض الحلال على الحل، فلولا أنهم أبقوه على الحل لما بقي عندهم حلالاً ولتعطل الانتفاع به فلذلك أنكر عليهم جعل بعض الرزق حراماً وبعضه حلالاً، وإلا فإنهم لم يجعلوا ما كان حراماً حلالاً إذ لم يكن تحريم في الجاهلية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حلالاً‏}‏ عطف على ‏{‏حراماً‏}‏ والتقدير‏:‏ ومنه حلالاً، لأن جميع ما رزقهم الله لا يعدو بينهم هذين القسمين، وليس المعنى فجعلتم بعضه حراماً وحلالاً، وبعضه ليس بحرام ولا حلال لأن ذلك لا يستقيم‏.‏

وتقديم اسم الجلالة وهو مسند إليه على خبره الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏آلله أذن لكم‏}‏ لتقوية الحكم مع الاهتمام‏.‏ وتقديم المجرور على عامله في قوله‏:‏ ‏{‏أم على الله تفترون‏}‏ للاهتمام بهذا المتعلق تشنيعاً لتعليق الافتراء به‏.‏ وأظهر اسم الجلالة لتهويل الافتراء عليه‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏أذن‏}‏ لظهوره‏.‏ والتقدير‏:‏ آلله أذن لكم بذلك الجعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏جملة قل أرأيتم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 59‏]‏، فهو كلام غير داخل في القول المأمور به، ولكنه ابتداء خطاب لجميع الناس‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ للاستفهام‏.‏ والاستفهام مستعمل في التعجيب من حالهم‏.‏ والمقصود به التعريض بالمشركين ليستفيقوا من غفلتهم ويحاسبوا أنفسهم‏.‏

ولذلك كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ‏(‏هم‏)‏ مضافاً إليه الظن إما ضميرَ خطاب أو غيبة‏.‏ فيقال‏:‏ وما ظنكم أو وما ظنهم، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى الإتيان بالموصول بالصلة المختصة بهم للتنبيه على أن الترْديد بين أن يكون الله أذن لهم فيما حرَّموه وبين أن يكونوا مفترين عليه قد انحصر في القسم الثاني، وهو كونهم مفترين إذ لا مساغ لهم في ادعاء أنه أذن لهم، فإذ تعين أنهم مفترون فقد صار الافتراء حالهم المختص بهم‏.‏ وفي الموصول إيذان بعلة التعجيب من ظنهم بأنفسهم يوم القيامة‏.‏

وحذف مفعولا الظن لقصد تعميم ما يصلح له، أي ما ظنهم بحالهم وبجزائهم وبأنفسهم‏.‏ وانتصب ‏{‏الكذبَ‏}‏ على المفعول المطلق، واللام فيه لتعريف الجنس، كأنه قيل كذباً، ولكنه عرف لتفظيع أمره، أي هو الكذب المعروف عند الناس المستقبح في العقول‏.‏

و ‏{‏يوم القيامة‏}‏ منصوب على الظرفية وعامله الظن، أي ما هو ظنهم في ذلك اليوم أي إذا رأوا الغضب عليهم يومئذٍ ماذا يكون ظنهم أنهم لاقون، وهذا تهويل‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله لذو فضل على الناس‏}‏ تذييل للكلام المفتتح بقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءتكم موْعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وفيه قطع لعذر المشركين، وتسجيل عليهم بالتمرد بأن الله تفضل عليهم بالرزق والموعظة والإرشاد فقابلوا ذلك بالكفر دون الشكر وجعلوا رزقهم أنهم يكذبون في حين قابله المؤمنون بالفرح والشكر فانتفعوا به في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏‏}‏

معطوفة على جملة ‏{‏وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 60‏]‏ عطفَ غرض على غرض، لأن فصل الغرض الأول بالتذييل دليل على أن الكلام قد نقل إلى غرض آخر، وذلك الوعدُ بالثواب للرسول على ما هو قائم به من تبليغ أمر الله وتدبير شؤون المسلمين وتأييد دين الإسلام، وبالثواب للمسلمين على اتباعهم الرسول فيما دعاهم إليه‏.‏ وجاء هذا الوعد بطريقة التعريض بحصول رضى الله تعالى عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏إلا كنا عليكم شهوداً‏}‏ لأنهم يعلمون أن عملهم وعمل النبي ما كان إلا في مرضاة الله، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين‏}‏‏.‏ ويتضمن ذلك تنويهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جليل أعماله وتسلية على ما يُلاقيه من المشركين من تكذيب وأذى، لأن اطلاع الله على ذلك وعلمه بأنه في مرضاته كاف في التسلية، كقوله‏:‏ ‏{‏واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، ولذلك توجه الخطاب ابتداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم توجه إليه وإلى من معه من المسلمين‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ الأولى و‏{‏ما‏}‏ الثانية نافيتان‏.‏

والشأن‏:‏ العمل المهم والحال المهم‏.‏ و‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية التي بمعنى شدة التلبس‏.‏

وضمير ‏(‏منه‏)‏ إما عائد إلى ‏(‏شأن‏)‏، أي وما تتلو من الشَّأن قرآناً فتكون ‏(‏مِن‏)‏ مبينة ل ‏(‏ما‏)‏ الموصولة أو تكون بمعنى لام التعليل، أي تتلو من أجل الشأن قرآناً‏.‏ وعَطْف ‏{‏وما تتلو‏}‏ من عطف الخاص على العام للاهتمام به، فإن التلاوة أهم شؤون الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

وإما عائد إلى ‏{‏قرآن‏}‏، أي وما تتلو من القرآن قرآناً، فتكون ‏{‏منه‏}‏ للتبعيض، والضمير عائد إلى مؤخر لتحصيل التشويق إليه حتى يتمكن في نفس السامع‏.‏ وواو ‏(‏تتلو‏)‏ لام الكلمة، والفعل محتمل لضمير مفرد لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم

فيكون الكلام قد ابتدئ بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم التي منها ما هو من خواصّه كقيام الليل، وثُنِّي بما هو من شؤونه بالنسبة إلى الناس وهو تلاوة القرآن على الناس، وثُلِّث بما هو من شؤون الأمة في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تعمَلون من عمل‏}‏ فإنه وإن كان الخطاب فيه شاملاً للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أن تقديم ذكر شأن في أول الآية يخصص عموم الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏تَعملون‏}‏ فلا يبقى مراداً منه إلا ما يعمله بقية المسلمين‏.‏

ووقع النفي مرتين بحرف ‏(‏ما‏)‏ ومرة أخرى بحرف ‏(‏لا‏)‏ لأن حرف ‏(‏ما‏)‏ أصله أن يخلص المضارع للحال، فقصد أولاً استحضار الحال العظيم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قراءته القرآن، ولما نفي عمل الأمة جيء بالحرف الذي الأصل فيه تخليصه المضارع للاستقبال للتثنية من أول الكلام على استمرار ذلك في الأزمنة كلها‏.‏

