فصل: تفسير الآية رقم (107)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

هذه الجملة واقعة موقع التعليل فلذلك فصلت عن التي قبلها، وإشارة ذلك إلى مضمون قوله ‏{‏فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وضمير بأنهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏من كفر بالله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 106‏]‏ سواء كان ما صْدق مَن‏}‏ معيّناً أو مفروضاً على أحد الوجهين السابقين‏.‏

والباء للسببية، فمدخولها سبب‏.‏

و ‏{‏استحبّوا‏}‏ مبالغة في ‏(‏أحبوا‏)‏ مثل استأخر واستكان‏.‏ وضمن ‏(‏استحبّوا‏)‏ معنى ‏(‏فضّلوا‏)‏ فعدي بحرف ‏(‏على‏)‏، أي لأنهم قدّموا نفع الدنيا على نفع الآخرة، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقّية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوفَ الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش، فيكون كفرهم أشدّ من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة‏.‏

‏{‏وأن الله لا يهدى القوم الكافرين‏}‏ سبب ثَان للغضب والعذاب، أي وبأن الله حرمهم الهداية فهم موافونه على الكفر‏.‏ وقد تقدم تفسير ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 104‏]‏‏.‏

وهو تذييل لِما في صيغة القوم الكافرين‏}‏ من العموم الشامل للمتحدّث عنهم وغيرهم، فليس ذلك إظهاراً في مقام الإضمار ولكنه عموم بعد خصوص‏.‏

وإقحام لفظ ‏(‏قوم‏)‏ للدّلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكّن منهم وصار سجيّة حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصفُ‏.‏

وقد تقدّم أن جريان وصف أو خبر على لفظ ‏(‏قوم‏)‏ يؤذن بأنه من مقوّمات قوميتهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏101‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 109‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

جملة مبيّنة لجملة ‏{‏وأن الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 107‏]‏ بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها‏:‏ من النظر الصادق في دلائل الوحدانية، ومن الوعي لدعوة الرسول والقرآن المنزّل عليه، ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبّسوا به‏.‏

وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز تبييناً لمعنى الصّلة المتقدمة، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد‏.‏

وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة‏.‏ وهو مضمون جملة ‏{‏فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

والطّبع‏:‏ مستعار لمنع وصول الإيمان وأدِلّته، على طريقة تشبيه المعقول بالمحسوس‏.‏ وقد تقدّم مفصّلاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏)‏

وجملة وأولئك هم الغافلون‏}‏ تكملة للبيان، أي الغافلون الأكملون في الغفلة، لأن الغافل البالغ الغاية ينافي حالة الاهتداء‏.‏

والقصر قصر موصوف على صفة، وهو حقيقي ادعائي يقصد به المبالغة، لعدم الاعتداد بالغافلين غيرهم، لأنهم بلغوا الغاية في الغفلة حتى عُدّ كل غافللٍ غيرهم كمن ليس بغافل‏.‏ ومن هنا جاء معنى الكَمال في الغفلة لا من لام التّعريف‏.‏

وجملة ‏{‏لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏ واقعة موقع النتيجة لما قبلها، لأن ما قبلها صار كالدليل على مضمونها، ولذلك افتتحت بكلمة نفي الشكّ‏.‏

فإن ‏{‏لا جَرم‏}‏ بمعنى ‏(‏لا محالة‏)‏ أو ‏(‏لا بُد‏)‏‏.‏ وقد تقدّم آنفاً في هذه السورة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم أن الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون‏}‏ وتقدم بسط تفسيرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏ في سورة هود ‏(‏22‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن خسارتهم هي الخسارة، لأنهم أضاعوا النعيم إضاعة أبدية‏.‏

ويجري هذا المعنى على كلا الوجهين المتقدّمين في ما صْدق ‏(‏مَن‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏من كفر بالله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 106‏]‏ الآية‏.‏

ووقع في سورة هود ‏(‏22‏)‏ ‏{‏هم الأخسرون‏}‏ ووقع هنا هم الخاسرون‏}‏ لأن آية سورة هود ‏(‏21‏)‏ تقدّمها ‏{‏أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، فكان المقصود بيان أن خسارتهم في الآخرة أشدّ من خسارتهم في الدنيا‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏من كفر بالله من بعد إيمانه إلى قوله‏:‏ ‏{‏هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 106 109‏]‏‏.‏

و ‏{‏ثمّ‏}‏ للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطفها الجمل‏.‏ وذلك أن مضمون هذه الجلة المعطوفة أعظمُ رُتبة من المعطوف عليها، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 15‏]‏‏.‏

والمراد ‏{‏بالذين هاجروا‏}‏ المهاجرون إلى الحبشة الذين أذِن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلّص من أذى المشركين‏.‏ ولا يستقيم معنى الهجرة هنا إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ «فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمّه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم‏:‏ لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مَخافة الفتنة وفراراً بدينهم» اه‏.‏

فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى وعذر الذين اتّقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقاً آخر فازوا بفرار من الفتنة، لئلا يتوهّم متوهّم أن بعدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الشدّة يوهن جامعة المسلمين فاستُوفِيَ ذكر فرق المسلمين كلها‏.‏ وقد أومَأ إلى حظّهم من الفضل بقوله‏:‏ ‏{‏هاجروا من بعد ما فتنوا‏}‏، فسمّى عملهم هِجرة‏.‏

وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين، كما حكي عن إبراهيم عليه السلام ‏{‏وقال إني مهاجر إلى ربي‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقال في الأنصار يحبّون من هاجر إليهم، أي المؤمنين الذين فارقوا مكّة‏.‏

وسمّى ما لقوه من المشركين فتنة‏.‏ والفتنة‏:‏ العذاب والأذى الشديد المتكرّر الذي لا يترك لمن يقع به صبراً ولا رأياً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم‏}‏ ‏[‏سورة الذاريات‏:‏ 14‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏[‏سورة البروج‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وتقدم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشدّ من القتل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏191‏)‏‏.‏ أي فقد نالهم الأذى في الله‏.‏

والمجاهدة‏:‏ المقاومة بالجُهد، أي الطاقة‏.‏

والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردّوهم إلى الكفر‏.‏

وهاتان الآيتان مكّيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين‏.‏

والصبر‏:‏ الثبات على تحمّل المكروه والمشاق، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏

وأكّد الخبر بحرف التوكيد وبالتوكيد اللفظي لتحقيق الوعد، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل‏.‏

ويدلّ على ذلك ما في صحيح البخاري‏:‏ أن أسماء بنت عُميس، وهي ممّن قدم من أرض الحبشة، دخلت على حفصة فدخل عمر عليهما فقال لها‏:‏ سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت‏:‏ كلا والله، كنتم مع النبي يُطعم جائعَكم ويعظ جاهلكم، وكنّا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونُخاف، وذلك في الله ورسوله، وأيم الله لا أطعَم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بيتَ حفصة قالت أسماء‏:‏ يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال‏:‏ فما قلتتِ له‏؟‏ قالت‏:‏ قلت له كذا وكذا، قال‏:‏

‏"‏ ليست بأحقّ بي منكم وله ولأصحابه هِجرة واحدة ولكم أنتم أهلَ السفينة هجرتان ‏"‏‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للذين هاجروا‏}‏ متعلّق ب«غفور» مقدّم عليه للاهتمام‏.‏ وأعيد ‏{‏إن ربك‏}‏ ثانياً لطول الفصل بين اسم ‏{‏إن‏}‏ وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللّفظي‏.‏

وتعريف المسند إليه الذي هو اسم ‏{‏إن‏}‏ بطريق الإضافة دون العلمية لما يُومئ إليه إضافة لفظ ‏(‏ربّ‏)‏ إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه ربّ محمد صلى الله عليه وسلم حاصلاً بأسلوب يدلّ على الذّات العليّة وعلى الذّات المحمدية‏.‏

وهذا من أدقّ لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه‏.‏

وضمير ‏{‏من بعدها‏}‏ عائد إلى الهجرة المستفادة من ‏{‏هاجروا‏}‏، أو إلى المذكورات‏:‏ من هجرة وفتنة وجهاد وصبر، أو إلى الفتنة المأخوذة من ‏{‏فتنوا‏}‏‏.‏ وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلّها‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏فَتَنوا‏}‏ بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل، وهي لغة في افتتن، بمعنى وقع في الفتنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون هذا استئنافاً وتذييلاً بتقدير‏:‏ اذْكر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وقع عقب التحذير والوعيد وعيداً للذين أنذروا ووعداً للذين بُشّروا‏.‏

ويجوز أن يكون متّصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 110‏]‏، فيكون انتصاب يوم تأتي كل نفس‏}‏ على الظرفية ‏{‏لغفور رحيم‏}‏، أي يغفر لهم ويرحمهم يوم القيامة بحيث لا يجدون أثراً لذنوبهم التي لا يخلو عنها غالب الناس ويجدون رحمة من الله بهم يومئذٍ‏.‏ فهذا المعنى هو مقتضى الإتيان بهذا الظرف‏.‏

والمجادلة‏:‏ دفاع بالقول للتخلّص من تبعة فِعل‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادِل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏107‏)‏‏.‏

والنّفس الأول‏:‏ بمعنى الذات والشخصصِ كقوله‏:‏ ‏{‏أنّ النفس بالنفس‏}‏ سورة المائدة ‏(‏45‏)‏‏.‏ والنّفس الثانية ما به الشخص شخص؛ فالاختلاف بينهما بالاعتبار كقول أعرابي قَتل أخُوه ابناً له ‏(‏من الحماسة‏)‏‏:‏

أقول للنفس تَأسَاءً وَتسلية *** إحدى يديّ أصابتني ولم تُرِد

وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وتنسون أنفسكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏44‏)‏‏.‏

