فصل: تفسير الآية رقم (27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

عطف قول المَلأ من قومه بالفاء على فعل ‏{‏أرسلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 25‏]‏ للإشارة إلى أنهم بادروه بالتكذيب والمجادلة الباطلة لمّا قال لهم‏:‏ ‏{‏إني لكم نذيرٌ مبينٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 25‏]‏ إلى آخره‏.‏ ولم تقع حكاية ابتداء محاورتهم إياه ب ‏(‏قال‏)‏ مجرداً عن الفاء كما وقع في الأعراف لأن ابتداء محاورته إياهم هنا لم يقع بلفظ القول فلم يحك جوابهم بطريقة المحاورات بخلاف آية الأعراف‏.‏

والملأ‏:‏ سادة القوم‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 60‏]‏‏.‏

جزموا بتكذيبه فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه، وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرف مصطلح عليه قوامه الشجاعة والكرم، وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسباباً مادية جسدية، فيسوّدون أصحاب الأجسام البَهْجة كأنهم خشب مسندة لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حسن الذوات، ويسوّدون أهل الغنى لأنهم يطمعون في نوالهم، ويسوّدون الأبطال لأنهم يُعدونهم لدفاع أعدائهم‏.‏ ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إمّا بمخالطتهم وإما بمخالطة أتباعهم فإذا تسامعوا بسيّد قوم ولم يعرفوه تعرّفوا أتباعَه وأنصاره، فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتّبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة؛ وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني‏.‏

فلما دعاهم نوح عليه السّلام دعوةً علموا منها أنّه يقودهم إلى طاعته ففكروا وقدّروا فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح عليه السلام ومن الذين اتّبعوه فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم فجزموا بتكذيبه فيما ادّعاه من الرسالة بسيادة للأمة وقيادة لها‏.‏

وهؤلاء لقصود عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق، فذهبوا يتطلّبون الكمال من أعراض تعرض للناس بالصدفة من سعة مال، أو قوة أتباع، أو عزة قبيلة‏.‏ وتلك أشياء لا يطرد أثرها في جلب النفع العام ولا إشعار لها بكمال صاحبها إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولاً، والحيوان الأعجم مثل البقرة بما في ضرعها من لبن، والشاة بما على ظهرها من صوف، بل غالب حالها أنها بضد ذلك‏.‏

وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن، أو زيادة خلقة لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة، وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنّها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات، فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمَها والطواويس، فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم وإجادة الرماية والمجالدة والشجاعة على لقاء العدو‏.‏ وهذه أشبه بأن تعدّ في أسباب الكمال ولكنها مكمّلات للكمال الإنساني لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين، وبدون ذلك تكون آلات لإنفاذ المقاصد السيّئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطّاع الطريق والشّطّار، ومثل القوة على خلع الأبواب لاقتحام منازل الآمنين‏.‏

وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس واستقامة العقل، فهما السبب المطّرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم، ولهما تكون القوى المنفّذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدّين، على أن ذلك معرض للخطأ وغيبة الصواب فلا يكون له العصمة من ذلك إلاّ إذا كان محفوفاً بالإرشاد الإلهي المعصوم، وهو مقام النبوءة والرسالة‏.‏

فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لمّا قَصروا عن إدراك أسباب الكمال وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحاً عليه السلام وأتباعه فلم يروه من جنس غير البشر، وتأمّلوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميّزهم عن الناس وربّما كان في عموم الأمة من هم أجمل وجوهاً أو أطول أجساماً‏.‏

من أجل ذلك أخطأوا الاستدلال فقالوا‏:‏ ‏{‏ما نراك إلاّ بشراً مثلنا‏}‏ فأسندوا الاستدلال إلى الرؤية‏.‏ والرؤية هنا رؤية العين لأنّهم جعلوا استدلالهم ضرورياً من المحسوس من أحوال الأجسام، أي ما نراك غير إنسان، وهو مماثل للنّاس لا يزيد عليهم جوارح أو قوائم زائدة‏.‏

والبشَر محركة‏:‏ الإنسان ذكراً أو أنثى، واحداً كان أو جمعاً‏.‏ قال الراغب‏:‏ «عبر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور بشرته وهي جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر» أي والريش‏.‏ والبشر مرادف الإنسان فيطلق كما يطلق الإنسان على الواحد والأكثر، والمؤنث والمذكر‏.‏ وقد يثنى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنؤمن لبشرين مثلنا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقالوا‏:‏ ‏{‏وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا‏}‏ فجعلوا أتباع الناس المعدودين في عادتهم أراذل محقورين دليلاً على أنه لا ميزة له على سادتهم الذين يلوذ بهم أشراف القوم وأقوياؤهم‏.‏ فنفوا عنه سبب السيادة من جهتي ذاته وأتباعه، وذلك تعريض بأنهم لا يتبعونه لأنهم يترفعون عن مخالطة أمثالهم وأنه لو أبعدهم عنه لاتبَعوه، ولذلك ورد بعده ‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏

والأرذال‏:‏ جمع أرذل المجعول اسماً غير صفة كذلك على القياس، أو جمع رذيل على خلاف القياس‏.‏ والرذيل‏:‏ المحتقر‏.‏ وأرادوا أنهم من لفيف القوم غير سادة ولا أثرياء‏.‏ وإضافة ‏(‏أراذل‏)‏ إلى ضمير جماعة المتكلمين لتعيين القبيلة، أي أراذل قومنا‏.‏ وعبّر عنهم بالموصول والصّلة دون أن يقال‏:‏ إلا أراذلنا لحكاية أن في كلام الذين كفروا إيماء إلى شهرة أتباع نوح عليه السلام بين قومهم بوصف الرذالة والحقارة، وكان أتباع نوح عليه السلام من ضعفاء القوم ولكنهم من أزكياء النفوس ممّن سبق لهم الهدى‏.‏

و ‏{‏بادي‏}‏ قرأه الجمهور بياء تحتية في آخره على أنه مشتق من بدَا المقصور إذا ظهر، وألفهُ منقلبة عن الواو لما تحركت وانفتح ما قبلها، فلما صيغ منه وزن فاعل وقعت الواو متطرفة إثر كسرة فقلبت ياء‏.‏

والمعنى فيما يبدو لهم من الرأي دون بحث عن خفاياه ودقائقه‏.‏

وقرأه أبو عَمرو وحده بهمزة في آخره على أنه مشتق من البداء، وهو أول الشيء‏.‏

والمعنى‏:‏ فيما يقع أول الرأي، أي دون إعادة النظر لمعرفة الحق من التمويه، ومآل المعنيين واحد‏.‏

والرأي‏:‏ نظر العقل، مشتق من فعل رأى، كما استعمل رأى بمعنى ظن وعلم‏.‏

يعنون أن هؤلاء قد غرتهم دعوتك فتسرعوا إلى متابعتك ولو أعادوا النظر والتأمل لعلموا أنك لا تستحق أن تتبع‏.‏

وانتصاب ‏{‏بادى الرأي‏}‏ بالنيابة عن الظرف، أي في وقت الرأي دون بحث عن خفيّه، أو في الرأي الأول دون إعادة نظر‏.‏

وإضافة ‏{‏بادى‏}‏ إلى ‏{‏الرأي‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعنى كلامهم‏:‏ لا يلبث أن يرجع إلى متبعيك رُشدُهم فيعيدوا التأمل في وقت آخر ويُكشف لهم خَطؤُهم‏.‏

ولما وصفوا كل فريق من التابع والمتبوع بما ينفي سيادة المتبوع وتزكية التابع جَمَعوا الوصف الشامل لهما‏.‏ وهو المقصود من الوصفين المفرقين‏.‏ وذلك قولهم‏:‏ ‏{‏وما نَرى لكم علينا من فضل‏}‏ فنفوا أن يكون لنوح عليه السّلام وأتباعه فضل على الذين لم يؤمنوا به حتى يكون نوح عليه السلام سيّداً لهم ويكون أتباعه مفضلين بسيادة متبوعهم‏.‏

والفضل‏:‏ الزيادة في الشرف والكمال، والمراد هنا آثاره وعلاماته لأنها التي تُرى، فجعلوا عدم ظهور فضل لهم عليهم دليلاً على انتفاء فضلهم، لأنّ الشيء الذي لا تخفى آثاره يصح أن يجعل انتفاء رؤيتِها دليلاً على انتفائها إذ لو ثبتت لرئَيت‏.‏

وجملة ‏{‏بل نظنّكم كاذبين‏}‏ إبطال للمنفي كلّه الدال على صدقه في دعواه بإثبات ضد المنفي، وهو ظنهم إياهم كاذبين لأنّه إذا بطل الشيء ثبت ضدّه، فزعموا نوحاً عليه السلام كاذباً في دعوى الرسالة وأتباعه كاذبين في دعوى حصول اليقين بصدق نوح عليه السّلام، بل ذلك منهم اعتقاد باطل، وهذا الظن الذي زعموه مستند إلى الدليل المحسوس في اعتقادهم‏.‏

واستعمل الظن هنا في العلم كقوله‏:‏ ‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 46‏]‏ وهو إطلاق شائع في الكلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

