فصل: الجزء الثالث عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الثالث عشر

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز، مضت في بقية إقرارها فقالت‏:‏ ‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏‏.‏ وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها‏:‏ ‏{‏ذلك لِيَعْلَم أني لم أخنْه بالغيب‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 52‏]‏ من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاءٌ بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت‏:‏ وما أبرئ نفسي‏}‏، أي ما أبرئ نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع‏.‏

فالواو التي في الجملة استئنافية، والجملة ابتدائية‏.‏

وجلمة ‏{‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب، لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء‏.‏

والاستثناء في ‏{‏إلا ما رحم ربي‏}‏ استثناء من عموم الأزمان، أي أزمان وقوع السوء، بناءً على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كلّ الأوقات إلاّ وقت رحمة الله عبده، أي رحمته بأن يقيّض له ما يصرفه عن فعل السوء، أو يقيض حائلاً بينه وبين فعل السوء، كما جعل إباية يوسف عليه السلام من إجابتها إلى ما دعتْه إليه حائلاً بينها وبين التورط في هذا الإثم، وذلك لطف من الله بهما‏.‏

ولذلك ذيلته بجملة ‏{‏إن ربي غفور رحيم‏}‏ ثناءً على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب‏.‏

وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُن الله‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 61‏]‏ وكانوا يعرفون البر والذنب‏.‏

وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق، وتبرئة البريء مما ألصق به، ومن خشية عقاب الله الخائنين‏.‏

وقيل‏:‏ هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن‏}‏ الآية ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قال ما خَطْبُكُنّ إذ رَاوَدْتُنّ يوسف‏}‏ إلى قوله ‏{‏وأن الله لا يهدي كَيْد الخائنين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 51 52‏]‏ اعتراض في خلال كلام يوسف عليه السلام‏.‏ وبذلك فسّرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحّاك والسدّي وابن جبير، واقتصر عليه الطبري‏.‏ قال في الكشاف‏}‏‏:‏ ‏(‏وكفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السلام، ونحوُه قوله‏:‏ ‏{‏قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم ثم قال فماذا تأمرون‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 109 110‏]‏ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم‏)‏ ا ه‏.‏ يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف عليه السلام لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة‏.‏

وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏لم أخنه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 52‏]‏ عائداً إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه‏.‏

ويكون معنى وما أبرئ نفسي‏}‏ الخ‏.‏‏.‏ مثل ما تقدم قصد به التواضع، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏‏}‏

السين والتاء في ‏{‏أستخلصه‏}‏ للمبالغة، مثلها في استجاب واستأجر‏.‏ والمعنى أجْعَلْه خالصاً لنفسي، أي خاصّاً بي لا يشاركني فيه أحد‏.‏ وهذا كناية عن شدة اتصاله به والعمل معه‏.‏ وقد دلّ الملكَ على استحقاق يوسف عليه السلام تقريبَهُ منه ما ظهر من حكمته وعلمه، وصبره على تحمّل المشاق، وحسن خلقه، ونزاهته، فكل ذلك أوجب اصطفاءه‏.‏

وجملة ‏{‏فلما كلمه‏}‏ مفرّعة على جملة محذوفة دل عليها ‏{‏وقال الملك ائتوني به‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ فأتوه به، أي بيوسف عليه السلام فحضر لديه وكلّمه ‏{‏فلما كلمه‏}‏‏.‏

والضمير المنصوب في ‏{‏كلمه‏}‏ عائد إلى الملك، فالمكلّم هو يوسف عليه السلام‏.‏ والمقصود من جملة ‏{‏فلما كلمه‏}‏ إفادة أن يوسف عليه السلام كلم الملك كلاماً أعجب الملك بما فيه من حكمة وأدب‏.‏ ولذلك فجملة ‏{‏قال إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ جواب ‏(‏لَمّا‏)‏‏.‏ والقائل هو الملك لا محالة‏.‏

والمكين‏:‏ صفة مشبهة من مكُن بضم الكاف إذا صار ذا مكانة، وهي المرتبة العظيمة، وهي مشتقة من المكان‏.‏

والأمين‏:‏ فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون على شيء، أي موثوق به في حفظه‏.‏

وترتّب هذا القول على تكليمه إياه دالّ على أن يوسف عليه السلام كلّم الملك كلام حكيم أديب فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلاً لثقته وتقريبه منه‏.‏

وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولي الأمر من الخصال، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة؛ إذ بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير؛ والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة، إذ بالحكمة يوثر الأفعال الصالحة ويترك الشهوات الباطلة، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها‏.‏ وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجو من خير، فلذلك أجابه بقوله‏:‏ ‏{‏اجعلني على خزائن الأرض‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏قال اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ حكاية جوابه لكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ هنا للاستعلاء المجازي، وهو التصرف والتمكن، أي اجعلني متصرّفاً في خزائن الأرض‏.‏

و ‏{‏خزائن‏}‏ جمع خِزانة بكسر الخاء، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأرض‏}‏ تعريف العهد، وهي الأرض المعهودة لهم، أي أرض مصر‏.‏

والمراد من ‏{‏خزائن الأرض‏}‏ خزائن كانت موجودة، وهي خزائن الأموال؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعداداً للسنوات المعبر عنها بقوله‏:‏ ‏{‏مما تحصنون‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 48‏]‏‏.‏

واقتراح يوسف عليه السلام ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح، ولذلك لم يسأل مالاً لنفسه ولا عَرَضاً من متاع الدنيا، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها‏.‏

وعلّل طلبه ذلك بقوله‏:‏ إني حفيظ عليم‏}‏ المفيد تعليل ما قبلها لوقوع ‏(‏إنّ‏)‏ في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما، وهما‏:‏ الحفظ لما يليه، والعلم بتدبير ما يتولاه، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما، وذلك صفة الحفظ المحقّق للائتمان، وصفة العلم المحققّ للمكانة‏.‏ وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه وهذا من قبيل الحِسبَة‏.‏

وشبه ابن عطية بمقام يوسفَ عليه السلام هذا مقام أبي بكر رضي الله عنه في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين‏.‏ قلت‏:‏ وهو تشبيه رشيق، إذ كلاهما صدّيق‏.‏

وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة، وخاصة إذا لم يكن ممّن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة‏.‏ وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام‏.‏ فلا يعارض هذا ما جاء في «صحيح مسلم» عن عبد الرحمان بن سمرة قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا عبد الرحمان لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتَها عن مسألة وُكلتَ إليها وإن أعطيتَها عن غير مسألة أُعنت عليها ‏"‏ لأن عبد الرحمان بن سمرة لم يكن منفرداً بالفضل من بين أمثاله ولا راجحاً على جميعهم‏.‏

ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يُوَلّ ضاعت الحقوق‏.‏ قال المازري‏:‏ «يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن عَلم أنه إن لم يلِه ضاعت الحقوق أو وليه مَن لا يحلّ أن يولى‏.‏ وكذلك إن كان وَلِيَه من لا تحلّ توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله»‏.‏

وقال ابن مرزوق‏:‏ لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري‏.‏

وقال عياض في كتاب الإمارة، أي من «شرح صحيح مسلم»، ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة، وظاهر كلام ابن رشد في «المقدمات» حِرمة الطلب مطلقاً‏.‏ قال ابن مرزوق‏:‏ وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريباً منه للغزالي في «الوجيز»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

تقدم تفسير آية ‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض‏}‏ آنفاً‏.‏

والتبوؤ‏:‏ اتخاذ مكان للبوء، أي الرجوع، فمعنى التبوؤ النزول والإقامة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا‏}‏ في ‏[‏سورة يونس‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ يتبوأ منها حيث يشاء‏}‏ كناية عن تصرفه في جميع مملكة مصر فهو عند حلوله بمكان من المملكة لو شاء أن يحل بغيره لفعل، فجملة ‏{‏يتبوأ‏}‏ يجوز أن تكون حالاً من ‏{‏يوسف، ويجوز أن تكون بياناً لجملة مكنا ليوسف في الأرض‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏حيث يشاء‏}‏ بياء الغيبة وقرأ ابن كثير ‏{‏حيث نشاء‏}‏ بنون العظمة، أي حيث يشاء الله، أي حيث نأمره أو نلهمه‏.‏ والمعنى متحد لأنه لا يشاء إلا ما شاءه الله‏.‏

وجملة ‏{‏نصيب برحمتنا من نشاء‏}‏ إلى آخرها تذييل لمناسبة عمومه لخصوص ما أصاب يوسف عليه السلام من الرحمة في أحواله في الدنيا وما كان له من مواقف الإحسان التي كان ما أعطيه من النعم وشرف المنزلة جزاء لها في الدنيا، لأن الله لا يضيع أجر المحسنين‏.‏ ولأجره في الآخرة خير من ذلك له ولكل من آمن واتقى‏.‏

والتعبير في جانب الإيمان بصيغة الماضي وفي جانب التقوى بصيغة المضارع، لأن الإيمان عقد القلب الجازم فهو حاصل دفعة واحدة وأما التقوى فهي متجددة بتجدّد أسباب الأمر والنهي واختلاف الأعمال والأزمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 62‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

طوى القرآن أخَرة أمر امرأةِ العزيز وحلولَ سني الخصب والادّخار ثم اعتراء سني القحط لقلة جدوى ذلكَ كله في الغرض الذي نزلت السورة لأجله، وهو إظهار ما يلقاه الأنبياء من ذويهم وكيف تكون لهم عاقبة النصر والحسنى، ولأنه معلوم حصوله، ولذلك انتقلت القصة إلى ما فيها من مصير إخوة يوسف عليه السلام في حاجة إلى نعمته، ومن جمع الله بينه وبين أخيه الذي يحبه، ثم بينه وبين أبويه، ثم مظاهر عفوه عن إخوته وصلته رحمهُ، لأن لذلك كله أثراً في معرفة فضائله‏.‏

