فصل: تفسير الآية رقم (33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية‏.‏ ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة‏.‏ وهذه هي الوصية التاسعة‏.‏

والنفس هنا الذات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة‏.‏

والقتل‏:‏ الإماتة بفعل فاعل، أي إزالة الحياة عن الذات‏.‏

وقوله‏:‏ حرم الله‏}‏ حُذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير‏.‏ والتقدير‏:‏ حرمها الله‏.‏ وعلق التحريم بعين النفس، والمقصود تحريم قتلها‏.‏

ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهوراً من قبللِ هذا النهي، إما لأنه تقرر من قبلُ بآيات أخرى نَزلت قبل هذه الآية وقبلَ آية الأنعام حكماً مفرقاً وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضاً بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه، تنويهاً بهذا الحكم‏.‏ وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمرُ به الأرض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏، فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله، أي عُرفت بمضمون هذه الصلة‏.‏

واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق، أي الذي يشهد الحق أن نفساً معينة استحقت الإعدام من المجتمع، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القَود على وجه الإجمال‏.‏

ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعاراً بأن سيَكون في الأمة قضاء وحُكم فيما يستقبل أبقي مجملاً حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد، مثل آية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأعد له عذاباً عظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92 93‏]‏‏.‏

فالباء في قوله‏:‏ بالحق‏}‏ للمصاحبة، وهي متعلّقة بمعنى الاستثناء، أي إلا قتلاً ملابساً للحق‏.‏

والحق بمعنى العدل، أو بمعنى الاستحقاق، أي حَق القتل، كما في الحديث‏:‏» ‏"‏ فإذا قالوها ‏(‏أي لا إله إلا الله‏)‏ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ‏"‏‏.‏

ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعيين الحق المبيح لقتل النفس موكولاً إلى من لهم تعيين الحقوق‏.‏

ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل، وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً‏}‏ الآية‏.‏

وحين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ولم يكن المشركون أهلاً للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة، وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلماً أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلِم، فقال‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا‏}‏ أي قد جَعل لولي المقتول تصرفاً في القاتل بالقود أو الدية‏.‏

والسلطان‏:‏ مصدر من السلطة كالغُفران، والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود‏.‏

وكونه حقاً لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أوْ يأخذ الدية ألهمهم الله إليه لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجْن يداه قتلاً‏.‏ وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد، فقد كان ذلك من عوائدهم أيضاً‏.‏

فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهلَ الجاهلية من عادة القود‏.‏

والقود من جملة المستثنى بقوله‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏، لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق‏.‏ وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية، فأمر الله المسلمين بقبول القود‏.‏ وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي، وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره، وتلك عادة جاهلية‏.‏ قال الشميذر الحارثي‏:‏

فلسنا كمن كنتم تصيبون سَلّة *** فنقبَلَ ضيماً أو نحكم قاضيا

ولكن حكم السيف فينا مسلط *** فنرضَى إذا ما أصبح السيف راضيا

فنهى الله المسلمين عن أن يكونوا مثالاً سيئاً يقابلوا الظلم بالظلم كعادة الجاهلية بل عليهم أن يتبعوا سبيل الإنصاف فيقبلوا القود، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فلا يسرف في القتل‏}‏‏.‏

والسرف‏:‏ الزيادة على ما يقتضيه الحق، وليس خاصاً بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة‏.‏ فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل، أما مع القاتل وهو واضح كما قال المُهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب‏:‏

كل قتيل في كليب غُرّة *** حتى يعُمّ القتلُ آلَ مُرّة

وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل‏.‏ وكانوا يتكايلون الدماء، أي يجعلون كيلها متفاوتاً بحسب شرف القتيل، كما قالت كبشة بنتُ معديكرب‏:‏

فيقتلَ جَبْرا بامرئ لم يكن له

بَواءً ولكن لا تكايُل بالدم

البواء‏:‏ الكفء في الدم‏.‏ تريد فيقتلَ القاتلَ وهو المسمّى جبراً، وإن لم يكن كفؤاً لعبد الله أخيها، ولكن الإسلام أبطل التكايل بالدم‏.‏

وضمير ‏{‏يسرف‏}‏ بياء الغيبة، في قراءة الجمهور، يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بتاء الخطاب أي خطاب للولي‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان منصوراً‏}‏ استئناف، أي أن ولي المقتول كان منصوراً بحكم القود فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل‏.‏ حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطاناً على القاتل‏.‏

وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام ‏(‏كانَ‏)‏ الدال على أن الخبر مستقر الثبوت‏.‏ وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر‏.‏

ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ ‏(‏سلطان‏)‏ هنا الظاهر في معنى المصدر، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدَى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة‏.‏ ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان‏.‏

وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان، فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة، وهو الجهاد، فله أحكام أخرى‏.‏ وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ وما عطف عليه من الضمائر‏.‏

واعلم أن جملة ومن قتل مظلوماً‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق‏}‏ عطف قصة على قصة اهتماماً بهذا الحكم بحيث جعل مستقلاً، فعُطف على حكم آخر، وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة، إما استئنافاً لبيان حكم حالة تكثر، وإما بدل بعضضٍ من جملة ‏{‏إلا بالحق‏}‏‏.‏

و ‏(‏مَن‏)‏ موصولة مبتدأ مراد بها العموم، أي وكل الذي يقتل مظلوماً‏.‏ وأُدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد جعلنا لوليه سلطانا‏}‏ هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يُطمئِن نفسَ ولي المقتول‏.‏ والمقصود من الخبر التفريع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يسرف في القتل‏}‏، فكان تقديم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد جعلنا لوليه سلطانا‏}‏ تمهيداً لقبول النهي عن السرف في القتل، لأنه إذا كان قد جُعل له سلطان فقد صار الحكم بيده وكفاه ذلك شفاءً لغليله‏.‏

ومن دلالة الإشارة أن قوله‏:‏ ‏{‏فقد جعلنا لوليه سلطانا‏}‏ إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتلَ القاتل دون حكم من السلطان، لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة، فضمير ‏{‏فلا يسرف‏}‏ عائد إلى «وليه»‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان منصوراً‏}‏ تعليل للكف عن الإسراف في القتل، والضمير عائد إلى «وليه»‏.‏

و ‏(‏في‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏في القتل‏}‏ للظرفية المجازية، لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه، فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه‏.‏

ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية، وقد بينا وجه مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏

هذا من أهم الوصايا التي أوصى الله بها في هذه الآيات، لأن العرب في الجاهلية كانوا يستحلون أموال اليتامى لضعفهم عن التفطن لمن يأكل أموالهم وقلة نصيرهم لإيصال حقوقهم، فحذر الله المسلمين من ذلك لإزالة ما عسى أن يبقى في نفوسهم من أثر من تلك الجاهلية‏.‏ وقد تقدم القول في نظير هذه الآية في سورة الأنعام‏.‏ وهذه الوصية العاشرة‏.‏

والقول في الإتيان بضمير الجماعة المخاطبين كالقول في سابِقيه لأن المنهي عنه من أحوال أهل الجاهلية‏.‏

أمروا بالوفاء بالعهد‏.‏ والتعريف في ‏{‏العهد‏}‏ للجنس المفيد للاستغراق يشمل العهد الذي عاهدوا عليه النبي، وهو البيعة على الإيمان والنصر‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏}‏ في سورة النحل ‏(‏91‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وبعهد الله أوفوا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏152‏.‏

‏(‏وهذا التشريع من أصول حرمة الأمة في نظر الأمم والثقةِ بها للانزواء تحت سلطانها‏.‏ وقد مضى القول فيه في سورة الأنعام‏.‏ والجملة معطوفة على التي قبلها‏.‏ وهي من عداد ما وقع بعد ‏(‏أن‏)‏ التفسيرية من قوله‏:‏ ‏{‏ألا تعبدوا‏}‏ الآيات ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهي الوصية الحادية عشرة‏.‏

وجملة إن العهد كان مسؤولا‏}‏ تعليل للأمر، أي للإيجاب الذي اقتضاه، وإعادة لفظ ‏{‏العهد‏}‏ في مقام إضماره للاهتمام به، ولتكون هذه الجملة مستقلة فتسري مسرى المثل‏.‏

وحُذف متعلق ‏{‏مسؤولا‏}‏ لظهوره، أي مسؤولاً عنه، أي يسألكم الله عنه يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

هذان حكمان هما الثاني عشر والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها‏.‏ وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام‏.‏

وزيادة الظرف في هذه الآية وهو ‏{‏إذا كلتم‏}‏ دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في ‏(‏إذا‏)‏ من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط ‏(‏إذا‏)‏ الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له‏.‏ ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية الأنعام فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع‏.‏

وفعل ‏(‏كال‏)‏ يدل على أن فاعله مباشرُ الكيل، فهو الذي يدفع الشيء المكيل، وهو بمنزلة البائع، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل‏:‏ مكتال‏.‏ وهو من أخوات باع وابتاع، وشرى واشترى، ورهن وارتهن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏

و القُسطاس بضم القاف في قراءة الجمهور‏.‏ وقرأه بالكسر حفص، وحمزة، والكسائي، وخلف‏.‏ وها لغتان فيه، وهو اسم للميزان أي آلة الوزن، واسم للعدل، قيل‏:‏ هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط، أي عدل، وطاس وهوَ كفة الميزان‏.‏ وفي صحيح البخاري‏}‏ «وقال مجاهد‏:‏ القُسطاس‏:‏ العدل بالرومية»‏.‏ ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين‏.‏ وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول وإنما غيَّره العرب بالكسر على وجه الجواز لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية‏.‏ ومن أمثالهم «أعجمي فالعَب به ما شئت»‏.‏