فُصلت جملة ‏{‏قال يا قوم‏}‏ عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدّمناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعِلٌ في الأرض خليفةٌ‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، فهذه لما وقعت مقابلاً لكلام محكي يقال فصلت الجملة ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏فقال الملأ الذين كفروا من قومه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيراً لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلاّ خيراً‏.‏

وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدلّلاً بأنهم ما رأوا له مزية وفضلاً، وما رأوا أتباعه إلاّ ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه، سلك نوح عليه السلام في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لِردّ أقوالهم، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي‏}‏ إلى آخره‏.‏ معناه إن كنتُ ذا برهان واضح، ومتصفاً برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى، فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها، أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها‏.‏ وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملاً بريئاً من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته‏.‏

و ‏{‏أرأيتم‏}‏، استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد‏.‏ وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غيرَ عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسدّ مفعولي ‏(‏رأيتُم‏)‏، ولذلك كان معناه آيلاً إلى معنى أخبروني، ولكنّه لا يستعمل إلاّ في طلب مَن حاله حالُ من يجحد الخبر، وقد تقدم معناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتةً أو جهرة‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن كنتُ على بينة من ربي إلى قوله فعَميت عليكم‏}‏ معترضة بين فعل ‏{‏أرأيتم‏}‏ ومَا سدّ مسد مفعوليه‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أنلزمكموها‏}‏ إنكاري، أي لا نكرهكم على قبولها، فعُلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة‏.‏ والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة‏.‏

والبينة‏:‏ الحجة الواضحة، وتطلق على المعجزة، فيجوز أن تكون معجزته الطوفان، ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر، فإن بعثة الرسل عليهم السّلام لا تخلو من معجزات‏.‏

والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه، مع ما صحبها من البيّنة لأنّها من تمامها، فعطف ‏(‏الرحمة‏)‏ على ‏(‏البينة‏)‏ يقتضي المغايرة بينهما، وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به، ولذلك لما أعيد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فعميت‏}‏ أعيد على ‏(‏الرحمة‏)‏ لأنها أعم‏.‏

و ‏{‏عليكم‏}‏ متعلقة ب ‏(‏عميت‏)‏ وهو حرف تتعدى به الأفعال الدّالة على معنى الخفاء، مثل‏:‏ خفي عليك‏.‏ ولما كان عمي في معنى خفي عُدّي ب ‏(‏على‏)‏، وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن، أي قوة ملازمة البينة والرحمة له‏.‏

واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدّلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به‏.‏

ومعنى ‏{‏فعميت‏}‏ فخفيت، وهو استعارة، إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه‏.‏ ولمّا ضمّن معنى‏:‏ الخفاء عدي فعل ‏(‏عميت‏)‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ تجريداً للاستعارة‏.‏ وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا ثمود الناقة مبصرةً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏، أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة، ولذلك سمّي جحدهم إياها ظلماً فقال‏:‏ ‏{‏فظلموا بها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقاً لمقابلة قولهم في مجادلتهم ‏{‏ما نراك إلاّ بشراً وما نراك اتّبعك وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏‏.‏ فقابل نوح عليه السلام كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العَمى‏.‏

وعطف ‏(‏عَميت‏)‏ بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم‏.‏ وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل‏.‏

وجملة ‏{‏أنلزمكموها‏}‏ سادة مسد مفعولي ‏{‏أرأيتم‏}‏ لأن الفعل علّق عن العمل بدخول همزة الاستفهام‏.‏

وجوابُ الشرط محذوف دلّ عليه فعل ‏{‏أرأيتم‏}‏ وما سدّ مسد مفعوليه‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ قال يا قوم إن كنت على بيّنة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون‏.‏

وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فُرض وقوعه لكان له أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يُهيب بهم‏.‏ والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم‏.‏

والاستفهام إنكاري، أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضاً عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله، وذلك أشد في توقع العقاب العظيم‏.‏

والكاره‏:‏ المبغض لشيء‏.‏ وعدّي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة، أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبّر فيها‏.‏

وتقديم المجرور على ‏{‏كارهون‏}‏ لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها‏.‏ والمقصود من كلامه بعْثهم على إعادة التأمل في الآيات‏.‏ وتخفيض نفوسهم‏.‏ واستنزالُهم إلى الإنصاف‏.‏ وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

إعادة الخطاب ب ‏{‏يا قوم‏}‏ تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني الّتي ذكرناها، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى، كقول المعري‏:‏

يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر *** لعل بالجزع أعواناً على السهر

ثم قال‏:‏

ويا أسيرة حجليها أرى سفها *** حَمْلَ الحُلي بمن أعيَا عن النظر

فأما إذا اتّحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة ‏[‏مريم‏:‏ 42 45‏]‏ ‏{‏إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر إلى قوله وَلِيّاً‏}‏ فقد تكرّر النداء أربع مرات‏.‏

فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح عليه السّلام لا من حكاية الله عنه‏.‏ ثمّ يجوز أن يكون تنبيهاً على اتّصال النداءات بعضها ببعض، وأن أحدها لا يغني عن الآخر، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي‏.‏ ويجوز أن يكون ذلك تفنناً عربياً في الكلام عند تكرر النداء استحساناً للمخالفة بين التأكيد والمؤكد‏.‏ وسيجيء نظير هذا قريباً في قصة هود عليه السلام وقصة شعيب عليه السّلام‏.‏

ومنه ما وقع في سورة ‏[‏المؤمن‏:‏ 30 33‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذي آمن يا قوم إني أخَافُ عَليْكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوححٍ وعادٍ وثمود والذينَ مِن بعَدهم وما الله يريد ظلماً للعباد ويا قوم إنّي أخَافُ علَيكُم يَوْم التنادِ يوم تُولّون مُدبرين ما لكم من الله من عاصمٍ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وقال الذي آمن يا قوم اتبعوننِ أهدكم سبيل الرشاد، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار، من عملَئَة فَلا يُجزى إلاّ مثلَها ومَن عمِل صالحاً من ذكر أو أنْثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساببٍ ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النّار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 38 41‏]‏‏.‏ فعطف ‏(‏ويا قوم‏)‏ تارة وترك العطف أخرى‏.‏

وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم، وقيل حاتم الطائيء‏:‏

أيا ابنةَ عبد الله وابنةَ مالك *** ويا ابنةَ ذي البُردين والفرس الورد

فقوله‏:‏ ‏(‏ويابنة ذي البردين‏)‏ عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد‏.‏

لما أظهر لهم نوح عليه السّلام أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به، وأنه لا يريد نفعاً دنيوياً بأنّه لا يسألهم على ما جاء به مالاً يعطونه إياه، فماذا يتهمونه حتّى يقطعون بكذبه‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏عليه‏}‏ عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة‏.‏

وجملة ‏{‏إن أجْري إلاّ على الله‏}‏ احتراس لأنه لمّا نفى أن يسألهم مالاً، والمال أجر، نشأ توهّم أنه لا يسأل جَزاء على الدعوة فجاء بجملة ‏{‏إن أجْري إلاّ على الله‏}‏ احتراساً‏.‏ والمخالفة بين العبارتين في قوله‏:‏ ‏{‏مالا‏}‏ و‏{‏أجري‏}‏ تفيد أنه لا يسأل من الله مالاً ولكنه يسأل ثواباً‏.‏ والأجر‏:‏ العوض على عمل‏.‏ ويسمّى ثواب الله أجراً لأنّه جزاء على العمل الصالح‏.‏

وعطف جملة ‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا‏}‏ على جملة ‏{‏لا أسألكم عليه مالاً‏}‏ لأنّ مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء‏.‏ ولذلك عبّر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ لِما يؤذن به الموصول من تغليظ قومه في تعريضهم له بأن يُطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذاناً بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبةَ فيهم فكيف يطردهم‏.‏ وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم‏:‏ ‏{‏وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته‏.‏

والطرد‏:‏ الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيراً أو زجراً‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنهم ملاقوا ربهم‏}‏ في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسبٌ من يَطردهم، هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة، أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأنّي أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصّني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربّهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إليّ‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفَر الثلاثة الذين حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فجلس أحدهم، واستحَيَا أحدهم، وأعرض الثالث «أمّا الأول فآوَى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه»‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنّ‏)‏ إنْ كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث، وإنْ كان اللقاء مجازاً فالتّأكيد للاهتمام بذلك اللقاء‏.‏ وقد زيد هذا التأكيد تأكيداً بجملة ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏‏.‏

وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة ‏{‏إنهم ملاقوا ربهم‏}‏ أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏تجهلون‏}‏ للعلم به، أي تجهلون ذلك‏.‏

وزيادة قوله‏:‏ ‏{‏قوماً‏}‏ يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآياتتٍ لقوممٍ يعقلون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

إعادة ‏{‏ويا قوم‏}‏ مثل إعادته في الآية قبلها‏.‏

والاستفهام إنكاري‏.‏ والنصر‏:‏ إعانة المقاوم لضدّ أو عدوّ، وضمن معنى الإنجاء فعدّي ب ‏(‏مِن‏)‏ أي مَن يخلصني، أي ينجيني من الله، أي من عقابه، لأن طردهم إهانة تؤذيهم بلا موجب معتبر عند الله، والله لا يحب إهانة أوليائه‏.‏

