فصل: تفسير الآية رقم (43)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

عطف على ما تضمنته جملة ‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 42‏]‏ من التعريض بأن قولهم‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 37‏]‏ ضَرْب من المكر بإظهارهم أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول، مظهرين أنهم في شك من صدقه وهم يبطنون التصميم على التكذيب‏.‏ فذكرت هذه الآيةُ أنهم قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا‏:‏ لست مرسلاً‏}‏‏.‏

وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 38‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم‏.‏

وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع‏.‏

ولما كانت الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم‏.‏

وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود عليه السلام ‏{‏إنّي أشهد الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏]‏‏.‏

والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل كفى‏}‏ في المعنى للتأكيد وأصل التركيب‏:‏ كفى اللّهُ‏.‏ و‏{‏شهيداً‏}‏ حال لازمة أو تمييز، أي كفى الله من جهة الشاهد‏.‏

‏{‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ معطوف على اسم الجلالة‏.‏

والموصول في ‏{‏ومن عنده علم الكتاب‏}‏ يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة‏.‏ والمعنى‏:‏ وكل من عندهم علم الكتاب‏.‏ وإفراد الضمير المضاف إليه ‏{‏عِنْدَ‏}‏ لمراعاة لفظ ‏{‏من‏}‏‏.‏ وتعريف ‏{‏الكتاب‏}‏ تعريف للعهد، وهو التوراة، أي وشهادة علماء الكتاب‏.‏ وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معيّناً، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام كما في حديث بدء الوحي في الصحيح‏.‏ وكان ورقة منفرداً بمعرفة التوراة والإنجيل‏.‏ وقد كان خبر قوله للنبيء صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفاً عند قريش‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الكتاب‏}‏ تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل‏.‏

وقيل‏:‏ أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمهِ المدينة‏.‏ ويبعده أن السورة مكية كما تقدم‏.‏

ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجدانهم البشارة بنبيء خاتم للرسل صلى الله عليه وسلم ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقاً لسنن الشرائع الإلهية ومفسراً للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم المصدق الموعود به‏.‏ ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية ب ‏{‏من عنده علم الكتاب‏}‏ دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 97‏]‏‏.‏

سورة إبراهيم

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏‏.‏

تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس‏.‏

‏{‏كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد‏}‏

الكلام على تركيب ‏{‏الر كتاب أنزلته إليك‏}‏ كالكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألمص كتاب أنزل إليك‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 1 2‏]‏ عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله‏:‏ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز‏.‏

أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبيء صلى الله عليه وسلم

ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد‏}‏ بعد أن كان المقام للإضمار تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏‏.‏

وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة‏.‏ وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه عُلِم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية‏.‏

وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس، وأنه لم يتركهم في ضلالهم، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض‏.‏

والإخراج‏:‏ مستعار للنقل من حال إلى حال‏.‏ شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج‏.‏

و ‏{‏الظلماتُ والنور‏}‏ استعارة للكفر والإيمان، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل‏.‏ وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكاننٍ نيّر‏.‏

وجمع ‏{‏الظلمات‏}‏ وإفراد ‏{‏النور‏}‏ تقدم في أول سورة الأنعام ‏(‏1‏)‏‏.‏

والباء في ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ للسببية، والإذنُ‏:‏ الأمر بفعل يتوقف على رضَى الآمر به، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس، كقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله‏.‏ ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلى صراط العزيز الحميد‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 1‏]‏ بدل من النور‏}‏ بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماماً به، وتأكيد للعامل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏88‏)‏‏.‏

ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل، ظاهرة‏.‏

واختيار وصف العزيز الحميد‏}‏ من بين الصفات العُلى لمزيد مناسبتها للمقام، لأن العزيز الذي لا يُغلب‏.‏ وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم‏.‏

والحميد‏:‏ بمعنى المحمود، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الارض‏}‏‏.‏

قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر برفع اسم الجلالة على أنه خبر عن مبتدإ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ هو ‏(‏أي العزيزُ الحميد‏)‏ اللّهُ الموصوف بالذي له ما في السماوات الأرض‏.‏ وهذا الحذف جارٍ على حذف المسند إليه المسمى عند علماء المعاني تبعاً للسكاكِي بالحَذف لمتابعة الاستعمال، أي استعمال العرب عندما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم مما تقدم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريراً للغرض، كقول إبراهيم الصولي‏:‏

سأشكر عَمْراً إن تراختْ منيتي *** أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلّت

فَتى غيرُ محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

أي هو فتى من صفته كيت وكيت‏.‏

وقرأه الباقون إلاّ رُويْساً عن يعقوب بالجَرّ على البدلية من ‏{‏العزيز الحميد‏}‏، وهي طريقة عربية‏.‏ ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أن المنتقل إليه أجدر بالذكر عقب ما تقدمه، فإن اسم الجلالة أعظم من بقية الصفات لأنه عَلَم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه ولا في معناه الأصلي المنقول منه إلى العلمية إلا أن الرفع أقوى وأفخم‏.‏

وقرأه رُوَيْس عن يعقوب بالرفع إذا وقف على قوله‏:‏ ‏{‏الحميد‏}‏ وابتدئ باسم ‏{‏الله‏}‏، فإذا وصل ‏{‏الحميد‏}‏ باسم ‏{‏الله‏}‏ جر اسم الجلالة على البدلية‏.‏

وإجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف، لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين‏.‏ وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه‏.‏ وفي ذكر هذه الصلة إدماجُ تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض‏.‏

لمّا أفاد قوله‏:‏ ‏{‏إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ تعريضاً بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله‏:‏ ‏{‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏، أي للمشركين به آلهة أخرى‏.‏

وجملة ‏{‏وويل للكافرين‏}‏ إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم، مثل قولهم‏:‏ ويحك، فعطفه من عطف الإنشاء على الخبر‏.‏

‏{‏وويل‏}‏ مصدر لا يعرف له فعل، ومعناه الهلاك وما يقرب منه من سوء الحالة، ولأنه لا يُعرف له فعل كان اسم مصدر وعومل معاملة المصادر، ينصب على المفعولية المطلقة ويرفع لإفادة الثبات، كما تقدم في رفع ‏{‏الحمد لله‏}‏ في سورة الفاتحة‏.‏ ويقال‏:‏ ويل لك وويلك، بالإضافة‏.‏ ويقال‏:‏ يا ويلك، بالنداء‏.‏ وقد يذكر بعد هذا التركيب سببه فيؤتى به مجروراً بحرف ‏{‏مِن‏}‏ الابتدائية كما في قوله هنا ‏{‏من عذاب شديد‏}‏، أي هلاكاً ينجر لهم من العذاب الشديد الذي يلاقونه وهو عذاب النار‏.‏

