فصل: تفسير الآية رقم (91)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله‏:‏ ‏{‏يعظكم لعلكم تذكرون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 90‏]‏‏.‏ فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء‏.‏ لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه‏:‏ أن لا يعصوه في معروف‏.‏ وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة‏.‏

وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة، ومثل بيعة الحديبية‏.‏

والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه، فهم قد عاهدوا الله كما قال‏:‏ ‏{‏إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله‏}‏ ‏[‏سورة الفتح‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏من المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه‏}‏ ‏[‏سورة الأحزاب‏:‏ 23‏]‏‏.‏ والمقصود‏:‏ تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ لمجرّد الظرفية، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد‏.‏ والقرينة على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 91‏]‏ والعهد‏:‏ الحلف‏.‏ وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏‏.‏ وكذلك النقض تقدم في تلك الآية، ونقض الأيمان‏:‏ إبطال ما كانت لأجله‏.‏ فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان‏}‏ تهويلاً وتغليظاً للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين‏.‏

و ‏{‏بعد توكيدها‏}‏ زيادة في التحذير، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة، وليست فيها بعدية‏.‏

و ‏{‏بعد‏}‏ هنا بمعنى ‏(‏مع‏)‏، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها، كقول الشميذر الحارثي‏:‏

بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا

أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان‏}‏ ‏[‏سورة الحجرات‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏.‏

والتّوكيد‏:‏ التوثيق وتكرير الفتل، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض‏.‏ وإضافته إلى ضمير الأيمان‏}‏ ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها‏.‏ والمعنى‏:‏ بعد ما فيها من التوكيد، وبيّنه قوله‏:‏ ‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها‏.‏ وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه، وهو ما سمّوه يمين اللّغو، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني‏.‏

ويؤيّد ما فسرناه قوله‏:‏ ‏{‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً‏}‏ الواقع موقع الحال من ضمير ‏{‏لا تنقضوا‏}‏، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلاً على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم‏:‏ فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد‏.‏ ولذلك سُمّيَ الحلف شهادة في مواضع كثيرة، كقوله‏:‏ ‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين‏}‏ ‏[‏سورة النور‏:‏ 6‏]‏‏.‏ والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها‏.‏

والكفيل‏:‏ الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه‏.‏

والمعنى‏:‏ أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به‏.‏ وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ، قال الحارث بن حلّزة‏:‏

واذكروا حلف ذي المجاز وما قُ *** دّم فيه العهود والكفلاء

و ‏{‏عليكم‏}‏ متعلّق ب ‏{‏جعلتم‏}‏ لا ب ‏{‏كفيلاً‏}‏ أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم‏:‏ أنت الخصم والحكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 118‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله يعلم ما تفعلون‏}‏ معترضة‏.‏ وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسّك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطّلع على ما يفعلونه، فالتوكيد ب ‏{‏إن‏}‏ للاهتمام بالخبر‏.‏

وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال‏:‏ إن الله عليم، ولا‏:‏ قد يعلم الله‏.‏

واختير الفعل المضارع في ‏{‏يعلم‏}‏ وفي ‏{‏تفعلون‏}‏ لدلالته على التجدّد، أي كلما فعلوا فعلاً فالله يعلمه‏.‏

والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد الله‏}‏ إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان‏.‏ وعدم الارتداد إلى الكفر، وسدّ مداخل فتنة المشركين إلى نفوس المسلمين، إذ يصدّونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصدّ، كقولهم‏:‏ ‏{‏نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 35‏]‏، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام ‏(‏53‏)‏‏.‏

ولم يذكر المفسّرون سبباً لنزول هذه الآية، وليست بحاجة إلى سبب‏.‏ وذكروا في الآية الآتية وهي قوله‏:‏ ‏{‏من كفر بالله من بعد إيمانه‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 106‏]‏ أن آية ‏{‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏}‏ إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي، فجعلوا بين الآيتين اتصالاً‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ كأن قوماً ممن أسلم بمكة زَيّنَ لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم، ولِمَا كانوا يَعِدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبّتهم الله ا ه‏.‏ يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنما يبلوكم الله به‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 92‏]‏ تنبئ عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبّأهم الله بها وحذّرهم منها فسلموا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

تشنيع لحال الذين ينقضون العهد‏.‏

وعطف على جملة ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 91‏]‏‏.‏ واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين لما في هذه الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع كالتوكيد لجملة ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان‏}‏‏.‏ نُهوا عن أن يكونوا مَضْرِب مثل معروف في العرب بالاستهزاء، وهو المرأة التي تَنقض غزلها بعد شَدّ فتله‏.‏ فالتي نقضت غزلها امرأةٌ اسمها رَيطة بنت سعد التيمية من بني تيم من قريش‏.‏ وعُبّر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصّلة ولأن مضمون الصّلة، هو الحالة المشبّه بها في هذا التمثيل، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون‏.‏

وقد ذُكر من قصّتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلّة العقل، ولها جوارٍ، وقد اتّخذت مِغْزلاً قدر ذراع وصِنّارَة مثل أصبع وَفَلْكَةً عظيمة على قدر ذلك، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يوم، فكان حالها إفساد ما كان نافعاً محكماً من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية‏.‏ ووجه الشّبه الرجوع إلى فساد بعد التلبّس بصلاح‏.‏

والغزل‏:‏ هنا مصدر بمعنى المفعول، أي المغزول، لأنه الذي يقبل النقض‏.‏ والغَزل‏:‏ فتل نتف من الصوف أو الشعر لتُجعل خيوطاً محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغَزل بحيث تلتفّ النتف المفتولة باليد فتصير خيطاً غليظاً طويلاً بقدر الحاجة ليكون سَدًى أو لُحْمَة للنسج‏.‏

والقوة‏:‏ إحكام الغزل، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذرٌ لنقضه‏.‏

والأنكاث بفتح الهمزة‏:‏ جمع نِكْث بكسر النّون وسكون الكاف أي منكوث، أي منقوض، ونظيره نِقض وأنقاض‏.‏ والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلاً واحداً جعلتْه منقوضاً، أي خيوطاً عديدة‏.‏ وذلك بأن صيّرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطاً ذات عدد‏.‏

وانتصب ‏{‏أنكاثاً‏}‏ على الحال من ‏{‏غزلها‏}‏، أي نقضته فإذا هو أنكاث‏.‏

وجملة ‏{‏تتخذون أيمانكم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 91‏]‏‏.‏

والدخَل بفتحتين‏:‏ الفساد، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها‏.‏‏.‏ والدّخل أيضاً‏:‏ الشيء الفاسد‏.‏ ومن كلام العرب‏:‏ تَرى الفتيان كالنخْل وما يدريك ما الدَخْل ‏(‏سكن الخاء لغةً أو للضرورة إن كان نظماً، أو للسجع إن كان نثراً‏)‏، أي ما يدريك ما فيهم من فساد‏.‏ والمعنى‏:‏ تجعلون أيمانكم الحقيقة بأن تكون معظّمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة، فيكون وصف الأيمان بالدّخل حقيقة عقلية؛ أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغَدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدّخل مجازاً عقلياً‏.‏

ووجه الفساد أنها تقتضي اطمئنان المتحالفين فإذا نقضها أحد الجانبين فقد تسبّب في الخصام والحقد‏.‏ وهذا تحذير لهم وتخويف من سوء عاقبة نقض اليمين، وليس بمقتضضٍ أن نقضاً حدَث فيهم‏.‏

و ‏{‏أن تكون أمة‏}‏ معمول للام جرّ محذوفة كما هو غالب حالها مع ‏{‏أنْ‏}‏‏.‏ والمعنى التعليل، وهو علّة لنقض الأيمان المنهيّ عنه، أي تنقضون الأيمان بسبب أن تكون أمّة أربى من أمّة، أي أقوى وأكثر‏.‏