وذلك أن العرب يستشعرون للإنسان جملة مركّبة من جَسد وروح فيسمونها النفس، أي الذات وهي ما يعبّر عنه المتكلّمُ بضمير ‏(‏أنا‏)‏، ويستشعرون للإنسان قوّة باطنيّة بها إدراكه ويسمّونها نفساً أيضاً‏.‏ ومنه أخذ علماء المنطق اسمَ النفس الناطقة‏.‏

والمعنى‏:‏ يأتي كل أحد يدافع عن ذاته، أي يدافع بأقواله ليدفع تبعات أعماله‏.‏ ففاعلُ المجادلة وما هو في قوّة مفعوله شيءٌ واحد‏.‏ وهذا قريب من وقوع الفاعل والمفعول شيئاً واحداً في أفعال الظنّ والدّعاء، بكثرة مثل‏:‏ أراني فاعلاً كذا، وقولهم؛ عَدِمْتُني وَفقَدْتُني، وبقلّة في غير ذلك مع الأفعال نحو قول امرئ القيس‏:‏

قد بتّ أحرُسُني وحْدي ويمنعني *** صوت السّباع به يضبَحْن والهام

‏{‏وتُوفّى‏}‏ تعطَى شيئاً وافياً، أي كاملاً غير منقوص، و‏{‏ما عملت‏}‏ مفعول ثاننٍ ل ‏{‏توفّى‏}‏، وهو على حذف مضاف تقديره‏:‏ جزاء ما عملت، أي من ثواب أو عقاب، وإظهار كل نفس في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلّة فتجري مجرى المَثل‏.‏

والظّلم‏:‏ الاعتداء على الحقّ‏.‏ وأطلق هنا على مجاوزة الحدّ المعيّن للجزاء في الشر والإجحاف عنه في الخير، لأن الله لما عيّن الجزاء على الشرّ ووعد بالجزاء على الخير صار ذلك كالحقّ لكل فريق‏.‏ والعلمُ بمراتب هذا التحديد مفوّض لله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يظلم ربّك أحداً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وضميرا ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ عائدان إلى كل نفس بحسب المعنى، لأن ‏{‏كل نفس‏}‏ يدلّ على جمع من النفوس‏.‏

وزيادة هذه الجملة للتصريح بمفهوم ‏{‏وتوفى كل نفس ما عملت‏}‏، لأن توفية الجزاء على العمل تستلزم كون تلك التوفية عدلاً، فصرّح بهذا اللازم بطريقة نفي ضدّه وهو نفي الظلم عنهم، وللتّنبيه على أن العدل من صفات الله تعالى‏.‏ وحصل مع ذلك تأكيد المعنى الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

عطف عظة على عظة‏.‏ والمعطوف عليها هي جمل الامتنان بنعم الله تعالى عليهم من قوله‏:‏ ‏{‏وما بكم من نعمة فمن الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏ وما اتّصل بها إلى قوله‏:‏ ‏{‏يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 83‏]‏‏.‏ فانتقل الكلام بعد ذلك بتهديد من قوله‏:‏ ‏{‏ويوم نبعث من كل أمة شهيداً‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 84‏]‏‏.‏

فبعد أن توعّدهم بقوارع الوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 104‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 106‏]‏ إلى قوله ‏{‏لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 109‏]‏ عاد الكلام إلى تهديدهم بعذاب في الدنيا بأن جعلهم مضرب مثل لقرية عذبت عذاب الدنيا، أو جعلهم مثَلاً وعظة لمن يأتي بمثل ما أتوا به من إنكار نعمة الله‏.‏

ويجوز أن يكون المعطوف عليها جملة ‏{‏يوم تأتي كل نفس‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 111‏]‏ الخ‏.‏ على اعتبار تقدير ‏(‏اذكر‏)‏، أي اذكر لهم هول يوم تأتي كل نفس تجادل الخ‏.‏ وضرب الله مثلاً لعذابهم في الدنيا شأن قرية كانت آمنة الخ‏.‏

و ‏{‏ضربَ‏}‏‏:‏ بمعنى جعل، أي جعل المركّب الدّال عليه وكوّن نظمه، وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقال‏:‏ أرسل فلان مثلاً قوله‏:‏ كيْت وكيْت‏.‏

والتعبير عن ضرب المثل الواقع في حال نزول الآية بصيغة الماضي للتشويق إلى الإصغاء إليه، وهو من استعمال الماضي في الحال لتحقيق وقوعه، مثل ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 1‏]‏ أو لتقريب زمن الماضي من زمن الحال، مثل قد قامت الصلاة‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏ضرب‏}‏ مستعملاً في معنى الطلب والأمر، أي اضرب يا محمد لقومك مثلاً قرية إلى آخره، كما سيجيء عند قوله تعالى ‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء‏}‏ في سورة الزمر ‏(‏29‏)‏‏.‏ وإنما صيغ في صيغة الخبر توسّلاً إلى إسناده إلى الله تشريفاً له وتنويهاً به‏.‏ ويفرّق بينه وبين ما صيغ بصيغة الطلب نحو ‏{‏واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية‏}‏ ‏[‏سورة يس‏:‏ 13‏]‏ بما سيذكر في سورة الزمر فراجعه‏.‏ وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏، وقوله في سورة إبراهيم ‏(‏24‏)‏ ‏{‏ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة‏}‏ وجُعل المثلُ قريةً موصوفة بصفات تبيّن حالها المقصود من التمثيل، فاستغني عن تعيين القرية‏.‏

والنكتة في ذلك أن يصلح هذا المثل للتعريض بالمشركين باحتمال أن تكون القرية قريتهم أعني مكة بأن جعلهم مثلاً للناس من بعدهم‏.‏ ويقْوَى هذا الاحتمالُ إذا كانت هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاب أهلَ مكّة الجوع الذي أنذروا به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم‏}‏ ‏[‏سورة الدخان‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهو الدخان الذي كان يراه أهل مكة أيام القحط الذي أصابهم بدعاء النبي‏.‏

ويؤيد هذا قوله بعد

‏{‏ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 113‏]‏‏.‏

ولعلّ المخاطب بهذا المثل هم المسلمون الذين هاجروا من بعد ما فُتنوا، أي أصحاب هجرة الحبشة تسليةً لهم عن مفارقة بلدهم، وبعثاً لهم على أن يشكروا الله تعالى إذ أخرجهم من تلك القرية فسلموا مما أصاب أهلها وما يصيبهم‏.‏

وتقدّم معنى القرية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كالذي مرّ على قرية‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏259‏)‏‏.‏

والمراد بالقرية أهلها إذ هم المقصود من القرية كقوله‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

والأمن‏:‏ السلامة من تسلّط العدو‏.‏

والاطمئنان‏:‏ الدّعة وهدوء البال‏.‏ وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئنّ قلبي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏260‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ في ‏[‏سورة النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وقدم الأمن على الطمأنينة إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه، كما أن الخوف يسبّب الانزعاج والقلق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يأتيها رزقها رغداً‏}‏ تيسير الرزق فيها من أسباب راحة العيش، وقد كانت مكّة كذلك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء‏}‏ ‏[‏سورة القصص‏:‏ 57‏]‏‏.‏ والرزق‏:‏ الأقوات‏.‏ وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏لا يأتيكما طعام ترزقانه‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏37‏)‏‏.‏

والرّغد‏:‏ الوافر الهنيء‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏وكلا منها رغداً حيث شئتما‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏35‏)‏‏.‏

ومن كل مكان‏}‏ بمعنى من أمكنة كثيرة‏.‏ و‏{‏كل‏}‏ تستعمل في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏25‏)‏‏.‏

والأنعمُ‏:‏ جمع نعمة على غير قياس‏.‏

ومعنى الكفر بأنعم الله‏:‏ الكفر بالمنعِم، لأنهم أشركوا غيره في عبادته فلم يشكروا المنعم الحَقّ‏.‏ وهذا يشير إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 83‏]‏‏.‏

واقتران فعل كفرت بفاء التعقيب بعد كانت آمنة مطمئنة‏}‏ باعتبار حصول الكفر عقب النعم التي كانوا فيها حين طرأ عليهم الكفر، وذلك عند بعثة الرسول إليهم‏.‏

وأما قَرْن ‏{‏فأذاقها الله لباس الجوع‏}‏ بفاء التعقيب فهو تعقيب عُرفي في مثل ذلك المعقّب لأنّه حصل بعد مضي زمن عليهم وهم مصرّون على كفرهم والرسول يكرّر الدعوة وإنذارهم به، فلما حصل عقب ذلك بمدة غير طويلة وكان جزاءً على كفرهم جعل كالشيء المعقّب به كفرهم‏.‏

والإذاقة‏:‏ حقيقتها إحساس اللسان بأحوال الطعوم‏.‏ وهي مستعارة هنا وفي مواضع من القرآن إلى إحساس الألم والأذى إحساساً مَكيناً كتمكّن ذوق الطعام من فم ذائقه لا يجد له مدفعاً، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ في سورة العقود ‏(‏95‏)‏‏.‏

واللباس‏:‏ حقيقته الشيء الذي يلبس‏.‏ وإضافته إلى الجوع والخوف قرينة على أنه مستعار إلى ما يغشَى من حالة إنسان ملازمةٍ له كملازمة اللباس لابسَه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 187‏]‏ بجامع الإحاطة والملازمة‏.‏

ومن قبيلها استعارة ‏(‏البِلى‏)‏ لزوال صفة الشخص تشبيهاً للزوال بعد التمكّن ببلى الثوب بعد جدته في قول أبي الغول الطهوي‏:‏

ولا تَبلَى بسالتهم وإن هم *** صُلوا بالحرب حيناً بعد حين

واستعارة سلّ الثياب إلى زوال المعاشرة في قول امرئ القيس‏:‏

فسُلي ثيابي عن ثيابككِ تَنْسِل *** ومن لطائف البلاغة جعل اللباس لباس شيئين، لأن تمام اللبسة أن يلبس المرء إزاراً ودرعاً‏.‏