وتقدم الويل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏‏.‏

والكافرون هم المعهودون وهم الذين لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولا اتبعوا صراط العزيز الحميد، ولا انتفعوا بالكتاب الذي أنزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور‏.‏

ويستحبون‏}‏ بمعنى يحبون، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر‏.‏ وضمن ‏{‏يستحبون‏}‏ معنى يؤثرون، لأن المحبة تعدّت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء، فنشأ من هذا معنى الإيثار، فضُمّنه فعُدّي إلى مفعول آخر بواسطة حرف ‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على الآخرة‏}‏ أي يؤثرونها عليها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً‏}‏ تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏45‏)‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لِم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏99‏)‏، فانظره هنالك‏.‏

والصدّ عن سبيل الله‏:‏ منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه‏.‏ شبه ذلك بمن يمنع المارّ من سلوك الطريق‏.‏ وجعل الطريق طريقَ الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه، أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العَوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك في ضلال بعيد‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 3‏]‏ للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدّهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل، فأولئك‏}‏ في محل مبتدأ و‏{‏في ضلال بعيد‏}‏ خبر عنه‏.‏ ودلّ حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه‏.‏

ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي، وإنما البعيد هم الضالّون، أي ضلالاً بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه‏.‏

ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه‏.‏ ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله‏:‏ ‏{‏ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 18‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏116‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلّطة على متعلّقي الفعل المقصور كان قصراً إضافياً لقلب اعتقاد المخاطبين، فيتعين أن يكون ردّاً على فريق من المشركين قالوا‏:‏ هلا أنزل القرآن بلغة العجم‏.‏ وقد ذكر في «الكشاف» في سورة فصلت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي‏}‏ ‏[‏سورة فصلت‏:‏ 44‏]‏ فقال‏:‏ كانوا لتعنتهم يقولون‏:‏ هلا نزل القرآن بلغة العجم، وهو مروي في تفسير الطبري‏}‏ هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك‏.‏

ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل، فكان من جملة ما موّت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب بالإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تُفسر للّذين لا يعرفون تلك اللّغة‏.‏ وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة، فهؤلاء الّذين يعالجون سرّ الحرف والطلسمات يموّهون بأنها لا تكتب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح‏.‏ وقد زعم السراج البلقيني‏:‏ أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدّين السيوطي واستغربه فقال‏:‏

ومن عجيب ما ترى العينان *** أن سُؤال القبر بالسرياني

أفتى بهذا شيخنا البلقيني *** ولم أره لغيره بعيني

وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري»، فاستقرّ في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة‏.‏ فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله، فالقصر هنا لرد كلامهم، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين‏.‏

فموقع هذه الآية عقب آية ‏{‏كتاب أنزلناه إليك‏}‏ بيّن المناسبة‏.‏

وتقدير النظم‏:‏ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزلناه بلغة قومك لتبيّن لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور‏.‏

وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردّاً لمقالة بعض المشركين يكُن تنزيلاً للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن، ولقولهم‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلّة‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أرسلناك إلاّ لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه، وكان قوله‏:‏ ‏{‏إلا بلسان قومه‏}‏ إدْماجاً في الاستثناء المتسلط عليه القصرُ؛ أو يكون متعلقاً بفعل ‏{‏ليبين‏}‏ مقدماً عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏‏.‏

واللسان‏:‏ اللغة وما به التخاطب‏.‏ أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به، مثل‏:‏ سَال الوادي‏.‏

والباء للملابسة، فلغة قومه ملابسة لِكلامه والكتاببِ المنزل إليه لإرشادهم‏.‏

والقوم‏:‏ الأمة والجماعة، فقوم كلُ أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم، إذ كان الرسُل يبعثون إلى أقوامهم، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم هم العرب، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة‏.‏

وإنما كان المخاطب أولاً هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها، فاختار الله أن يكون رسوله عليه الصلاة والسلام من أمة هي أفصح الأمم لساناً، وأسرعهم أفهاماً، وألمعهم ذكاءً، وأحسنهم استعداداً لقبول الهدى والإرشاد، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عددٌ من الناس مثل الذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم في حياته فقد عم الإسلامُ بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفاً أو أكثر‏.‏ وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون‏.‏

واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب، لأنها أصلح اللغات جمعَ معان، وإيجاز عبارة، وسهولة جري على الألسن، وسرعة حفظ، وجمال وقع في الأسماع، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادئ ذي بدء، وعهد إليها نشره بين الأمم‏.‏

وفي التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏ليبين لهم‏}‏ إيماء إلى هذا المعنى، لأنه لما كان المقصود من التشريع البيان كانت أقرب اللغات إلى التبيين من بين لغات الأمم المرسل إليهم هي اللغة التي هي أجدر بأن يأتي الكتاب بها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 195‏]‏‏.‏ فهذا كله من مطاوي هذه الآية‏.‏

ولكن لما كان المقصود من سياقها الرد على طعنهم في القرآن بأنه نزل بلغة لم ينزل بها كتاب قبله اقتُصر في رد خطئهم على أنه إنما كان كذلك ليبيّن لهم لأن ذلك هو الذي يهمهم‏.‏

وتفريع قوله‏:‏ فيضل الله من يشاء‏}‏ الخ على مجموع جملة ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏، ولذلك جاء فعل ‏{‏يضلّ‏}‏ مرفوعاً غير منصوب إذ ليس عطفاً على فعل ‏{‏ليبين‏}‏ لأن الإضلال لا يكون معلولاً للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل بالتبيين‏.‏ والمعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين‏.‏ وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبيّن لهم‏.‏

والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد‏.‏

وجملة ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ تذييل لأن العزيز قويّ لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خُلق له، والحكيم يضع الأشياء مواضعها، فموضع الإرسال والتبيين أتي على أكمل وجه من الإرشاد‏.‏ ومَوْقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم، فالتبيين من مقتضَى أمر التشريع والإضلالُ من مقتضَى أمر التكوين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظير وهو إرسال موسى عليه السلام إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور‏.‏

وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى عليه السلام بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى عليه السلام لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل، لأن ما جاز على المِثل يجوز على المماثل، على أن منهم من قال‏:‏ ‏{‏ما أنزلَ الله على بشر من شيء‏.‏

والباء في بآياتنا‏}‏ للمصاحبة، أي إرسالاً مصاحباً للآيات الدالة على صدقه في رسالته، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحباً لآية القرآن الدال على أنه من عند الله، فقد تمّ التنظير وانتهض الدليل على المنكرين‏.‏

و ‏{‏أنْ‏}‏ تفسيرية، فسر الإرسال بجملة «أخْرِج قومك» الخ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقاً بموقع ‏{‏أن‏}‏ التفسيرية‏.‏