ويعلم من قرينة العموم في الأفعال الثلاثة بواسطة النكرات الثلاث المتعلقة بتلك الأفعال والواقعة في سياق النفي أن ما يحصل في الحال وما يحصل في المستقبل من تلك الأفعال سواءٌ، وهذا من بديع الإيجاز والإعجاز‏.‏ وكذلك الجمع بين صيغ المضارع في الأفعال المعممة ‏{‏تكونُ وتتلو وتعملون‏}‏ وبين صيغة الماضي في الفعل الواقع في موضع الحال منها ‏{‏إلاَّ كنا‏}‏ للتنبيه على أن ما حصل ويحصل وسيحصل سواء في علم الله تعالى على طريقة الاحتباس كأنه قيل‏:‏ وما كنتم وتكون وهكذا، إلاَّ كنا ونكون عليكم شهودا‏.‏

و ‏{‏من عمل‏}‏ مفعول ‏{‏تعملون‏}‏ فهو مصدر بمعنى المفعول وأدخلت عليه ‏(‏من‏)‏ للتنصيص على التعميم ليشمل العمل الجليل والحقير والخير والشر‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ كنا عليكم شهوداً‏}‏ استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الشأن وعموم التلاوة وعموم العَمل، أي إلا في حالة علمْنا بذلك، فجملة ‏{‏كنا عليكم‏}‏ في موضع الحال‏.‏ ووجود حرف الاستثناء أغنى عن اتصال جملة الحال بحرف ‏(‏قد‏)‏ لأن الربط ظاهر بالاستثناء‏.‏

والشهود‏:‏ جمع شاهد‏.‏ وأخبر بصيغة الجمع عن الواحد وهو الله تعالى تبعاً لضمير الجمع المستعمل للتعظيم، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كنا فاعلين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ ونظيره في ضمير جماعة المخاطبين في خطاب الواحد في قول جعفر بن عُلبة الحارثِي‏:‏

فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم *** لشيء ولا أني من الموت أفرق

وذلك استعارة بتشبيه الواحد بالجماعة في القوة لأن الجماعة لا تخلو من مزايا كثيرة موزعة في أفرادها‏.‏

والشاهد‏:‏ الحاضر، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف ‏(‏على‏)‏‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف، أي حين تفيضون‏.‏

والإفاضة في العمل‏:‏ الاندفاع فيه، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين‏.‏ وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتماماً بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام، كأنه قيل‏:‏ ولا تعملون من عمللٍ مَّا وعمللٍ عظيممٍ تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهوداً حين تعملونه وحين تفيضون فيه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما يعزب عن ربك‏}‏ الخ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وما تكون في شأن‏}‏، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين‏.‏

والعزوب‏:‏ البعد، وهو مجاز هنا للخفاء وفواتتِ العلم، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال‏:‏ ‏{‏عن ربك‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يعزب‏}‏ بضم الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي وهما وجهان في مضارع ‏(‏عزب‏)‏‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من مثقال ذرة‏}‏ مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في ‏{‏ما يعزب‏}‏‏.‏

والمِثقال‏:‏ اسم آلة لما يعرف به مقدار ثِقَل الشيء فهو وزن مِفعال من ثَقُل، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل‏.‏

والذرة‏:‏ النملة الصغيرة، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبارٍ دقيق جداً، والظاهر أن المراد في الآية الأولُ‏.‏ وذُكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن مَا هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم‏.‏

والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي‏.‏ والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة‏.‏ وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض‏}‏ فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض‏.‏

وعطف ‏{‏ولا أصغر من ذلك ولا أكبر‏}‏ على ‏{‏ذرة‏}‏ تصريحاً بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام‏.‏

و ‏{‏أصغر‏}‏ بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعاً من الصرف لأنه معطوف على ‏{‏ذرة‏}‏ المجرور على أنَّ ‏{‏لا‏}‏ مقحمة لتأكيد النفي‏.‏ وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون ‏{‏لا‏}‏ نافية للجنس ‏{‏وأصغر‏}‏ اسمها مبنياً على الفتح فيكون ابتداء كلام‏.‏

وقرأ حمزة وخلف ويعقوب ‏{‏ولا أصغرُ ولا أكبرُ‏}‏ برفعهما باعتبار عطف ‏{‏أصغر‏}‏ على محل ‏{‏مثقال‏}‏ لأنه فاعل ‏{‏يعزب‏}‏ في المعنى، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون ‏{‏لا‏}‏ نافية عاملة عمل ليس و‏{‏أصغر‏}‏ اسمها‏.‏

والاستثناء على الوجهين الأوَّلين من قراءتي نصب ‏{‏أصغرَ‏}‏ ورفعه استثناء منقطع بمعنى ‏(‏لكن‏)‏، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب، وجوز أن يكون استثناء متصلاً من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغرَ منها وأكبر‏.‏ وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده‏.‏ والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه في كتاب مُبين، أي إلا معلوماً مكتوباً ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلاً بطريق برهاني‏.‏

والمجرور على هذا كله في محل الحال، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلاً والمجرور ظرفاً مستقلاً في محل خبر ‏(‏لا‏)‏ النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏

والكتاب‏:‏ علم الله، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان‏.‏ ومبين‏:‏ اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي واضح بيّن لا احتمال فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرَّض به في قوله‏:‏ ‏{‏إلاَّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ الآية، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد، إذ أعلن الله للنبيء والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم، ومن الحزن من جراء ذلك، ولمح لهم بعاقبة النصر، ووعدهم البشرى في الآخرة وعداً لا يقبل التغيير ولا التخلف تطميناً لنفوسهم، كما أشعر به قوله عقبه ‏{‏لا تَبديل لكلمات الله‏}‏‏.‏

وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم المفسدون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 12‏]‏، ولذلك أكدت الجملة بإنَّ‏}‏ بعد أداة التنبيه‏.‏

وفي التعبير ب ‏{‏أولياء الله‏}‏ دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله‏:‏ ‏{‏وما تعملون من عمل‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ خبر ‏{‏إن‏}‏‏.‏

والخوف‏:‏ توقع حصول المكروه للمتوقِّع، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقَّع حصوله‏.‏ فيقال‏:‏ خاف الشيْء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخافوهم وخَافون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏‏.‏ وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقَّع‏:‏ خاف عليه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 135‏]‏‏.‏

وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن ‏(‏لا‏)‏ إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصاً وإذا لم يُبنَ الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهراً مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحاً لهذا الاحتمال، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم ‏(‏لا‏)‏ وبناؤه على الفتح، كما في قول إحدى نساء حديثثِ أم زرع «زوجي كلَيْللِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح‏.‏

