فصل: تفسير الآية رقم (110)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ‏}‏

اعتراض لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليتِه بأنّ أهل الكتاب وهم أحسن حالاً من أهل الشّرك قد أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه، وهم أهل مِلّة واحدة فلا تَأس من اختلاف قومك عليك، فالجملة عطف على جملة ‏{‏فلا تك في مرية‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏‏.‏

ولأجل مَا فيها من معنى التّثبيت فُرع عليها قوله‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاختلف فيه‏}‏ أي في الكتاب، وهو التّوراة‏.‏ ومعنى الاختلاف فيه اختلاف أهل التّوراة في تقرير بعضها وإبطال بعض، وفي إظهار بعضها وإخفاء بعض مثل حكم الرجم، وفي تأويل البعض على هواهم، وفي إلحاق أشياء بالكتاب على أنّها منه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏‏.‏ فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم فيقتضي الاختلاف بينهم بين مُثبت وناففٍ، وهذا الاختلاف بأنواعه وأحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب‏.‏ فجمعت هذه المعاني جمعاً بديعاً في تعدية الاختلاف بحرف ‏(‏في‏)‏ الدالة على الظرفيّة المجازيّة وهي كالملابسة، أي فاختلف اختلافاً يلابسه، أي يلابس الكتاب‏.‏

ولأنّ الغرض لم يكن متعلّقاً ببيان المختلفين ولا بذمّهم لأنّ منهم المذموم وهم الذين أقدموا على إدخال الاختلاف، ومنهم المحمود وهم المُنكرون على المبدّلين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏منهم أمّةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏ وسيجيء قوله‏:‏ ‏{‏وإن كُلا لَمَا ليوفينّهم ربك أعمالهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 111‏]‏، بل كان للتّحذير من الوقوع في مثله‏.‏

بُني فعل ‏(‏اختلف‏)‏ للمجهول إذ لا غرض إلاّ في ذكر الفعل لا في فاعله‏.‏

يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏وإنّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ ويكون الاعتراض تمّ عند قوله‏:‏ ‏{‏فاختلف فيه‏}‏، وعليه فضمير ‏{‏بينهم‏}‏ عائد إلى اسم الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏ممّا يعبد هؤلاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ أي ولولا ما سبق من حكمة الله أن يؤخّر عنهم العذاب لقضي بينهم، أي لقضى الله بينهم، فأهلك المشركين والمخالفين ونصر المؤمنين‏.‏

فيكون ‏{‏بينهم‏}‏ هو نائب فاعل ‏(‏قُضي‏)‏‏.‏ والتّقدير‏:‏ لوقع العذاب بينهم، أي فيهم‏.‏

ويجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏فاختلف فيه‏}‏ فيكون ضمير ‏{‏بينهم‏}‏ عائداً إلى ما يفهم من قوله‏:‏ ‏{‏فاختُلف فيه‏}‏ لأنّه يقتضى جماعة مختلفين في أحكام الكتاب‏.‏ ويكون ‏{‏بينهم‏}‏ متعلّقاً ب ‏(‏قُضي‏)‏، أي لحكم بينهم بإظهار المصيب من المخطئ في أحكام الكتاب فيكون تحذيراً من الاختلاف، أي أنّه إن وقع أمهل الله المختلفين فتركهم في شكّ‏.‏ وليس من سنة الله أن يقضي بين المختلفين فيوقفهم على تمييز المحق من المبطل، أي فعليكم بالحذر من الاختلاف في كتابكم فإنّكم إن اختلفتم بقيتم في شك ولحقكم جزاء أعمالكم‏.‏

و ‏{‏الكلمة‏}‏ هي إرادة الله الأزليّة وسنته في خلقه‏.‏ وهي أنّه وكل النّاس إلى إرشاد الرسل للدّعوة إلى الله، وإلى النّظر في الآيات، ثم إلى بذل الاجتهاد التّام في إصابة الحق، والسعي إلى الاتفاق ونبذ الخلاف بصرف الأفهام السديدة إلى المعاني، وبالمراجعة فيما بينهم، والتبصّر في الحق، والإنصاف في الجدل والاستدلال، وأن يجعلوا الحق غايتهم والاجتهاد دأبهم وهجّيراهم‏.‏

وحكمة ذلك هي أنّ الفصل والاهتداء إلى الحقّ مصلحة للنّاس ومنفعة لهم لا لله‏.‏ وتمام المصلحة في ذلك يحْصل بأن يبذلوا اجتهادهم ويستعملوا أنظارهم لأنّ ذلك وسيلة إلى زيادة تعقلهم وتفكيرهم‏.‏ وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمّت كلمات ربك صدقاً وعدلاً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويريد الله أن يحقّ الحق بكلماته‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏‏.‏

ووصفها بالسبق لأنّها أزلية، باعتبار تعلق العلم بوقوعها، وبأنّها ترجع إلى سنة كلية تقررت من قبل‏.‏

ومعنى لقضي بينهم‏}‏ أنّه قضاء استئصال المبطل واستبقاء المحق، كما قضى الله بين الرسل والمكذبين، ولكن إرادة الله اقتضت خلاف ذلك بالنسبة إلى فهم الأمة كتابها‏.‏

وضمير ‏{‏بينهم‏}‏ يعود إلى المختلفين المفاد من قوله‏:‏ ‏{‏فاختلف فيه‏}‏ والقرينة واضحة‏.‏

ومتعلق القضاء محذوف لظهوره، أي لقضي بينهم فيما ختلفوا فيه كما قال في الآية الأخرى ‏{‏إنّ ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 25‏]‏‏.‏

يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏وإنّا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ فيكون ضمير ‏{‏وإنّهم‏}‏ عائداً إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏ما يعبدون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ الآية، أي أنّ المشركين لفي شك من توفية نصيبهم لأنّهم لا يؤمنون بالبعث‏.‏ ويلتئم مع قوله‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم‏}‏ على أوّل الوجهين وأولاهما، فضمير ‏{‏منه‏}‏ عائد إلى ‏{‏يوم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتتِ لا تكلم نفس‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ إلخ‏.‏

ويجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏فاختلف فيه‏}‏، أي فاختلف فيه أهله، أي أهل الكتاب فضمير ‏{‏وإنّهم‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏بينهم‏}‏ على ثاني الوجهين، أي اختلف أهل الكتاب في كتابهم وإنّهم لفي شكّ‏.‏

أمّا ضمير ‏{‏منه‏}‏ فيجوز أن يعود إلى الكتاب، أي أقدموا على ما أقدموا عليه على شكّ وتردّد في كتابهم، أي دون علم يوجب اليقين مثل استقراء علمائنا للأدلّة الشرعيّة، أو يوجب الظنّ القريب من اليقين، كظن المجتهد فيما بلغ إليه اجتهاده، لأن الاستدلال الصّحيح المستنبط من الكتاب لا يعدّ اختلافاً في الكتاب إذ الأصل متّفق عليه‏.‏ فمناط الذمّ هو الاختلاف في متن الكتاب لا في التّفريع من أدلّته‏.‏ ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏منه‏}‏ عائداً إلى القرآن المفهوم من المقام ومن قوله‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء القرى نقصّه عليك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100‏]‏‏.‏

والمريب‏:‏ المُوقع في الشكّ، ووصف الشكّ بذلك تأكيد كقولهم‏:‏ ليل أليل، وشعر شاعر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏‏}‏

تذييل للأخبار السابقة‏.‏ والواو اعتراضية‏.‏ و‏(‏إنْ‏)‏ مخفّفة من ‏{‏إنّ‏}‏ الثّقيلة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي بكر عن عاص، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها‏.‏ و‏(‏إنْ‏)‏ المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق‏.‏ وقرأ الباقون ‏(‏إنّ‏)‏ مشدّدة على الأصل‏.‏

وبتنوين ‏{‏كُلاّ‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ وإنّ كلّهم، أي كلّ المذكورين آنفاً من أهل القرى، ومن المشركين المعرّض بهم، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى عليه السّلام‏.‏

و ‏(‏لَما‏)‏ مخفّفة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي، فاللاّم الدّاخلة على ‏(‏مَا‏)‏ لام الابتداء التي تدخل على خبر ‏{‏إنّ‏}‏‏.‏ واللاّم الثّانية الدّاخلة على ‏{‏ليوفينّهم‏}‏ لام جواب القسم‏.‏ و‏(‏مَا‏)‏ مزيدة للتأكيد‏.‏ والفصل بين اللاّمين دفعاً لكراهة توالي مثلين‏.‏

وقرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم، وأبو جعفر، وخلَف بتشديد الميم من ‏(‏لَمّا‏)‏‏.‏ فعند مَن قرأ ‏(‏إنْ‏)‏ مخفّفة وشدّد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون ‏(‏إن‏)‏ مخفّفة من الثقيلة، وأمّا مَن شدّد النون ‏(‏إنّ‏)‏ وشدّد الميم من ‏(‏لمّا‏)‏ وهم ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله القراء‏:‏ إنّها بمعنى ‏(‏لَمِنْ مَا‏)‏ فحذف إحدى الميمات الثلاث، يريد أنّ ‏(‏لَمّا‏)‏ ليست كلمة واحدة وإن كانت في صُورتها كصورة حرف ‏(‏لَمّا‏)‏ في رسم المصحف ‏(‏لأنّه اتّبع فيه صورة النطق بها‏)‏ وإنّما هي مركّبة من لاَم الابتداء و‏(‏مِنْ‏)‏ الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرّر الفعل كالتي في قول أبي حَية النمري‏:‏