وفرع على ذلك إنكاراً على قومه في إهمالهم التذكر، أي التأمل في الدلائل ومدلولاتها، والأسباب ومسبّباتها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تذّكّرون‏}‏ بتشديد الذال‏.‏

وأصل ‏{‏تذّكرون‏}‏، تتذكرون فأبدلت التاء ذالاً وأدغمت في الذّال‏.‏ وقرأه حفص «تذكرون» بتخفيف الذّال وبحذف إحدى التاءين‏.‏ والتذكر تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا‏}‏ في آخر سورة الأعراف ‏(‏201‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

هذا تفصيل لما ردّ به مقالة قومه إجمالاً، فهم استدلوا على نفي نبُوّته بأنهم لم يروا له فضلاً عليهم، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجَب أنه لم يدع فضلاً غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه عليهم السّلام في قوله‏:‏ ‏{‏قالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 11‏]‏، ولذلك نفى أن يكون قد ادّعى غير ذلك‏.‏ واقتصر على بعض ما يتوهّمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم، أو أن يعلم الأمور الغائبة‏.‏ والقول بمعنى الدعوى، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدّلالة على أنّه منتف عنه ذلك في الحال، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله، أي لا تظنوا أني مضمر ادّعاء ذلك وإن لم أقله‏.‏

والخزائن‏:‏ جمع خِزانة بكسر الخاء وهي بيت أو مِشكاة كبيرة يجعل لها باب، وذلك لِخزن المال أو الطعام، أي حفظه من الضياع‏.‏ وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية؛ شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تُدخر في الخزائن، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبّه به وهو الخزائن‏.‏ وإضافة ‏{‏خزائن‏}‏ إلى ‏{‏الله‏}‏ لاختصاص الله بِها‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ولا أقول إني ملك‏}‏ فنفي لشبهة قولهم‏:‏ ‏{‏ما نراك إلاّ بشراً مثلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ ولذلك أعاد معه فعل القول، لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به، وتأكيده ب ‏(‏إنّ‏)‏ لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكداً لشدة إنكاره لو ادعاه مدّع، فلما نفاه نفى صيغة إثباته‏.‏ ولمّا أراد إبطال قولهم‏:‏ ‏{‏وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سبباً لانتفاء فضلهم، فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وقلة وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية، وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غيرَ المراد منه فيما قيل، فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد، وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمون ذلك ويقدرونه‏.‏

والازدراء‏:‏ افتعال من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب، فأصله‏:‏ ازتراء، قلبت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كما قلبت في الازدياد‏.‏

وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالباً، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر‏.‏ ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى‏:‏

كذلك فافعل ما حييت إذا شتَوْا *** وأقدم إذا ما أعينُ الناس تَفرَقُ

ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَحروا أعْينَ الناس‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏ وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين‏.‏

وجيء في النفي بحرف ‏{‏لن‏}‏ الدّالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضاً بقومه لأنّهم جعلوا ضعف أتباع نوح عليه السّلام وفقرهم دليلاً على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء، فلسان حالهم يقول‏:‏ لن ينالوا خيراً، فكان رده عليهم بأنه لا يقول‏:‏ ‏{‏لن يؤتيهم الله خيراً‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏الله أعلم بما في أنفسهم‏}‏ تعليل لنفي أن يقول‏:‏ ‏{‏لن يؤتيهم الله خيراً‏}‏‏.‏ ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف، ومعنى ‏{‏الله أعلم بما في أنفسهم‏}‏ أن أمرهم موكول إلى ربهم الذي علم ما أودعه في نفوسهم من الخير والذي وفقهم إلى الإيمان، أي فهو يعاملهم بما يعلم منهم‏.‏ وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم‏:‏ ‏{‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي اللّهُ أعلم بها‏.‏

واسم التفضيل هنا مسلوبُ المفاضلة مقصود منه شدة العلم‏.‏

وجملة ‏{‏إني إذن لمن الظالمين‏}‏ تعليل ثان لنفي أن يقول‏:‏ ‏{‏لن يؤتيهم الله خيراً‏}‏‏.‏ و‏{‏إذن‏}‏ حرف جواب وجزاء مجازاة للقَول، أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين، وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم، ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لمن الظالمين‏}‏ أبلغ في إثبات الظلم من‏:‏ إني ظالم، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وأكده بثلاث مؤكدات‏:‏ إنّ ولام الابتداء وحرف الجزاء، تحقيقاً لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم، لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك‏.‏ وسيجيء في سورة الشعراء ذكر موقف آخر لنوح عليه السلام مع قومه في شأن هؤلاء المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

فصلت هذه الجملة فصلاً على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما تقدم في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة‏.‏

والمجادلة‏:‏ المخاصمة بالقول وإيراد الحجّة عليه، فتكون في الخير كقوله‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏، ويكون في الشر كقوله‏:‏ ‏{‏ولا جدال في الحجّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏‏.‏ وإنما أرادوا أنه جادلهم فيما هو شر فعبّر عن مرادهم بلفظ الجدال الموجّه، وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 107‏]‏‏.‏

وهذا قول وقع عقب مجادلته المحكية في الآية قبل هذه، فتعين أن تلك المجادلة كانت آخر مجادلة جادَلها قومه، وأن ضجرهم وسآمتهم من تكرار مجادلته حصل ساعتئذٍ فقالوا قولهم هذا، فكانت كلها مجادلات مضت‏.‏ وكانت المجادلة الأخيرة هي الّتي استفزّت امتعاضهم من قوارع جدله حتى سئموا من تزييف معارضتهم وآرائهم شأن المبطل إذا دمغته الحجة، ولذلك أرادوا طي بساط الجدال، وأرادوا إفحامه بأن طلبوا تعجيل ما توعدهم من عذاب ينزل بهم كقوله آنفاً‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏فأكثرت جِدَالَنا‏}‏ خبرٌ مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع، أجابهم بالمبادرة لِبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته‏.‏

والإتيان بالشيء‏:‏ إحضاره‏.‏ وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره‏.‏

و ‏{‏ما تَعِدنا‏}‏ مصداقه ‏{‏عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والقصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنما يأتيكم به الله إن شاء‏}‏ قصر قلب بناء على ظاهر طلبهم، حملاً لكلامهم على ظاهره على طريقة مجاراة الخصم في المناظرة، وإلاّ فإنهم جازمون بتعذّر أن يأتيهم بما وعدهم لأنهم يحسبونه كاذباً وهم جازمون بأنّ الله لم يتوعدهم، ولعلّهم كانوا لا يؤمنون بوجود الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن شاء‏}‏ احتراس راجع إلى حمل العذاب على عذاب الدنيا‏.‏

ومعنى ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ ما أنتم بناجين وفالتين من الوعيد، يريد أن العذاب واقع لا محالة‏.‏ ولعل نوحاً عليه السّلام لم يكن له وحي من الله بأن يحلّ بهم عذاب الدنيا، فلذلك فوّضه إلى المشيئة؛ أو لعلّه كان يوقن بنزوله بهم فيكون التعليق ب ‏{‏إن شاء‏}‏ منظوراً فيه إلى كون العذاب معجلاً أو مؤخراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

عَطَف على وعظهم بحلول العذاب وتوقعه بيانَ حال مجادلته إيّاهم التي امتعضوا منها بأنها مجادلة لنفعهم وصلاحهم، وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتسفيه آرائهم حيث كرهوا ما هو نفع لهم‏.‏

والنصح‏:‏ قول أو عمل يريد صاحبه صلاح المعمول لأجله‏.‏ وأكثر ما يطلق على الأقوال النافعة المنقذة من الأضرار‏.‏ ويكون بالعمل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏ في سورة ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «الدين النصيحة لله ولرسوله» أي الإخلاص في العمل لهما لأنّ الله لا ينبّأ بشيء لا يعلمه‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونصحتُ لكم ولكن لا تحبون النّاصحين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 79‏]‏‏.‏ فالمراد بالنصح هنا هو ما سمّاه قومه بالجدال، أي هو أولى بأن يسمّى نصحاً، لأن الجدال يكون للخير والشر كما تقدم‏.‏

وجملة الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ هي المقصود من الكلام، فجوابها في معنى قوله‏:‏ ‏{‏لا ينفعكم نصحي‏}‏ ولكن نظم الكلام بني على الإخبار بعدم نفع النصح اهتماماً بذلك فجعل معطوفاً على ما قبله وأتي بالشرط قيداً له‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏إن أردت أن أنصح لكم‏}‏ فهو شرط معترض بين الشرط وبين دليل جوابه لأنه ليس هو المقصود من التعليق ولكنه تعليق على تعليق، وغير مقصود به التقييد أصلاً، فليس هذا من الشرط في الشروط المفروضة في مسائل الفقه وأصوله في نحو قول القائل‏:‏ إن أكلت، إن شربت فأنت طالق، لأنها مفروضة في شرط مقيّد لشرط آخر‏.‏ على أن المقصود إذا اجتمع فعلا الشرطين حصل مضمون جوابهما‏.‏ ومثلوه بقول الشاعر