فمعنى ‏{‏لا خوف عليهم‏}‏ أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف، أي هم بمأمننٍ من أن يُصيبهم مكروه يُخاف من إصابة مِثلِه، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة، فغيرهم ممن يَعلم حالهم لا يَخَاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سَليماً من التأثر بالمظاهر، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف، ولذلك لا يَخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجَّسون منه خيفة، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافاً إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة، أي لا خوف يخافه خائف عليهم، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 25، 26‏]‏، وقال لموسى‏:‏ ‏{‏لا تَخاف دَرَكا ولا تخشى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 77‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون‏}‏‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول‏:‏ «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض» ثم خرج وهو يقول‏:‏ ‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير ‏{‏أولياء الله‏}‏ مع الابتداء به، وإيراد الفعل بَعده مسنداً مفيداً تقوي الحكم، لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله، والخوف يكون قبل حصوله، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم «وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون» فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ لأن جملة‏:‏ ‏{‏هم يحزنون‏}‏ يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصاً منه‏.‏

فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم‏.‏ ولما كان ما يُخاف منه من شأنه أن يُحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكِّداً لمعنى نفي خوف خائف عليهم‏.‏ وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا، كقوله‏:‏ ‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وقد علمت ما يُغني عن هذا التأويل، وهو يبعد عن مفاد قوله‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏

والولي‏:‏ الموالي، أي المحالف والناصر‏.‏ وكلها ترجع إلى معنى الوَلْي ‏(‏بسكون اللام‏)‏، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازي‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أغير الله اتخذ ولياً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وهو قرب من الجانبين، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة‏.‏ وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض، أو يجعل جملة‏:‏ لا خوف عليهم‏}‏ خبر ‏{‏إنّ‏}‏ ويجعل اسم الموصول خبرَ مبتدأ محذوف حذفاً جارياً على الاستعمال، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه‏.‏

5 وأياً ما كان فهذا الخبر يفيد أن يعرف السامع كنه معنى أولياء الله اعتناء بهم على نحو ما قيل في قول أوس بن حجر‏:‏

الألْمعِي الذي يظن بك الظَّنَّ *** كأنْ قد رأى وقد سَمعا

ودل قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا يتقون‏}‏ على أن التقوى ملازمة لهم أخذاً من صيغة ‏{‏كانوا‏}‏ وأنها متجددة منهم أخذاً من صيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يتقون‏}‏‏.‏ وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خَلَتْ في أيام الطلب أن هذه الآية هي أقوى ما يُعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعاً وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ من عادَى لي ولياً فقد آذنته بحرب ‏"‏‏.‏

وإشارة الآية إلى تولي الله إياهم بالكرامة بقوله‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏‏.‏ وتعريف ‏{‏البشرى‏}‏ تعريف الجنس فهو صادق ببشارات كثيرة‏.‏

و ‏{‏في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ حال من ‏{‏البشرى‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يبشرون بخيرات قبل حصولها‏:‏ في الدنيا بما يتكرر من البشارات الواردة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي الآخرة بما يتلقونه من الملائكة وما يسمعونه من أمر الله بهم إلى النعيم المقيم، كقوله‏:‏ ‏{‏وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وروى الترمذي عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏ ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت فهي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أوْ ترى له ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ وليس فيه عطاء بن يسار أي ليس في الحديث أن أبا صالح يرويه عن عطاء بن يسار كما هو المعروف في رواية أبي صالح إلى أبي الدرداء، وعليه فالحديث منقطع غير متصل السند‏.‏ وقد رواه الترمذي بسندين آخرين فيهما عطاء بن يسار عن رجل من أهل مِصر عن أبي الدرداء وذلك سند فيه مجهول، فحالة إسناد هذا الخبر مضطربة لظهور أن عطاء لم يسمعه من أبي الدرداء‏.‏

ومحمل هذا الخبر أن الرؤيا الصالحة من جملة البشرى في الحياة الدنيا لأنها تؤذن صاحبها بخير مستقبل يحصل في الدنيا أحرى الآخرة، أو كأن السائل سأل عن بشرى الحياة فأما بشرى الآخرة فكانت معروفة بقوله‏:‏ ‏{‏يبشرهم ربهم برحمة منه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 21‏]‏ الآية ونحوها من الآيات‏.‏

وفي «الموطأ» عن هشام بن عروة عن أبيه كان يقول في هذه الآية ‏{‏لهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ قال‏:‏ هي الرؤيا الصالحة يَراها الرجل أوْ تُرى له‏.‏ ومن البشرى الوعد بأن لهم عاقبة النصر على الأعداء، وتمكينُهم من السلطان في الدنيا، وأن لهم النعيم الخالد في الآخرة‏.‏

ومقابلة الحَزَن بالبشرى من محسنات الطباق‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏ مبينة لمعنى تأكيد الوعد الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏، تذكيراً لهم بأن ما وعدهم الله به من البشائر مثل النصر وحسن العاقبة أمر ثابت لا يتخلف لأنه من كلمات الله، وقد نفي التبديل بصيغة التبرئة الدالة على انتفاء جنس التبديل‏.‏

والتبديل‏:‏ التغيير والإبطال، لأن إبطال الشيء يستلزم إيجاد نقيضه‏.‏

و ‏{‏كلمات الله‏}‏ الأقوال التي أوحى بها إلى الرسول في الوعد المشار إليه، ويؤخذ من عموم ‏{‏كلمات الله‏}‏ وعموم نفي التبديل أن كل ما هو تبديل منفي من أصله‏.‏

رُوي أن الحجاج خطب فذكر عبد الله بن الزبير فقال‏:‏ إنه قد بَدَّل كتاب الله‏.‏ وكان ابن عمر حاضراً فقال له ابن عمر‏:‏ لا تطيق ذلك أنت ولا ابنُ الزبير‏:‏ ‏{‏لا تبديل لكلمات الله‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك هو الفَوْز العظيم‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏لهم البشرى‏}‏ ومقررة لمضمونها فلذلك فُصلت‏.‏

والإشارة بذلك إلى المذكور من مضمون الجمل الثلاث المتقدمة، واختيار اسم الإشارة لأنه أجمع لما ذُكر، وفيه كمال تمييز له لزيادة تقرير معناه‏.‏ وذكرُ ضمير الفصل بعد اسم الإشارة لزيادة التأكيد ولإفادة القصر، أي هو الفوز العظيم لا غيرُه مما يتقلب فيه المشركون في الحياة الدنيا من رزق ومنَعَة وقوة، لأن ذلك لا يعد فوزاً إذا عاقبته المذلة والإهانة في الدنيا وبعدَه العذاب الخالد في الآخرة، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرَّنَّك تقلُّب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏‏}‏