والأمّة‏:‏ الطائفة والقبيلة‏.‏ والمقصود طائفة المشركين وأحْلافهم‏.‏

و ‏{‏أربى‏}‏‏:‏ أزيد، وهو اسم تفضيل من الرُبُوّ بوزن العُلُوّ، أي الزيادة، يحتمل الحقيقة أعني كثرة العدد، والمجاز أعني رفاهية الحال وحسن العيش‏.‏ وكلمة ‏{‏أربى‏}‏ تعطي هذه المعاني كلها فلا تَعدلها كلمة أخرى تصلحُ لجميع هذه المعاني، فوقعها هنا من مقتضى الإعجاز‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يبعثكم على نقض الأيمان كونُ أمّة أحسن من أمّة‏.‏

ومعلوم أن الأمّة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمّة المفضولة هي المنفصَل عنها، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عدداً وأموالاً من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفصال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفّار‏.‏

وجملة ‏{‏إنما يبلوكم الله به‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً للتعليل بما يقتضي الحكمة، وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 165‏]‏‏.‏

والقصر المستفاد من قوله تعالى‏:‏ إنما يبلوكم الله به‏}‏ قصر موصوف على صفة‏.‏ والتقدير‏:‏ ما ذلك الرُبُوّ إلا بلوى لكم‏.‏

والبَلْو‏:‏ الاختبار‏.‏ ومعنى إسناده إلى الله الكناية عن إظهار حال المسلمين‏.‏ وله نظائر في القرآن‏.‏ وضمير ‏{‏به‏}‏ يعود إلى المصدر المنسبك من قوله‏:‏ ‏{‏أن تكون أمة هي أربى من أمة‏}‏‏.‏

ثم عطف عليه تأكيدُ أنه سيبيّن لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشّاة بزخارف الشّهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها، فيومئذٍ تعلمون أنّ الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شرّ محض‏.‏

وأكّد هذا الوعد بمؤكّدين‏:‏ القسم الذي دلّت عليه اللام ونون التوكيد‏.‏ ثم يظهر ذلك أيضاً في ترتّب آثاره إذ يكون النعيم إثر الإيمان ويكون العذاب إثر الشرك، وكل ذلك بيان لما كانوا مختلفين فيه في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

لما أحال البيان إلى يوم القيامة زادهم إعلاماً بحكمة هذا التأخير فأعلمهم أنه قادر على أن يبيّن لهم الحقّ من هذه الدار فيجعلهم أمّة واحدة‏.‏ ولكنه أضلّ من شاء، أي خلق فيه داعية الضلال، وهدى من شاء، أي خلق فيه داعية الهُدى‏.‏ وأحال الأمر هنا على المشيئة إجمالاً، لتعذّر نشر مطاوي الحكمة من ذلك‏.‏

ومرجعها إلى مشيئة الله تعالى أن يخلق الناس على هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف أحوال التفكير ومراتب المدارك والعقول، وذلك يتولّد من تطوّرات عظيمة تعرض للإنسان في تناسله وحضارته وغير ذلك مما أجمله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون‏}‏ ‏[‏سورة الانشقاق‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وهذه المشيئة لا يطّلع على كنهها إلا الله تعالى وتظهر آثارها في فرقة المهتدين وفرقة الضالين‏.‏

ولما كان قوله‏:‏ ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ قد يغترّ به قصّار الأنظار فيحسبون أن الضالين والمهتدين سواء عند الله وأن الضالين معذورون في ضلالهم إذ كان من أثر مشيئة الله فعقّب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولتسألن عما كنتم تعملون‏}‏ مؤكّداً بتأكيدين كما تقدم نظيره آنفاً، أي عما تعملون من عللِ ضلالٍ أو عمل هدى‏.‏

والسؤال‏:‏ كنية عن المحاسبة، لأنه سؤال حكيم تترتّب عليه الإنارة وليس سؤال استطلاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏‏}‏

لما حذّرهم من النّقض الذي يؤول إلى اتخاذ أيمانهم دخلاً فيهم، وأشار بالإجمال إلى ما في ذلك من الفساد فيهم، أعاد الكرّة إلى بيان عاقبة ذلك الصنيع إعادة تفيد التصريح بالنهي عن ذلك، وتأكيد التحذير، وتفصيل الفساد في الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة، فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا‏}‏ تصريحاً بالنهي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم‏}‏ تأكيداً لقوله قبله‏:‏ ‏{‏تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 92‏]‏، وكان تفريع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتزل قدم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ تفصيلاً لما أجمل في معنى الدَخَل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم عذاب عظيم‏}‏ المعطوف على التفريع وعيد بعقاب الآخرة‏.‏ وبهذا التّصدير وهذا التّفريع الناشئ عن جملة ‏{‏ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم‏}‏ فارقت هذه نظيرتَها السابقة بالتفصيل والزيادة فحقّ أن تعطف عليها لهذه المغايرة وإن كان شأن الجملة المؤكدة أن لا تعطف‏.‏

والزّلل‏:‏ تزلّق الرّجل وتنقّلها من موضعها دون إرادة صاحبها بسبب ملاسة الأرض من طين رطب أو تخلخل حصى أو حجر من تحت القدم فيسقط الماشي على الأرض‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأزّلهما الشيطان عنها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏36‏)‏‏.‏

وزلل القدم تمثيل لاختلال الحال والتعرّض للضرّ، لأنه يترتّب عليه السقوط أو الكسر، كما أن ثبوت القدم تمكّن الرّجل من الأرض، وهو تمثيل لاستقامة الحال ودوام السير‏.‏

ولما كان المقصود تمثيل ما يجرّه نقض الأيْمان من الدخل شبّهت حالهم بحال الماشي في طريق بينما كانت قدمه ثابتة إذا هي قد زلّت به فصرع‏.‏ فالمشبه بها حال رجل واحد، ولذلك نكرت قدم‏}‏ وأفردت، إذ ليس المقصود قدماً معيّنة ولا عدداً من الأقدام، فإنك تقول لجماعة يترددون في أمر‏:‏ أراكم تقدّمون رجلاً وتؤخّرون أخرى‏.‏ تمثيلاً لحالهم بحال الشخص المتردّد في المشي إلى الشيء‏.‏

وزيادة ‏{‏بعد ثبوتها‏}‏ مع أن الزّلل لا يتصوّر إلا بعد الثبوت لتصوير اختلاف الحالين، وأنه انحطاط من حال سعادة إلى حال شقاء ومن حال سلامة إلى حال محنة‏.‏

والثبوت‏:‏ مصدر ثبت كالثّبات، وهو الرسوخ وعدم التنقّل، وخصّ المتأخرون من الكتاب الثبوت الذي بالواو بالمعنى المجازي وهو التحقّق مثل ثبوت عدالة الشاهد لدى القاضي، وخصّوا الثبات الذي بالألف بالمعنى الحقيقي وهي تفرقة حسنة‏.‏

والذّوق‏:‏ مستعار للإحساس القويّ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ وتقدم في سورة العقود ‏(‏95‏)‏‏.‏

والسّوء‏:‏ ما يؤلم‏.‏ والمراد به‏:‏ ذوق السوء في الدنيا من معاملتهم معاملة الناكثين عن الدين أو الخائنين عهودهم‏.‏

و ‏{‏صددتم‏}‏ هنا قاصر، أي بكونكم معرضين عن سبيل الله‏.‏ وتقدّم آنفاً‏.‏ ذلك أن الآيات جاءت في الحفاظ على العهد الذي يعاهدون الله عليه، أي على التمسّك بالإسلام‏.‏

فسبيل الله‏:‏ هو دين الإسلام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم عذاب عظيم‏}‏ هو عذاب الآخرة على الرجوع إلى الكفر أو على معصية غدْر العهد‏.‏

وقد عصم الله المسلمين من الارتداد مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة‏.‏ وما ارتدّ أحد إلا بعد الهجرة حين ظهر النفاق، فكانت فلتة عبد الله بن سعد بن أبي سرح واحدة في المهاجرين وقد تاب وقبل توبته النبي صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

الثمن القليل هو ما يعدهم به المشركون إن رجعوا عن الإسلام من مال وهناء عيش‏.‏

وهذا نهي عن نقض عهد الإسلام لأجل ما فاتهم بدخولهم في الإسلام من منافع عند قوم الشّرك، وبهذا الاعتبار عطفت هذه الجملة على جملة ‏{‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 91‏]‏ وعلى جملة ‏{‏وَلاَ تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 94‏]‏ لأن كل جملة منها تلتفت إلى غرض خاص مما قد يبعث على النّقض‏.‏

