فصل: تفسير الآية رقم (30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

النسوة‏:‏ اسم جمع امرأة لا مفرد له، وهو اسم جمع قِلة مثله نساء‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونساءَنا ونساءَكم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏61‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في المدينة‏}‏ صفة لنسوة‏.‏ والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كنّ متفرقات في ديار من المدينة‏.‏ وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة ‏(‏مَنْفِيسْ‏)‏ حيث كان قصر العزيز، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز‏.‏ وقيل‏:‏ إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنّها أرادت التشاور معهن، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن ‏(‏ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره‏)‏‏.‏ وهذا الذي يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏وأعْتَدت لهن متكئاً‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولئن لم يفعل‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

والفتى‏:‏ الذي في سنّ الشباب، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا‏.‏ وإضافته إلى ضمير امرأة العزيز‏}‏ لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه‏.‏

وشَغَف‏:‏ فعل مشتق من اسم جامد، وهو الشِغاف بكسر الشين المعجمة وهو غلاف القلب‏.‏ وهذا الفعل مثل كَبَدهُ ورآهُ وجَبَهه، إذا أصاب كَبده ورئته وجَبهته‏.‏

والضمير المستتر في ‏{‏شغفها‏}‏ ل ‏{‏فتاها‏}‏‏.‏ ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله‏:‏ ‏{‏حبّا‏}‏‏.‏ وأصله شغفها حبه، أي أصاب حبه شغافها، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب، كناية عن التمكن‏.‏

وتذكير الفعل في ‏{‏وقال نسوة‏}‏ لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالِم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل ‏{‏وجاءت سيارة‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وأما الهاء التي في آخر نسوة‏}‏ فليست علامة تأنيث بل هي هاء فِعلة جمع تكسير، مثل صبية وغلمة‏.‏

وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف عليه السّلام باسم العزيز عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية‏.‏

ومجيء تراود‏}‏ بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها‏.‏ ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وجملة قد شغفها حباً‏}‏ في موضع التعليل لجملة ‏{‏تراود فتاها‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنا لنراها في ضلال مبين‏}‏ استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها‏.‏ والتأكيد ب ‏(‏إنّ‏)‏ واللام لتحقيق اعتقادهِن ذلك، وإبعاداً لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى‏.‏

والضلال هنا‏:‏ مخالفة طريق الصواب، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى، وليس المراد الضلال الديني‏.‏ وهذا كقوله تعالى آنفاً‏:‏ ‏{‏إن أبانا لفي ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 8‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

حقّ سمع أن يعدّى إلى المسموع بنفسه، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخْبِرت، كقول المثل‏:‏ «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أي تخبر عنه‏.‏ وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وأطلق على كلامهن اسم المكر، قيل‏:‏ لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها فيغريَها بعَرضها يوسف عليه السّلام عليهن فيريْنَ جماله لأنهن أحببن أن يرينه‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يُضمرن حسَدَها على اقتناء مثله، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر‏.‏

وأعتدت‏}‏‏:‏ أصله أعددت، أبدلت الدال الأولى تاء، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏37‏)‏‏.‏

والمتّكأ‏:‏ محل الاتكاء‏.‏ والاتكاء‏:‏ جِلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصب الأعلى‏.‏ وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة، أي أحضرت لهن نمارق يتّكِئْن عليها لتناول طعام‏.‏ وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادةً للرومان، ولم تزل أسرّة اتكائهم موجودة في ديار الآثار‏.‏ وقال النبي‏:‏ أمّا أنَا فلا آكلُ متكئاً‏.‏

ومعنى آتت‏}‏ أمرت خدمها بالإيتاء كقوله‏:‏ ‏{‏يا هامان ابن لي صرحاً‏}‏ ‏[‏سورة غافر‏:‏ 36‏]‏‏.‏

والسكين‏:‏ آلة قطع اللحم وغيره‏.‏ قيل‏:‏ أحضرت لهن أتْرُجاً ومَوْزاً فحضرن واتكأن، وقد حذف هذان الفعلان إيجازاً‏.‏ وأعطت كل واحدة سكيناً لقشر الثمار‏.‏

وقولها‏:‏ أُخرج عليهن‏}‏ يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها‏.‏ وعدّي فعل الخروج بحرف ‏(‏على‏)‏ لأنه ضمن معنى ‏(‏أُدخل‏)‏ لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه‏.‏

ومعنى ‏{‏أكبرنه‏}‏ أعظمنه، أي أعظمن جماله وشمائله، فالهمزة فيه للعدّ، أي أعددنه كبيراً، وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيهاً لِوفرة الصفات بعظم الذات‏.‏

وتقطيع أيديهن كان من الذهول، أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه‏.‏ وأريد بالقطع الجُرح، أطلق عليه القطع مجازاً للمبالغة في شدته حتى كأنه قَطْع قطعة من لحم اليد‏.‏

و ‏{‏حاش لله‏}‏ تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه‏.‏ وأصل ‏(‏حاشا‏)‏ فعل يدل على المباعدة عن شيء، ثم يعامل معاملة الحرف فيجَرُّ به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة‏.‏ وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال‏:‏ حَاشَا الله، أي أحاشيه عن أن يكذب، كما يقال‏:‏ لا أقسم‏.‏ وقد تزاد فيه لام الجر فيقال‏:‏ حاشا لله وحاش لله، بحذف الألف، أي حاشا لأجله، أي لخوفه أن أكذب‏.‏ حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى‏.‏

وقرأ أبو عَمرو «حاشا لله» بإثبات ألف حاشا في الوصل، وقرأ البقية بحذفها فيه‏.‏ واتفقوا على الحذف في حالة الوقف‏.‏

وقولهن‏:‏ ‏{‏مَا هذا بشراً‏}‏ مبالغة في فَوْته محاسن البشر، فمعناه التفضيل في محاسن البشر، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه‏.‏

ثم شبّهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيهاً بليغاً مؤكّداً‏.‏ وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء، ويجعلون لها صوراً، ولعلهم كانوا يتوخّوْن أن تكون ذواتاً حسنة‏.‏ ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء‏.‏ فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمّى الملك في اللغة العربية تقريباً لأفهام السامعين‏.‏

فهذا التشبيه من تشبيه المحسوس بالمتخيل، كقول امرئ القيس‏:‏

ومسنونة زرق كأنياب أغوال ***

والفاء في ‏{‏فذلكن‏}‏ فاء الفصيحة، أي إن كان هذا كما زعمتُنّ ملكاً فهو الذي بلَغكن خبره فلمتنني فيه‏.‏

و ‏{‏لمتنني فيه‏}‏ ‏(‏في‏)‏ للتعليل، مثل ‏"‏ دخلت امرأةٌ النار في هرة ‏"‏‏.‏ وهنالك مضاف محذوف، والتقدير‏:‏ في شأنه أو في محبته‏.‏

