فصل: تفسير الآية رقم (15)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏

هذه الجملة بيان أو بدل اشتمال من جملة ‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه‏}‏ مع توابعها‏.‏ وفيه تبيين اختلاف الطائر بين نافع وضار، فطائر الهداية نفع لصاحبه وطائر الضلال ضر لصاحبه‏.‏ ولكون الجملة كذلك فصلت ولم تعطف على التي قبلها‏.‏

وجملة ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ واقعة موقع التعليل لمضمون جملة ‏{‏ومن ضل فإنما يضل عليها‏}‏ لما في هذه من عموم الحكم فإن عَمل أحد لا يُلحق نفعُه ولا ضَره بغيره‏.‏

ولما كان مضمون هذه الجملة معنى مهما اعتبر إفادة أنفاً للسامع، فلذلك عطفت الجملة ولم تُفصل‏.‏ وقد روعي فيها إبطال أوهام قوم يظنون أن أوزارهم يحملها عنهم غيرهم‏.‏ وقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من أيمة الكفر كان يقول لقريش‏:‏ اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، أي تبعاتكم ومؤاخذتكم بتكذيبه إن كان فيه تبعة‏.‏ ولعله قال ذلك لما رأى ترددهم في أمر الإسلام وميلهم إلى النظر في أدلة القرآن خشية الجزاء يوم البعث، فأراد التمويه عليهم بأنه يتحمل ذنوبهم إن تبين أن محمداً على حق، وكان ذلك قد يروج على دهمائهم لأنهم اعتادوا بالحملات والكفالات والرهائن، فبين الله للناس إبطال ذلك إنقاذاً لهم من الاغترار به الذي يهوي بهم إلى المهالك مع ما في هذا البيان من تعليم أصل عظيم في الدين وهو ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏‏.‏ فكانت هذه الآية أصلاً عظيماً في الشّريعة، وتفرع عنها أحكام كثيرة‏.‏

ولمّا روى ابن عمر عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليْه ‏"‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «يرحم الله أبا عبد الرحمان، ما قال رسول الله ذلك والله يقول‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏‏.‏

ولما مُرّ برسول الله جنازةُ يهودية يبكي عليها أهلها فقال‏:‏ «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب»‏.‏

والمعنى أن وزر أحد لا يحمله غيره فإذا كان قد تسبب بوزره في إيقاع غيره في الوِزر حُمل عليْه وزر بوزر غيره لأنه متسبب فيه، وليس ذلك بحمل وزر الغير عليه ولكنه حمل وزر نفسه عليها وهو وزر التسبب في الأوزار‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون، وكذلك وزر من يَسُنّ للناس وزراً لم يكونوا يعملونه من قبل‏.‏ وفي الصحيح‏}‏‏:‏ «مَا من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوللِ كِفْل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل»‏.‏

وسكتت الآية عن أن لا ينتفع أحد بصالح عمل غيره اكتفاء إذ لا داعي إلى بيانه لأنه لا يوقع في غرور، وتعلم المساواة بطريق لحن الخطاب أو فحواه، وقد جاء في القرآن ما يومئ إلى أن المتسبب لأحد في هدي ينال من ثواب المهتدي قال تعالى‏:‏

‏{‏واجعلنا للمتقين إماماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 74‏]‏ وفي الحديث‏:‏ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير‏.‏

ومن التخليط توهم أن حمل الدية في قتل الخطأ على العاقلة مناففٍ لهذه الآية، فإن ذلك فرع قاعدة أخرى وهي قاعدة التعاون والمواساة وليست من حمل التبعات‏.‏

وتزر‏}‏ تحمل الوزر، وهو الثقل‏.‏ والوازرة‏:‏ الحاملة، وتأنيثها باعتبار أنها نفس لقوله قبله ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وأطلق عليها وازرة‏}‏ على معنى الفرض والتقدير، أي لو قدرت نفس ذات وزر لا تزاد على وزرها وزر غيرها، فعلم أن النفس التي لا وزر لها لا تزر وزر غيرها بالأوْلى‏.‏

والوزر‏:‏ الإثم لتشبيهه بالحمل الثقيل لما يجره من التعب لصاحبه في الآخرة، كما أطلق عليه الثقل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏‏.‏

عطف على آية ‏{‏من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ الآية‏.‏

وهذا استقصاء في الإعذار لأهل الضلال زيادة على نفي مؤاخذتهم بأجرام غيرهم، ولهذا اقتصر على قوله‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين‏}‏ دون أن يقال ولا مثيبين‏.‏ لأن المقام مقام إعذار وقطع حجة وليس مقام امتنان بالإرشاد‏.‏

والعذاب هنا عذاب الدنيا بقرينة السياق وقرينة عطف ‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏ ودلت على ذلك آيات كثيرة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 209‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 47‏]‏‏.‏

‏(‏على أن معنى ‏(‏حتى‏)‏ يؤذن بأن بعثة الرسول متصلة بالعذاب شأن الغاية، وهذا اتصال عرفي بحسب ما تقتضيه البعثة من مدةٍ للتبليغ والاستمرار على تكذيبهم الرسول والإمهال للمكذبين، ولذلك يظهر أن يكون العذاب هنا عذاب الدنيا وكما يقتضيه الانتقال إلى الآية بعدها‏.‏

على أننا إذا اعتبرنا التوسع في الغاية صح حمل التعذيب على ما يعم عذاب الدنيا والآخرة‏.‏

ووقوع فعل معذبين‏}‏ في سياق النفي يفيد العموم، فبعثة الرسل لتفصيل ما يريده الله من الأمة من الأعمال‏.‏

ودلت الآية على أن الله لا يؤاخذ الناس إلا بعد أن يرشدهم رحمة منه لهم‏.‏ وهي دليل بين على انتفاء مؤاخذة أحد ما لم تبلغه دعوة رسول من الله إلى قوم، فهي حجة للأشعري ناهضة على الماتريدي والمعتزلة الذين اتفقوا على إيصال العقل إلى معرفة وجود الله، وهو ما صرح به صدر الشريعة في التوضيح في المقدمات الأربع‏.‏ فوجود الله وتوحيده عندهم واجبان بالعقل فلا عذر لمن أشرك بالله وعطل ولا عذر له بعد بعثة رسول‏.‏

وتأويل المعتزلة أن يراد بالرسول العقل تطوُّحٌ عن استعمال اللغة وإغماض عن كونه مفعولاً لفعل ‏{‏نبعث‏}‏ إذ لا يقال بعث عقلاً بمعنى جعل‏.‏ وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

هذا تفصيل للحكم المتقدم قُصد به تهديد قادة المشركين وتحميلهم تبعة ضلال الذين أضلوهم‏.‏ وهو تفريع لتبيين أسباب حلول التعذيب بعد بعثة الرسول أدمج فيه تهديد المضلين‏.‏ فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء على قوله‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ ولكنه عطف بالواو للتنبيه على أنه خبر مقصود لذاته باعتبار ما يتضمنه من التحذير من الوقوع في مثل الحالة الموصوفة، ويظهر معنى التفريع من طبيعة الكلام، فالعطف بالواو هنا تخريج على خلاف مقتضى الظاهر في الفصل والوصل‏.‏

فهذه الآية تهديد للمشركين من أهل مكة وتعليم للمسلمين‏.‏

والمعنى أن بعثة الرسول تتضمن أمراً بشرع وأن سبب إهلاك المرسل إليهم بعد أن يبعث إليهم الرسول هو عدم امتثالهم لما يأمرهم الله به على لسان ذلك الرسول‏.‏

ومعنى إرادة الله إهلاك قرية التعلق التنجيزي لإرادته‏.‏ وتلك الإرادة تتوجه إلى المراد عند حصول أسبابه وهي المشار إليها بقوله‏:‏ أمرنا مترفيها‏}‏ إلى آخره‏.‏

ومتعلق ‏{‏أمرنا‏}‏ محذوف، أي أمرناهم بما نأمرهم به، أي بعثنا إليهم الرسول وأمرناهم بما نأمرهم على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا في قريتهم‏.‏

واعلم أن تصدير هذه الجملة ب ‏(‏إذا‏)‏ أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط ‏(‏إذا‏)‏ وجملة جوابِه، لأن شأن ‏(‏إذا‏)‏ أن تكون ظرفاً للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها‏.‏ فاقتضى ظاهر موقع ‏(‏إذا‏)‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏أمرنا مترفيها‏}‏ هو جواب ‏(‏إذا‏)‏ فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سَبْقَ الشرط لجوابه، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم، مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرُهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم، وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس‏.‏ وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سبباً لإهلاكهم‏.‏

وقرينة السياق واضحة في هذا، فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل ‏{‏أمرنا مترفيها‏}‏ على ‏{‏نبعث رسولاً‏}‏ فإن الأفعال يعطف بعضها على بعض سواء اتحدت في اللوازم أم اختلفت، فيكون أصل نظم الكلام هكذا‏:‏ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم‏.‏

فكانَ ‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية‏}‏ شريطة لحصول الإهلاك، أي ذلك بمشيئة الله ولا مكره له، كم دلت عليه آيات كثيرة كقوله‏:‏