وإنّا لَمِمّا نَضرب الكبش ضربة *** على رأسه تُلقِي اللسانَ من الفم

أي نكثر ضرب الكبش، أي أمير جيش العدوّ على رأسه‏.‏ وقول ابن عبّاس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدّة، وكان ممّا يحرّك لسانه حين يُنزل عليه القرآن، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرّك به لسانك لتعجل به‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏ فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات‏:‏ وإنّ كُلا لَمِنْ مَا ليُوفينهم، فلمّا قلبت نون ‏(‏من‏)‏ ميماً لإدغامها في ميم ‏(‏مَا‏)‏ اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفاً وهي ميم ‏(‏مِن‏)‏ لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأنّ أصل الميم الثّانية نون ‏(‏مِن‏)‏ فصار ‏(‏لَمّا‏)‏‏.‏

ولام ‏{‏ليوفينّهم‏}‏ لام قسم‏.‏

ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به‏.‏

والمعنى‏:‏ وإنّ جميعهم لَلاَقُون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حقّقه الله ولم يسامح فيه‏.‏ فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النّحوي ومشى عليه البيضاوي‏.‏

وقد أنهاها أبو شامة في «شرح منظومَة الشّاطبي» إلى ستّة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه‏.‏

وفي تفسير الفخر‏:‏ سمعت بعض الأفاضل قال‏:‏ إنّ الله تعالى لمّا أخبر عن توفية الأجزية على المستحقّين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التّوكيدات، أوّلها‏:‏ كلمة ‏(‏إنْ‏)‏ وهي للتأكيد، وثانيها ‏(‏كلّ‏)‏ وهي أيضاً للتّأكيد، وثالثها اللاّم الدّاخلة على خبر ‏(‏إنّ‏)‏، ورابعها حرف ‏(‏ما‏)‏ إذا جعلناه موصولاً على قول الفراء، وخامسها القسم المضمر، وسادسها اللاّم الدّاخلة على جواب القسم، وسابعها النون المؤكدة في قوله‏:‏ ‏{‏ليوفينهم‏}‏‏.‏

وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال، أي إعطاء الجزاء وافياً من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء‏.‏

وجملة ‏{‏إنّه بما يعملون خبير‏}‏ استئناف وتعليل للتّوفية لأنّ إحاطة العلم بأعمالهم مع آرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقاً للعمل تمام المطابقة‏.‏ وذلك محقق التوفية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏‏.‏

ترتب عن التسلية التي تضمّنها قوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 110‏]‏ وعن التثبيت المفاد بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تك في مرية ممّا يَعبد هؤلاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ الحضّ على الدّوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم‏.‏ وعبّر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدّوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواماً جماعهُ الاستقامة عليه والحذر من تغييره‏.‏

ولمّا كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السّلام إنّما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمرُ المؤمنين بتلك الاستقامة أيضاً، لأنّ الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم، ولأنّ مخالفة الأمّة عمداً إلى أحكام كتابها إن هو إلاّ ضرب من ضروب الاختلاف فيه، لأنّه اختلافها على أحكامه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ فإنّما أهلكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم ‏"‏، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلاً دون ذلك، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قِيد شبر‏.‏ ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأنّ الإيمان أصل فلا تتعلّق به الاستقامة‏.‏ وقد أشار إلى صحّة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبِي عَمْرَةَ الثقفي لمّا قال له‏:‏ «يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك‏.‏ قال‏:‏ قل آمنت بالله ثم استَقِمْ» فجعل الاستقامة شيئاً بعد الإيمان‏.‏

ووُجّه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنه ليبني عليه قوله‏:‏ ‏{‏كما أمرتَ‏}‏ فيشير إلى أنّه المتلقّي للأوامر الشرعيّة ابتداء‏.‏ وهذا تنويه له بمقام رسالته، ثم أُعلم بخطاب أمّته بذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ومن تاب معك‏}‏‏.‏ وكاف التّشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كما أمرت‏}‏ في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من ‏(‏استقم‏)‏‏.‏ ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لكون الاستقامة مماثلة لسائر ما أمر به، وهو تشبيه المجمل بالمفصّل في تفصيله بأن يكون طبقه‏.‏ ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى ‏(‏على‏)‏ كما يقال‏:‏ كن كما أنت‏.‏ أي لا تتغيّر، ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه‏.‏

‏{‏ومن تاب‏}‏ عطف على الضمير المتّصل في ‏{‏أمرت‏}‏‏.‏ ومصحّح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور‏.‏

‏{‏ومن تاب‏}‏ هم المؤمنون، لأنّ الإيمان توبة من الشّرك، و‏{‏معك‏}‏ حال من ‏{‏تاب‏}‏ وليس متعلّقاً ب ‏{‏تاب‏}‏ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من المشركين‏.‏

وقد جمع قوله‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ أصول الصّلاح الديني وفروعه لقوله‏:‏ ‏{‏كما أمرتَ‏}‏‏.‏

قال ابن عبّاس‏:‏ ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ ولا أشق من هذه الآية عليه‏.‏

ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له‏:‏ لقد أسرع إليك الشيب «شيبتني هود وأخواتها»‏.‏ وسئل عمّا في هود فقال‏:‏ قوله ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏‏.‏

الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تطغوا‏}‏ موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم ‏{‏ومن تاب معك‏}‏‏.‏

والطغيان أصله التّعاظم والجراءة وقلة الاكتراث، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏‏.‏ والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 81‏]‏‏.‏ فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل‏.‏

وقد شمل الطغيان أصول المفاسد، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودَرْء المفاسد، فكان النهي عنه جامعاً لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بعد هذا‏:‏ ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 113‏]‏‏.‏

وعن الحسن البصري‏:‏ جعل الله الدّين بين لاءَيْن ‏{‏ولا تطغوا‏}‏ ‏{‏ولا تركنوا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 113‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنّه بما تعملون بصير‏}‏ استئناف لتحذير من أخفى الطغيان بأن الله مطلع على كل عمل يعمله المسلمون، ولذلك اختير وصف ‏{‏بصير‏}‏ من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البين ودلالة صيغته على قوته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

الرّكُون‏:‏ الميل والموافقة، وفعله كعَلِم‏.‏ ولعلّه مشتق من الرُكْن بضم فسكون وهو الجنب، لأنّ المائل يدني جنبه إلى الشيء الممال إليه‏.‏ وهو هنا مستعار للموافق، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب مِن المشركين لئلاّ يضلوهم ويزلوهم عن الإسلام‏.‏

و ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ هم المشركون‏.‏ وهذه الآية أصل في سدّ ذرائع الفساد المحقّقة أو المظنونة‏.‏

والمسّ‏:‏ مستعمل في الإصابة كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان‏}‏ في آخر الأعراف ‏(‏201‏)‏، والمراد‏:‏ نار العذاب في جهنّم‏.‏

وجملة وما لكم من دون الله من أولياء‏}‏ حال، أي لا تجدون من يسعى لما ينفعكم‏.‏

و ‏{‏ثمّ‏}‏ للتّراخي الرتبي، أي ولا تجدون من ينصركم، أي من يخفّف عنكم مسّ عذاب النّار أو يخرجكم منها‏.‏

و ‏{‏من دون الله‏}‏ متعلّق بأولياء لتضمينه معنى الحُماة والحائلين‏.‏

وقد جمع قوله‏:‏ ‏{‏ولا تطغوا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا‏}‏ أصلي الدّين، وهما‏:‏ الإيمان والعمل الصالح، وتقدّم آنفاً قول الحسن‏:‏ «جعل الله الدين بين لاَئين ‏{‏ولا تطغوا‏}‏، ولا تركنوا»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

انتقل من خطاب المؤمنين إلى خطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم وهذا الخطاب يتناول جميع الأمّة بقرينة أنّ المأمور به من الواجبات على جميع المسلمين، لا سيما وقد ذكر معه ما يناسب الأوقات المعيّنة للصلوات الخمس، وذلك ما اقتضاه حديث أبي اليُسْر الآتي‏.‏

وطرف الشيء‏:‏ منتهاه من أوّله أو من آخره، فالتثنية صريحة في أنّ المراد أوّل النّهار وآخره‏.‏

و ‏{‏النّهار‏}‏‏:‏ ما بين الفجر إلى غروب الشمس، سمي نهاراً لأنّ الضياء ينهر فيه، أي يبرز كما يبرز النهْر‏.‏

والأمر بالإقامة يؤذن بأنّه عمل واجب لأنّ الإقامة إيقاع العمل على ما يستحقه، فتقتضي أنّ المراد بالصّلاة هنا الصلاة المفروضة، فالطّرفان ظَرْفان لإقامة الصّلاة المفروضة، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أوّل النّهار وهي الصّبح وصلاة في آخره وهي العصر وقيل المغرب‏.‏

والزُلَف‏:‏ جمع زُلْفة مثل غُرْفة وغُرَف، وهي السّاعة القريبة من أختها، فعلم أن المأمور إيقاع الصلاة في زلف من اللّيل، ولمّا لم تعيّن الصلوات المأمور بإقامتها في هذه المدّة من الزمان كان ذلك مجملاً فبينته السنةُ والعملُ المتواتر بخمس صلوات هي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وكان ذلك بيَاناً لآيات كثيرة في القرآن كانت مجملة في تعيين أوقات الصلوات مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصّلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏

والمقصود أن تكون الصّلاة أول أعمال المُسلم إذا أصبح وهي صلاة الصبح وآخر أعماله إذا أمسى وهي صلاة العشاء لتكون السيّئات الحاصلة فيما بيْن ذلك ممحوة بالحسنات الحافّة بها‏.‏ وهذا مشير إلى حكمة كراهة الحديث بعد صلاة العشاء للحثّ على الصّلاة وخاصة ما كان منها في أوقات تعرض الغفلة عنها‏.‏ وقد ثبت وجوبهما بأدلّة أخر وليس في هذه الآية ما يقتضي حصر الوجوب في المذكور فيها‏.‏