إن تستغيثوا بنا إن تُذْعَروا تَجدوا *** مِنّا مَعاقِل عزّ زانها كرم

فأما قوله‏:‏ ‏{‏إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ فكل من الشرطين مقصود التعليق به‏.‏ وقد حذف جواب أحدهما لدلالة جواب الآخر عليه‏.‏

والتعليق بالشرط في قوله‏:‏ ‏{‏إن أردت أن أنصح لكم‏}‏ مؤذن بعزمه على تجديد النصح في المستقبل لأن واجبه هو البلاغ وإن كرهوا ذلك‏.‏

وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ إلى ما هم فيه من كراهية دعوة نوح عليه السلام سببه خذلان الله إيّاهم ولولاه لنفعهم نصحه، ولكن نوحاً عليه السلام لا يعلم مراد الله من إغوائهم ولا مدى استمرار غوايتهم فلذلك كان عليه أن ينصح لهم إلى نهاية الأمر‏.‏

وتقدم الكلام على دخول اللام على مفعول ‏(‏نصح‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏ في ‏[‏براءة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

والإغواء‏:‏ جعل الشخص ذا غَواية، وهي الضلال عن الحق والرشد‏.‏

وجملة هو ربكم‏}‏ ابتدائية لتعليمهم أن الله ربهم إن كانوا لا يؤمنون بوجود الله، أو لتذكيرهم بذلك إن كانوا يؤمنون بوجوده ويشركون معه وُدّاً، وسوَاعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً‏.‏

والتقديم في ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ للاهتمام ولرعاية الفاصلة وليس للقصر، لأنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً بله أن يزعموا أنهم يُحْضرون إلى الله وإلى غيره‏.‏

وتمثلتْ فيما قصه الله من قصة نوح عليه السلام مع قومه صورة واضحة من تفكير أهل العقول السخيفة التي ران عليها الضلال فقلبَ أفكارها إلى اعوجاج فظيع، وهي الصورة التي تتمثل في الأمم التي لم يثقّف عقولها الإرشاد الديني فغلب عليها الانسياق وراء داعي الهوى، وامتلكها الغرور بظن الخطأ صواباً، ومصانعة مَن تصأصئ عين بصيرته بلائح من النور، من يدعوه إلى إغماضها وعدمت الوازع النفساني فلم تعبأ إلاّ بالصور المحوسة ولم تهتمّ إلا باللذات وحب الذات ولا تزن بمعيار النقد الصحيح خلوص النفوس من دَخَل النقائص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

جملة معترضة بين جملة أجزاء القصة وليست من القصة، ومن جعلها منها فقد أبعد، وهي تأكيد لنظيرها السابق في أول السورة‏.‏ ومناسبة هذا الاعتراض أن تفاصيل القصة التي لا يعلمها المخاطبون تفاصيل عجيبة تدعو المنكرين إلى أن يتذكروا إنكارهم ويعيدوا ذكره‏.‏

وكون ذلك مطابقاً لما حصل في زمن نوح عليه السلام وشاهدة بكتب بني إسرائيل يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن علمه بذلك مع أميته وبعد قومه عن أهل الكتاب آية على أنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏

فالاستفهام الذي يؤذن به حرف ‏{‏أم‏}‏ المختصّ بعطف الاستفهام استفهام إنكاري‏.‏ وموقع الإنكار بديع لتضمنه الحجّة عليهم‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ هنا للإضراب للانتقال من غرض لغرض‏.‏

وضمير النصب عائد إلى القرآن المفهوم من السياق‏.‏

وجملة ‏{‏قل‏}‏ مفصولة عن التي قبلها لوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة‏.‏

وأمِرَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن مجادلتهم بالدليل لأنهم ليسوا بأهل لذلك إذ قد أقيمت عليهم الحجة غير مرة فلم تغن فيهم شيئاً، فلذلك أجيبوا بأنه لو فرض ذلك لكانت تبعة افترائه على نفسه لا ينالهم منها شيء‏.‏

وتقديم ‏(‏عليّ‏)‏ مؤذن بالقصر، أي إجرامي عليّ لا عَليكم فلماذا تكثرون ادّعاء الافتراء كأنكم ستؤاخَذُون بتبعته‏.‏ وهذا جار على طريقة الاستدراج لهم والكلام المنصف‏.‏

ومعنى جعل الافتراء فعلاً للشرط‏:‏ أنه إن كان وقع الافتراء كقوله‏:‏ ‏{‏إن كنت قلته فقد علِمْته‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

ولما كان الافتراء على الله إجراماً عدل في الجواب عن التعبير بالافتراء مع أنهُ المدعى إلى التعبير بالإجرام فلا حاجة إلى تقدير‏:‏ فعليّ إجرام افترائي‏.‏

وذكر حرف ‏(‏على‏)‏ مع الإجرام مؤذن بأن الإجرام مؤاخذ به كما تَقتضيه مادة الإجرام‏.‏

والإجرام‏:‏ اكتساب الجرم وهو الذنب، فهو يقتضي المؤاخذة لا محالة‏.‏

وجملة ‏{‏وأنا بريء مما تجرمون‏}‏ معطوفة على جملة الشرط والجزاء، فهي ابتدائية‏.‏ وظاهرها أنها تذييل للكلام وتأييده بمقابله، أي فإجرامِي عليّ لا عليكم كما أن إجرامكم لا تنالني منه تَبعة‏.‏ ولا حاجة إلى تقدير المضاف في قوله‏:‏ ‏{‏مما تجرمون‏}‏ أي تبعته وإنما هو تقدير معنى لا تقدير إعراب، والشيءُ يؤكد بضدّه كقوله‏:‏ ‏{‏لاَ أعبد ما تَبعدُون ولا أنتم عابدون ما أعبد‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏

وفي هذه الجملة توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتريَ القرآن فإنّ افتراء القرآن دعوى باطلة ادعَوها عليه فهي إجرام منهم عليه، فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه عليّ باطلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قالوا يا نوح قد جادلتنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 32‏]‏ أي بعد ذلك أوحي إلى نوح عليه السّلام ‏{‏أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن‏}‏‏.‏

واسم ‏(‏أن‏)‏ ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف ‏{‏لن‏}‏ المفيد تأبيد النفي في المستقبل، وذلك شديد عليه ولذلك عقب بتسليته بجملة ‏{‏فلا تبتئس بما كانوا يفعلون‏}‏ فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن‏.‏

والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن، أي لا تحزن‏.‏

ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور‏.‏ ‏{‏بما كانوا يفعلون‏}‏ هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا‏.‏ قال الله تعالى حكاية عنه‏:‏ ‏{‏فلم يزدهم دعائي إلاّ فِراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏

وتأكيد الفعل ب ‏{‏قَد‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من قَد آمن‏}‏ للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقيناً دون الذين ترددوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

لما كان نهيه عن الابتئاس بفعلهم مع شدة جرمهم مؤذناً بأن الله ينتصر له، أعقبه بالأمر بصنع الفلك لتهيئة نجاته ونجاة من قد آمن به من العذاب الذي قدره الله لقومه، كما حكى الله عنه ‏{‏فدعا ربّه أني مغلوبٌ فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10، 11‏]‏ الآية، فجملة ‏{‏واصنع الفلك‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فلا تبتئس‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ وهي بذلك داخلة في الموحى به فتدل على أن الله أوحى إليه كيفية صنع الفلك كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ووَحينا‏}‏، ولذلك فنوح عليه السّلام أول من صنع الفلك ولم يكن ذلك معروفاً للبشر، وكان ذلك منذ قرون لا يحصيها إلاّ الله تعالى، ولا يعتد بما يوجد في الإسرائيليات من إحصاء قرونها‏.‏

والفلك اسم يستوي فيه المفرد والجمع‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏.‏

‏(‏والباء في بأعيننا‏}‏ للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير ‏(‏اصنع‏)‏‏.‏

والأعين استعارة للمراقبة والملاحظة‏.‏ وصيغة الجمع في ‏{‏أعيننا‏}‏ بمعنى المثنى، أي بعينينا، كما في قوله‏:‏ ‏{‏واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏ والمراد الكناية بالمعنى المجازي عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخَطأ في الصنع‏.‏

والمراد بالوحي هنا الوحي الذي به وصف كيفية صنع الفلك كما دل عليه عطفه على المجرور بباء الملابسة المتعلقة بالأمر بالصنع‏.‏

ودل النهي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تخاطبني في الذين ظلموا‏}‏، على أن كفار قومه سينزل بهم عقاب عظيم لأن المراد بالمخاطبة المنهي عنها المخاطبة التي ترفع عقابهم فتكون لنفعهم كالشفاعة، وطلب تخفيف العقاب لا مطلق المخاطبة‏.‏ ولعل هذا توطئة لنهيه عن مخاطبته في شأن ابنه الكافر قبل أن يخطر ببال نوح عليه السلام سؤال نجاته حتى يكون الرد عليه حين السؤال ألَطَف‏.‏