‏{‏أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 127 128‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 100‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فذُكر شريطة المشيئة مرتين‏.‏

وإنما عدل عن نظم الكلام بهذا الأسلوب إلى الأسلوب الذي جاءت به الآية لإدماج التعريض بتهديد أهل مكة بأنهم معرضون لمثل هذا مما حل بأهل القرى التي كذبت رسل الله‏.‏

وللمفسرين طرائق كثيرة تزيد على ثَمان لتأويل هذه الآية متعسفة أو مدخولة، وهي متفاوتة، وأقربُها قول من جعل جملة أمرنا مترفيها‏}‏ إلخ صفةً ل ‏{‏قرية‏}‏ وجعل جواب ‏(‏إذا‏)‏ محذوفاً‏.‏

والمترَفُ‏:‏ اسم مفعول من أترفه إذا أعطاه التُرفةَ‏.‏ بضم التاء وسكون الراء أي النعمة‏.‏ والمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش، وهم معظم أهل الشرك بمكة‏.‏ وكان معظم المؤمنين يومئذٍ ضعفاء قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا‏}‏ ‏[‏المزمّل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وتعليق الأمر بخصوص المترفين مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس، لأن عصيانهم الأمرَ الموجه إليهم هو سبب فسقهم وفسق بقية قومهم إذ هم قادة العامة وزعماء الكفر فالخطاب في الأكثر يتوجه إليهم، فإذا فسقوا عن الأمر اتبعهم الدهماء فعم الفسق أو غلب على القرية فاستحقت الهلاك‏.‏

وقرأ الجمهور أمرنا‏}‏ بهمزة واحدة وتخفيف الميم، وقرأ يعقوب ‏{‏آمرنا‏}‏ بالمد بهمزتين همزة التعدية وهمزة فاء الفعل، أي جعلناهم آمرين، أي داعين قومهم إلى الضلالة، فسكنت الهمزة الثانية فصارت ألفاً تخفيفاً، أو الألف ألف المفاعلة، والمفاعلةُ مستعملة في المبالغة، مثل عافاه الله‏.‏

والفسق‏:‏ الخروج عن المقر وعن الطريق‏.‏ والمراد به في اصطلاح القرآن الخروج عما أمر الله به، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والقول‏}‏ هو ما يبلغه الله إلى الناس من كلام بواسطة الرسل وهو قول الوعيد كما قال‏:‏ ‏{‏فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 31‏]‏‏.‏

والتدمير‏:‏ هدم البناء وإزالة أثره، وهو مستعار هنا للاستئصال إذ المقصود إهلاك أهلها ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وتقدم التدمير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏‏.‏ وتأكيد دمرناها بالمصدر مقصود منه الدلالة على عظم التدمير لا نفي احتمال المجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه وكيفيته في الآية السابقة، فعقب ذلك بتمثيله لأنه أشد في الكشف وأدخل في التحذير المقصود‏.‏ وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدماً بإرسال الرسول إلى أهل القرية، ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها وكان زعماء الكفرة من قوم نوح مترفين وهم الذين قالوا‏:‏ ‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ وقال لهم نوح عليه السلام ‏{‏ولا أقول للذين تزدري أعيُنكم لن يؤتيهم الله خيراً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 31‏]‏‏.‏

فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء لأنها كالفرع على الجملة قبلها ولكنها عطفت بالواو إظهاراً لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى فكان ذلك تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب‏.‏

و ‏(‏كم‏)‏ في الأصل استفهام عن العدد، وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مُبهم النوع، فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد، وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها لأنها التزم تقديمها على الفعل نظراً لكون أصلها الاستفهام وله صدر الكلام‏.‏ ومن القرون‏}‏ تمييز للإبهام الذي اقتضته ‏(‏كم‏)‏‏.‏

والقرون جمع قرن، وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة، ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا‏.‏ وفي الحديث «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»، أراد أهل قرني، أي أهل القرن الذي أنا فيه‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وتخصيص ‏{‏من بعد نوح‏}‏ إيجاز، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم، وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول، واعتبر القَصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم‏.‏

ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له، والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق وناهيك بما حل بقوم نوح من العذاب المهول‏.‏

وجملة ‏{‏وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً‏}‏ إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالخصوص، لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب، فلا جرم خُتم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم‏.‏ وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنوبهم بما يناسب فظاعتها، ولذلك جاء بفعل ‏{‏كفى‏}‏ وبوصفي ‏{‏خبيراً بصيراً‏}‏ المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم‏.‏

وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ألا وإن في الجسد مضعة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»‏.‏

وفي ذكر فعل ‏(‏كفى‏)‏ إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافيه وحسبه، قال‏:‏ ‏{‏فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏؛ أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح‏:‏ ‏{‏فلا تسألننِ ما ليس لك به علم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم‏.‏

وفي خطاب النبي بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

هذا بيان لجملة ‏{‏من اهتدى فإنما يهتدي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وهو راجع أيضاً إلى جملة ‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏ تدريجاً في التبيان للناس بأن أعمالهم من كسبهم واختيارهم، فابتدئوا بأن الله قد ألزمهم تبعة أعمالهم بقوله‏:‏ وكل إنسان ألزمناه طائره ثم وكل أمرهم إليهم، وأن المسيء لا يضر بإساءته غيره ولا يحملُها عنه غيره فقال‏:‏ ‏{‏من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ثم أعذر إليهم بأنه لا يأخذهم على غرة ولا يأخذهم إلا بسوء أعمالهم بقوله‏:‏ وما كنا معذبين إلى قوله‏:‏ ‏{‏خبيراً بصيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15 17‏]‏‏.‏ ثم كشف لهم مقاصدهم من أعمالهم، وأنهم قسمان‏:‏

قسم لم يرد إلا الدنيا فكانت أعماله لمرضاة شهواته معتقداً أن الدنيا هي قصارى مراتع النفوس لا حظ لها إلا ما حصل لها في مدة الحياة لأنه لا يؤمن بالبعث فيقصر عمله على ذلك‏.‏

وقسم علم أن الفوز الحق هو فيما بعد هذه الحياة فعمل للآخرة مقتفياً ما هداه الله إليه من الأعمال بواسطة رسله وأن الله عامل كل فريق بمقدار همته‏.‏

فمعنى كان يريد العاجلة‏}‏ أنه لا يريد إلا العاجلة، أي دون الدنيا بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة‏}‏ لأن هذه المقابلة تقوم مقام الحصر الإضافي إذ ليس الحصر الإضافي سوى جملتين إثبات لشيء ونفي لخلافه‏.‏ والإتيان بفعل الكون هنا مؤذن بأن ذلك ديدنه وقصارى همه، ولذلك جعل خبر ‏(‏كان‏)‏ فعلاً مضارعاً لدلالته على الاستمرار زيادة تحقيق لتمحض إرادته في ذلك‏.‏

و ‏{‏العاجلة‏}‏ صفة موصوف محذوف يعلم من السياق، أي الحياة العاجلة، كقوله‏:‏ ‏{‏من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15‏]‏‏.‏

والمراد من التعجيل التعجيل العرفي وهو المبادرة المتعارفة، أي أن يعطى ذلك في الدنيا قبل الآخرة، فذلك تعجيل بالنسبة إلى الحياة الدنيا، وقرينة ذلك قوله‏:‏ فيها‏}‏‏.‏ وإنما زاد قيدي ‏{‏ما نشاء لمن نريد‏}‏ لأن ما يعطاه من أرادوا العاجلة يعطاه بعضهم بالمقادير التي شاء الله إعطاءها‏.‏

والمشيئة‏:‏ الطواعية وانتفاء الإكراه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لمن نريد‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏له‏}‏ بدل بعض من كل بإعادة العامل، فضمير ‏{‏له‏}‏ عائد إلى ‏{‏من‏}‏ باعتبار لفظه، وهو عام لكل مريد العاجلة فأبدل منه بعضه، أي عجلنا لمن نريد منكم، ومفعول الإرادة محذوف دل عليه ما سبقه، أي لمن نريد التعجيل له، وهو نظير مفعول المشيئة الذي كثر حذفه لدلالة كلام سابق‏.‏ وفيه خصوصية البيان بعد الإبهام‏.‏ ولو كان المقصود غير ذلك لوجب في صناعة الكلام التصريح به‏.‏

والإرادة‏:‏ مرادف المشيئة، فالتعبير بها بعد قوله‏:‏ ‏{‏ما نشاء‏}‏ تفنن‏.‏ وإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد معنى التبعية وللاستغناء عن الربط بضمير المبدل منهم بأن يقال‏:‏ من نريد منهم‏.‏

والمعنى‏:‏ أن هذا الفريق الذي يريد الحياة الدنيا فقط قد نعطي بعضهم بعض ما يريد على حسب مشيئتنا وإرادتنا لأسباب مختلفة‏.‏ ولا يَخلو أحد في الدنيا من أن يكون قد عجل له بعض ما يرغبه من لذات الدنيا‏.‏