وكان مجيء إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر للمِيرة عند حلول القحط بأرض مصر وما جاورها من بلاد فلسطين منازل آل يوسف عليه السلام، وكان مجيئهم في السنة الثانية من سني القحط‏.‏ وإنما جاء إخوته عدا بنيامين لصغره، وإنما رحلوا للميرة كلهم لعل ذلك لأن التزويد من الطعام كان بتقدير يراعى فيه عدد الممتارين، وأيضاً ليكونوا جماعة لا يَطمع فيهم قطاع الطريق، وكان الذين جاءوا عشرة‏.‏ وقد عُرف أنهم جاءوا ممتارين من تقدم قوله‏:‏ ‏{‏قال اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏ وقوله الآتي‏:‏ ‏{‏ألا ترون أني أوفي الكيل‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 59‏]‏‏.‏

ودخولهم عليه يدلّ على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره ويأذن به في مجلسه خشية إضاعة الأقوات لأن بها حياة الأمة‏.‏

وعرف يوسف عليه السلام إخوته بعد مضي سنين على فراقهم لقوة فراسته وزكانة عقله دونهم‏.‏

وجملة وهم له منكرون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فعرفهم‏}‏‏.‏ ووقع الإخبار عنهم بالجملة الإسمية للدلالة على أن عدم معرفتهم به أمر ثابت متمكن منهم، وكان الإخبار عن معرفته إياهم بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد للدلالة على أن معرفته إياهم حصلت بحدثان رؤيته إياهم دون توسم وتأمل‏.‏ وقُرن مفعول ‏{‏منكرون‏}‏ الذي هو ضمير يوسف عليه السلام بلام التقوية ولم يقل وهم منكرونه لزيادة تقوية جهلهم بمعرفته‏.‏

وتقديم المَجرور بلام التقوية في ‏{‏له منكرون‏}‏ للرعاية على الفاصلة، وللاهتمام بتعلق نكرتهم إياه للتنبيه على أن ذلك من صنع الله تعالى وإلا فإن شمائل يوسف عليه السلام ليست مما شأنه أن يجهل وينسَى‏.‏

والجهاز بفتح الجيم وكسرها ما يحتاج إليه المسافر، وأوله ما سافر لأجله من الأحمال‏.‏ والتجهيز‏:‏ إعطاء الجهاز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ايئتوني بأخ لكم‏}‏ يقتضي وقوع حديث منهم عن أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا لكان إنبَاء يوسف عليه السلام لهم بهذا يشعرهم أنه يكلمهم عارفاً بهم وهو لا يريد أن يكشف ذلك لهم‏.‏ وفي التوراة أن يوسف عليه السلام احتال لذلك بأن أوهمهم أنه اتهمهم أن يكونوا جواسيس للعدو وأنهم تبرأوا من ذلك فعرفوه بمكانهم من قومهم وبأبيهم وعدد عائلتهم، فما ذكروا ذلك له أظهر أنه يأخذ أحدهم رهينة عنده إلى أن يرجعوا ويأتوا بأخيهم الأصغر ليصدّقوا قولهم فيما أخبروه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏}‏‏.‏

و ‏{‏من أبيكم‏}‏ حال من ‏(‏أخ لكم‏)‏ أي أُخُوّته من جهة أبيكم، وهذا من مفهوم الاقتصار الدال على عدم إرادة غيره، أي من أبيكم وليس من أمكم، أي ليس بشقيق‏.‏

والعدول عن أن يقال‏:‏ ايئتوني بأخيكم من أبيكم، لأن المراد حكاية ما اشتمل عليه كلام يوسف عليه السلام من إظهار عدم معرفته بأخيهم إلا من ذِكرهم إياه عنده، فعدل عن الإضافة المقتضية المعرفة إلى التنكير تنابهاً في التظاهر بجهله به‏.‏

‏{‏ولا تقربون‏}‏ أي لا تعودوا إلى مصر، وقد علم أنهم لا يتركون أخاهم رهينة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين‏}‏ ترغيب لهم في العود إليه؛ وقد عَلم أنهم مضطرون إلى العود إليه لعدم كفاية الميرة التي امتاروها لعائلة ذات عدد من النّاس مثلهم، كما دل عليه قولهم بعد ‏{‏ذلك كيل يسير‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 65‏]‏‏.‏

ودل قوله‏:‏ خير المنزلين‏}‏ على أنه كان ينزل الممتارين في ضيافته لكثرة الوافدين على مصر للميرة‏.‏ والمُنْزل‏:‏ المُضيف‏.‏ وهذه الجملة كناية عن الوعد بأن يوفي لهم الكيل ويكرم ضيافتهم إن أتوا بأخيهم‏.‏ والكيل في الموضعين مرادٌ منه المصدر‏.‏ فمعنى ‏{‏فلا كيل لكم عندي‏}‏ أي لا يكال لكم، كناية عن منعهم من ابتياع الطعام‏.‏

‏{‏قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لفاعلون‏}‏

وعْد بأن يبذلوا قصارى جهدهم في الإتيان بأخيهم وإشعار بصعُوبة ذلك‏.‏ فمعنى ‏{‏سنراود عنه أباه‏}‏ سنحاول أن لا يشح به، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وجملة وإنا لفاعلون‏}‏ عطف على الوعد بتحقيق الموعود به، فهو فعل ما أمرهم به، وأكدوا ذلك بالجملة الإسمية وحرف التأكيد‏.‏

‏(‏62‏)‏ ‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏

قرأ الجمهور ‏{‏لفتيته‏}‏ بوزن فعلة جمع تكسير فتى مثل أخ وإخوة‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف ‏{‏لفتيانه‏}‏ بوزن إخوان‏.‏ والأول صيغة قلة والثاني صيغة كثرة وكلاهما يستعمل في الآخر‏.‏ وعدد الفتيان لا يختلف‏.‏

والفتى‏:‏ من كان في مبدإ الشباب، ومؤنثه فتاة، ويطلق على الخادم تلطفاً، لأنهم كانوا يستخفون بالشباب في الخدمة، وكانوا أكثر ما يستخدمون العبيد‏.‏

والبضاعة‏:‏ المال أو المتاع المعدّ للتجارة‏.‏ والمراد بها هنا الدراهم التي ابتاعوا بها الطعام كما في التوراة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يعرفونها‏}‏ رجاء أن يعرفوا أنها عين بضاعتهم إما بكونها مسكوك سكة بلادهم وإما بمعرفة الصَّرر التي كانت مصرورة فيها كما في التوراة، أي يعرفون أنها وضعت هنالك قصداً عطية من عزيز مصر‏.‏

والرحال‏:‏ جمع رحْل، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب، ولذا سمي البعير راحلة‏.‏

والانقلاب‏:‏ الرجوع، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انقلبتم على أعقابكم‏}‏ في ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏

وجملة لعلهم يرجعون‏}‏ جواب للأمر في قوله‏:‏ ‏{‏اجعلوا بضاعتهم في رحالهم‏}‏ لأنه لمّا أمرهم بالرجوع استشعر بنفاذ رأيه أنهم قد يكونون غير واجدين بضاعة ليبتاعوا بها الميرة لأنه رأى مخايل الضيق عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

معنى ‏{‏منع منا الكيل‏}‏ حِيل بيننا وبين الكيل في المستقبل، لأن رجوعهم بالطعام المعبر عنه بالجَهاز قرينة أن المنع من الكيل يقع في المستقبل، ولأن تركيب ‏{‏منع منا‏}‏ يؤذن بذلك، إذ جعلوا الكيل ممنوع الابتداء منهم لأن ‏{‏من‏}‏ حرف ابتداء‏.‏

والكيل مصدر صالح لمعنى الفاعلية والمفعولية، وهو هنا بمعنى الإسناد إلى الفاعل، أي لن نكيل، فالممنوع هو ابتداء الكيل منهم‏.‏ ولمّا لم يكن بيدهم ما يكال تعيّن تأويل الكيل بطلبه، أي منع منّا ذلك لعدم الفائدة لأننا لا نُمنحه إلاّ إذا وفينا بما وعَدْنا من إحضار أخينا‏.‏ ولذلك صح تفريع ‏{‏فأرسل معنا أخانا‏}‏ عليه، فصار تقدير الكلام‏:‏ منعنا من أن نطلب الكيل إلا إذا حضر معنا أخونا‏.‏ فتعين أنه حكَوْا القصة لأبيهم مفصلة واختصرها القرآن لظهور المرد‏.‏ والمعنى‏:‏ إن أرسلته معنا نَرحَل للاكتيال ونطلبه‏.‏ وإطلاق المنع على هذا المعنى مجاز، لأنهم أنذروا بالحرمان فصار طلبهم ممنوعاً منهم لأن طلبه عبث‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نكتل‏}‏ بنون المتكلم المشارك‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بتحتية عوض النون على أنه عائد إلى ‏{‏أخانا‏}‏ أي يكتل معنا‏.‏

وجملة ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فأرسل‏}‏‏.‏ وأكدوا حفظه بالجملة الإسمية الدالة على الثبات وبحرف التوكيد‏.‏

وجواب أبيهم كلام موجه يحتمل أن يكون معناه‏:‏ ‏{‏إني آمنكم عليه كما أمنتكم على أخيه‏}‏، وأن يكون معناه ماذا أفاد ائتمانكم على أخيه من قَبْل حتى آمنكم عليه‏.‏