والثّمن‏:‏ العوض الذي يأخذه المعاوض‏.‏ وتقدّم الكلام على نظير هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيّاي فاتّقون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏41‏)‏‏.‏ وذكرنا هناك أن ‏{‏قليلاً‏}‏ صفة كاشفة وليست مقيدة، أي أن كل عوض يؤخذ عن نقض عهد الله هو عوض قليل ولو كان أعظم المكتسبات‏.‏

وجملة ‏{‏إنما عند الله هو خير لكم‏}‏ تعليل للنّهي باعتبار وصف عوض الاشتراء المنهي عنه بالقلّة، فإن ما عند الله هو خير من كل ثمن وإن عظم قدره‏.‏

و«ما عند الله» هو ما ادّخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة، كما سننبّه عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 97‏]‏ الآية؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون، وخير الآخرة أعظم من الكلّ، فالعندية هنا بمعنى الادِّخار لهم، كما تقول‏:‏ لك عندي كذا، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 59‏]‏ وقوله ‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنه‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 21‏]‏ وقوله‏:‏ وما عند الله باق‏}‏‏.‏

و ‏{‏إنما‏}‏ هذه مركّبة من ‏(‏إن‏)‏ و‏(‏مَا‏)‏ الموصولة، فحقّها أن تكتب مفصولة ‏(‏ما‏)‏ عن ‏(‏إنّ‏)‏ لأنها ليست ‏(‏ما‏)‏ الكافّة، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتباراً لحالة النّطق ولم يكن وصل أمثالها مطّرداً في جميع المواضع من المصحف‏.‏

ومعنى ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغرّكم العاجل‏.‏ وفيه حثّ لهم على التأمّل والعلم‏.‏

وجملة ‏{‏ما عندكم ينفد وما عند الله باق‏}‏ تذييل وتعليل لمضمون جملة ‏{‏إنما عند الله هو خير لكم‏}‏ بأن ما عند الله لهم خير متجدّد لا نفاد له، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافد لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية‏.‏

والنفاد‏:‏ الانقراض‏.‏ والبقاء‏:‏ عدم الفناء‏.‏

أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفَد رزقهم ولو كَثُر‏.‏

وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعمّ، ولذلك كان ضمير ‏{‏عندكم‏}‏ عائداً إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل، وبقرينة المقابلة بما عند لله، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد، لأن المنهيّين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء‏.‏

ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حَمْلٌ لهم على حرماننِ أنفسهم من ذلك النّفع العاجل وُعِدو الجزاء على صبرهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليجزينّ الذين صبروا أجرهم‏.‏

قرأه الجمهور وليجزين‏}‏ بياء الغيبة‏.‏ والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعهد الله‏}‏ وما بعده، فهو النّاهي والواعد فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه‏.‏

وقرأه ابن كثير وعاصم وابن ذكوان عن ابن عمر في إحدى روايتين عنه وأبو جعفرَ بنون العظمة فهو التفات‏.‏

و ‏{‏أجرهم‏}‏ منصوب على المفعولية الثانية ل«يَجزين» بتضمينه معنى الإعطاء المتعدّي إلى مفعولين‏.‏

والباء للسببية‏.‏ و«أحسن» صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن‏.‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 33‏]‏، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرّع ألم الفتنة من المشركين‏.‏ وقد أكد الوعد بلام القسم ونون التوكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى؛ ‏{‏وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 96‏]‏ خاصاً بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً عُقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها، والبيان لما تضمّنته من مجمل الأجر‏.‏ وكلا الاعتبارين يوجب فصلها عمّا قبلها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ تبيين للعموم الذي دلّت عليه ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة‏.‏ وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصّصه الدين بأحد الصّنفين‏.‏ وأكّد هذا الوعدُ كما أكّد المبيّن به‏.‏

وذُكر «لنحيينّه» ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حياة طيبة‏}‏‏.‏ وذلك المصدر هو المقصود، أي لنجعلنّ له حياة طيّبة‏.‏ وابتدئ الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفاً له كأنه قيل‏:‏ فله حياة طيبة مِنّا‏.‏ ولما كانت حياة الذّات لها مدّة معيّنة كثُر إطلاق الحياة على مدّتها، فوصفها بالطيّب بهذا الاعتبار، أي طيب ما يحصل فيها، فهذا الوصف مجاز عقلي، أي طيّباً ما فيها‏.‏ ويقارنها من الأحول العارضة للمرء في مدّة حياته، فمن مات من المسلمين الذين عملوا صالحاً عوّضه الله عن عمله ما فاته من وعده‏.‏

ويفسّر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال‏:‏ «هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنّا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مُصعَب بنُ عمير قتل يوم أُحد فلم يترك إلا نَمِرة كنّا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غُطي بها رجلاه خرج رأسه، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدُبُها»‏.‏

والطيِّب‏:‏ ما يطيب ويحسن‏.‏ وضد الطيّب‏:‏ الخبيث والسيّئ‏.‏ وهذا وعد بخيرات الدنيَا‏.‏ وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحّة والعافية وعزّة الإسلام في نفوسهم‏.‏ وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس، ويعطي الله فيه عبادهُ المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم‏.‏ ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا‏.‏

وقد عُقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏، فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدّم آنفاً فإنه عامّ في الجَزاءين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 100‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

موقع فاء التّفريع هنا خفيّ ودقيق، ولذلك تصدّى بعض حذّاق المفسّرين إلى البحث عنه‏.‏ فقال في «الكشاف»‏:‏ «لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه وصل به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله‏}‏ إيذاناً بأن الاستعاذة من جملة الأعمال التي يجزل عليها الثواب» اه‏.‏

وهو إبداء مناسبة ضعيفة لا تقتضي تمكّن ارتباط أجزاء النظم‏.‏

وقال فخر الدين‏:‏ «لما قال‏:‏ ‏{‏ولنجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 97‏]‏ أرشد إلى العلم الذي تَخلُص به الأعمال من الوسواس اه‏.‏

وهو أمكن من كلام الكشاف‏.‏ وزاد أبو السعود‏:‏ «لما كان مدار الجزاء هو حسن العمل رتّب عليه الإرشاد إلى ما به يحسن العَمل الصالح بأن يخلُص من شوب الفساد»‏.‏ وفي كلاميهما من الوهن أنه لا وجه لتخصيص الاستعاذة بإرادة قراءة القرآن‏.‏

وقول ابن عطية‏:‏ «الفاء في ‏{‏فإذا‏}‏ واصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا»، فتكون الفاء على هذا لمجرّد وصل كلام بكلام واستشهد له بالاستعمال والعهدة عليه‏.‏

وقال شرف الدين الطيبي‏:‏ «قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت القرآن‏}‏ متّصل بالفاء بما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وذلك لأنه تعالى لما منّ على النبي بإنزال كتاب جامع لصفات الكمال وأنه تبيان لكل شيء، ونبّه على أنه تبيان لكل شيء بالكلمة الجامعة وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏ وعطف عليه ‏{‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 91‏]‏، وأكّده ذلك التأكيد، قال بعد ذلك ‏{‏فإذا قرأت القرآن‏}‏، أي إذا شرعت في قراءة هذا الكتاب الشريف الجامع الذي نُبهتَ على بعض ما اشتمل عليه، ونازعك فيه الشيطان بهمزه ونفثه فاستعذ بالله منه والمقصود إرشاد الأمّة» ا ه‏.‏

وهذا أحسن الوجوه وقد انقدح في فكري قبل مطالعة كلامه ثم وجدته في كلامه فحمدت الله وترحّمته عليه‏.‏ وعليه فما بين جملة ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبياناً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏ الخ، وجملة ‏{‏فإذا قرأت القرآن‏}‏ جملة معترضة‏.‏ والمقصود بالتفريع الشروع في التنويه بالقرآن‏.‏