وعطف جملة ‏{‏جعلنا له جهنم‏}‏ بحرف ‏(‏ثم‏)‏ لإفادة التراخي الرتبي‏.‏ و‏{‏له‏}‏ ظرف مستقر هو المفعول الثاني ل ‏{‏جعلنا‏}‏، قدم على المفعول الأول للاهتمام‏.‏

وجملة ‏{‏يصالها مذموماً مدحوراً‏}‏ بيان أو بدل اشتمال لجملة ‏{‏جعلنا له جهنم‏}‏ و‏{‏مذموماً مدحوراً‏}‏ حالان من ضمير الرفع في ‏{‏يصلاها‏}‏ يقال‏:‏ صلى النار إذا أصابه حرقها‏.‏

والذم الوصف بالمعائب التي في الموصوف‏.‏

والمدحور‏:‏ المطرود‏.‏ يقال‏:‏ دحره، والمصدر‏:‏ الدحور، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والاختلاف بين جملة من كان يريد العاجلة‏}‏ وجملة ‏{‏ومن أراد الآخرة‏}‏ بجعل الفعل مضارعاً في الأولى وماضياً في الثانية للإيماء إلى أن إرادة الناس العاجلة متكررة متجددة‏.‏ وفيه تنبيه على أن أمور العاجلة متقضية زائلة، وجعل فعل إرادة الآخرة، ماضياً لدلالة المضي على الرسوخ تنبيهاً على أن خير الآخرة أولى بالإرادة، ولذلك جردت الجملة من ‏(‏كان‏)‏ ومن المضارع، وما شرط في ذلك إلا أن يسعى للآخرة سعيها وأن يكون مؤمناً‏.‏

وحقيقة السعي المشي دون العَدْوِ، فسعي الآخرة هو الأعمال الصالحة لأنها سبب الحصول على نعيم الآخرة، فالعامل للصالحات كأنه يسير سيراً سريعاً إلى الآخرة ليصل إلى مرغوبه منها‏.‏ وإضافته إلى ضمير الآخرة من إضافة المصدر إلى مفعوله في المعنى، أي السعي لها، وهو مفعول مطلق لبيان النوع‏.‏

وفي الآية تنبيه على أن إرادة خير الآخرة من غير سعي غرور وأن إرادة كل شيء لا بد لنجاحِها من السعي في أسباب حصوله‏.‏ قال عبد الله بن المبارك‏:‏

تَرجو النجاة ولم تَسلُك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليَبَس

وجملة ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ حال من ضمير ‏{‏وسعى‏}‏‏.‏ وجيء بجملة ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ اسمية لدلالتها على الثبات والدوام، أي وقد كان راسخ الإيمان، وهو في معنى قوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏ لما في ‏(‏كان‏)‏ من الدلالة على كون الإيمان ملكة له‏.‏

والإتيان باسم الإشارة في فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏ للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيخبر به عنهم لأجل ما وُصفوا به قبل ذِكر اسم الإشارة‏.‏

والسعي المشكور هو المشكور ساعيه، فوصفه به مجاز عقلي، إذ المشكور المرضي عنه، وإذ المقصود الإخبار عن جزاء عمل من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا عن حسن عمله لأنه قسيم لجزاء من أراد العاجلة وأعرض عن الآخرة، ولكن جعل الوصف للعمل لأنه أبلغ في الإخبار عن عامله بأنه مرضي عنه لأنه في معنى الكناية الراجعة إلى إثبات الشيء بواسطة إثبات ملزومه‏.‏

والتعبير ب ‏{‏كان‏}‏ في ‏{‏كان سعيهم مشكوراً‏}‏ للدلالة على أن الوصف تحقق فيه من قبل، أي من الدنيا لأن الطاعة تقتضي ترتب الشكر عاجلاً والثواب آجلاً‏.‏ وقد جمع كونه مشكوراً خيرات كثيرة يطول تفصيلها لو أريد تفصيله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

تذييل لآية ‏{‏من كان يريد العاجلة إلى آخرها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وهذه الآية فذلكة للتنبيه على أن الله تعالى لم يترك خلقه من أثر رحمته حتى الكفرة منهم الذين لا يؤمنون بلقائه فقد أعطاهم من نعمة الدنيا على حسب ما قدر لهم وأعطى المؤمنين خيري الدنيا والآخرة‏.‏ وذلك مصداق قوله‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ وقوله فيما رواه عنه نبيُّه إن رحمتي سبقت غضبي‏.‏

وتنوين كلا‏}‏ تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل الفريقين، وهو منصوب على المفعولية لفعل ‏{‏نمد‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هؤلاء وهؤلاء‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ بدل مفصل من مجمل‏.‏

ومجموع المعطوف والمعطوف عليه هو البدل كقول النبي صلى الله عليه وسلم «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»‏.‏ والمقصود من الإبدال التعجيب من سعة رحمة الله تعالى‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ في الموضعين إلى من كان يريد العاجلة ومن أراد الآخرة‏.‏ والأصل أن يكون المذكور أولَ عائداً إلى الأول إلا إذا اتصل بأحد الاسمين ما يعين معاده‏.‏ وقد اجتمع الأمران في قول المتلمس‏:‏

ولا يقيم على ضَيم يراد به *** إلا الأذلان عير الحي والوَتد

هذا على الخسْف مربوط برُمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد

والإمداد‏:‏ استرسال العطاء وتعاقبه‏.‏ وجعل الجديد منه مدداً للسالف بحيث لا ينقطع‏.‏

وجملة ‏{‏وما كان عطاء ربك محظوراً‏}‏ اعتراض أو تذييل، وعطاء ربك جنس العطاء، والمحظور‏:‏ الممنوع، أي ما كان ممنوعاً بالمرة بل لكل مخلوق نصيب منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

لما كان العطاء المبذول للفريقين هو عطاء الدنيا وكان الناس مفضلين فيه على وجه يدركون حكمته لفت الله لذلك نظر نبيه عليه الصلاة والسلام لَفْتَ اعتبار وتدبر، ثم ذَكَّرَهُ بأن عطاء الآخرة أعظم عطاء، وقد فضل الله به المؤمنين‏.‏

والأمر بالنظر موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ترفيعاً في درجات علمه ويحصل به توجيه العبرة إلى غيره‏.‏

والنظر حقيقته توجه آلة الحس البَصري إلى المبصر‏.‏ وقد شاع في كلام العرب استعماله في النظر المصحوب بالتدبر وتكرير مشاهدة أشياء في غرض ما، فيقوم مقام الظن ويستعمل استعماله بهذا الاعتبار، ولذلك شاع إطلاق النظر في علم الكلام على الفكر المؤدي إلى علم أو ظن، وهو هنا كذلك‏.‏ وفد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ في ‏[‏النساء‏:‏ 50‏.‏

‏(‏و ‏(‏كيف‏]‏ اسم استفهام مستعمل في التنبيه، وهو معلّق فعلَ ‏(‏انظر‏)‏ عن العمل في المفعولين‏.‏ والمراد التفضيل في عطاء الدنيا، لأنه الذي يدركه التأمل والنظر وبقرينة مقابلته بقوله‏:‏ وللآخرة أكبر درجات‏}‏‏.‏

والمقصود من هذا التنظير التنبيه إلى أن عطاء الدنيا غير منوط بصلاح الأعمال؛ ألا ترى إلى ما فيه من تفاضل بين أهل العمل المتحد، وقد يفضل المسلم فيه الكافر، ويفضل الكافر المسلم، ويفضل بعض المسلمين بعضاً، وبعض الكفرة بعضاً، وكفاك بذلك هادياً إلى أن مناط عطاء الدنيا أسباب ليست من وادي العمل الصالح ولا مما يساق إلى النفوس الخيرة‏.‏

ونصب ‏{‏درجات‏}‏ و‏{‏تفضيلاً‏}‏ على التمييز لنسبة ‏{‏أكبر‏}‏ في الموضعين، والمفضل عليه هو عطاء الدنيا‏.‏

والدرجات مستعارة لعظمة الشرف، والتفضيل‏:‏ إعطاء الفضل، وهو الجدة والنعمة، وفي الحديث‏:‏ «ويتصدقون بفضول أموالهم» والمعنى‏:‏ النعمة في الآخرة أعظم من نعم الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

تذييل هو فذلكة لاختلاف أحوال المسلمين والمشركين، فإن خلاصة أسباب الفوز ترك الشرك لأن ذلك هو مبدأ الإقبال على العمل الصالح فهو أول خطوات السعي لمريد الآخرة، لأن الشرك قاعدة اختلال التفكير وتضليل العقول، قال الله تعالى في ذكر آلهة المشركين ‏{‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏‏.‏

والخطاب للنبيء تبعٌ لخطاب قوله‏:‏ ‏{‏انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 21‏]‏‏.‏ والمقصود إسماعُ الخطاب غيره بقرينة تحقق أن النبي قائم بنبذ الشرك ومُنْح على الذين يعبدون مع الله إلهاً آخر‏.‏

وتقعد‏}‏ مستعار لمعنى المكث والدوام‏.‏ أريد بهذه الاستعارة تجريد معنى النهي إلى أنه نهي تعريض بالمشركين لأنهم متلبسون بالذم والخذلان‏.‏ فإن لم يقلعوا عن الشرك داموا في الذم والخذلان‏.‏