والاستفهام إنكاري فيه معنى النفي، فهو يستفهم عن وجه التأكيد في قولهم‏:‏ ‏{‏وإنا له لحافظون‏}‏‏.‏ والمقصود من الجملة على احتماليها هو التفريع الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فالله خير حفظاً‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 64‏]‏، أي خير حفظاً منكم، فإنْ حفظه الله سلم وإن لم يحفظه لم يسلم كما لم يسلم أخوه من قبل حين أمنتكم عليه‏.‏

وهم قد اقتنعوا بجوابه وعلموا منه أنه مُرسِل معهم أخاهم، ولذلك لم يراجعوه في شأنه‏.‏

وحفظاً‏}‏ مصدر منصوب على التمييز في قراءة الجمهور‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي، وحفص ‏{‏حافظاً‏}‏ على أنه حال من اسم الجلالة وهي حال لازمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

أصل المتاع ما يتمتع به من العروض والثياب‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏102‏)‏‏.‏ وأطلق هنا على إعدال المتاع وإحماله من تسمية الشيء باسم الحالّ فيه‏.‏

وجملة قالوا يا أبانا‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لترقب السامع أن يعلم ماذا صدر منهم حين فجأهم وجدان بضاعتهم في ضمن متاعهم لأنه مفاجأة غريبة، ولهذه النكتة لم يعطف بالفاء‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما نبغي‏}‏ يجوز أن يكون للاستفهام الإنكاري بتنزيل المخاطب منزلة من يتطلب منهم تحصيل بغية فينكرون أن تكون لهم بغية أخرى، أي ماذا نطلب بعد هذا‏.‏ ويجوز كون ‏{‏ما‏}‏ نافية، والمعنى واحد لأن الاستفهام الإنكاري في معنى النفي‏.‏

وجملة ‏{‏هذه بضاعتنا ردت إلينا‏}‏ مبينة لجملة ‏{‏ما نبغي‏}‏ على الاحتمالين‏.‏ وإنما علموا أنها رُدّت إليهم بقرينة وَضْعها في العِدل بعد وضع الطعام وهم قد كانوا دفعوها إلى الكيالين، أو بقرينة ما شاهدوا في يوسف عليه السلام من العطف عليهم، والوعد بالخير إن هم أتوا بأخيهم إذ قال لهم ‏{‏ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وجملة ونمير أهلنا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏هذه بضاعتنا ردت إلينا‏}‏، لأنها في قوة هذا ثمن ما نحتاجه من الميرة صَار إلينا ونمير به أهلنا، أي نأتيهم بالميرة‏.‏

والميرة بكسر الميم بعدها ياء ساكنة‏:‏ هي الطعام المجلوب‏.‏

وجملة ‏{‏ونحفظ أخانا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ونمير أهلنا‏}‏، لأن المير يقتضي ارتحالاً للجلب، وكانوا سألوا أباهم أن يكون أخوهم رفيقاً لهم في الارتحال الذكور، فكانت المناسب بين جملة ‏{‏ونمير أهلنا‏}‏ وجملة ‏{‏ونحفظ أخانا‏}‏ بهذا الاعتبار، فذكروا ذلك تطميناً لخاطر فيهم‏.‏

وجملة ‏{‏ونزداد كيل بعير‏}‏ زيادةٌ في إظهار حرصهم على سلامة أخيهم لأن في سلامته فائدة لهم بازدياد كيل بعير، لأن يوسف عليه السلام لا يعطي الممتارَ أكثر من حمل بعير من الطعام، فإذا كان أخوهم معهم أعطاه حِمل بعير في عداد الإخوة‏.‏ وبه تظهر المناسبة بين هذه الجملة والتي قبلها‏.‏

وهذه الجمل مرتبة ترتيباً بديعاً لأن بعضها متولد عن بعض‏.‏

والإشارة في ‏{‏ذلك كيل يسير‏}‏ إلى الطعام الذي في متاعهم‏.‏ وإطلاق الكيل عليه من إطلاق المصدر على المفعول بقرينة الإشارة‏.‏

قيل‏:‏ إن يعقوب عليه السلام قال لهم‏:‏ لعلهم نسوا البضاعة فإذا قدمتم عليهم فأخبروهم بأنكم وجدتموها في رحالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

اشتهر الإيتاء والإعطاء وما يراد بهما في إنشاء الحلف ليطمئن بصدق الحالف غيره وهو المحلوف له‏.‏

وفي حديث الحشر «فيعطي الله من عُهود ومواثيق أن لا يسأله غيره» كما أطلق فعل الأخذ على تلقي المحلوف له للحلف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأخذنا منكم ميثاقاً غليظاً‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 21‏]‏ و‏{‏قد أخذ عليكم موثقاً من الله‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 80‏]‏‏.‏

ولعل سبب إطلاق فعل الإعطاء أن الحالف كان في العصور القديمة يعطي المحلوف له شيئاً تذكرة لليمين مثل سوطه أو خاتمه، أو أنهم كانوا يضعون عند صاحب الحق ضماناً يكون رهينة عنده‏.‏ وكانت الحمالة طريقة للتوثق فشبه اليمين بالحمالة‏.‏ وأثبت له الإعطاء والأخذ على طريقة المكنيّة، وقد اشتهر ضد ذلك في إبطال التوثق يقال‏:‏ رَدّ عليه حِلفه‏.‏

والمَوثْق‏:‏ أصله مصدر ميمي للتوثّق، أطلق هنا على المفعول وهو ما به التوثق، يعني اليمين‏.‏

ومن الله‏}‏ صفة ل ‏{‏موثقاً‏}‏، و‏{‏من‏}‏ للابتداء، أي موثقاً صادراً من الله تعالى‏.‏ ومعنى ذلك أن يجعلوا الله شاهداً عليهم فيما وَعدوا به بأن يحلفوا بالله فتصير شهادة الله عليهم كتوثق صادر من الله تعالى بهذا الاعتبار‏.‏ وذلك أن يقولوا‏:‏ لك ميثاق الله أو عهد الله أو نحو ذلك، وبهذا يضاف الميثاق والعهد إلى اسم الجلالة كأنّ الحالف استودع الله ما به التوثق للمحلوف له‏.‏

وجملة ‏{‏لتأتنني به‏}‏ جواب لقسم محذوف دلّ عليه ‏{‏موثقاً‏}‏‏.‏ وهو حكاية لقول يقوله أبناؤه المطلوب منهم إيقاعه حكاية بالمعنى على طريقة حكاية الأقوال لأنهم لو نطقوا بالقسم لقالوا‏:‏ لنأتينك به، فلما حكاه هو ركب الحكاية بالجملة التي هي كلامهم وبالضمائر المناسبة لكلامه بخطابه إياهم‏.‏

ومن هذا النوع قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام ‏{‏ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 117‏]‏، وإن ما أمره الله‏:‏ قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم‏.‏

ومعنى يحاط بكم‏}‏ يُحيط بكم مُحيط والإحاطة‏:‏ الأخذُ بأسْر أو هلاك مما هو خارج عن قدرتهم، وأصله إحاطة الجيش في الحرب، فاستعمل مجازاً في الحالة التي لا يستطاع التغلب عليها، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظنوا أنهم أحيط بهم‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والاستثناء في إلا أن يحاط بكم‏}‏ استثناء من عموم أحوال، فالمصدر المنسبك من ‏{‏أن‏}‏ مع الفعل في موضع الحال، وهو كالإخبار بالمَصدر فتأويله‏:‏ إلاّ محاطاً بكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الله على ما نقول وكيل‏}‏ تذكير لهم بأن الله رقيب على ما وقع بينهم‏.‏ وهذا توكيد للحَلِف‏.‏

والوَكيل‏:‏ فعيل بمعنى مفعول، أي موكول إليه، وتقدم في ‏{‏وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏173‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وقال يا بني‏}‏ عطف على جملة ‏{‏قال الله على ما نقول وكيل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وإعادة فعل ‏{‏قال‏}‏ للإشارة إلى اختلاف زمن القولين وإن كانا معاً مسبّبَيْن على إيتاء موثقهم، لأنه اطمأن لرعايتهم ابنَه وظهرت له المصلحة في سفرهم للإمتار، فقوله‏:‏ ‏{‏يا بني لا تدخلوا من باب واحد‏}‏ صادر في وقت إزمَاعهم الرحيل‏.‏ والمقصود من حكاية قوله هذا العبرة بقوله‏:‏ ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ الخ‏.‏

والأبواب‏:‏ أبواب المدينة‏.‏ وتقدم ذكر الباب آنفاً‏.‏ وكانت مدينة ‏(‏منفيس‏)‏ من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب‏.‏ وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصارَ أهل المدينة وحُراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يُوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم أو رصدوا الأعين إليهم، فيكون ذلك ضرّاً لهم وحائلاً دون سرعة وصولهم إلى يوسف عليه السلام ودون قضاء حاجتهم‏.‏ وقد قيل في الحكمة‏:‏ «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»‏.‏

ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة فلم يخش ضلالهم فيها، وعلم أن ‏(‏بنيامِين‏)‏ يكون في صحبة أحد إخوته لئلا يضل في المدينة‏.‏

والمتفرقة أراد بها المتعددة لأنه جعلها في مقابلة الواحد‏.‏ ووجه العدول عن المتعددة إلى المتفرقة الإيماء إلى علة الأمر وهي إخفاء كونهم جماعة واحدة‏.‏

وجملة ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ معترضة في آخر الكلام، أي وما أغني عنكم بوصيتي هذه شيئاً‏.‏ و‏{‏من الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏أغني‏}‏، أي لا يكون ما أمرتكم به مُغنياً غَنَاء مبتدِئاً من عند الله بل هو الأدب والوقوف عندما أمر الله، فإنْ صادف ما قدره فقد حصل فائدتان، وإن خالف ما قَدّره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط‏.‏