والإشارة ب ‏(‏ذلكن‏)‏ لتمييز يوسف عليه السّلام، إذ كُنّ لم يرينَه قبلُ‏.‏ والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرّفاته غير تلك الصلة، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتتان به فعلمت أنهن قد عذرنها‏.‏ والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها‏.‏

واستعصم‏:‏ مبالغة في عصم نفسه، فالسين والتاء للمبالغة، مثل‏:‏ استمسك واستجمع الرأي واستجاب‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنه امتنع امتناع معصوم، أي جَاعلاً المراودة خطيئة عصم نفسه منها‏.‏

ولم تزل مصممة على مراودته تصريحاً بفرط حبها إياه، واستشماخاً بعظمتها، وأن لا يعصي أمرها، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهاباً له‏.‏

وحذف عائد صلة ‏{‏ما آمره‏}‏ وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل‏:‏ أمرتك الخير‏.‏‏.‏‏.‏

والسجن بفتح السين‏:‏ قياس مصدر سجَنه، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه‏.‏ ولم أره في كلامهم بفتح السين إلا في قراءة يعقوب هذه الآية‏.‏ والسجن بكسر السين‏:‏ اسم للبيت الذي يسجن فيه، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه‏.‏ وقد تقدم قولها آنفاً‏:‏ ‏{‏إلا أن يُسجن أو عذابٌ أليم‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والصاغر‏:‏ الذليل‏.‏ وتركيب من الصاغرين‏}‏ أقوى في معنى الوصف بالصّغار من أن يقال‏:‏ وليكونن صاغراً، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ في آخر سورة براءة ‏(‏119‏)‏‏.‏

وإعداد المُتّكأ لهن، وبَوحُها بسرّها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏‏}‏

استئناف بياني، لأن ما حُكي قبله مقام شدة من شأنه أن يَسأل سامعه عن حال تلقي يوسف عليه السّلام فيه لكلام امرأة العزيز‏.‏

وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم، فالظاهر أنه قال هذا القول في نفسه‏.‏ ويحتمل أنّه جهر به في ملئهن تأييساً لهن من أن يفعل ما تأمره به‏.‏

وقرأ الجمهور «السّجن» بكسر السين‏.‏ وقرأه يعقوب وحده بفتح السين على معنى المصدر، أي أن السجن أحب إليّ‏.‏ وفضّل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه منا للذة ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن‏.‏ فلما علم أنه لا مَحيص من أحد الأمرين صار السجن محبوباً إليه باعتبار أنّه يخلصه من الوقوع في الحرام فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر، كمحبة الشجاع الحرب‏.‏

فالإخبار بأن السجن أحبُّ إليه مِن الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله تعالى والتباعد عن محارمه، إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في نفسه فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة‏.‏

وعبّر عما عرضته المرأة بالموصولية لما في الصلة من الإيماء إلى كون المطلوب حالة هي مظنة الطواعية، لأن تمالئ الناس على طلب الشيء من شأنه أن يوطن نفس المطلوب للفعل، فأظهر أن تمالئهن على طلبهن منه امتثالَ أمْر المرأة لم يَفُلّ من صارم عزمه على الممانعة، وجعل ذلك تمهيداً لسؤال العصمة من الوقوع في شَرك كيدهن، فانتقل من ذكر الرضى بوعيدها إلى سؤال العصمة من كيدها‏.‏

وأسند فعل ‏{‏يدعونني‏}‏ إلى نون النسوة، فالواو الذي فيه هو حرف أصلي وليست واو الجماعة، والنون ليست نون رفع لأنه مبني لاتصاله بنون النسوة، ووزنه يفعُلْنَ‏.‏ وأسند الفعل إلى ضمير جمع النساء مع أنّ التي دعته امرأة واحدة، إما لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء فيكون على وزان جمع الضمير في ‏{‏كيدهن‏}‏، وإما لأنّ النسوة اللاّتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمَالأن على لوم يوسف عليه السّلام وتحريضه على إجابة الداعية، وتحذيره من وعيدها بالسجن‏.‏ وعلى وزان هذا يكون القول في جمع الضمير في ‏{‏كيدهن‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 28‏]‏ أي كيد صنف النساء، مثل قول العزيز إنّ كيدكنّ عظيم‏}‏، أي كيد هؤلاء النسوة‏.‏

وجملة ‏{‏وإلاّ تصرف عني كيدهن‏}‏ خبر مستعمل في التخوّف والتوقع التجاء إلى الله وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحَول والقوة والخشية من تقلب القلب ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام‏.‏ فالخبر مستعمل في الدعاء، ولذلك فرع عنه جملة ‏{‏فاستجاب له ربّه‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏أصبُ‏}‏ أمِلْ‏.‏ والصبو‏:‏ الميل إلى المحبوب‏.‏

والجاهلون‏:‏ سفهاء الأحلام، فالجهل هنا مقابِل الحلم‏.‏ والقول في أن مبالغة ‏{‏أكن من الجاهلين‏}‏ أكثرُ من أكن جاهلاً كالقول في ‏{‏وليكوناً من الصاغرين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وعطْف جملة فاستجاب‏}‏ بفاء التعقيب إشارة إلى أنّ الله عجّل إجابة دعائه الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏وإلاّ تصرف عني كيدهن‏}‏‏.‏ واستجاب‏:‏ مبالغة في أجاب، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فاستعصم‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وصَرْف كيدهن عنه صَرْف أثره، وذلك بأن ثبّته على العصمة فلم ينخدع لكيدها ولا لكيد خلائلها في أضيق الأوقات‏.‏

وجملة إنّه هو السميع العليم‏}‏ في موضع العلة ل ‏{‏استجاب‏}‏ المعطوف بفاء التعقيب، أي أجاب دعاءه بدون مهلة لأنه سريع الإجابة وعليم بالضمائر الخالصة‏.‏ فالسمع مستعمل في إجابة المطلوب، يقال‏:‏ سمع الله لمن حمده‏.‏ وتأكيده بضمير الفصل لتحقيق ذلك المعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ هنا للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل فإن ما بدا لهم أعجب بعد ما تحققت براءته‏.‏ وإنما بدا لهم أن يسجنوا يوسف عليه السّلام حين شاعت القالة عن امرأة العزيز في شأنه فكان ذلك عقب انصراف النسوة لأنها خشيت إنْ هُنّ انصرفن أن تشيع القالة في شأنها وشأن براءة يوسف عليه السّلام فرامت أن تغطي ذلك بسجن يوسف عليه السّلام حتى يظهر في صورة المجرمين بإرادته السوء بامرأة العزيز، وهي ترمي بذلك إلى تطويعه لها‏.‏ ولعلها أرادت أن تُوهم الناسَ بأن مراودته إيّاها وقعت يوم ذلك المجمع، وأن تُوهم أنّهن شواهد على يوسف عليه السّلام‏.‏

والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ لجماعة العزيز من مشير وآمر‏.‏