ولما كان اللباس مستعاراً لإحاطة ما غشيهم من الجوع والخوف وملازمتهِ أريد إفادة أن ذلك متمكّن منهم ومستقرّ في إدراكهم استقرار الطعام في البَطن إذ يُذاق في اللسان والحلق ويحسّ في الجَوف والأمعاء‏.‏

فاستعير له فعل الإذاقة تمليحاً وجمعاً بين الطعام واللباس، لأن غاية القرى والإكرام أن يُؤْدَب للضيف ويُخلع عليه خلعة من إزار وبرد، فكانت استعارتان تهكّميتان‏.‏

فحصل في الآية استعارتان‏:‏ الأولى‏:‏ استعارة الإذاقة وهي تبعية مصرحة، والثانية‏:‏ اللباس وهي أصليّة مصرّحة‏.‏

ومن بديع النظم أن جعلت الثانية متفرّعة على الأولى ومركّبة عليها بجعل لفظها مفعولاً للفظ الأولى‏.‏ وحصل بذلك أن الجوع والخوف محيطان بأهل القرية في سائر أحوالهم وملازمان لهم وأنهم بالغان منهم مبلغاً أليماً‏.‏

وأجمل بما كانوا يصنعون‏}‏ اعتماداً على سبق ما يبيّنه من قوله‏:‏ ‏{‏فكفرت بأنعام الله‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وكان إنما ذكر مِن صُنعهم أنهم كفروا بأنعم الله، زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عامّ لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمةَ الله، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه منهم‏.‏ وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرّفق بهم‏.‏ وما من قرية أُهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها ‏{‏وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا‏}‏ ‏[‏سورة القصص‏:‏ 59‏]‏‏.‏

والأخذ‏:‏ الإهلاك‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏95‏)‏‏.‏

وتأكيد الجملة بلام القسم وحرففِ التّحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيهاً للسامعين المعرّض بهم لأنه محل الإنذار‏.‏

وتعريف العذاب‏}‏ للجنس، أي فأخذهم عذاب كقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 95‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

تفريع على الموعظة وضرببِ المثل، وخوطب به فريق من المسلمين كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 114، 115‏]‏ إلى آخره‏.‏

ولعلّ هذا موجّه إلى أهل هجرة الحبشة إذ أصبحوا آمنين عند ملك عادل في بلد يَجدون فيه رزقاً حلالاً وهو ما يُضافون به وما يكتسبونه بكدّهم، أيْ إذا علمتم حال القرية الممثّل بها أو المعرّض بها فاشكروا الله الذي نجّاكم من مثل ما أصاب القرية، فاشكروا الله ولا تكفروه كما كفر بنعمته أهل تلك القرية‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏واشكروا نعمت الله‏}‏ مقابل قوله في المثل‏:‏ ‏{‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 112‏]‏ إن كنتم لا تعبدون غيره كما هو مقتضى الإيمان‏.‏

وتعليق ذلك بالشرط للبعث على الامتثال لإظهار صدق إيمانهم‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ واشكروا نعمت الله‏}‏ مع أن مقتضى الظاهر الإضمار لزيادة التذكير، ولتكون جملة هذا الأمر مستقلّة بدلالتها بحيث تصحّ أن تجري مجرى المثل‏.‏

وقيل‏:‏ هذه الآية نزلت بالمدينة ‏(‏والمعنى واحد‏)‏ وهو قول بعيد‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فكلوا‏}‏ للامتنان‏.‏ وإدخال حرف التفريع عليه باعتبار أن الأمر بالأكل مقدمة للأمر بالشكر وهو المقصود بالتّفريع‏.‏ والمقصود‏:‏ فاشكروا نعمة الله ولا تكفروها فيحلّ بكم ما حلّ بأهل القرية المضروبة مثلاً‏.‏

والحلال‏:‏ المأذون فيه شرعاً‏.‏ والطيّب‏:‏ ما يطيب للناس طعمه وينفعهم قُوتهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

هذه الجملة بيان لمضمون جملة ‏{‏فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 114‏]‏ لتمييز الطيّب من الخبيث، فإن المذكورات في المحرّمات هي خبائث خُبثاً فطرياً لأن بعضها مفسد لتولد الغذاء لما يشتمل عليه من المضرّة‏.‏ وتلك هي الميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ وبعضها مناففٍ للفطرة وهو ما أهلّ به لغير الله لأنه مناففٍ لشكر المنعم بها، فالله خلق الأنعام، والمشركون يذكرون اسم غير الله عليها‏.‏

ولإفادة بيان الحلال الطيّب بهذه الجملة جيء فيها بأداة الحصر، أي ما حرّم عليكم إلا الأربعَ المذكورات، فبقي ما عداها طيّباً‏.‏

وهذا بالنظر إلى الطيِب والخُبث بالذات‏.‏ وقد يعرض الخبث لبعض المطعومات عرضاً‏.‏

ومناسبة هذا التحديد في المحرّمات أن بعض المسلمين كانوا بأرض غُربة وقد يؤكل فيها لحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله، وكان بعضهم ببلد يؤكل فيه الدم وما أهلّ به لغير الله‏.‏ وقد مضى تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة والأنعام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

عاد الخطاب إلى المشركين بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏لما تصف ألسنتكم الكذب‏}‏ فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏وضرب الله مثلاً قرية‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 112‏]‏ الآية‏.‏

وفيه تعريض بتحذير المسلمين لأنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية، فربّما بقيت في نفوس بعضهم كراهية أكل ما كانوا يتعفّفون عن أكله في الجاهلية‏.‏

وعلّق النهي بقولهم‏:‏ ‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏‏.‏ ولم يعلّق بالأمر بأكل ما عدا ما حُرم لأن المقصود النهي عن جعل الحلال حراماً والحرام حلالاً لا أكل جميع الحلال وترك جميع الحرام حتى في حال الاضطرار، لأن إمساك المرء عن أكل شيء لكراهيَةٍ أو عَيْف هو عمل قاصر على ذاته‏.‏ وأما قول‏:‏ ‏{‏وهذا حرام‏}‏ فهو يفضي إلى التحجير على غيره ممن يشتهي أن يتناوله‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لما تصف‏}‏ هي إحدى اللامين اللّتين يتعدّى بهما فعل القول وهي التي بمعنى ‏(‏عن‏)‏ الداخلة على المتحدّث عنه فهي كاللام في قوله‏:‏ ‏{‏الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 168‏]‏، أي قالوا عن إخوانهم‏.‏ وليست هي لام التقوية الداخلة على المخاطب بالقول‏.‏

‏{‏وتصف‏}‏ معناه تذكر وصْفاً وحالاً، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وقد تقدم ذلك في هذه السورة، أي لا تقولوا ذلك وصفاً كَذباً لأنه تقَوّل لم يقله الذي له التحليل والتحريم وهو اللّهُ تعالى‏.‏

وانتصب ‏{‏الكذب‏}‏ على المفعول المطلق ل ‏{‏تصف‏}‏، أي وصفاً كذباً، لأنه مخالف للواقع، لأن الذي له التحليل والتحريم لم ينبئهم بما قالوا ولا نصب لهم دَلِيلاً عليه‏.‏

وجملة ‏{‏هذا حلال وهذا حرام‏}‏ هي مقول ‏{‏تقولوا‏}‏، واسم الإشارة حكاية بالمعنى لأوصافهم أشياء بالحِلّ وأشياء بالتحّريم‏.‏

و ‏{‏لتفتروا‏}‏ علة ل ‏{‏تقولوا‏}‏ باعتبار كون الافتراء حاصلاً، لا باعتبار كونه مقصوداً للقائلين، فهي لام العاقبة وليست لام العلّة‏.‏ وقد تقدّم قريباً أن المقصد منها تنزيل الحاصل المحقّق حصولُه بعدَ الفعل منزلةَ الغرض المقصود من الفعل‏.‏

وافتراء الكذب تقدّم آنفاً‏.‏ والذين يفترون هم المشركون الذين حرموا أشياء‏.‏

وجملة ‏{‏متاع قليل‏}‏ استئناف بياني في صورة جواب عما يجيش بخاطر سائل يسأل عن عدم فلاحهم مع مشاهدة كثير منهم في حالة من الفلاح، فأجيب بأن ذلك متاع، أي نفع موقّت زائل ولهم بعده عذاب أليم‏.‏

والآية تحذّر المسلمين من أن يتقوّلوا على الله ما لم يقله بنصّ صريح أو بإيجاد معاننٍ وأوصاف للأفعال قد جَعل لأمثالها أحكاماً، فمن أثبت حلالاً وحراماً بدليل من معاننٍ ترجع إلى مماثلة أفعال تشتمل على تلك المعاني فقد قال بما نصب الله عليه دليلاً‏.‏

وقُدم ‏{‏لهم‏}‏ للاهتمام زيادة في التحذير‏.‏ وجيء بلام الاستحقاق للتنبيه على أن العذاب خقّهم لأجل افترائهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

لما شنّع على المشركين أنهم حرّموا على أنفسهم ما لم يحرّمه الله، وحذّر المسلمين من تحريم أشياء على أنفسهم جرياً على ما اعتاده قومهم من تحريم ما أحلّ لهم، نظّرَ أولئك وحَذّر هؤلاء‏.‏ فهذا وجه تعقيب الآية السالفة بآية ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل‏}‏‏.‏

والمراد منه ما ذُكر في سورة الأنعام، كما روي عن الحسن وعكرمة وقتادة‏.‏ وقد أشار إلى تلك المناسبة قوله‏:‏ ‏{‏وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏، أي وما ظلمناهم بما حرّمنا عليهم ولكنهم كفروا النعمة فحُرِموا من نِعم عظيمة‏.‏ وغيّر أسلوب الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأن جانب التحذير فيه أهم من جانب التنظير‏.‏