وجملة ‏{‏إنّ الحسنات يذهبن السّيئات‏}‏ مسوقة مساق التّعليل للأمر بإقامة الصّلوات، وتأكيد الجملة بحرف ‏{‏إنّ‏}‏ للاهتمام وتحقيق الخبر‏.‏ و‏{‏إنّ‏}‏ فيه مفيدة معنى التّعليل والتفريع، وهذا التعليل مؤذن بأنّ الله جعل الحسنات يذهبن السيّئات، والتّعليل مشعر بعموم أصحاب الحسنات لأنّ الشأن أن تكون العلّة أعم من المعلول مع ما يقتضيه تعريف الجمع باللاّم من العموم‏.‏

وإذهاب السيّئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النّفس إلى ترك السيّئات سَهْلاً وهيّناً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها‏.‏ ويشمل أيضاً محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها فضلاً من الله على عباده الصالحين‏.‏

ومحمل السيّئات هنا على السيّئات الصغائر التي هي من اللّمم حملاً لمطلق هذه الآية على مقيد آية ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللّمَم‏}‏

‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تُنْهَوْنَ عنه نكَفّر عنكم سيئاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 31‏]‏، فيحصل من مجموع الآيات أنّ اجتناب الفواحش جعله الله سبباً لغفران الصغائر أوْ أنّ الإتيان بالحسنات يذهب أثر السيئات الصغائر، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم‏}‏ في سورة ‏[‏النّساء‏:‏ 31‏]‏‏.‏

روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلةَ حرام فأتى النبي فذكرت ذلك فأنزلت عليه وأقم الصّلاة طرفي النهار وزُلَفاً من الليل‏}‏‏.‏ فقال الرجل‏:‏ ألِي هذه‏؟‏ قال‏:‏ لمن عمل بِها من أمّتي‏.‏

وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّي عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها وها أنا ذا فَاقْض فيّ ما شئت، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلق الرجل فأتبعه رجلاً فدعاه فتلا عليه ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم‏:‏ هذا له خاصة‏؟‏ قال‏:‏ لا، بل للنّاس كافة‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وأخرج الترمذي حديثين آخرين‏:‏ أحدهما عن معاذ بن جبل، والآخر عن أبي اليَسر وهو صاحب القصة وضعّفهما‏.‏

والظاهر أن المرويّ في هذه الآية هو الذي حمل ابن عبّاس وقتادة على القول بأنّ هذه الآية مدنيّة دون بقية هذه السورة لأنه وقع عند البخاري والترمذي قوله‏:‏ ‏(‏فأنزلت عليه‏)‏ فإن كان كذلك كما ذكره الرّاوي فهذه الآية ألحقت بهذه السورة في هذا المكان لمناسبة وقوع قوله‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ قبلها وقولِه‏:‏ ‏{‏واصبر فإنّ الله لا يضيعُ أجرَ المحسنين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 115‏]‏ بعدَها‏.‏

وأمّا الذين رجّحوا أنّ السورة كلّها مكيّة فقالوا‏:‏ إنّ الآية نزلت في الأمر بإقامة الصّلوات وإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بها الذي سأله عن القبلة الحرام وقد جاء تائباً ليعلمه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيّئات‏}‏، فيؤوّل قولُ الراوي‏:‏ فأنزلت عليه، أنّه أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضيّة السائل ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب غير الفواحش‏.‏

ويؤيّد ذلك ما في رواية الترمذي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قوله‏:‏ فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وأقم الصّلاة‏}‏، ولم يقولا‏:‏ فَأنْزل عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك ذكْرى للذّاكرين‏}‏ أيْ تذْكرة للّذي شأنه أن يذكر ولم يكن شأنه الإعراض عن طلب الرشد والخير، وهذا أفاد العموم نصّاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الإشارة إلى المذكور قبله من قوله‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فلا تك في مرية ممّا يعبد هؤلاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 109‏]‏ الآيات، لأنّها سيقت مساق التّثبيت من جرّاء تأخير عقاب الذين كذبوا‏.‏

ومناسبة وقوع الأمر بالصّبر عقب الأمر بالاستقامة والنّهي عن الركون إلى الذين ظلموا، أنّ المأمورات لا تخلو عن مشقة عظيمة ومخالفة لهوى كثير من النفوس، فناسب أن يكون الأمر بالصبر بعد ذلك ليكون الصبر على الجميع كلّ بما يناسبه‏.‏

وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويه به‏.‏ والمقصود هو وأمته بقرينة التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏فإنّ الله لا يُضيع أجر المحسنين‏}‏ لما فيه من العموم والتفريع المقتضي جمعهما أنّ الصبر من حسنات المحسنين وإلا لَمَا كان للتفريع موقع‏.‏ وحرف التأكيد مجلوب للاهتمام بالخبر‏.‏

وسمّي الثواب أجراً لوقوعه جزاء على الأعمال وموعوداً به فأشبه الأجر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

هذا قوي الاتّصال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أخذ ربك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏ فيجوز أن يكون تفريعاً عليه ويكون ما بينهما اعتراضاً دعا إليه الانتقال الاستطرادي في معان متماسكة‏.‏ والمعنى فهلاّ كان في تلك الأمم أصحاب بقية من خير فنهوا قومهم عن الفساد لما حلّ بهم ما حلّ‏.‏ وذلك إرشاد إلى وجوب النهي عن المنكر‏.‏ ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ والآية تفريع على الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وعن الركون إلى الذين ظلموا، إذ المعنى‏:‏ ولا تكونوا كالأمم من قبلكم إذ عدموا من ينهاهم عن الفساد في الأرض وينهاهم عن تكذيب الرّسل فأسرفوا في غلوائهم حتى حلّ عليهم غضب الله إلاّ قليلاً منهم، فإن تركتم ما أمرتم به كان حالكم كحالهم، ولأجل هذا المعنى أتي بفاء التفريع لأنّه في موقع التفصيل والتعليل لجملة ‏{‏فاستقم كما أمرت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ وما عطف عليها؛ كأنّه قيل‏:‏ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم فَلَوْلاَ كان منهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلى آخره، أي فاحذروا أن تكونوا كما كانوا فيصيبكم ما أصابهم، وكونوا مستقيمين ولا تَطغوا ولا تركنوا إلى الظّالمين وأقيموا الصلاة، فغُيّرَ نظمُ الكلام إلى هذا الأسلوب الذي في الآية لتفنن فوائده ودقائقه واستقلال أغراضه مع كونها آيلة إلى غرض يعمّمها‏.‏ وهذا من أبدع أساليب الإعجاز الذي هو كردّ العجز على الصدر من غير تكلّف ولا ظهور قصد‏.‏

ويقرب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وَمَا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ‏"‏

و ‏(‏لولا‏)‏ حرف تحضيض بمعنى ‏(‏هلاّ‏)‏‏.‏ وتحضيض الفائت لا يقصد منه إلاّ تحذير غيره من أن يقع فيما وقعوا فيه والعبرة بما أصابهم‏.‏

والقرون‏:‏ الأمم‏.‏ وتَقَدّم في أوّل الأنعام‏.‏

والبقية‏:‏ الفضل والخير‏.‏ وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأنّ شأن الشيء النفيس أنّ صاحبه لا يفرط فيه‏.‏

وبقيّة الناس‏:‏ سادتهم وأهل الفضل منهم، قال رويشد بن كثير الطائي‏:‏

إنْ تذنبوا ثم تأتيني بقيّتكم *** فَمَا عليّ بذنب منكم فوت

ومن أمثالهم «في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا»‏.‏ فمن هنالك أطلقت على الفضل والخير في صفات الناس فيقال‏:‏ في فلان بقية، والمعنى هنا‏:‏ أولُو فضل ودين وعلم بالشريعة، فليس المراد الرّسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع ينهون قومهم عن الفساد في الأرض‏.‏

والفساد‏:‏ المعاصي واختلاف الأحوال، فنهيهم يردعهم عن الاستهتار في المعاصي فتصلح أحوالهم فلا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حلّ ببني إسرائيل حين عدموا من ينهاهم‏.‏ وفي هذا تنويه بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنّهم أولُو بقيّة من قريش يدعونهم إلى الإيمان حتى آمن كلّهم، وأولُو بقية بين غيرهم من الأمم الذين اختلطوا بهم يدعونهم إلى الإيمان والاستقامة بعد الدخول فيه ويعلّمون الدين، كما قال تعالى فيهم‏:‏

‏{‏كنتم خيرَ أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من القرون من قبلكم‏}‏ إشارة إلى البشارة بأنّ المسلمين لا يكونون كذلك ممّا يومئ إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن قبلكم‏}‏‏.‏

وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر «بِقْية» بكسر الباء الموحّدة وسكون القاف وتخفيف التّحتية فهي لغة ولم يذكرها أصحاب كتب اللغة ولعلّها أجريت مجرى الهيئة لما فيها من تخيّل السمت والوقار‏.‏