وجملة ‏{‏ليسجننه‏}‏ جواب قسم محذوف، وهي معلّقة فعلَ ‏{‏بدَا‏}‏ عن العمل فيما بعده لأجل لام القسم لأن ما بعد لام القسم كلام مستأنف‏.‏ وفيه دليل للمعمول المحذوف إذ التحقيق أن التعليق لا يختص بأفعال الظن، وهو مذهب يونس بن حبيب، لأن سبب التعليق وجود أداة لها صَدر الكلام‏.‏ وفي هذه الآية دليله‏.‏

والتقدير‏:‏ بدا لهم ما يدل عليه هذا القسَم، أي بدا لهم تأكيد أن يسجنوه‏.‏

وذكر في «المغني» في آخر الجمل التي لها محل من الإعراب‏:‏ وقوع الخلاف في الفاعل ونائب الفاعل، هل يكون جملة‏؟‏ فأجازه هشام وثعلب مطلقاً، وأجازهُ الفراء وجماعة إذا كان الفعل قلبياً ووجد معلّق، وحملوا الآية عليه، ونسب إلى سيبويه‏.‏ وهو يؤول إلى معنى التعليق، والتعليق أنسب بالمعنى‏.‏

والحين‏:‏ زمن غير محدود، فإن كان ‏{‏حتى حينٍ‏}‏ من كلامهم كان المعنى‏:‏ أنهم أمروا بسجنه سجناً غير مؤجل المدة‏.‏ وإن كان من الحكاية كان القرآن قد أبهم المدة التي أذنوا بسجنه إليها إذ لا يتعلق فيها الغرض من القصة‏.‏

والآيات‏:‏ دلائل صدق يوسف عليه السّلام وكذب امرأة العزيز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

اتفق جميع القراء على كسر سين ‏{‏السّجن‏}‏ هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه، لأنّ الدخول لا يناسب أن يتعلق إلا بالمكان لا بالمصدر‏.‏

وهذان الفتيان هما ساقي المَلك وخبّازُه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما‏.‏ قيل‏:‏ اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام‏.‏

وجملة ‏{‏قال أحدهما‏}‏ ابتداء محاورة، كما دل عليه فعل القول‏.‏ وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم فلذلك أيّد الله به يوسف عليه السّلام بينهم‏.‏

وهذان الفتيان توسّما من يوسف عليه السّلام كمال العقل والفهم فظنّا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علِما منه ذلك من قبل، وقد صادفا الصواب، ولذلك قالا‏:‏ ‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏، أي المحسنين التعبير، أو المحسنين الفهم‏.‏

والإحسان‏:‏ الإتقان، يقال‏:‏ هو لا يحسن القراءة، أي لا يتقنها‏.‏ ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها، لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل‏.‏ وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين، كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر ‏{‏أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 43‏]‏ كما سيأتي‏.‏

والعصر‏:‏ الضغط باليد أو بحَجر أو نحوه على شيء فيه رطوبة لإخراج ما فيه من المائع زيتتٍ أو ماءٍ‏.‏ والعصير‏:‏ ما يستخرج من المعصور سمي باسم محله، أي معصور من كذا‏.‏

والخبز‏:‏ اسم لقطعة من دقيق البر أو الشعير أو نحوهما يعجن بالماء ويوضع قرب النار حتى ينضج ليؤكل، ويسمى رغيفاً أيضاً‏.‏

والضمير في بتأويله‏}‏ للمذكور، أو للمرئي باعتبار الجنس‏.‏

وجملة ‏{‏إنّا نراك‏}‏ تعليل لانتفاء المستفاد من ‏{‏نبّئنا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏قال لا يأتيكما‏}‏ جواب عن كلامهما ففصلت على أسلوب حكاية جمل التحاور‏.‏

أراد بهذا الجواب أن يفترص إقبالَهما عليه وملازمة الحديث معه إذ هما يترقبان تعبيره الرؤيا فيدمج في ذلك دعوتهما إلى الإيمان الصحيح مع الوعد بأنّه يعبّر لهما رؤياهما غير بعيد، وجعل لذلك وقتاً معلوماً لهم، وهو وقت إحضار طعام المساجين إذ ليس لهم في السجن حوادث يوقتون بها، ولأن انطباق الأبواب وإحاطة الجدران يحول بينهم وبين رؤية الشمس، فليس لهم إلا حوادث أحوالهم من طعام أو نوم أو هبوب منه‏.‏

ويظهر أن أمد إتيان الطعام حينئذٍ لم يكن بعيداً كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏قبل أن يأتيكما‏}‏ من تعجيله لهما تأويل رؤياهما وأنه لا يتريث في ذلك‏.‏

ووصف الطعام بجملة ‏{‏ترزقانه‏}‏ تصريح بالضبط بأنه طعام معلوم الوقت لا ترقب طعام يهدى لهما بحيث لا ينضبط حصوله‏.‏

وحقيقة الرزق‏:‏ مَا به النفع، ويطلق على الطعام كقوله‏:‏ ‏{‏وجَد عندها رزقا‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 37‏]‏ أي طعاماً، وقوله في سورة الأعراف ‏(‏50‏)‏ ‏{‏أو ممّا رزقكم الله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 62‏]‏‏.‏ ويطلق على الإنفاق المتعارف كقوله‏:‏ ‏{‏وارزقوهم فيها واكسوهم‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ومن هنا يطلق على العطاء الموقت، يقال‏:‏ كان بنو فلان من مرتزقة الجند، ورزق الجند كذا كل يوم‏.‏

وضمير بتأويله‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏بتأويله‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 36‏]‏ الأول، وهو المرئي أو المنام‏.‏ ولا ينبغي أن يعود إلى طعام إذ لا يحسن إطلاق التأويل عن الأنباء بأسماء أصناف الطعام خلافاً لما سلكه جمهور المفسرين‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ إلاّ نَبّأتكما بتأويله‏}‏ استثناء من أحوال متعددة تناسب الغرض، وهي حال الإنباء بتأويل الرؤيا وحال عدمه، أي لا يأتي الطعام المعتاد إلا في حال أني قد نبأتكما بتأويل رؤياكما، أي لا في حال عدمه‏.‏ فالقصر المستفاد من الاستثناء إضافي‏.‏

وجردت جملة الحال من الواو ‏(‏وقَد‏)‏ مع أنها مَاضية اكتفاء بربط الاستثناء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 121‏]‏‏.‏

وجملة ذلكما مما علمني ربي‏}‏ استئناف بياني، لأنّ وعده بتأويل الرؤيا في وقت قريب يثير عجب السائلين عن قوة علمه وعن الطريقة التي حصل بها هذا العلم، فيجيب بأن ذلك مما علمه الله تخلصاً إلى دعوتهما للإيمان بإلهٍ واحد‏.‏ وكان القبط مشركين يدينون بتعدد الآلهة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ممّا علمني ربي‏}‏ إيذان بأنّه علّمه علوماً أخرى، وهي علوم الشريعة والحكمة والاقتصاد والأمانة كما قال‏:‏ ‏{‏اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وزاد في الاستيناف البياني جملة إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله‏}‏ لأن الإخبار بأن الله علّمه التّأويل وعلوماً أخرى مما يثير السؤال عن وسيلة حصول هذا العلم، فأخبر بأن سبب عناية الله به أنّه انفرد في ذلك المكان بتوحيد الله وترك ملة أهل المدينة، فأراد الله اختياره لديهم، ويجوز كون الجملة تعليلاً‏.‏