ومعنى العدل والميزان صالحان هنا، لكن التي في الأنعام جاء فيها ‏{‏بالقِسط‏}‏ فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم‏.‏ والباء هنالك للملابسة‏.‏ وهذه الآية جاءت خطاباً للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومئ إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه‏.‏ فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة، ومفيدة للملابسة أيضاً‏.‏

والمستقيم‏:‏ السوي، مشتق من القَوام بفتح القاف وهو اعتدال الذات‏.‏ يقال‏:‏ قومته فاستقام‏.‏ ووصف الميزان به ظاهر‏.‏ وأما العدل فهو وصف له كاشف لأن العدل كله استقامة‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك خير‏}‏ مستأنفة‏.‏ والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي ‏{‏كلتم‏}‏ و‏{‏زنوا‏}‏‏.‏

و ‏{‏خير‏}‏ تفضيل، أي خير من التطفيف، أي خير لكم‏.‏ فضل على التطفيف تفضيلاً لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف، وهو أيضاً أفضل منه في الدنيا لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال‏.‏

والتأويل‏:‏ تفعيل من الأول، وهو الرجوع‏.‏ يقال‏:‏ أولَه إذا أرجعه، أي أحسن إرجاعاً، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه، لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد فإذا كانت الماهية صلاحاً استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها، فأطلق على استقرار الرأي بعد التأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة‏.‏

ومعنى كون ذلك أحسنَ تأويلاً‏:‏ أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف، لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية والذم عند الناس وغضب الله والسحتَ في ماله مع احتقار نفسه في نفسه، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ورضَى الله عنه ورضاه عن نفسه والبركة في ماله فهو أحسن تأويلاً‏.‏ وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

القفو‏:‏ الاتباع، يقال‏:‏ قَفاه يقفوه إذا اتبعه، وهو مشتق من اسم القفا، وهو ما وراء العنُق‏.‏ واستعير هذا الفعل هنا للعمل‏.‏ والمراد ب ‏{‏ما ليس لك به علم‏}‏ الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ولا غلبة ظن به‏.‏

ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة‏.‏ منها خلةٌ من خلال الجاهلية، وهي الطعن في أنساب الناس، فكانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتاناً، أو سوءَ ظن إذا رأوا بعداً في الشبه بين الابن وأبيه أو رأوا شَبَهه برجل آخر من الحي أو رأوا لوناً مخالفاً للون الأب أو الأم، تخرصاً وجهلاً بأسباب التشكل، فإن النسل ينزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنَيْن أو الأبعدِين، وجهلا بالشبه الناشئ عن الوحَم‏.‏ وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن امرأتي ولدت ولداً أسودَ ‏(‏يريد أن ينتفي منه‏)‏ فقال له النبي‏:‏ ‏"‏ هل لك من إبل‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ما ألوانهن‏؟‏ قال‏:‏ وُرْق‏.‏ قال‏:‏ وهل فيها من جمل أسود‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فمن أين ذلك‏؟‏ قال‏:‏ لعله عِرقٌ نزَعَه‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلعل ابنك نزعه عِرق ‏"‏، ونهاه عن الانتفاء منه‏.‏ فهذا كان شائعاً في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك‏.‏

ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك‏.‏ وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مُسِنٌّ امرأة شابة أو نصفاً فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة‏.‏ ولذلك لمّا قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً «سلوني» أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول‏:‏ مَن أبي‏؟‏ فيقول‏:‏ أبوك فلان‏.‏ وكان العرب في الجاهلية يطعنون في نسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة لأن أسامة كان أسود اللون وكان زيد أبوه أبيض أزهر، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن أسامة بن زيد بن حارثة‏.‏ فهذا خلق باطل كان متفشياً في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره‏.‏

ومنها تجنب الكذب‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا تقف‏:‏ لا تقل‏:‏ رأيتُ وأنتَ لم تر، ولا سمعتُ وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم‏.‏

ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي، وبذلك فسر محمد بن الحنفية وجماعة‏.‏

وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة ‏{‏إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا‏}‏‏.‏ فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تُسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات‏.‏

وهذا أدب خُلقي عظيم، وهو أيضاً إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم‏.‏ ثم هو أيضاً إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة‏.‏

وقد صيغت جملة ‏{‏كل أولئك كان عنه مسئولا‏}‏ على هذا النظم بتقديم ‏(‏كل‏)‏ الدالة على الإحاطة من أول الأمر‏.‏ وأتي باسم الإشارة دون الضمير بأن يقال‏:‏ كلها كان عنه مسؤولاً، لما في الإشارة من زيادة التمييز‏.‏ وأقحم فعل ‏(‏كان‏)‏ لدلالته على رسوخ الخبر كما تقدم غير مرة‏.‏

و ‏{‏عنه‏}‏ جار ومجرور في موضع النائب عن الفاعل لاسم المفعول، كقوله‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقدم عليه للاهتمام، وللرعي على الفاصلة‏.‏ والتقدير‏:‏ كان مسؤولاً عنه، كما تقول‏:‏ كان مسؤولاً زيد‏.‏ ولا ضير في تقديم المجرور الذي هو في رتبة نائب الفاعل وإن كان تقديم نائب الفاعل ممنوعاً لتوسع العرب في الظروف والمجرورات، ولأن تقديم نائب الفاعل الصريح يصيّره مبتدأ ولا يصلح أن يكون المجرور مبتدأ فاندفع مانع التقديم‏.‏

والمعنى‏:‏ كلّ السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عن نفسه، ومحقوقاً بأن يبين مستند صاحبه من حسه‏.‏

والسؤال‏:‏ كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق، كقول كعب‏:‏

وقيلَ إنك منسوب ومَسؤول ***

أي مؤاخذ بما اقترفت من هجو النبي والمسلمين‏.‏ وهو في الآية كناية بمرتبة أخرى عن مؤاخذة صاحب السمع والبصر والفؤاد بكذبه على حواسه‏.‏ وليس هو بمجاز عقلي لمنافاة اعتباره هنا تأكيدَ الإسناد ب ‏(‏إن‏)‏ وب ‏(‏كل‏)‏ وملاحظة اسم الإشارة و‏(‏كان‏)‏‏.‏ وهذ المعنى كقوله‏:‏ ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏النّور‏:‏ 24‏]‏ أي يسأل السمع‏:‏ هل سمعت‏؟‏ فيقول‏:‏ لم أسمع، فيؤاخذ صاحبه بأن أسند إليه ما لم يبلِّغه إياه وهكذا‏.‏

والاسم الإشارة بقوله‏:‏ أولئك‏}‏ يعود إلى السمع والبصر والفؤاد وهو من استعمال اسم الإشارة الغالب استعماله للعامل في غير العاقل تنزيلاً لتلك الحواس منزلة العقلاء لأنها جديرة بذلك إذ هي طريق العقل والعقل نفسه‏.‏ على أن استعمال ‏(‏أولئك‏)‏ لغير العقلاء استعمال مشهور قيل هو استعمال حقيقي أو لأن هذا المجاز غلب حتى ساوى الحقيقة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ وقال‏:‏

ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام

وفيه تجريد الإسناد مسؤولا‏}‏ إلى تلك الأشياء بأن المقصود سؤال أصحابها، وهو من نكت بلاغة القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

نهي عن خصلة من خصال الجاهلية، وهي خصلة الكبرياء، وكان أهل الجاهلية يتعمدونها‏.‏ وهذه الوصية الخامسة عشرة‏.‏

والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لا يناسب ما بَعده‏.‏

والمَرح بفتح الميم وفتح الراء‏:‏ شدة ازدهاء المرء وفرحه بحاله في عظمة الرزق‏.‏ و‏{‏مرحاً‏}‏ مصدر وقع حالاً من ضمير ‏{‏تمش‏}‏‏.‏ ومجيء المصدر حالاً كمجيئه صفة يرد منه المبالغة في الاتصاف‏.‏ وتأويله باسم الفاعل، أي لا تمش مارحاً، أي مشية المارح، وهي المشية الدالة على كبرياء الماشي بتمايل وتبختُر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏مرحاً‏}‏ مفعولاً مطلقاً مبيناً لفعل ‏{‏تمش‏}‏ لأن للمشي أنواعاً، منها‏:‏ ما يدلّ على أن صاحبه ذو مَرح‏.‏ فإسناد المرح إلى المشي مجاز عقلي‏.‏ والمشي مرحاً أن يكون في المشي شدة وطْء على الأرض وتطاول في بَدن الماشي‏.‏

وجملة ‏{‏إنك لن تخرق الأرض‏}‏ استئناف ناشئ عن النهي بتوجيه خطاب ثاننٍ في هذا المعنى على سبيل التهكم، أي أنك أيها الماشي مرَحاً لا تخرق بمشيك أديم الأرض، ولا تبلغ بتطاولك في مشيك طول الجبال، فماذا يغريك بهذه المِشية‏.‏

والخَرْق‏:‏ قطع الشيء والفصل بين الأديم، فخرق الأرض تمزيق قشر التراب‏.‏ والكلام مستعمل في التغليظ بتنزيل الماشي الواطئ الأرض بشدة منزلة من يبتغي خرق وجه الأرض وتنزيله في تطاوله في مشيه إلى أعلى منزلة من يريد أن يبلغ طول الجبال‏.‏

والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل‏.‏ فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بإظهار الشفوف عليهم وإرهابهم بقوته‏.‏ وعن عمر بن الخطاب‏:‏ أنه رأى غلاماً يتبختر في مشيته فقال له‏:‏ «إن البخترة مشية تُكره إلا في سبيل الله» يعني لأنها يرهب بها العَدو إظهاراً للقوة على أعداء الدين في الجهاد‏.‏