الجملة معطوفة على جملة ‏{‏ألا إن أولياء الله لا خَوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏ عطف الجزئي على الكلي لأن الحزن المذكور هنا نوع من أنواع الحزن المنفي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا هُم يحزنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع لأن دفع هذا الحزن يتفرع على ذلك النفي ولكن عُدل إلى العطف بالواو ليعطي مضمون الجملة المعطوفة استقلالاً بالقصد إليه فيكون ابتداء كلام مع عدم فوات معنى التفريع لظهوره من السياق‏.‏ والحزن المنهي عن تطرقه هو الحزن الناشئ عن أذى المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم بأقوالهم البذيئة وتهديداتهم‏.‏ ووجه الاقتصار على دحضه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلقى من المشركين محزناً إلا أذى القول البذئي‏.‏

وصيغة ‏{‏لا يحزنك قولهم‏}‏ خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وظاهر صيغته أنه نهي عن أن يحزن النبي صلى الله عليه وسلم كلام المشركين، مع أن شأن النهي أن يتوجه الخطاب به إلى من فعل الفعل المنهي عنه، ولكن المقصود من مثل هذا التركيب نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يتأثر بما شأنه أن يُحزن الناس من أقوالهم، فلما وجه الخطاب إليه بالنهي عن عمل هو من عمل غيره تعين أن المراد بذلك الكناية عن نهيه هو عن حصول ذلك الحزن في نفسه بأن يصرف عن نفسه أسبابه وملزوماته فيؤول إلى معنى لا تترك أقوالهم تُحزنك، وهذا كما يقولون‏:‏ لا أريَنَّك تفعل كذا، ولا أعرفنَّك تفعل كذا، فالمتكلم ينهى المخاطب عن أن يراه المتكلم فاعلاً كذا‏.‏ والمراد نهيه عن فعل ذلك حتى لا يراه المتكلم فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تفعلن كذا فأراك تفعله‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يحزنك قولهم‏}‏ لا تحزن لقولهم فيحزنك‏.‏

ومعلوم أن أقوال المشركين التي تحزن النبي هي أقوال التكذيب والاستهزاء، فلذلك حذف مفعول القول لأن المصدر هنا نزل منزلة مصدر الفعل اللازم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن العزة لله جميعاً‏}‏ تعليل لدفع الحزن عنه، ولذلك فصلت عن جملة النهي كأنَّ النبي يقول‏:‏ كيف لا أحزن والمشركون يتطاولون علينا ويتوعدوننا وهم أهل عزة ومنعَة، فأجيب بأن عزتهم كالعدم لأنها محدودة وزائلة والعزة الحق لله الذي أرسلك‏.‏ وهي أيضاً في محل استئناف بياني‏.‏ وكل جملة كان مضمونها علة للتي قبلها تكون أيضاً استئنافاً بيانياً، فالاستئناف البياني أعم من التعليل‏.‏ وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بها، ولأنَّه يفيد مفاد لام التعليل وفاء التفريع في مثل هذا المقام الذي لا يقصد فيه دفع إنكار من المخاطب‏.‏

ويحسن الوقف على كلمة ‏{‏قولهم‏}‏ لكي لا يتوهم بعض من يسمع جملة ‏{‏إنّ العزة لله جميعاً‏}‏ فيحسبه مقولاً لقولهم فيتطلب لماذا يكونُ هذا القول سبباً لحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم من قولهم‏:‏ ‏{‏إنّ العزّة لله‏}‏ وإن كان في المقام ما يهدي السَّامع سريعاً إلى المقصود‏.‏

ونظير هذا الإيهام ما حكي أنّ ابن قتيْبة ‏(‏وهو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة‏)‏ ذكر قراءة أبي حيْوة ‏{‏أنّ العزّة لله‏}‏ بفتح همزة ‏(‏أن‏)‏ وأعرب بدلاً من ‏(‏قولُهم‏)‏ فحكم أنّ هذه القراءة كُفر‏.‏ حكى ذلك عنه ابن عطيَّة‏.‏ وأشار إلى ذلك في «الكشاف» فقال‏:‏ «ومن جعله بدلاً من ‏(‏قولُهم‏)‏ ثم أنكره فالمنكر هو تخريجه»‏.‏

ولعل ابن قتيبة أراد أن كسر الهمزة وإن كان محتملاً لأن تكون الجملة بعدها معمولة ل ‏{‏قولهم‏}‏ لأن شأن ‏(‏إن‏)‏ بعد فعل القول أن لا تكون بفتح الهمزة لكن ذلك احتمال غير متعيَّن لأنَّه يحتمل أيضاً أن تكون الجملة استئنافاً، والسياق يعيّن الاحتمال الصحيح‏.‏

فأمَّا إذا فتحت الهمزة كما قرأ أبو حَيْوَة فقد تعيَّنت أن تكون معمولة لما ذكر قبلها وهو لفظ ‏{‏قولُهم‏}‏ ولا محمل لها عنده إلا أنها أي المصدر المنسبك‏.‏ منها بدل من كلمة ‏{‏قولهم‏}‏، فيصير المعنى‏:‏ أنّ الله نهى نبيئه عن أن يحزن من قول المشركين ‏{‏العزةُ لله جميعاً‏}‏ وكيف وهو إنَّما يدعوهم لذلك‏.‏ وإذ كان النهي عن شيء يقتضي تجويز تلبس المنهي بالشيء المنهى عنه اقتضى ذلك تجويز تلبس النبي عليه الصلاة والسلام بالحَزن لمن يقول هذا القول وهذا التجويز يؤول إلى كفر من يجوزه على طريقة التكفير باللازم، ومقصده التَّشنيع على صاحب هذه القراءة‏.‏

وإنَّما بنى ابن قتيبة كلامه على ظاهر لفظ القرآن دون تقدير حرف قبل ‏(‏أنّ‏)‏ لعلَّه راعى أنّ التقدير خلاف الأصل أو أنَّه غير كاف في دفع الإيهام‏.‏ فالوجه أنّ ابن قتيبة هوّل ما له تأويل، ورد العلماء عليه رد أصيل‏.‏

والتَّعريف في ‏{‏العزّة‏}‏ تعريف الجنس المفيد للاستغراق بقرينة السِّياق‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ للملك‏.‏ وقد أفاد جعل جنس العزة ملكاً لله أنّ جميع أنواعها ثابت لله، فيفيد أنّ له أقوى أنواعها وأقصاها‏.‏ وبذلك يفيد أنّ غير الله لا يملك منها إلاّ أنواعاً قليلة، فما من نوع من أنواع العزة يوجد في مِلك غيره فإن أعظم منه من نوعه ملك لله تعالى‏.‏ فلذلك لا يكون لما يملكه غير الله من العزة تأثير إذا صادم عزة الله تعالى، وأنه لا يكون له تأثير إلا إذا أمهله الله، فكل عزّة يستخدمها صاحبها في مناواة من أراد الله نصره فهي مدحوضة مغلوبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتب الله لأغلبنّ أنا ورُسلي إنّ الله قوي عزيز‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ وإذ قد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أنّ الله أرسله وأمره بزجر المشركين عمَّا هم فيه كان بحيث يؤمن بالنصر إذا أعلمه الله بأنه مراده، ويعلم أنّ ما للمشركين من عزة هو في جانب عزة الله تعالى كالعدم‏.‏

و ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من ‏{‏العزّة‏}‏ موكّدة مضمونَ الجملة قبلها المفيدَ لاختصاصه تعالى بجميع جنس العزّة لدفع احتمال إرادة المبالغة في ملك ذلك الجنس‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏هو السَّميع العليم‏}‏ مستأنفة وإجراء هذا الخبر على اسم الجلالة الواقع ركناً في الجملة التعليلية يجر معنى التعليل إلى هذه الجملة فتفيد الجملة تعليلاً آخر أو تكملة للتعليل الأوّل، لأنه إذا تذكر المخاطب أنّ صاحب العزة يعلم أقوالهم وأحوالهم زاد ذلك قوة في دفع الحُزن مِن أقوالهم عن نفسه لأنّ الذي نهاه عن الحزن من أقوالهم وتطوالهم أشد منهم قوة ومحيط علمه بما يقولونه وبأحوالهم‏.‏ فهو إذا نهاك عن الحزن من أقوالهم ما نهاك إلا وقد ضمن لك السَّلامة منهم مع ضعفك وقوتهم لأنه يمدُّك بقوته وهو أعلم بتكوين أسباب نصرك عليهم‏.‏

والمراد ب ‏{‏السميع‏}‏ العالم بأقوالهم التي من شأنها أن تسمع، وب ‏{‏العليم‏}‏ ما هو أعم من أحوالهم التي ليست بمسموعات فلا يطلق على العلم بها اسم ‏(‏السَّميع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

د بتوجيه هذا الكلام هم المشركون لتأييسهم من كل احتمال لانتصارهم على النَّبيء عليه الصلاة والسلام والمسلمين، فإن كثيراً منهم حين يفهم ما في الآيات الخمس السَّابقة من قوله‏:‏ ‏{‏وما تكون في شأن‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ إلى هنا من التصريح بهوان، شأنهم عند الله وعند رسوله ومن التعريض باقتراب حلول الغلبة عليهم يخامرهم بعض الشك في صدق الرسول وأنّ ما توعَّدهم به حق، ثمّ يغالطون أنفسهم ويسلون قلوبهم بأنَّه إن تحقَّق ذلك سيجدون من آلهتهم وساطة في دفع الضر عنهم ويقولون في أنفسهم‏:‏ لمثل هذا عبدناهم، وللشَّفاعة عند الله أعددناهم، فسيق هذا الكلام لقطع رجائهم منهم بالاستدلال على أنَّهم دون ما يظن بهم‏.‏

فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ومناسبة وقوعها عقب جملة ‏{‏ولا يحزنك قولهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 65‏]‏ أن أقوالهم دحضت بمضمون هذه الجملة‏.‏ وأما وقوعها عقب جملة ‏{‏إن العزة لله جميعاً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 65‏]‏ فلأنها حجَّة على أنّ العزّة لله لأنّ الذي له من في السماوات ومن في الأرض تكون له العزّة الحق‏.‏

وافتتاح الجملة بحرف التنبيه مقصود منه إظهار أهميَّة العلم بمضمونها وتحقيقه ولذلك عقب بحرف التأكيد، وزيد ذلك تأكيداً بتقديم الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏لله من في السماوات ومن في الأرض‏}‏ وباجتلاب لام الملك‏.‏

و ‏{‏مَنْ‏}‏ الموصولة شأنها أن تطلق على العقلاء وجيء بها هنا مع أن المقصد الأوّل إثبات أنّ آلهتهم ملك لله تعالى، وهي جمادات غير عاقلة، تغليباً ولاعتقادهم تلك الآلهة عقلاء وهذا من مجاراة الخصم في المناظرة لإلزامه بنهوض الحجَّة عليه حتَّى على لازم اعتقاده‏.‏ والحكم بكون الموجودات العاقلة في السماوات والأرض ملكاً لله تعالى يفيد بالأحرى أن تلك الحجارة ملك الله لأن من يملك الأقوى أقدر على أن يملك الأضعف فإن من العرب من عَبَد الملائكة، ومنهم من عبدوا المسيح، وهم نصارى العرب‏.‏

وذكر السماوات والأرض لاستيعاب أمكنة الموجودات فكأنه قيل‏:‏ ألا إنّ لله جميع الموجودات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏ الخ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏لله من في السماوات ومن في الأرض‏}‏‏.‏ وهي كالنتيجة للجملة الأولى إذ المعنى أن جميع الموجودات ملك لله، واتّباع المشركين أصنامهم اتباع خاطئ باطل‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ نافية لا محالة، بقرينة تأكيدها ب ‏(‏إنْ‏)‏ النَّافية، وإيراد الاستثناء بعدهما‏.‏ و‏{‏شركاء‏}‏ مفعول ‏{‏يدْعون‏}‏ الذي هو صلة ‏{‏الذين‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن يتبعون‏}‏ تَوكيدٌ لَفظي لجملة ‏{‏ما يتبع الذين يدعون‏}‏ وأعيد مضمونها قضاء لحق الفصاحة حيث حصل من البعد بين المستثنى والمستثنى منه بسبب الصلة الطويلة ما يشبه التعقيد اللفظي وذلك لا يليق بأفصح كلام مع إفادة تلك الإعادة مفاد التأكيد لأن المقام يقتضي الإمعان في إثبات الغرض‏.‏

و ‏{‏الظن‏}‏ مفعول لِكلا فعلي ‏{‏يتَّبعُ، ويتْبعون‏}‏ فإنهما كفعل واحد‏.‏ وليس هذا من التنازع لأن فعل التوكيد اللفظي لا يطلب عملاً لأن المقصود منه تكرير اللفظ دون العمل فالتقدير‏:‏ وما يتبع المشركون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون‏.‏

والظنُّ‏:‏ هنا اسم منزل منزلة اللازم لم يقصد تعليقه بمظنون معين، أي شأنهم اتباع الظنون‏.‏ والمراد بالظن هنا العلم المخطئ‏.‏

وقد بينت الجملة التي بعدها أنّ ظنهم لا دليل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وإن هم إلا يخرصون‏}‏‏.‏

والخرْص‏:‏ القول بالحزر والتخمين‏.‏ وتقدّم نظير هذه الآية في سورة الأنعام ‏(‏116‏)‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلاّ الظنّ وإن هم إلا يخرصون‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

جملة معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظنّ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 68‏]‏ جاءت مجيء الاستدلال على فساد ظنهم وخَرْصهم بشواهد خلق الليل والنهار المشاهَدِ في كل يوم من العمر مرّتين وهم في غفلة عن دلالته، وهو خلق نظام النهار والليل‏.‏