و ‏{‏الظلمات‏}‏ مستعار للشرك والمعاصي، و‏{‏النور‏}‏ مستعار للإيمان الحق والتقوى، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف عليه السلام سَرَى إليهم الشرك واتّبعوا دين القبط، فكانت رسالة موسى عليه السلام لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد، وكانت آيلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيمان والصلاح‏.‏

والتذكير‏:‏ إزالة نسيان شيء‏.‏ ويستعمل في تعليم مجهول كانَ شأنُه أن يُعلم‏.‏ ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عُدّي بالباء، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله‏.‏

و ‏{‏أيام الله‏}‏ أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره، وتأييده المؤمنين على عدوّهم، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزّة الله تعالى‏.‏ وشاع إطلاق اسم اليوم مضافاً إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه، يقال‏:‏ أيام تميم، أي أيام انتصارهم، ‏{‏فأيّام الله‏}‏ أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصْره أولياءه والمطيعين له‏.‏

فالمراد بِ ‏{‏أيام الله‏}‏ هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى عليه السلام، فإن ذلك كله مما أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهمُوه، وكله يصح أن يكون تفسيراً لمضمون الإرسال، لأن إرسال موسى عليه السلام ممتدّ زمنه، وكلما أوحى الله إليه بتذكيرٍ في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به فهو مشمول لتفسير الإرسال‏.‏

فقول موسى عليه السلام ‏{‏يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 20، 21‏]‏ هو من التذكير المفسّر به إرسال موسى عليه السلام‏.‏ وهو وإن كان واقعاً بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم، وما كانوا يحصلونها لولا نصر الله إياهم، وعنايتِه بهم ليعلموا أنه رُبّ ضعيففٍ غلب قوياً ونجا بضعفه ما لم ينجُ مثلَه القوي في قوته‏.‏

واسم الإشارة في قوله‏:‏ إن في ذلك لآيات‏}‏ عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى‏.‏

والتذكير بأيام الله يشتمل على آيات قدرة الله وعزته وتأييد مَن أطاعه، وكل ذلك آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله‏.‏

وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله‏:‏ ‏{‏في ذلك‏}‏ لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ‏.‏

ولكون الآيات مختلفة، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منة وترغيب، جُعلت متعلقة ب ‏{‏كل صبار شكور‏}‏ إذ الصبر مناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة، والإنعام يبعث النفس على الشكر، فكان ذكر الصفتين توزيعاً لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ باعتبار غرض الجملتين، وهو التنظير بسنن ما جاء به الرسل السابقون من إرشاد الأمم وتذكيرها، كما أنزل القرآن لذلك‏.‏

‏{‏وإذ‏}‏ ظرف للماضي متعلّق بفعل تقديره‏:‏ اذكر، دل عليه السياق الذي هو ذكر شواهد التاريخ بأحوال الرسل عليهم السلام مع أممهم‏.‏ والمعنى‏:‏ واذْكر قول موسى لقومه الخ‏.‏

وهذا مما قاله موسى لقومه بعد أن أنجاهم الله من استعباد القبط وإهانتهم، فهو من تفاصيل ما فسّر به إرسال موسى عليه السلام وهو من التذكير بأيام الله الذي أمر الله موسى عليه السلام أن يذكّره قومه‏.‏

و ‏{‏إذ أنجاكم‏}‏ ظرف للنعمة بمعنى الإنام، أي الإنعام الحاصل في وقت إنجائه إياكم من آل فرعون‏.‏ وقد تقدم تفسير نظيرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أنجيناكم من آل فرعون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏49‏)‏، وكذا في سورة الأعراف يقتلون‏.‏ سوى أن هذه الآية عُطفت فيها جملة ويذبحون‏}‏ على جملة ‏{‏يسومونكم‏}‏ وفي آية البقرة والأعراف جعلت جملة ‏{‏يذبحون‏}‏ وجملة ‏{‏يقتلون‏}‏ بدون عطف على أنها بدل اشتمال من جملة ‏{‏يسومونكم سوء العذاب‏}‏‏.‏ فكان مضمون جملة ‏{‏وبذبحون‏}‏ هنا مقصوداً بالعدّ كأنه صنف آخر غير سوء العذاب اهتماماً بشأنه، فعطفه من عطف الخاص على العامّ‏.‏ وعلى كلا النظمين قد حصل الاهتمام بهذا العذاب المخصوص بالذكر، فالقرآنُ حكى مراد كلام موسى عليه السلام من ذكر العذاب الأعم وذكر الأخص للاهتمام به، وهو حاصل على كلا النظمين‏.‏ وإنما حكاه القرآن في كل موضع بطريقة تفنّناً في إعادة القصة بحصول اختلاف في صورة النظم مع الحفاظ على المعنى المحكي، وهو ذكر سوء العذاب مجملاً، وذكر أفظع أنواعه مبيّناً‏.‏

وأما عطف جملة ‏{‏ويستحيون نساءكم‏}‏ في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء، إذ يُعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فصار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن‏.‏ ولذلك سمي جميع ذلك بلاء‏.‏

وأصل البلاء‏:‏ الاختبار‏.‏ والبلاء هنا المصيبة بالشرّ، سمي باسم الاختبار لأنه اختبار لِمقدار الصبر، فالبلاء مستعمل في شدة المكروه من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على طريقة المجاز المرسل‏.‏ وقد شاع إطلاق هذا بصيغة اسم المصدر بحيث يكاد لا يطلق إلاّ على المكروه‏.‏ وما ورد منه مستعملاً في الخير فإنما ورد بصيغة الفعل كقوله‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونبلو أخباركم‏}‏ ‏[‏سورة محمد‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وتقدم في نظيرها من سورة البقرة‏.‏

وجعل هذا الضر الذي لحقهم وارداً من جانب الله لأن تخلّيه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهم السلام واتّبَاهِهم دين القبط وعبادة آلهتهم‏.‏

واختيار وصف الربّ هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله‏:‏ ‏{‏وإن عدتم عدنا‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وهذه الآية تضمنت ما في فقرة ‏(‏17‏)‏ من الإصحاح‏}‏ ‏(‏12‏)‏‏.‏ وفقرة ‏(‏3‏)‏ من «الإصحاح» ‏(‏13‏)‏ من «سفر الخروج»‏.‏ وما في فقرة ‏(‏13‏)‏ من الإصحاح ‏(‏26‏)‏ من «سفر اللاّويين»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏إذ أنجاكم من آل فرعون‏}‏ فهو من كلام موسى عليه السلام والتقدير‏:‏ واذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذّن ربكم لئن شكرتم الخ، لأن الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمةٌ وفضل من الله، لأن شكر المنعم واجب فلا يستحق جزاءً لولا سعة فضل الله‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏ فجاءت به المقابلة‏.‏