وإظهار اسم ‏(‏الأرض‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لن تخرق الأرض‏}‏ دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلاً عن غيره جارياً مجرى المثل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

تذييل للجمل المتقدمة ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ باعتبار ما اشتملت عليه من التحذيرات والنواهي‏.‏ فكل جملة فيها أمرٌ هي مقتضية نهياً عن ضده، وكل جملة فيها نهي هي مقتضية شيئاً منهياً عنه، فقوله‏:‏ ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه يقتضي عبادةً مذمومة منهياً عنها‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وبالوالدين إحساناً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ يقتضي إساءة منهياً عنها، وعلى هذا القياسُ‏.‏

وقرأ الجمهور سَيِّئَةً‏}‏ بفتح الهمزة بعد المثناة التحتية وبهاء تأنيث في آخره، وهي ضد الحسنة‏.‏

فالذي وصف بالسيئة وبأنه مكروه لا يكون إلا منهياً عنه أو مأموراً بضده إذ لا يكون المأمور به مكروهاً للآمر به، وبهذا يظهر للسامع معان اسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏كل ذلك‏}‏‏.‏

وإنما اعتبر ما في المذكورات من معاني النهي لأن الأهم هو الإقلاع عما يقتضيه جميعها من المفاسد بالصراحة أو بالالتزام، لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح في الاعتبار وإن كانا متلازمين في مثل هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ متعلق ب ‏{‏مكروهاً‏}‏ أي هو مذموم عند الله‏.‏ وتقديم هذا الظرف على متعلقه للاهتمام بالظرف إذ هو مضاف لاسم الجلالة، فزيادة ‏{‏عند ربك مكروهاً‏}‏ لتشنيع الحالة، أي مكروهاً فعلُه من فاعله‏.‏ وفيه تعريض بأن فاعله مكروه عند الله‏.‏

وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏كان سيئة‏}‏ بضم الهمزة وبهاء ضمير في آخره‏.‏ والضمير عائد إلى ‏{‏كل ذلك‏}‏، و‏{‏كل ذلك‏}‏ هو نفس السيء فإضافة ‏(‏سيئ‏)‏ إلى ضميره إضافة بيانية تفيد قوة صفة السيء حتى كأنه شيئان يضاف أحدهما إلى الآخر‏.‏ وهذه نكتة الإضافة البيانية كلما وقعت، أي كان ما نهى عنه من ذلك مكروهاً عند الله‏.‏

وينبغي أن يكون ‏{‏مكروهاً‏}‏ خبراً ثانياً ل ‏(‏كان‏)‏ لأنه المناسب للقراءتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة‏}‏

عدل عن مخاطبة الأمة بضمائر جمع المخاطبين وضمائر المخاطَب غير المعين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ردًّا إلى ما سبق في أول هذه الآيات من قوله‏:‏ ‏{‏وقضى ربك‏}‏ الخ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهو تذييل معترض بين جمل النهي‏.‏ والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأوامر والنواهي صراحةً من قوله‏:‏ ‏{‏وقضى ربك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وفي هذا التذييل تنبيه على أنّ ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرةَ هو من الحكمة، تحريضاً على اتباع ما فيها وأنه خير كثير‏.‏ وفيه امتنان على النبي بأن الله أوحى إليه، فذلك وجه قوله‏:‏ مما أوحى إليك تنبيهاً على أن مثل ذلك لا يصل إليه الأميون لولا الوحي من الله، وأنه علمه ما لم يكن يعلم وأمره أن يعلمه الناس‏.‏

والحكمة‏:‏ معرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلط ولا اشتباه، وتطلق على الكلام الدال عليها‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏‏.‏

عطف على جمل النهي المتقدمة، وهذا تأكيد لمضمون جملة ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، أعيد لقصد الاهتمام بأمر التوحيد بتكرير مضمونه وبما رتب عليه من الوعيد بأن يجازى بالخلود في النار مهانا‏.‏

والخطاب لغير معين على طريقة المنهيات قبله، وبقرينة قوله عقبه‏:‏ ‏{‏أفأصفاكم ربكم بالبنين‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والإلقاء‏:‏ رمْي الجسم من أعلى إلى أسفل، وهو يؤذن بالإهانة‏.‏

والملوم‏:‏ الذي يُنكر عليه ما فعله‏.‏

والمدحور‏:‏ المطرود، أي المطرود من جانب الله، أي مغضوب عليه ومبعد من رحمته في الآخرة‏.‏

و تُلقى منصوب في جواب النهي بفاء السببية والتسبب على المنهي عنه، أي فيتسبب على جعلك مع الله إلهاً آخر إلقاؤك في جهنَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

تفريع على مقدر يدل على تقديره المفرع عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ أفضلكم الله فأعطاكم البنين وجعل لنفسه البنات‏.‏ ومناسبته لما قبله أن نسبة البنات إلى الله ادعاء آلهة تنتسب إلى الله بالبنوة، إذ عبد فريق من العرب الملائكَة كما عبدوا الأصنام، واعتلوا لعبادتهم بأن الملائكة بنات الله تعالى كما حكى عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا إلى قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19 20‏]‏‏.‏ فلما نهوا عن أن يجعلوا مع الله إلهاً آخر خصص بالتحذير عبادة الملائكة لئلا يتوهموا أن عبادة الملائكة ليست كعبادة الأصنام لأن الملائكة بنات الله ليتوهموا أن الله يرضى بأن يعبدوا أبناءه‏.‏

وقد جاء إبطال عبادة الملائكة بإبطال أصلها في معتقدهم، وهو أنهم بنات الله، فإذا تَبَيّنَ بطلان ذلك علموا أن جعلهم الملائكة آلهة يساوي جعلهم الأصنام آلهة‏.‏

فجملة ‏{‏أفأصفاكم ربكم بالبنين‏}‏ إلى آخرها متفرعة على جملة ‏{‏ولا تجعل مع اللَّه إلها آخر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 39‏]‏ تفريعاً على النهي كما بيناه باعتبار أن المنهي عنه مشتمل عمومه على هذا النوع الخاص الجدير بتخصيصه بالإنكار وهو شبيه ببدل البعض‏.‏ فالفاء للتفريع وحقها أن تقع في أول جملتها ولكن أخرها أن للاستفهام الصدر في أسلوب الكلام العربي‏.‏ وهذا هو الوجه الحسن في موقع حروف العطف مع همزة الاستفهام‏.‏

وبعض الأيمة يجعل الاستفهام في مثل هذا استفهاماً على المعطوف والعاطف‏.‏ والاستفهام إنكار وتهكم‏.‏

والإصفاء‏:‏ جعل الشيء صَفْوا، أي خَالصاً، وتعدية أصفى إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال، وأصله‏:‏ أفأصفى لكم‏.‏ وقوله‏:‏ بالبنين‏}‏ الباء فيه إما مزيدة لتوكيد لصوق فعل ‏(‏أصفى‏)‏ بمفعوله‏.‏ وأصله‏:‏ أفأصفى لكم ربكم البنين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برءوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏؛ أو ضمّن أصفى معنى آثر فتكون الباء للتعدية دالة على معنى الاختصاص بمجرورها، فصار ‏(‏أصفى‏)‏ مع متعلقه بمنزلة فعلين، أي قصر البنين عليكم دونه، أي جعل لم البنين خالصة لا يساويكم هو بأمثالهم، وجعل لنفسه الإناث التي تكرهونها‏.‏ وفساد ذلك ظاهر بأدنى نظر فإذا تبين فساده على هذا الوضع فقد تبين انتفاء وقوعه إذ هو غير لائق بجلال الله تعالى‏.‏ وقد تقدم هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون‏}‏ في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏}‏ في ‏[‏النساء‏:‏ 117‏]‏‏.‏

وجملة إنكم لتقولون قولاً عظيماً‏}‏ تقرير لمعنى الإنكار وبيان له، أي تقولون‏:‏ اتخذ الله الملائكة بنات‏.‏ وأكد فعل «تقولون» بمصدره تأكيداً لمعنى الإنكار‏.‏ وجَعْله مجرد قول لأنه لا يعدو أن يكون كلاماً صدر عن غير روية، لأنه لو تأمله قائله أدنى تأمل لوجده غير داخل تحت قضايا المقبول عقلاً‏.‏

والعظيم‏:‏ القوي‏.‏ والمراد هنا أنه عظيم في الفساد والبطلاننِ بقرينة سياق الإنكار‏.‏

ولا أبلغ في تقبيح قولهم من وصفه بالعظيم، لأنه قول مدخول من جوانبه لاقتضائه إيثار الله بأدْوَن صنفي البنوة مع تخويلهم الصنف الأشرف‏.‏ ثم ما يقتضيه ذلك من نسبته خصائص الأجسام لله تعالى من تركيب وتولد واحتياج إلى الأبناء للإعانة وليخلُفوا الأصل بعد زواله، فأي فساد أعظم من هذا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏اتخذ‏}‏ إيماء إلى فساد آخر، وهو أنهم يقولون‏:‏ ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ والاتخاذ يقتضي أنه خَلقه ليتخذه، وذلك ينافي التولد فكيف يلتئم ذلك مع قوله‏:‏ الملائكة بنات الله من سروات الجن، وكيف يخلق الشيء ثم يكون ابناً له فذلك في البطلان ضغث على إبّالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

لما ذكر فظاعة قولهم بأن الملائكة بنات الله أعقب ذلك بأن في القرآن هدياً كافياً، ولكنهم يزدادون نفوراً من تدبره‏.‏

فجملة ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن‏}‏ معترضة مقترنة بواو الاعتراض‏.‏