وتقديم المجرور في ‏{‏وعلى الذين هادوا‏}‏ للاهتمام، وللإشارة إلى أن ذلك حرّم عليهم ابتداء ولم يكن محرّماً من شريعة إبراهيم عليه السلام التي كان عليها سلفهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كل الطعام كان حلاً لبني إسرئيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 93‏]‏، أي عليهم دون غيرهم فلا تحسبوا أن ذلك من الحنيفية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية من اللواتي قبلها كموقع قوله السابق ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 110‏]‏‏.‏ فلما ذكرت أحوال أهل الشرك وكان منها ما حرّموه على أنفسهم، وكان المسلمون قد شاركوهم أيام الجاهلية في ذلك، ووردت قوارع الذمّ لما صنعوا، كان مما يتوهم علوقه بأذهان المسلمين أن يحسبوا أنهم سينالهم شيء من غمص لما اقترفوه في الجاهلية، فطمأن الله نفوسهم بأنهم لما تابوا بالإقلاع عن ذلك بالإسلام وأصلحوا عملهم بعد أن أفسدوا فإن الله قد غفر لهم مغفرة عظيمة ورحمهم رحمة واسعة‏.‏

ووقع الإقبال بالخطاب على النبي إيماءً إلى أن تلك المغفرة من بركات الدين الذي أرسل به‏.‏

وذكر اسم الرب مضافاً إلى ضمير النبي للنكتة المتقدمة آنفاً في قوله‏:‏ ثم إن ربك للذين هاجروا‏}‏‏.‏

والجهالة‏:‏ انتفاء العلم بما يجب‏.‏ والمراد‏:‏ جهالتهم بأدلّة الإسلام‏.‏

و ‏{‏ثمّ‏}‏ للترتيب الرتبي، لأن الجملة المعطوفة ب ‏{‏ثمّ‏}‏ تضمّنت حكم التوبة وأن المغفرة والرحمة من آثارها، وذلك أهم عند المخاطبين مما سبق من وعيد، أي الذين عملوا السوء جاهلين بما يدلّ على فساد ما علموه‏.‏ وذلك قبل أن يستجيبوا لدعوة الرسول فإنهم في مدّة تأخّرهم عن الدخول في الإسلام موصوفون بأنهم أهل جهالة وجاهلية، أو جاهلين بالعقاب المنتظر على معصية الرسول وعنادهم إياه‏.‏

ويدخل في هذا الحكم من عمل حَراماً من المسلمين جاهلاً بأنه حرام وكان غير مقصّر في جهله‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏17‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك من بعدها‏}‏ تأكيد لفظي لقوله‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك‏}‏ لزيادة الاهتمام بالخبر على الاهتمام الحاصل بحرف التوكيد ولام الابتداء‏.‏ ويتصل خبر ‏{‏إنّ‏}‏ باسمها لبعد ما بينهما‏.‏

ووقع الخبر بوصف الله بصفة المبالغة في المغفرة والرحمة، وهو كناية عن غفرانه لهم ورحمته إيّاهم في ضمن وصف الله بهاتين الصفتين العظيمتين‏.‏

والباء في ‏{‏بجهالة‏}‏ للملابسة، وهي في موضع الحال من ضمير ‏{‏عملوا‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏من بعدها‏}‏ عائد إلى الجهالة أو إلى التوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 122‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال إلى غرض التّنويه بدين الإسلام بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 119‏]‏ المقصودِ به أنّهم كانوا في الجاهلية ثم اتّبعوا الإسلام، فبعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلاً ببيان فضل الدين الذي اتّبعوه‏.‏

وجُعل الثناء على إبراهيم عليه السلام مقدّمة لذلك لِبيان أن فضل الإسلام فضْل زائد على جميع الأديان بأن مبدأه برسول ومنتهاه برسول‏.‏ وهذا فضل لم يحظ به دين آخر‏.‏

فالمقصود بعد هذا التمهيد وهاته المقدّمة هو الإفضاء إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 123‏]‏، وقد قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏

والأصل الأصيل الذي تفرّع عنه وعن فروعه هذا الانتقالُ ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيراً مما أنعم الله به على الناس‏.‏

ونظّرهم باليهود إذ حرّم الله عليهم أشياء، تشديداً عليهم، فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها، وأن الحنيفية هي ما جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعاً من الطيّبات، إلا ما بيّن الله تحريمه في آية ‏{‏قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 145‏]‏ الآية‏.‏

وقد وُصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمّة‏.‏ والأمّة‏:‏ الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏كان الناس أمّة واحدة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏213‏)‏‏.‏ ووصفُ إبراهيم عليه السلام بذلك وصفٌ بديع جامع لمعنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمّة كاملة‏.‏ وهذا كقولهم‏:‏ أنت الرجل كل الرجل، وقول البحْتري‏:‏

ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً *** لدى الفضل حتى عُدّ ألفٌ بواحد

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ مَعاذٌ أمّة قانتٌ لله ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ أنه كان أمّة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته، موحّدٌ لله غيره‏.‏ فهو الذي أحيا الله به التوحيد، وبثّه في الأمم والأقطار، وبنَى له معلماً عظيماً، وهو الكعبة، ودعا الناس إلى حجّه لإشاعة ذكره بين الأمم، ولم يزل باقياً على العصور‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خَطر بن مالك الكاهن‏:‏ ‏"‏ وأنه يبعث يوم القيامة أمّةً وحدَه ‏"‏ رواه السهيلي في «الروض الأنف»‏.‏ ورأيت رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عَمرو بن نُفيل‏.‏

والقانت‏:‏ المطيع‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏238‏)‏‏.‏

واللام لام التقوية لأن العامل فرع في العمل‏.‏

والحنيف‏:‏ المجانب للباطل‏.‏ وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏135‏)‏، والأسماء الثلاثة أخبار ‏{‏كان‏}‏ وهي فضائل‏.‏

‏{‏ولم يك من المشركين‏}‏ اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو دين إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقد صوّروا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة، كما جاء في حديث غزوة الفتح، فليس قوله‏:‏ ‏{‏ولم يك من المشركين‏}‏ مسوقاً مساق الثناء على إبراهيم ولكنه تنزيه له عمّا اختلقه عليه المبطلون‏.‏ فوزانه وزان قوله‏:‏ ‏{‏وما صاحبكم بمجنون‏}‏ ‏[‏سورة التكوير‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وهو كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضدّه مثل ‏{‏وأضلّ فرعون قومه وما هدى‏}‏ ‏[‏سورة طه‏:‏ 79‏]‏‏.‏

ونُفي كونه من المشركين بحرف لم‏}‏ لأن ‏{‏لم‏}‏ تقلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي، وتفيد تجدّد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان‏:‏ انتفاءُ مدلول الفعل بمادته، وتجدّد الانتفاء بصيغته، فيفيد أن إبراهيم عليه السلام لم يتلبّس بالإشراك قط، فإن إبراهيم عليه السلام لم يشرك بالله منذ صار مميّزاً، وأنه لا يتلبّس بالإشراك أبداً‏.‏

و ‏{‏شاكراً لأنعمه‏}‏ خبر رابع عن ‏{‏كان‏}‏‏.‏ وهو مدح لإبراهيم عليه السلام وتعريض بذرّيته الذين أشركوا وكفروا نعمة الله مُقابل قوله‏:‏ ‏{‏فكفرت بأنعم الله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 112‏]‏‏.‏ وتقدم قريباً الكلام على أنعُم الله‏.‏

وجملة ‏{‏اجتباه‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن الثّناء المتقدّم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد، فيجاب بأن الله اجتباه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

والاجتباء‏:‏ الاختيار، وهو افتعال من جبى إذا جمع‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏87‏)‏‏.‏

والهداية إلى الصراط المستقيم‏:‏ الهداية إلى التوحيد ودين الحنيفية‏.‏

وضمير آتيناه‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلّم تفنّناً في الأسلوب لتَوَالي ثلاثة ضمائر غيبة‏.‏

والحسنة في الدنيا‏:‏ كل ما فيه راحة العيش من اطمئنان القلب بالدين، والصحة، والسلامة، وطول العمر، وسعة الرزق الكافي، وحسن الذكر بين الناس‏.‏ وقد تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 201‏]‏‏.‏

والصلاح‏:‏ تمام الاستقامة في دين الحقّ‏.‏ واختير هذا الوصف إشارة إلى أن الله أكرمه بإجابة دعوته، إذ حكى عنه أنه قال‏:‏ ‏{‏ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمّ‏}‏ للترتيب الرتبي المشير إلى أن مضمون الجملة المعطوفة متباعد في رتبة الرفعة على مضمون ما قبلها تنويهاً جليلاً بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وبشريعة الإسلام، وزيادة في التّنويه بإبراهيم عليه السلام، أي جعلناك متّبعاً ملّة إبراهيم، وذلك أجلّ ما أوليناكما من الكرامة‏.‏ وقد بيّنت آنفاً أن هذه الجملة هي المقصود، وأن جملة ‏{‏إن إبراهيم كان أمة‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 120‏]‏ الخ‏.‏ تمهيد لها‏.‏

وزيد ‏{‏أوحينا إليك‏}‏ للتّنبيه على أن اتّباع محمد ملّة إبراهيم كان بوحي من الله وإرشاد صادق، تعريضاً بأن الذين زعموا اتباعهم ملّة إبراهيم من العرب من قبلُ قد أخطأوها بشبهة مثل أميّةَ بن أبي الصَلت، وزيد بن عمرو بن نُفيل، أو بغير شبهة مثل مزاعم قريش في دينهم‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ تفسيرية لفعل ‏{‏أوحينا‏}‏ لأن فيه معنى القول دون حروفه، فاحتيج إلى تفسيره بحرف التفسير‏.‏