وتقدم وجه تركيب ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً‏}‏ في سورة العقود ‏(‏41‏)‏‏.‏

وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدباً مع واضع الأسباب ومقدّر الألطاف في رعاية الحالين، لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها‏.‏

وهذا سرّ مسألة القدر كما أشار إليه قول النبي اعمَلوا فكلٌ ميسّر لما خلق له، وفي الأثر إذا أراد الله أمراً يَسّر أسبابه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏

‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ذلك أن شأن الأسباب أن تحصُل عندها مسبباتها‏.‏ وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد، أو لكون السبب الواحد قد يكون سبباً لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعَاطي السبب في مصادفة المسبّب المقصود، ولولا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملاً وهمجاً‏.‏

والإغناء‏:‏ هنا مشتق من الغَناء بفتح الغين وبالمدّ، وهو الإجزاء والاضطلاع وكفاية المهم، وأصله مرادف الغِنى بكسر الغين والقصر وهما معاً ضد الفقر، وكثر استعمال الغناء المفتوح الممدود في الإجزاء والكفاية على سبيل المجاز المرسل لأن من أجزأ وكفى فقد أذهب عن نفسه الحَاجة إلى المغنين وأذهب عمن أجزأ عنه الاحتياج أيضاً، وشاع هذا الاستعمال المجازي حتى غلب على هذا الفعل، فلذلك كثر في الكلام تخصيص الغَناء بالفتح والمد بهذا المعنى، وتخصيص الغِنى بالكسر والقصر في معنى ضد الفقر ونحوه حتى صار الغَناء الممدود لا يكاد يسمع في معنى ضد الفقر‏.‏ وهي تفرقة حسنة من دقائق استعمالهم في تصاريف المترادفات‏.‏ فما يوجد في كلام ابن بري من قوله‏:‏ إن الغناء مصدر ناشئ عن فعل أغنى المهموز بحذف الزائد الموهم أنه لا فِعل له مجرّد فإنما عَنى به أن استعمال فِعل غَنِيَ في هذا المعنى المجازي متروك مُمات لا أنه ليس له فعل مجرد‏.‏

ولذلك فمعنى فعل ‏(‏أغنى‏)‏ بهذا الاستعمال معنى الأفعال القاصرة، ولم يفده الهمز تعديةً، فلعل همزته دالة على الصيرورة ذا غنى، فلذلك كان حقه أن لا ينصب المفعول به بل يكون في الغالب مرادفاً لِمفعول مطلق كقول عمرو بن معديكرب‏:‏

أُغْني غَناء الذاهب *** ين أُعَدُّ للحدثان عَدّا

ويقولون‏:‏ أغنى فلان عن فلان، أي في أجزاه عوضه وقام مقامه، ويأتون بمنصوب فهو تركيب غريب، فإن حرف ‏(‏عن‏)‏ فيه للبدلية وهي المجاوزة المجازية‏.‏ جعل الشيء البدل عن الشيء مجاوزاً له لأنه حلّ محلّه في حال غيبته فكأنه جاوزه فسموا هذه المجاوزة بدلية وقالوا‏:‏ إنّ ‏(‏عن‏)‏ تجيء للبدلية كما تجيء لها الباء‏.‏ فمعنى ما أغني عنكم‏}‏ لا أجزي عنكم، أي لا أكفي بدلاً عن إجزائكم لأنفسكم‏.‏

و ‏{‏من شيء‏}‏ نائب مناب شيئاً، وزيدت ‏{‏من‏}‏ لتوكيد عموم شيء في سياق النفي، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تغني عني شفاعتهم شيئاً‏}‏ ‏[‏سورة يس‏:‏ 23‏]‏ أي من الضرّ‏.‏ وجوز صاحب الكشاف في مثله أن يكون شيئاً‏}‏ مفعولاً مطلقاً، أي شيئاً من الغناء وهو الظاهر، فقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 48‏]‏، قال‏:‏ أي قليلاً من الجزاء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يظلمون شيئاً‏}‏ لكنه جوز أن يكون ‏{‏شيئاً‏}‏ مفعولاً به وهو لا يستقيم إلا على معنى التوسع بالحذف والإيصال، أي بنزع الخافض‏.‏

وجملة ‏{‏إن الحكم إلا لله‏}‏ في موضع التعليل لمضمون ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏‏.‏

والحكم‏:‏ هنا بمعنى التصرف والتقدير، ومعنى الحصر أنه لا يتم إلا ما أراده الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بالغٌ أمره‏}‏ ‏[‏سورة الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وليس للعبد أن ينازع مراد الله في نفس الأمر ولكن واجبه أن يتطلب الأمور من أسبابها لأن الله أمر بذلك، وقد جمع هذين المعنيين قوله‏:‏ وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏ في موضع البيان لِجملة ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ ليبين لهم أن وصيته بأخذ الأسباب مع التنبيه على الاعتماد على الله هو معنى التوكّل الذي يَضل في فهمه كثير من الناس اقتصاراً وإنكاراً، ولذلك أتى بجملة ‏{‏وعليه فليتوكل المتوكلون‏}‏ أمراً لهم ولغيرهم على معنى أنه واجب الحاضرين والغائبين، وأن مقامه لا يختص بالصدّيقين بل هو واجب كل مؤمن كامل الإيمان لا يخلط إيمانه بأخطاء الجاهليات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

جملة معترضة، والواو اعتراضية‏.‏

ودلت ‏{‏حيث‏}‏ على الجهة، أي لمّا دخلوا من الجهات التي أمرهم أبوهم بالدخول منها‏.‏ فالجملة التي تضاف إليها ‏{‏حيثُ‏}‏ هي التي تُبين المراد من الجهة‏.‏

وقد أغنت جملة ‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم‏}‏ عن جمل كثيرة، وهي أنهم ارتحلوا ودخلوا من حيث أمرهم أبوهم، ولما دخلوا من حيث أمرهم سَلموا مما كان يخافه عليهم‏.‏ وما كان دخولهم من حيث أمرهم يُغني عنهم من الله من شيء لوْ قدّر الله أن يحاط بهم، فالكلام إيجاز‏.‏ ومعنى ‏{‏ما كان يغني عنهم من الله من شيء‏}‏ أنه ما كان يرد عنهم قضاء الله لولا أن الله قدر سلامتهم‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ حاجةً‏}‏ منقطع لأن الحاجة التي في نفس يعقوب عليه السلام ليست بعضاً من الشيء المنفي إغناؤه عنهم من الله، فالتقدير‏:‏ لكن حاجة في نفس يعقوب عليه السلام قضاها‏.‏

والقضاء‏:‏ الإنفاذ، ومعنى قضاها أنفذها‏.‏ يقال‏:‏ قضى حاجة لنفسه، إذا أنفذ ما أضمره في نفسه، أي نصيحة لأبنائه أداها لهم ولم يدخرها عنهم ليطمئن قلبه بأنه لم يترك شيئاً يظنه نافعاً لهم إلاّ أبلغه إليهم‏.‏

والحاجة‏:‏ الأمر المرغوب فيه‏.‏ سمي حاجة لأنه محتاج إليه، فهي من التسمية باسم المصدر‏.‏ والحاجة التي في نفس يعقوب عليه السلام هي حرصه على تنبيههم للأخطار التي تعرض لأمثالهم في مثل هذه الرحلة إذا دخلوا من باب واحد، وتعليمُهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله‏.‏

وجملة ‏{‏وإنه لذو علم لما علمناه‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم‏}‏ الخ وبين جملة ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏‏.‏

وهو ثناء على يعقوب عليه السلام بالعلم والتدبير، وأنّ ما أسْداه من النصح لهم هو من العلم الذي آتاه الله وهو من علم النبوءة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ استدراك نشأ عن جملة ‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم‏}‏ الخ‏.‏ والمعنى أن الله أمر يعقوب عليه السلام بأخذ أسباب الاحتياط والنصيحة مع علمه بأن ذلك لا يغني عنهم من الله من شيء قدره لهم، فإن مراد الله تعالى خفيّ عن الناس، وقد أمر بسلوك الأسباب المعتادة، وعَلِم يعقوب عليه السلام ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تطلب الأمرين فيهملون أحدهما، فمنهم من يهمل معرفة أن الأسباب الظاهرية لا تدفع أمراً قَدّره الله وَعَلِم أنه واقع، ومنهم من يهمل الأسباب وهو لا يعلم أن الله أراد في بعض الأحوال عدم تأثيرها‏.‏

وقد دلّ ‏{‏وإنه لذو علم لما علمناه‏}‏ بصريحه على أن يعقوب عليه السلام عمل بما علّمه الله، ودلّ قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ بتعريضه على أن يعقوب عليه السلام من القليل من الناس الذين علموا مراعاة الأمرين ليتقرر الثناء على يعقوب عليه السلام باستفادته من الكلام مرتين‏:‏ مرة بالصراحة ومرة بالاستدراك‏.‏

والمعنى‏:‏ أن أكثر الناس في جهالة عن وضع هاته الحقائق موضعها ولا يخلون عن مُضيع لإحداهما، ويفسر هذا المعنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا أمر المسلمين بالقفول عن عَمواس لَمّا بلغه ظهور الطاعون بها وقال له أبو عبيدة‏:‏ أفراراً من قدر الله فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لو غَيْرُك قالها يا أبَا عبيدة ألسنا نفرّ من قدر الله إلى قدر الله‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

موقع جملة ‏{‏ولما دخلوا على يوسف‏}‏ كموقع جملة ‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 68‏]‏ في إيجاز الحذف‏.‏

والإيواء‏:‏ الإرجاع‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك مأواهم النار‏}‏ في سورة يونس ‏(‏8‏)‏‏.‏