ويجوز أن يعطف ‏{‏وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏ على ‏{‏نعمة الله عليكم‏}‏‏.‏ فيكون التقدير‏:‏ واذكروا إذ تأذن ربكم، على أن ‏{‏إذ‏}‏ منصوبة على المفعولية وليست ظرفاً وذلك من استعمالاتها‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة الأعراف ‏(‏167‏)‏‏:‏ ‏{‏وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

ومعنى تأذن ربكم‏}‏ تكلّم كلاماً عَلَناً، أي كلم موسى عليه السلام بما تضمنه هذا الذي في الآية بمسمع من جماعة بني إسرائيل‏.‏ ولعل هذا الكلام هو الذي في الفقرات ‏(‏9 20‏)‏ من الإصحاح ‏(‏19‏)‏ من «سفر الخروج»، والفقرات ‏(‏1 18، 22‏)‏ من الإصحاح ‏(‏20‏)‏ منه، والفقرات ‏(‏من 20 إلى 30‏)‏ من الإصحاح ‏(‏23‏)‏ منه‏.‏

والتأذن مبالغة في الأذان يقال‏:‏ أذن وتأذّن كما يقال‏:‏ توعّد وأوعد، وتفضّل وأفضل‏.‏ ففي صيغة تفعّل زيادة معنى على صيغة أفْعَلَ‏.‏

وجملة ‏{‏لئن شكرتم‏}‏ موطئة للقسم والقسم مستعلم في التأكيد‏.‏ والشكر مؤذن بالنعمة‏.‏ فالمراد‏:‏ شكر نعمة الإنجاء من آل فرعون وغيرها، ولذلك حذف مفعول ‏{‏شكرتم‏}‏ ومفعول ‏{‏لأزيدنكم‏}‏ ليقدر عاماً في الفعلين‏.‏

والكفر مراد به كفر النعمة وهو مقابلة المنعم بالعصيان‏.‏ وأعظم الكفر جحد الخالق أو عبادة غيره معه وهو الإشراك، كما أن الشكر مقابلة النعمة بإظهار العبودية والطاعة‏.‏

واستغنى ب ‏{‏إن عذابي لشديد‏}‏ عن ‏{‏لأعذبنه عذاباً شديداً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 21‏]‏ لكونه أعم وأوجز، ولكون إفادة الوعيد بضرب من التعريض أوقع في النفس‏.‏ والمعنى‏:‏ إن عذابي لشديد لمن كفر فأنتم إذن منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أعيد فعل القول في عطف بعض كلام موسى عليه السلام على بعض لِئَلا يتوهّم أن هذا مما تأذّن به الرب وإنما هو تنبيه على كلام الله‏.‏ وفي إعادة فِعل القول اهتمام بهذه الجملة وتنويه بها حتى تبرز مستقلة وحتى يصغي إليها السامعون للقرآن‏.‏

ووجه الاهتمام بها أن أكثر الكفار يحسبون أنهم يحسنون إلى الله بإيمانهم، وأن أنبياءهم حين يلحّون عليهم بالإيمان إنما يبتغون بذلك تعزيز جانبهم والحرصَ على مصحلتهم‏.‏ فلمّا وعدهم على الشكر بالزيادة وأوعدهم على الكفر بالعقوبة خشي أن يحسبوا ذلك لانتقام المثيب بما أثاب عليه، ولتضرّره مما عاقب عليه، فنبّههم إلى هذا الخاطر الشيطاني حتى لا يسري إلى نفوسهم فيكسبهم إدْلاَلاً بالإيمان والشكر والإقلاع عن الكفر‏.‏

و ‏{‏أنتم‏}‏ فصل بين المعطوف والمعطوف عليه إذ كان هذا المعطوف عليه ضميراً متّصلاً‏.‏

و ‏{‏جميعاً‏}‏ تأكيد لمن في الأرض للتنصيص على العموم‏.‏ وتقدم نظيره ونصبه غيرَ بعيد‏.‏

والغنيّ‏:‏ الذي لا حاجة له في شيء، فدخل في عموم غناه أنه غني عن الذين يكفرون به‏.‏

والحميد‏:‏ المحمود‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه محمود من غيركم مستغن عن حمدكم؛ على أنهم لو كفروا به لكانوا حامدين بلسان حالهم كرهاً، فإنّ كل نعمة تنالهم فيحمدونها فإنما يحمدون الله تعالى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهذه الآية تضمنت ما في الفقرات ‏(‏30 إلى 33‏)‏ من الإصحاح ‏(‏32‏)‏ من سفر الخروج‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

هذا الكلام استئناف ابتدائيّ رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم‏}‏، لأن الموجّه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله‏:‏ ‏{‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 2‏]‏، وهم معظم المعنيّ من الناس في قوله‏:‏ ‏{‏لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 1‏]‏، فإنهم بعد أن أُجمل لهم الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ الآية، ثم فُصّل بأن ضُرب المثل للإِرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى عليه السلام لإخراج قومه، وقُضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما رَدّ به القرآن على المشركين في مواضع، ثم ختم بالوعيد‏.‏

والاستفام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضاً بها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 45‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 137‏]‏‏.‏

والذين من بعدهم‏}‏ يشمل أهل مدين وأصحابَ الرس وقومَ تُبّع وغيرَهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وجملة لا يعلمهم إلا الله‏}‏ معترضة بين ‏{‏والذين من بعدهم‏}‏ وبين جملة ‏{‏جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ الواقعة حالاً من ‏{‏والذين من بعدهم‏}‏، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم‏.‏

ومعنى ‏{‏جاءتهم رسلهم‏}‏ جاءَ كلّ أمة رسولُها‏.‏

وضمائر ‏{‏ردّوا‏}‏ و‏{‏أيديهم‏}‏ و‏{‏أفواههم‏}‏ عائدٌ جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه‏.‏

وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن‏.‏

ومعنى ‏{‏فردوا أيديهم في أفواههم‏}‏ يحتمل عدة وجوه أنهاهَا في «الكشاف» إلى سبعة وفي بعضها بُعدٌ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى‏:‏ أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم‏.‏ وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل‏.‏

والردّ‏:‏ مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه «الراغب»‏.‏ أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رَدّ‏.‏

وحرف ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية المراد بها التمكين، فهي بمعنى ‏{‏على‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أولئك في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فمعنى ردّوا أيديهم في أفواههم‏}‏ جعلوا أيديهم على أفواههم‏.‏

وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا بردّ أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم، فيقتضي أن يكون ردّ الأيدي في الأفواه تمثيلاً لحال المتعجب المستهزئ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته، لأن وقوعه خبراً عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلاّ بيان عَربي‏.‏

ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة‏:‏ ‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صَدَقنا وعده وأورثنا الأرض‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 74‏]‏، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جرياً على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوّه‏.‏

وأكّدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلّت عليه إنّ‏}‏ وفعل المضيّ في قوله‏:‏ ‏{‏إنا كفرنا‏}‏‏.‏ وسموا ما كفروا به مُرسلاً به تهكماً بالرسل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 6‏]‏، فمعنى ذلك‏:‏ أنهم كفروا بأن ما جاءوا به مرسل به من الله، أي كفروا بأن الله أرسلهم‏.‏ فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه‏.‏

وأما قولهم‏:‏ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه‏}‏ فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه، فمورد الشك مَا يدعونهم إليه، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله‏.‏ فمرادهم‏:‏ أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحقّ فإن الكاذب قد يقول حقّاً‏.‏

وجعلوا الشك قوياً فلذلك عبر عنه بأنهم مَظروفون فيه، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن‏.‏

و ‏{‏مريب‏}‏ تأكيد لمعنى ‏{‏في شك‏}‏، والمريب‏:‏ المُتوقع في الريب، وهو مرادف الشك، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته، كقولهم‏:‏ لَيل ألْيَل، وشِعر شَاعر‏.‏

وحذفت إحدى النونين من قوله‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ تخفيفاً تجنباً للثقل الناشئ من وقوع نونين آخرين بعد في قوله‏:‏ ‏{‏تدعوننا‏}‏ اللازم ذكرهما، بخلاف آية سورة هود ‏(‏62‏)‏ ‏{‏وإننا لفي شك مما تدعونا‏}‏ إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله‏:‏ تدعونا‏}‏ واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ فَاطِرِ السماوات والارض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏‏.‏

استفهام إنكاري‏.‏ ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله، فقدم متعلق الشك للاهتمام به، ولو قال‏:‏ أشك في الله، لم يكن له هذا الوقع، مثل قول القطامي‏:‏

أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعدَ عطائك المائةَ الرتاعا

فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول‏:‏ أبعد رد الموت عني كفرٌ‏.‏

وعلق اسم الجلالة بالشك، والاسم العَلَم يدلّ على الذات‏.‏ والمراد إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية، أي صفة الوحدانية‏.‏

وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدالّ على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدالُّ على أن لهما خالقاً حكيماً لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعللٍ مختار، وذلك معلوم بأدنى تأمل، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته‏.‏

وجملة ‏{‏يدعوكم‏}‏ حال من اسم الجلالة، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخّركم في الحياة إلى أجل معتاد‏.‏

والدعاء‏:‏ حقيقته النداء‏.‏ فأطلق على الأمر والإرشاد مجازاً لأن الآمر ينادي المأمور‏.‏

ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالباً وهو ‏{‏إلى‏}‏، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون ‏{‏ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار‏}‏ ‏[‏سورة غافر‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقد يعدّى بلام التعليل داخلةً على ما جُعل سبباً للدعوة فإن العلة تدل على المعلول، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم‏}‏ ‏[‏سورة نوح‏:‏ 7‏]‏، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم، وهو في هذه الآية كذلك، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم‏.‏

وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلاً للشيء الذي يُدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى، كقول أعرابي من بني أسد‏:‏

دعَوْتُ لِمَا نَابني مِسْورَا *** فلبّى فلبيْ يديْ مسور

قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ‏}‏‏.‏

أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يُعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بأن جعلهم رسلاً عنه، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه، وحسبانهم بذلك التعجيز‏.‏

فجملة ‏{‏تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا‏}‏ في موضع الحال، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة ‏{‏إن أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ من جحد كونهم رسلاً من الله بالدّين الذي جاءوهم به مخالفاً لدينهم القديم، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة ‏{‏فأتونا بسلطان مبين‏}‏ لأن مجرّد كونهم بشراً لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم، وهو مضمون ما أرسلوا به‏.‏

وقد عبّروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلَّد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا‏:‏ تريدون أن تصدّونا عن ديننا‏.‏

والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ وقد تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏71‏)‏‏.‏

المبين الواضح الذي لا احتمال فيه لغير ما دل عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قول الرسل ‏{‏إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ جواب بطريق القول بالموجَب في علم آداب البحث، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ببيان محل الاستدلال غيرُ تام الإنتاج، وفيه إطماع في الموافقة‏.‏ ثم كرّ على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم‏.‏

ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏سورة المنافقون‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر، فليس قول الرسل إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ تقريراً للدليل ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله‏.‏ ومحل البيان هوالاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الله يَمنّ على من يشاء من عباده‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمُنّ على من يشاء من عباده بنِعَم لم يعطها غيرهم‏.‏

فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة‏.‏

وأورد الشيخ محمّد بن عرفة في التفسير‏}‏ وجهاً للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة ‏{‏لهم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏قالت لهم رسلهم‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 10‏]‏ وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها قالت رسلهم‏}‏ بوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذه المقالة خاصة بالمكذّبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم، أي للمصدقين والمكذبين‏.‏

وثانيهما‏:‏ أن وجود الله أمر نظري، فكان كلام الرسل في شأنه خطاباً لعموم قومهم، وأما بعْثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر، فكأنه قال‏:‏ ما قَالوا هذا إلا للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم‏.‏

وأجاب الأبي أن ‏{‏أفي الله شك‏}‏ خطاب لمن عاند في أمر ضروري، فكأنّ المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يُقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو مُعْرض عنه بخلاف قولهم‏:‏ ‏{‏إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ فإنه تقرير لمقالتهم فهم يُقبلون عليهم بالجواب لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اه‏.‏

والحاصل أن زيادة ‏{‏لهم‏}‏ تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللامُ الداخلة بعد فعل القول في نحو‏:‏ أقول لك، لام تعليل، أي أقول قولي لأجلك‏.‏

ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكرَه على إجابة من يتحداه‏.‏

وجملة ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ أمر لمَن آمن من قومهم بالتوكل على الله، وقصدوا به أنفسهم قصداً أوليّاً لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم‏:‏ ‏{‏وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا‏}‏ إلى آخره‏.‏