و ‏{‏إلاّ قليلاً‏}‏ استثناء منقطع من ‏{‏أولُوا بقيّة‏}‏ وهو يستتبع الاستثناء من القرون إذ القرون الذين فيهم ‏{‏أولوا بقيّة‏}‏ ليسوا داخلين في حكم القرون المذكورة من قبل، وهو في معنى الاستدراك لأنّ معنى التحْضيض متوجّه إلى القرون الذين لم يكن فيهم أولو بقية فهم الذين يُنعى عليهم فقدان ذلك الصنف منهم‏.‏ وهؤلاء القرون ليس منهم من يستثنى إذ كلهم غير ناجين من عواقب الفساد، ولكن لمّا كان معنى التحضيض قد يوهم أنّ جميع القرون التي كانت قبل المسلمين قد عدموا أولي بقية مع أن بعض القرون فيهم أولو بقيّة كان الموقع للاستدراك لرفع هذا الإيهام، فصار المستثنى غيرَ داخل في المذكور من قبل، فلذلك كان منقطعاً، وعلامة انقطاعه انتصابه لأنّ نصب المستثنى بعد النفي إذا كان المستثنى منه غير منصوب أمارة على اعتبار الانقطاع إذ هو الأفصح‏.‏ وهل يجيء أفصح كلام إلاّ على أفصح إعْراب، ولو كان معتبراً اتّصاله لجاء مرفوعاً على البدلية من المذكور قبله‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ممن أنجينا‏}‏ بيانيّة، بيان للقليل لأنّ الذين أنجاهم الله من القرون هم القليل الذين ينهون عن الفساد، وهم أتباع الرسل‏.‏

وفي البيان إشارة إلى أنّ نهيهم عن الفساد هو سبب إنجاء تلك القرون لأنّ النهي سبب السبب إذ النهي يسبّب الإقلاع عن المعاصي الذي هو سبب النجاة‏.‏

ودلّ قوله‏:‏ ‏{‏ممّن أنجينا منهم‏}‏ على أن في الكلام إيجازَ حذففٍ تقديره‏:‏ فكانوا يتوبون ويقلعون عن الفساد في الأرض فينجون من مسّ النار الذي لا دافع له عنهم‏.‏

وجملة ‏{‏واتّبع الذين ظلموا‏}‏ معطوفة على ما أفاده الاستثناء من وجود قليل ينهون عن الفساد، فهو تصريح بمفهوم الاستثناء وتبيين لإجماله‏.‏ والمعنى‏:‏ وأكثرهم لم ينهوا عن الفساد ولم ينتهوا هم ولا قومهم واتّبعوا ما أترفوا فيه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ تفصيلاً لمفهوم الاستثناء‏.‏

وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين لأنّهم لا يخلون من ظلم أنفسهم‏.‏

واتباعُ ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتّبِع على متبوعه‏.‏

وأترفوا‏:‏ أعطوا التّرف، وهو السعة والنعيم الذي سهّله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه‏.‏

و ‏{‏كانوا مجرمين‏}‏ أي في اتّباع الترف فلم يكونوا شاكرين، وذلك يحقّق معنى الاتّباع لأنّ الأخذ بالترف مع الشكر لا يطلق عليه أنه اتّباع بل هو تمحّض وانقطاع دون شوبه بغيره‏.‏ وفي الكلام إيجاز حذف آخر، والتقدير‏:‏ فحقّ عليهم هلاك المجرمين، وبذلك تهيّأ المقام لقوله بعده‏:‏ ‏{‏وما كان ربك ليهلك الْقُرى بظلم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 117‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏واتّبع الذين ظلموا ما أتفرفوا فيه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏ لما يؤذنه به مضمون الجملة المعطوف عليها من تعرّض المجرمين لحلول العقاب بهم بناء على وصفهم بالظلم والإجرام، فعقب ذلك بأن نزول العذاب ممّن نزل به منهم لم يكن ظلماً من الله تعالى ولكنهم جرّوا لأنفسهم الهلاك بما أفسدوا في الأرض والله لا يحبّ الفساد‏.‏

وصيغة ‏{‏وما كان ربك ليهلك‏}‏ تدل على قوة انتفاء الفعل، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب‏}‏ الآية في ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ‏}‏ في آخر ‏[‏العقود‏:‏ 116‏]‏ فارجع إلى ذينك الموضعين‏.‏

والمراد بالقرى‏}‏ أهلها، على طريقة المجاز المرسل كقوله‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

والباء في ‏{‏بظلم‏}‏ للملابسة، وهي في محل الحال من ‏{‏ربّك‏}‏ أي لمّا يهلك النّاس إهلاكاً متلبساً بظلم‏.‏

وجملة ‏{‏وأهلها مصلحون‏}‏ حال من ‏{‏القرى‏}‏ أي لا يقع إهلاك الله ظالماً لقوم مصلحين‏.‏

والمصلحون مقابل المفسدين في قوله قبله‏:‏ ‏{‏ينهون عن الفساد في الأرض وقوله وكانوا مجرمين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏، فالله تعالى لا يُهلك قوماً ظالماً لهم ولكن يُهلك قوماً ظَالمين أنفُسَهُمْ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنّا مُهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏‏.‏

والمراد‏:‏ الإهلاك العاجل الحالّ بهم في غير وقت حلول أمثاله دون الإهلاك المكتوب على جميع الأمم وهو فناءُ أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

لمّا كان النعي على الأمم الذين لم يقع فيهم من ينهون عن الفساد فاتّبعوا الإجرام، وكان الإخبار عن إهلاكهم بأنّه ليس ظلماً من الله وأنهم لو كانوا مصلحين لَمَا أهلكوا، لمّا كان ذلك كله قد يثير توهّم أن تعاصي الأمم عمّا أراد الله منهم خروج عن قبضة القُدرة الإلهية أعقب ذلك بما يرفع هذا التوهّم بأنّ الله قادر أن يجعلهم أمّة واحدة متفقة على الحق مستمرّة عليه كما أمرهم أن يكونوا‏.‏

ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظامُ هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوّح بهم في مسلك الضّلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة، وأن الله تعالى لمّا خلق العقول صالحة لذلك جعل منها قبول الحق بحسب الفطرة التي هي سلامة العقول من عوارض الجهالة والضلال وهي الفطرة الكاملة المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كان الناس أمّةً واحدة‏}‏، وتقدّم الكلام عليها في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ لم يدّخرهم إرشاداً أو نصحاً بواسطة الرُّسُل ودعاة الخير ومُلقّنيه من أتباع الرسل، وهم أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فمن الناس مهتد وكثير منهم فَاسِقُونَ ولو شاء لَخلق العقولَ البشرية على إلهام متّحد لا تَعْدوه كما خلق إدراك الحيوانات العُجم على نظام لا تتخطّاه من أوّل النشأة إلى انقضاء العالم، فنجد حال البعير والشّاة في زمن آدم عليه السّلام كحالهما في زماننا هذا، وكذلك يكون إلى انقراض العالم، فلا شكّ أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني لأنّ ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبديّة الخالصة إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضياً ثواب النعيم ولا كان الفساد مقتضياً عقاب الجحيم، فلا جرم أنّ الله خلق البشر على نظام من شأنه طريان الاختلاف بينهم في الأخور، ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض وهو أهمّها وأعظمها ليتفاوت الناس في مدارج الارتقاء ويَسْموا إلى مراتب الزلفى فتتميز أفراد هذا النوع في كل أنحاء الحياة حتى يعد الواحد بألف ‏{‏ليميز اللّهُ الخبيث من الطيب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وهذا وجه مناسبة عطف جملة ‏{‏وتمّت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجِنة والناس أجمعين‏}‏ على جملتي ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏‏.‏

ومفعول فعل المشيئة محذوف لأنّ المراد منه ما يُساوي مضمون جواب الشرط فحُذف إيجازاً‏.‏ والتقدير‏:‏ ولو شاء ربك أن يجعل الناس أمّة واحدة لجعلهم كذلك‏.‏

والأمّة‏:‏ الطائفة من الناس الذين اتّحدوا في أمر من عظائم أمور الحياة كالموطن واللّغة والنّسب والدّين‏.‏

وقد تقدمت عند قوله تعالي‏:‏ ‏{‏كان الناس أمّةً واحدةً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ فتفسر الأمّة في كل مقام بما تدل عليه إضافتها إلى شيء من أسباب تكوينها كما يقال‏:‏ الأمّة العربيّة والأمّة الإسلاميّة‏.‏

ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلّهم متّفقين على اتّباع دين الحق كما يدل عليه السياق، فآل المعنى إلى‏:‏ لو شاء ربك لجعل الناس أهل ملّة واحدة فكانوا أمّة واحدة من حيث الدّين الخالص‏.‏

وفهم من شرط ‏(‏لو‏)‏ أنّ جعلهم أمّة واحدة في الدّين منتفية، أي منتف دوامها على الوحدة في الدّين وإنْ كانوا قد وُجدوا في أوّل النشأة متّفقين فلم يلبثوا حتّى طرأ الاختلاف بينَ ابنيْ آدم عليه السّلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كان النّاس أمّة واحدة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما كان النّاس إلاّ أمّةً واحدةً فاختلفوا‏}‏ في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 19‏]‏؛ فعلم أنّ الناس قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمّة واحدة، ثم لا يدري هل يؤول أمرهم إلى الاتّفاق في الدّين فأعقب ذلك بأنّ الاختلاف دائم بينهم لأنّه من مقتضى ما جُبِلت عليه العقول‏.‏

ولمّا أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدّين، وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل، لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف، عُقّب عموم ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ من رحم ربك‏}‏، أي فعصمهم من الاختلاف‏.‏

وفهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجاً عن الدين وإن كان يزعم أنّه من مُتّبعيه، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة، فإنْ لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة، وكما فعل عليّ كرّم الله وجهه في قتال الحروريّة الذين كفّروا المسلمين‏.‏ وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف‏.‏