والاتّباع‏:‏ اقتفاء السير على سَير آخر‏.‏ وهو هنا مستعار للعمل بمثل عمل الآخر‏.‏

وانتصب ‏{‏حنيفاً‏}‏ على الحال من ‏{‏إبراهيم‏}‏ فيكون زيادة تأكيد لمماثله قبله أو حالاً من ضمير ‏{‏إليك‏}‏ أو من ضمير ‏{‏اتبع‏}‏، أي كن يا محمد حنيفاً كما كان إبراهيم حنيفاً‏.‏ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت بالحنيفية السمحة»‏.‏ وتفسير فعل ‏{‏أوحينا‏}‏ بجملة ‏{‏أن اتبع ملة إبراهيم‏}‏ تفسير بكلام جامع لما أوحَى الله به إلى محمد عليه الصلاة والسلام من شرائع الإسلام مع الإعلام بأنها مقامة على أصول ملّة إبراهيم‏.‏ وليس المراد أوحينا إليك كلمة ‏{‏اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم تفاصيل ملّة إبراهيم، فتعيّن أن المراد أن الموحى به إليه منبجس من شريعة إبراهيم عليه السلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ هو مما أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك‏}‏، وهو عطف على ‏{‏حنيفاً‏}‏ على كلا الوجهين في صاحب ذلك الحال، فعلى الوجه الأول يكون الحال زيادة تأكيد لقوله قبله‏:‏ ‏{‏ولم يك من المشركين‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 120‏]‏، وعلى الوجه الثاني يكون تنزيهاً لشريعة الإسلام المتبعَة لملّة إبراهيم من أن يخالطها شيء من الشرك‏.‏

ونُفي كونه من المشركين هنا بحرف ما‏}‏ النافية لأن ‏{‏ما‏}‏ إذا نفت فعل ‏{‏كان‏}‏ أفادت قوّة النفي ومباعدة المنفي‏.‏ وحسبك أنها يبنى عليها الجحود في نحو‏:‏ ما كان ليفعل كذا‏.‏

فحصل من قوله السابق ‏{‏ولم يك من المشركين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ ومن قوله هنا‏:‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ ثلاث فوائد‏:‏ نفي الإشراك عن إبراهيم في جميع أزمنة الماضي، وتجدّد نفي الإشراك تجدّداً مستمرّاً، وبراءته من الإشراك براءة تامة‏.‏

وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزّه عن أن تتعلّق به شوائب الإشراك لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلناً توحيداً لله بالإلهية ومجتثّاً لوشيج الشرك‏.‏

والشرائعُ الإلهية كلها وإن كانت تحذّر من الإشراك فقد امتاز القرآن من بينها بسدّ المنافذ التي يتسلّل منها الإشراك بصراحة أقواله وفصاحة بيانه، وأنه لم يترك في ذلك كلاماً متشابهاً كما قد يوجد في بعض الكتب الأخرى، مثل ما جاء في التوراة من وصف اليهود بأبناء الله، وما في الأناجيل من موهم بنوّة عيسى عليه السلام لله سبحانه عما يصفون‏.‏

وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع‏:‏ «أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه ‏(‏أي أرض الإسلام‏)‏ أبداً، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تَحْقِرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم»‏.‏ ومعنى اتّباع محمد ملّة إبراهيم الواقع في كثير من آيات القرآن أن دين الإسلام بُني على أصول ملّة إبراهيم، وهي أصول الفطرة، والتوسّط بين الشدّة واللّين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وفي قضية أمر إبراهيم بذبح ولده عليهما السلام، ثم فدائه بذبح شاة رمز إلى الانتقال من شدّة الأديان الأخرى في قرابينها إلى سماحة دين الله الحنيف في القربان بالحيوان دون الآدمي‏.‏ ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 107‏]‏‏.‏

فالشريعة التي تبنى تفاصيلها وتفاريعها على أصول شريعة تعتبر كأنها تلك الشريعة‏.‏ ولذلك قال المحققون من علمائنا‏:‏ إن الحكم الثابت بالقياس في الإسلام يصح أن يقال إنه دين الله وإن كان لا يصح أن يقال‏:‏ قالَه الله‏.‏ وليس المراد أن جميع ما جاء به الإسلام قد جاء به إبراهيم عليه السلام إذ لا يخطر ذلك بالبال، فإن الإسلام شريعة قانونية سلطانية، وشرع إبراهيم شريعة قبائلية خاصة بقوم، ولا أن المراد أن الله أمر النبي محمداً باتّباع ملّة إبراهيم ابتداءً قبل أن يوحي إليه بشرائع دين الإسلام، لأن ذلك وإن كان صحيحاً من جهة المعنى وتحتمله ألفاظ الآية لكنه لا يستقيم إذ لم يرد في شيء من التشريع الإسلامي ما يشير إلى أنه نَسْخ لما كان عليه النبي من قبلُ‏.‏

فاتّباع النبي ملّة إبراهيم كان بالقول والعمل في أصول الشريعة من إثبات التوحيد والمحاجّة له واتّباع ما تقتضيه الفطرة‏.‏ وفي فروعها مما أوحى الله إليه من الحنيفية مثل الختان وخصال الفطرة والإحسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية ينادي على أنها تضمّنت معنى يرتبط بملّة إبراهيم وبمجيء الإسلام على أساسها‏.‏

فلما نفت الآية قبل هذه أن يكون إبراهيم عليه السلام من المشركين ردّاً على مزاعم العرب المشركين أنهم على ملّة إبراهيم، انتقل بهذه المناسبة إلى إبطال ما يشبه تلك المزاعم‏.‏ وهي مزاعم اليهود أن ملّة اليهودية هي ملّة إبراهيم زعماً ابتدعوه حين ظهور الإسلام جحداً لفضيلةٍ فاتتهم، وهي فضيلة بناء دينهم على أول دين للفطرة الكاملة حسداً من عند أنفسهم‏.‏ وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏65‏)‏‏.‏

فهذه الآية مثل آية آل عمران يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، فذلك دالّ على أن هؤلاء الفرق الثلاث اختلفوا في إبراهيم، فكل واحدة من هؤلاء تدّعِي أنها على ملته، إلا أنه اقتصر في هذه الآية على إبطال مزاعم المشركين بأعظم دليل وهو أن دينهم الإشراك وإبراهيمُ عليه السلام ما كان من المشركين‏.‏ وعقب ذلك بإبطال مزاعم اليهود لأنها قد تكون أكثر رواجاً، لأن اليهود كانوا مخالطين العرب في بلادهم، فأهل مكة كانوا يتّصلون باليهود في أسفارهم وأسواقهم بخلاف النّصارى‏.‏

ولما كانت هذه السورة مكّية لم يتعرّض فيها للنّصارى الذين تُعرّض لهم في سورة آل عمران‏.‏

ولهذا تكون جملة إنما جعل السبت‏}‏ استئنافاً بيانياً نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 123‏]‏ إذ يثير سؤالاً من المخالفين‏:‏ كيف يكون الإسلام من ملّة إبراهيم‏؟‏ وفيه جعل يوم الجمعة اليومَ المقدس‏.‏ وقد جعلت التوراة لليهود يوم التّقديس يوم السبت‏.‏ ولعلّ اليهود شغبوا بذلك على المسلمين، فكان قوله‏:‏ ‏{‏إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه‏}‏ بياناً لجواب هذا السؤال‏.‏

وقد وقعت هذه الجملة معترضة بين جملة ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 123‏]‏ وجملة ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 125‏]‏ الخ‏.‏

ولذلك افتتحت الجملة بأداة الحصر إشعاراً بأنها لقلب ما ظنّه السائلون المشغبون‏.‏

وهذا أسلوب معروف في كثير من الأجوبة المورَدة لردّ رأي موهوم، فالضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ عائد إلى إبراهيم على تقدير مضاف، أي اختلفوا في ملّته، وليس عائداً على السبت، إذ لا طائل من المعنى في ذلك‏.‏ والذين اختلفوا في إبراهيم، أي في ملّته هم اليهود لأنهم أصحاب السبت‏.‏

ومعنى ‏{‏جعل السبت‏}‏ فرض وعُيّن عليهم، أي فرضت عليهم أحكام السبت‏:‏ من تحريم العمل فيه، وتحريم استخدام الخدم والدوابّ في يوم السبت‏.‏

وعدل عن ذكر اسم اليهود أو بني إسرائيل مع كونه أوجزَ إلى التّعبير عنهم بالموصول لأن اشتهارهم بالصّلة كاففٍ في تعريفهم مع ما في الموصول وصلته من الإيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏ وذلك الإيماء هو المقصود هنا لأن المقصود إثبات أن اليهود لم يكونوا على الحنيفية كما علمت آنفاً‏.‏

وليس معنى فِعل ‏{‏اختلفوا‏}‏ وقُوع خلاف بينهم بأمر السبت بل فعل ‏{‏اختلفوا‏}‏ مرادٌ به خالفوا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم «واختلافهم أنبيائهم» أي عملهم خلاف ما أمر به أنبياؤهم‏.‏ فحاصل المعنى هكذا‏:‏ ما فُرض السبت على أهل السبت إلا لأنهم لم يكونوا على ملّة إبراهيم، إذ مما لا شكّ فيه عندهم أن ملّة إبراهيم ليس منها حرمة السبت ولا هو من شرائعها‏.‏

ولم يقع التعرّض لليوم المقدّس عند النصارى لعدم الداعي إلى ذلك حين نزول هذه السورة كما علمت‏.‏

ولا يؤخذ من هذا أن ملّة إبراهيم كان اليومُ المقدّسُ فيها يومَ الجمعة لعدم ما يدلّ على ذلك، والكافي في نفي أن يكون اليهود على ملّة إبراهيم أن يوم حرمة السبت لم تكن من ملّة إبراهيم‏.‏

ثم الأظهر أن حرمة يوم الجمعة ادخرت للملّة الإسلامية لقول النبي صلى الله عليه وسلم «فهذا اليومُ الذي اختلفوا فيه فَهدانا الله إليه فالناس لنا فيه تبع اليهودُ غداً والنصارى بعد غَد»‏.‏ فقوله‏:‏ «فهدانا الله إليه» يدلّ على أنه لم يسبق ذلك في ملّة أخرى‏.‏

فهذا وجه تفسير هذه الآية، ومحمل الفعل والضمير المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏اختلفوا فيه‏}‏‏.‏