والمذموم‏:‏ المذكور بالسوء والعيب‏.‏

والمخذول‏:‏ الذي أسلمه ناصره‏.‏

فأما ذمه فمن ذوي العقول، إذ أعظم سُخرية أن يتخذ المرء حجراً أو عُوداً رباً له ويعبده، كما قال إبراهيم عليه السلام ‏{‏أتعبدون ما تنحتون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏، وذمهُ من اللّهِ على لسان الشرائع‏.‏

وأما خذلانه فلأنه اتخذ لنفسه ولياً لا يغني عنه شيئاً ‏{‏إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 14‏]‏، وقال إبراهيم عليه السلام ‏{‏يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 42‏]‏، وخذلانه من الله لأنه لا يتولى من لا يتولّاه قال‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن لكافرين لا مولى لهم‏}‏ ‏[‏محمّد‏:‏ 11‏]‏ وقال ‏{‏وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إياه‏}‏‏.‏

عطف على الكلام السابق عطف غرض على غرض تخلصاً إلى أعمدة من شريعة الإسلام بمناسبة الفذلكة المتقدمة تنبيهاً على أن إصلاح الأعمال متفرع على نبذ الشرك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13 17‏]‏‏.‏

وقد ابتُدئ تشريع للمسلمين أحكاماً عظيمة لإصلاح جامعتهم وبناء أركانها ليزدادوا يقيناً بارتفاعهم على أهل الشرك وبانحطاط هؤلاء عنهم، وفي جميعها تعريض بالمشركين الذين كانوا منغمسين في المنهيات‏.‏ وهذه الآيات أول تفصيل للشريعة للمسلمين وقع بمكة، وأن ما ذكر في هذه الآيات مقصود به تعليم المسلمين‏.‏ ولذلك اختلف أسلوبه عن أسلوب نظيره في سورة الأنعام الذي وُجه فيه الخطاب إلى المشركين لتوقيفهم على قواعد ضلالتهم‏.‏

فمن الاختلاف بين الأسلوبين أن هذه الآية افتتحت بفعل القضاء المقتضي الإلزام، وهو مناسب لخطاب أمة تمتثل أمر ربها، وافتتح خطاب سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ ب ‏{‏تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏ كما تقدم هنالك‏.‏

ومنها أن هذه الآية جعلت المقضي هو توحيد الله بالعبادة، لأنه المناسب لحال المسلمين فحذرهم من عبادة غير الله‏.‏ وآية الأنعام جعلت المحرم فيها هو الإشراك بالله في الإلهية المناسب لما كانوا عليه من الشرك إذ لا عبادة لهم‏.‏

وأن هذه الآية فصل فيها حكم البر بالوالدين وحكم القتل وحكم الإنفاق ولم يفصل ما في آية الأنعام‏.‏

وكان ما ذكر في هذه الآيات خمسة عشر تشريعاً هي أصول التشريع الراجع إلى نظام المجتمع‏.‏

وأحسب أن هذه الآيات اشتهرت بين الناس في مكة وتناقلها العرب في الآفاق، فلذلك ألَمّ الأعشى ببعضها في قصيدته المروية التي أعدها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء يريد الإيمان فصدته قريش عن ذلك، وهي القصيدة الدالية التي يقول فيها‏:‏

أجدّك لم تسمع وَصاة محمد *** نبيء الإله حين أوصى وأشهدا

فإياك والميتاتتِ لا تأكلنها *** ولا تأخذنْ سهماً حديداً لتفصدا

وذا النُصُب المنصوب لا تنسكنه *** ولا تَعبد الشيطانَ والله فاعبدا

وذا الرحم القربى فلا تقطعنه *** لفاقته ولا الأسيرَ المقيدا

ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة *** ولا تَحسبن المال للمرء مخلدا

ولا تقربَنّ جارةً إن سرها *** عليك حَرام فانكحَنّ أو تأبّدا

وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماماً به وأنه مما أمر الله به أمراً جازماً وحكماً لازماً، وليس هو بمعنى التقدير كقوله‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع‏.‏

و ‏(‏أنْ‏)‏ يجوز أن تكون تفسيرية لما في ‏(‏قضى‏)‏ من معنى القول‏.‏ ويجوز أن تكون مصدرية مجرورة بباء جر مقدرة، أي قضى بأن لا تعبدوا‏.‏ وابتدئ هذا التشريع بذكر أصل التشريعة كلها وهو توحيد الله، فذلك تمهيد لما سيذكر بعده من الأحكام‏.‏

وجيء بخطاب الجماعة في قوله‏:‏ ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم كالذي في قوله قبل‏:‏ ‏{‏من عطاء ربك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 20‏]‏، والقرينة ظاهرة‏.‏ ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد‏.‏

وابتدئ التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح، لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذا كان صالحاً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» وقد فصلت ذلك في كتابي المسمى أصول النظام الاجتماعي في الإسلام‏}‏‏.‏

هذا أصل ثاننٍ من أصول الشريعة وهو بر الوالدين‏.‏

وانتصب ‏{‏إحساناً‏}‏ على المفعولية المطلقة مصدر نائباً عن فعله‏.‏ والتقدير‏:‏ وأحسنوا إحساناً بالوالدين كما يقتضيه العطف على ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ أي وقضى إحساناً بالوالدين‏.‏

‏{‏وبالوالدين‏}‏ متعلق بقوله؛ ‏{‏إحساناً‏}‏، والباء فيه للتعدية يقال‏:‏ أحسن بفلان كما يقال أحسن إليه، وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد أحسن بي‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏ وتقديمه على متعلقه للاهتمام به، والتعريف في الوالدين للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في ألا تعبدوا‏}‏‏.‏

وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس‏.‏ ولما جعل الله الأبوين مظهرَ إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة،، وسببُ الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة، ولأنه ليس بمُوجد حقيقي، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه كما سيأتي ‏{‏وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً‏}‏‏.‏

وشمل الإحسان كل ما يصدق فيه هذا الجنس من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة‏.‏

وجملة ‏{‏إما يبلغن‏}‏ بيان لجملة ‏{‏إحساناً‏}‏، و‏{‏إما‏}‏ مركبة من ‏(‏إن‏)‏ الشرطية و‏(‏ما‏)‏ الزائدة المهيئة لنون التوكيد، وحقها أن تكتب بنون بعد الهمزة وبعدها ‏(‏ما‏)‏ ولكنهم راعوا حالة النطق بها مدغمة فرسموها كذلك في المصاحف وتبعها رسم الناس غالباً، أي إن يبلغ أحدُ الوالدين أو كلاهما حد الكبَر وهما عندك، أي في كفالتك فَوَطّئ لهما خُلُقك ولين جانبك‏.‏

والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن له أبوان يومئذٍ‏.‏ وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب غير المعين يساوي خطاب الجمع‏.‏

وخص هذه الحالة بالبيان لأنها مظنة انتفاء الإحسان بما يلقى الولد من أبيه وأمّه من مشقة القيام بشؤونهما ومن سوء الخلق منهما‏.‏

ووجه تَعدد فاعل ‏{‏يبلغن‏}‏ مُظهراً دون جعله بضمير التثنية بأن يقال إما يبلغَانِّ عندك الكبر، الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر، ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما، فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حُبّاً له دون ما لو كان أحدهما منفرداً عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد، فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له‏.‏ وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما، فالاحتياج إلى ‏{‏أو كلاهما‏}‏ في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرَج عليه، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء، فكانت جملة ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ بتمامها جواباً ل ‏(‏إما‏)‏‏.‏

وأكد فعل الشرط بنون التوكيد لتحقيق الربط بين مضمون الجواب ومضمون الشرط في الوجود‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏إما يبلغن‏}‏ على أن ‏{‏أحدهما‏}‏ فاعل ‏{‏يبلغن‏}‏ فلا تلحق الفعل علامة لأنّ فاعله اسم ظاهر‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وخلف ‏{‏يبلغان‏}‏ بألف التثنية ونون مشددة والضمير فاعل عائد إلى الوالدين في قوله‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏، فيكون ‏{‏أحدهما أو كلاهما‏}‏ بدلاً من ألف المثنى تنبيهاً على أنه ليس الحكم لاجتماعهما فقط بل هو للحالتين على التوزيع‏.‏

والخطاب ب ‏{‏عندك‏}‏ لكل من يصلح لسماع الكلام فيعم كل مخاطب بقرينة سبق قوله‏:‏ ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏، وقوله اللاحق ‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

‏{‏أف‏}‏ اسم فعل مضارع معناه أتضخر‏.‏ وفيه لغات كثيرة أشهرها كلها ضم الهمزة وتشديد الفاء، والخلاف في حركة الفاء، فقرأ نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم بكسر الفاء منونة‏.‏ وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب بفتح الفاء غيرَ منونة‏.‏ وقرأ الباقون بكسر الفاء غير منونة‏.‏

وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما ‏{‏أف‏}‏ خاصة، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوْجز كلمة، وبأنها غير دالة على أكثر من حصُول الضجر لقائلها دون شتم أو ذم، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأوْلى‏.‏