والضمير عائد إلى الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله‏.‏

والتصريف‏:‏ أصله تعدد الصرف، وهو النقل من جهة إلى أخرى‏.‏ ومنه تصريف الرياح، وهو هنا كناية عن التبيين بمختلف البيان ومتنوعه‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏‏.‏

‏(‏وحذف مفعول ‏{‏صرفنا‏}‏ لأن الفعل نزل منزلة اللازم فلم يقدر له مفعول، أي، بينا البيان، أي ليذّكّروا ببيانه‏.‏ ويذّكّروا‏:‏ أصله يتذكروا، فأدغم التاء في الذال لتقارب مخرجيهما، وقد تقدم في أول سورة يونس، وهو من الذُكْر المضموم الذال الذي هو ضد النسيان‏.‏

وضمير ‏{‏ليذكروا‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أفأصفاكم ربكم بالبنين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 40‏]‏ أي ليذكر الذين خوطبوا بالتوبيخ في قوله‏:‏ ‏{‏أفأصفاكم ربكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 40‏]‏، فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، أو من خطاب المشركين إلى خطاب المؤمنين‏.‏

وقوله‏:‏ وما يزيدهم إلا نفوراً‏}‏ تعجب من حالهم‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏لِيَذْكُرُوا‏}‏ بسكون الذال وضم الكاف مخففة مضارع ذكر الذي مصدره الذُّكر بضم الذال‏.‏

وجملة ‏{‏وما يزيدهم إلا نفوراً‏}‏ في موضع الحال، وهو حال مقصود منه التعجيب من حال ضلالتهم‏.‏ إذ كانوا يزدادون نفوراً من كلام فُصّل وبُين لتذكيرهم‏.‏ وشأن التفصيل أن يفيد الطمأنينة للمقصود‏.‏ والنفور‏:‏ هروب الوحشي والدابة بجَزع وخشيةٍ من الأذى‏.‏ واستعير هنا لإعراضهم تنزيلاً لهم منزلة الدواب والأنعام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

عود إلى إبطال تعدد الآلهة زيادة في استئصال عقائد المشركين من عروقها، فالجملة استئناف ابتدائي بعد جملة ‏{‏ولا تجعل مع اللَّه إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 39‏]‏‏.‏ والمخاطب بالأمر بالقول هو النبي لدمغهم بالحجة المقنعة بفساد قولهم‏.‏ وللاهتمام بها افتتحت ب قل‏}‏ تخصيصاً لهذا بالتبليغ وإن كان جميع القرآن مأموراً بتبليغه‏.‏

وجملة ‏{‏كما تقولون‏}‏ معترضة للتنبيه على أن تعدد الآلهة لا تحقق له وإنما هو مجرد قول عار عن المطابقة لما في نفس الأمر‏.‏

وابتغاء السبيل‏:‏ طلب طريق الوصول إلى الشيء، أي توخيه والاجتهاد لإصابته، وهو هنا مجاز في توخي وسيلة الشيء‏.‏ وقد جاء في حديث موسى والخضر عليهما السلام أن موسى سأل السبيل إلى لُقيا الخضر‏.‏

و ‏(‏إذن‏)‏ دالة على الجواب والجزاء فهي مؤكدة لمعنى الجواب الذي تدل عليه اللام المقترنة بجواب ‏(‏لو‏)‏ الامتناعية الدالة على امتناع حصول جوابها لأجل امتناع وقوع شرطها، وزائدة بأنها تفيد أن الجواب جزاء عن الكلام المجاب‏.‏ فالمقصود الاستدلال على انتفاء إلهية الأصنام والملائكة الذين جعلوهم آلهة‏.‏

وهذا الاستدلال يحتمل معنيين مآلهما واحد‏:‏

والمعنى الأول‏:‏ أن يكون المراد بالسبيل سبيل السعي إلى الغلبة والقهر، أي لطلبوا مغالبة ذي العرش وهو الله تعالى‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏ ووجه الملازمة التي بني عليها الدليل أن من شأن أهل السلطان في العرف والعادة أن يتطلبوا توسعة سلطانهم ويسعى بعضهم إلى بعض بالغزو ويتألّبُوا على السلطان الأعظم ليسلبوه ملكه أو بَعضه، وقديماً ما ثارت الأمراء والسلاطين على ملك الملوك وسلبوه ملكه فلو كان مع الله آلهة لسلكوا عادة أمثالهم‏.‏

وتمام الدليل محذوف للإيجاز يدل عليه ما يستلزمه ابتغاءُ السبيل على هذا المعنى من التدافع والتغالب اللازمين عرفاً لحالة طلب سبيل النزول بالقرية أو الحَي لقصد الغزو‏.‏ وذلك المفضي إلى اختلال العالم لاشتغال مدبريه بالمقاتلة والمدافعة على نحو ما يوجد في ميثلوجيا اليونان من تغالب الأرباب وكَيد بعضهم لبعض، فيكون هذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وهو الدليل المسمى ببرهان التمانع في علم أصول الدين، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التمكن والظفر بالمطلوب‏.‏ والابتغاء على هذا ابتغاء عن عداوة وكراهة‏.‏

وقوله‏:‏ كما تقولون‏}‏ على هذا الوجه تنبيه على خطئهم، وهو من استعمال الموصول في التنبيه على الخطأ‏.‏

والمعنى الثاني‏:‏ أن يكون المراد بالسبيل سبيل الوصول إلى ذي العرش، وهو الله تعالى، وصول الخضوع والاستعطاف والتقرب، أي لطلبوا ما يوصلهم إلى مرضاته كقوله‏:‏ ‏{‏يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏}‏

‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏

ووجه الاستدلال أنكم جعلتموهم آلهة وقلتم ما نعبدهم إلا ليكونوا شفعاءنا عند الله، فلو كانوا آلهة كما وصفتم إلهيتهم لكانوا لا غنى لهم عن الخضوع إلى الله، وذلك كاف لكم بفساد قولكم، إذ الإلهية تقتضي عدم الاحتياج فكان مآل قولكم إنهم عباد لله مكرمون عنده، وهذا كاف في تفطنكم لفساد القول بإلهيتهم‏.‏

والابتغاء على هذا ابتغاء محبة ورغبة، كقوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا‏}‏ ‏[‏المزمّل‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقريب من معناه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التوسل إليه والسعي إلى مرضاته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كما تقولون‏}‏ على هذا المعنى تقييد للكون في قوله‏:‏ ‏{‏لو كان معه آلهة أي لو كان معه آلهة حال كونهم كما تقولون، أي كما تصفون إلهيتهم من قولكم‏:‏ ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏

واستحضار الذات العلية بوصف ذي العرش‏}‏ دون اسمه العَلم لما تتضمنه الإضافة إلى العرش من الشأن الجليل الذي هو مثار حسد الآلهة إياه وطمعهم في انتزاع ملكه على المعنى الأول، أو الذي هو مطمع الآلهة الابتغاء من سعة ما عنده على المعنى الثاني‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏كما تقولون‏}‏ بتاء الخطاب على الغالب في حكاية القول المأمور بتبليغه أن يحكى كما يقول المبلغ حين إبلاغه‏.‏ وقرأه ابن كثير وحفص بياء الغيبة على الوجه الآخر في حكاية القول المأمور بإبلاغه للغير أن يحكى بالمعنى‏.‏ لأن في حال خطاب الآمر المأمور بالتبليغ يكون المبلغ له غائباً وإنما يصير مخاطباً عند التبليغ فإذا لوحظ حاله هذا عبر عنه بطريق الغيبة كما قرئ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ بالتاء وبالياء أو على أن قوله‏:‏ كما يقولون‏}‏ اعتراض بين شرط ‏(‏لو‏)‏ وجوابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

إنشاء تنزيه لله تعالى عما ادعوه من وجود شركاء له في الإلهية‏.‏

وهذا من المقول اعتراض بين أجزاء المقول، وهو مستأنف لأنه نتيجة لبطلان قولهم‏:‏ إن مع الله آلهة، بما نهضت به الحجة عليهم من قوله‏:‏ ‏{‏إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلاً‏}‏‏.‏ وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عمّا يصفون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏‏.‏

والمراد بما يقولون ما يقولونه مما ذكر آنفاً كقوله تعالى‏:‏ ونرثه ما يقول‏.‏

وعلوا‏}‏ مفعول مطلق عامله ‏{‏تعالى‏}‏‏.‏ جيء به على غير قياس فعله للدلالة على أن التعالي هو الاتصاف بالعلو بحق لا بمجرد الادعاء كقول سعدة أم الكميت بن معر‏:‏

تعاليت فوق الحق عن آل فَقعس *** ولم تَخش فيهم ردة اليوم أو غد

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏، أي يدعي الفضل ولا فضل له‏.‏ وهو منصوب على المفعولية المطلقة المبينة للنوع‏.‏

والمراد بالكبير الكامل في نوعه‏.‏ وأصل الكبير صفة مشبهة‏:‏ الموصوف بالكبر‏.‏ والكبر‏:‏ ضخامة جسم الشيء في متناول الناس، أي تعالى أكمل علو لا يشوبه شيء من جنس ما نسبوه إليه، لأن المنافاة بين استحقاق ذاته وبين نسبة الشريك له والصاحبة والولد بلغت في قوة الظهور إلى حيث لا تحتاج إلى زيادة لأن وجوب الوجود والبقاء ينافي آثار الاحتياج والعجز‏.‏