وما ذكره المفسّرون من وجوه لا يخلو من تكلّف وعدم طائل‏.‏ وقد جعلوا ضمير ‏{‏فيه‏}‏ عائداً إلى ‏{‏السبت‏}‏‏.‏ وتأوّلوا معنى الاختلاف فيه بوجوه‏.‏ ولا مناسبة بين الخبر وبين ما تُوهّم أنه تعليل له على معنى جعل السبت عليهم لأنهم اختلفُوا على نبيئهم موسى عليه السلام لأجل السبت، لأن نبيّهم أمرهم أن يعظّموا يومَ الجمعة فأبَوا، وطلبوا أن يكون السبت هو المفضّل من الأسبوع بعلّةِ أن الله قضى خلق السماوات والأرضين قبل يوم السبت، ولم يكن في يوم السبت خَلق، فعاقبهم الله بالتّشديد عليهم في حرمة السبت‏.‏ كذا نقل عن ابن عباس‏.‏ وهو لا يصحّ عنه، وكيف وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا لهم لا تعدوا في السبت‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 154‏]‏‏.‏ وكيف يستقيم أن يعدل موسى عليه السلام عن اليوم الذي أمر الله بتعظيمه إلى يوم آخر لشهوة قومه وقد عُرف بالصلابة في الدين‏.‏

من المفسرين من زعم أن التوراة أمرتهم بيوم غير معيّن فعيّنوه السبت‏.‏ وهذا لا يستقيم لأن موسى عليه السلام عاش بينهم ثمانين سنة فكيف يصحّ أن يكونوا فعلوا ذلك لسوء فهمهم في التوراة‏.‏

ولعلّك تلوح لك حيرة المفسّرين في التئام معاني هذه الآية‏.‏

وإنما‏}‏ للحصر وهو قصر قلب مقصود به الردّ على اليهود بالاستدلال عليهم بأنهم ليسوا على ملّة إبراهيم، لأن السبت جعله الله لهم شرعاً جديداً بصريح كتابهم إذ لم يكن عليه سلفهم‏.‏ وتركيب الاستدلال‏:‏ إن حرمة السبت لم تكن من ملّة إبراهيم فأصحاب تلك الحرمة ليسوا على ملّة إبراهيم‏.‏

ومعنى ‏{‏جعل السبت‏}‏ أنه جعل يوماً معظّماً لا عمل فيه، أي جعل الله السبت معظّماً، فحذف المفعول الثاني لفعل الجعل لأنه نزل منزلة اللازم إيجازاً ليشمل كل أحوال السبت المحكية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا لهم لا تعدوا في السبت‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 154‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذ يعدون في السبت‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 163‏]‏‏.‏

وضمن فعل ‏{‏جعل‏}‏ معنى فُرض فعدي بحرف ‏{‏على‏}‏‏.‏

وقد ادّخر الله تعالى لمحمد أن يكون هو الوارث لأصول إبراهيم، فجعل لليهود والنصارى ديناً مخالفاً لملّة إبراهيم، ونصَب على ذلك شعاراً وهو اليوم الذي يعرف به أصل ذلك الدين وتغيير ذلك اليوم عند بعثة المسيح عليه السلام إشارة إلى ذلك، لئلا يكون يوم السبت مسترسلاً في بني إسرائيل، تنبيهاً على أنهم عرضة لنسخ دينهم بدين عيسى عليه السلام وإعداداً لهم لتلّقي نسخ آخر بعد ذلك بدين آخر يكون شعاره يوماً آخر غير السبت وغير الأحد‏.‏ فهذا هو التفسير الذي به يظهر انتساق الآي بعضها مع بعض‏.‏

وبينهم‏}‏ ظرف للحكم المستفاد من «يحكم»، أي حكماً بين ظهرانيهم‏.‏ وليست ‏{‏بينهم‏}‏ لتعدية «يحكم» إذ ليس ثمّة ذكر الاختلاف بين فريقين هنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏‏.‏

يتنزل معنى هذه الآية منزلة البيان لقوله‏:‏ ‏{‏أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 123‏]‏ فإن المراد بما أوحي إليه من اتّباع ملّة إبراهيم هو دين الإسلام، ودين الإسلام مبنيّ على قواعد الحنيفية، فلا جرم كان الرسول بدعوته الناس إلى الإسلام داعياً إلى اتّباع ملّة إبراهيم‏.‏

ومخاطبة الله رسوله بهذا الأمر في حين أنه داع إلى الإسلام وموافق لأصول ملّة إبراهيم دليل على أن صيغة الأمر مستعملة في طلب الدّوام على الدعوة الإسلامية مع ما انضمّ إلى ذلك من الهداية إلى طرائق الدعوة إلى الدين‏.‏

فتضمّنت هذه الآية تثبيت الرسول على الدعوة وأن لا يؤيسه قول المشركين له ‏{‏إنما أنت مفتر‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 101‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏إنما يعلّمه بشر‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 103‏]‏؛ وأن لا يصدّه عن الدعوة أنه تعالى لا يهدي الذين لا يؤمنون بآيات الله‏.‏ ذلك أن المشركين لم يتركوا حيلة يحسبونها تثبّط النبي عن دعوته إلا ألقوا بها إليه من‏:‏ تصريح بالتكذيب، واستسخار، وتهديد، وبذاءة، واختلاق، وبهتان، كما ذلك محكي في تضاعيف القرآن وفي هذه السورة، لأنهم يجهلون مراتب أهل الاصطفاء ويزنونهم بمعيار موازين نفوسهم، فحسبوا ما يأتونه من الخزعبلات مثبطاً له وموشكاً لأن يصرفه عن دعوتهم‏.‏

وسبيل الربّ‏:‏ طريقهُ‏.‏ وهو مجاز لكل عمل من شأنه أن يبلّغ عاملَه إلى رضى الله تعالى، لأن العمل الذي يحصل لعامله غرض ما يُشبهِ الطريقَ الموصل إلى مكان مقصود، فلذلك يستعار اسم السبيل لسبب الشيء‏.‏

قال القرطبي‏:‏ إن هذه الآية نزلت بمكّة في وقت الأمر بمهادنة قريش، أي في مدّة صُلح الحديبية‏.‏

وحكى الواحدي عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت عقِب غزوة أُحد لما أحزن النبي منظرُ المُثلة بحمزة رضي الله عنه وقال‏:‏ لأقتلنّ مكانه سبعين رجلاً منهم‏.‏ وهذا يقتضي أن الآية مدنية‏.‏

ولا أحسب ما ذكراه صحيحاً‏.‏ ولعلّ الذي غَرّ مَن رواه قوله‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ كما سيأتي، بل موقع الآية متّصل بما قبله غير محتاج إلى إيجاد سبب نزول‏.‏

وإضافة ‏{‏سبيل‏}‏ إلى ‏{‏ربك‏}‏ باعتبار أن الله أرشد إليه وأمر بالتزامه‏.‏ وهذه الإضافة تجريد للاستعارة‏.‏ وصار هذا المركب علماً بالغلبة على دين الإسلام، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله‏}‏ ‏[‏سورة الأنفال‏:‏ 36‏]‏، وهو المراد هنا، وفي قوله عقبه ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 125‏]‏‏.‏

ويطلق سبيل الله علماً بالغلبة أيضاً على نصرة الدين بالقتال كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والباء في قوله‏:‏ بالحكمة‏}‏ للملابسة، كالباء في قول العرب للمعرّس‏:‏ بالرفاء والبنين، بتقدير‏:‏ أعرست، يدل عليه المقام، وهي إما متعلقة ب ‏{‏ادع‏}‏، أو في موضع الحال من ضمير ‏{‏ادع‏}‏‏.‏

وحذف مفعول ادع‏}‏ لقصد التعميم، أو لأن الفعل نزل منزلة اللازم، لأن المقصود الدوام على الدعوة لا بيان المدعوين، لأن ذلك أمر معلوم من حال الدعوة‏.‏

ومعنى الملابسة يقتضي أن لا تخلو دعوته إلى سبيل الله عن هاتين الخصلتين‏:‏ الحكمة، والموعظة الحسنة‏.‏

فالحكمة‏:‏ هي المعرفة المُحكمة، أي الصائبة المجرّدة عن الخطأ، فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وفي تهذيبهم‏.‏ ولذلك عرّفوا الحكمة بأنها‏:‏ معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض ولا تخطئ في العلل والأسباب‏.‏ وهي اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحاً مستمراً لا يتغيّر‏.‏ وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏269‏)‏ مفصّلاً فانظره‏.‏ وتطلق الحكمة على العلوم الحاصلة للأنبياء، ويرادفها الحكم‏.‏

والموعظة‏}‏‏:‏ القول الذي يلين نفس المقول له لعمل الخير‏.‏ وهي أخصّ من الحكمة لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها‏.‏ وتقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وعظهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏63‏)‏‏.‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏145‏)‏‏.‏

ووصفها بالحُسْن تحريض على أن تكون ليّنة مقبولة عند الناس، أي حسنة في جنسها، وإنما تتفاضل الأجناس بتفاضل الصفات المقصودة منها‏.‏

وعطف الموعظة‏}‏ على «الحكمة» لأنها تغاير الحكمة بالعُموم والخصوص الوجهي، فإنه قد يسلك بالموعظة مسلك الإقناع، فمن الموعظة حكمة، ومنها خطابة، ومنها جدل‏.‏

وهي من حيث ماهيّتها بينها وبين الحكمة العموم والخصوص من وجه، ولكن المقصود بها ما لا يخرج عن الحكمة والموعظة الحسنة بقرينة تغيير الأسلوب، إذ لم يعطف مصدر المجادلة على الحكمة والموعظة بأن يقال‏:‏ والمجادلة بالتي هي أحسن، بل جيء بفعلها، تنبيهاً على أن المقصود تقييد الإذن فيها بأن تكون بالتي هي أحسن، كما قال‏:‏ ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