وأما تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏ فهو تأكيد بمضمون ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏‏.‏ والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏مختلفين‏}‏، واللاّم للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريداً لمقتضى تلك الجبلّة وعالماً به كما بيّناه آنفاً كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قولُه‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ لأنّ القصر هنالك إضافيّ، أي إلاّ بحالة أن يعبدوني لا يشركوا، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قُصدَ الردّ عليه بالقصر كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربية‏.‏

وتقديم المعمول على عامله في قوله‏:‏ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏ ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة، وبهذا يَندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين‏.‏

ثم أعقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنم من الجِنّة والنّاس أجمعين‏}‏ لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ من رحم ربّك‏}‏ يؤذن بأنّ المستثنى منه قوم مختلفون اختلافاً لا رحمة لهم فيه، فهو اختلاف مضاد للرحمة، وضدّ النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام‏.‏

وتمام كلمة الرب مجاز في الصّدق والتحقّق، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏، فالمختلفون هم نصيب جهنم‏.‏

والكلمة هنا بمعنى الكلام‏.‏ فكلمة الله‏:‏ تقديره وإرادته‏.‏ أطلق عليها كلمة‏}‏ مجازاً لأنّها سبب في صدور كلمة ‏(‏كن‏)‏ وهي أمر التكوين‏.‏ وتقدّم تفصيله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لأملأنّ جهنّم‏}‏ تفسير للكلمة بمعنى الكلام‏.‏ وذلك تعبير عن الإرادة المعبّر عنها بالكلام النفسي‏.‏

ويجوز أن تكون الكلمة كلاماً خَاطَبَ به الملائكةَ قبل خلق الناس فيكون ‏{‏لأمْلأنّ جهنّم‏}‏ تفسيراً ل ‏{‏كلمة‏}‏‏.‏

و ‏{‏من الجِنّة والنّاس‏}‏ تبعيض، أي لأمْلأن جهنم من الفريقين‏.‏ و‏{‏أجمعين‏}‏ تأكيد لشمول تثنية كِلا النوعين لاَ لِشُمُول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته ‏{‏من‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

هذا تذييل وحوصلة لما تقدّم من أنباء القرى وأنباء الرسل‏.‏‏.‏‏.‏

فجملة ‏{‏وكُلاّ نَقُصّ عليك من أنباء الرسل‏}‏ إلى آخرها عطفُ الإخبار على الإخبار والقصة على القصة، ولك أن تجعل الواو اعتراضيّة أو استئنافية‏.‏ وهذا تهيئة لاختتام السورة وفذلكة لما سيق فيها من القصص والمواعظ‏.‏

وانتصف ‏{‏كُلاّ‏}‏ على المفعولية لفعل ‏{‏نقُصُّ‏}‏‏.‏ وتقديمه على فعله للاهتمام ولِمَا فيه من الإبهام ليأتي بيانه بعده فيكون أرسخ في ذهن السامع‏.‏

وتنوين ‏{‏كُلاّ‏}‏ تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف المبيّن بقوله‏:‏ ‏{‏من أنباء الرسل‏}‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ وكلّ نبأ عن الرسل نقصّه عليك، فقوله‏:‏ ‏{‏من أنباء الرسل‏}‏ بيان للتّنوين الذي لحق ‏(‏كلاّ‏)‏‏.‏ و‏{‏ما نثبّت به فؤادك‏}‏ بدل من ‏{‏كلاّ‏}‏‏.‏

والقصص يأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن نقصّ عليك أحسن القصص‏}‏ في أوّل سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والتثبيت‏:‏ حقيقته التسكين في المكان بحيث ينتفي الاضطراب والتزلزل‏.‏ وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فثبتوا الذين آمنوا‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏، وهو هنا مستعار للتقرير كقوله‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

والفؤاد‏:‏ أطلق على الإدراك كما هو الشّائع في كلام العرب‏.‏

وتثبيت فؤاد الرّسول صلى الله عليه وسلم زيادة يقينه ومعلوماته بما وعده الله لأن كل ما يعاد ذكره من قصص الأنبياء وأحوال أممهم معهم يزيده تذكراً وعلماً بأنّ حاله جار على سنن الأنبياء وازداد تذكراً بأنّ عاقبته النصر على أعدائه، وتجدّد تسلية على ما يلقاه من قومه من التكذيب وذلك يزيده صبراً‏.‏ والصبر‏:‏ تثبيت الفؤاد‏.‏

وأنّ تماثل أحوال الأمم تلقاء دعوة أنبيائها مع اختلاف العصور يزيده علماً بأنّ مراتب العقول البشريّة متفاوتة، وأن قبول الهدي هو منتهى ارتقاء العقل، فيعلم أن الاختلاف شنشنة قديمة في البشر، وأنّ المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جُبِلَ عليها النظام البشري، فلا يُحْزنه مخالفة قومه عليه، ويزيده علماً بسمُوّ أتباعه الذين قبلوا هداه، واعتصموا من دينه بعراه، فجاءه في مثل قصة موسى عليه السّلام واختلاف أهل الكتاب فيه بيان الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين فلا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب‏.‏

والإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏في هذه‏}‏ قيل إلى السورة وروي عن ابن عبّاس، فيقتضي أن هذه السورة كانت أوفى بأنباء الرسل من السور النازلة قبلها وبهذا يجري على قول من يقول‏:‏ إنها نزلت قبل سورة يونس‏.‏ والأظهر أن تكون الإشارة إلى الآية التي قبلها وهي ‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلى قوله من الجنة والنّاس أجمعين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116 119‏]‏‏.‏ فتكون هذه الآيات الثلاث أول ما نزل في شأن النهي عن المنكر‏.‏

على أن قوله‏:‏ ‏{‏وجاءك في هذه الحق‏}‏ ليس صريحاً في أنه لم يجئ مثله قبل هذه الآيات، فتأمل‏.‏

ولعلّ المراد ب ‏{‏الحق‏}‏ تأمين الرسول من اختلاف أمته في كتابه بإشارة قوله‏:‏ ‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏ المفهم أنّ المخاطبين ليسوا بتلك المثابة، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفاً‏.‏

وتعريفُه إشارة إلى حق معهود للنبيء؛ إمّا بأن كان يتطلّبه، أو يسأل ربه‏.‏

والموعظة‏:‏ اسم مصدر الوعظ، وهو التّذكير بما يَصُدّ المرء عن عمل مضرّ‏.‏

والذكرى‏:‏ مجرد التّذكير بما ينفع‏.‏ فهذه موعظة للمسلمين ليحذروا ذلك وتذكيراً لهم بأحوال الأمم ليقيسوا عليها ويتبصّروا في أحوالها‏.‏ وتنكير ‏{‏موعظة وذكرى‏}‏ للتعظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وجاءك في هذه الحق‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 120‏]‏ الآية، لأنّها لما اشتملت على أنّ في هذه القصة ذكرى للمؤمنين أمَر بأن يخاطب الذين لا يؤمنون بما فيها خطاب الآيِس من انتفاعهم بالذكرى الذي لا يعبأ باعراضهم ولا يصدّه عن دعوته إلى الحقّ تألبهم على باطلهم ومقاومتهم الحق‏.‏ فلا جرم كان قوله‏:‏ ‏{‏وقل للذين لا يؤمنون‏}‏ عديلاً لقوله‏:‏ ‏{‏وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 120‏]‏‏.‏ وهذا القول مأمور أن بقوله على لسانه ولسان المؤمنين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا على مكانتكم إنّا عاملون‏}‏ هو نظير ما حكي عن شعيب عليه السّلام في هذه السورة آنفاً‏.‏

وضمائر ‏{‏إنّا عاملون‏}‏ ‏{‏وإنّا منتظرون‏}‏ للنبيء والمؤمنين الذين معه‏.‏

وفي أمر الله رسوله بأن يقول ذلك على لسان المؤمنين شهادة من الله بصدق إيمانهم‏.‏ وفيه التفويض إلى رأس الأمّة بأن يقطع أمراً عن أمته ثقة بأنّهم لا يردّون فعله‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهوازن لما جاءوا تائبين وطالبين رَدّ سباياهم وغنائمهم «اختاروا أحدَ الأمرين السبيَ أو الأموال» فلمّا اختاروا السبي رجع السبي إلى أهله ولم يسْتشر المسلمين، ولكنّه جعل لمن يُطيب ذلك لهوازن أن يكون على حقه في أوّل ما يجيء من السبي، فقال المؤمنون‏:‏ طيّبنا ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وانتظروا إنّا منتظرون‏}‏ تهديد ووعيد، كا يقال في الوعيد‏:‏ سوف ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

كلام جامع وهو تذييل للسورة مؤذن بختامها، فهو من براعة المقطع‏.‏ والواو عاطفة كلاماً على كلام، أوْ واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير‏.‏

واللاّم في ‏{‏لله‏}‏ للملك وهو ملك إحاطة العلم، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض‏.‏ وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وُعدوا من النعيم المغيب عنهم، ونذارة المشركين بما تُوعَدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة‏.‏

وتقديم المجروريْن في ‏{‏ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر‏}‏ لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض، لأنّ ذلك ممّا لا يشاركه فيه أحد‏.‏ وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله، وهو تعريض بفساد آراء الذين عبدوا غيره، لأنّ من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد، ومن كان كذلك كان حقيقاً بأن يفرد بالعبادة‏.‏

ومعنى إرجاع الأمر إليه‏:‏ أنّ أمر التّدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله، أي إلى علمه وقدرته، وإنْ حسَب الناس وهيّأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد، وكثيراً ما اعتزّ العزيز بعزّته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب، وربّما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأمر‏}‏ تعريف الجنس فيعمّ الأمور، وتأكيد الأمر ب ‏{‏كله‏}‏ للتّنصيص على العموم‏.‏