وإظهار اسم ‏{‏القرآن‏}‏ دون أن يضمر للكتاب لأجل بعد المعاد‏.‏

والأظهر أن ‏{‏قرأت‏}‏ مستعمل في إرادة الفعل، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأوفوا الكيل إذا كلتم‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا‏}‏ ‏[‏سورة المجادلة‏:‏ 3‏]‏، أي يريدون العَود إلى أزواجهم بقرينة قوله بعده ‏{‏من قبل أن يتماسا‏}‏ في سورة المجادلة ‏(‏3‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريّة ضعافا‏}‏ في سورة النساء ‏(‏9‏)‏، أي أوشكوا أن يتركوا بعد موتهم، وقوله ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ ‏[‏سورة الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، أي إذا أردتم أن تسألوهن، وفي الحديث إذا بايعت فقل‏:‏ لا خلابة‏.‏

وحَملهُ قليل من العلماء على الظاهر من وقوع الفعل فجعلوا إيقاع الاستعاذة بعد القراءة‏.‏ ونُسب إلى مالك في المجموعة‏.‏ والصحيح عن مالك خلافه، ونسب إلى النخعي وابن سيرين وداود الظاهري وروي عن أبي هُريرة‏.‏

والباء في بالله‏}‏ لتعدية فعل الاستعاذة‏.‏ يقال‏:‏ عاذ بحصن، وعاذ بالحرم‏.‏

والسين في ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ للطلب، أي فاطلب العوذ بالله من الشيطان، والعوذ‏:‏ اللجأ إلى ما يعصم ويقي من أمر مضرّ‏.‏

ومعنى طلب العوذ بالله محاولة العوذ به‏.‏ ولا يتصوّر ذلك في جانب الله إلا بالدعاء أن يعيذه‏.‏ ومن أحسن الامتثال محاكاة صيغة الأمر فيما هو من قبيل الأقوال بحيث لا يغيّر إلا التغيير الذي لا مناص منه فتكون محاكاة لفظ «استعذ» بما يدلّ على طلب العوذ بأن يقال‏:‏ أستعيذ، أو أعوذ، فاختير لفظ أعوذ لأنه من صيغ الإنشاء، ففيه إنشاء الطلب بخلاف لفظ أستعيذ فإنه أخفى في إنشاء الطلب، على أنه اقتداء بما في الآية الأخرى ‏{‏وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 97‏]‏ وأبقي ما عدا ذلك من ألفاظ آية الاستعاذة على حاله‏.‏ وهذا أبدع الامتثال، فقد ورد في عمل النبي بهذا الأمر أنه كان يقول‏:‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يحاكي لفظ هذه الآية ولم يقل في الاستعاذة ‏{‏أعوذ بك من همزات الشياطين‏}‏ لأن ذلك في غير قراءة القرآن، فلذلك لم يحاكه النبي صلى الله عليه وسلم في استعاذته للقراءة‏.‏

قال ابن عَطية‏:‏ لم يصح عن النبي زيادة على هذا اللفظ‏.‏ وما يروى من الزيادات لم يصحّ منه شيء‏.‏ وجاء حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ ‏"‏ كان رسول الله إذا قام من الليل يقول‏:‏ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه الخ ‏"‏‏.‏ فتلك استعاذة تعوّذ وليست الاستعاذةَ لأجل قراءة القرآن‏.‏

واسم الشيطان تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى شياطينهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏14‏)‏‏.‏ والرجيم‏}‏ تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏17‏)‏‏.‏

والخطاب للنبيء والمراد عمومه لأمّته بقرينة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏‏.‏

وإنما شرعت الاستعاذة عند ابتداء القراءة إيذاناً بنفاسة القرآن ونزاهته، إذ هو نازل من العالم القدسي الملَكي، فجعل افتتاح قراءته بالتجرّد عن النقائص النفسانية التي هي من عمل الشيطان ولا استطاعة للعبد أن يدفع تلك النقائص عن نفسه إلا بأن يسأل الله تعالى أن يبعد الشيطان عنه بأن يعُوذ بالله، لأن جانب الله قدسيّ لا تسلك الشياطين إلى من يأوي إليه، فأرشد الله رسوله إلى سؤال ذلك، وضمن له أن يعيذه منه، وأن يعيذ أمّته عوذاً مناسباً، كما شرعت التسمية في الأمور ذوات البال وكما شرعت الطهارة للصلاة‏.‏

وإنما لم تشرع لذلك كلمة ‏(‏باسم الله‏)‏ لأن المقام مقام تخلّ عن النقائص، لا مقام استجلاب التيّمن والبركة، لأن القرآن نفسه يُمن وبركة وكمال تامّ، فالتيّمن حاصل وإنما يخشى الشيطان أن يغشى بركاتهِ فيُدخل فيها ما ينقصها، فإن قراءة القرآن عبارة مشتملة على النطق بألفاظه والتّفهّم لمعانيه وكلاهما معرّض لوسوسة الشيطان وسوسة تتعلّق بألفاظه مثل الإنساء، لأن الإنساء يضيع على القارئ ما يحتوي عليه المقدار المنسي من إرشاد، ووسوسةٌ تتعلّق بمعانيه مثل أن يخطئ فهماً أو يقلب عليه مراداً، وذلك أشد من وسوسة الإنساء‏.‏

وهذا المعنى يلائم محمل الأمر بالاستعاذة عند الشروع في القراءة‏.‏

فأما الذين حملوا تعلّق الأمر بالاستعاذة أنَها بعد الفراغ من القراءة، فقالوا لأن القارئ كان في عبادة فربما دخله عُجب أو رياء وهما من الشيطان فأمر بالتعوّذ منه للسلامة من تسويله ذلك‏.‏

ومحمل الأمر في هذه الآية عند الجمهور على النّدب لانتفاء أمارات الإيجاب، فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّنه‏.‏ فمن العلماء من ندبه مطلقاً في الصلاة وغيرها عند كل قراءة‏.‏ وجعل بعضُهم جميعَ قراءة الصلاة قراءة واحدة تكفي استعاذة واحدة في أوّلها، وهو قول جمهور هؤلاء‏.‏ ومنهم من جعل قراءة كل ركعة قراءة مستقلة‏.‏

ومن العلماء من جعله مندوباً للقراءة في غير الصلاة، وهو قول مالك، وكرهها في قراءة صلاة الفريضة وأباحها بلا ندب في قراءة صلاة النافلة‏.‏

ولعلّه رأى أن في الصلاة كفاية في الحفظ من الشيطان‏.‏

وقيل‏:‏ الأمر للوجوب، فقيل في قراءة الصلاة خاصة ونسب إلى عطاء‏.‏ وقد أطلق القرآن على قرآن الصلاة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن قرآن الفجر كان مشهودا‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 78‏]‏ وقال‏:‏ الثوري بالوجوب في قراءة الصلاة وغيرها‏.‏ وعن ابن سيرين تجب الاستعاذة عند القراءة مرّة في العمر، وقال قوم‏:‏ الوجوب خاص بالنبي والنّدب لبقية أمّته‏.‏

ومدارك هذه الأقوال ترجع إلى تأويل الفعل في قوله تعالى‏:‏ قرأت‏}‏، وتأويل الأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستعذ‏}‏، وتأويل القرآن مع ما حفّ بذلك من السّنة فعلاً وتركاً‏.‏

وعلى الأقوال كلها فالاستعاذة مشروعة لللشروع في القراءة أو لإرادته، وليست مشروعة عند كلّ تلفّظ بألفاظ القرآن كالنّطق بآية أو آيات من القرآن في التعليم أو الموعظة أو شبههما، خلافاً لما يفعله بعض المتحذّقين إذا ساق آية من القرآن في غير مقام القراءة أن يقول كقوله تعالى بعدَ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويسوق آية‏.‏

وجملة ‏{‏إنه ليس له سلطان‏}‏ الآية تعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان عند إرادة قراءة القرآن وبيان لصفة الاستعاذة‏.‏

فأما كونها تعليلاً فلزيادة الحثّ على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلّط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلّط على الذين آمنوا المتوكّلين، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكّل على الله لأن اللّجأ إليه توكّل عليه‏.‏ وفي الإعلام بالعلّة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالماً بالحكمة وأما كونها بياناً فلما تضمّنته من ذكر التوكّل على الله ليبيّن أن الاستعاذة إعراب عن التوَكّل على الله تعالى لدفع سلطان الشيْطان ليعقد المستعيذُ نيّتَه على ذلك‏.‏