وجملة ‏{‏إنهم مغرقون‏}‏ إخبار بما سيقع وبيان لسبب الأمر بصنع الفلك‏.‏ وتأكيد الخبر بحرف التوكيد في هذه الآية مثال لتخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل غير السائل المتردد منزلة السائل إذا قدم إليه من الكلام ما يلوّح إلى جنس الخبر فيستشرفه لتعيينه استشرافاً يشبه استشراف السائل عن عين الخبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏واصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37‏]‏، أي أوحي إليه ‏{‏اصنع الفلك‏}‏، وصَنَع الفلك‏.‏ وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحاً عليه السلام بصدد العمل، كقوله‏:‏ ‏{‏والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ وجملة ‏{‏وكلما مر عليه ملأ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يصنع‏}‏‏.‏

و ‏{‏كلّما‏}‏ كلمة مركبة من ‏(‏كل‏)‏ و‏(‏ما‏)‏ الظرفية المصدرية، وانتصبت ‏(‏كل‏)‏ على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف، وهو متعلّق ‏{‏سخروا‏}‏، وهو جوابه من جهة أخرى‏.‏ والمعنى‏:‏ وسَخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه‏.‏

و ‏(‏لما‏)‏ في ‏(‏كلما‏)‏ من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل ‏(‏إذا‏)‏ فاحتاجت إلى جواب وهو ‏{‏سَخروا منه‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏قال إن تسخروا منا‏}‏ حكاية لما يجيب به سخريتهم، أجريت على طريقة فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة، لأن جملة ‏{‏سخروا‏}‏ تتضمن أقوالاً تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم‏.‏

وجمع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِنّا‏}‏ يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذْ كانوا حَوله واثقين بأنه يعمل عَملاً عظيماً، وكذلك جمعه في قوله‏:‏ ‏{‏فإنّا نسخر منكم‏}‏‏.‏

والسخرية‏:‏ الاستهزاء، وهو تعجب باحتقار واستحماق‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فحَاق بالذين سَخروا منهم‏}‏ في أول سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏، وفعلها يتعدى ب ‏(‏من‏)‏‏.‏

وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه‏.‏

وسخرية نوح عليه السلام والمؤمنين، من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته‏.‏ فالسخريتان مقترنتان في الزمن‏.‏

وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كما تسخرون‏}‏ فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية، وإن كان بين السببيْن بَون‏.‏

ويجوز أن تجعل كاف التشبيه مفيدة معنى التعليل كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ فيفيد التفاوت بين السخريتين، لأن السخرية المعللة أحق من الأخرى، فالكفار سخروا من نوح عليه السلام لعمل يجهلون غايته، ونوح عليه السّلام وأتباعه سخروا من الكفار لعلمهم بأنهم جاهلون في غرور، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ فهو تفريع على جملة ‏{‏فإنّا نسخر منكم‏}‏ أي سيظهر مَن هو الأحق بأن يسخر منه‏.‏

وفي إسناد ‏(‏العلم‏)‏ إلى ضمير المخاطبين دون الضمير المشارك بأن يقال‏:‏ فسوف نعلم، إيماء إلى أن المخاطبين هم الأحق بعلم ذلك‏.‏ وهذا يفيد أدباً شريفاً بأن الواثق بأنه على الحق لا يزعزع ثقته مقابلة السفهاء أعماله النافعة بالسخرية، وأن عليه وعلى أتباعه أن يسخروا من الساخرين‏.‏

والخزي‏:‏ الإهانة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا إنك مَن تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ في آخر سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 192‏]‏‏.‏

والعذاب المقيم‏:‏ عذاب الآخرة، أي من يأتيه عذاب الخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الخالد في الآخرة‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ استفهامية معلّقة لفعل العِلم عن العمل، وحلول العذاب‏:‏ حصوله؛ شبه الحصول بحلول القادم إلى المكان وهو إطلاق شائع حتى ساوى الحقيقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏حتى‏}‏ غاية ل ‏{‏يصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏ أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا، ف ‏{‏إذا‏}‏ ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب‏.‏ وهو جملة ‏{‏قلنا احمل‏}‏‏.‏ وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء، وهو نظم بديع بإيجازه‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية‏.‏

والأمر هنا يحتمل أمْر التكوين بالطوفان، ويحتمل الشّأن وهو حادث الغرق، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنّه فوق ما يعرفون‏.‏

ومَجيء الأمر‏:‏ حصوله‏.‏

والفوران‏:‏ غليان القدر، ويطلق على نبع الماء بشدة، تشبيهاً بفوران ماء في القدر إذا غلي، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح عليه السّلام مثل قوله‏:‏ ‏{‏وفجّرنا الأرض عيوناً‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور، فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز، فكثرت الأقوال في تفسير التنور، بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله‏.‏ ومنها ما له وجه وهو متفاوت‏.‏

فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته، فجعل الغوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح عليه السّلام إذ أفار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركِب الفلكَ وأركبَ من معه‏.‏

ومنهم من حمل التنور على المَجاز المفرد ففسره بسطح الأرض، أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور‏.‏

ومنهم من فسره بأعلى الأرض‏.‏

ومنهم من حمل ‏{‏فار‏}‏ و‏{‏التنور‏}‏ على الحقيقة، وأخرج الكلام مَخرج التمثيل لاشتداد الحال، كما يقال‏:‏ حمي الوطيس‏.‏ وقع حكاية ذلك في تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون‏:‏ وأنشد الطبرسي قول الشاعر‏.‏ وهو النابغة الجعدي‏:‏

تفورُ علينا قِدرهم فنديمها *** ونفثأها عنّا إذا قِدرها غلى

يريد بالقدر الحرب، ونفثأها، أي نسكنها، يقال‏:‏ فثأ القِدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها‏.‏ وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين‏.‏

والذي يظهر لي أن قوله‏:‏ ‏{‏وفارَ التنور‏}‏ مثَل لبلوغ الشيء إلى أقصَى ما يتحمل مثله، كما يقال‏:‏ بلغ السيل الزُبى، وامتلأ الصاع، وفاضت الكأس وتفاقم‏.‏

والتنور‏:‏ محفل الوادي، أي ضفته، فيكون مثل طَما الوادي من قبيل بلغ السيل الزُبى‏.‏ والمعنى‏:‏ بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغاً لا يغتفر لهم بعدُ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما آسفونا انتقمنا منهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

والتنور‏:‏ اسم لمَوقد النار للخبز‏.‏ وزعمه‏.‏ الليث مما اتفقت فيه اللغات، أي كالصابون والسمور‏.‏ ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى ابن عباس‏.‏ وقال أبو منصور‏:‏ كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي‏.‏

والدليل على ذلك أنه فعّول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل، وقال غيره‏:‏ ليس في كلام العرب نون قبل رَاء فإن نرجس معرب أيضاً‏.‏

وقد عدّ في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن‏.‏ ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر ابن الحاجب الأصلي ونسب ذلك إلى ابن دريد‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ وزنه فَعّول‏.‏ وعن ثعلب أنه عربي، قال‏:‏ وزنه تَفعول من النور ‏(‏أي فالتاء زايدة‏)‏ وأصله تنوور بواوين، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ثم شددت النون عوضاً عما حذف أي مثل قوله‏:‏ تقَضّى البَازي بمعنى تقضّض‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏من كلّ زوجين‏}‏ بإضافة ‏{‏كل‏}‏ إلى ‏{‏زوجين‏}‏‏.‏

والزوج‏:‏ شيء يكون ثَانياً لآخَرَ في حالة‏.‏ وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجاً له، وكل منهما زوج للآخر‏.‏ والمراد ب ‏{‏زوجين‏}‏ هنا الذكر والأنثى من النوع، كما يدل عليه إضافة ‏{‏كل‏}‏ إلى ‏{‏زوجين‏}‏، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ تبعيضية، و‏{‏اثنين‏}‏ مفعول ‏{‏احمل‏}‏، وهو بيان لئلاّ يتوهّم أن يحمل كل زوجين واحداً منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏‏.‏ ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل‏.‏

وقرأه حفص ‏{‏من كلَ‏}‏ بتنوين ‏{‏كلَ‏}‏ فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه، أي من كل المخلوقات، ويكون ‏{‏زوجين‏}‏ مفعول ‏{‏احمل‏}‏، ويكون ‏{‏اثنين‏}‏ صفة ل ‏{‏زوجين‏}‏ أي لا تزد على اثنين‏.‏

وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له‏.‏ وزوجه أول من يبادر من اللفظ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وإذ غدوتَ من أهلك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ أي من عند عائشة رضي الله عنها‏.‏

و ‏{‏من سبق عليه القول‏}‏ أي من مضى قول الله عليه، أي وعيده‏.‏ فالتعريف في ‏{‏القول‏}‏ للعهد، يعني إلاّ من كان من أهلك كافراً‏.‏، وماصدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التّحريم وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة‏.‏ وكان لنوح عليه السّلام امرأتان‏.‏

وعدّي ‏{‏سبَق‏}‏ بحرف ‏{‏على‏}‏ لتضمين ‏{‏سَبَق‏}‏ معنى‏:‏ حَكَم، كما عدّي باللام في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏ لتضمينه معنى الالتزام النافع‏.‏