ولما كان حصول إذن الله تعالى بتأييد الرسل بالحجة المسؤولة غيرَ معلوم الميقات ولا متعيّنَ الوقوع وكانت مدة ترقب ذلك مظنة لتكذيب الذين كفروا رسلَهم تكذيباً قاطعاً وتَوَقَعَ الرسلُ أذاه قومهم إياهم شأن القاطع بكذب من زَعم أنه مرسل من الله، ولأنهم قد بدأوهم بالأذى كما دل عليه قولهم‏:‏ ‏{‏وَلنصبرنّ على ما آذيتمونا‏}‏‏.‏ أظهر الرسل لقومهم أنهم غير غافلين عن ذلك وأنهم يتلقون ما عسى أن يواجهَهُم به المكذّبون من أذى بتوكّلهم على الله هم ومن آمن معهم؛ فابتدأوا بأن أمروا المؤمنين بالتوكل تذكيراً لهم لئلا يتعرّض إيمانهم إلى زعزعة الشك حرصاً على ثبات المؤمنين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه‏:‏ «أفي شك أنت يابنَ الخطّاب»‏.‏ وفي ذلك الأمر إيذان بأنهم لا يعبأون بما يضمره لهم الكافرون من الأذى، كقول السحرة لفرعون حين آمنوا ‏{‏لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وتقديم المجرور في قوله‏:‏ وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ مؤذن بالحصر وأنهم لا يرجون نصراً من غير الله تعالى لضعفهم وقلة ناصرهم‏.‏ وفيه إيماء إلى أنهم واثقون بنصر الله‏.‏

والجملة معطوفة بالواو عطف الإنشاء على الخبر‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فليتوكل المؤمنون‏}‏ رابطة لجملة ‏(‏ليتوكل المؤمنون‏)‏ بما أفادهُ تقديم المجرور من معنى الشرط الذي يدل عليه المقام‏.‏ والتقدير‏:‏ إن عجبتم من قلة اكتراثنا بتكذيبكم أيها الكافرون، وإن خشيتم هؤلاء المُكذّبين أيها المؤمنون فليتوكل المؤمنون على الله فإنهم لن يضيرهم عدوّهم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ كما تقدم في سورة العقود ‏(‏23‏)‏‏.‏

والتوكّل‏:‏ الاعتماد وتفويض التدبير إلى الغير ثقة بأنه أعلم بما يصلح، فالتوكل على الله تحقق أنه أعلم بما ينفع أولياءَه من خير الدنيا والآخرة‏.‏ وقد تقدم الكلام على التوكّل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏59‏)‏‏.‏

وجملة وما لنا ألا نتوكل على الله‏}‏ استدلال على صدق رأيهم في تفويض أمرهم إلى الله، لأنهم رأوا بوارق عنايته بهم إذ هداهم إلى طرائق النجاة والخير، ومبادئ الأمور تدل على غاياتها‏.‏

وأضافوا السبل إلى ضميرهم للاختصار لأن أمور دينهم صارت معروفة لدى الجميع فجمعها قولهم‏:‏ ‏{‏سبلنا‏}‏‏.‏

‏{‏وما لنا ألا نتوكل‏}‏ استفهام إنكاري لانتفاء توكلهم على الله، أتوا به في صورة الإنكار بناءً على ما هو معروف من استحماق الكفار إيّاهم في توكلهم على الله، فجاءوا بإنكار نفي التوكل على الله، ومعنى ‏{‏وما لنا ألا نتوكل‏}‏ ما ثبت لنا من عدم التوكل، فاللام للاستحقاق‏.‏

وزادوا قومهم تأييساً من التأثر بالأذى فأقسموا على أن صبرهم على أذى قومهم سيستمر، فصيغة الاستقبال المستفادة من المضارع المؤكد بنون التوكيد في ‏{‏ولنصبرن‏}‏ دلت على أذى مستقبل‏.‏

ودلّت صيغة المضي المنتزع منها المصدر في قوله‏:‏ ‏{‏ما آذيتمونا‏}‏ على أذى مضى‏.‏ فحصل من ذلك معنى نصبر على أذى متوقع كما صبرنا على أذى مضى‏.‏ وهذا إيجاز بديع‏.‏

وجملة ‏{‏وعلى الله فليتوكل المتوكلون‏}‏ يحتمل أن تكون من بقية كلام الرسل فتكون تذييلاً وتأكيداً لجملة ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ فكانت تذييلاً لما فيها من العموم الزائد في قوله‏:‏ ‏{‏المتوكلون‏}‏ على عموم ‏{‏فليتوكل المؤمنون‏}‏‏.‏ وكانت تأكيداً لأن المؤمنين من جملة المتوكلين‏.‏ والمعنى‏:‏ من كان متوكلاً في أمره على غيره فليتوكل على الله‏.‏

ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، فهي تذييل للقصة وتنويه بشأن المتوكلين على الله، أي لا ينبني التوكل إلا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين‏}‏ ‏{‏وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارض مِن بَعْدِهِمْ‏}‏‏.‏

تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار‏.‏ فالظاهر عندي أن المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ هنا كفار قريش على طريقة التوجيه‏.‏ وأن المراد ب ‏{‏رُسُلِهم‏}‏ الرسولُ محمّد صلى الله عليه وسلم أجريت على وصفه صيغة الجمع على طريق قوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون‏}‏ في سورة غافر ‏(‏70‏)‏‏.‏ فإن المراد المشركون من أهل مكة كما هو مقتضى قوله‏:‏ فسوف يعلمون وقوله‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب‏}‏ ‏[‏سورة الحديد‏:‏ 25‏]‏، فإن المراد بالرسل في الموضعين الأخيرين الرسول محمد عليه الصلاة والسلام لأنه الرسول الذي أنزل معه الحديد، أي القتال بالسيف لأهل الدعوة المكذبين، وقوله‏:‏ ‏{‏فكذبوا رسلي‏}‏ في سورة سبأ ‏(‏45‏)‏ على أحد تفسيرين في المراد بهم وهو أظهرهما‏.‏

وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز‏:‏ إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيماً له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب ارجعون‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية، فعلاقته الإطلاق والتقييد‏.‏ والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية‏.‏

فلا جرم أن يكون المراد بالذين كفروا‏}‏ هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك ‏{‏ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏ فإنه لا يعرف أن رسولاً من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذّبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع «منزلُنا إن شاء الله غداً بالخَيْف خَيْفَ بني كنانة حيثُ تقاسموا على الكفر»‏.‏

وعلى تقدير أن يكون المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يعرفون بها‏.‏ وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهرَ الجمع فيكون هذا التوعد سنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله‏.‏

وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر‏.‏

و ‏(‏أو‏)‏ لأحد الشيئين، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة، أحدهما من فعل المقسمين، والآخر من فعل مَن خوطب بالقسم، وليست هي ‏{‏أو‏}‏ التي بمعنى ‏{‏إلى‏}‏ أو بمعنى ‏{‏إلاّ‏.‏

والعود‏:‏ الرجوع إلى شيء بعد مفارقته‏.‏ ولم يكن أحد من الرسل متبعاً ملّة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم، فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم، وكان الرسُل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم، فلما جاءُوهم بالحق ظنّوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه‏.‏

والظرفية في قوله‏:‏ في ملتنا‏}‏ مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه‏.‏

والملّة‏:‏ الدين‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في آخر سورة الأنعام ‏(‏161‏)‏، وانظر قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في أوائل سورة آل عمران ‏(‏95‏)‏‏.‏