ثم عطف عليه النهي عن نهرهما لئلا يُحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى‏.‏ والنهر الزجر، يقال‏:‏ نهره وانتهره‏.‏

ثم أمر بإكرام القول لهما‏.‏ والكريم من كل شيء‏:‏ الرفيع في نوعه‏.‏

وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومغفرة ورزق كريم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وبهذا الأمر انقطع العذر بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه أو أن يحذر مما قد يضر به أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع‏.‏

ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعاً يبلغ حد الذل لهما لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد، لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما‏.‏ والقصد من ذلك التخلق بشكره على أنعامهما السابقة عليه‏.‏

وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عندما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللاً‏.‏ ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة تخييل الأظفار للمنية في قول أبي ذُؤْيبَ‏:‏

وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيتَ كل تميمة لا تنفع

وبمنزلة تخييل اليد للشمال بفتح الشين والزمام للقرة في قول لبيد‏:‏

وغداة ريح قد كشفت وقِرةٍ *** إذْ أصبحت بيد الشمال زِمامها

ومجموع هذه الاستعارة تمثيل‏.‏ وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏واخفض جناحك للمؤمنين‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 88‏]‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏الرحمة‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي من رحمتك إياهما‏.‏ و‏(‏من‏)‏ ابتدائية، أي الذل الناشئ عن الرحمة لا عن الخوف أو عن المداهنة‏.‏ والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملته إياهما بها حتى يصير له خلقاً، كما قيل‏:‏

إن التخلق يأتي دونه الخلق ***

وهذه أحكام عامة في الوالدين وإن كانا مشركين، ولا يُطاعان في معصية ولا كفر كما في آية سورة العنكبوت‏.‏

ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معاً في ذلك، لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه وذلك قابل للتسوية‏.‏ ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر‏.‏ ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة‏:‏ «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم مَن أحقّ الناس بحسن صحابتي‏؟‏ قال‏:‏ أمك‏.‏ قال‏:‏ ثم مَن‏؟‏ قال‏:‏ ثم أمُّك‏.‏ قال‏:‏ ثم مَن‏؟‏ قال‏:‏ ثم أمُّك‏.‏ قال‏:‏ ثمّ من‏؟‏ قال‏:‏ ثم أبوك»

وهو ظاهر في ترجيح جانب الأم لأن سؤال السائل دل على أنه يسأل عن حسن معاملته لأبويه‏.‏

وللعلماء أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ ترجيح الأم على الأب وإلى هذا ذهب الليث بن سعد، والمحاسبي، وأبو حنيفة‏.‏ وهو ظاهر قول مالك، فقد حكى القرافي في الفرق 23 عن مختصر الجامع أن رجلاً سأل مالكاً فقال‏:‏ إن أبي في بلد السودان وقد كتب إليّ أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك‏؟‏ فقال مالك‏:‏ أَطِعْ أباك ولا تعْص أمك‏.‏

وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكاً أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم‏.‏

الثاني‏:‏ قول الشافعية أن الأبوين سواء في البر‏.‏ وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين‏.‏

وحكى القرطبي عن المحاسبي في كتاب «الرعاية» أنه قال‏:‏ لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع‏.‏ وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث، بناء على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال‏:‏ ثم أبوك بعد المرة الثانية أو بعد المرة الثالثة‏.‏

والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال‏.‏

ثم أمر بالدعاء لهما برحمة الله إياهما وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى‏.‏

وهذا قد انتُقل إليه انتقالاً بديعاً من قوله‏:‏ ‏{‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏ فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله، وتنبيهاً على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير ‏"‏

وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه‏.‏ والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملاً لأبويه‏.‏

وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله‏:‏ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الآية‏.‏

والكاف في قوله‏:‏ كما ربياني صغيراً‏}‏ للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف، ومثاله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏، أي ارحمهما رحمة تكافئ ما ربياني صغيرا‏.‏

وصغيراً‏}‏ حال من ياء المتكلم‏.‏

والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد، وصغرالولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولداً فصار قوله‏:‏ ‏{‏كما ربياني صغيراً‏}‏ قائماً مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما‏.‏ فالتربية تكملة للوجود، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها‏.‏ والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة‏.‏

والأمر يقتضي الوجوب‏.‏ وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرئ في أوقات ابتهاله‏.‏ وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل‏.‏

ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين‏:‏

أحدهما‏:‏ نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه، وهو الشكر، تخلقاً بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة‏.‏

وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها‏.‏

والمقصد الثاني عمراني، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساسسٍ بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن‏.‏ ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس‏.‏

جاء في الحديث‏:‏ «أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت‏:‏ هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة‏.‏ فقال الله‏:‏ أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك» وفي الحديث‏:‏ «إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم»‏.‏

وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضاً، وفي اتحاد بعضهم مع بعض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وزاده الإسلام توثيقاً بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف‏.‏ وقد بينا ذلك في بابه من كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

تذييل لآية الأمر بالإحسان بالوالدين وما فصل به، وما يقتضيه الأمر من اختلاف أحوال المأمورين بهذا الأمر قبل وروده بين موافق لمقتضاه ومفرط فيه، ومن اختلاف أحوالهم بعد وروده من محافظ على الامتثال، ومقصر عن قصد أو عن بادرة غفلة‏.‏

ولما كان ما ذكر في تضاعيف ذلك وما يقتضيه يعتمد خلوص النية ليجري العمل على ذلك الخلوص كاملاً لا تكلف فيه ولا تكاسل، فلذلك ذيله بأنه المطلع على النفوس والنوايا، فوعد الولد بالمغفرة له إن هو أدى ما أمره الله به لوالديه وافياً كاملاً‏.‏ وهو مما يشمله الصلاح في قوله‏:‏ ‏{‏إن تكونوا صالحين‏}‏ أي ممتثلين لما أمرتم به‏.‏ وغير أسلوب الضمير فعاد إلى ضمير جمع المخاطبين لأن هذا يشترك فيه الناس كلهم فضمير الجمع أنسب به‏.‏

ولما شمل الصلاح الصلاح الكامل والصلاح المشوب بالتقصير ذيله بوصف الأوابين المفيد بعمومه معنى الرجوع إلى الله، أي الرجوع إلى أمره وما يرضيه، ففهم من الكلام معنى احتباك بطريق المقابلة‏.‏ والتقدير إن تكونوا صالحين أوابين إلى الله فإنه كان للصالحين محسناً وللأوابين غفوراً‏.‏ وهذا يعم المخاطبين وغيرهم، وبهذا العموم كان تذييلاً‏.‏

وهذا الأوْب يكون مطرداً، ويكون معرضاً للتقصير والتفريط، فيقتضي طلب الإقلاع عما يخرمه بالرجوع إلى الحالة المرضية، وكل ذلك أوْب وصاحبه آيِب، فصيغ له مثال المبالغة ‏(‏أواب‏)‏ لصلوحية المبالغة لقوة كيفية الوصف وقوة كميته‏.‏ فالملازم للامتثال في سائر الأحوال المراقب لنفسه أواب لشدة محافظته على الأوبة إلى الله، والمغلوب بالتفريط يؤوب كلما راجع نفسه وذكر ربه، فهو أواب لكثرة رجوعه إلى أمر ربه، وكل من الصالحين‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم‏}‏ ما يشمل جميع أحوال النفوس وخاصة حالة التفريط وبوادر المخالفة‏.‏ وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه‏.‏

وقد جمعت هذه الآية مع إيجازها تيسيراً بعد تعسير مشوباً بتضييق وتحذير ليكون المسلم على نفسه رقيباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَءَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل‏}‏

القرابة كلها متشعبة عن الأبوة فلا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة‏.‏

وللقرابة حقّان‏:‏ حق الصلة، وحق المواساة‏.‏ وقد جمعهما جنس الحق في قوله؛ ‏{‏حقه‏}‏‏.‏ والحوالة فيه على ما هو معروف وعلى أدلة أخرى‏.‏

والخطاب لغير معين مثل قوله‏:‏ ‏{‏إما يبلغن عندك الكبر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 25‏]‏ الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله‏:‏ ‏{‏وآت ذا القربى‏}‏ تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع‏.‏ والجملة معطوفة على جملة ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ لأنها من جملة ما قضى الله به‏.‏

والإيتاء‏:‏ الإعطاء‏.‏ وهو حقيقة في إعطاء الأشياء، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة‏.‏ ومنه قول النبي‏:‏ ورجل آتاه الله الحِكمة فهو يقضي بها الحديث‏.‏

وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ‏.‏

وقد بينت أدلّة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها‏:‏ من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء، ومن غير واجبة مثل الإحسان‏.‏

وليس لهاته تعلق بحقوق قرابة النبي لأن حقوقهم في المال تقررت بعد الهجرة لما فرضت الزكاة وشرعت المغانم والأفياء وقسمتها‏.‏ ولذلك حمل جمهور العلماء هذه الآية على حقوق قرابة النسب بين الناس‏.‏ وعن علي زين العابدين أنها تشمل قرابة النبي‏.‏