وليست الاستعاذة مجرّد قول بدون استحضار نيّة العَوذ بالله‏.‏

فجملة ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ صفة ثانية للموصول‏.‏ وقدّم المجرور على الفعل للقصر، أي لا يتوكّلون إلا على ربّهم‏.‏ وجعل فعلها مضارعاً لإفاة تجدّد التوكّل واستمراره‏.‏ فنَفي سلطان الشيطان مشروط بالأمرين‏:‏ الإيمان، والتوكّل‏.‏ ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

والسّلطان‏:‏ مصدر بوزن الغُفران، وهو التسلّط والتصرّف المكين‏.‏

فالمعنى أن الإيمان مبدأ أصيل لتوهين سلطان الشيطان في نفس المؤمن فإذا انضمّ إليه التوكّل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكّل‏.‏

وجملة إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن مضمون الجملة قبلها يثير سؤال سائل يقول‏:‏ فسلطانه على من‏؟‏‏.‏

والقصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ قصر إضافي بقرينة المقابلة، أي دون الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون، فحصل به تأكيد جملة ‏{‏إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا‏}‏ لزيادة الاهتمام بتقرير مضمونها، فلا يفهم من القصر أنه لا سلطان له على غير هذين الفريقين وهم المؤمنون الذين أهملوا التوكّل والذين انخدعوا لبعض وسوسة الشيطان‏.‏

ومعنى ‏{‏يتولونه‏}‏ يتّخذونه ولياً لهم، وهم الملازمون للمِلل المؤسّسة على ما يخالف الهدي الإلهي عن رغْبة فيها وابتهاج بها‏.‏ ولا شكّ أن الذين يتولّونه فريق غير المشركين لأن العطف يقتضي بظاهره المغايرة، وهم أصناف كثيرة من أهل الكتاب‏.‏ وإعادة اسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏والذين هم به مشركون‏}‏ لأن ولايتهم للشيطان أقوى‏.‏

وعبّر بالمضارع للدّلالة على تجدّد التولّي، أي الذين يجدّدون تولّيه، للتّنبيه على أنهم كلما تولّوه بالميل إلى طاعته تمكّن منهم سلطانه، وأنه إذا انقطع التولّي بالإقلاع أو بالتوبة انسلخ سلطانه عليهم‏.‏

وإنما عطف ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ دون إعادة اسم الموصول للإشارة إلى أن الوصفين كصلة واحدة لموصول واحد لأن المقصود اجتماع الصّلتين‏.‏

والباء في ‏{‏به مشركون‏}‏ للسببية، والضمير المجرور عائد إلى الشيطان، أي صاروا مشركين بسببه‏.‏ وليست هي كالباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وجعلت الصّلة جملة اسمية لدلالتها على الدّوام والثّبات، لأن الإشراك صفة مستمرّة لأن قرارها القلب، بخلاف المعاصي لأن مظاهرها الجوارح، للإشارة إلى أن سلطان الشيطان على المشركين أشدّ وأدوم لأن سببه ثابت ودائم‏.‏

وتقديم المجرور في به مشركون‏}‏ لإفادة الحصر، أي ما أشركوا إلا بسببه، ردّاً عليهم إذ يقولون ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 148‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 35‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

استمرّ الكلام على شأن القرآن وتنزيهه عما يوسوسه الشيطان في الصدّ عن متابعته‏.‏

ولما كان من أكبر الأغراض في هذه السورة بيان أن القرآن منزل من عند الله، وبيان فضله وهديه فابتدئ فيها بآية ‏{‏ينزل الملائكة بالروح من أمره‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 2‏]‏، ثم قفِّيت بما اختلقه المشركون من الطّعن فيه بعد تنقلات جاء فيها ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 24‏]‏، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأُعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 64‏]‏ ثم قوله ‏{‏ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن، وذلك آية ‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 90‏]‏، فلما استقرّ ما يقتضي تقرّر فضل القرآن في النفوس نبّه على نفاسته ويمنه بقوله‏:‏ ‏{‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 98‏]‏، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلاقهم على القرآن اختلاقاً مموّهاً بالشبهات كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ذلك الاختلاق هو تعمّدهم التّمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفاً لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام‏.‏ والمغايرة باللين والشدّة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلّق بها، فيتّخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محاملهُ مغامز يتشدّقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطراباً من القول ويزعمونه شاهداً باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما‏.‏ وبعض ذلك ناشئ عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسموّ معانيه، وبعضه ناشئ عن تعمّد للتجاهل تعلّقاً بظواهر الكلام يلبّسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم، ولذلك قال تعالى‏:‏ بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون‏.‏

روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش‏:‏ والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمرٍ وغداً ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه» اه‏.‏

وهذه الكلمة أحسن ما قالهُ المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية‏.‏ فالمراد من التبديل في قوله تعالى؛ ‏{‏بدلنا‏}‏ مطلقُ التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها‏.‏

والمرد بالآية الكلام التام من القرآن، وليس المراد علامة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أعني المعجزة بقرينة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أعلم بما ينزل‏}‏‏.‏

فيشمل التبديلُ نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏}‏

‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 110‏]‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكوّنت الجامعة الإسلامية، وأما نسخُ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكّة فمن فسّر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل‏.‏

ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسّر بعضه بعضاً ويؤوّل بعضه بعضاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏5‏)‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ في سورة المؤمن ‏(‏7‏)‏، فيأخذون بعموم ‏{‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 5‏]‏ فيجعلونه مكذّباً لخصوص ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏سورة غافر‏:‏ 7‏]‏ فيزعمونه إعراضاً عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً‏}‏ ‏[‏سورة المزمل‏:‏ 10‏]‏ يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏}‏ ‏[‏سورة الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 15‏]‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 25‏]‏ ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر كقوله بعد ذكر خلق الأرض ‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏ في ‏[‏سورة فصلت‏:‏ 11‏]‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏}‏ من سورة النازعات ‏(‏30‏)‏، فيحسبونه تناقضاً مع الغفلة عن محمل بعد ذلك من جعل ‏(‏بعد‏)‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏ وهو استعمال كثير، فهم يتوهّمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوَحَدات الثماني المقرّرة في المنطق‏.‏

فالتبديل في قوله تعالى‏:‏ بدلنا‏}‏ هو التعويض ببدل، أي عوض‏.‏ والتعويض لا يقتضي إبطال المعوّض بفتح الواو بل يقتضي أن يجعل شيء عوضاً عن شيء‏.‏ وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوّض بفتح الواو جعل عِوضاً عن مثل لفظ العوض بالكسر في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطراباً لأن مثله قد كان بُدل ولا يتأملون في اختلاف الأغراض‏.‏ وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ائت بقرآن غيرِ هذا أو بدّله‏}‏ في سورة يونس ‏(‏15‏)‏‏.‏

ومكان آية‏}‏ منصوب على الظرفية المكانية بأن تأتي آية في الدعوة والخطاب في مكان آية أخرى أتت في مثل تلك الدعوة، فالمكان هنا مكان مجازي، وهو حالة الكلام والخطاب، كما يسمّى ذلك مقاماً، فيقال‏:‏ هذا مقام الغضب، فلا تأت فيه بالمزح‏.‏ وليس المرَاد مكانَها من ألواح المُصْحَف ولا بإبدالها مَحوُها منه‏.‏

وجملة ‏{‏والله أعلم بما ينزل‏}‏ معترضة بين شرط ‏{‏إذا‏}‏ وجوابها‏.‏ والمقصود منها تعليم المسلمين لا الردّ على المشركين، لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أعلم بما ينزل من آية بدل آية، فهو أعلم بمكان الأولى ومكان الثانية ومحمللِ كلتيهما، وكل عنده بمقدار وعلى اعتبار‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بما ينزل‏}‏ بفتح النون وتشديد الزاي‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي‏.‏

وحكاية طعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة قصر الموصوف على الصّفة، فجعلوه لا صفة له إلا الافتراء، وهو قصر إضافي، أي لستَ بمرسل من الله‏.‏ وهذا من مجازفتهم وسرعتهم في الحكم الجائر فلم يقتصروا على أن تبديله افتراء بل جعلوا الرسول مقصوراً على كونه مفترياً لإفادة أن القرآن الوارد مقصور على كونه افتراء‏.‏