والملة‏:‏ الدين، تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏161‏)‏‏.‏

وأراد بالقوم الذين لا يؤمنون بالله ما يشمل الكنعانيين الذين نشأ فيهم والقبط الذين شبّ بينهم، كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 39‏]‏، أو أراد الكنعانيين خاصة، وهم الذين نشأ فيهم تعريضاً بالقبط الذين ماثلوهم في الإشراك‏.‏ وأراد بهذا أن لا يواجههم بالتشنيع استنزالاً لطائر نفورهم من موعظته‏.‏

وزيادة ضمير الفصل في قوله‏:‏ هم كافرون‏}‏ أراد به تخصيص قوم منهم بذلك وهم الكنعانيون، لأنهم كانوا ينكرون البعث مثل كفار العرب‏.‏ وأراد بذلك إخراج القبط لأن القبط وإن كانوا مشركين فقد كانوا يثبتون بعث الأرواح والجزاء‏.‏

والترك‏:‏ عدم الأخذ للشيء مع إمكانه‏.‏ أشار به إلى أنه لم يتبع ملة القبط مع حلوله بينهم، وكون مولاه متديناً بها‏.‏

وذكر آباءه تعليماً بفضلهم، وإظهاراً لسابقية الصلاح فيه، وأنه متسلسل من آبائه، وقد عقله من أول نشأته ثم تأيد بما علّمه ربّه فحصل له بذلك الشرف العظامي والشرف العصامي‏.‏ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكرم الناس‏:‏ «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيء ابن نبيء ابن نبيء ابن نبيء»‏.‏ ومثل هذه السلسلة في النبوءة لم يجتمع لأحد غير يوسف عليه السّلام إذا كان المراد بالنبوءة أكملها وهو الرسالة، أو إذا كان إخوة يوسف عليه السّلام غير أنبياء على رأي فريق من العلماء‏.‏

وأراد باتّباع ملّة آبائه اتباعَها في أصولها قبل أن يعطى النبوءة إذا كان فيما أوحي إليه زيادة على ما أوحي به إلى آبائه من تعبير الرؤيا والاقتصاد؛ أو أن نبوءته كانت بوحي مثل ما أوحي به إلى آبائه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً إلى قوله أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وذكر السلف الصالح في الحقّ يزيد دليل الحقّ تمكّناً، وذكر ضدهم في الباطل لقصد عدم الحجة بهم بمجردهم‏.‏ كما في قوله الآتي‏:‏ ‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وجملة ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء‏}‏ في قوة البيان لما اقتضته جملة ‏{‏واتّبعتُ ملة آبائي‏}‏ من كون التوْحيد صار كالسجية لهم عرف بها أسلافه بين الأمم، وعرّفهم بها لنفسه في هذه الفرصة‏.‏ ولا يخفى ما تقتضيه صيغة الجحود من مبالغة انتفاء الوصف على الموصوف، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏79‏)‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍ‏}‏

في آخر سورة العقود ‏(‏116‏)‏‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِن شيء‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي‏.‏ وأدخلت على المقصود بالنفي‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك من فضل الله علينا‏}‏ زيادة في الاستئناف والبيان لقصد الترغيب في اتباع دين التوحيد بأنه فضل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الناس‏}‏ أي الذين يتبعونهم، وهو المقصود من الترغيب بالجملة‏.‏

وأتَى بالاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ للتصريح بأن حال المخاطبين في إشراكهم حال من يكفر نعمة الله، لأن إرسال الهداة نعمة ينبغي أن ينظر الناس فيها فيعلموا أن ما يدعونَهم إليه خير وإنقاذ لهم من الانحطاط في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولأن الإعراض عن النظر في أدلة صدق الرسل كفر بنعمة العقل والنظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

استيناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به‏.‏

وعبّر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إمّا لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها‏.‏

واتفق القراء على كسر سين ‏{‏السّجن‏}‏ هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان‏.‏

والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية، مثل‏:‏ مكر الليل، أي يا صاحبيْن في السجن‏.‏

وأراد بالكلام الذي كلّمهما به تقريرهما بإبطال دينهما، فالاستفهام تقريري‏.‏ وقد رَتّب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة، إذ فرض لهما إلهاً واحداً مستفرداً بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها‏.‏ وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم، وذلك حال ملة القبط‏.‏

ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة‏.‏ وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد‏.‏

هذا إذا حمل لفظ ‏{‏خير‏}‏ على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏خير‏}‏ مستعملاً في معنى الخير عند العقل، أي الرجحان والقبول‏.‏ والمعنى‏:‏ اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة، إذ يتبين لهما أن أرباباً متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم، كما يومئ إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية‏.‏

وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شِرك، أي تعدد الآلهة‏.‏ وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى‏.‏ وذلك هو شأن سائر أديان الشرك، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة‏.‏ والأممُ الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم‏.‏

نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى‏.‏ ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالاً من مشركي العرب الذين ألّهوا الحجارة‏.‏ وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر‏:‏

وفرّت ثقيف إلى لاتها ***

وأحسن حالاً من الصابئة الكلدانيين والأشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزاً للنجوم والكواكب‏.‏

وكانت آلهة القبط نحواً من ثلاثين رباً أكبرها عندهم آمون رُعْ‏.‏ ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي‏:‏ أوزوريس، وأزيس، وهوروس‏.‏ فللّه بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال‏:‏ ‏{‏أأربابٌ متفرقون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وبعد أن أثار لهما الشك في صحة إلهيّة آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله‏:‏ ما تَعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏، يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل هي توهّمات تخيّلوها‏.‏

ومعنى قصرها على أنها أسماء قصراً إضافياً، أنها أسماء لا مسمياتتٍ لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أنتم وآباؤكم‏}‏ جملة مفسرة للضمير المرفوع في ‏{‏سميتموها‏}‏‏.‏ والمقصود من ذلك الردّ على آبائهم سدّاً لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم، وإدماجاً لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة‏.‏

وإنزال السلطان‏:‏ كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم‏.‏ والسلطانُ‏:‏ الحجة‏.‏

وجملة ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها‏.‏

وجملة ‏{‏أمَرَ أن لا تعبدوا إلا إياه‏}‏ انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه، لأن ذلك نتيجة إثبات الإلهية والوحدانية له، فهي بيان لجملة ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ من حيث ما فيها من معنى الحكم‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ خلاصة لما تقدم من الاستدلال، أي ذلك الدين لا غيرُه مما أنتم عليه وغيرُكم‏.‏ وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله‏:‏ ‏{‏إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله إلى لا يشكرون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

افتتح خطابهما بالنداء اهتماماً بما يلقيه إليهما من التعبير، وخاطبهما بوصف ‏{‏صاحبي السجن‏}‏ أيضاً‏.‏

ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف عليه السّلام في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جَمع التأويلَ في عبارة واحدة مجملة، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبَها قصداً لتلقيه ما يسوء بعدَ تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمراً هو رَائي عَصر الخمر، وأن الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبزٍ على رأسه‏.‏

وإذا كان نظم الآية على غير ما صَدر من يوسف عليه السّلام كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف عليه السّلام، وكان كلاماً معيّناً فيه كل من الفتيين بأن قال‏:‏ أما أنتَ فكيْت وكيْت، وأما أنت فكَيْت وكيْت، فحُكي في الآية بالمعنى‏.‏

وجملة ‏{‏قضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ تحقيق لما دلت عليه الرؤيا، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما‏.‏

والاستفتاء‏:‏ مصدر استفتَى إذا طلب الإفتاء‏.‏ وهو‏:‏ الإخبار بإزالة مشكل، أو إرشاد إلى إزالة حيرة‏.‏ وفعله أفتى مُلازم للهمز ولم يسمع له فعل مُجرد، فدلا ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنًى، قالوا‏:‏ أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب، فكأنّ الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فَتِيّا أي قوياً‏.‏ واسم الخبر الصادر من المفتي‏:‏ فتوى بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصوراً، وبضم الفاء مع الياء مقصوراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قال يوسف عليه السّلام للذي ظن نجاته من الفتيين وهو الساقي‏.‏ والظن هنا مستعمل في القريب من القطع لأنه لا يشك في صحة تعبيره الرؤيا‏.‏ وأراد بذكره ذكر قضيته ومظلمته، أي اذكرني لربك، أي سيدك‏.‏ وأراد بربه ملك مصر‏.‏

وضميرا ‏{‏فأنساه‏}‏ و‏{‏ربه‏}‏ يحتملان العود إلى ‏{‏الذي‏}‏، أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يَذكره لربه، فالذكر الثاني هو الذكر الأول‏.‏ ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏وقال‏}‏ أي يوسف عليه السّلام أنساه الشيطان ذكر الله، فالذكر الثاني غير الذكر الأول‏.‏ ولعل كلا الاحتمالين مراد، وهو من بديع الإيجاز‏.‏ وذلك أن نسيان يوسف عليه السّلام أن يَسأل الله إلهام الملِك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته، وكان ذلك سبباً إلهياً في نسيان الساقي تذكير الملك، وكان ذلك عتاباً إلهياً ليوسف عليه السّلام على اشتغاله بعَون العباد دون استعانة ربه على خلاصه‏.‏

ولعل في إيراد هذا الكلام على هذا التوْجيه تلطفاً في الخبر عن يوسف عليه السّلام، لأن الكلام الموجه في المعاني الموجهة ألطف من الصريح‏.‏

والبضع‏:‏ من الثلاث إلى التسع‏.‏

وفيما حكاه القرآن عن حال سجنهم ما يُنبئ على أن السجن لم يكن مضبوطاً بسجل يذكر فيه أسماء المساجين، وأسبابُ سجنهم، والمدةُ المسجون إليها، ولا كان من وزعة السجون ولا ممن فوقهم من يتعهّد أسباب السجن ويفتقد أمر المساجين ويرفع إلى الملك في يوم من الأسبوع أو من العام‏.‏ وهذا من الإهمال والتهاون بحقوق الناس وقد أبطله الإسلام، فإن من الشريعة أن ينظر القاضي أول ما ينظر فيه كلّ يوم أمرَ المساجين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف عليه السّلام من السجن‏.‏

والتعريف في ‏{‏الملك‏}‏ للعهد، أي ملك مصر‏.‏ وسماه القرآن هنا ملكاً ولم يسمه فرعونَ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكاً لمصر أيامَ حَكَمَها ‏(‏الهِكسوس‏)‏، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة، أي البَدو‏.‏ وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح عليه السّلام‏.‏ وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة ‏(‏طِيبة‏)‏ كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذي اشتراه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفاً لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى‏.‏ ويقدّر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف عليه السّلام كان في مدة العائلة السابعة عشرة‏.‏

فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبّر عن ملك مصر في زمن موسى عليه السّلام بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي‏.‏ وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف عليه السّلام فرعون وما هو بفرعون لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبَة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف عليه السّلام في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ سِمانٍ‏}‏ جمع سمينة وسَمين، مثل كرام، وهو وصف ل ‏{‏بقرات‏}‏‏.‏

و ‏{‏عجاف‏}‏ جمع عجفاء‏.‏ والقياس في جمع عجفاء عُجف لكنه صيغ هنا بوزن فِعال لأجل المزاوجة لمقارنه وهو ‏{‏سمان‏}‏‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏

هتّاك أخبية ولاّج أبوية ***

والقياس أبواب لكنه حمله على أخبية‏.‏

والعجفاء‏:‏ ذات العَجَف بفتحتين وهو الهزال الشديد‏.‏

و ‏{‏وسبع سنبلات‏}‏ معطوف على ‏{‏سبع بقرات‏}‏‏.‏ والسنبلة تقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏261‏)‏‏.‏

والملأ‏:‏ أعيان الناس‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ من قومه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏60‏)‏‏.‏

والإفتاء‏:‏ الإخبار بالفتوى‏.‏ وتقدمت آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏قضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وفي‏}‏ للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي أفتوني إفتاء ملابساً لرؤياي ملابسة البيان للمجمل‏.‏

وتقديم ‏{‏للرؤيا‏}‏ على عامله وهو ‏{‏تعبرون‏}‏ للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالرؤيا في التعبير‏.‏ والتعريف في ‏{‏للرؤيا‏}‏ تعريف الجنس‏.‏

واللام في ‏{‏للرؤيا‏}‏ لام التقوية لضعف العامل عن العمل بالتأخير عن معموله‏.‏ يقال‏:‏ عَبَر الرؤيا من باب نَصر‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ وعبَرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات‏.‏ ورأيتهم ينكرون عبّرت بالتشديد والتعبير، وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب «الكامل» لبعض الأعراب‏:‏

رأيت رؤْيَاي ثم عبّرتُها *** وكنتُ للأحلام عَبّارا

والمعنى‏:‏ فسر ما تدل عليه وأوّل إشاراتها ورموزها‏.‏

وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به‏.‏ وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم‏.‏ وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردي فيها ضوابط وقواعد لتعبير الرُّؤى، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف عليه السّلام في رؤييهما ينبئ بأن ذلك شائع فيهم، وسؤال المَلك أهل ملأه تعبير رؤياه ينبئ عن احتواء ذلك الملأ على من يُظنّ بهم علم تعبير الرؤيا، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا‏.‏

وفي التوراة «فأرسل ودعا جميع سَحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه فلم يكن من يعبره له»‏.‏ وإنما كان مما يقصد فيه إلى الكهنة لأنه من المغيبات‏.‏ وقد ورد في أخبار السيرة النبوية أن كسرى أرسل إلى سطيح الكاهن ليعبر له رؤيا أيام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وهي معدودة من الإرهاصات النبوية‏.‏ وحصل لكسرى فزع فأوفد إليه عبد المسيح‏.‏