والتعريف في القربى‏}‏ تعريف الجنس، أي القربى منك، وهو الذي يعبر عنه بأن ‏(‏ال‏)‏ عوض عن المضاف إليه‏.‏ وبمناسبة ذكر إيتاء ذي القربى عطف عليه من يماثله في استحقاق المواساة‏.‏

وحق المسكين هو الصدقة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحضون على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 18‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14 16‏]‏‏.‏ وقد بينت آيات وأحاديث كثيرة حقوق المساكين وأعظمها آية الزكاة ومراتب الصدقات الواجبة وغيرها‏.‏

وابن السبيل‏}‏ هو المسافر يمر بحي من الأحياء، فله على الحي الذي يمر به حق ضيافته‏.‏

وحقوق الأضياف جاءت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله‏:‏ ‏"‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جايزته يوم وليلة ‏"‏ وكانت ضيافة ابن السبيل من أصول الحنيفية مما سنّه إبراهيم عليه السلام قال الحريري‏:‏ «وحُرمة الشيخ الذي سَن القِرى»‏.‏

وقد جعل لابن السبيل نصيب من الزكاة‏.‏

وقد جمعت هذه الآية ثلاث وصايا مما أوصى الله به بقوله‏:‏ ‏{‏وقضى ربك‏}‏ الآيات ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فأما إيتاء ذي القربى فالمقصد منه مقارب للمقصد من الإحسان للوالدين رعياً لاتحاد المنبت القريب وشدًّا لآصرة العشيرة التي تتكون منها القبيلة‏.‏

وفي ذلك صلاح عظيم لنظام القبيلة وأمنها وذبها عن حوزتها‏.‏

وأما إيتاء المسكين فلمقصد انتظام المجتمع بأن لا يكون من أفراده من هو في بؤس وشقاء، على أن ذلك المسكين لا يعدو أن يكون من القبيلة في الغالب أقعده العجز عن العمل والفقر عن الكفاية‏.‏

وأما إيتاء ابن السبيل فلإكمال نظام المجتمع، لأن المارّ به من غير بنيه بحاجة عظيمة إلى الإيواء ليلاً ليقيه من عوادي الوحوش واللصوص، وإلى الطعام والدفء أو التظلل وقاية من إضرار الجوع والقر أو الحر‏.‏

لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفاً عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة‏.‏

ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه، فهذا وإن كان غرضاً مهماً من التشريع المسوق في هذه الآيات قد وقع موقع الاستطراد في أثناء الوصايا المتعلقة بإيتاء المال ليظهر كونه وسيلة لإيتاء المال لمستحقيه، وكونه مقصوداً بالوصاية أيضاً لذاته‏.‏ ولذلك سيعود الكلام إلى إيتاء المال لمستحقيه بعد الفراغ من النهي عن التبذير بقوله‏:‏ ‏{‏وإما تعرضن عنهم‏}‏ الآية، ‏[‏الإسراء‏:‏ 28‏]‏ ثم يعود الكلام إلى ما يبين أحكام التبذير بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وليس قوله‏:‏ ‏{‏ولا تبذر تبذيراً‏}‏ متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏وآت ذا القربى حقه‏}‏ الخ‏.‏‏.‏ لأنّ التبذير لا يوصف به بذل المال في حقّه ولو كان أكثر من حاجة المعطى ‏(‏بالفتح‏)‏‏.‏

فجملة ‏{‏ولا تبذر تبذيرا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ لأنها من جملة ما قضى الله به، وهي معترضة بين جملة وآت ذا القربى حقه‏}‏ الآية وجملة ‏{‏وإما تعرضن عنهم‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏‏.‏ 2‏]‏، فتضمنت هذه الجملة وصية سادسة مما قضى الله به‏.‏

والتبذير‏:‏ تفريق المال في غير وجهه، وهو مرادف الإسراف، فإنفاقه في الفساد تبذير، ولو كان المقدار قليلاً، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير‏.‏ وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير‏:‏ لا خير في السرف، فأجابه المنفق‏:‏ لا سرف في الخير، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس‏.‏

ووجه النهي عن التبذير هو أن المال جُعل عوضاً لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينات‏.‏ وكان نظام القصد في إنفاقه ضَامِنَ كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أمِن صاحبه من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجاً، فتجاوز هذا الحد فيه يسمى تبذيراً بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف، وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر ءَاتتٍ من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة لأن الأموال محدودة، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظاً لإقامة أود المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدة، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة‏.‏

فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏، واكتساب المحمدة بين قومه‏.‏ وقديماً قال المثل العربي نعم العون على المروءة الجِدة‏.‏ وقال‏.‏‏.‏‏.‏ اللهم هب لي حمداً، وهب لي مجداً، فإنه لا حَمد إلا بِفعال، ولا فِعال إلا بمال‏.‏

والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عُدة لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نِير سلطانه‏.‏

ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطبين في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏ ولم يقل أموالهم مع أنها أموال السفهاء، لقوله بعده‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ فأضافها إليهم حين صاروا رشداء‏.‏

وما مُنع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير‏.‏ ولذلك لو تصرف السفيه في شيء من ماله تصرف السداد والصلاح لمضى‏.‏

وذكر المفعول المطلق تبذيراً‏}‏ بعد ‏{‏ولا تبذر‏}‏ لتأكيد النهي كأنه قيل‏:‏ لا تبذر، لا تبذر، مع ما في المصدر من استحضار جنس المنهي عنه استحضاراً لما تُتصور عليه تلك الحقيقة بما فيها من المفاسد‏.‏

وجملة ‏{‏إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‏}‏ تعليل للمبالغة في النهي عن التبذير‏.‏

والتعريف في ‏{‏المبذرين‏}‏ تعريف الجنس، أي الذين عرفوا بهذه الحقيقة كالتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والإخوان جمع أخ، وهو هنا مستعار للملازم غير المفارق لأن ذلك شأن الأخ، كقولهم‏:‏ أخو العلم، أي مُلازمه والمتصف به، وأخو السفَر لمن يُكثر الأسفار‏.‏ وقول عدي بن زيد‏:‏

وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دجْ *** لةُ تَجبِي إليه والخابُور

يريد صاحب قَصر الحَضْر، وهو مَلك بلد الحَضْر المسمى الضَيْزنَ بنَ معاوية القضاعي الملقّب السيْطرون‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم من أتباع الشياطين وحُلفائهم كما يتابع الأخُ أخاه‏.‏

وقد زيد تأكيد ذلك بلفظ كانوا‏}‏ المفيد أن تلك الأخوة صفة راسخة فيهم، وكفى بحقيقة الشيطان كراهة في النفوس واستقباحاً‏.‏

ومعنى ذلك‏:‏ أن التبذير يدعو إليه الشيطان لأنه إما إنفاق في الفساد وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف واللذات فيعطل الإنفاق في الخير وكل ذلك يرضي الشيطان، فلا جرم أن كان المتصفون بالتبذير من جند الشيطان وإخوانه‏.‏

وهذا تحذير من التبذير، فإن التبذير إذا فعله المرء اعتاده فأدمن عليه فصار له خلقاً لا يفارقه شأن الأخلاق الذميمة أن يسهل تعلقها بالنفوس كما ورد في الحديث «إن المرء لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً»

، فإذا بذر المرء لم يلبث أن يصير من المبذرين، أي المعروفين بهذا الوصف، والمبذرون إخوان الشياطين، فليحذر المرء من عمل هو من شأن إخوان الشياطين، وليحذر أن ينقلب من إخوان الشياطين‏.‏ وبهذا يتبين أن في الكلام إيجازَ حذف تقديره‏:‏ ولا تبذر تبذيراً فتصير من المبذرين إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‏.‏ والذي يدل على المحذوف أن المرء يصدق عليه أنه من المبذرين عندما يبذر تبذيرة أو تبذيرتين‏.‏

ثم أكد التحذير بجملة ‏{‏وكان الشيطان لربه كفورا‏}‏‏.‏ وهذا تحذير شديد من أن يفضي التبذير بصاحبه إلى الكفر تدريجاً بسبب التخلق بالطبائع الشيطانية، فيذهب يتدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى الكفر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏.‏ ويجوز حمل الكفر هنا على كفر النعمة فيكون أقرب درجات إلى حال التخلق بالتبذير، لأن التبذير صرف المال في غير ما أمر الله به فهو كفر لنعمة الله بالمال‏.‏ فالتخلق به يفضي إلى التخلق والاعتياد لكفران النعم‏.‏

وعلى الوجهين فالكلام جار على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة، إذ كان المبذر مؤاخياً للشيطان وكان الشيطانُ كفوراً، فكانَ المبذّر كفوراً بالمآل أو بالدرجة القريبة‏.‏

وقد كان التبذير من خُلق أهل الجاهلية، ولذلك يتمدحون بصفة المتلاف والمُهلك المال، فكان عندهم الميسر من أسْباب الإتلاف، فحذر الله المؤمنين من التلبس بصفات أهل الكفر، وهي من المذام، وأدبهم بآداب الحكمة والكمال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وآت ذا القربى والمسكين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 26‏]‏ لأنه من تمامه‏.‏

والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب‏.‏ والمقصود بالخطاب النبي لأنه على وزان نظم قوله‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ فإن المواجهة ب ربك‏}‏ في القرآن جاءت غالباً لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ويعدله ما روي أن النبي كان إذا سأله أحد مالاً ولم يكن عنده ما يعطيه يعرض عنه حياء فنبهه الله إلى أدب أكمل من الذي تعهده من قبل ويحصل من ذلك تعليم لسائر الأمة‏.‏

وضمير ‏{‏عنهم‏}‏ عائد إلى ذي القُربى والمسكين وابن السبيل‏.‏

والإعراض‏:‏ أصله ضد الإقبال مشتق من العُرض بضم العين أي الجانب، فأعرض بمعنى أعطى جانبه ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏، وهو هنا مجاز في عدم الإيتاء أو كناية عنه لأن الإمساك يلازمه الإعراض، أي إن سألك أحدهم عطاءً فلم تجبه إليه أو إن لم تفتقدهم بالعطاء المعروف فتباعدتَ عن لقائهم حياءً منهم أن تلاقيهم بيد فارغة فقل لهم قولاً ميسوراً‏.‏

والميسور‏:‏ مفعول من اليُسر، وهو السهولة، وفعله مبني للمجهول‏.‏ يقال‏:‏ يُسِر الأمرُ بضم الياء وكسر السين كما يقال‏:‏ سُعِد الرجل ونُحِس، والمعنى‏:‏ جُعِل يسيراً غير عسير، وكذلك يقال‏:‏ عُسِر‏.‏ والقول الميسور‏:‏ اللين الحسن المقبول عندهم؛ شبه المقبول بالميسور في قبول النفس إياه لأن غير المقبول عسير‏.‏ أمر الله بإرفاق عدم الإعطاء لعدم الموجدة بقول لين حسن بالاعتذار والوعد عند الموجدة، لئلا يُحمل الإعراض على قلة الاكتراث والشح‏.‏

وقد شرط الإعراض بشرطين‏:‏ أن يكون إعراضاً لابتغاء رزق من الله، أي إعراضاً لعدم الجدة لا اعتراضاً لبخل عنهم، وأن يكون معه قول لين في الاعتذار‏.‏ وعلم من قوله‏:‏ ابتغاء رحمة من ربك‏}‏ أنه اعتذار صادق وليس تعللاً كما قال بشار‏:‏

وللبخيل على أمواله علل *** رزق العيون عليها أوجه سود

فقوله‏:‏ ‏{‏ابتغاء رحمة من ربك‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تعرضن‏}‏ مصدر بالوصف، أي مبتغياً رحمة من ربك‏.‏ و‏{‏ترجوها‏}‏ صفة ل ‏{‏رحمة‏}‏‏.‏ والرحمة هنا هي الرزق الذي يتأتى منه العطاء بقرينة السياق‏.‏ وفيه إشارة إلى أن الرزق سبب للرحمة لأنه إذا أعطاه مستحقه أثيب عليه، وهذا إدماج‏.‏

وفي ضمن هذا الشرط تأديب للمؤمن إن كان فاقداً ما يبلغ به إلى فعل الخير أن يرجوَ من الله تيسير أسبابه، وأن لا يحمله الشح على السرور بفقد الرزق للراحة من البذل بحيث لا يَعدِم البذلَ الآن إلا وهو راج أن يسهل له في المستقبل حرصاً على فضيلته، وأنه لا ينبغي أن يعرض عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل إلا في حال رجاء حصول نعمة فإن حصلت أعطاهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

عود إلى بيان التبذير والشح، فالجملة عطف على جملة ‏{‏ولا تبذر تبذيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ولولا تخلل الفصل بينهما بقوله؛ ‏{‏وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 28‏]‏ الآية لكانت جملة ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك غَيْر مقترنة بواو العطف لأن شأن البيان أن لا يعطف على المبين، وأيضاً على أن في عطفها اهتماماً بها يجعلها مستقلة بالقصد لأنها مشتملة على زيادة على البيان بما فيها من النهي عن البخل المقابل للتبذير‏.‏

وقد أتت هذه الآية تعليماً بمعرفة حقيقة من الحقائق الدقيقة فكانت من الحكمة‏.‏ وجاء نظمها على سبيل التمثيل فصيغت الحكمة في قالب البلاغة‏.‏

فأما الحكمة فإذ بينت أن المحمود في العطاء هو الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط، وهذه الأوساط هي حدود المحامد بين المذام من كل حقيقة لها طرفان‏.‏ وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خلق طرفين ووسطاً، فالطرفان إفراط وتفريط وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد، وأن الوسط هو العدل، فالإنفاق والبذل حقيقة أحد طرفيها الشح وهو مفسدة للمحاويج ولصاحب المال إذ يجر إليه كراهية الناس إياه وكراهتيه إياهم‏.‏ والطرف الآخر التبذير والإسراف، وفيه مفاسد لذي المال وعشيرته لأنه يصرف ماله عن مستحقه إلى مصارف غير جديرة بالصرف، والوسط هو وضع المال في مواضعه وهو الحد الذي عبر عنه في الآية بنفي حالين بين ‏(‏لا ولا‏)‏‏.‏

وأما البلاغة فبتمثيل الشح والإمساك بغل اليد إلى العُنق، وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدراً للبذل والعطاء، وتخيُّل بَسطها كذلك وغلها شحاً، وهو تخيل معروف لدى البلغاء والشعراء، قال الله تعالى‏:‏ وقالت اليهود يد الله مغلولة ثم قال‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏ وقال الأعشى‏:‏

يَداك يدَا صدق فكف مفيدة *** وكف إذا ما ضُن بالمال تنفق

ومن ثم قالوا‏:‏ له يدُ على فلان، أي نعمة وفضل، فجاء التثميل في الآية مبنياً على التصرف في ذلك المعنى بتمثيل الذي يشح بالمال بالذي غُلّت يده إلى عنقه، أي شدت بالغُلّ، وهو القيد من السير يشد به يد الأسير، فإذا غُلت اليد إلى العنق تعذر التصرف بها فتعطل الانتفاع بها فصار مصدر البذل معطلاً فيه، وبضده مُثِّلَ المسرف بباسط يده غاية البسط ونهايته وهو المفاد بقوله‏:‏ كل البسط‏}‏ أي البسطَ كله الذي لا بسط بعده، وهو معنى النهاية‏.‏ وقد تقدم من هذا المعنى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء‏}‏ في سورة العقود ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ هذا قالب البلاغة المصوغةُ في تلك الحكمة‏.‏

وقوله‏:‏ فتقعد ملوما محسوراً‏}‏ جواب لكلا النهيين على التوزيع بطريقة النشر المرتب، فالملوم يرجع إلى النهي عن الشح، والمحسور يرجع إلى النهي عن التبذير، فإن الشحيح ملوم مذموم‏.‏ وقد قيل‏:‏

إن البخيل ملوم حيثما كانا ***

وقال زهير

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله *** على قومه يُستغن عنه ويذمم

والمحسور‏:‏ المنهوك القوى‏.‏ يقال‏:‏ بعير حسير، إذا أتعبه السير فلم تبق له قوة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏، والمعنى‏:‏ غير قادر على إقامة شؤونك‏.‏ والخطاب لغير معين‏.‏ وقد مضى الكلام على تقعد آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

موقع هذه الجملة موقع اعتراض بالتعليل لما تقدم من الأمر بإيتاء ذي القربى والمساكين، والنهي عن التبذير، وعن الإمساك المفيد الأمرَ بالقصد، بأن هذا واجب الناس في أموالهم وواجبهم نحو قرابتهم وضعفاء عشائرهم، فعليهم أن يمتثلوا ما أمرهم الله من ذلك‏.‏ وليس الشح بمبق مال الشحيح لنفسه، ولا التبذير بمغننٍ من يبذر فيهم المال فإن الله قدر لكل نفس رزقها‏.‏

فيجوز أن يكون الكلام جارياً على سنن الخطاب السابق لغير معين‏.‏ ويجوز أن يكون قد حُول الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فَوُجّه بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الأولى بعلم هذه الحقائق العالية، وإن كانت أمته مقصودة بالخطاب تبعاً له، فتكون هذه الوصايا مخللة بالإقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم

‏{‏ويقدر‏}‏ ضد ‏{‏يبسط‏}‏‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ في سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان بعباده خبيرا بصيرا تعليل لجملة إن ربك يبسط الرزق‏}‏ إلى آخرها، أي هو يفعل ذلك لأنه عليم بأحوال عباده وما يليق بكل منهم بحسب ما جبلت عليه نفوسهم، وما يحف بهم من أحوال النظم العالمية التي اقتضتها الحكمة الإلهية المودعة في هذا العالم‏.‏

والخبير‏:‏ العالم بالأخبار‏.‏ والبصير‏:‏ العالم بالمبصرات‏.‏ وهذان الاسمان الجليلان يرجعان إلى معنى بعض تعلق العلم الإلهي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