وأصل الافتراء‏:‏ الاختراع، وغَلَب على اختراع الخبر، أي اختلاقه، فساوَى الكذب في المعنى، ولذلك قد يطلق وحده كما هنا، وقد يطلق مقترناً بالكذب كقوله الآتي‏:‏ ‏{‏إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 105‏]‏ إرجاعاً به إلى أصل الاختراع فيجعل له مفعول هو آيل إلى معناه فصار في معنى المفعول المطلق‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في ‏[‏سورة العقود‏:‏ 103‏]‏‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ للإضراب الإبطالي على كلامهم، وهو من طريقة النقض الإجمالي في علم المناظرة‏.‏

وضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ للذين قالوا إنما أنت مفتر، أي ليس كما قالوا ولكن أكثر القائلين ذلك لا يعلمون، أي لا يفهمون وضع الكلام مواضعه وحَمله محامله‏.‏

وفهم من الحكم على أكثرهم بعدم العلم أن قليلاً منهم يعلمون أن ذلك ليس افتراء ولكنهم يقولون ذلك تلبيساً وبهتاناً ولا يعلمون أن التّنزيل من عند الله لا ينافي إبطال بعض الأحكام إذا اختلفت المصالح أو روعي الرّفق‏.‏

ويجوز حمل لفظ أكثر على إرادة جميعهم كما تقدّم في هذه السورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 101‏]‏ فلذلك فصل فعل قل‏}‏ لوقوعه في المحاورة، أي قل لهم‏:‏ لسْت بمفتر ولا القرآن بافتراء بل نزّله روح القدس من الله‏.‏ وفي أمره بأن يقول لهم ذلك شدّ لعزمه لكيلا يكون تجاوزه الحدّ في البهتان صارفاً إيّاه عن محاورتهم‏.‏

فبعد أن أبطل الله دعواهم عليه أنه مفتر بطريقة النّقض أمر رسوله أن يبيّن لهم ماهيّة القرآن‏.‏ وهذه نكتة الالتفات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ربك‏}‏ الجاري على خلاف مقتضى ظاهر حكاية المقول المأمور بأن يقوله، لأن مقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ من ربي، فوقع الالتفات إلى الخطاب تأنيساً للنبيء صلى الله عليه وسلم بزيادة توغّل الكلام معه في طريقة الخطاب‏.‏

واختير اسم الربّ لما فيه من معنى العناية والتدبير‏.‏

و ‏{‏روح القدس‏}‏‏:‏ جبريل‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى ‏{‏وأيّدناه بروح القدس‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏87‏)‏‏.‏ والروح‏:‏ المَلَك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسلنا إليها روحنا‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 17‏]‏، أي ملَكاً من ملائكتنا‏.‏

والقُدس‏}‏‏:‏ الطُهر‏.‏ وهو هنا مراد به معنياه الحقيقي والمجازي الذي هو الفضل وجلالة القدر‏.‏

وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصّفة، كقولهم‏:‏ حاتم الجود، وزيد الخَير‏.‏ والمراد‏:‏ حَاتم الجواد، وزيد الخيّر‏.‏ فالمعنى‏:‏ الملك المقدس‏.‏

والباء في ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة، وهي ظرف مستقرّ في موضع الحال من الضمير المنصوب في ‏{‏نزله‏}‏ مثل ‏{‏تَنبُتُ بالدُهن‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 20‏]‏، أي ملابساً للحقّ لا شائبة للباطل فيه‏.‏

وذكرت علّة من عِلل إنزال القرآن على الوصف المذكور، أي تبديل آية مكان آيةٍ، بأن في ذلك تثبيتاً للذين آمنُوا إذ يفهمون محمل كل آية ويهتدون بذلك وتكون آيات البشرى بشارة لهم وآيات الإنذار محمولة على أهل الكفر‏.‏

ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نزله روح القدس من ربك‏}‏ إبطال لقولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 101‏]‏، وفي قوله تعالى؛ ‏{‏بالحق‏}‏ إيقاظ للناس بأن ينظروا في حكمة اختلاف أغراضه وأنها حقّ‏.‏

وفي التعليل بحكمة التثبيت والهدى والبُشرى بيانٌ لرسوخ إيمان المؤمنين وسداد آرائهم في فهم الكلام السامي، وأنه تثبيت لقلوبهم بصحة اليقين وهدًى وبشرى لهم‏.‏

وفي تعلّق الموصوللِ وصلته بفعل التثبيت إيماء إلى أن حصول ذلك لهم بسبب إيمانهم، فيفيد تعريضاً بأن غير المؤمنين تقصر مداركهم عن إدراك ذلك الحقّ فيختلط عليهم الفهم ويزدادون كفراً ويضلّون ويكونُ نذارة لهم‏.‏

والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وهدى وبشرى لهم، فعدل إلى الإظهار لزيادة مدحهم بوصف آخر شريف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهدى وبشرى‏}‏ عطف على الجار والمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏ليثبت‏}‏، فيكون ‏{‏هدى وبشرى‏}‏ مصدرين في محل نصب على المفعول لأجله، لأن قوله ‏{‏ليثبت‏}‏ وإن كان مجرور اللفظ باللام إذ لا يسوغ نصبه على المفعول لأجله لأنه ليس مصدراً صريحاً‏.‏

وأما ‏{‏هدى وبشرى‏}‏ فلما كانا مصدرين كانا حقيقين بالنصب على المفعول لأجله بحيث لو ظهر إعرابهما لكانا منصوبين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتركبوها وزينة‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 8‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 101‏]‏‏.‏ وهذا إبطال لتلبيس آخر مما يلبّسون به على عامّتهم، وذلك أن يقولوا‏:‏ إن محمداً يتلقّى القرآن من رجل من أهل مكة‏.‏ قيل‏:‏ قائل ذلك الوليدُ بن المغيرة وغيره، قال عنه تعالى‏:‏ ‏{‏فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر‏}‏ ‏[‏سورة المدثر‏:‏ 24‏]‏، أي لا يلّقنه مَلَك بل يعلّمه إنسان، وقد عيّنوه بما دلّ عليه قوله تعالى ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي‏}‏‏.‏

وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و‏(‏قدْ‏)‏ يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامّتهم ولا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك‏.‏ فقد كان في مكّة غلام روميّ كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جَبر كان يصنع السيوف بمكّة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثالُه من عامّة النصارى من دعوات الصلوات، فاتّخذ زعماء المشركين من ذلك تمويهاً على العامة، فإن معظم أهل مكّة كانوا أمّيين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرّفة، أو يكتب حروفاً يتعلّمها، يحسبونه على علم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما جَانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش‏.‏ هذا يعلّم محمداً ما يقوله‏.‏

وقيل‏:‏ كان غلام رومي اسمه بلعام، كان عبداً بمكة لرجل من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام، فقالوا‏:‏ إن محمداً يتعلّم منه، وكان هذا العبد يقول‏:‏ إنّما يقف عليّ يعلّمني الإسلام‏.‏

وظاهر الإفراد في ‏{‏إليه‏}‏ أن المقصود رجل واحد‏.‏ وقد قيل‏:‏ المراد عَبدَان هما جَبر ويَسار كانا قنّين، فيكون المراد ب ‏{‏بشر‏}‏ الجنس، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده‏.‏

وقد كشف القرآن هذا اللّبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولاً فصلاً دون طول جدال ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين‏}‏، أي كيف يعلّمه وهو أعجميّ لا يكاد يبين، وهذا القرآن فصيح عربي معجز‏.‏

والجملة جواب عن كلامهم، فهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قولهم‏:‏ ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏ يتضمنّ أنه ليس منزّلاً من عند الله فيسأل سائل‏:‏ ماذا جواب قولهم‏؟‏ فيقال‏:‏ ‏{‏لِسانُ الذي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، وهذا النّظم نظير نظم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وألْحَد‏:‏ مثل لَحَد، أي مال عن القويم‏.‏ فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى المجرد، كقولهم‏:‏ أبان بمعنى بان‏.‏ فمعنى ‏{‏يلحدون‏}‏ يميلون عن الحقِّ لأن ذلك اختلاقُ معاذير، فهم يتركون الحقّ القويم من أنه كلام منزّل من الله إلى أن يقولوا ‏{‏يعلمه بشر‏}‏، فذلك ميل عن الحقّ وهو إلحاد‏.‏