فالتعريف في قوله ‏{‏للرؤيا‏}‏ تعريف العهد، والمعهود الرؤيا التي كان يقصها عليهم على طريقة إعادة النكرة معرفة باللام أن تكون الثانية عين الأولى‏.‏ والمعنى‏:‏ إن كنتم تعبرون هذه الرؤيا‏.‏

والأضغاث‏:‏ جمع ضغث بكسر الضاد المعجمة وهو‏:‏ ما جمع في حُزمة واحدة من أخلاط النبات وأعواد الشجر، وإضافته إلى الأحلام على تقدير اللام، أي أضغاث للأحلام‏.‏

والأحلام‏:‏ جمع حُلُم بضمتين وهو ما يراه النائم في نومه‏.‏ والتقدير‏:‏ هذه الرؤيا أضغاث أحلام‏.‏ شبهت تلك الرؤيا بالأضغاث في اختلاطها وعدم تميز ما تحتويه لمّا أشكل عليهم تأويلها‏.‏

والتعريف فيه أيضاً تعريف العهد، أي ما نحن بتأويل أحلامك هذه بعالمين‏.‏ وجمعت ‏{‏أحلام‏}‏ باعتبار تعدد الأشياء المرئية في ذلك الحُلم، فهي عدة رُؤَى‏.‏

والباء في ‏{‏بتأويل الأحلام‏}‏ لتأكيد اتصال العامل بالمفعول، وهي من قبيل باء الإلصاق مثل باء ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 6‏]‏، لأنهم نفوا التمكن من تأويل هذا الحلم‏.‏ وتقديم هذا المعمول على الوصف العامل فيه كتقديم المجرور في قوله‏:‏ إن كنتم للرؤيا تعبرون‏}‏‏.‏

فلما ظهر عَوْصُ تعبير هذا الحُلم تذكر سَاقي الملك ما جرى له مع يوسف عليه السّلام فقال‏:‏ ‏{‏أنا أنبئكم بتأويله‏}‏‏.‏

وابتداء كلامه بضميره وجعله مسنداً إليه وخبره فعلي لقصد استجلاب تعجب الملك من أن يكون الساقي ينبئ بتأويل رؤيا عَوِصَتْ على علماء بلاط الملك، مع إفادة تقوّي الحكم، وهو إنباؤه إياهم بتأويلها، لأن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق الإثبات يفيد التقوّي، وإسناد الإنباء إليه مجاز عقلي لأنه سبب الإنباء، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فأرْسِلُون‏}‏‏.‏ وفي ذلك ما يستفز الملك إلى أن يأذن له بالذهاب إلى حيث يريد ليأتي بنبأ التأويل إذ لا يجوز لمثله أن يغادر مجلس الملك دون إذن‏.‏

وقد كان موقناً بأنه يجد يوسف عليه السّلام في السجن لأنه قال‏:‏ ‏{‏أنا أنبئكم بتأويله‏}‏ دون تردد‏.‏ ولعل سبب يقينه ببقاء يوسف عليه السّلام في السجن أنه كان سجنَ الخاصة فكان ما يحدث فيه من إطلاق أو موت يبلغ مسامع الملك وشيعته‏.‏

و ‏{‏ادّكر‏}‏ بالدال المهملة أصله‏:‏ اذتكر، وهو افتعال من الذكر، قلبت تاء الافتعال دالاً لثقلها ولتقارب مخرجيهما ثم قلبت الذال ليتأتّى ادغامها في الدال لأن الدال أخف من الذال‏.‏ وهذا أفصح الإبدال في ادّكر‏.‏ وهو قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل من مدّكر‏}‏ ‏[‏سورة القمر‏:‏ 15‏]‏ كما في الصحيح‏.‏

ومعنى بعد أمة‏}‏ بعد زمن مضى على نسيانه وصاية يوسف عليه السّلام‏.‏ والأمة‏:‏ أطلقت هنا على المدة الطويلة، وأصل إطلاق الأمة على المدة الطويلة هو أنها زمن ينقرض في مثله جيل، والجيل يسمى أمة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 110‏]‏ على قول من حمله على الصحابة‏.‏

وإطلاقه في هذه الآية مبالغة في زمن نسيان الساقي‏.‏ وفي التوراة كانت مدة نسيانه سنتين‏.‏

وضمائر جمع المخاطب في أنبئكم‏}‏ ‏{‏فأرسلون‏}‏ مخاطب بها الملك على وجه التعظيم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب ارجعون‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏.‏

ولم يسمّ لهم المرسل إليه لأنه أراد أن يفاجئهم بخبر يوسف عليه السّلام بعد حصول تعبيره ليكون أوقع، إذ ليس مثله مظنة أن يكون بين المساجين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة‏.‏ وحُذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله، إذ لا غرض فيه من القصة‏.‏ وهذا من بديع الإيجاز‏.‏

و ‏{‏الصدّيق‏}‏ أصله صفةُ مبالغة مشتقة من الصّدْق، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمه صدّيقةٌ‏}‏ في سورة العقود ‏(‏75‏)‏، وغلب استعمال وصف الصدّيق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين‏.‏

وأحسنُ ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال‏:‏ «الصديقون هم دُوَيْن الأنبياء»‏.‏ وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 69‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وأمه صدّيقة‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 75‏]‏‏.‏ ومنه ما لَقّب النبيءُ أبا بكر بالصدّيق في قوله في حديث رجف جبل أحُد أُسْكُنْ أُحُد فإنما عليك نبيء وصدّيق وشهيدان‏.‏ من أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله ومنهم علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الأمة بعد النبي‏.‏ وقد جَمع الله هذا الوصف مع صفة النبوءة في قوله‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقاً نبياً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏56‏)‏‏.‏

وقد يطلق الصدّيق على أصل وصفه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا بالله ورُسله أولئك هم الصدّيقون‏}‏ ‏[‏سورة الحديد‏:‏ 19‏]‏ على أحد تأويلين فيها‏.‏

فهذا الذي استفتَى يوسف عليه السّلام في رؤيا الملِك وَصَف في كلامه يوسف عليه السّلام بمعنى يدل عليه وصف الصدّيق في اللسان العربي، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف عليه السّلام في السجن‏.‏

فضمّ ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمه صدّيقةٌ‏}‏ في سورة العقود ‏(‏75‏)‏، وإلى قوله‏:‏ ‏{‏مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين‏}‏ في سورة النساء ‏(‏69‏)‏‏.‏

وإعادة العِبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلّغ السؤال كما تلقاه، وذلك تمام أمانة الناقل‏.‏

و ‏{‏الناس‏}‏ تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏8‏)‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏الناس‏}‏ بعضهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذينَ قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏ والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه، لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعاً ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم‏.‏ وهذا وجه قوله‏:‏ لعلهم يعلمون‏}‏ مع حذف معمول ‏{‏يعلمون‏}‏ لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