وأطلق الإيواء هنا مجازاً على الإدناء والتقريب كأنه إرجاع إلى مأوى، وإنما أدناه ليتمكن من الإسرار إليه بقوله‏:‏ إني أنا أخوك‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏قال إني أنا أخوك‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏آوى إليه أخاه‏}‏‏.‏ وكلمه بكلمة مختصرة بليغة إذ أفاده أنه هو أخوه الذي ظنه أكلَه الذئب‏.‏ فأكد الخبر ب ‏(‏إنّ‏)‏ وبالجملة الإسمية وبالقصر الذي أفاده ضمير الفصل، أي أنَا مقصور على الكون أخاك لا أجنبي عنك، فهو قصر قلب لاعتقاده أن الذي كلّمه لا قرابة بينه وبينه‏.‏

وفرّع على هذا الخبر ‏{‏فلا تبتئس بما كانوا يعملون‏}‏‏.‏ والابتئاس‏:‏ مطاوعة الإبئاس، أي جَعْل أحد بائساً، أي صاحب بؤس‏.‏

والبؤس‏:‏ هو الحزن والكدر‏.‏ وتقدم نظير هذا التركيب في قصة نوح عليه السلام من سورة هود‏.‏ والضميران في ‏{‏كانوا‏}‏ و‏{‏يعملون‏}‏ راجعان إلى إخوتهما بقرينة المقام، وأراد بذلك ما كان يجده أخوه ‏(‏بنيامين‏)‏ من الحزن لهلاك أخيه الشقيق وفظاظة إخوته وغيرتهم منه‏.‏

والنهي عن الابتئاس مقتضضٍ الكفّ عنه، أي أزلْ عنك الحزن واعتْضْ عنه بالسرور‏.‏

وأفاد فعل الكون في المضي أن المراد ما عَملوه فيما مضى‏.‏ وأفاد صوغ ‏{‏يعملون‏}‏ بصيغة المضارع أنه أعمال متكررة من الأذى‏.‏ وفي هذا تهيئة لنفس أخيه لتلقي حادث الصُّوَاع باطمئنان حتى لا يخشى أن يكون بمحل الريبة من يوسف عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 75‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

تقدم الكلام على نظير قوله‏:‏ ‏{‏فلما جهزهم بجهازهم‏}‏ في الآيات قبل هذه‏.‏ وإسناد جعل السقاية إلى ضمير يوسف مجاز عقليّ، وإنما هو آمر بالجعل والذين جعلوا السقاية هم العبيد الموكّلون بالكيل‏.‏

والسقاية‏:‏ إناء كبير يُسقى به الماء والخمر‏.‏ والصُّوَاع‏:‏ لغة في الصاع، وهو وعاء للكيل يقَدّر بوزن رطل وربع أو وثلث‏.‏ وكانوا يشربون الخمر بالمقدار، يقدّر كل شارب لنفسه ما اعتاد أنه لا يصرعه، ويجعلون آنية الخمر مقدّرة بمقادير مختلفة، فيقول الشارب للساقي‏:‏ رطلاً أو صاعاً أو نحو ذلك‏.‏ فتسمية هذا الإناء سقاية وتسميته صُوَاعاً جارية على ذلك‏.‏ وفي التوراة سمي طاسا، ووصف بأنه من فضة‏.‏

وتعريف ‏{‏السقاية‏}‏ تعريف العهد الذهني، أي سقاية معروفة لا يخلو عن مثلها مجلس العظيم‏.‏

وإضافة الصُّواع إلى الملك لتشريفه، وتهويل سرقته على وجه الحقيقة، لأن شؤون الدولة كلها للمَلك‏.‏ ويجوز أن يكون أطلق الملك على يوسف عليه السلام تعظيماً له‏.‏

والتأذين‏:‏ النداء المكرر‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأذن مؤذن بينهم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏44‏)‏‏.‏

والعِير‏:‏ اسم للحمولة من إبل وحَمير وما عليها من أحمال وما معها من ركابها، فهو اسم لمجموع هذه الثلاثة‏.‏ وأسندت السرقة إلى جميعهم جريا على المعتاد من مؤاخذة الجماعة بجرم الواحد منهم‏.‏

وتأنيث اسم الإشارة وهو أيتها‏}‏ لتأويل العير بمعنى الجماعة لأن الركاب هم الأهم‏.‏

وجملة ‏{‏قالوا‏}‏ جواب لنداء المنادي إياهم ‏{‏إنكم لسارقون‏}‏، ففصلت الجملة لأنها في طريقة المحاورة كما تكرر غير مرة‏.‏

وضمير ‏{‏قالوا‏}‏ عائد إلى العير‏.‏

وجملة ‏{‏وأقبلوا عليهم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏قالوا‏}‏‏.‏ ومرجع ضمير ‏{‏أقبلوا‏}‏ عائد إلى فتيان يوسف عليه السلام‏.‏ وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ راجع إلى ما رجع إليه ضمير ‏{‏قالوا‏}‏، أي وقد أقبل عليهم فتيان يوسف عليه السلام‏.‏

وجعلوا جعلا لمن يأتي بالصواع‏.‏ والذي قال‏:‏ ‏{‏وأنا به زعيم‏}‏ واحد من المقبلين وهو كبيرهم‏.‏ والزعيم‏:‏ الكفيل‏.‏

وهذه الآية قد جعلها الفقهاء أصلاً لمشروعية الجعل والكفالة‏.‏ وفيه نظر، لأن يوسف عليه السلام لم يكن يومئذٍ ذا شَرْع حتى يستأنس للأخذ ب ‏(‏أنّ شَرْعَ من قَبْلنا شَرْع لنا‏)‏‏:‏ إذا حكاه كلام الله أو رسوله‏.‏ ولو قدّر أن يوسف عليه السلام كان يومئذٍ نبيئاً فلا يثبت أنه رسول بشرع، إذ لم يثبت أنه بعث إلى قوم فرعون، ولم يكن ليوسف عليه السلام أتباع في مصر قبْل ورود أبيه وإخوتهِ وأهلِيهم‏.‏ فهذا مأخذ ضعيف‏.‏

والتاء في ‏{‏تاللَّه‏}‏ حرف قَسم على المختار، ويختص بالدخول على اسم الله تعالى وعلى لفظ رَب، ويختص أيضاً بالمُقسم عليه العجيب‏.‏ وسيجيء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتالله لأكيدن أصنامكم‏}‏ في ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 57‏]‏‏.‏

وقولهم‏:‏ لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين‏}‏‏.‏ أكدوا ذلك بالقسم لأنهم كانوا وَفدوا على مصر مرة سابقة واتهموا بالجوسسة فتبينت براءتهم بما صدقوا يوسف عليه السلام فيما وصفوه من حال أبيهم وأخيهم‏.‏ فالمراد ب ‏{‏الأرض‏}‏ المعهودة، وهي مصر‏.‏

وأما براءتهم من السرقة فبما أخبروا به عند قدومهم من وجدان بضاعتهم في رحالهم، ولعلّها وقعت في رحالهم غلطاً‏.‏

على أنهم نفوا عن أنفسهم الاتّصاف بالسرقة بأبلغ مما نفوا به الإفساد عنهم، وذلك بنفي الكون سارقين دون أن يقولوا‏:‏ وما جئنا لنسرق، لأن السرقة وصف يُتعيّر به، وأما الإفساد الذي نفوه، أي التجسس فهو مما يقصده العدوّ على عَدوّه فلا يكون عاراً، ولكنه اعتداء في نظر العدوّ‏.‏

وقول الفتيان ‏{‏فما جزاؤه إن كنتم كاذبين‏}‏ تحكيم، لأنهم لا يسعهم إلا أن يعيّنوا جزاء يؤخذون به، فهذا تحكيم المَرء في ذنبه‏.‏

ومعنى ‏{‏ما جزاؤه‏}‏‏:‏ ما عقابه‏.‏ وضمير ‏{‏جزاؤه‏}‏ عائد إلى الصُّوّاع بتقدير مضاف دل عليه المقام، أي ما جزاء سَارقه أو سرقته‏.‏

ومعنى ‏{‏إن كنتم كاذبين‏}‏ إن تبين كذبكم بوجود الصُّوَاع في رحالكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه‏}‏‏.‏ ‏{‏جزاؤه‏}‏ الأول مبتدأ، و‏{‏مَن‏}‏ يجوز أن تكون شرطية وهي مبتدأ ثان وأن جملة ‏{‏وجد في رحله‏}‏ جملة الشرط وجملة ‏{‏فهو جزاؤه‏}‏ جواب الشرط، والفاء رابطة للجواب، والجملة المركبة من الشرط وجوابه خبر عن المبتدإ الأول‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ موصولة مبتدأ ثانياً، وجملة ‏{‏وجد في رحله‏}‏ صلة الموصول‏.‏ والمعنى أن من وجد في رحله الصوَاع هو جزاء السرقة، أي ذاته هي جزاء السرقة، فالمعنى أن ذاته تكون عِوضاً عن هذه الجريمة، أي أن يصير رفيقاً لصاحب الصواع ليتمّ معنى الجزاء بذات أخرى‏.‏ وهذا معلوم من السياق إذ ليس المراد إتلاف ذات السارق لأن السرقة لا تبلغ عقوبتها حدّ القتل‏.‏

فتكون جملة ‏{‏فهو جزاؤه‏}‏ توكيداً لفظياً لجملة ‏{‏جزاؤه من وجد في رحله‏}‏، لتقرير الحكم وعدم الانفلات منه، وتكون الفاء للتفريع تفريع التأكيد على الموكّد‏.‏ وقد حَكَم إخوة يوسف عليه السلام على أنفسهم بذلك وتراضوا عليه فلزمهم ما التزموه‏.‏