والمجادلة‏:‏ الاحتجاج لتصويب رأي وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك‏.‏ ولما كان ما لقيه النبي من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن‏.‏ وتقدمت قريباً عند قوله‏:‏ ‏{‏تجادل عن نفسها‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وتقدمت من قبل عند قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏107‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا ألجأتك الدعوة إلى محاجّة المشركين فحاججهم بالتي هي أحسن‏.‏

والمفضل عليه المحاجّة الصادرة منهم، فإن المجادلة تقتضي صدور الفعل من الجانبين، فعلم أن المأمور به أن تكون المحاجّة الصادرة منه أشدّ حسناً من المحاجّة الصادرة منهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هن أحسن‏}‏ ‏[‏سورة المؤمنون‏:‏ 96‏]‏‏.‏

ولما كانت المجادلة لا تكون إلا مع المعارضين صرّح في المجادلة بضمير جمع الغائبين المراد منه المشركون، فإن المشركين متفاوتون في كيفيات محاجتهم، فمنهم من يحاجّ بلين، مثل ما في الحديث‏:‏ أن النبي قرأ القرآن على الوليد بن المغيرة ثم قال له‏:‏ هل ترى بما أقول بأساً قال‏:‏ لا والدماء‏.‏

وقرأ النبي القرآن على عبد الله بن أُبيّ ابن سَلول في مجلس قومه، فقال عبد الله بن أبي‏:‏ أيها المرء إن كان ما تقول حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثه إيّاه ومن لم يأتك فلا تغتّه ولا تأته في مجلسه بما يكره منه‏.‏

وتصدّي المشركين لمجادلة النبي تكرّر غير مرّة‏.‏ ومن ذلك ما روي عن ابن عباس‏:‏ أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ الآية، قال عبد الله الزِّبَعْرَى‏:‏ لأخصُمَنّ محمداً، فجاءه فقال‏:‏ يا محمد قد عُبد عيسى، وعُبدتتِ الملائكة فهل هم حصب لجهنّم‏؟‏ فقال النبي‏:‏ اقرأ ما بعدُ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 101‏]‏‏.‏ أخرجه ابن المنذر وابن مردويه والطبراني، وأبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ‏.‏

وقُيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالباً ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقّع ذلك منه، كانت مظّنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، أرشد الله رسوله أن يتوخّى في الموعظة أن تكون حسنة، أي بِإلانَة القول وترغيب الموعوظ في الخير، قال تعالى خطاباً لموسى وهارون‏:‏ ‏{‏اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى‏}‏ ‏[‏سورة طه‏:‏ 43‏]‏ وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية أنه قال‏:‏ وعظَنا رسولُ الله موعظة وجِلَت منها القلوب وذَرَفَتْ منها العيون الحديث‏.‏

وأما الحكمة فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلّم يهتمّ بتعليم طلابه فلا تكون إلا في حالة حسنة فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة‏.‏

والمجادلة لما كانت محاجة في فعل أو رأي لقصد الإقناع بوجه الحقّ فيه فهي لا تعدو أن تكون من الحكمة أو من الموعظة، ولكنها جعلت قسيماً لهما هنا بالنظر إلى الغرض الداعي إليها‏.‏

وإذ قد كانت مجادلة النبي لهم من ذيول الدعوة وُصفت بالتي هي أحسن كما وصفت الموعظة بالحسنة‏.‏

وقد كان المشركون يجادلون النبي قصداً لإفحامه، وتمويهاً لتغليطه نبّه الله على أسلوب مجادلة النبي إيّاهم استكمالاً لآداب وسائل الدعوة كلها‏.‏ فالضمير في وجادلهم‏}‏ عائد إلى المشركين بقرينة المقام لظهور أن المسلمين لا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يتلقّون منه تلقّي المستفيد والمسترشد‏.‏ وهذا موجب تغيير الأسلوب بالنسبة إلى المجادلة إذ لم يقل‏:‏ والمجادلةِ الحسنة، بل قال‏:‏ ‏{‏وجادلهم‏}‏، وقال تعالى أيضاً‏:‏ ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن‏}‏

‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

ويندرج في التي هي أحسن ردّ تكذيبهم بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجّه، مثل قوله تعالى ‏{‏وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سورة سبأ‏:‏ 24‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون‏}‏ ‏[‏سورة الحج‏:‏ 68‏]‏‏.‏

والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة، وأن الرسول إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة‏.‏ وذلك كله بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ومن أحوال المخاطبين من خاصّة وعامّة‏.‏

وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملاً على هذه الأحوال الثلاثة؛ بل قد يكون الكلام حكمة مشتملاً على غِلظة ووعيد وخالياً عن المجادلة‏.‏ وقد يكون مجادلة غير موعظة، كقوله تعالى‏:‏ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض‏.‏

وكقول النبي إنك لتأكل المِرباع وهو حرام في دينك، قاله لعديّ بن حاتم وهو نصراني قبلَ إسلامه‏.‏

ومن الإعجاز العلمي في القرآن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحقّ، وهي البرهان والخطابة والجَدل المعبّر عنها في علم المنطق بالصناعات وهي المقبولة من الصناعات‏.‏ وأما السفسطة والشعر فيَرْبَأُ عنهما الحكماء الصادقون بله الأنبياء والمرسلين‏.‏

قال فخر الدين‏:‏ إن الدعوة إلى المذهب والمقالةِ لا بدّ من أن تكون مبنيّة على حُجّة‏.‏ والمقصود من ذكر الحجّة إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب السامعين، وإما إلزام الخصم وإفحامُه‏.‏

أما القسم الأول فينقسم إلى قسمين لأن تلك الحجّة إما أن تكون حُجّة حقيقية يقينية مبرأة من احتمال النقيض، وإما أن لا تكون كذلك بل تكون مفيدة ظناً ظاهراً وإقناعاً، فظهر انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة‏:‏

أولها‏:‏ الحجّة المفيدة للعقائد اليقينية وذلك هو المسمّى بالحكمة‏.‏

وثانيها‏:‏ الأمارات الظنّية وهي الموعظة الحسنة‏.‏

وثالثها‏:‏ الدلائل التي القصد منها إفحام الخصم وذلك هو الجَدل‏.‏

وهو على قسمين، لأنه‏:‏ إما أن يكون مركّباً من مقدّمات مسلّمة عند الجمهور وهو الجدل الواقع على الوجه الأحسن، وإما أن يكون مركّباً من مقدّمات باطلة يحاول قائلها ترويجها على المستمعين بالحيل الباطلة‏.‏ وهذا لا يليق بأهل الفضل» ا ه‏.‏

وهذا هو المدعو في المنطق بالسفسطة، ومنه المقدمات الشعرية وهي سفسطة مزوّقة‏.‏

والآية جامعة لأقسام الحجّة الحقّ جمعاً لمواقع أنواعها في طرق الدعوة، ولكن على وجه التّداخل، لا على وجه التباين والتقسيم كما هو مصطلح المنطقيين، فإن الحجج الاصطلاحية عندهم بعضها قسيم لبعض، فالنسبة بينها التبايُن‏.‏ أما طرق الدعوة الإسلامية فالنسبة بينها العموم والخصوص المطلق أو الوجهي‏.‏ وتفصيله يخرج بنا إلى تطويل، وذهنك في تفكيكها غير كليل‏.‏

فإلى الحكمة ترجع صناعة البرهان لأنه يتألف من المقدمات اليقينية وهي حقائق ثابتة تقتضي حصول معرفة الأشياء على ما هي عليه‏.‏

وإلى الموعظة ترجع صناعة الخطابة لأن الخطابة تتألف من مقدّمات ظنّية لأنها مراعى فيها ما يغلب عند أهل العقول المعتادة‏.‏ وكفى بالمقبولات العادية موعظة‏.‏ ومثالها من القرآن قوله تعالى ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 22‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ومقتاً‏}‏ أشار إلى أنّهم كانوا إذا فعلوه في الجاهلية يُسمونه نكاح المَقت، فأجري عليه هذا الوصف لأنه مُقنع بأنه فاحشة، فهو استدلال خطابي‏.‏

وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدّلة المسلّمة بين المتحاجَيْن أو من الأدّلة المشهورة، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ولا يلتحق بمرتبة الحكمة‏.‏ وقد يكون مما يُقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة‏.‏ وسمّاه حكماء الإسلام جدلاً تقريباً للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏‏.‏

هذه الجملة تعليل للأمر بالاستمرار على الدّعوة بعد الإعلام بأن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، وبعد وصف أحوال تكذيبهم وعنادهم‏.‏

فلما كان التّحريض بعد ذلك على استدامة الدعوة إلى الدين محتاجاً لبيان الحكمة في ذلك بيّنت الحكمة بأن الله هو أعلم بمصير الناس وليس ذلك لِغير الله من الناس فما عليك إلا البلاغ، أي فلا تيْأس من هدايتهم ولا تتجاوز إلى حدّ الحزن على عدم اهتدائهم لأن العلم بمن يهتدي ومن يضلّ موكول إلى الله وإنما عليك التبليغ في كل حال‏.‏ وهذا قول فصل بين فريق الحقّ وفريق الباطل‏.‏

وقُدم العلم بمن ضَلّ لأنه المقصود من التعليل لأن دعوتهم أوكد والإرشاد إلى اللّين في جانبهم بالموعظة الحسنة والمجادلة الحسنى أهمّ، ثم أتبع ذلك بالعلم بالمهتدين على وجه التكميل‏.‏

وفيه إيماء إلى أنه لا يدري أن يكون بعض من أيس من إيمانه قد شرح الله صدره للإسلام بعد اليأس منه‏.‏

وتأكيد الخبر بضمير الفصل للاهتمام به‏.‏ وأما ‏{‏إنّ‏}‏ فهي في مقام التعليل ليست إلا لمجرّد الاهتمام، وهي قائمة مقام فاء التفريع على ما أوضحه عبد القاهر في دلائل الإعجاز؛ فإن إفادتها التأكيد هنا مستغنى عنها بوجود ضمير الفصل في الجملة المفيدة لقصر الصّفة على الموصوف، فإن القصر تأكيد على تأكيد‏.‏