عبر الرؤيا بجميع ما دلّت عليه، فالبقرات لسنين الزراعة، لأن البقرة تتخذ للإثمار‏.‏ والسِمَن رمز للخصب‏.‏ والعجَف رمز للقحط‏.‏ والسنبلات رمز للأقوات؛ فالسنبلات الخضر رمز لطعام ينتفع به، وكونها سبعاً رمز للانتفاع به في السبع السنين، فكل سنبلة رمز لطعام سنة، فذلك يقتاتونه في تلك السنين جديداً‏.‏

والسنبلات اليابسات رمز لما يدخر، وكونُها سبعاً رمز لادخارها في سبع سنين لأن البقرات العجاف أكلت البقرات السمان، وتأويل ذلك‏:‏ أن سني الجدب أتت على ما أثمرته سنو الخصب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تزرعون‏}‏ خبر عما يكون من عملهم، وذلك أن الزرع عادتهم، فذكره إياه تمهيد للكلام الآتي ولذلك قيده ب ‏{‏دأباً‏}‏‏.‏

والدأب‏:‏ العادة والاستمرار عليها‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏11‏)‏‏.‏ وهو منصوب على الحال من ضمير ‏{‏يزرعون‏}‏، أي كدَأبكم‏.‏ وقد مزج تعبيره بإرشاد جليل لأحوال التموين والادخار لمصلحة الأمة‏.‏ وهو منام حكمته كانت رؤيا الملك لطفاً من الله بالأمة التي آوت يوسف عليه السّلام، ووحيا أوحاه الله إلى يوسف عليه السّلام بواسطة رؤيا الملك، كما أوحى إلى سليمان عليه السّلام بواسطة الطير‏.‏ ولعل الملك قد استعد للصلاح والإيمان‏.‏

وكان ما أشار به يوسف عليه السّلام على الملك من الادخار تمهيداً لشرع ادخار الأقوات للتموين، كما كان الوفاء في الكيل والميزان ابتداء دعوة شعيب عليه السّلام، وأشار إلى إبقاء ما فضل عن أقواتهم في سنبله ليكون أسلم له من إصابة السوس الذي يصيب الحب إذا تراكم بعضه على بعض فإذا كان في سنبله دفع عنه السوس، وأشار عليهم بتقليل ما يأكلون في سنوات الخصب لادخار ما فضل عن ذلك لزمن الشدة، فقال‏:‏ ‏{‏إلاّ قليلاً مما تأكلون‏}‏‏.‏

والشداد‏:‏ وصف لسني الجدب، لأن الجدب حاصل فيها، فوصفها بالشدة على طريقة المجاز العقلي‏.‏

وأطلق الأكل في قوله‏:‏ ‏{‏يأكلن‏}‏ على الإفناء، كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وإسناده بهذا الإطلاق إلى السنين إسنادُ مجاز عقلي، لأنهن زمن وقوع الفناء‏.‏

والإحصان‏:‏ الإحراز والادخار، أي الوضع في الحصن وهو المطمور‏.‏ والمعنى‏:‏ أن تلك السنين المجدبة يفنى فيها ما ادخر لها إلا قليلاً منه يبقى في الإهراء‏.‏ وهذا تحريض على استكثار الادخار‏.‏

وأما قوله‏:‏ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس‏}‏ فهو بشارة وإدخال المسرة والأمل بعد الكلام المؤيس، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر‏.‏

و ‏{‏يغاث‏}‏ معناه يعطون الغيث، وهو المطر‏.‏ والعصر‏:‏ عصر الأعناب خموراً‏.‏ وتقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏أعصر خمراً‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 36‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قال الملك‏:‏ ائتوني به لما أبلغه الساقي صورة التعبير‏.‏ والخطاب للملأ ليرسلوا مَن يعينونه لجلبه‏.‏ ولذلك فرع عليه ‏{‏فلما جاءه الرسول‏}‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ فأرسلوا رسولاً منهم‏.‏ وضميرا الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏به‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏جاءه‏}‏ عائدان إلى يوسف عليه السّلام‏.‏ وضمير ‏{‏قال‏}‏ المستتر كذلك‏.‏

وقد أبى يوسف عليه السّلام الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته مما رمي به في بيت العزيز، لأن ذلك قد بلغ الملك لا محالة لئلا يكون تبريزه في التعبير الموجب لإطلاقه من السجن كالشفيع فيه فيبقى حديث قرفه بما قرف به فاشياً في الناس فيتسلق به الحاسدون إلى انتقاص شأنه عند الملك يوماً ما، فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي، وليكون حضوره لدى الملك مرموقاً بعين لا تنظر إليه بشائبة نقص‏.‏

وجعل طريق تقرير براءته مفتتحةً بالسؤال عن الخبر لإعادة ذكره من أوله، فمعنى ‏{‏فاسألْه‏}‏ بلَغ إليه سؤالاً من قِبلي‏.‏ وهذه حكمة عظيمة تحق بأن يؤتسى بها‏.‏ وهي تطلب المسجون باطلاً أن يَبقى في السجن حتى تتبين براءته من السبب الذي سجن لأجله، وهي راجعة إلى التحلي بالصبر حتى يظهر النصر‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي» أي داعيَ الملك وهو الرسول الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءه الرسول‏}‏، أي لما راجعت الملك‏.‏ فهذه إحدى الآيات والعبر التي أشار إليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 7‏]‏‏.‏

والسؤال‏:‏ مستعمل في التنبيه دون طلب الفهم، لأن السائل عالم بالأمر المسؤول عنه وإنما يريد السائل حث المسؤول عن علم الخبر‏.‏ وقريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عم يتساءلون‏}‏ ‏[‏سورة النبإ‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وجعل السؤال عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز تسهيلاً للكشف عن أمرها، لأن ذكرها مع مكانة زوجها من الملك ربما يصرف الملك عن الكشف رعياً للعزيز، ولأن حديث المُتّكأ شاع بين الناس، وأصبحت قضية يوسف عليه السّلام مشهورة بذلك اليوم، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 35‏]‏، ولأن النسوة كن شواهد على إقرار امرأة العزيم بأنها راودت يوسف عليه السّلام عن نفسه‏.‏ فلا جرم كان طلب الكشف عن أولئك النسوة منتهى الحكمة في البحث وغاية الإيجاز في الخطاب‏.‏

وجملة إن ربي بكيدهن عليم‏}‏ من كلام يوسف عليه السّلام‏.‏ وهي تذييل وتعريض بأن الكشف المطلوب سينجلي عن براءته وظهور كيد الكائدات له ثقة بالله ربه أنه ناصره‏.‏

وإضافة كيد إلى ضمير النسوة لأدنى ملابسة لأن الكيد واقع من بعضهن، وهي امرأة العزيز في غرضها من جمع النسوة فأضيف إلى ضمير جماعتهن قصداً للإبهام المعين على التبيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏قال ما خطبكن‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الجمل التي سبقتها تثير سؤالاً في نفس السامع عما حصل من المَلِك لَمّا أُبلغ إليه اقتراح يوسف عليه السّلام مع شدة تشوقه إلى حضوره بين يديه، أي قال الملك للنسوة‏.‏