وقرأ الجمهور عما يقولون‏}‏ بياء الغيبة‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بتاء الخطاب على أنه التفات، أو هو من جملة المقول من قوله‏:‏ ‏{‏قل لو كان معه آلهة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏ على هذه القراءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏يسبح له‏}‏ الخ‏.‏ حال من الضمير في ‏{‏سبحانه‏}‏ أي نسبحه في حال أنه ‏{‏يسبح له السماوات السبع‏}‏ إلخ، أي ‏{‏يسبح له‏}‏ العوالم وما فيها وتنزيهه عن النقائص‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏له‏}‏ لام تعدية ‏{‏يسبح‏}‏ المضمن معنى يشهد بتنزيهه، أو هي اللام المسماة لام التبيين كالتي في قوله‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏ وفي قولهم‏:‏ حمدت الله لك‏.‏

ولما أسند التسبيح إلى كثير من الأشياء التي لا تنطق دل على أنه مستعمل في الدلالة على التنزيه بدلالة الحال، وهو معنى قوله‏:‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ حيث أعرضوا عن النظر فيها فلم يهتدوا إلى ما يحف بها من الدلالة على تنزيهه عن كل ما نسبوه من الأحوال المنافية للإلهية‏.‏

والخطاب في ‏{‏لا تفقهون‏}‏ يجوز أن يكون للمشركين جرياً على أسلوب الخطاب السابق في قوله‏:‏ ‏{‏إنكم لتقولون قولاً عظيماً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لو كان معه آلهة كما تقولون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏ لأن الذين لم يفقهوا دِلالة الموجودات على تنزيه الله تعالى هم الذين لم يثبتوا له التنزيه عن النقائص التي شهدت الموجودات حيثما توجه إليها النظر بتنزيهه عنها فلم يحرم من الاهتداء إلى شهادتها إلا الذين لم يقلعوا عن اعتقاد أضدادها‏.‏ فأما المسلمون فقد اهتدوا إلى ذلك التسبيح بما أرشدهم إليه القرآن من النظر في الموجودات وإن تفاوتت مقادير الاهتداء على تفاوت القرائح والفهوم‏.‏

ويجوز أن يكون لجميع الناس باعتبار انتفاء تمام العلم بذلك التسبيح‏.‏

وقد مثل الإمام فخر الدين ذلك فقال‏:‏ إنك إذا أخذت تُفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثير من الأجزاء التي لا تتجزأ ‏(‏أي جواهر فردة‏)‏، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ صفاتٌ مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة هو من الجائزات فلا يُجعل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم، فكل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا المعنى قال تعالى‏:‏ ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏‏.‏

ولعل إيثار فعل ‏{‏لا تفقهون‏}‏ دون أن يقول‏:‏ لا تعلمون، للإشارة إلى أن المنفي علم دقيق فيؤيد ما نحاه فخر الدين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يسبح‏}‏ بياء الغائب وقرأه أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وخلف بتاء جماعة المؤنث والوجهان جائزان في جموع غير العاقل وغير حقيقي التأنيث‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان حليماً غفوراً‏}‏ استئناف يفيد التعريض بأن مقالتهم تقتضي تعجيل العقاب لهم في الدنيا لولا أن الله عاملهم بالحلم والإمهال‏.‏ وفي ذلك تعريض بالحث على الإقلاع عن مقالتهم ليغفر الله لهم‏.‏

وزيادة ‏(‏كان‏)‏ للدلالة على أن الحلم والغفران صفتان له محققتان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

عطف جملة على جملة وقصة على قصة، فإنه لما نوّه بالقرآن في قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏، ثم أعقب بما اقتضاه السياق من الإشارة إلى ما جاء به القرآن من أصول العقيدة وجوامع الأعمال وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر عاد هنا إلى التنبيه على عدم انتفاع المشركين بهدي القرآن لمناسبة الإخبار عن عدم فقههم دلالةَ الكائنات على تنزيه الله تعالى عن النقائص، وتنبيهاً للمشركين على وجوب إقلاعهم عن بعثتهم وعنادهم، وتأميناً للنبيء من مكرهم به وإضمارهم إضراره، وقد كانت قراءته القرآن تغيظهم وتثير في نفوسهم الانتقام‏.‏

وحقيقة الحجاب‏:‏ الساتر الذي يحجب البصر عن رؤية ما وراءه‏.‏ وهو هنا مستعار للصرفة التي يصرف الله بها أعداء النبي عليه الصلاة والسلام عن الإضرار به للإعراض الذي يعرضون به عن استماع القرآن وفهمه‏.‏ وجعل الله الحجاب المذكور إيجادَ ذلك الصارف في نفوسهم بحيث يهمون ولا يفعلون، وذلك من خور الإرادة والعزيمة بحيث يخطر الخاطر في نفوسهم ثم لا يصممون، وتخطر معاني القرآن في أسماعهم ثم لا يتفهمون‏.‏ وذلك خلق يسري إلى النفوس تديجياً تغرسه في النفوس بادئ الأمر شهوةُ الإعراض وكراهية المسموع منه ثم لا يلبث أن يصير ملكة في النفس لا تقدر على خلعه ولا تغييره‏.‏

وإطلاق الحجاب على ما يصلح للمعنيين إما للحمل على حقيقة اللفظ، وإما للحمل على ما له نظير في القرآن‏.‏ وقد جاء في الآية الأخرى ‏{‏ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولما كان إنكارهم البعث هو الأصل الذي استبعدوا به دعوة النبي حتى زعموا أنه يقول محالاً إذ يخبر بإعادة الخلق بعد الموت ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كل ممزق إنكم لفي خَلْق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7- 8‏]‏ استحضروا في هذا الكلام بطريق الموصولة لما في الصلة من الإيماء إلى علة جَعل ذلك الحجاب بينه وبينهم فلذلك قال‏:‏ وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏‏.‏

ووصف الحجاب بالمستور مبالغة في حقيقة جنسه، أي حجاباً بالغاً الغاية في حجب ما يحجبه هو حتى كأنه مستور بساتر آخر، فذلك في قوة أن يقال‏:‏ جعلنا حجاباً فوق حجاب‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون حجراً محجورا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 22‏]‏‏.‏

أو أريد أنه حجاب من غير جنس الحجب المعروفة فهو حجاب لا تراه الأعين ولكنها ترى آثار أمثاله‏.‏ وقد ثبت في أخبار كثيرة أن نفراً هموا الإضرار بالنبي فما منهم إلا وقد حدَث له ما حال بينه وبين همه وكفى الله نبيئه شرهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسيكفيكهم الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏ وهي معروفة في أخبار السيرة‏.‏

وفي الجمع بين حجاباً‏}‏ و‏{‏مستوراً‏}‏ من البديع الطباقُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏

عطف جعل على جعل‏.‏

والتصريح بإعادة فعل الجعل يؤذن بأن هذا جعل آخر فيرجّح أن يكون جعل الحجاب المستور جعل الصرفة عن الإضرار، ويكون هذا جعل عدم التدبر في القرآن خلقة في نفوسهم‏.‏ والقول في نظم هذه الآية ومعانيها تقدم في نظيرها في سورة الأنعام‏.‏

لما كان الإخبار عنهم قبل هذا يقتضي أنهم لا يفقهون معاني القرآن تبع ذلك بأنهم يُعرضون عن فهم ما فيه خير لهم، فإذا سمعوا ما يبطل إلهية أصنامهم فهموا ذلك فولوا على أدبارهم نفوراً، أي زادهم ذلك الفهم ضلالاً كما حرمهم عدمُ الفهم هدياً، فحالهم متناقض‏.‏ فهم لا يسمعون ما يحق أن يسمع، ويسمعون ما يَهْوَوْنَ أن يسمعوه ليزدادوا به كفراً‏.‏

ومعنى «ذكرت ربك وحده» ظاهره أنك ذكرته مقتصراً على ذكره ولم تذكر آلهتهم لأن ‏{‏وحده‏}‏ حال من ‏{‏ربك‏}‏ الذي هو مفعول ‏{‏ذكرت‏}‏‏.‏ ومعنى الحال الدلالة على وجود الوصف في الخارج ونفسسِ الأمر، أي كان ذكرك له، وهو موصوف بأنه وحده في وجود الذكر، فيكون تولي المشركين على أدبارهم حينئذٍ من أجل الغضب من السكوت عن آلهتهم وعدم الاكتراث بها بناءً على أنهم يعلمون أنه ما سكت عن ذكر آلهتهم إلا لعدم الاعتراف بها‏.‏ ولولا هذا التقدير لما كان لتوليهم على إدبارهم سبب، لأن ذكر شيء لا يدل على إنكار غيره فإنهم قد يذكرون العُزى أو اللاتَ مثلاً ولا يذكرون غيرها من الأصنام لا يظن أن الذاكر للعزى منكر منَاةَ، وفي هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ويحتمل أن المعنى‏:‏ إذا ذكرت ربك بتوحيده بالإلهية وهو المناسب لنفورهم وتوليهم، لأنهم إنما ينكرون انفراد الله تعالى بالإلهية، فتكون دلالة وحده‏}‏ على هذا المعنى بمعونة المقام وفِعل ‏{‏ذكرت‏}‏‏.‏

ولعل الحال الجائية من معمول أفعال القول والذكر ونحوهما تحتمل أن يكون وجودُها في الخارج، وأن يكون في القول واللسان، فيكون معنى «ذكرت ربك وحده» أنه موحد في ذِكرك وكلامك، أي ذكرتَه موصوفاً بالوحدانية‏.‏

وتخصيص الذكر بالكون في القرآن لمناسبته الكلام على أحوال المشركين في استماع القرآن، أو لأن القرآن مقصود منه التعليم والدعوة إلى الدين، فخلو آياته عن ذكر آلهتهم مع ذكر اسم الله يفهم منه التعريض بأنها ليست بآلهة فمن ثم يغضبون كلما ورد ذكر الله ولم تذكر آلهتهم، فكونه في القرآن هو القرينة على أنه أراد إنكار آلهتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وحده‏}‏ تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجئتنا لنعبد الله وحده‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 70‏]‏‏.‏