وكيف كان النهار وقتاً ينتشر فيه النور فيناسب المشاهدة لاحتياج الناس في حركات أعمالهم إلى إحساس البصر الذي به تتبين ذوات الأشياء وأحوالها لتناول، الصالح منها في العمل ونبذ غير الصالح للعمل‏.‏

وكيف كان الليل وقتاً تغشاه الظلمة فكان مناسباً للسكون لاحتياج الناس فيه إلى الراحة من تعب الأعمال التي كدحوا لها في النهار‏.‏ فاكانت الظلمة باعثة الناس على الراحة ومحددة لهم إبانها بحيث يستوي في ذلك الفَطِن والغافل‏.‏

ولما قابل السكون في جانب الليل بالإبصار في جانب النهار، والليل والنهار ضدّان دلّ ذلك على أنّ علة السكون عدم الإبصار، وأنّ الإبصار يقتضي الحركة فكان في الكلام احتباك‏.‏

ووصف النهار بمبصر مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتَّى جعل النَّهار هو المبصر‏.‏ والمراد‏:‏ مبصِراً فيه الناسُ‏.‏

ومن لطائف المناسبة أنّ النّور الذي هو كيفية زمن النَّهار، شيء وجودي، فكان زمانه حقيقاً بأن يوصف بأوصاف العقلاء، بخلاف الليل فإن ظلمته عدمية فاقتصر في العبرة به على ذكر الفائدة الحاصلة فيه وهي أن يسكنوا فيه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الليل‏}‏ طريق من طرق القصر وهو تعريف المسند والمسند إليه‏.‏ وهو هنا قصر حقيقي وليس إضافياً كما توهَّمه بعض الكاتبين إذ جعله قصر تعيين، وهم معترفون به لا يستطيعون دفع هذا الاستدلال، فالمقصود الاستدلال على انفراده تعالى بخصائص الإلهية التي منها الخلق والتقدير، وأن آلهتهم انتفت عنها خصائص الإلهية، وقد حصل مع الاستدلال امتنان على الناس بجعل الليل والنهار على هذا النظام‏.‏ وهذا الامتنان مستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏جعل لكم‏}‏ ومن تعليل خلق الليل بعلة سكون الناس فيه، وخلق النهار بعلة إبصار الناس، وكل الناس يعلمون ما في سكون الليل من نعمة وما في إبصارهم بالنهار من نعمة كذلك، فإن في العمل بالنهار نعماً جمّة من تحصيل رغبات، ومشاهدة محبوبات، وتحصيل أموال وأقوات، وأن في السكون باللّيل نعماً جمّة من استجمام القوى المنهوكة والإخلاد إلى محادثة الأهل والأولاد، على أن في اختلاف الأحوال، ما يدفع عن المرء الملال‏.‏

وفي إدماج الاستدلال بالامتنان تعريض بأن الذين جعلوا لله شركاء جمعوا وصمتين هما‏:‏ وصمة مخالفة الحق، ووصمة كفران النعمة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات‏}‏ مستأنفة‏.‏ والآيات‏:‏ الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى بالإلهية، فإن النظام الذي نشأ عنه الليل والنهار مشتمل على دقائق كثيرة من العلم والحكمة والقدرة وإتقان الصنع‏.‏

فمن تلك الآيات‏:‏ خلق الشمس، وخلق الأرض، وخلق النور في الشمس، وخلق الظلمة في الأرض، ووصول شعاع الشمس إلى الأرض، ودوران الأرض كل يوم بحيث يكون نصف كرتها مواجهاً للشعاع ونصفها الآخر محجوباً عن الشعاع، وخلق الإنسان؛ وجَعْللِ نظام مزاجه العصبي متأثراً بالشعاع نشاطاً، وبالظلمة فُتُوراً، وخلق حاسة البصر، وجعلها مقترنة بتأثر الضوء؛ وجعل نظام العمل مرتبطاً بحاسة البصر؛ وخلق نظام المزاج الإنساني مشتملاً على قوى قابلة للقوة والضعف ثم مدفوعاً إلى استعمال قواه بقصد وبغير قصد بسبب نشاطه العصبي، ثم فاقداً بالعمل نصيباً من قواه محتاجاً إلى الاعتياض بقوى تخلفها بالسكون والفتور الذي يلجئه إلى تطلب الراحة‏.‏ وأيَّة آيات أعظم من هذه، وأية منة على الإنسان أعظم من إيداع الله فيه دواعي تسوقه إلى صلاحه وصلاح نوعه بداع من نفسه‏.‏

ووصف ‏{‏قوم‏}‏ بأنهم ‏{‏يسمعون‏}‏ إشارة إلى أن تلك الآيات والدلائل تنهض دلالتها للعقول بالتأمل فيها، وأن توجه التفكير إلى دلائلها غير محتاج إلا إلى التنبيه عليها ولفته إليها، فلما كان سماع تذكير الله بها هو الأصل الأصيل في استخراج دلالتها وتفريع مدلولاتها على تفاوت الأذهان في الفِطنة وترتيب الأدلة جعل آيات دلالتها حاصلة للذين يسمعون‏.‏

ويجوز أن يكون المراد يسمعون تفاصيل تلك الدلائل في تضاعيف سور القرآن، وعلى كلا الاحتمالين فالوصف بالسمْع تعريض بأن الذين لم يهتدوا بها ولا تفطنوا لدلالتها بمنزلة الصم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنت تسمع الصم أو تهدي العميْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 40‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

بيان لجملة ‏{‏ألا إن لله مَن في السماوات ومَن في الأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ إلى آخرها، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله، لأن هذا كفر خفي من دينهم، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء‏.‏

فضمير ‏{‏قالوا‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين يدعون من دون الله شركاء‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ أي قال المشركون ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏‏.‏ وليس المراد من الضمير غيرَهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب، ذلك أن كثيراً منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة، وهم بناته من سَروات نساء الجن، ولذلك عَبَدت فرق من العرب الجن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وَليُّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40، 41‏]‏‏.‏

والاتخاذ‏:‏ جعل شيء لفائدة الجاعل، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتتخذ أصناماً آلهة‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يَروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به‏.‏ وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم مَن يعتقد تولد الولد عن الله تعالى، ومنهم مَن يعتقد أن الله تبنَّى بعض مخلوقاته‏.‏