ويجوز أن يراد بالإلحاد الميْل بكلامهم المبهم إلى قَصدٍ معين لأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏ وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير، فإذا وجدوا ساذجاً أبَلْهَ يسأل عن المعني بالبشر قالوا له‏:‏ هو جَبر أو بَلعام، وإذا توسّموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا‏:‏ هو بشر من الناس، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميَل على الاختيار‏.‏

وقرأ نافع والجمهور ‏{‏يلحدون‏}‏ بِضمّ الياءِ مضارع ألحد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏يَلحَدون‏}‏ بِفتح الياءِ من لَحد مرادف أَلحد‏.‏ وقد تقدّم الإلحاد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذروا الذين يلحدون في أسمائه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏180‏)‏‏.‏ وليست هذه الهمزة كقولهم‏:‏ ألحد الميتَ، لأن تلك للجعل ذَا لحد‏.‏

واللسان‏:‏ الكلام‏.‏ سمّي الكلام باسم آلته‏.‏ والأعجمي‏:‏ المنسوب إلى الأعجم، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده‏.‏ ولذلك سمّوا الدوابّ العجماوات‏.‏ فالياء فيه ياء النسب‏.‏ ولما كان المنسوب إليه وصفاً كان النسب لتقوية الوصف‏.‏

والمبين‏:‏ اسم فاعل من أبان، إذا صار ذا إبِانة، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة، فحصل تمام التضادّ بينه وبين لسان الذي يلحدون إليه‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏‏}‏

جملة معترضة‏.‏ وورود هذه الآية عقب ذكر اختلاق المتقعّرين على القرآن المرجفين بالقالة فيه بين الدهماء يومئ إلى أن المراد بالذين لا يؤمنون هم أولئك المردود عليهم آنفاً‏.‏ وهم فريق معلوم بشدة العداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبالتصلّب في التصدّي لصرف الناس عنه بحيث بلغوا من الكفر غايةً ما وراءها غايةٌ، فحقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهؤلاء فريق غير معيّن يومئذٍ ولكنهم مشار إليهم على وجه الإجمال، وتكشف عن تعيينهم عواقب أحوالهم‏.‏

فقد كان من الكافرين بالنبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وأبو سفيان‏.‏ وكان أبو سفيان أطولَ مدة في الكفر من أبي جهل؛ ولكن أبا جهل كان يخلط كفره بأذَى النبي صلى الله عليه وسلم والحنققِ عليه‏.‏ وكان أبو سفيان مقتصراً على الانتصار لدينه ولقومه ودفْع المسلمين عن أن يغلبوهم فحرم الله أبا جهل الهداية فأهلكه كافراً، وهدى أبا سفيان فأصبح من خيرة المؤمنين، وتشرف بصهر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطاب كافرين وكان كلاهما يدفع الناس من اتّباع الإسلام، ولكن الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن وذلك من الكيد، وعمر كان يصرف الناس بالغلظة علناً دون اختلاق، فحرم الله الوليد بن المغيرة الاهتداء، وهدى عمر إلى الإسلام فأصبح الإسلام به عزيز الجانب‏.‏ فتبيّن الناس أن الوليد من الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأن عمر ليس منهم، وقد كانا معاً كافرين في زمن ما‏.‏ ويشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 3‏]‏ فوَصف من لا يهديه الله بوصفين الكذب وشدة الكفر‏.‏

فتبيّن أن معنى قوله تعالى‏:‏ الذين لا يؤمنون بآيات الله‏}‏ من كان الإيمان منافياً لجبِلّة طبعهِ لا لأميال هواه‏.‏ وهذا يعلم الله أنه لا يؤمن وأنه ليس معرّضاً للإيمان، فلذلك لا يهديه الله، أي لا يكوّن الهداية في قلبه‏.‏

وهذا الأسلوب عكس أسلوب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 96‏]‏، وكل يرمي إلى معنى عظيم‏.‏

فموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل لجميع أقوالهم المحكيّة والتذييل لخلاصة أحوالهم، ولذلك فصلت بدون عطف‏.‏

وعطْفُ ولهم عذاب أليم‏}‏ على ‏{‏لا يهديهم‏}‏ للدّلالة على حرمانهم من الخير وإلقائهم في الشرّ لأنهم إذا حُرموا الهداية فقد وقعوا في الضلالة، وماذا بعد الحقّ إلا الضلال، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليه أنه من تولّاه فأنه يضلّه ويهديه إلى عذاب السعير‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ويشمل العذاب عذاب الدنيا وهو عذاب القتل مثل ما أصاب أبا جهل يوم بدر من ألم الجراح وهو في سكرات الموت، ثم من إهانة الإجهاز عليه عقب ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

هذا ردّ لقولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 101‏]‏ بقلب ما زَعموه عليهم، كما كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 103‏]‏ جواباً عن قولهم‏:‏ ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فبعد أن نزّه القرآن عن أن يكون مفترى والمنزّل عليه عن أن يكون مفترياً ثني العنان لبيان من هو المفتري‏.‏ وهذا من طريقة القلب في الحال‏.‏

ووجه مناسبة ذكره هنا أن قولهم‏:‏ إنما يعلمه بشر يستلزم تكذيب النبي في أن ما جاء به منزّل إليه من عند الله، فصاروا بهذا الاعتبار يؤكّدون بمضمونه قولَهم‏:‏ إنّما أنت مفتر‏}‏ يؤكّد أحد القولين القولَ الآخر، فلما رُدّ قولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 101 102‏]‏‏.‏ ورُدّت مقالتهم الأخرى في صريحها بقوله ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي‏}‏، ورُدّ مضمونها هنا بقوله ‏{‏إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون‏}‏ الآية، حاصلاً به ردّ نظيرها أعني قولهم ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ بكلام أبلغ من كلامهم، لأنهم أتوا في قولهم ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ بصيغة قصر هي أبلغ مما قالوه، لأن قولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ قصر للمخاطب على صفة الافتراء الدائمة، إذ الجملة الاسمية تقتضي الثبات والدّوام، فردّ عليهم بصيغة تقصرهم على الافتراء المتكرّر المتجدّد، إذ المضارع يدلّ على التجدّد‏.‏

وأكّد فعل الافتراء بمفعوله الذي هو بمعنى المفعول المطلق لكونه آيلاً إليه المعنى‏.‏

وعُرّف ‏{‏الكذب‏}‏ بأداة تعريف الجنس الدّالة على تميّز ماهية الجنس واستحضارها، فإن تعريف اسم الجنس أقوى من تنكيره، كما تقدّم في قوله تعالى ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏سورة الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وعبّر عن المقصور عليهم باسم الموصول دون أن يذكر ضميرهم، فيقال‏:‏ إنما يفتري الكذب أنتم، ليفيد اشتهارهم بمضمون الصّلة، ولأن للصّلة أثراً في افترائهم، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏

وعليه فإن من لا يؤمن بالدلائل الواضحة التي هي آيات صدق لا يسعه إلا الافتراء لترويج تكذيبه بالدلائل الواضحة‏.‏ وفي هذا كناية عن كون تكذيبهم بآيات الله عن مكابرة لا عن شبهة‏.‏

ثم أردفت جملة القصر بجملة قصرٍ أخرى بطريق ضمير الفصل وطريق تعريف المسند وهي جملة ‏{‏وأولئك هم الكاذبون‏}‏‏.‏

وافتتحت باسم الإشارة، بعد إجراء وصف انتفاء الإيمان بآيات الله عنهم، لينبه على أن المشار إليهم جديرون بما يرد من الخبر بعد اسم الإشارة، وهو قصرهم على الكذب، لأن من لا يؤمن بآيات الله يتّخذ الكذب ديدناً له متجدّداً‏.‏