والتولية‏:‏ الرجوع من حيث أتى‏.‏ وعلى أدبارهم تقدم القول فيه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ترتدوا على أدباركم‏}‏ في سورة العقود ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏‏.‏

و ‏{‏نفوراً‏}‏ يجوز أن يكون جمع نافر مثل سُجود وشُهود‏.‏ ووزن فُعول يطرد في جمع فاعل فيكون اسم الفاعل على صيغة المصدر فيكون نفوراً على هذا منصوباً على الحال من ضمير ‏{‏ولوا‏}‏، ويجوز جعله مصدراً منصوباً على المفعولية لأجله، أي ولوا بسبب نفورهم من القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

كان المشركون يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام إذا قرأ القرآن يستمعون لما يقوله ليتلقفوا ما في القرآن مما ينكرونه، مثل توحيد الله، وإثبات البعث بعد الموت، فيعجب بعضُهم بعضاً من ذلك، فكان الإخبار عنهم بأنهم جُعلت في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر وأنهم يولون على أدبارهم نفوراً إذا ذكر الله وحده، ويثير في نفس السامع سُؤالاً عن سبب تجمعهم لاستماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، فكانت هذه الآية جواباً عن ذلك السؤال‏.‏ فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً‏.‏

وافتتاح الجملة بضمير الجلالة لإظهار العناية بمضمونها‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّ الله يعلم علماً حقاً داعي استماعهم، فإن كثرت الظنون فيه فلا يعلم أحد ذلك السبب‏.‏

«وأعلَم» اسم تفضيل مستعمل في معنى قوة العلم وتفصيله‏.‏ وليس المراد أن الله أشد علماً من غيره إذ لا يقتضيه المقام‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما يستمعون‏}‏ لتعدية اسم التفضيل إلى متعلقه لأنّه قاصر عن التعدية إلى المفعول‏.‏ واسم التفضيل المشتق من العلم ومن الجهل يُعدى بالباء وفي سوى ذينك يعدى باللام‏.‏ يقال‏:‏ هو أعظَى للدراهم‏.‏

والباء في ‏{‏يستمعون به‏}‏ للملابسة‏.‏ والضمير المجرور بالباء عائد إلى ‏(‏ما‏)‏ الموصولة، أي نحن أعلم بالشيء الذي يلابسهم حين يستمعون إليك، وهي ظرف مستقر في موضع الحال‏.‏ والتقدير‏:‏ متلبسين به‏.‏

وبيان إبْهام ‏(‏ما‏)‏ حاصل بقوله‏:‏ ‏{‏إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى‏}‏‏.‏

و ‏(‏إذ‏)‏ ظرف ل ‏{‏يستمعون به‏}‏‏.‏

والنجوى‏:‏ اسم مصدر المناجاة، وهي المحادثة سِراً‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏}‏ في سورة ‏{‏النساء‏:‏ 114‏]‏‏.‏

وأخبر عنهم بالمصدر للمبالغة في كثرة تناجيهم عند استماع القرآن تشاغُلاً عنه‏.‏

وإذ هم نجوى‏}‏ عطف على ‏{‏إذ يستمعون إليك‏}‏، أي نحن أعلم بالّذي يستمعونه، ونحْن أعلم بنجواهم‏.‏

و ‏{‏إذ يقول‏}‏ بَدل من ‏{‏إذ هم نجوى‏}‏ بدل بعض من كل، لأن نجواهم غير منحصرة في هذا القوْل‏.‏ وإنما خص هذا القول بالذكر لأنه أشدّ غرابة من بقية آفاكهم للبون الواضح بين حال النبي صلى الله عليه وسلم وبين حال المسحور‏.‏

ووقع إظهار في مقام الإضمار في ‏{‏إذ يقول الظالمون‏}‏ دون‏:‏ إذ يقولون، للدلالة على أن باعث قولهم ذلك هو الظلم، أي الشرك فإن الشرك ظلم، أي ولولا شركهم لما مثل عاقل حالة النبي الكاملة بحالة المسحور‏.‏ ويجوز أن يراد الظلم أيضاً الاعتداء، أي الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ونظائرها كثيرة في القرآن‏.‏

والتعبير بفعل النظر إشارة إلى أنه بلغ من الوضوح أن يكون منظوراً‏.‏

والاستفهام ب ‏(‏كيف‏)‏ للتعجيب من حالة تمثيلهم للنبيء عليه الصلاة والسلام بالمسحور ونحوه‏.‏

وأصل ‏(‏ضرب‏)‏ وضع الشيء وتثبيته يقال‏:‏ ضرب خيمة، ويطلق على صوغ الشيء على حجم مخصوص، يقال‏:‏ ضرب دنانير، وهو هنا مستعار للإبراز والبيان تشبيهاً للشيء المبرز المبين بالشيء المثبت‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

واللام في لك‏}‏ للتعليل والأجْل، أي ضربوا الأمثال لأجلك، أي لأجل تمثيلك، أي مثلوك‏.‏ يقال‏:‏ ضربت لك مثلاً بكذا‏.‏ وأصله مثلتك بكذا، أي أجِد كذا مثلاً لك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 74‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏ أي اجعلهم مثلاً لحالهم‏.‏

وجمع الأمثال‏}‏ هنا، وإن كان المحكي عنهم أنهم مثلوه بالمسحور، وهو مثل واحد، لأن المقصود التعجيب من هذا المثل ومن غيره فيما يصدر عنهم من قولهم‏:‏ هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، هو ساحر، هو مسحور‏.‏ وسميت أمثالاً باعتبار حالهم لأنهم تحيروا فيما يصفونه به للناس لئلا يعتقدوه نبيئاً، فجعلوا يتطلبون أشبه الأحوال بحاله في خيالهم فيلحقونه به، كمن يدرج فرداً غريباً في أشبه الأجناس به، كمن يقول في الزرافة‏:‏ إنها مِن الأفراس أو من الإبل أو من البقر‏.‏

وفُرع ضَلالُهم على ضرب أمثالهم لأن ما ضربوه من الأمثال كله باطل وضلال وقوة في الكفر‏.‏ فالمراد تفريع ضلالهم الخاص ببطلان تلك الأمثال، أي فظهر ضلالهم في ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد بالضلال هنا أصل معناه، وهو الحيرة في الطريق وعدم الاهتداء، أي ضربوا لك أشباهاً كثيرة لأنهم تحيروا فيما يعتذرون به عن شأنك العظيم‏.‏

وتفريع فلا يستطيعون سبيلاً‏}‏ على ‏{‏فضلوا‏}‏ تفريع لتوغلهم في الحيرة على ضلالهم في ضرب تلك الأمثال‏.‏

والسبيل‏:‏ الطريق، واستطاعته استطاعة الظفر به، فيجوز أن يراد بالسبيل سبيل الهدى على الوجه الأول في تفسير الضلال، ويجوز أن يكون تمثيلاً لحال ضلالهم بحال الذي وقف في فيفاء لا يدري من أية جهة يسلك إلى المقصود، على الوجه الثاني في تفسير الضلال‏.‏

والمعنى على هذا‏:‏ أنهم تحيروا كيف يصفون حالك للناس لتوقعهم أن الناس يكذبونهم، فلذلك جعلوا ينتقلون في وصفه من صفة إلى صفة لاستشعارهم أن ما يصفونه به باطل لا يطابقه الواقع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون جملة ‏{‏وقالوا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏قل لو كان معه آلهة كما تقولون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏ باعتبار ما تشتمل عليه من قوله‏:‏ كما تقولون لقصد استئصال ضلالة أخرى من ضلالاتهم بالحجّة الدامِغة، بعد استئصال الّتي قبلها بالحجة القاطعة بقوله قل لو كان معه آلهة كما تقولون الآية وما بينهما بمنزلة الاعتراض‏.‏

ويجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 47‏]‏ التي مضمونها مظروف للنجوى، فيكون هذا القول مما تَنَاجَوْا به بينهم، ثم يجهرون بإعلانه ويعُدونه حجتهم على التكذيب‏.‏

والاستفهام إنكاري‏.‏

وتقديم الظرف من قوله‏:‏ أئذا كنا عظاماً‏}‏ للاهتمام به لأن مضمونه هو دليل الاستحالة في ظنهم، فالإنكار متسلط على جملة ‏{‏أئنا لمبعوثون‏}‏‏.‏ وقوة إنكار ذلك مقيد بحالة الكون عظاماً ورفاتاً، وأصل تركيب الجملة‏:‏ أإنا لمبعوثون إذا كنا عظاماً ورفاتاً‏.‏

وليس المقصود من الظرف التقييد، لأن الكون عظاماً ورفاتاً ثابت لكل من يموت فيبعث‏.‏

والبعث‏:‏ الإرسال‏.‏ وأطلق هنا على إحياء الموتى، لأن الميت يشبه الماكث في عدم مبارحة مكانه‏.‏

والعظام‏:‏ جمع عظم، وهوما منه تركيب الجسد للإنسان والدواب‏.‏ ومعنى ‏{‏كنا عظاماً‏}‏ أنهم عظام لا لحم عليها‏.‏

والرفات‏:‏ الأشياء المرفوتة، أي المفتتة‏.‏ يقال‏:‏ رفَت الشيء إذا كسره كِسراً دقيقة‏.‏ ووزن فُعال يدل على مفعول أفعال التجزئة مثل الدقاق والحُطام والجُذاذ والفُتات‏.‏

و ‏{‏خلقاً جديداً‏}‏ حال من ضمير «مبعوثون»‏.‏ وذكر الحال لتصوير استحالة البعث بعد الفناء لأن البعث هو الإحياء، فإحياء العظام والرفات محال عندهم، وكَوْنهم خلقاً جديداً أدخل في الاستحالة‏.‏