و ‏{‏مَن آمن‏}‏ كلّ المؤمنين‏.‏

وجملة ‏{‏وما آمن معه إلا قليل‏}‏ اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين‏.‏ قيل‏:‏ كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفاً وسبعين بين رجال ونساء، فكان معظم حمولة السفينة من الحَيوان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قلنا احمل فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ أي قلنا له ذلك‏.‏ وقال نوح عليه السّلام لمن أمر بحمله ‏{‏اركبوا‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏فيها‏}‏ لمفهوم من المقام، أي السفينة كقوله‏:‏ ‏{‏وحملناه على ذَات ألواححٍ ودُسرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 13‏]‏ أي سفينة‏.‏

وعدّي فعل ‏{‏اركبوا‏}‏ ب ‏(‏فيّ‏)‏ جرياً على الفصيح فإنه يقال‏:‏ رَكب الدابة إذا علاها‏.‏ وأما ركوب الفلك فيعدّى ب ‏(‏في‏)‏ لأن إطلاق الركوب عليه مجاز، وإنما هو جلوس واستقرار فلا يقال‏:‏ ركب السفينةَ، فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقي والركوب المشابه له، وهي تفرقة حسنة‏.‏

والباء في ‏{‏باسم الله‏}‏ للملابسة مثل ما تقدم في تفسير البسملة، وهي في موضع الحال من ضمير ‏{‏اركبوا‏}‏ أي ملابسين لاسم الله، وهي ملابسة القول لقائله، أي قائلين‏:‏ باسم الله‏.‏

و ‏{‏مجراها ومرساها‏}‏ بضم الميمين فيهما في قراءة الجمهور‏.‏ وهما مصدراً، أجرى السفينة إذا جعلها جارية، أي سيّرها بسرعة، وأرساها إذا جعلها راسية، أي واقفة على الشاطئ‏.‏ يقال‏:‏ رَما إذا ثَبت في المكان‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلَفٌ «مَجراها» فقط بفتح الميم على أنه مَفعل للمصدر أو الزمان أو المكان‏.‏ وأما ‏{‏مُرساها‏}‏ فبضم الميم مثل الجمهور، لأنه لا يقال‏:‏ مَرساها بفتح الميم‏.‏ والعدول عن الفتح في ‏{‏مرساها‏}‏ في كلام العرب مع أنه في القياس مماثل ‏(‏مَجراها‏)‏ وجهه دفع اللبس لئلا يلتبس باسم المَرسى الذي هو المكان المعدّ لرسوّ السفن‏.‏

ويَجوز أن يكون ‏{‏مجراها ومرساها‏}‏ في محل نصب بالنيابة عن ظرف الزمان، أي وقت إجرائها ووقت إرسائها‏.‏ ويجوز أن يكون في محل رفع على الفاعلية بالجار والمجرور لما فيه من معنى الفعل، وهو رأي نحاة الكوفة، وما هو ببعيد‏.‏

وجملة ‏{‏إن ربي لغفور رحيم‏}‏ تعليل للأمر بالركوب المقيد بالملابسة لذكر اسم الله تعالى، ففي التعليل بالمغفرة والرحمة رمز إلى أن الله وعَده بنجاتهم، وذلك من غفرانه ورحمته‏.‏ وأكّد ب ‏{‏إنّ‏}‏ ولام الابتداء تحقيقاً لأتباعه بأن الله رحمهم بالإنجاء من الغرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كالجبال‏}‏‏.‏

جملة معترضة دعا إلى اعتراضها هنا ذكر ‏(‏مجراها‏)‏ إتماماً للفائدة وصفاً لعظم اليوم وعجيب صنع الله تعالى في تيْسير نجاتهم‏.‏

وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم وتحقيقه‏.‏

وعدل عن الفعل الماضي إلى المضارع لاستحضار الحالة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والموج‏:‏ ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه، وتشبيهه بالجبال في ضخامته‏.‏ وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأودية الماءَ السابقَ لها، فإن حادث الطوفان ما كان إلاّ عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمّة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها، كما سيأتي‏.‏

عطفت جملة ‏{‏ونادى‏}‏ على أعلق الجمل بها اتّصالاً وهي ‏{‏وقال اركبوا فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏ لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلّهم كانوا مستقرين في جوف السفينة‏.‏

وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زَوج ثانية لنوح كان اسمها ‏(‏وَاعلة‏)‏ غرقت، وأنّها المذكورة في آخر سورة التحريم‏.‏ قيل كان اسم ابنه ‏(‏ياماً‏)‏ وقيل اسمه ‏(‏كنعان‏)‏ وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين‏.‏ وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزباً‏.‏

وجملة ‏{‏وكان في معزل‏}‏ حال من ‏{‏ابنه‏}‏‏.‏ والمعْزل‏:‏ مكان العزلة أي الانفراد، أي في معزل عن المؤمنين إمّا لأنه كان لم يؤمن بنوح عليه السلام فلم يصدق بوقوع الطوفان، وإما لأنّه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول‏.‏

وجملة ‏{‏يا بنيّ اركب معنَا‏}‏ بيان لجملة ‏{‏نادى‏}‏ وهي إرشاد له ورفق به‏.‏

وأما جملة ‏{‏ولا تكن مع الكافرين‏}‏ فهي معطوفة على جملة ‏{‏اركب معنا‏}‏ لإعلامه بأنّ إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلاّ أثراً لتكذيبه بوقوع الطوفان‏.‏ فقول نوح عليه السّلام له ‏{‏اركب معنا‏}‏ كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير‏.‏ وقد زاد ابنَه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قولُه متهكماً ‏{‏سَآوي إلى جبل يعصمني من الماء‏}‏‏.‏

و ‏(‏بنيّ‏)‏ تصغير ‏(‏ابن‏)‏ مضافاً إلى ياء المتكلم‏.‏ وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة‏.‏ فأصله بُنَيْو، لأنّ أصل ابن بَنْو، فلما حذفوا منه الواو لثقلها في آخر كلمة ثلاثية نقصَ عن ثلاثة أحرف فعوّضوه همزة وصل في أوله، ومهما عادتْ له الواو المحذوفة لزوال داعي الحذف طرحت همزة الوصل، ثم لمّا أريد إضافة المصغّر إلى ياء المتكلم لزم كسر الواو ليصير بُنَيْوِيّ، فلما وقعت الواو بين عدوتيها الياءين قلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير فصار بنَيّي بياءين في آخره أولاهما مشدّدة، ولما كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم يجوز حذف ياء المتكلم منه وإبْقاء الكسرة صار ‏{‏بنَيّ‏}‏ بكسر الياء مشدّدة في قراءة الجمهور‏.‏

وقرأه عاصم ‏{‏بنيّ‏}‏ بفتح ياء المتكلم المضاف إليها لأنها يجوز فتحها في النداء، أصله يَا بنَيّيَ بياءين أولاهما مكسورة مشدّدة وهي ياء التصغير مع لام الكلمة التي أصلها الواو ثم اتصلت بها ياء المتكلم وحذفت الياء الأصلية‏.‏

وفصلت جملة ‏{‏قال سآوي‏}‏ وجملة ‏{‏قال لا عاصم‏}‏ لوقوعهما في سياق المحاورة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سآوي إلى جبل‏}‏ قد كان قبل أن يبلغ الماء أعالي الجبال‏.‏ و‏(‏آوي‏)‏‏:‏ أنزل، ومصدره‏:‏ الأوِيّ بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء‏.‏

وجملة ‏{‏يعصمني من الماء‏}‏ إمّا صفة ل ‏(‏جبل‏)‏ أي جبل عال، وإمّا استيناف بياني، لأنّه استشعر أن نوحاً عليه السّلام يسأل لماذا يأوي إلى جبل إذ ابنه قد سمعه حين ينذر الناس بطوفان عظيم فظن الابن أن أرفع الجبال لا يَبلغه الماء، وأنّ أباه ما أراد إلا بلوغ الماء إلى غالب المرتفعات دون الجبال الشامخات‏.‏

ولذلك أجابه نوح عليه السّلام بأنّه ‏{‏لا عاصم اليوم من أمر الله‏}‏، أي مأموره وهو الطوفان ‏{‏إلاّ مَن رحم‏}‏‏.‏

واستثناء ‏{‏مَن رحم‏}‏ من مفعول يتضمنه ‏(‏عَاصم‏)‏ إذ العاصم يَقتضي معصوماً وهو المستثنى منه‏.‏ وأراد ب ‏{‏من رحم‏}‏ من قدّر الله له النجاة من الغرق برحمته‏.‏ وهذا التقدير مظهره الوحي بصنع الفلك والإرشاد إلى كيفية ركوبه‏.‏

والموج‏:‏ اسم جمع مَوجة، وهي‏:‏ مقادير من مَاء البحر أو النهر تتصاعد على سطح الماء من اضطراب الماء بسبب شدة رياح، أو تزايد مياه تنصبُّ فيه، ويقال‏:‏ مَاجَ البحر إذا اضطرب ماؤه‏.‏ وقالوا‏:‏ مَاجَ القوم، تشبيهاً لاختلاط النّاس واضطرابهم باضطراب البحر‏.‏

وحيلولة الموج بينهما في آخر المحاورة يشير إلى سرعة فيضان الماء في حين المحاولة‏.‏

وأفاد قوله‏:‏ ‏{‏فكان من المغرقين‏}‏ أنه غرق وغرق معه من توعّده بالغرق، فهو إيجاز بديع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