وتفريع جملة فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين‏}‏ على قول الذين كفروا لرسلهم ‏{‏لنخرجنكم من أرضنا‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 13‏]‏ الخ تفريع على ما يَقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم، وهو الوعد بإهلاك الظالمين‏.‏

وجملة لنهلكن الظالمين‏}‏ بيان لجملة ‏(‏أوحى‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

وإسكان الأرض‏:‏ التمكين منها وتخويلها إياهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وأورثكم أرضهم وديارهم‏}‏ ‏[‏سورة الأحزاب‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والخطاب في لنسكننكم‏}‏ للرسل والذين آمنوا بهم، فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون، كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها‏.‏

‏{‏ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من ‏{‏لنهلكن‏}‏، و‏{‏لنسكننكم‏}‏‏.‏ عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور، كقوله‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك يلق آثاماً‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏

واللام للملك، أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي، كقوله تعالى‏:‏ ذلك لمن خشي ربه ‏[‏سورة البينة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ ذلك الوعد لمن خاف مقامي، أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي، فعدل عن ضمير الخطاب إلى من خاف مقامي‏}‏ لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية‏.‏

ومعنى ‏{‏خاف مقامي‏}‏ خافني، فلفظ ‏{‏مقام‏}‏ مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏، لأن المقام أصله مكان القيام، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة، فإذا قيل خاف مقامي‏}‏ كان فيه من المبالغة ما ليس في ‏(‏خافني‏)‏ بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه‏.‏ كما يقال‏:‏ قصّر في جانبي‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على ما فرطت في جنب الله‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم‏:‏

إن السماحة والمروءة والندى *** في قُبة ضُربت على ابن الحشرج

أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة‏.‏ ومنه ما في الحديث إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت‏:‏ هذا مقام العائذ بك من القطيعة، أي هذا العائذ بك القطيعة‏.‏

وخوف الله‏:‏ هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده‏.‏

وعطف جملة وخاف وعيد‏}‏ على ‏{‏خاف مقامي‏}‏ مع إعادة فعل ‏{‏خاف‏}‏ دون اكتفاء بعطف ‏{‏وعيدي‏}‏ على ‏{‏مقامي‏}‏ لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناءً على المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله، ولولا ذلك لكانت جملة ‏{‏خاف مقامي‏}‏ تغني عن هذه الجملة، فإن المشركين لم يعبأوا بوعيد الله وحسبوه عبثاً، قال تعالى‏:‏

‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 47‏]‏، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة ‏(‏8‏)‏ ‏{‏ذلك لمن خشي ربه‏}‏ لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة‏.‏

وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعي الكافرين، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى ‏{‏أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور وعيد‏}‏ بدون ياء وصلاً ووقفاً‏.‏ وقرأه ورش عن نافع بدون ياء في الوقف وبإثباتها في الوصل‏.‏ وقرأه يعقوب بإثبات الياء في حالي الوصل والوقف‏.‏ وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافاً إليها في غير النداء‏.‏ وفيها في النداء لغتان أخريان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏واستفتحوا‏}‏ يجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏فأوحى إليهم ربهم‏}‏، أو معترضة بين جملة ‏{‏ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏ وبين جملة ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم استعجلوا النصر‏.‏ وضمير ‏{‏استفتحوا‏}‏ عائد إلى الرسل، ويكون جملة ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏فأوحى إليهم ربهم‏}‏ الخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم‏:‏ ‏{‏لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا‏}‏‏.‏ ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى ‏{‏كل جبار عنيد‏}‏ للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏استفتحوا‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏وقال الذين كفروا لرسلهم‏}‏ ويكون ضمير ‏{‏استفتحوا‏}‏ عائداً على الذين ‏{‏كفروا‏}‏، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك‏.‏ ولكون في قوله‏:‏ ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال‏:‏ وخابوا، إلى قوله‏:‏ ‏{‏كل جبار عنيد‏}‏ لمثل الوجه الذي ذكر آنفاً‏.‏

والاستفتاح‏:‏ طلب الفتح وهو النصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح‏}‏ ‏[‏سورة الأنفال‏:‏ 19‏]‏‏.‏

والجبار‏:‏ المتعاظم الشديد التكبر‏.‏

والعنيد المعاند للحق‏.‏ وتقدماً في قوله‏:‏ ‏{‏واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏ في سورة هود ‏(‏59‏)‏‏.‏ والمراد بهم المشركون المتعاظمون، فوصف جبار‏}‏ خلُق نفساني، ووصف ‏{‏عنيد‏}‏ من أثر وصف ‏{‏جبار‏}‏ لأن العنيد المكابر المعارض للحجة‏.‏

وبين ‏{‏خاف وعيد‏}‏ و‏{‏خاب كل جبار عنيد‏}‏ جناس مصحف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ صفة ل ‏{‏جبار عنيد‏}‏، أي خاب الجبّار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة‏.‏

والوراء‏:‏ مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 79‏]‏، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لافتك سفينتهم، وقول هدبة بن خشرم‏:‏

عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراءَه فَرج قريب

وأما إطلاق الوراء على معنى من بَعْد‏}‏ فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه‏.‏

والمعنى‏:‏ أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته‏.‏

والصديد‏:‏ المُهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يُسْقى‏.‏ والمعنى‏:‏ ويسقى صديداً عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل ‏{‏صديد‏}‏ عطفَ بيان ل ‏{‏ماء‏}‏‏.‏ وهذا من وجوه التشبيه البليغ‏.‏

وعطف جملة ‏{‏يسقى‏}‏ على جملة ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم‏.‏

والتجرع‏:‏ تكلف الجَرْع، والجرع؛ بلع الماء‏.‏

ومعنى ‏{‏يُسيغه‏}‏ يفعل سوغه في حلقه‏.‏ والسوغ؛ انحدار الشراب في الحلق بدون غصة، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح، يقال ساغ الشراب، وشراب سائغ‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يكاد يسيغه‏}‏ لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن أن يسيغه بالفعل، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏71‏)‏‏.‏

وإتيان الموت‏:‏ حلوله، أي حلول آلامه وسكراته، قال قيس بن الخطيم‏:‏

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وما هو بميت‏}‏، أي فيستريح‏.‏

والكلام على قوله‏:‏ ‏{‏ومن وراءه عذاب غليظ‏}‏ مثل الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه‏.‏

والغليظ‏:‏ حقيقته الخشن الجسم، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏ في سورة هود ‏(‏58‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة‏.‏ وقد أثار هذا التمثيل ما دلّ عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالاً من الصلة والمعروف من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقِرى ضيوف، وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك‏؟‏ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجهَ الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضُرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع حتمالات‏.‏