والولد‏:‏ اسم مصوغ على وزن فَعَل مثل عَمَد وعرب‏.‏ وهو مأخوذ من الولادة، أي النتاج‏.‏ يقال‏:‏ ولدت المرأة والناقة، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفَرح‏.‏ ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر‏.‏ يقال‏:‏ هؤلاء ولد فلان‏.‏ وفي الحديث أنا سيد ولَدِ آدمِ والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله البنات سبحانه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 57‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ إنشاء تنزيه للرد عليهم، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها‏.‏ وهو اسم مصدر ل ‏(‏سَبَّح‏)‏ إذا نزّه، نائب عن الفعل، أي نسبحه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏، أي تنزيهاً لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى، ولذلك بُينت جملةُ التنزيه بجملة‏:‏ هو الغني‏}‏ بياناً لوجه التنزيه، أي هو الغني عن اتخاذ الولد، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مُكمِل نقص في الذات أو الأفعال، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصدِ التوليد وكونُها نقصاً غير خفي، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نَقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خَلَف بعد الممات‏.‏

وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال‏.‏

والغَنِيُّ‏:‏ الموصوف بالغِنى، فعيل للمبالغة في فعل ‏(‏غَنِيَ‏)‏ عن كذا إذا كان غير محتاج، وغنى الله هو الغنى المطلق، وفسر في أصول الدين الغنى المُطلق بأنه عدم الافتقار إلى المُخَصِّص وإلى المحل، فالمخصص هو الذي يُعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضاً عن الأخرى، فبذلك ثبت للإله الوجودُ الواجب، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد، فلا جرم أنْ كان الغَنِيُّ منزّهاً عن الولد من جهة الانفصال، ثم هو أيضاً لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولداً له بالتبني لأجل كونه غنياً عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلَف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏بديع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه، فهنو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله، فلا يحتاج إلى إعانة ولد، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعاً له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم‏.‏ وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفاً ‏{‏ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يَتبع الذين يَدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 66‏]‏ ودل قوله‏:‏ ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ على أن صفة العبودية تنافي صفة البُنُوة وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً سبحانه بل عباد مُكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ويؤخذ من هذا أن الولد لا يُسترقُّ لأبيه ولا لأمّه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عَلَيَا‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنْ عندكم من سلطان بهذا‏}‏ جواب ثان لقولهم‏:‏ ‏{‏اتَّخذ الله ولداً‏}‏ فلذلك فُصلت كما فصلت جملة ‏{‏سبحانه‏}‏، فبعد أن استدل على إبطال قولهم، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك‏.‏

و ‏{‏إن‏}‏ حرف نفي‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويِّها وضعيفها، عقليِّها وشرعيِّها‏.‏

و ‏(‏عند‏)‏ هنا مستعملة مجازاً‏.‏ شُبِّه وجودُ الحجة للمحتج بالكون في مكانه، والمعنى‏:‏ لا حجَّة لكم‏.‏

و ‏{‏سلطان‏}‏ محله رفع بالابتداء، وخبره ‏{‏عِندكم‏}‏ واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة‏.‏

والسلطان‏:‏ البرهان والحجة، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما نزل الله بها من سلطان‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 71‏]‏‏.‏

والباء للملابسة، وهي في موضع صفة لسلطان‏}‏، أي سلطان ملابس لهذا‏.‏ والإشارة إلى المقول‏.‏

والمعنى‏:‏ لا حجة لكم تصاحب مَقولكم بأن الله اتخذ ولداً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏ جواب ثالث ناشيء عن الجوابين لأنهم لما أُبطل قولهم بالحجة‏.‏ ونُفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون، أي بما لا يوقنون به، ولكونها جواباً فصلت‏.‏ فالاستفهام مستعمل في التوبيخ، لأن المذكور بعده شيء ذميم، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

استئناف افتتح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لتنبيه السامعين إلى وعي ما يرد بعد الأمر بالقول بأنه أمر مهم بحيث يطلب تبليغه، وذلك أن المَقُول قضية عامة يحصل منها وعيد للذين قالوا‏:‏ اتخذ الله ولداً، على مقالتهم تلك، وعلى أمثالها كقولهم‏:‏ ‏{‏ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرَّم على أزواجنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ وقولهم‏:‏ ما كان لآلهتهم من الحَرث والأنعام لا يصل إلى الله وما كان لله من ذلك يصل إلى آلهتهم، وقولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏ فذلك كله افتراء على الله، لأنهم يقولونه على أنه دين، وماهية الدين أنه وضع إلهي فهو منسوب إليه، ويحصل من تلك القضية وعيد لأمثال المشركين من كل من يفتري على الله ما لم يقله، فالمقول لهم ابتداءاً هم المشركون‏.‏

والفلاح‏:‏ حصول ما قصده العامل من عمله بدون انتقاض ولا عاقبة سوء‏.‏ وتقدم في طالع سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏ فنفي الفلاح هنا نفي لحصول مقصودهم من الكذب وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم

وجملة‏:‏ ‏{‏متاعٌ في الدنيا‏}‏ استئناف بياني، لأن القضاء عليه بعدم الفلاح يتوجه عليه أن يسأل سائل كيف نراهم في عزة وقدرة على أذى المسلمين وصد الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيجاب السائل بأن ذلك تمتيع في الدنيا لا يَعبأ به، وإنما عدم الفلاح مظهره الآخرة، ف ‏{‏متاع‏}‏ خبر مبتدأ محذوف يعلم من الجملة السابقة، أي أمرهم متاع‏.‏

والمتاع‏:‏ المنفعة القليلة في الدنيا إذ يقيمون بكذبهم سيادتهم وعزتهم بين قومهم ثم يزول ذلك‏.‏

ومادة ‏(‏متاع‏)‏ مؤذنة بأنه غير دائم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ في أوائل سورة الأعراف ‏(‏24‏.‏ ‏(‏

وتنكيره مؤذن بتقليله، وتقييده بأنه في الدنيا مؤكد للزوال وللتقليل، و‏(‏ثم‏)‏ من قوله‏:‏ ثم إلينا مرجعهم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن مضمونه هو محقة أنهم لا يفلحون فهو أهم مرتبة من مضمون لا يفلحون‏.‏

والمرجع‏:‏ مصدر ميمي بمعنى الرجوع‏.‏ ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى وقت نفاذ حكمه المباشر فيهم‏.‏

وتقديم ‏{‏إلينا‏}‏ على متعلَّقه وهو المرجع للاهتمام بالتذكير به واستحضاره كقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة إلى قوله ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ ويجوز أن يكون المرجع كناية عن الموت‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ثم نذيقهم العذاب الشديد‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏ثم إلينا مرجعهم‏}‏‏.‏ وحرف ‏(‏ثم‏)‏ هذا مؤكد لنظيره الذي في الجملة المبينة على أن المراد بالمرجع الحصول في نفاذ حكم الله‏.‏

والجمل الأربع هي من المقول المأمور به النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً عن الله تعالى‏.‏

وإذاقة العذاب إيصاله إلى الإحساس، أطلق عليه الإذاقة لتشبيهه بإحساس الذوق في التمكن من أقوى أعضاء الجسم حاسية لمس وهو اللسان‏.‏