وجعل المسند في هذه الجملة معرّفاً باللام ليفيد أن جنس الكاذبين اتّحد بهم وصار منحصراً فيهم، أي الذين تَعرف أنهم طائفة الكاذبين هم هؤلاء‏.‏ وهذا يؤول إلى معنى قصر جنس المسند على المسند إليه، فيحصل قصران في هذه الجملة‏:‏ قصر موصوف على صفة، وقصر تلك الصفة على ذلك الموصوف‏.‏ والقصران الأوّلان الحاصلان من قوله‏:‏ ‏{‏إنما يفتري‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم‏}‏ إضافيان، أي لا غيرهم الذي رموه بالافتراء وهو محاشًى منه، والثالث ‏{‏أولئك هم الكاذبون‏}‏ قصر حقيقي ادّعائي للمبالغة، إذ نزل بلوغ الجنس فيهم مبلغاً قوياً منزلة انحصاره فيهم‏.‏

واختير في الصّلة صيغة ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ دون‏:‏ لم يؤمنوا، لتكون على وزان ما عُرفوا به سابقاً في قوله‏:‏ ‏{‏الذين لا يؤمنون بآيات الله‏}‏، ولما في المضارع من الدلالة على أنهم مستمرّون على انتفاء الإيمان لا يثبت لهم ضدّ ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

لما سبق التّحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه، وأن لا يغرّهم ما لأمّة المشركين من السّعة والرُبُو، والتحذير من زَلل القدم بعد ثبوتها، وبشروا بالوعد بحياة طيبة، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التّمسك بالقرآن والاهتداء به، وأن لا تغرّهم شُبه المشركين وفتونهم في تكذيب القرآن، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان، فالكلام استئناف ابتدائي‏.‏

ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام والذين أسلموا، فلذلك ردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل نزّله روح القدس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ليثبّت الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 102‏]‏، وكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 103‏]‏ فردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏لسان الذي يلحدون إليه أعجمي‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وكان الغلام الذي عنوه بقولهم إنما يعلمه بشر‏}‏ قد أسلم ثم فتنهُ المشركون فكفر، وهو جَبر مولى عامر بن الحَضرمي‏.‏ وكانوا راودوا نفراً من المسلمين على الارتداد، منهم‏:‏ بلال، وخَبّاب بن الأرتّ، وياسر، وسُميّةُ أبَوَا عمار بن ياسر، وعمّارٌ ابنهما، فثبتوا على الإسلام‏.‏ وفتنوا عماراً فأظهر لهم الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان‏.‏ وفتنوا نفراً آخرين فكفروا، وذُكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجّاج، وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله في سورة العنكبوت ‏(‏10‏)‏، فكان مِن هذه المناسبة ردّ لعجز الكلام على صدره‏.‏

على أن مضمون من كفر بالله من بعد إيمانه‏}‏ مقابل لمضمون ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 97‏]‏، فحصل الترهيب بعد الترغيب، كما ابتدئ بالتحذير تحفّظاً على الصالح من الفساد، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد، وفُتح باب الرخصة للمحَافظين على صلاحهم بقدر الإمكان‏.‏

واعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفَر كفروا بعد إسلامهم كانت مَن‏}‏ موصولة وهي مبتدأ والخبر ‏{‏فعليهم غضب من الله‏}‏‏.‏ وقرن الخبر بالفاء لأن في المبتدإ شبهاً بأداة الشرط‏.‏ وقد يعامل الموصول معاملة الشرط، ووقع في القرآن في غير موضع‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم‏}‏ ‏[‏سورة البروج‏:‏ 10‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ إلى قوله ‏{‏فبشّرهم بعذاب أليم‏}‏ في سورة براءة ‏(‏34‏)‏‏.‏ وقيل إن فريقاً كفروا بعد إسلامهم، كما رُوي في شأن جبر غلام ابن الحَضرمي‏.‏ وهذا الوجه أليق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين طبع الله على قلوبهم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 108‏]‏ الآية‏.‏

وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرّد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر، ولذلك تكون ‏{‏مَن‏}‏ شرطية، والشرط غير مراد به معيّن بل هو تحذير، أي مَن يَكْفروا بالله، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فعليهم غضب من الله‏}‏ جواباً‏.‏

والتّحذير حاصل على كلا المعنيين‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏ فهو ترخيص ومعذرة لِمَا صدر من عمار بن ياسر وأمثالِه إذا اشتدّ عليهم عذاب من فتنوهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من أكره‏}‏ استثناء من عموم ‏{‏من كفر‏}‏ لئلا يقع حكم الشرط عليه، أي إلا مَن أكرهه المشركون على الكفر، أي على إظهاره فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده‏.‏ وهذا فريق رخّص الله لهم ذلك كما سيأتي‏.‏

ومصحّح الاستثناء هو أن الذي قال قول الكفّار قد كفر بلفظه‏.‏

والاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن من شرح بالكفر صدراً‏}‏ استدراك على الاستثناء، وهو احتراس من أن يفهم من الاستثناء أن المكره مرخّص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه‏.‏

و ‏{‏من شرح‏}‏ معطوف ب ‏{‏لكن‏}‏ على ‏{‏من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان‏}‏، لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت، فحرف ‏{‏لكن عاطف ولا عبرة بوجود الواو على التحقيق‏.‏

واختير فعليهم غضب‏}‏ دون نحو‏:‏ فقد غضب الله عليهم، لما تدلّ عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات، أي غضب لا مغفرة معه‏.‏

وتقديم الخبر المجرور على المبتدإ للاهتمام بأمرهم، فقدّم ما يدلّ عليهم، ولتصحيح الإتيان بالمبتدإ نكرة حين قصد بالتّنكير التعظيم، أي غضب عظيم، فاكتفي بالتنكير عن الصفة‏.‏

وأما تقديم ‏{‏لهم‏}‏ على ‏{‏عذاب عظيم‏}‏ فللاهتمام‏.‏

والإكراه‏:‏ الإلجاء إلى فعل ما يُكْرَه فِعلُه‏.‏ وإنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمّله طاقة الإنسان من إيلام بالغ أو سجن أو قيد أو نحوه‏.‏

وقد رخّصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفر في عرف الناس من قول أو فعل‏.‏

وقد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر، فقالوا‏:‏ فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر، لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية ومصانعة بعد أن كان مسلماً‏.‏ وقد رخّص الله ذلك رفقاً بعباده واعتباراً للأشياء بغاياتها ومقاصدها‏.‏

وفي الحديث‏:‏ أن ذلك وقع لعمار بن ياسر، وأنه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فصوّبه وقال له‏:‏ «وإن عادوا لك فعُد»‏.‏ وأجمع على ذلك العلماء‏.‏ وشذّ محمد بن الحسن فأجرى على هذا التظاهر بالكفر حكمَ الكفّار في الظاهر كالمرتدّ فيستتاب عن المِكنة منه‏.‏

وسوّى جمهور العلماء بين أقوال الكفر وأفعاله كالسجود للصنم‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن الإكراه على أفعال الكفر لا يبيحها‏.‏ ونُسب إلى الأوزاعي وسحنون والحسن البصري، وهي تفرقة غير واضحة‏.‏ وقد ناط الله الرخصة باطمئنان القلب بالإيمان وغفر ما سوّل القلب‏.‏

وإذا كان الإكراه موجب الرخصة في إظهار الكفر فهو في غير الكفر من المعاصي أولى كشرب الخمر والزنا، وفي رفع أسباب المؤاخذة في غير الاعتداء على الغير كالإكراه على الطلاق أو البيع‏.‏

وأما في الاهتداء على الناس من ترتّب الغُرْم فبين مراتب الإكراه ومراتب الاعتداء المكره عليه تفاوت، وأعلاها الإكراه على قتل نفس‏.‏ وهذا يظهر أنه لا يبيح الإقدام على القتل لأن التوعّد قد لا يتحقق وتفوت نفس القتيل‏.‏

على أن أنواعاً من الاعتداء قد يُجعل الإكراه ذريعة إلى ارتكابها بتواطوء بين المكرِه والمكرَه‏.‏ ولهذا كان للمكره بالكسر جانب من النظر في حمل التبعة عليه‏.‏

وهذه الآية لم تتعرّض لغير مؤاخذة الله تعالى في حقّه المحض وما دون ذلك فهو مجال الاجتهاد‏.‏

والخلاف في طلاق المكره معلوم، والتفاصيل والتفاريع مذكورة في كتب الفروع وبعض التفاسير‏.‏