ووقوع هذا بعد جملة ‏{‏ارجع إلى ربك‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 50‏]‏ إلى آخرها مؤذن بكلام محذوف، تقديره‏:‏ فرجع فأخبر الملك فأحضر الملكُ النسوة اللائي كانت جمعتْهن امرأةُ العزيز لمّا أعتدت لهنّ مُتّكَأ فقال لهن‏:‏ ما خطبكن‏}‏ إلى آخره‏.‏

واسندت المراودة إلى ضمير النسوة لوقوعها من بعضهن غير معين، أو لأن القالة التي شاعت في المدينة كانت مخلوطة ظَنا أن المراودة وقعت في مجلس المتّكأ‏.‏

والخطب‏:‏ الشأن المهم من حالة أو حادثة‏.‏ قيل‏:‏ سمي خطباً لأنه يقتضي أن يخاطِب المرء صاحبه بالتساؤل عنه‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الخُطبة، أي يُخطب فيه، وإنما تكون الخطبة في أمر عظيم، فأصله مصدر بمعنى المفعول، أي مخطوب فيه‏.‏

وجملة ‏{‏قلن‏}‏ مفصولة لأجل كونها حكاية جواب عن كلام الملك أي قالت النسوة عدا امرأة العزيز، بقرينة قوله بعد‏:‏ ‏{‏قالت امرأة العزيز‏}‏‏.‏

و ‏{‏حاش لله‏}‏ مبالغة في النفي والتنزيه‏.‏ والمقصود‏:‏ التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة‏.‏ وقد تقدم تفسيرها آنفاً واختلاف القراء فيها‏.‏

وجملة ‏{‏ما علمنا عليه من سوء‏}‏ مبينة لإجمال النفي الذي في ‏{‏حاش لله‏}‏‏.‏ وهي جامعة لنفي مراودتهن إياه ومراودته إياهن لأن الحالتين من أحوال السوء‏.‏

ونفي علمهن ذلك كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء ونفي دعوته إياهن إليه لأن ذلك لو وقع لكان معلوماً عندهن، ثم إنهن لم يزدن في الشهادة على ما يتعلق بسؤال الملك فلم يتعرضن لإقرار امرأة العزيز في مجلسهن بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، خشيةً منها، أو مودّةً لها، فاقتصرن على جواب ما سُئلن عنه‏.‏

وهذا يدل على كلام محذوف وهو أن امرأة العزيز كانت من جملة النسوة اللاتي أحضرهن الملك‏.‏ ولم يشملها قول يوسف عليه السّلام‏:‏ ‏{‏ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 5‏]‏ لأنها لم تقطّعْ يدها معهن، ولكن شملها كلام الملك إذ قال‏:‏ إذ راودتن يوسف عن نفسه‏}‏ فإن المراودة إنما وقعت من امرأة العزيز دون النسوة اللاتي أعدّت لهن متكئاً، ففي الكلام إيجاز حذف‏.‏

وجملة ‏{‏قالت امرأة العزيز‏}‏ مفصولة لأنها حكاية جواب عن سؤال الملك‏.‏

والآن‏:‏ ظرف للزمان الحاضر، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الآن خفف الله عنكم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏66‏)‏‏.‏

و ‏{‏حصحص‏}‏‏:‏ ثبت واستقر‏.‏

و ‏{‏الحق‏}‏‏:‏ هو براءة يوسف عليه السّلام مما رمته به امرأة العزيز، وإنما ثبت حينئذٍ لأنه كان محل قيل وقال وشك، فزال ذلك باعترافها بما وقع‏.‏

والتعبير بالماضي مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الذي لم يسبق لأنه قريب الوقوع فهو لتقريب زمن الحال من المضي‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ثبوت الحق بقول النسوة ‏{‏ما علمنا عليه من سوء‏}‏ فيكون الماضي على حقيقته‏.‏ وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص، أي الآن لا قبله للدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان كان زمنَ باطل وهو زمن تهمة يوسف عليه السّلام بالمراودة، فالقصر قصر تعيين إذ كان الملك لا يدري أي الوقتين وقتُ الصدق أهو وقت اعتراف النسوة بنزاهة يوسف عليه السّلام أم هو وقت رمي امرأة العزيز إياه بالمراودة‏.‏

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة ‏{‏أنا راودته‏}‏ للقصر، لإبطال أن يكون النسوة راودنه‏.‏ فهذا إقرار منها على نفسها، وشهادة لغيرها بالبراءة، وزادت فأكدت صدقه ب ‏(‏إن‏)‏ واللام‏.‏

وصيغة ‏{‏من الصادقين‏}‏ كما تقدم في نظائرها، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏56‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز، وعلى ذلك حمله الأقل من المفسرين، وعزاه ابن عطية إلى فرقة من أهل التأويل، ونُسب إلى الجبائي، واختاره الماوردي، وهو في موقع العلة لما تضمنته جملة ‏{‏أنا راودته عن نفسه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 51‏]‏ وما عطف عليها من إقرار ببراءة يوسف عليه السّلام بما كانت رمتْه به‏.‏ فالإشارة بذلك إلى الإقرار المستفاد من جملة أنا راودته‏}‏ أي ذلك الإقرار ليعلم يوسف عليه السّلام أني لم أخنه‏.‏

واللام في ‏{‏ليعلم‏}‏ لام كي، والفعل بعدها منصوب ب ‏(‏أنْ‏)‏ مضمرة، فهو في تأويل المصدر، وهو خبر عن اسم الإشارة‏.‏

والباء في ‏{‏بالغيب‏}‏ للملابسة أو الظرفية، أي في غيبته، أي لم أرمه بما يقدح فيه في مغيبه‏.‏ ومحل المجرور في محل الحال من الضمير المنصوب‏.‏

والخيانة‏:‏ هي تهمتهُ بمحاولة السوء معها كذباً، لأن الكذب ضد أمانة القول بالحق‏.‏

والتعريف في ‏{‏الغيب‏}‏ تعريف الجنس‏.‏ تمدحت بعدم الخيانة على أبلغ وجه إذ نَفت الخيانة في المغيب وهو حَائلٌ بينه وبين دفاعه عن نفسه، وحالة المغيب أمكن لمريد الخيانة أن يخون فيها من حالة الحضرة، لأن الحاضر قد يتفطن لقصد الخائن فيدفع خيانته بالحجة‏.‏

و ‏{‏أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ عطف على ‏{‏ليعلم‏}‏ وهو علة ثانية لإصداعها بالحق، أي ولأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏.‏ والخبر مستعمل في لازم الفائدة وهو كون المتكلم عالماً بمضمون الكلام، لأن علة إقرارها هو علمها بأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ لا ينفذه ولا يسدده‏.‏ فأطلقت الهداية التي هي الإرشاد إلى الطريق الموصلة على تيسير الوصول، وأطلق نفيها على نفي ذلك التيسير، أي أن سنة الله في الكون جرت على أن فنون الباطل وإن راجت أوائلها لا تلبث أن تنقشع ‏{‏بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقً‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والكيد‏:‏ تقدم‏.‏