ويظهر أن ذلك كان حُكماً مشهوراً بين الأمم أن يسترقَّ السارق‏.‏ وهو قريب من استرقاق المغلوب في القتال‏.‏ ولعله كان حكماً معروفاً في مصر لما سيأتي قريباً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وجملة كذلك نجزي الظالمين‏}‏ بقيمة كلام إخوة يوسف عليه السلام، أي كذلك حُكْم قومنا في جزاء السارق الظالم بسرقته؛ أو أرادوا أنه حكم الإخوة على من يقدّر منهم أن يظهر الصواع في رحله، أي فهو حقيق لأن نجزيه بذلك‏.‏

والإشارة ب ‏{‏كذلك‏}‏ إلى الجزاء المأخوذ من ‏{‏نجزي‏}‏، أي نجزي الظالمين جزاءً كذلك الجزاء، وهو من وُجد في رحله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏بدأ‏}‏ أي أمر يوسف عليه السلام بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق‏.‏

وأوعية‏:‏ جمع وعاء، وهو الظرف،‏.‏ مشتق من الوعي وهو الحفظ‏.‏ والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر‏.‏ وتأنيث ضمير ‏{‏استخرجها‏}‏ للسقاية‏.‏ وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعاً‏.‏ فهو كردّ العجز على الصدر‏.‏

والقول في ‏{‏كذلك كدنا ليوسف‏}‏ كالقول في ‏{‏كذلك نجزي الظالمين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 75‏]‏‏.‏

والكَيْد‏:‏ فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي‏.‏ والكيد‏:‏ هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت‏.‏

وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه‏.‏ وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته‏.‏

وجملة ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله‏}‏ بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه عنده، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك، فقد قيل‏:‏ إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته‏.‏ وعن مجاهد ‏{‏في دين الملك‏}‏ أي حكمه وهو استرقاق السراق‏.‏ وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله‏:‏ ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك‏}‏ أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه‏.‏ ولعل ذلك كان حكماً شائعاً في كثير من الأمم، ألا ترى إلى قولهم‏:‏ ‏{‏من وجد في رحله فهو جزاؤه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 75‏]‏ كما تقدم، أي أن ملك مصر كان عادلاً فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق‏.‏ ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان‏.‏

ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده‏.‏

والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية‏.‏ وفي الكلام حرف جر محذوف قبل أن‏}‏ المصدرية، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ، أي أسبابه‏.‏ فالتقدير‏:‏ إلا بأن يشاء الله، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف عليه السلام في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم‏.‏

وجملة ‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ تذييل لقصة أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف عليه السلام في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله‏.‏ ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف عليه السلام في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه‏.‏

ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف عليه السلام وحنوه عليهم‏.‏ فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏228‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لهم درجات عند ربهم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏4‏)‏‏.‏

وجملة وفوق كل ذي علم عليم‏}‏ تذييل ثان لجملة ‏{‏كذلك كدنا ليوسف‏}‏ الآية‏.‏

وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس‏.‏

والفوقية مجاز في شرف الحال، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع‏.‏

وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف ‏{‏عليم‏}‏ باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه‏.‏

وظاهر تنكير ‏{‏عليم‏}‏ أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى‏.‏ فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه‏.‏ ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم‏.‏

وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏درجات من نشاء‏}‏ بإضافة ‏{‏درجات‏}‏ إلى ‏{‏من نشاء‏}‏‏.‏ وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بتنوين ‏{‏درجاتٍ‏}‏ على أنه تمييز لتعلق فعل ‏{‏نرفع‏}‏ بمفعوله وهو ‏{‏من نشاء‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

لما بُهتوا بوجود الصُّوَاع في رحل أخيهم اعتراهم ما يعتري المبهوت فاعتذروا عن دعواهم تنزههم عن السرقة، إذ قالوا‏:‏ ‏{‏وما كنا سارقين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 73‏]‏، عذراً بأن أخاهم قد تسرّبت إليه خصلة السرقة من غير جانب أبيهم فزعموا أن أخاه الذي أشيع فقده كان سرق من قبلُ، وقد علم فتيان يوسف عليه السلام أن المتهم أخ من أمّ أخرى، فهذا اعتذار بتعريض بجانب أمّ أخويهم وهي زوجة أبيهم وهي ‏(‏راحيل‏)‏ ابنة ‏(‏لابان‏)‏ خاللِ يعقوب عليه السلام‏.‏

وكان ليعقوب عليه السلام أربع زوجات‏:‏ ‏(‏راحيل‏)‏ هذه أم يوسف عليه السلام وبنيامين؛ و‏(‏لِيئة‏)‏ بنت لابان أخت راحيل وهي أم رُوبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وبساكر، وزبولون؛ و‏(‏بُلْهَة‏)‏ جارية راحيل وهي أم دانا، ونفتالي؛ و‏(‏زُلفة‏)‏ جارية راحيل أيضاً وهي أم جاد، وأشير‏.‏

وإنما قالوا‏:‏ قد سرق أخ له من قبل‏}‏ بهتاناً ونفياً للمعرة عن أنفسهم‏.‏ وليس ليوسف عليه السلام سرقة من قبل، ولم يكن إخوة يوسف عليه السلام يومئذٍ أنبياء‏.‏ وشتان بين السرقة وبين الكذب إذا لم تترتب عليه مضرة‏.‏

وكان هذا الكلام بمسمع من يوسف عليه السلام في مجلس حكمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأسرها يوسف‏}‏ يجوز أن يعود الضمير البارز إلى جملة ‏{‏قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ على تأويل ذلك القول بمعنى المقالة على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها كلمة هو قائلها بعد قوله‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏.‏ ويكون معنى أسرها في نفسه أنه تحملها ولم يظهر غضباً منها، وأعرض عن زجرهم وعقابهم مع أنها طعن فيه وكذب عليه‏.‏ وإلى هذا التفسير ينحو أبو علي الفارسي وأبو حيان‏.‏ ويكون قوله‏:‏ قال أنتم شر مكانا‏}‏ كلاماً مستأنفاً حكايةً لما أجابهم به يوسف عليه السلام صراحة على طريقة حكاية المحاورة، وهو كلام موجه لا يقتضي تقرير ما نسبوه إلى أخي أخيهم، أي أنتم أشدّ شرّاً في حالتكم هذه لأنّ سرقتكم مشاهدة وأما سرقة أخي أخيكم فمجرد دعوى، وفعل ‏{‏قال‏}‏ يرجح هذا الوجه‏.‏

ويجوز أن يكون ضمير الغيبة في ‏{‏فأسرها‏}‏ عائد إلى ما بعده وهو قوله‏:‏ ‏{‏قال أنتم شر مكانا‏}‏‏.‏ وبهذا فسر الزجاج والزمخشري، أي قال في نفسه، وهو يشبه ضمير الشأن وَالقصة، لكن تأنيثه بتأويل المقولة أو الكلمة، وتكون جملة ‏{‏قال أنتم شر مكانا‏}‏ تفسيراً للضمير في ‏{‏أسرها‏}‏‏.‏

والإسرار، على هذا الوجه، مستعمل في حقيقته، وهو إخفاء الكلام عن أن يسمعه سامع‏.‏

وجملة ‏{‏ولم يبدها لهم‏}‏ قيل هي توكيد لجملة ‏{‏فأسرها يوسف‏}‏‏.‏ وشأن التوكيد أن لا يعطف‏.‏ ووجه عطفها ما فيها من المغايرة للتي قبلها بزيادة قيد لهم المشعر بأنه أبدى لأخيه أنهم كاذبون‏.‏

ويجوز أن يكون المراد لهم يُبدِ لهم غَضَباً ولا عقاباً كما تقدم مبالغة في كظم غيظه، فيكون في الكلام تقدير مضاف مناسب، أي لم يُبْد أثرها‏.‏

و ‏{‏شرّ‏}‏ اسم تفضيل، وأصله أشرّ، و‏{‏مكانا‏}‏ تمييز لنسبة الأشَرّ‏.‏

وأطلق المكان على الحالة على وجه الاستعارة، والحالة هي السرقة، وإطلاق المكان والمكانة على الحالة شائع‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا قوم اعملوا على مكانتكم‏}‏ في آخر سورة الأنعام ‏(‏135‏)‏، وهو تشبيه الاتّصاف بوصف مّا بالحلول في مكان‏.‏ والمعنى أنهم لما علّلوا سرقة أخيهم بأن أخاه من قبل قد سرق فإذا كانت سرقة سابقة من أخ أعدّت أخاه الآخر للسرقة، فهم وقد سبقهم أخَوَانَ بالسرقة أجدر بأن يكونوا سَارقين من الذي سبَقه أخ واحد‏.‏ والكلام قابل للحمل على معنى أنتم شر حالة من أخيكم هذا والذي قبله لأنهما بريئان مما رميتموهما به وأنتم مجرمون عليهما إذ قذفتم أولهما في الجب، وأيدتم تهمة ثانيهما بالسرقة‏.‏

ثم ذيله بجملة والله أعلم بما تصفون‏}‏، وهو كلام جامع أي الله أعلم بصدقكم فيما وصفتم أو بكذبكم‏.‏ والمراد‏:‏ أنه يعلم كذبهم، فالمراد‏:‏ أعلم لحال ما تصفون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

نَادَوْا بوصف العزيز إمّا لأنّ كلّ رئيس ولاية مهمة يدعى بما يرادف العزيز فيكون يوسف عليه السلام عزيزاً، كما أن رئيس الشرطة يدعى العزيز كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏امرأة العزيز‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 30‏]‏؛ وإما لأن يوسف ضمت إليه ولاية العزيز الذي اشتراه فجمع التصرفات وراجعوه في أخذ أخيهم‏.‏

ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه، وهي‏:‏ حنان الأبوة، وصفة الشيخوخة، واستحقاقه جبر خاطره لأنه كبير قومه أو لأنه انتهى في الكِبر إلى أقصاه؛ فالأوصاف مسوقة للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف عليه السلام بخبر أبيهم‏.‏

والمراد بالكبير‏:‏ إما كبير عشيرته فإساءته تسوءهم جميعاً ومن عادة الولاة استجلاب القبائل، وإما أن يكون كبيراً‏}‏ تأكيداً ل ‏{‏شيخا‏}‏ أي بلغ الغاية في الكبر من السن، ولذلك فرّعوا على ذلك ‏{‏فخذ أحدنا مكانه‏}‏، إذ كان هو أصغر الإخوة، والأصغر أقرب إلى رقة الأب عليه‏.‏

وجملة ‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏ تعليل لإجابة المطلوب لا للطلب‏.‏ والتقدير‏:‏ فلا تردّ سوءالنا لأنّا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أباً شيخاً كبيراً‏.‏

والمكان‏:‏ أصله محل الكون أي ما يستقر فيه الجسم، وهو هنا مجاز في العوض لأن العوض يضعه آخذه في مكان الشيء المعوّض عنه كما في الحديث «هذه مَكانُ حجتك»‏.‏

و ‏{‏معاذ‏}‏ مصدر ميمي اسم للعوْذ، وهو اللجَأ إلى مكان للتحصن‏.‏ وتقدم قريباً عند قوله‏:‏ ‏{‏قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وانتصب هذا المصدر على المفعولية المطلقة نائباً عن فعله المحذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ أعوذ بالله مَعاذاً، فلما حُذف الفعل جعل الاسم المجرور بباء التعدية متصلاً بالمصدر بطريق الإضافة فقيل‏:‏ معاذَ اللّهِ، كما قالوا‏:‏ سبحان الله، عوضاً عن أسبح الله‏.‏ والمستعاذ منه هو المصدر المنسبك من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ الامتناع من ذلك، أي نلجأ إلى الله أن يعصمنا من أخذ من لا حق لنا في أخذه، أي أن يعصمنا من الظلم لأن أخذ من وُجِد المتاع عنده صار حقاً عليه بحكمه على نفسه، لأن التحكيم له قوة الشريعة‏.‏ وأما أخذ غيره فلا يسوغ إذ ليس لأحد أن يسترقّ نفسه بغير حكم، ولذلك علل الامتناع من ذلك بأنه لو فعله لكان ذلك ظلماً‏.‏

ودليل التعليل شيئان‏:‏ وقوع ‏{‏إنّ‏}‏ في صدر الجملة، والإتيانُ بحرف الجزاء وهو ‏{‏إذن‏}‏‏.‏

وضمائر ‏{‏نأخذ‏}‏ و‏{‏وجدنا‏}‏ و‏{‏متاعنا‏}‏ و‏{‏إنا‏}‏ و‏{‏لظالمون‏}‏ مراد بها المتكلم وحده دون مشارك، فيجوز أن يكون من استعمال ضمير الجمع في التعظيم حكاية لعبارته في اللغة التي تكلم بها فإنه كان عظيم المدينة‏.‏ ويجوز أن يكون استعمل ضمير المتكلم المشارك تواضعاً منه تشبيهاً لنفسه بمن له مشارك في الفعل وهو استعمال موجود في الكلام‏.‏

ومنه قوله تعالى حكاية عن الخضر عليه السلام ‏{‏فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردنا أن يبدلهما ربهما‏}‏ الآية من سورة الكهف ‏(‏80‏)‏‏.‏

وإنما لم يكاشفهم يوسف عليه السلام بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم يومئذٍ‏:‏ إمّا لأنه خشي إن هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين فيزعموا أنهم يرجعون جميعاً إلى أبيهم فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق، وإما لأنه قد كان بين القبط وبين الكنعانيين في تلك المدة عداوة فخاف إن هو جلَب عَشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر فتريّث إلى أن يجد فرصة لذلك، وكان الملك قد أحسن إليه فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيءُ ظنه، فترقب وفاة الملك أو السعي في أرضائه بذلك، أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهلِهم لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم، وسنذكره عند قوله‏:‏ ‏{‏قال هل عَلمتم ما فعلتم بيوسف‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 89‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏استيأسوا‏}‏ بمعنى يئسوا فالسين والتاء للتأكيد، ومثلها ‏{‏فاستجاب له ربه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 34‏]‏ واستعصَم‏}‏‏.‏

واليأس منه‏:‏ اليأس من إطلاقه أخاهم، فهو من تعليق الحكم بالذات‏.‏ والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام للمبالغة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏استيأسوا‏}‏ بتحتية بعد الفوقية وهمزة بعد التحتية على أصل التصريف‏.‏ وقرأه البزي عن ابن كثير بخلف عنه بألف بعد الفوقية ثم تحتية على اعتبار القلب في المكان ثم إبدال الهمزة‏.‏

و ‏{‏خلصوا‏}‏ بمعنى اعتزلوا وانفردوا‏.‏ وأصله من الخلوص وهو الصفاء من الأخلاط‏.‏ ومنه قول عبد الرحمان بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في آخر حجة حجّها حيث عزم عمر رضي الله عنه على أن يخطب في الناس فيحذرهم من قوم يريدون المزاحمة في الخلافة بغير حق، قال عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه‏:‏ «يا أمير المؤمنين إن المَوسم يجمع رَعاع الناس فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏

والنجيّ‏:‏ اسم من المناجاة، وانتصابه على الحال‏.‏ ولما كان الوصف بالمصدر يلازم الإفراد والتذكير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذْ هم نجوى‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ انفردوا تناجيا‏.‏ والتناجي‏:‏ المحادثة سراً، أي متناجين‏.‏

وجملة ‏{‏قال كبيرهم‏}‏ بدل من جملة ‏{‏خلصوا نجيا‏}‏ وهو بدل اشتمال، لأن المناجاة تشتمل على أقوال كثيرة منها قَول كبيرهم هذا، وكبيرهم هو أكبرهم سناً وهو رُوبين بِكرُ يعقوب عليه السلام‏.‏

والاستفهام في ‏{‏ألم تعلموا‏}‏ تقريري مستعمل في التذكير بعدم اطمئنان أبيهم بحفظهم لابنه‏.‏

وجملة ‏{‏ومن قبل ما فرطتم‏}‏ جملة معترضة‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ مصدرية، أي تفريطكم في يوسف عليه السلام كان من قبل المَوثق، أي فهو غير مصدقكم فيما تخبرون به من أخذ بنيامين في سرقة الصُّوَاع‏.‏ وفرع عليه كبيرهم أنه يبقى في مصر ليكون بقاؤه علامة عند يعقوب عليه السلام يعرف بها صدقهم في سبب تخلف بنيامين، إذ لا يرضى لنفسه أن يبقى غريباً لولا خوفه من أبيه، ولا يرضى بقية أشقائه أن يكيدوا له كما يكيدون لغير الشقيق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو يحكم الله لي‏}‏ ترديد بين ما رسمه هو لنفسه وبين ما عسى أن يكون الله قد قدره له مما لا قبل له بدفعه، فحذف متعلّق ‏{‏يحكم‏}‏ المجرور بالباء لتنزيل فعل ‏{‏يحكم‏}‏ منزلة ما لا يطلب متعلقاً‏.‏

واللام للأجل، أي يحكم الله بما فيه نفعي‏.‏ والمراد بالحكم التقدير‏.‏

وجملة ‏{‏وهو خير الحاكمين‏}‏ تذييل‏.‏ و‏{‏خير الحاكمين‏}‏ إن كان على التعميم فهو الذي حكمه لا جور فيه أو الذي حكمه لا يستطيع أحد نقضه، وإن كان على إرادة وهو خير الحاكمين لي فالخبر مستعمل في الثناء للتعريض بالسؤال أن يقدر له ما فيه رأفة في رد غربته‏.‏

وعدم التعرّض لقول صدَر من بنيامين يدافع به عن نفسه يدل على أنه لازم السكوت لأنه كان مطلعاً على مراد يوسف عليه السلام من استبقائه عنده، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 69‏]‏‏.‏

ثم لقنّهم كبيرهم ما يقولون لأبيهم‏.‏ ومعنى وما كنا للغيب حافظين‏}‏ احتراس من تحقق كونه سرق، وهو إما لقصد التلطف مع أبيهم في نسبة ابنه إلى السرقة وإما لأنهم علموا من أمانة أخيهم ما خالجهم به الشك في وقوع السرقة منه‏.‏

والغيب‏:‏ الأحوال الغائبة عن المرء‏.‏ والحفظ‏:‏ بمعنى العلم‏.‏

وسؤال القرية مجاز عن سؤال أهلها‏.‏ والمراد بها مدينة مصر‏.‏ والمدينة والقرية مترادفتان‏.‏ وقد خصت المدينة في العرف بالقرية الكبيرة‏.‏

والمراد بالعير التي كانوا فيها رفاقهم في عيرهم القادمين إلى مصر من أرض كنعان، فأما سؤال العير فسهل وأما سؤال القرية فيكون بالإرسال أو المراسلة أو الذهاب بنفسه إن أراد الاستثبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏‏}‏

جعلت جملة ‏{‏قال بل سولت‏}‏ في صورة الجواب عن الكلام الذي لقّنه أخوهم على طريقة الإيجاز‏.‏ والتقدير‏:‏ فرجعوا إلى أبيهم فقالوا ذلك الكلام الذي لَقّنه إيّاهم ‏(‏روبين‏)‏ قال أبوهم‏:‏ ‏{‏بل سولت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