والخلق‏:‏ مصدر بمعنى المفعول، ولكونه مصدراً لم يتبع موصوفه في الجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏‏.‏ أمر الله رسوله بأن يجيبهم بذلك‏.‏

وقرينة ذلك مقابلةُ فعل ‏{‏كنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏ في مقالهم بقوله‏:‏ ‏{‏كونوا‏}‏، ومقابلة ‏{‏عظاماً ورفاتاً‏}‏ في مقالهم بقوله‏:‏ ‏{‏حجارة أو حديداً‏}‏ الخ، مقابلة أجسام واهية بأجسام صُلبة‏.‏ ومعنى الجواب أن وهن الجسم مساوٍ لصلابته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى على تكييفه كيف يشاء‏.‏

لهذا كانت جملة ‏{‏قل كونوا حجارة‏}‏ الخ غير معطوفة، جرْياً على طريقة المحاورات التي بينتُها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وإن كان قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ ليسَ مبدأ محاورة بل المحاورة بالمقول الذي بعده؛ ولكن الأمر بالجواب أعطي حكم الجواب فلذلك فصلت جملة ‏{‏قل‏}‏‏.‏

واعلم أن ارتباطَ رد مقالتهم بقوله‏:‏ ‏{‏كونوا حجارة‏}‏ الخ غامض، لأنهم إنما استبعدوا أو أحالوا إرجاعَ الحياة إلى أجسام تَفرّقت أجزاؤُها وانخرم هيكلها، ولم يعللوا الإحالة بأنها صارت أجساماً ضعيفة، فيرد عليهم بأنها لو كانت من أقوى الأجسام لأعيدت لها الحياة‏.‏

فبنا أن نبين وجه الارتباط بين الرد على مقالتهم وبين مقالتهم المردودة، وفي ذلك ثلاثة وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن تكون صيغة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏كونوا‏}‏ مستعملة في معنى التسوية، ويكون دليلاً على جواببٍ محذوف تقديره‏:‏ إنكم مبعوثون سَواء كنتم عظاماً ورُفاتاً أو كنتم حجارة أو حديداً، تنبيهاً على أن قدرة الله تعالى لا يتعاصى عليها شيء‏.‏ وذلك إدماج يجعل الجملة في معنى التذييل‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن تكون صيغة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏كونوا‏}‏ مستعملة في الفرض، أي لو فُرض أن يكون الأجساد من الأجسام الصلبة وقيل لكم‏:‏ إنكم مبعوثون بعد الموت لأحلتم ذلك واستبعدتم إعادة الحياة فيها‏.‏ وعلى كلا الوجهين يكون قوله‏:‏ ‏{‏مما يكبر في صدوركم‏}‏ نهايةَ الكلام، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون من يعيدنا‏}‏ مفرعاً على جملة ‏{‏وقالوا أئذا كنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏ الخ تفريعاً على الاستئناف‏.‏ وتكون الفاء للاستئناف وهي بمعنى الواو على خلاف في مجيئها للاستئناف، والكلام انتقال لحكاية تكذيب آخر من تكذيباتهم‏.‏

الوجه الثالث‏:‏‏}‏ أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏قل كونوا حجارة‏}‏ كلاماً مستأنفاً ليس جواباً على قولهم‏:‏ ‏{‏أئذا كنا عظاماً ورفاتاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏ الخ وتكون صيغة الأمر مستعملة في التسوية‏.‏ وفي هذا الوجه يكون قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون من يعيدنا‏}‏ متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏كونوا حجارة أو حديداً‏}‏ الخ، ومفرعا على كلام محذوف يدل عليْه قوله‏:‏ ‏{‏كونوا حجارة‏}‏، أي فلو كانوا كذلك لقالوا‏:‏ من يعيدنا، أي لانْتقلوا في مدارج السفسطة من إحالة الإعادة إلى ادعاء عدم وجود قادر على إعادة الحياة لهم لصلابة أجسادهم‏.‏

وبهذه الوجوه يلتئم نظم الآية وينكشف ما فيه من غموض‏.‏

والحديد‏:‏ تراب معدني، أي لا يوجد إلا في مغاور الأرض، وهو تراب غليظ مُختلف الغلظ، ثقيل أدكن اللون، وهو إما محتت الأجزاء وإما مورّقُها، أي مثل الورَق‏.‏

وأصنافه ثمانية عشر باعتبار اختلاف تركيب أجزائه، وتتفاوت ألوان هذه الأصناف، وأشرف أصنافه الخالصُ، وهو السالم في جميع أجزائه من المواد الغريبة‏.‏ وهذا نادر الوجود وأشهر ألوانه الأحمر، ويقسم باعتبار صلابته إلى صنفين أصليين يسميان الذكر والأنثى، فالصلب هو الذكر واللين الأنثى‏.‏ وكان العرب يصفون السيف الصلب القاطع بالذكر‏.‏ وإذا صهر الحديد بالنار تمازجت أجزاؤه وتميع وصار كالحلواء فمنه ما يكون حديدَ صب ومنه ما يكون حديدَ تطريق، ومنه فُولاذ‏.‏ وكل صنف من أصنافه صالح لما يناسب سبكه منه على اختلاف الحاجة فيها إلى شدة الصلابة مثل السيوف والدروع‏.‏ ومن خصائص الحديد أن يعلوَه الصدأُ، وهو كالوسخ أخضرُ ثم يستحيل تدريجاً إلى أكسيد ‏(‏كلمة كيمياوية تدل على تعلق أجزاء الأكسجين بجسم فتفسده‏)‏ وإذا لم يتعهد الحديد بالصقل والزيت أخذ الصدأ في نخر سطحه، وهذا المعدن يوجد في غالب البلاد‏.‏ وأكثر وجوده في بلاد الحبشة وفي صحراء مصر‏.‏ ووجدت في البلاد التونسية معادن من الحديد‏.‏ وكان استعمال الحديد من العصور القديمة؛ فإن الطور الثاني من أطور التاريخ يعرف بالعصر الحديدي، أي الذي كان البشر يستعمل فيه آلات متخذة من الحديد، وذلك من أثر صنعة الحديد، وذلك قبل عصر تدوين التاريخ‏.‏ والعصر الذي قبله يعرف بالعصر الحجري‏.‏

وقد اتصلت بتعيين الزمن الذي ابتدئ فيه صنع الحديد أساطير واهية لا ينضبط بها تاريخه‏.‏ والمقطوع به أن الحديد مستعمل عند البشر قبل ابتداء كتابة التاريخ ولكونه يأكله الصدأ عند تعرضه للهواء والرطوبة لم يَبق من آلاته القديمة إلا شيء قليل‏.‏

وقد وُجدتُ في ‏(‏طيبَة‏)‏‏:‏ ومَدافن الفراعنة في ‏(‏منفيس‏)‏ بمصر صور على الآثار مرسوم عليها‏:‏ صور خزائن شاحذين مداهم وقد صبغوها في الصور باللون الأزرق لون الفولاذ، وذلك في القرن الحادي والعشرين قبل التاريخ المسيحي‏.‏ وقد ذكر في التوراة وفي الحديث قصة الذبيح، وقصة اختتان إبراهيم بالقدوم‏.‏ ولم يذكر أن السكين ولالقدوم كانتا من حجر الصوان، فالأظهر أنه بآلة الحديد، ومن الحديد تتخذ السلاسل للقيد، والمقامع للضرب، وسيأتي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم مقامع من حديد‏}‏ في سورة ‏[‏الحج‏:‏ 21‏]‏‏.‏

والخلق‏:‏ بعنى المخلوق، أي أو خلقاً آخر مما يعظم في نفوسكم عن قبوله الحياة ويستحيل عندكم على الله إحياؤه مثل الفولاذ والنحاس‏.‏

وقوله‏:‏ مما يكبر في صدوركم‏}‏ صفة ‏{‏خلقاً‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏يكبر‏}‏ يعظم وهو عظم مجازي بمعنى القوي في نوعه وصفاته، والصدور‏:‏ العقول، أي مما تعدونه عظيماً لا يتغير‏.‏

وفي الكلام حذف دل عليْه الكلام المردود وهو قولهم‏:‏ ‏{‏أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ كونوا أشياء أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات‏.‏

والمعنى‏:‏ لو كنتم حجارة أو حديداً لأحياكم الله، لأنهم جعلوا كونهم عظاماً حجة لاستحالة الإعادة، فرد عليهم بأن الإعادة مقدرة لله تعالى ولو كنتم حجارة أو حديداً، لأن الحجارة والحديد أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات إذ لم يسبق فيهما حلول الحياة قط بخلاف الرفات والعظام‏.‏

والتفريع في فسيقولون من يعيدنا‏}‏ على جملة ‏{‏قل كونوا حجارة‏}‏ أي قل لهم ذلك فسيقولون لك‏:‏ من يعيدنا‏.‏

وجُعِلَ سؤالهم هنا عن المعيد لا عن أصل الإعادة لأن البحث عن المعيد أدخل في الاستحالة من البحث عن أصل الإعادة، فهو بمنزلة الجواب بالتسليم الجدلي بعد الجواب بالمنع فإنهم نفوا إمكان إحياء الموتى، ثم انتقلوا إلى التسليم الجدلي لأن التسليم الجدلي أقوى، في معارضة الدعوى، من المنع‏.‏

والاستفهام في ‏{‏من يعيدنا‏}‏ تهكمي‏.‏ ولما كان قولهم هذا محقق الوقوع في المستقبل أمر النبي بأن يجيبهم عندما يقولونه جواب تعيين لمن يعيدهم إبطالاً للازم التهكم، وهو الاستحالة في نظرهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل الذي فطركم أول مرة‏}‏ إجراء لظاهر استفهامهم على أصله بحمله على خلاف مرادهم، لأن ذلك أجدر على طريقة الأسلوب الحكيم لزيادة المحاجة، كقوله في محاجة موسى لفرعون ‏{‏قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 25 26‏]‏‏.‏