والمثل‏:‏ الحالة العجيبة، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ‏.‏ فالمعنى‏:‏ حال أعمالهم، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مَثَل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أعمالهم‏}‏ مبتدأ ثاننٍ، و‏{‏كرماد‏}‏ خبر عنه، والجملة خبر عن المبتدإ الأول‏.‏

ولما جعل الخبر عن ‏{‏مثل الذين كفروا‏}‏، ‏{‏أعمالهم‏}‏ آل الكلام إلى أن مَثَل أعمال الذين كفروا كرماد‏.‏

شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقاً لا يُرجى معه اجتماعُه‏.‏ ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة‏.‏

ووصف اليوم بالعاطف مجاز عقلي، أي عاصف ريحُه، كما يقال‏:‏ يوم ماطر، أي سحابه‏.‏

والرماد‏:‏ ما يبقى من احتراق الحطب والفحم‏.‏ والعاصف تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏جاءتها ريح عاصف‏}‏ في سورة يونس ‏(‏22‏)‏‏.‏

ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع، لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعِها بينهم وهو قِرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم‏.‏

وقرأ نافع وأبو جعفر اشتدت به الرياح‏}‏‏.‏ وقرأه البقية ‏{‏اشتدت به الريح‏}‏ بالإفراد، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس‏.‏

وجملة ‏{‏لا يقدرون مما كسبوا على شيء‏}‏ بيان لجملة التشبيه، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ تذييل جامع لخلاصة حالهم، وهي أنها ضلال بعيد‏.‏

والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيتُه، أي بعيد في مسافات الضلال، فهو كقولك‏:‏ أقصى الضلال أو جِدَّ ضَلال، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏116‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن جملة ‏{‏فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين‏}‏ فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال‏:‏ كيف تهلك فئة مثل هؤلاء‏؟‏ فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها، فمبدأ الاستئناف هو قوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد‏}‏‏.‏

وموقع جملة ‏{‏ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق‏}‏ موقع التعليل لجملة الاستئناف، قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجِدال على دليلها‏.‏ وقد بيناه في كتاب «أصول الخطابة»‏.‏

ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في يوم عاصف‏.‏

والخطاب في ‏{‏ألم تر‏}‏ لكل من يصلح للخطاب غير معيّن، وكل مَن يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين‏.‏

والرؤية‏:‏ مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتأمل، لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر، وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم، وأما كون ذلك ملتبساً بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق‏.‏ فلمّا كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 101‏]‏‏.‏

والحق هنا‏:‏ الحكمة، أي ضد العبث، بدليل مقابلته به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏سورة الدخان‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

وقرأه حمزة، والكسائي، وخلَف خلق السموات والأرض‏}‏ بصيغة اسم الفاعل مضاف إلى ‏{‏السموات‏}‏ وبخفض ‏{‏والأرض‏}‏‏.‏

والخطاب في ‏{‏يذهبكم‏}‏ لجماعة من جملتهم المخاطب ب ‏{‏ألم تر‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ التعريض بالمشركين خاصة، تأكيداً لوعيدهم الذي اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏، أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناساً آخرين‏.‏

وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجاً للتعليم بالوعيد وإظهاراً لعظيم القدرة‏.‏ وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم من الأرض‏.‏

وجملة ‏{‏وما ذلك على الله بعزيز‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ مؤكد لمضمونها، وإنما سلك بهذا التأكيد ملك العطف لما فيه من المغايرة للمؤكد في الجملة بأنه يفيد أن هذا المَشيء سهل عليه هين، كقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ لخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏سورة الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والعزيز على أحدٍ‏:‏ المتعاصي عليه الممتنع بقوته وأنصاره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 20‏]‏ باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب، وفي الكلام محذوف، إذ التقدير‏:‏ فأذْهَبهم وبرزوا لله جميعاً، أي يوم القيامة‏.‏

وكان مقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ ويبرزون لله، فعدل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والبروز‏:‏ الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية‏.‏ والمعنى‏:‏ حشروا من القبور‏.‏

وجميعاً‏}‏ تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيففٍ‏.‏

وقد جيء في هذه الآية بوصف حَال الفرق يوم القيامة، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم، ومجادلة الجميع للشيطان، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك بنُزل الكرامة‏.‏ والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات‏.‏ فالمقصود‏:‏ التحذير مما يفضي إلى سوء المصير‏.‏

واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل ‏{‏برزوا‏}‏ إلى المجرور‏.‏ يقال‏:‏ برز لفلان، إذا ظهر له، أي حضر بين يديه، كما يقال‏:‏ ظهر له‏.‏

والضعفاء‏:‏ عوامّ الناس والأتباع‏.‏ والذين استكبروا‏:‏ السادة، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة‏.‏ والسين والتاء للمبالغة في الكبر‏.‏ والتَبع‏:‏ اسم جمع التابع مثل الخَدَم والخَوَل، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم‏.‏

وموجب تقديم المسند إليه على المسند في ‏{‏فهل أنتم مغنون عنا‏}‏ أن المستفهم عنه كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغَناء عنهم، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم‏.‏ كما تدلّ عليه حكاية قول المستكبرين ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص‏}‏، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا، فتعيّن أن الاستفهام مستعمل في التورّك والتوبيخ والتبكيت، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا‏.‏ فإيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي، وبينه ما في نظيره من سورة غافر ‏(‏47، 48‏)‏ ‏{‏وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد‏.‏‏}‏ ومِنْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من عذاب الله‏}‏ بدلية، أي غناء بدلاً عن عذاب الله‏.‏‏.‏

و ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل‏.‏ و‏{‏شيء‏}‏ في معنى المصدر، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جرّه بحرف الجر الزائد‏.‏ والمعنى‏:‏ هل تغنون عنا شيئاً‏.‏

وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورّطوا أنفسهم أيضاً، أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا‏.‏ وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بأنا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدأوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علماً بأن الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب‏.‏

وجملة ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا‏}‏ من كلام الذين استكبروا‏.‏ وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلباً للخلاص من العذاب، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون‏:‏ لا يفيدنا جزع ولا صبر، فلا نجاة من العذاب‏.‏ فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين، جمعوا أنفسهم إتماماً للاعتذار عن توريطهم‏.‏

والجزع‏:‏ حزن مشوب باضطراب، والصبر تقدم‏.‏

وجملة ‏{‏ما لنا من محيص‏}‏ واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجَزع والصبر‏.‏

والمحيص‏:‏ مصدر ميمي كالمغيب والمشيب وهو النجاة‏.‏ يقال‏:‏ حاص عنه، أي نجا منه‏.‏ ويجوز أن يكون اسمَ مكان من حاص أيضاً، أي ما لنا ملجأ ومكان نَنْجو فيه‏.‏