لما أفاد قوله‏:‏ ‏{‏فكان من المغرقين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏ وقوعَ الغرق الموعود به على وجه الإيجاز كما علمتَ انتقل الكلام إلى انتهاء الطوفان‏.‏

وبناء فعل ‏{‏قيل‏}‏ للمفعول هنا اختصار لظهور فاعل القول، لأن مثله لا يصدر إلاّ من الله‏.‏ والقول هنا أمر التكوين‏.‏ وخطاب الأرض والسماء بطريقة النداء وبالأمر استعارة لتعلّق أمر التكوين بكيفيات أفعال في ذاتيهما وانفعالهما بذلك كما يخاطَب العاقل بعمل يعمله فيقبله امتثالاً وخشية‏.‏ فالاستعارة هنا في حرف النداء وهي تبعيّة‏.‏

والبلع حقيقته اجتياز الطعام والشراب إلى الحلق بدون استقرار في الفم‏.‏ وهو هنا استعارة لإدخال الشيء في باطن شيء بسرعة، ومعنى بلع الأرض ماءها‏:‏ دُخوله في باطنها بسرعة كسرعة ازدراد البالع بحيث لم يكن جفاف الأرض بحرارة شمس أو رياح بل كان بعمل أرضي عاجل‏.‏ وقد يكون ذلك بإحداث الله زلازل وخسفاً انشقت به طبقة الأرض في مواضع كثيرة حتى غارت المياه التي كانت على سطح الأرض‏.‏

وإضافة ‏{‏الماء‏}‏ إلى ‏(‏الأرض‏)‏ لأدنى ملابسة لكونه في وجهها‏.‏

وإقلاع السماء مستعار لكفّ نزول المطر منها لأنه إذا كَفّ نزولُ المطر لم يُخلف الماء الذي غار في الأرض، ولذلك قدّم الأمر بالبلْع لأنّه السبب الأعظم لغيض الماء‏.‏

وفي قران الأرض والسماء محسّن الطباق، وفي مقابلة ‏(‏ابلعي‏)‏ ب ‏{‏أقلعي‏}‏ محسّن الجناس‏.‏

و ‏{‏غيض الماء‏}‏ مغن عن التعرُّض إلى كون السماء أقلعت والأرض بَلعت، وبنيَ فعل ‏{‏غيض الماء‏}‏ للنائب لمثل ما بني فعل ‏{‏وقِيل‏}‏ باعتبار سبب الغيض، أو لأنه لا فاعل له حقيقة لأن حصوله حصول مسبب عن سبب والغَيْض‏:‏ نضوبه في الأرض‏.‏ والمراد‏:‏ الماء الذي نشأ بالطوفان زائداً على بحار الأرض وأوديتها‏.‏ وقضاء الأمر‏:‏ إتمامه‏.‏ وبناء الفعل للنائب للعلم بأنّ فاعله ليس غير الله تعالى‏.‏

والاستواء‏:‏ الاستقرار‏.‏

والجوديّ‏:‏ اسم جبل بين العراق وأرمينا، يقال له اليوم ‏(‏أرَارَاط‏)‏‏.‏ وحكمة إرسائها على جبل أنّ جانب الجبل أمكَن لاستقرار السفينة عند نزول الرّاكبين لأنّها تخف عندما ينزل معظمهم فإذا مالت استندت إلى حانب الجبل‏.‏

و ‏{‏بعداً‏}‏ مصدر ‏(‏بعدَ‏)‏ على مثال كَرُم وفَرح، منصوب على المفعولية المطلقة‏.‏ وهو نائب عن الفعل كما هو الاستعمال في مقام الدعاء ونحوه، كالمدح والذم مثل‏:‏ تَبّاً له، وسحقاً، وسَقْياً، ورَعْياً، وشكْراً‏.‏ والبعد كناية عن التحقير بلازم كراهية الشيء، فلذلك يقال‏:‏ بَعِد أو نحوه لمن فُقِدَ، إذا كان مكروهاً كما هنا‏.‏ ويقال‏:‏ نفي البعد للمرغوب فيه وإن كان قد بعد، فَيقَالُ للميّت العزيز كما قال مالك بن الرّيْب‏:‏

يقولون لا تَبْعَدْ وهم يدفِنوني *** وأيْنَ مكانُ البعد إلاّ مَكانِيا

وقالت فاطمة بنت الأَحْجَم‏:‏

إخْوَتِي لا تَبْعَدُوا أبداً *** وبَلى والله قد بَعِدوا

والأكثر أن يقال ‏(‏بعِد‏)‏ بكسر العين في البعد المجازي بمعنى الهلاك والموت، و‏(‏بعُد‏)‏ المضموم العين في البعد الحقيقي‏.‏

والقوم الظالمون هم الذين كفروا فغرقوا‏.‏ والقائل ‏(‏بعداً‏)‏ قد يكون من قول الله جرياً على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ ويجوز أن يقوله المؤمنون تحقيراً للكفّار وتشفّياً منهم واستراحة، فبنِيَ فعل ‏{‏وقيل‏}‏ إلى المجهول لعدم الحاجة إلى معرفة قائله‏.‏

قال في «الكشاف» بعد أن ذكر نكتاً ممّا أتينا على أكثره «ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم لا لتجانس الكلمتين ‏{‏ابلَعي‏}‏ و‏{‏اقلعي‏}‏ وإن كان لا يُخلِي الكلامَ من حسن فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللّب وما عداها قشور» اه‏.‏

وقد تصدّى السكاكي في «المفتاح» في بحث البلاغة والفصاحة لبيان بعض خصائص البلاغة في هذه الآية، تقفية على كلام «الكشاف» فيما نرى فقال‏:‏

«والنّظر في هذه الآية من أربع جهات، من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني‏.‏‏.‏‏.‏ ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية‏.‏ أما النظر فيها من جهة علم البيان‏.‏‏.‏‏.‏ فنقول‏:‏ إنه عزّ وجلّ لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نَرُدّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها‏.‏‏.‏ وأن نقطع طوفان السماء‏.‏‏.‏ وأن نغيض الماءَ‏.‏‏.‏ وأن نقضيَ أمر نوح عليه السّلام وهو إنجاز ما كنّا وعدنا من إغراق قومه‏.‏‏.‏ وأن نسوي السّفينة على الجوديّ‏.‏‏.‏ وأبقينا الظّلَمةَ غَرْقى بُنِيَ الكلام على تشبيه المراد بالمأمور‏.‏‏.‏‏.‏ وتشبيه تكوين المراد بالأمر‏.‏‏.‏ وأن السماوات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏ تابعة لإرادته‏.‏‏.‏‏.‏ كأنها عقلاء مميّزون‏.‏‏.‏‏.‏ ثم بنى على تشبيهه هذا نَظْمَ الكلام فقال جلّ وعلا‏:‏ ‏{‏قيل‏}‏ على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجَعل قرينة المجاز الخطاب للجماد‏.‏‏.‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏يا أرض ويا سماء‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثم استعار لغور الماء في الأرض البلعَ‏.‏‏.‏ للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهاً له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات‏.‏‏.‏‏.‏ تقويَ الآكِل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ‏(‏ابلعي‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثم أمَرَ على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطَب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء، ثم قال ‏{‏ماءك‏}‏ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهاً لاتّصال الماء بالأرض باتصال المِلْك بالمالك واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح‏.‏ ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمَر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً ‏{‏أقلعي‏}‏ لمثل ما تقدم في ‏{‏ابلعي‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجوديّ‏}‏‏.‏ ‏{‏وقيل بعداً‏}‏ فلم يصرح بمن غَاض الماءَ، ولا بمن قَضَى الأمر وسوّى السفينة وقال ‏{‏بعداً‏}‏، كما لم يصرح بقائل ‏{‏يا أرض‏}‏ و‏{‏يا سماء‏}‏ في صدر الآية، سلوكاً في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ من ذي قدرة لا يُكتنه قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلاً ‏{‏يا أرض‏}‏ و‏{‏يا سماء‏}‏، ولا غائضاً ما غاض، ولا قاضياً مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره‏.‏

ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم لا غير خَتْمَ إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة إنّما كانت لظلمهم‏.‏

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النّظر في إفادة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، لذلك أنه اختير ‏{‏يا‏}‏ دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادَى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة‏.‏‏.‏ وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به‏.‏‏.‏‏.‏

واختير ‏{‏ابلعي‏}‏ على ابتلعي لكونه أخصر، ولمجيء حظّ التجانس بينه وبين ‏{‏أقلعي‏}‏ أوْفَر‏.‏ وقيل ‏{‏ماءَك‏}‏ بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت‏.‏‏.‏ وإنما لم يقل ‏{‏ابلعي‏}‏ بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهنّ نظراً إلى مقام ولأرود أمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء‏.‏

ثم إذ بَيّن المرادَ اختصر الكلام مع ‏{‏اقلعي‏}‏ احترازاً عن الحشْو المستغنى عنه، وهو الوجه في أن لم يقل‏:‏ قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلَعَت، ويا سماء أقلعي فأقلعت‏.‏‏.‏ وكذا الأمر دون أن يقال‏:‏ أمرُ نوح عليه السّلام وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً عليه السّلام من إهلاك قومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك‏.‏