وقرأ مَن عدا نافعاً ‏{‏يرجع‏}‏ ببناء الفعل بصيغة النائب، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله‏.‏ وقرأه نافع بصيغة الفاعل على أن يكون ‏(‏الأمر‏)‏ هو فاعل الرجوع، أي يرجع هو إلى الله‏.‏

وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصَرّف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرّف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجوّل الباحث عن مكان يستقرّ به ثم إيوائه إلى المقرّ اللائق به ورجوعه إليه، فهي تمثيلية مكنية رُمز إليها بفعل ‏{‏يرجع‏}‏ وتعديته ب ‏{‏إليه‏}‏‏.‏

وتفريع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والتوكّل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر، لأنّ الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكّل عليه في كلّ مهم‏.‏ وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكّلوا على شفاعة الآلهة ونفعها‏.‏ ويتضمّن أمر النبي عليه الصلاة والسّلام بالدّوام على العبادة والتوكّل‏.‏

والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكّل عليه دون غيره بقرينة ‏{‏وإليه يرجع الأمر كلّه‏}‏، وبقرينة التفريع لأنّ الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكّل إلى غيره، فلذلك لم يؤْتَ بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما‏.‏

وجملة ‏{‏وما ربك بغافل عَمّا تعملون‏}‏ فذلكة جامعة، فهو تذييل لما تقدّم‏.‏ والواو فيه كَالْوَاو في قوله‏:‏ ‏{‏ولله غيبُ السّماوات والأرض‏}‏ فإنّ عدم غفلته عن أيّ عمل أنّه يعطي كل عامل جزاء عمله إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشرّ، ولذلك علّق وصف الغافل بالعمل ولم يعلّق بالذوات نحو‏:‏ بغافل عنكم، إيماء إلى أنّ على العمل جزاء‏.‏

وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب «عمّا تعملون» بتاء فوقية خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والناس معه في الخطاب‏.‏ وقرأ من عداهم بالمثنّاة التحتيّة على أن يعود الضمير إلى الكفّار فهو تسلية للنبيء عليه الصلاة والسّلام وتهديد للمشركين‏.‏

سورة يوسف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏‏.‏

تقدم الكلام على نظاير ‏{‏الر‏}‏ ونحوها في أوّل سورة البقرة‏.‏

الكلام على ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏ مضى في سورة يونس‏.‏ ووُصف الكتاب هنا ب ‏{‏المبين‏}‏ ووصف به في طالعة سورة يونس ب ‏{‏الحكيم‏}‏ لأنّ ذكر وصف إبانته هنا أنسب، إذ كانت القصّة التي تضمّنتها هذه السّورة مفصّلة مبيّنة لأهمّ مَا جرى في مدة يوسف عليه السّلام بمصر‏.‏ فقصّة يوسف عليه السّلام لم تكن معروفة للعرب قبل نزول القرآن إجمالاً ولا تفصيلاً، بخلاف قصص الأنبياء‏:‏ هود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب عليهم السّلام أجمعين، إذ كانت معروفة لديهم إجمالاً، فلذلك كان القرآن مبيّناً إيّاها ومفصّلاً‏.‏

ونزولها قبل اختلاط النبي صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة معجزة عظيمة من إعلام الله تعالى إيّاه بعلوم الأوّلين، وبذلك ساوى الصحابةُ علماءَ بني إسرائيل في علم تاريخ الأديان والأنبياء وذلك من أهم ما يعلمه المشرعون‏.‏

فالمبين‏:‏ اسم فاعل من أبان المتعدي‏.‏ والمراد‏:‏ الإبانة التامّة باللفظ والمعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

استئناف يفيد تعليل الإبانة من جهتي لفظه ومعناه، فإنّ كونه قرآناً يدل على إبانة المعاني، لأنّه ما جعل مقروءاً إلاّ لما في تراكيبه من المعاني المفيدة للقارئ‏.‏

وكونه عربياً يفيد إبانة ألفاظه المعانيَ المقصودة للّذين خوطبوا به ابتداء، وهم العرب، إذ لم يكونوا يتبيّنون شيئاً من الأمم التي حولهم لأنّ كتبهم كانت باللغات غير العربية‏.‏

والتّأكيد ب ‏(‏إنّ‏)‏ متوجّه إلى خبرها وهو فعل ‏{‏أنزلناه‏}‏ ردّاً على الذين أنكروا أن يكون منزلاً من عند الله‏.‏

وضمير ‏{‏أنزلناه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الكتاب‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏الكتاب المبين ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقرآناً‏}‏ حال من الهاء في ‏{‏أنزلناه‏}‏، أي كتاباً يقرأ، أي منظماً على أسلوب معدّ لأنْ يقْرأ لا كأسلوب الرسائل والخطب أو الأشعار، بل هو أسلوب كتاب نافع نفعاً مستمراً يقرأه الناس‏.‏

و ‏{‏عربيّاً‏}‏ صفة ل ‏{‏قرآناً‏}‏‏.‏ فهو كتاب بالعربيّة ليس كالكتب السّالفة فإنّه لم يسبقه كتاب بلغة العرب‏.‏

وقد أفصح عن التعليل المقصود جملة ‏{‏لعلّكم تعقلون‏}‏، أي رجاء حصول العلم لكم من لفظه ومعناه، لأنّكم عرب فنزوله بلغتكم مشتملاً على ما فيه نفعكم هو سبب لعقلكم ما يحتوي عليه، وعُبّرَ عن العلم بالعقل للإشارة إلى أنّ دلالة القرآن على هذا العلم قد بلغت في الوضوح حدّ أن ينزّل من لم يَحصل له العلم منها منزلة من لا عقل له، وأنّهم ما داموا معرضين عنه فهم في عداد غير العقلاء‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏تعقلون‏}‏ للإشارة إلى أنّ إنزاله كذلك هو سبب لحصول تعقل لأشياء كثيرة من العلوم من إعجاز وغيره‏.‏

وتقدّم وَجه وقوع ‏(‏لعلّ‏)‏ في كلام الله تعالى، ومحمل الرجاء المفاد بها على ما يؤول إلى التعليل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلّكم تشكرون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏52‏)‏، وفي آيات كثيرة بعدها بما لا التباس بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

هذه الجملة تتنزل من جملة ‏{‏إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 2‏]‏ منزلة بدل الاشتمال لأنّ أحسن القصص ممّا يشتمل عليه إنزال القرآن‏.‏ وكون القصص من عند الله يتنزّل منزلة الاشتمال من جملة تأكيد إنزاله من عند الله‏.‏

وقوله‏:‏ بما أوحينا إليك هذا القرآن‏}‏ يتضمّن رابطاً بين جملة البدل والجملة المبدل منها‏.‏

وافتتاح الجملة بضمير العظمة للتّنويه بالخبر، كما يقول كتّاب «الديوان»‏:‏ أمير المؤمنين يأمر بكذا‏.‏

وتقديم الضمير على الخبر الفعليّ يفيد الاختصاص، أي نحن نقصّ لا غيرُنا، ردّاً على من يطعن من المشركين في القرآن بقولهم‏:‏ ‏{‏إنّما يعلمه بشرٌ‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 103‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين اكتتبها‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 5‏]‏ وقولهم‏:‏ يُعلمه رجل من أهل اليمامة اسمه الرّحمان‏.‏ وقول النضر بن الحارث المتقدّم ديباجة تفسير هذه السورة‏.‏

وفي هذا الاختصاص توافُق بين جملة البدل والجملة المبدل منها في تأكيد كون القرآن من عند الله المفاد بقوله‏:‏ ‏{‏إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

ومعنى نَقُصُّ‏}‏ نخبر الأخبار السّالفة‏.‏ وهو منقول من قَصّ الأثر إذا تتبّع مواقع الأقدام ليتعرّف منتهى سير صاحبها‏.‏ ومصدره‏:‏ القصّ بالإدغام، والقصص بالفكّ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فارتدّا على آثارهما قصصاً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وذلك أنّ حكاية أخبار الماضين تشبه اتّبَاعَ خطاهم، ألاَ ترى أنّهم سمّوا الأعمال سِيرة وهي في الأصل هيئة السّير، وقالوا‏:‏ سار فلان سِيرة فلان، أي فعل مثل فعله، وقد فرّقوا بين هذا الإطلاق المجازي وبين قصّ الأثر فخصّوا المجازي بالصّدر المفكّك وغلبوا المصدر المدغم على المعنى الحقيقيّ مع بقاء المصدر المفكك أيضاً كما في قوله‏:‏ فارتدّا على آثارهما قَصصاً‏}‏‏.‏

ف ‏{‏أحسن القصص‏}‏ هنا إمّا مفعول مطلق مبيّن لنوع فعله، وإمّا أن يكون القصص بمعنى المفعول من إطلاق المصدر وإرادة المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، وهو إطلاق للقصص شائع أيضاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وقد يكون وزن فَعْل بمعنى المفعول كالنّبأ والخبر بمعنى المنبّأ به والمخبّر به، ومثله الحَسب والنقَض‏.‏

وجعل هذا القَصص أحسن القصص لأنّ بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس‏.‏ وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمّنه من العبر والحكم، فكلّ قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكلّ قصة في القرآن هي أحسن من كلّ ما يقصّه القاصّ في غير القرآن‏.‏ وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصّة يوسف عليه السّلام أحسن من بقيّة قصص القرآن كما دلّ عليه قوله‏:‏ بما أوحينا إليك هذا القرآن‏}‏‏.‏