وقوله هنا كقوله لهم حين زعموا أن يوسف عليه السلام أكله الذئب، فهو تهمة لهم بالتغرير بأخيهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ظنّ بهم سوءاً فصدق ظنّه في زعمم في يوسف عليه السلام ولم يتحقق ما ظنّه في أمر بنيامين، أي أخطأ في ظنه بهم في قضية ‏(‏بنيامين‏)‏، ومستنده في هذا الظن علمه أن ابنه لا يسرق، فعلم أن في دعوى السرقة مكيدة‏.‏ فظنه صادق على الجملة لا على التفصيل‏.‏ وأما تهمته أبناءه بأن يكونوا تمالؤوا على أخيهم بنيامين فهو ظن مستند إلى القياس على ما سبق من أمرهم في قضية يوسف عليه السلام فإنه كان قال لهم‏:‏ ‏{‏هل آمنكم عليه إلا كما أمِنتكم على أخيه من قبل‏}‏ سورة يوسف ‏(‏64‏)‏‏.‏ ويجوز على النبي الخطأ في الظنّ في أمور العادات كما جاء في حديث ترك إبّار النخل‏.‏

ولعله اتّهم روبين أن يكون قد اختفى لترويج دعوى إخوته‏.‏ وضمير بهم‏}‏ ليوسف عليه السلام وبنيامين وروبين‏.‏ وهذا كشف منه إذ لم ييأس من حياة يوسف عليه السلام‏.‏

وجملة ‏{‏إنه هو العليم الحكيم‏}‏ تعليل لرجائه من الله بأن الله عليم فلا تخفى عليه مواقعهم المتفرقة‏.‏ حكيم فهو قادر على إيجاد أسباب جمعهم بعد التفرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

انتقال إلى حكاية حال يعقوب عليه السلام في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه، فالتولي حاصل عقب المحاورة‏.‏ و‏{‏تولى‏}‏‏:‏ انصرف، وهو انصراف غَضَب‏.‏

ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أخواله تجدد أسفه على يوسف عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏يا أسفى على يوسف‏}‏ والأسف؛ أشد الحزن، أسِف كحزن‏.‏

ونداء الأسف مجاز‏.‏ نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له‏:‏ احضر فهذا أوان حضورك، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف‏.‏

والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفاً‏.‏

وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف عليه السلام ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكرُه أن يعقوب عليه السلام لم يتحسّر قط إلاّ على يوسف، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها‏.‏

وكذلك عطف جملة ‏{‏وابيضت عيناه من الحزن‏}‏ إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة‏.‏ فكل من التولّي والتحسر واببيضاض العينين من أحواله إلاّ أنها مختلفة الأزمان‏.‏

وابيضاض العينين‏:‏ ضعُف البصر‏.‏ وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال‏.‏ ولذلك عبّر ب ‏{‏وابيضت عيناه‏}‏ دون عميت عيناه‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الحزن‏}‏ سببية‏.‏ والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين‏.‏ وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة‏:‏

قبل ما اليوم بيّضَتْ بعيون الن *** اس فيها تغيض وإباء

وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر‏.‏ فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحَزن والجزع عند المصائب‏.‏ وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى عليه السلام أربعين يوماً، وحَكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع‏.‏ وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية‏.‏

والكظيم‏:‏ مبالغة للكاظم‏.‏ والكَظم‏:‏ الإمساك النفساني، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس، ويبكي في خلوته، أو هو فعيل بمعنى مفعول، أي محزون كقوله‏:‏ ‏{‏وهو مكظوم‏.‏

وجملة قالوا تالله‏}‏ محاورة بنيه إياه عندما سمعوا قوله‏:‏ ‏{‏يا أسفى على يوسف‏}‏ وقد قالها في خلوته فسمعوها‏.‏

والتاء حرف قسم، وهي عوض عن واو القسم‏.‏ قال في «الكشاف» في سورة الأنبياء‏:‏ «التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب»‏.‏ وسلمه في «مغني اللبيب»، وفسره الطيبي بأن المقسم عليه بالتاء يكون نادر الوقوع لأن الشيء المتعجب منه لا يكثر وقوعه ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الجلالة لأن القسم باسم الجلالة أقوى القسم‏.‏

وجواب القسم هو ‏{‏تفتأ تذكر يوسف‏}‏ باعتبار ما بعده من الغاية، لأن المقصود من هذا اليمين الإشفاق عليه بأنه صائر إلى الهلاك بسبب عدم تناسيه مصيبة يوسف عليه السلام وليس المقصود تحقيق أنه لا ينقطع عن تذكر يوسف‏.‏ وجواب القسم هنا فيه حرف النفي مقدر بقرينة عدم قرنه بنون التوكيد لأنه لو كان مثبتاً لوجب قرنه بنون التوكيد فحذف حرف النفي هنا‏.‏

ومعنى ‏{‏تفتأ‏}‏ تفتر‏.‏ يقال‏:‏ فتئ من باب علم، إذا فتر عن الشيء‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تفتر في حال كونك تذكر يوسف‏.‏ ولملازمة النفي لهذا الفعل ولزوم حال يعقب فاعله صار شبيهاً بالأفعال الناقصة‏.‏

و ‏{‏حرضاً‏}‏ مصدر هو شِدة المرض المشفي على الهلاك، وهو وصف بالمصدر، أي حتى تكون حرضاً، أي بالِياً لا شعور لك‏.‏ ومقصودهم الإنكار عليه صداً له عن مداومة ذكر يوسف عليه السلام على لسانه لأن ذكره باللسان يفضي إلى دوام حضوره في ذهنه‏.‏

وفي جعلهم الغاية الحرض أو الهلاك تعريض بأنه يذكر أمراً لا طمع في تداركه، فأجابهم بأن ذكره يوسف عليه السلام موجه إلى الله دْعاءً بأن يردّه عليه‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏يا أسفى على يوسف‏}‏ تعريض بدعاء الله أن يزيل أسفه بردّ يوسف عليه السلام إليه لأنه كان يعلم أن يوسف لم يهلك ولكنه بأرض غربة مجهولة، وعلم ذلك بوحي أو بفراسة صادقة وهي المسماة بالإلهام عند الصوفية‏.‏

فجملة ‏{‏إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله‏}‏ مفيدة قصر شكواه على التعلّق باسم الله، أي يشكو إلى الله لا إلى نفسه ليجدد الحزن، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة وهي عبادة لأن الدعاء عبادة، وصار ابييضاض عينيه الناشئ عن التذكر الناشئ عن الشكوى أثراً جسدياً ناشئاً عن عبادة مثل تفطّر أقدام النبي صلى الله عليه وسلم من قيام الليل‏.‏

والبَثّ‏:‏ الهمّ الشديد، وهو التفكير في الشيء المُسيء‏.‏ والحزن‏:‏ الأسف على فائت‏.‏ فبينَ الهمّ والحزننِ العمومُ والخصوص الوجهي، وقد اجتمعا ليعقوب عليه السلام لأنه كان مهتماً بالتفكير في مصير يوسف عليه السلام وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفاً على فراقه‏.‏

وقد أعقب كلامه بقوله‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ لينبّههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العَالية ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلّموه أو يلوموه، أي أنا أعلم علماً من عند الله علّمنيه لا تعلمونه وهو علم النبوءة‏.‏ وقد تقدم نظير هذه الجملة في قصة نوح عليه السلام من سورة الأعراف فهي من كلام النبوءة الأولى‏.‏ وحكي مثلها عن شعيب عليه السلام في سورة الشعراء‏.‏

وفي هذا تعريض برد تعرضهم بأنه يطمع في المحال بأن ما يحسبونه محالاً سيقع‏.‏

ثم صرح لهم بشيء ممّا يعلمه وكاشفهم بما يحقق كذبهم ادعاء ائتكال الذئب يوسف عليه السلام حين أذنه الله بذلك عند تقدير انتهاء البلوى فقال‏:‏ ‏{‏يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه‏}‏‏.‏

فجملة ‏{‏يا بني اذهبوا‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن في قوله‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ ما يثير في أنفسهم ترقب مكاشفته على كذبهم فإن صاحب الكيد كثير الظنون ‏{‏يحسبون كل صيحة عليهم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والتحسّس بالحاء المهملة‏:‏ شدة التطلّب والتعرّف، وهو أعم من التجسس بالجيم فهو التطلّب مع اختفاء وتستر‏.‏

والرّوْح بفتح الراء‏:‏ النفَس بفتح الفاء استعير لكشف الكرب لأن الكرب والهمّ يطلق عليهما الغَمّ وضيق النفَس وضيق الصدر، كذلك يطلق التنفس والتروح على ضد ذلك، ومنه استعارة قولهم‏:‏ تنفس الصبح إذا زالت ظلمة الليل‏.‏

وفي خطابهم بوصف البُنوّة منه ترقيق لهم وتلطف ليكون أبعث على الامتثال‏.‏

وجملة إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون‏}‏ تعليل للنهي عن اليأس، فموقع ‏{‏إنّ‏}‏ التعليل‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تيأسوا من الظفر بيوسف عليه السلام معتلين بطول مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة‏.‏ فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيّأ لها أسبابها، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يُحيل مثل ذلك فحقّه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره، وأما القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها‏.‏

وقرأ البزي بخُلف عنه ‏{‏ولا تأْيَسُوا‏}‏ و‏{‏إنه لا يَأيس‏}‏ بتقديم الهمزة على الياء الثانية، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فلمّا استيأسوا منه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 80‏]‏‏.‏