وإعادة ضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏وهو أعلم بالمهتدين‏}‏ للتّنصيص على تقوية هذا الخبر لأنه لو قيل‏:‏ وأعلمُ بالمهتدين، لاحتمل أن يكون معطوفاً على جملة ‏{‏هو أعلم بمن ضل‏}‏ على أنه خبر ‏(‏لإنّ‏)‏ غيرُ داخل في حيّز التقوية بضمير الفصل، فأعيد ضمير الفصل لدفع هذا الاحتمال‏.‏

ولم يقل‏:‏ وبالمهتدين، تصريحاً بالعلم في جانبهم ليكون صريحاً في تعلّق العلم به‏.‏ وهذان القصران إضافيان، أي ربّك أعلم بالضّالين والمهتدين، لا هؤلاء الذين يظنّون أنهم مهتدون وأنكم ضالون‏.‏

والتفضيل في قوله‏:‏ ‏{‏هو أعلم‏}‏ تفضيل على علم غيره بذلك‏.‏ فإنه علم متفاوت بحسب تفاوت العالمين في معرفة الحقائق‏.‏

وفي هذا التفضيل إيماء إلى وجوب طلب كمال العلم بالهدى، وتمييز الحقّ من الباطل، وغوص النظر في ذلك، وتجنّب التسرّع في الحكم دون قوة ظنّ بالحقّ، والحذر من تغلّب تيارات الأهواء حتى لا تنعكس الحقائق ولا تسير العقول في بنَيّات الطرائق، فإن الحقّ باققٍ على الزمان والباطل تكذبه الحجّة والبرهان‏.‏

والتخلّق بهذه الآية هو أن كل من يقوم مقاماً من مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في إرشاد المسلمين أو سياستهم يجب عليه أن يكون سالكاً للطرائق الثلاث‏:‏ الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وإلا كان منصرفاً عن الآداب الإسلامية وغير خليق بما هو فيه من سياسة الأمّة، وأن يخشى أن يعرّض مصالح الأمّة للتلف، فإصلاح الأمّة يتطلّب إبلاغ الحقّ إليها بهذه الوسائل الثلاث‏.‏ والمجتمعُ الإسلامي لا يخلو عن متعنّت أو مُلَبّس وكلاهما يُلقي في طريق المصلحين شَواكَ الشبه بقصد أو بغير قصد‏.‏ فسبيل تقويمه هو المجادلة، فتلك أدنى لإقناعه وكشف قناعه‏.‏

في «الموطأ» أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في خطبة خطبها في آخر عمره‏:‏ «أيها الناس قد سُنّت لكم السّنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تضلّوا بالناس يميناً وشمالاً» وضرب بإحدى يديه على الأخرى‏.‏ ‏(‏لعلّه ضرب بيده اليسرى على يده اليمنى الممسكة السيف أو العصا في حال الخطبة‏)‏‏.‏ وهذا الضرب علامة على أنه ليس وراء ما ذُكر مطلب للناس في حكم لم يسبق له بيان في الشريعة‏.‏

وقدم ذكر علمه ‏{‏بمن ضل عن سبيله‏}‏ على ذكر علمه ‏{‏بالمهتدين‏}‏ لأن المقام تعريض بالوعيد للضالين، ولأن التخلية مقدمة على التحلية، فالوعيد مقدّم على الوعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

عَطف على جملة ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 125‏]‏، أي إن كان المقام مقام الدعوة فلتكن دعوتك إيّاهم كما وصفنا، وإن كنتم أيها المؤمنون معاقبين لمشركين على ما نالكم من أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بِتجاوُز حدّ ما لقيتم منهم‏.‏

فهذه الآية متّصلة بما قبلها أتم اتّصال، وحسبك وجود العاطف فيها‏.‏ وهذا تدرّج في رتب المعاملة من معاملة الذين يدعون ويوعظون إلى معاملة الذين يجادلون ثم إلى معاملة الذين يجازون على أفعالهم، وبذلك حصل حسن الترتيب في أسلوب الكلام‏.‏

وهذا مختار النحاس وابن عطية وفخر الدين، وبذلك يترجّح كون هذه الآية مكية مع سوابقها ابتداء من الآية الحادية والأربعين، وهو قول جابر بن زيد، كما تقدم في أول السورة‏.‏ واختار ابن عطية أن هذه الآية مكّية‏.‏

ويجوز أن تكون نزلت في قصة التّمثيل بحَمزة يوم أُحُد، وهو مرويّ بحديث ضعيف للطبراني‏.‏ ولعلّه اشتبه على الرّواة تذكر النبي الآيةَ حين توعّد المشركين بأن يمثّل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم‏.‏

والخطاب للمؤمنين ويدخل فيه النبي‏.‏

والمعاقبة‏:‏ الجزاء على فعل السوء بما يسوء فاعل السوء‏.‏

فقوله‏:‏ بمثل ما عوقبتم‏}‏ مشاكَلَةٌ لِ ‏{‏عاقبتم‏}‏‏.‏ استعمل ‏{‏عوقبتم‏}‏ في معنى عوملتم به، لوقوعه بعد فعل ‏{‏عاقبتم‏}‏، فهو استعارة وجه شبهها هو المشاكلة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏عوقبتم‏}‏ حقيقة لأن ما يلقونه من الأذى من المشركين قصدوا به عقابهم على مفارقة دين قومهم وعلى شتم أصنامهم وتسفيه آبائهم‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فعاقبوا‏}‏ للوجوب باعتبار متعلّقه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏بمثل ما عوقبتم به‏}‏ فإن عدم التجاوز في العقوبة واجب‏.‏

وفي هذه الآية إيماء إلى أن الله يُظهر المسلمين على المشركين ويجعلهم في قبضتهم، فلعلّ بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحَنق على الإفراط في العقاب‏.‏ فهي ناظرة إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 110‏]‏‏.‏

ورغّبهم في الصبر على الأذى، أي بالإعراض عن أذى المشركين وبالعفو عنه، لأنه أجلب لقلوب الأعداء، فوصف بأنه خير، أي خير من الأخذ بالعقوبة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم‏}‏ ‏[‏سورة فصّلت‏:‏ 34‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وضمير الغائب عائد إلى الصبر المأخوذ من فعل صبرتم‏}‏، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏سورة المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وأكّد كون الصبر خيراً بلام القسم زيادة في الحثّ عليه‏.‏

وعبّر عنهم بالصابرين إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة التنويه بصفة الصابرين، أي الصبر خبر لجنس الصابرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

خص النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصبر للإشارة إلى أن مقامه أعلى، فهو بالتزام الصبر أولى، أخذاً بالعزيمة بعد أن رخّص لهم في المعاقبة‏.‏

وجملة ‏{‏وما صبرك إلا بالله‏}‏ معترضة بين المتعاطفات، أي وما يحصل صبرك إلا بتوفيق الله إيّاك‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أن صبر النبي صلى الله عليه وسلم عظيم لقي من أذى المشركين أشدّ مما لقيه عموم المسلمين‏.‏ فصبره ليس كالمعتاد، لذلك كان حصوله بإعانة من الله‏.‏

وحذره من الحزن عليهم أن لم يؤمنوا كقوله‏:‏ ‏{‏لعلّك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ثم أعقبه بأن لا يضيق صدره من مكرهم، وهذه أحوال مختلفة تحصل في النفس باختلاف الحوادث المسببة لها، فإنهم كانوا يعاملون النبي مرة بالأذى علناً، ومرة بالإعراض عن الاستماع إليه وإظهارِ أنهم يغيظُونه بعدم متابعته، وآونة بالكيد والمكر له وهو تدبير الأذى في خفاء‏.‏

والضيق بفتح الضّاد وسكون الياء مصدر ضاق، مثل السّير والقَول‏.‏ وبها قرأ الجمهور‏.‏

ويقال‏:‏ الضِيق بكسر الضاد مثل‏:‏ القيل‏.‏ وبها قرأ ابن كثير‏.‏

وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏وضائق به صدرك‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والمراد ضيق النفس، وهو مستعار للجزع والكدر، كما استعير ضدّه وهو السعة والاتّساع للاحتمال والصبر‏.‏ يقال‏:‏ فلان ضيق الصدر، قال تعالى في آخر الحجر ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏}‏ ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 97‏]‏‏.‏ ويقال سعة الصدر‏.‏

والظرفية في ‏{‏ضيق‏}‏ مجازية، أي لا يلابسك ضيق ملابسة الظرف للحال فيه‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ مصدرية، أي من مكرهم‏.‏ واختير الفعل المنسبك إلى مصدر لما يؤذن به الفعل المضارع من التجدّد والتكرّر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏(‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ‏[‏128‏]‏‏)‏ تعليل للأمر بالاقتصار على قدر الجرم في العقوبة وللترغيب في الصبر على الأذى والعفو عن المعتدين ولتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصبر والاستعانة على تحصيله بمعونة الله تعالى ولصرف الكدر عن نفسه من جراء أعمال الذين لم يؤمنوا به

علل ذلك كله بأن الله مع الذين يتقونه فيقفون عندما حد لهم ومع المحسنين‏.‏ والمعية هنا مجاز في التأييد والنصر

وأتي في جانب التقوى بصلة فعلية ماضية للإشارة إلى لزوم حصولها وتقررها من قبل لأنها من لوازم الإيمان لأن التقوى آيلة إلى أداء الواجب وهو حق على المكلف‏.‏ ولذلك أمر فيها بالاقتصار على قدر الذنب

وأتي في جانب الإحسان بالجملة الاسمية للإشارة إلى كون الإحسان ثابتا لهم دائما معهم لأن الإحسان فضيلة فبصاحبه حاجة إلى رسوخه من نفسه وتمكنه