والباء في ‏{‏بما كانوا يكفرون‏}‏ للتعليل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كانوا يكفرون‏}‏ يؤذن بتكرر ذلك منهم وتجدده بأنواع الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج؛ فإن نوحاً عليه السلام مع قومه مَثَل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلاً ثم يؤخذون أخذة رابية، كما متع قوم نوح زمناً طويلاً ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقياً بالوجل والذعر في قلوبهم، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء، والصالحين من أقوامهم، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبيء عن ذلك قولهُ في نهاية هذه القصص ‏{‏أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ الآيات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏ الآيات‏.‏

وبهذا يظهر حسن موقع ‏(‏إذْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إذ قال لقومه يا قوم‏}‏ إلى آخره، فإن تقييد النبأ بزمن قوله‏:‏ ‏{‏لقومه‏}‏ إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءَهم زمناً طويلاً فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ اسم للزمن الماضي‏.‏ وهو هنا بدل اشتمال من ‏{‏نبأ‏}‏ أو من ‏{‏نوح‏}‏‏.‏ وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين يفترون على الله الكذب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 69‏]‏‏.‏

والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ وتقدمت في سورة الأنفال‏.‏

والنبأ‏:‏ الخبر‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران‏.‏

وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله‏:‏ إذ قَال لقومه‏}‏ إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جَد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه

‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏

وظرف ‏{‏إذ‏}‏ وما أضيف إليه في موضع الحال من ‏{‏نبأ نوح‏}‏‏.‏

وافتتاح خطاب نوح قومَه ب ‏{‏يا قوم‏}‏ إيذان بأهيمة ما سيلقيه إليهم، لأن النداء طلب الإقبال‏.‏ ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازاً في طلب الإقبال المجازي، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله‏.‏

واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخيرَ لهم، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيراً‏.‏ وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ شق عليكم وأحرجكم‏.‏

والكبَر‏:‏ وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه، ويستعار الكبَر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه، فقد يكون مدحاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏، ويكون ذماً كقوله‏:‏ ‏{‏كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏، ويستعار الكبَر للمشقة والحرج، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كان كَبُر عليك إعراضهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ وكذلك هنا‏.‏

والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام‏.‏ وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمَن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مَقاماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ أي خير حالة وشأناً‏.‏ وهو استعمال من قبيل الكناية، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته، وفيهما مظاهر أحواله‏.‏

وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه، فعطفه من عطف الخاص على العام‏.‏ فمعنى‏:‏ ‏{‏كَبُر عليكم مقامي وتذكيري‏}‏ سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله‏.‏

وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعاً مُرّ المَذاق من نفوسهم، شديد الإيلام لقلوبهم، لما في منازعة الحق نفوسهم من صَولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم، وتشمئز منها نفوسهم، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم‏.‏ وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏

والباء في ‏{‏بآيات الله‏}‏ لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني، والمفعولُ الأول محذوف، والتقدير‏:‏ تذكيري إياكم‏.‏

و ‏{‏آيات الله‏}‏ مفعول ثان للتذكير‏.‏

يقال‏:‏ ذكرته أمراً نسيه، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذكرهم بأيام الله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏، وقول مسور بن زيادةَ الحارثي‏:‏

أذَكَّر بالبقيا على من أصابني *** وبقياي أني جاهد غير مؤتلي

ولذلك قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله‏.‏

وآيات الله‏:‏ دلائل فضله عليهم، ودلائل وحدانيته، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل، فكان يذكرهم بها، وذلك يُبرمهم ويحرجهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فعلى الله توكلت‏}‏ جواب شرط ‏{‏إن كان كبُر عليكم مقامي‏}‏ باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم، وهم في كثرة ومنعَة وهو في قلة وضعف، لا يصُده عن استمرار الدعوة، وأنه وإن كان بينهم وحيداً فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله‏.‏ ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله‏:‏ ‏{‏فعلى الله توكلت‏}‏ أي لا على غيره‏.‏

والتوكل‏:‏ التعويل على من يدبر أمره‏.‏ وقد مر عند قوله‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏

والفاء في فأجمعوا أمركم‏}‏ للتفريع على جملة ‏{‏على الله توكلت‏}‏ فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول‏:‏ إن كان كبُر عليكم مقامي الخ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت، كما قال هود لقومه ‏{‏فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏

وإجماع الأمر‏:‏ العزم على الفعل بعد التردد بين فِعله وفعل ضده‏.‏ وهوَ مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جَمَع ما كان متفرقاً‏.‏ فالهمزة فيه للجعل، أي جعلَ أمره جمعاً بعد أن كان متفرقاً‏.‏

ويقولون‏:‏ جاؤوا وأمرهم جميع، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف‏.‏

والأمر‏:‏ هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله‏.‏

و ‏{‏شركاءكم‏}‏ منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه‏.‏ والواو بمعنى ‏(‏مع‏)‏ أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم‏.‏

وقرأ يعقوب ‏{‏وشركاؤكم‏}‏ مرفوعاً عطفاً على ضمير ‏{‏فأجمعوا‏}‏، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول‏.‏ والمعنى‏:‏ وليجْمَع شركاؤكم أمرَهم‏.‏

وصيغة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا‏}‏ مستعملة في التسوية، أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته‏.‏ وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشاً من القوم، وذلك تهكم بهم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 195‏]‏‏.‏

وعطْف جملة‏:‏ ‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة‏}‏ ب ‏{‏ثم‏}‏ الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يُهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم‏.‏

وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأنّ شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباساً عليهم، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك‏.‏

والغمة‏:‏ اسم مصدر للغم‏.‏ وهو الستر‏.‏ والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي، وهو انبهام الحال، وعدم تبين السداد فيه، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل‏:‏

لعمرك ما أمري علي بغمة *** نهاري ولا ليلي علي بسرمد

وإظهار لفظ الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ثم لا يكن أمركم عليكم غمة‏}‏ مع أنه عين الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم‏}‏ لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم اقضوا إلي‏}‏ للتراخي في الرتبة، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاهُ أقوى من تدبير ذلك، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه، فعطف ب ‏(‏ثم‏)‏ التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل‏.‏

و ‏{‏اقضُوا‏}‏ أمر من القضاء، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي‏.‏ ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم، وهو قريب من الوجه الأول، أي أنفذوا حكمكم‏.‏

وعدي ب ‏(‏إلى‏)‏ دون ‏(‏على‏)‏ لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصاً على معنى التنفيذ بالفعل، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو، ويكون بالفعل، فهو قضاء بتنفيذ‏.‏ ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تُنظرون‏}‏ تأكيد المدلول التضمين المشار إليه بحرف ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ والإنظار التأخير، وحذفت ياء المتكلم من ‏{‏تنظرون‏}‏ للتخفيف، وهو حذف كثير في فصيح الكلام، وبقاء نون الوقاية مشعر بها‏.‏