عطف جملة حكم على جملة حكم للنهي عن فعل ينشأ عن اليأس من رزق الله‏.‏ وهذه الوصية السابعة من الأحكام المذكورة في آية ‏{‏وقضى ربك‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وغُيّر أسلوب الإضمار من الإفراد إلى الجمع لأن المنهي عنه هنا من أحوال الجاهلية زجراً لهم عن هذه الخطيئة الذميمة، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأنعام؛ ولكن بين الآيتين فرقاً في النظم من وجهين‏:‏

الأول‏:‏‏}‏ أنه قيل هنا ‏{‏خشية إملاق‏}‏ وقيل في آية الأنعام ‏{‏من إملاق‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏‏.‏ ويقتضي ذلك أن الذين كانوا يئدون بناتهم يئدونهن لغرضين‏:‏

إما لأنهم فقراء لا يستطيعون إنفاق البنت ولا يرجون منها إن كبرت إعانة على الكسب فهم يئدونها لذلك، فذلك مورد قوله في الأنعام من إملاق‏}‏، فإن ‏(‏من‏)‏ التعليلية تقتضي أن الإملاق سبب قتلهن فيقتضي أن الإملاق موجود حين القتل‏.‏

وإما أن يكون الحامل على ذلك ليس فقر الأب ولكن خشية عروض الفقر له أو عروض الفقر للبنت بموت أبيها، إذ كانوا في جاهليتهم لا يورثون البنات، فيكون الدافع للوأد هو توقع الإملاق، كما قال إسحاق بن خلف، شاعر إسلامي قديم‏:‏

إذا تذكرت بنتي حين تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم

أحاذر الفقر يوماً أن يلم بها *** فيَهتك السترَ عن لحم على وضم

تهوَى حياتي وأهوَى موتها شفقا *** والموتُ أكرم نزّال على الحُرم

أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ *** وكنتُ أخشى عليها من أذى الكلم

فلتحذير المسلمين من آثار هذه الخواطر ذكروا بتحريم الوأد وما في معناه‏.‏ وقد كان ذلك في جملة ما تؤخذ عليه بيعة النساء المؤمنات كما في آية سورة الممتحنة‏.‏ ومن فقرات أهل الجاهلية‏:‏ دفن البنات‏.‏ من المكرمَات‏.‏ وكلتا الحالتين من أسباب قتل الأولاد تستلزم الأخرى وإنما التوجيه للمنظور إليه بادئ ذي بدء‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ فمن أجل هذا الاعتبار في الفَرْق للوجه الأول قيل هنالك ‏{‏نحن نرزقكم وإياهم‏}‏ بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد، لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء فقدم الإخبار بأن الله هو رازقهم وكمل بأنه رازق بناتهم‏.‏

وأما الإملاق المحكي في هذه الآية فهو الإملاق المخشي وقوعه‏.‏ والأكثر أنه توقع إملاق البنات كما رأيت في الأبيات، فلذلك قُدم الإعلام بأن الله رازق الأبناء وكُمل بأنه رازق آبائهم‏.‏ وهذا من نكت القرآن‏.‏

والإملاق‏:‏ الافتقار‏.‏ وتقدم الكلام على الوأد عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم‏}‏ في سورةة ‏[‏الأنعام‏:‏ 137‏]‏‏.‏

وجملة نحن نرزقهم‏}‏ معترضة بين المتعاطفات‏.‏ وجملة ‏{‏إن قتلهم كان خطأ كبيراً‏}‏ تأكيد للنهي وتحذير من الوقوع في المنهي، وفعل ‏{‏كان‏}‏ تأكيد للجملة‏.‏

والمراد بالأولاد خصوص البنات لأنهن اللاتي كانوا يقتلونهن وأداً، ولكن عبر عنهن بلفظ الأولاد في هذه الآية ونظائرها لأن البنت يقال لها‏:‏ ولد‏.‏

وجرى الضمير على اعتبار اللفظ في قوله ‏{‏نرزقهم‏}‏‏.‏

و ‏(‏الخِطء‏)‏ بكسر الخاء وسكون الطاء مصدر خطئ بوزن فرح، إذا أصاب إثماً، ولا يكون الإثم إلا عن عمد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ناصية كاذبة خاطئة‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وأما الخَطَأ بفتح الخاء والطاء فهو ضد العمد‏.‏ وفعله‏:‏ أخطأ‏.‏ واسم الفاعل مُخطئ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وهذه التفرقة هي سر العربية وعليها المحققون من أيمتها‏.‏

وقرأ الجمهور خطأ‏}‏ بكسر الخاء وسكون الطاء بعدها همزة، أي إثماً‏.‏ وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر ‏{‏خَطَأ‏}‏ بفتح الخاء وفتح الطاء‏.‏ والخطأ ضد الصواب، أي أن قتلهم محض خَطأ ليس فيه ما يعذر عليه فاعله‏.‏

وقرأه ابن كثير ‏{‏خِطَاءً‏}‏ بكسر الخاء وفتح الطاء وألف بعد الطاء بعده همزة ممدوداً‏.‏ وهو فعال من خَطِئ إذا أجرم، وهو لغة في خِطْء، وكأن الفعال فيها للمبالغة‏.‏ وأكد ب ‏(‏إن‏)‏ لتحقيقه رداً على أهل الجاهلية إذ كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد، ويقولون‏:‏ دفن البنات من المَكرمات‏.‏ وأكد أيضاً بفعل ‏(‏كان‏)‏ لإشعار ‏(‏كان‏)‏ بأن كونه إثماً أمراً استقر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

عطف هذا النهي على النهي عن وأد البنات إيماء إلى أنهم كانوا يعدون من أعذارهم في وأد البنات الخشية من العار الذي قد يلحق من جراء إهمال البنات الناشئ عن الفقر الرامي بهن في مهاوي العهر، ولأن في الزنى إضاعة نسب النسل بحيث لا يعرف للنسل مرجع يأوي إليه وهو يشبه الوأد في الإضاعة‏.‏

وجرى الإضمار فيه بصيغة الجمع كما جرى في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ لمثل ما وجه به تغيير الأسلوب هنالك فإن المنهي عنه هنا كان من غالب أحوال أهل الجاهلية‏.‏

وهذه الوصية الثامنة من الوصايا الإلهية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والقرب المنهي عنه هو أقل الملابسة، وهو كناية عن شدة النهي عن ملابسة الزنا، وقريب من هذا المعنى قولهم‏:‏ ما كاد يفعل‏.‏

والزنى في اصطلاح الإسلام مجامعة الرجل امرأة غير زوجة له ولا مملوكةٍ غير ذات الزوج‏.‏ وفي الجاهية الزنى‏:‏ مجامعة الرجل امرأة حرة غير زوج له وأما مجامعة الأمة غير المملوكة للرجل فهو البغاء‏.‏

وجملة إنه كان فاحشة‏}‏ تعليل للنهي عن ملابسته تعليلاً مبالغاً فيه من جهات بوصفه بالفاحشة الدال على فَعلة بالغة الحد الأقصى في القبح، وبتأكيد ذلك بحرف التوكيد، وبإقحام فعل ‏(‏كان‏)‏ المؤذن بأن خبره وصف راسخ مستقر، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والمراد‏:‏ أن ذلك وصف ثابت له في نفسه سواء علمه الناس من قبل أم لم يعلموه إلا بعد نزول الآية‏.‏

وأتبع ذلك بفعل الذم وهو ساء سبيلا‏}‏، والسبيل‏:‏ الطريق‏.‏ وهو مستعار هنا للفعل الذي يلازمه المرء ويكون له دأباً استعارة مبنية على استعارة السير للعمل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنعيدها سيرتها الأولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 21‏]‏، فبني على استعارة السير للعمل استعارة السبيل له بعلاقة الملازمة‏.‏ وقد تقدم نظيرها في قوله‏:‏ ‏{‏إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وعناية الإسلام بتحريم الزنى لأن فيه إضاعة النسب وتعريض النسل للإهمال إن كان الزنى بغير متزوجة وهو خلل عظيم في المجتمع، ولأن فيه إفساد النساء على أزواجهن والأبكار على أوليائهن، ولأن فيه تعريضَ المرأة إلى الإهمال بإعراض الناس عن تزوجها، وطلاق زوجها إياها، ولما ينشأ عن الغيرة من الهرج والتقاتل، قال امرؤ القيس‏:‏

عليّ حراصا لو يسرون مقتلي ***

فالزنى مئنة لإضاعة الأنساب ومَظنّةٌ للتقاتل والتهارج فكان جديراً بتغليظ التحريم قصداً وتوسلاً‏.‏ ومن تأمل ونظر جزم بما يشتمل عليه الزنى من المفاسد ولو كان المتأمل ممن يفعله في الجاهلية فقبحه ثابت لذاته، ولكن العقلاء متفاوتون في إدراكه وفي مقدار إدراكه، فلما أيقظهم التحريم لم يبق للناس عذر‏.‏ وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة ولا وجه لذلك الزعم‏.‏ وقد أشرنا إلى إبطال ذلك في أول السورة‏.‏