ثم قيل‏:‏ ‏{‏بعداً للقوم الظالمين‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ليبعَد القومُ، طلباً للتأكيد مع الاختصار وهو نزول ‏{‏بعداً‏}‏ منزلة ليبعَدُوا بعداً، مع فائدة أخرى وهي استعمال اللاّم مع ‏(‏بعداً‏)‏ الدّال على معنى أن البعد يحقّ لهم‏.‏

ثم أطلق الظلم ليتناول كلّ نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل‏.‏

وأمّا من حيث النظر إلى ترتيب الجمل، فذلك أنه قد قدّم النداء على الأمر، فقيل‏:‏ ‏{‏يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء، جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكّن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادَى قصداً بذلك لمعنى الترشيح‏.‏

ثم قدّم أمر الأرض على أمر السماء وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أوْلى، ثم أتْبَعَهَا قوله‏:‏ ‏{‏وغيض الماء‏}‏ لاتّصاله بغيضية الماء وأخذه بحجزتها، ألاَ ترى أصل الكلام‏:‏ قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ماءها ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ أي أنجز الموعود‏.‏

‏.‏ ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله‏:‏ ‏{‏واستوت على الجوديّ‏}‏، ثم ختمت القصة بما ختمت‏.‏‏.‏‏.‏ وأمّا النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظمٌ للمعاني لطيفٌ وتأديةٌ لها ملخّصةٌ مبيّنة، لا تعقيد يعثّر الفكر في طلب المراد‏.‏ ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تطابق معانيها ومعانيها تطابق ألفاظها‏.‏

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التّنَافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ هذه نهاية كلام المفتاح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

موقع الآية يقتضي أنّ نداء نوح عليه السّلام هذا كان بعد استواء السفينة على الجوديّ نداءً دَعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدّنيا، لأنّ الله أعلمه أنّه لا نجاة إلاّ للّذين يركبون السّفينة، ولأنّ نوحاً عليه السّلام لمّا دعا ابنه إلى ركوب السّفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنّه لا وسيلة إلى نجاته فكيف يسألها من الله فتعيّن أنّه سأل له المغفرة، ويدلّ لذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تسألنّي ما ليس لك به علم‏}‏ كما سيأتي‏.‏

ويجوز أن يكون دعاء نوح عليه السّلام هذا وقع قبل غرق النّاس، أي نادى ربّه أن ينجي ابنه من الغرق‏.‏

ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا، أي نادى ربّه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة‏.‏

والنّداء هنا نداء دعاء فكأنّه قيل‏:‏ ودعا نوح ربّه، لأنّ الدعاء يصدّر بالنّداء غالباً، والتّعبير عن الجلالة بوصف الربّ مضافاً إلى نوح عليه السلام تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهيُ عتاب‏.‏

وجملة ‏{‏فقال ربّ إنّ ابني من أهلي‏}‏ بيان للنّداء، ومقتضى الظّاهر أنْ لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذْ نادى ربّه نداءً خفيّاً قال ربّ إنّي وهن العظم مني‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 3، 4‏]‏، وخولف ذلك هنا‏.‏ ووجّه في «الكشاف» اقترانه بالفاء بأنّ فعل ‏{‏نادى‏}‏ مستعمل في إرادة النداء، أي مثل فعل ‏(‏قمتم‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيهَا الّذينَ آمنوا إذَا قمْتم إلى الصّلاة فَاغْسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإنّ وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل ‏{‏نادى‏}‏ مستعار لمعنى إرادة النداء، أي أراد نداءَ ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء، وهذا إشارة إلى أنه أراد النداء فتردّد في الإقدام عليه لِما علم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من سبق عليه القول‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ فلم يطل تردّده لمّا غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه، ولذلك قدم الاعتذار بقوله‏:‏ ‏{‏إنّ ابني من أهلي‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إن ابني من أهلي‏}‏ خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنّه يريد أن يسأل سؤالاً لا يدري قبوله ولكنّه اقتحمه لأن المسؤول له من أهله فله عذر الشفقة عليه‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ للاهتمام به‏.‏

وكذلك جملة ‏{‏وإنّ وعدك الحق‏}‏ خبر مستعمل في لازم الفائدة‏.‏ وهو أنّه يعلم أن وعد الله حق‏.‏

والمراد بالوعد ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 37‏]‏ إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنّه لا يركب السفينة‏.‏

وهذا الموصول متعيّن لكونه صادقاً على ابنه إذ ليس غيره من أهله طَلب منه ركوب السفينة وأبى، وأنّ من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم، أي كافر، وأنه مغرق، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن نوحاً عليه السّلام لا يجهل أنّ ابنه كافر، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر، ولكنّه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه‏.‏

وقرينة ذلك كله قوله‏:‏ ‏{‏وأنت أحكم الحاكمين‏}‏ المفيد أنه لا رادّ لما حكم به وقضاه، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه، ولكنه مقام تضرّع وسؤال ما ليس بمحال‏.‏

وقد كان نوح عليه السّلام غيرَ منهيّ عن ذلك، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين، فكان حال نوح عليه السّلام كحال النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي طالب «لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك» قَبل أن ينزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يسْتغَفروا للمشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الآية‏.‏

والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسؤول استغناء بعلم المسؤول كأنّه يقول‏:‏ أسألك أم أترك، كقول أميّة بن أبي الصلت‏:‏

أأذكر حَاجتي أم قد كفاني *** حَياؤك أن شيمتك الحياء

ومعنى ‏{‏أحكم الحاكمين‏}‏ أشدهم حكْماً‏.‏ واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل، فيفيد أن حكمه لا يجورُ وأنّه لا يبطله أحد‏.‏ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّه ليس من أهلك‏}‏ نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح عليه السّلام‏:‏ ‏{‏إن ابني من أهلي‏}‏ ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة، وهذا المعنى شائع في الاستعمال‏.‏

قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن‏:‏

إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست منّي

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته‏.‏

وجملة ‏{‏إنّه عَمل غير صالح‏}‏ تعليل لمضمون جملة ‏{‏إنه ليس من أهلك‏}‏ ف ‏(‏إنّ‏)‏ فيه لمجرد الاهتمام‏.‏

و ‏{‏عَمَلٌ‏}‏ في قراءة الجمهور بفتح الميم وتنوين اللام مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع ‏{‏غيرُ‏}‏ على أنه صفة ‏(‏عمل‏)‏‏.‏ وقرأه الكسائي، ويعقوب ‏{‏عَمِلَ‏}‏ بكسر الميم بصيغة الماضي وبنصب ‏{‏غيرَ‏}‏ على المفعولية لفعل ‏(‏عمل‏)‏‏.‏ ومعنى العمل غير الصالح الكفر، وأطلق على الكفر ‏(‏عمل‏)‏ لأنه عمل القلب، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان‏.‏

وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب، لأنّه لما قيل له ‏{‏إنّه ليس من أهلك‏}‏ بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله‏.‏

وقرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر «فلا تسألنّي» بتشديد النون وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا‏.‏ وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء‏.‏ أما ابن كثير فقرأ «فلا تسألنّ» بنون مشددة مفتوحة‏.‏ وقرأه أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف «فلا تسألْنِ» بسكون اللام وكسر النون مخففة على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم‏.‏

وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو‏.‏

ثم إن كان نوح عليه السّلام لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً‏}‏ ‏[‏النبإ‏:‏ 38‏]‏، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإنّ وعدكَ الحقُ‏}‏، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم‏.‏ وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك‏.‏

وكان قوله‏:‏ ‏{‏ما ليس لك به علم‏}‏ محتملاً لظاهره، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع‏.‏

ثم إن كان قول نوح عليه السّلام ‏{‏إنّ ابني من أهلي‏}‏ إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تسألنّي ما ليس لك به علم‏}‏ نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله؛ وإن كان قول نوح عليه السّلام مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تسألنّي‏}‏ نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه‏.‏ والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ‏.‏

وعلى كل الوجوه فقوله‏:‏ ‏{‏إني أعظك أن تكون من الجاهلية‏}‏ موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام‏.‏

والجهل فيه ضد العلم، وهو المناسب لمقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏ما ليس لك به علم‏}‏‏.‏

فأجاب نوح عليه السّلام كلام ربّه بما يدل على التنصّل ممّا سأل فاستعاذ أن يسأل ما ليس له به علم، فإن كان نوح عليه السّلام أراد بكلامه الأول التعريض بالسؤال فهو أمر قد وقع فالاستعاذة تتعلق بتبعة ذلك أو بالعود إلى مثله في المستقبل؛ وإن كان إنّما أراد التمهيد للسؤال فالاستعاذة ظاهرة، أي الانكفاف عن الإفضاء بالسؤال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين‏}‏ طلب المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنّه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلاً للرحمة‏.‏

وقد سلك المفسرون في تفسيرهم هذه الآيات مسلك كون سؤال نوح عليه السّلام سؤالاً لإنجاء ابنه من الغرق فاعترضتهم سبل وَعْرة متنائية، ولقوا عناء في الاتصال بينها، والآية بمعزل عنها، ولعلنا سلكنا الجادة في تفسيرها‏.‏