وجيء بالمسند إليه موصولاً لقصد ما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم بأن الذي فطرهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ فإنه لقدرته التي ابتدأ بها خلقكم في المرة الأولى قادر أن يخلقكم مرة ثانية‏.‏

والإنغاض‏:‏ التحريك من أعلى إلى أسفل والعكس‏.‏ فإنغاض الرأس تحريكه كذلك، وهو تحريك الاستهزاء‏.‏

واستفهموا عن وقته بقولهم‏:‏ متى هو‏}‏ استفهام تهكم أيضاً؛ فأمر الرسول بأن يجيبهم جواباً حقاً إبطالاً للازم التهكم، كما تقدم في نظيره آنفاً‏.‏

وضمير ‏{‏متى هو‏}‏ عائد إلى العود المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏يعيدنا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

و ‏(‏عسى‏]‏ للرجاء على لسان الرسول‏:‏ والمعنى لا يبعد أن يكون قريباً‏.‏

ويوم يدعوكم‏}‏ بدل من الضمير المستتر في ‏{‏يكون‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏أن يكون قريباً‏}‏‏.‏ وفتحته فتحة بناء لأنه أضيف إلى الجملة الفعلية‏.‏

ويجوز أن يكون ظرفاً ل ‏{‏يكون‏}‏، أي يكون يوم يدعوكم، وفتحته فتحة نصب على الظرفية‏.‏

والدعاء يجوز أن يحمل على حقيقته، أي دعاء الله الناس بواسطة الملائكة الذين يسوقون الناس إلى المحشر‏.‏

ويجوز أن يحمل على الأمر التكويني بإحيائهم، فأطلق عليه الدعاء لأن الدعاء يستلزم إحياء المدعو وحصول حضوره، فهو مجاز في الإحياء والتسخير لحضور الحساب‏.‏

والاستجابة مستعارة لمطاوعة معنى ‏{‏يدعوكم‏}‏، أي فتحيون وتمثلون للحساب‏.‏ أي يدعوكم وأنتم عظام ورفات‏.‏ وليس للعظام والرفات إدراك واستماع ولا ثم استجابة لأنها فرع السماع وإنما هو تصوير لسرعة الإحياء والإحضار وسرعة الانبعاث والحضور للحساب بحيث يحصل ذلك كحصول استماع الدعوة واستجابتها في أنه لا معالجة في تحصيله وحصوله ولا ريث ولا بطْء في زمانه‏.‏

وضمائر الخطاب على هذا خطاب للكفار القائلين ‏{‏من يعيدنا‏}‏ والقائلين ‏{‏متى هو‏}‏‏.‏

والباء في ‏{‏بحمده‏}‏ للملابسة، فهي في معنى الحال، أي حامدين، فهم إذا بعثوا خلق فيهم إدراك الحقائق فعلموا أن الحق لله‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏بحمده‏}‏ متعلقاً بمحذوف على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والتقدير‏:‏ انطق بحمده، كما يقال‏:‏ باسم الله، أي ابتدئ، وكما يقال للمعرس‏:‏ باليمن والبركة، أي احمد الله على ظهور صدق ما أنبأتكم به، ويكون اعتراضاً بين المتعاطفات‏.‏

وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏يوم يدعوكم‏}‏ استئناف كلام خطاب للمؤمنين فيكون ‏{‏يوم يدعوكم‏}‏ متعلقاً بفعل محذوف، أي اذكروا يوم يدعوكم‏.‏ والحمد على هذا الوجه محمول على حقيقته، أي تستجيبون حامدين الله على ما منحكم من الإيمان وعلى ما أعد لكم مما تشاهدون حين انبعاثكم من دلائل الكرامة والإقبال‏.‏

وأما جملة ‏{‏وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً‏}‏ فهي عطف على ‏{‏تستجيبون‏}‏، أي وتحسبون أنكم ما لبثتم في الأرض إلا قليلاً‏.‏ والمراد‏:‏ التعجيب من هذه الحالة، ولذلك جاء في بعض آيات أخرى سؤال المولى حين يبعثون عن مدة لبثهم تعجيباً من حالهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 112 114‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏ وهذا التعجيب تنديم للمشركين وتأييد للمؤمنين‏.‏ والمراد هنا‏:‏ أنهم ظنوا ظناً خاطئاً، وهو محل التعجيب‏.‏ وأما قوله في الآية الأخرى‏:‏ قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون فمعناه‏:‏ أنه وإن طال فهو قليل بالنسبة لأيام الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

لما أعقب ما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتبليغه إلى المشركين من أقوال تعظهم وتنهنههم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كان معه آلهة كما تقولون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏ وقوله‏:‏ قل كونوا حجارة ‏[‏الإسراء‏:‏ 50‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل عسى أن يكون قريباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ ثني العنان إلى الأمر بإبلاغ المؤمنين تأديباً ينفعهم في هذا المقام على عادة القرآن في تلوين الأغراض وتعقيب بعضها ببعض أضدادها استقصاء لأصناف الهدى ومختلف أساليبه ونفع مختلف الناس‏.‏

ولما كان ما سبق من حكاية أقوال المشركين تنبئ عن ضلال اعتقادٍ نقل الكلام إلى أمر المؤمنين بأن يقولوا أقوالاً تعرب عن حسن النية وعن نفوس زكية‏.‏ وأوتوا في ذلك كلمة جامعة وهي يقولوا التي هي أحسن‏}‏‏.‏

و ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ صفة لمحذوف يدل عليه فعل ‏{‏يقولوا‏}‏‏.‏ تقديره‏:‏ بالتي هي أحسن‏.‏ وليس المراد مقالة واحدة‏.‏

واسم التفضيل مستعمل في قوة الحسن‏.‏ ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏، أي بالمجادلات التي هي بالغة الغاية في الحسن، فإن المجادلة لا تكون بكلمة واحدة‏.‏

فهذه الآية شديدة الاتصال بالتي قبلها وليست بحاجة إلى تطلب سبب لنزولها‏.‏ وهذا تأديب عظيم في مراقبة اللسان وما يصدر منه‏.‏ وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل‏:‏ أن النبي أمره بأعماللٍ تدخله الجنة ثم قال له‏:‏ ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال‏:‏ كُفّ عليك هذا‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‏؟‏ فقال‏:‏ ثكلتك أمك وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم‏.‏

والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضاً بحسن المعاملة وإلانةِ القول، لأن القول ينم عن المقاصد، بقرينة قوله‏:‏ إن الشيطان ينزغ بينهم‏}‏‏.‏ ثم تأديبهم في مجادلة المشركين اجتناباً لما تثيره المشادة والغلظة من ازدياد مكابرة المشركين وتصلبهم فذلك من نزغ الشيطان بينهم وبين عدوهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 34‏]‏‏.‏ والمسلمون في مكة يومئذٍ طائفة قليلة وقد صرف الله عنهم ضر أعدائهم بتصاريف من لطفه ليكونوا آمنين، فأمرهم أن لا يكونوا سبباً في إفساد تلك الحالة‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ لعبادي‏}‏ المؤمنون كما هو المعروف من اصطلاح القرآن في هذا العنوان‏.‏ وروي أن قول التي هي أحسن أن يقولوا للمشركين‏:‏ يهديكم الله، يرحمكم الله، أي بالإيمان‏.‏ وعن الكلبي‏:‏ كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فشكَوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وجزم ‏{‏يقولوا‏}‏ على حذف لام الأمر وهو وارد كثيراً بعد الأمر بالقول، ولك أن تجعل ‏{‏يقولوا‏}‏ جواباً منصوباً في جواب الأمر مع حذف مفعول القول لدلالة الجواب عليه‏.‏

والتقدير‏:‏ قل لهم‏:‏ قُولوا التي هي أحسن يَقولوا ذلك‏.‏ فيكون كناية على أن الامتثال شأنهم فإذا أمروا امتثلوا‏.‏ وقد تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ في سورة ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏‏.‏

والنزغ‏:‏ أصله الطعن السريع، واستعمل هنا في الإفساد السريع الأثر‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وجملة إن الشيطان ينزغ بينهم‏}‏ تعليل للأمر بقول التي هي أحسن‏.‏ والمقصود من التعليل أن لا يستخفوا بفاسد الأقوال فإنها تثير مفاسد من عمل الشيطان‏.‏

ولما كان ضمير ‏{‏بينهم‏}‏ عائداً إلى عبادي كان المعنى التحذير من إلقاء الشيطان العداوة بين المؤمنين تحقيقاً لمقصد الشريعة من بث الأخوة الإسلامية‏.‏

روى الواحدي‏:‏ أن عمر بن الخطاب شتمه أعرابي من المُشركين فشتمه عمر وهَمّ بقتله فكاد أن يُثير فتنةً فنزلتْ هذه الآية‏.‏ وأيّا ما كان سبب النزول فهو لا يقيد إطلاق صيغة الأمر للمسلمين بأن يقولوا التي أحسن في كل حال‏.‏

وجملة ‏{‏إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏ينزغ بينهم‏}‏، وعلةُ العلة علة‏.‏

وذكر ‏(‏كان‏)‏ للدلالة على أن صفة العداوة أمر مستقر في خلقته قد جبل عليْه‏.‏ وعداوته للإنسان متقررة من وقت نشأة آدم عليه الصلاة والسلام وأنه يسول للمسلمين أن يغلِظوا على الكفار بوهمهم أن ذلك نصر للدين ليوقعهم في الفتنة، فإن أعظم كيد الشيطان أن يوقع المؤمن في الشر وهو يوهمه أنه يعمل خيراً‏.‏