والباء في ‏{‏بما أوحينا إليك‏}‏ للسببيّة متعلّقة ب ‏{‏نقُصُّ‏}‏، فإنّ القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنّه وارد من العليم الحكيم، فهو يوحي ما يعلم أنّه أحسن نفعاً للسّامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذّوق ممّا لا تأتي بمثله عقول البشر‏.‏

واسم الإشارة لزيادة التمييز، فقد تكرّر ذكر القرآن بالتّصريح والإضمار واسم الإشارة ستّ مرّات، وجمع له طرق التعريف كلّها وهي اللاّم والإضمار والعلمية والإشارة والإضافة‏.‏

وجملة ‏{‏وإن كنتَ من قبله لمن الغافلين‏}‏ في موضع الحال من كاف الخطاب‏.‏ وحرف ‏{‏إنْ‏}‏ مخفّف من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف‏.‏

وجملة ‏{‏كنتَ من قبله لمن الغافلين‏}‏ خبر عن ضمير الشأن المحذوف واللاّم الدّاخلة على خبر ‏{‏كنتَ‏}‏ لام الفرق بين ‏{‏إنْ‏}‏ المخففة و‏(‏إنْ‏)‏ النافية‏.‏

وأدخلت اللاّم في خبر كان لأنه جزء من الجملة الواقعة خبراً عن ‏(‏إن‏)‏‏.‏

والضمير في ‏{‏قبله‏}‏ عائد إلى القرآن‏.‏ والمراد من قبل نزوله بقرينة السياق‏.‏

والغفلة‏:‏ انتفاء العلم لعدم توجّه الذهن إلى المعلوم، والمعنى المقصود من الغفلة ظاهر‏.‏ ونكتة جعله من الغافلين دون أن يوصف وحده بالغفلة للإشارة إلى تفضيله بالقرآن على كل من لم ينتفع بالقرآن فدخل في هذا الفضل أصحابه والمسلمون على تفاوت مراتبهم في العلم‏.‏

ومفهوم ‏{‏من قبله‏}‏ مقصود منه التعريض بالمشركين المُعْرضين عن هدي القرآن‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم «مَثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقية قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير، وكانت منها أجادب أمسَكَتْ الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقَوا وزَرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنّما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تُنبت كلأ‏.‏ فذلك مَثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلّم‏.‏ ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به» أي المشركين الذين مثَلُهم كمثل من لا يرفع رأسه لينظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إذ قال‏}‏ بدل اشتمال أو بَعْض من ‏{‏أحْسَن القصص‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 3‏]‏ على أن يكون أحسن القصص بمعنى المفعول، فإنّ أحسن القصص يشتمل على قصَص كثير، منه قَصص زمان قول يوسفَ عليه السّلام لأبيه إني رأيت أحَدَ عَشَرَ كوكباً‏}‏ وما عقب قوله ذلك من الحوادث‏.‏ فإذا حمل ‏{‏أحسن القصص‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 3‏]‏ على المصدر فالأحسن أن يكون إذْ‏}‏ منصوباً بفعل محذوف يدلّ عليه المقام، والتّقدير‏:‏ اذْكر‏.‏

ويُوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ الخ في سورة الأنعام ‏(‏83‏)‏‏.‏ وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه ‏(‏راحِيل‏)‏‏.‏ وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة‏.‏ وكان يوسف أحب أبناء يعقوب عليهما السّلام إليه وكان فَرْط محبة أبيه إياه سَببَ غيرة إخوته منه فكادُوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم‏.‏ فأخرجوه معهم بعلّة اللعب والتفسح، وألقَوْهُ في جبّ، وأخبروا أباهم أنّهم فقدوه، وأنهم وجدوا قميصه ملوّثاً بالدّم، وأروه قميصه بعد أن لطّخوه بدم، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذٍ في حكم أمّة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو ‏(‏الهكْصوص‏)‏‏.‏ وذلك في زمن الملك ‏(‏أبو فيس‏)‏ أو ‏(‏ابيبي‏)‏‏.‏ ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح عليه السّلام، فاشتراه ‏(‏فوطيفار‏)‏ رئيس شرطة فرعون الملقّبُ في القرآن بالعزيز، أي رئيس المدينة‏.‏ وحدثت مكيدة له من زوج سيّده ألقي بسببها في السجن‏.‏ وبسبب رؤيا رآها الملِكُ وعَبّرها يوسف عليه السّلام وهو في السِجن، قَرّبه الملك إليه زُلفى، وأولاه على جميع أرض مصر، وهو لقب العزيز وسَمّاه ‏(‏صفنات فعنيج‏)‏، وزوّجه ‏(‏أسنات‏)‏ بنت أحد الكهنة وعمره يومئذٍ ثلاثون سنة‏.‏ وفي مدة حكمه جَلَب أباه وأقاربه من البريّة إلى أرض مصر، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر‏.‏ وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى عليه السّلام‏.‏ وحنّط على الطريقة المصرية‏.‏ ووُضع في تابوت، وأوصى قبل موته قومه بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم‏.‏ ولمّا خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف عليه السّلام معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في ‏(‏شكِيم‏)‏ في مدة يوشع بن نون‏.‏

والتاء في ‏(‏أبَت‏)‏ تاء خاصّة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم، فمفادها مفاد‏:‏ يا أبي، ولا يكاد العرب يقولون‏:‏ يا أبي‏.‏ وورد في سَلام ابن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حين وقف على قبورهم المنوّرة‏.‏

وقد تحيّر أيمّة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف، وأنها جعلت عوضاً عن ياء المتكلم لِعلة غير وجيهة‏.‏ والذي يظهر لي أنّ أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنّه نقص من لام الكلمة، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا‏:‏ يا أبتي، ثم استغنوا عن ياء الإضافة بالكسرة لكثرة الاستعمال‏.‏ ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه‏:‏

أيَا أبتي لا زلتَ فينا فإنّمَا *** لنا أملٌ في العيْش ما دمت عائشاً

ويجوز كسر هذه التّاء وفتحها، وبالكسر قرأها الجمهور، وبفتح التّاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر‏.‏

والنداء في الآية مع كون المنادى حاضراً مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له‏.‏

والكوكب‏:‏ النجم، تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا جن عليه الليل رأى كوكباً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏76‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏رأيتهم‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏رأيتُ أحدَ عَشَرَ كوكباً‏}‏، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيداً لفظياً أو استئنافاً بيانياً، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي أخباراً عمّا رأى‏.‏

ومثال ذلك ما وقع في «الموطّأ» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ رأيت في المنام أني أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل، ورأيت فيها بقرا تذبح، ورأيت‏.‏‏.‏ واللّهُ خير ‏"‏‏.‏ وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطّويل ‏"‏ إنّه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنّهما قالا لي‏:‏ انطلق، وإنّي انطلقت معهما، وإنّا أتينا على رجل مضطجع ‏"‏ الحديث بتكرار كلمة ‏(‏إنّ‏)‏ وكلمة ‏(‏إنّا‏)‏ مراراً في هذا الحديث‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أحَدَ عَشَرَ‏}‏ بفتح العين من ‏{‏عَشَرَ‏}‏‏.‏ وقرأه أبو جعفر بسكون العين‏.‏

واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله‏:‏ ‏{‏رأيتهم لي ساجدين‏}‏، لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد، كما قال تعالى في الأصنام ‏{‏وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 198‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يا أيها النمل ادخلوا‏}‏ ‏[‏سورة النمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقال جماعة من المفسّرين‏:‏ إنه لمّا كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء، وهي حالة السجود نزّلها منزلة العقلاء، فأطلق عليها ضمير ‏(‏هم‏)‏ وصيغة جمعهم‏.‏

وتقديم المجرور على عامله في قوله‏:‏ لي ساجدين‏}‏ للاهتمام، عبّر به عن معنى تضمّنه كلام يوسف عليه السّلام بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربيّة‏.‏

وابتداء قصة يوسف عليه السّلام بذكر رؤياه إشارة إلى أنّ الله هيّأ نفسه للنبوءة فابتدأه بالرؤيا الصّادقة كما جاء في حديث عائشة «أنّ أوّلَ ما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلق الصبح»‏.‏ وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف عليه السّلام من طهارة وزكاء نفس وصبر‏.‏ فذكر هذه الرؤيا في صدر القصّة كالمقدّمة والتّمهيد للقصّة المقصودة‏.‏

وجعل الله تلك الرؤيا تنبيهاً ليوسف عليه السّلام بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبتهُ طيبة‏.‏

وإنما أخبر يوسف عليه السّلام أباه بهاته الرؤيا لأنّه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيراً، وعلم أنّ الكواكب والشّمس والقمر كناية عن موجودات شريفة، وأنّ سجود المخلوقات الشّريفة له كناية عن عظمة شأنه‏.‏ ولعلّهُ علم أنّ الكواكب كناية عن موجودات متماثلة، وأنّ الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه‏.‏

وكانوا يعدّون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الزائي غير منحرف ولا مضطرب، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق عليهم السّلام‏.‏ فقد كانوا آل بيت نبوءة وصفاء سريرة‏.‏

ولمّا كانت رؤيا الأنبياء وَحْياً، وقد رأى إبراهيم عليه السّلام في المنام أنّه يذبح وَلَد فلمّا أخبره ‏{‏قال يا أبت افْعل ما تؤمَر‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وإلَى ذلك يشير قول أبي يوسف عليه السّلام‏:‏ ‏{‏ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثاً ملكياً‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «لم يَبق من المبشرات إلاّ الرؤيا الصّالحة يراها المسلم أو ترى له» والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوءة‏.‏ وقد جاء في التّوراة أن الله خاطب إبراهيم عليه السّلام في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملْكي صَادق وبشّره بأنه يهبه نسلاً كثيراً، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها ‏(‏في الإصحاح 15 من سفر التكوين‏)‏‏.‏

أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام، ولعل قول كعب بن زهير‏:‏

إن الأماني والأحلام تضليل ***

يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم‏.‏

ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحِجْر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصَف له مكانها، وكانت جرهم سَدَموها عند خروجهم من مكة‏.‏

وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن‏:‏ راكباً أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ‏:‏ يا آل غُدَر أُخرُجوا إلى مصارعكم في ثلاث فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال‏.‏

وقد عدت المرائي النوميّة في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السّالفة مثل الحنيفية‏.‏ وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدّين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق، وأبو علي بن سينا في الإشارات بما حاصله‏:‏ وأصله‏:‏ أنّ النفس الناطقة ‏(‏وهي المعبّر عنها بالروح‏)‏ هي من الجواهر المجرّدة التي مَقرها العالم العلوي، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول، وأنّها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة، وأنّ للنفس الناطقة آثاراً من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسّه المشترك، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان‏:‏ أحدهما‏}‏ حِسّيّ خارجيّ، والآخر باطنيّ عقليّ أو وهميّ، وقوَى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتدّ بعضُها ضعف البعضُ الآخر كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة، فكذلك إنْ تَجَرّدَ الحس الباطن للعمل شغل عن الحسّ الظاهر، والنوم شاغل للحسّ، فإذا قلّت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلّص النفس عن شغل مخيلاتها، فتطلّع على أمور مغيبة، فتكونُ المنامات الصادقة‏.‏

والرؤيا الصادقةُ حالةٌ يكرم الله بها بعض أصْفيائه الذين زكت نفوسهم فتتّصل نفوسهم بتعلّقات من علم الله وتعلّقات من إرادته وقدرته وأمره التكوينيّ فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزّمان قبل وقوعها، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعاً عاديّاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «الرؤيا الصالحة من الرّجل الصالح جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النبوءة»‏.‏ وقد بُيّن تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث‏.‏ وقال‏:‏ «لم يبق من النبوءة إلاّ المبشّرات وهي الرؤيا الصّالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له»‏.‏

وإنّما شرطت المرائي الصادقة بالنّاس الصّالحين لأنّ الارتياض على الأعمال الصّالحة شاغل للنفس عن السيّئات، ولأنّ الأعمال الصّالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتّصال بعالَمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه، وبعكس ذلك الأعمال السيّئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها‏.‏

والرؤيا مراتب‏:‏

منها أن‏:‏ ترى صور أفعال تتحقّق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من مكّة إلى أرض ذات نخل، وظنّه أنّ تلك الأرض اليمامة فظهر أنّها المدينة، ولا شك أنّه لمّا رأى المدينة وجَدَها مطابقة للصّورة التي رآها، ومثل رؤياه امرأة في سَرَقَة من حرير فقيل له اكشِفْها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة، فعلم أن سيتزوجها‏.‏ وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية‏.‏

ومنها أن ترى صُورٌ تكون رموزاً للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيّلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء، إلاّ أنّ هذا تخترعه الألباب في حالة هدوّ الدمَاغ من الشواغل الشاغلة، فيكون أتقن وأصدق‏.‏

وهذا أكثر أنواع المرائي‏.‏ ومنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه يشرب من قدح لَبن حتى رأى الريّ في أظفاره ثم أعطَى فضلَه عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه‏.‏ وتعبيره ذلك بأنّه العلم‏.‏

وكذلك رؤياه امرأة سوداء ناشرة شَعَرَهَا خارجة من المدينة إلى الجحفة، فعبّرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة، ورئِيَ عبد الله بن سلام أنه في روضة، وأنّ فيها عموداً، وأنّ فيه عروة، وأنّه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود، فعبّره النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه لا يزال آخذاً بالإيمان الذي هو العروة الوثقى، وأنّ الروضة هي الجنّة، فقد تَطابَق التمثيل النوميّ مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 256‏]‏، وفي قول النبي‏:‏ «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات‏.‏ وقد تقدّمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

والنّداء مع حضور المخاطب مستعمل في طلب إحضار الذهن اهتماماً بالغرض المخاطب فيه‏.‏

و ‏{‏بُنَيّ‏}‏ بكسر الياء المشدّدة تصغير ابن مع إضافته إلى ياء المتكلم وأصله بُنَيْوي أو بُنَيْيي على الخلاف في أنّ لام ابن الملتزمَ عدمُ ظهورها هي واو أم ياء‏.‏ وعلى كلا التقديرين فإنّها أدغمت فيها ياء التصغير بعد قلب الواو ياء لتقارب الياء والواو، أو لتمَاثلهما فصار ‏(‏بنَيّي‏)‏‏.‏ وقد اجتمع ثلاث ياءات فلزم حذف واحدة منها فحذفت ياء المتكلم لزوماً وألقيت الكسرة التي اجتلبت لأجلها على ياء التصغير دلالة على الياء المحذوفة‏.‏ وحذفُ ياء المتكلم من المنادى المضاف شائع، وبخاصة إذا كان في إبقائها ثقل كما هنا، لأنّ التقاء ياءات ثلاث فيه ثقل‏.‏

وهذا التّصغير كناية عن تحبيب وشفقة‏.‏ نزل الكبير منزلة الصغير لأنّ شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه‏.‏ وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له‏.‏

والقصّ‏:‏ حكاية الرؤيا‏.‏ يقال‏:‏ قص الرؤيا إذا حكاها وأخبر بها‏.‏ وهو جاءٍ من القصص كما علمت آنفاً‏.‏

والرؤيا بألف التأنيث هي‏:‏ رؤية الصور في النوم، فرّقوا بينها وبين رؤية اليقظة باختلاف علامتي التأنيث، وهي بوزن البشرى والبقيَا‏.‏

وقد علم يعقوب عليه السّلام أن إخوة يوسف عليه السّلام العشرة كانوا يغارون منه لفرط فضله عليهم خَلقا وخلقا، وعلم أنّهم يعبرون الرؤيا إجمالاً وتفصيلاً، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف عليه السّلام على إخوته الذين هم أحدَ عَشَرَ فخشي إن قصّها يوسف عليه السلام عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حدّ الحسد، وأن يعبّروها على وجهها فينشأ فيهم شرّ الحاسد إذا حسد، فيكيدوا له كيداً ليسلموا من تفوقّه عليهم وفضله فيهم‏.‏

والكيد‏:‏ إخفاء عمل يضرّ المكيد‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُمْلِي لهم إن كيدي متين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏183‏)‏‏.‏

واللاّم في ‏{‏لك‏}‏ لتأكيد صلة الفعل بمفعوله كقوله‏:‏ شكرت لك النعمى‏.‏

وتنوين ‏{‏كيداً‏}‏ للتعظيم والتهويل زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم‏.‏

وقصد يعقوب عليه السّلام من ذلك نجاة ابنه من أضرار تلحقه، وليس قصده إبطال ما دلّت عليه الرؤيا فإنّه يقع بعد أضرار ومشاق‏.‏ وكان يعلم أن بنيه لم يبلغوا في العلم مبلغ غوص النظر المفضي إلى أن الرّؤيا إن كانت دالة على خير عظيم يناله فهي خبر إلهي، وهو لا يجوز عليه عدم المطابقة للواقع في المستقبل، بل لعلّهم يحسبونها من الإنذار بالأسباب الطبيعية التي يزول تسببها بتعطيل بعضها‏.‏

وقول يعقوب عليه السّلام هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأنّ التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته لأنّه وثق منه بكمال العقل، وصفاء السريرة، ومكارم الخلق‏.‏ ومن كان حاله هكذا كان سمحاً، عاذراً، معرضاً عن الزلاّت، عالماً بأثر الصبر في رفعة الشأن، ولذلك قال لإخوته ‏{‏إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 90‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏ وقد قال أحد ابني آدم عليه السّلام لأخيه الذي قال له لأقتلنّك حسداً ‏{‏لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله رب العالمين‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فلا يشكل كيف حذّر يعقوبُ يوسفَ عليهما السّلام من كيد إخوته، ولذلك عقب كلامه بقوله‏:‏ إن الشيطان للإنسان عدوّ مبين‏}‏ ليعلم أنه ما حذّره إلاّ من نزغ الشيطان في نفوس إخوته‏.‏ وهذا كاعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للرّجلين من الأنصار اللذين لقياه ليلاً وهو يشيّع زوجه أمّ المؤمنين إلى بيتها فلمّا رأياه ولّيَا، فقال‏:‏ «على رسلكما إنها صفية، فقالا‏:‏ سبْحان الله يا رسول الله وأكبرا ذلك، فقال لهما‏:‏ إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما»‏.‏ فهذه آيةُ عبرة بتوسّم يعقوب عليه السّلام أحوال أبنائه وارتيائه أن يكفّ كيدَ بعضهم لبعض‏.‏

فجملة ‏{‏إن الشيطان للإنسان‏}‏ الخ واقعة موقع التعليل للنهي عن قصّ الرؤيا على إخوته‏.‏ وعداوة الشيطان لجنس الإنسان تحمله على أن يدفعهم إلى إضرار بعضهم ببعض‏.‏

وظاهر الآية أن يوسف عليه السّلام لم يقص رؤياه على إخوته وهو المناسب لكماله الذي يبعثه على طاعة أمْر أبيه‏.‏ ووقع في الإسرائيليات أنه قصّها عليهم فحسدوه‏.‏