فصل: تفسير الآيات رقم (74- 75)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون هذا كلاماً مستقلاً غير متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73‏]‏ بناءً على ما نحوناه في تفسير الآية السابقة‏.‏ وهذه منّة أخرى ومقام آخر من مقام رسول الله تجاه المشركين‏.‏ ويجوز أن يكون من تكملة ما قبله فيكون الركون إليهم ركوناً فيما سألوه منه على نحو ما ساقه المفسرون من الأخبار المتقدمة‏.‏

و ‏(‏لولا‏)‏ حرف امتناع لوجود، أي يقتضي امتناعاً لوجود، أي يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه، أي بسبب وجود شرطه‏.‏

والتثبيت‏:‏ جعل الشيء ثابتاً، أي متمكناً من مكانه غير مقلقل ولا مقلوع، وهو مستعار للبقاء على حاله غير متغير‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتثبيتاً من أنفسهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 265‏]‏‏.‏

وعدي التثبيت إلى ضمير النبي الدال على ذاته‏.‏ والمراد تثبيت فهمه ورأيه، وهذا من الحكم على الذات‏.‏ والمراد بعض أحوالها بحسب دلالة المقام، مثل ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ ولولا أن ثبتنا رأيك فأقررناه على ما كان عليه في معاملة المشركين لقاربت أن تركن إليهم‏.‏

واللام في لقد كدت تركن إليهم‏}‏ يجوز أن تكون لام جواب ‏(‏لولا‏)‏، وهي ملازمة لجوابها لتحقيق الربط بينه وبين الشرط‏.‏

والمعنى على الوجه الأول في موقع هذه الآية‏:‏ أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون ولكن الركونَ منتف من أصله لأجل التثبيت بالعصمة كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم‏.‏

والمعنى على الوجه الثاني‏:‏ ولولا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين والتنويه بأتباعه، ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا، لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين، ولو كان المسلمون راضين بالغضاضة من أنفسهم استئلافاً للمشركين، فإن إظهار الهوادة في أمر الدين تُطمع المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعد مدى مما سألوه، فمصلحة ملازمة موقف الحزم معهم أرجح من مصلحة ملاينتهم وموافقتهم، أي فلا فائدة من ذلك‏.‏ ولولا ذلك كله لقد كدت تركن إليهم قليلاً، أي تميل إليهم، أي توَعدتهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك استناداً لدليل مصلحة مرجوحة واضحة وغفلة عن مصلحة راجحة خفية اغتراراً بخفة بعض ما سألوه في جانب عِظم ما وعدوا به من إيمانهم‏.‏

والركون‏:‏ الميل بالرُكن، أي بالجانب من الجسد واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 113‏]‏، كما استعمل ضده في المخالفة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه‏}‏ في هذه السورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وانتصب شيئاً‏}‏ على المفعول المطلق ل ‏{‏تركن‏}‏، أي شيئاً من الركون‏.‏ ووجه العدول عن مصدر ‏{‏تركن‏}‏ طلب الخفة لأن مصدر ‏{‏تركن‏}‏ وهو الركون فيه ثقل فتركه أفصح، وإنما لم يقتصر على ‏{‏قليلاً‏}‏ لأن تنكير ‏{‏شيئاً‏}‏ مفيد التقليل، فكان في ذكره تهيئة لتوكيد معنى التقليل، فإن كلمة ‏(‏شيء‏)‏ لتوغلها في إبهام جنس ما تضاف إليه أو جنس الموجود مطلقاً مفيدةٌ للتقليل غالباً كقوله تعالى‏:‏

‏{‏فلا تأخذوا منه شيئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 20‏]‏‏.‏

و ‏(‏إذن‏)‏ الثانية جَزَاءً ل كدت تركن‏}‏، ولكونها جزاء فصلت عن العطف إذ لا مقتضى له‏.‏ فركون النبي صلى الله عليه وسلم إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع لأن الآية قد نفته بأربعة أمور، وهي‏:‏ ‏(‏لولا‏)‏ الامتناعية‏.‏ وفعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون ولكن يقع الاقتراب منه، والتحقير المستفاد من ‏{‏شيئاً‏}‏، والتقليل المستفاد من ‏{‏قليلاً‏}‏‏.‏

أي لولا إفهامنا إياك وجه الحق لخشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل ولكن ذلك لم يقع‏.‏ ودخلت ‏(‏قد‏)‏ في حيز الامتناع فأصبح تحقيقها معدوماً، أي لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك‏.‏

وجملة ‏{‏إذا لأذقناك ضعف الحياة‏}‏ جزاءٌ لجملة ‏{‏لقد كدت تركن‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لو تركن إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات‏.‏ ولِما في ‏(‏إذن‏)‏ من معنى الجزاء استغني عن ربط الجملة بحرف التفريع‏.‏ والمعنى‏:‏ لقد كدت تركن فلأذقناك‏.‏

والضعف بكسر الضاد‏:‏ مماثل مقدار شيءٍ ذِي مقدار، فهو لا يكون إلا مبيناً بجنسه لفظاً أو تقديراً مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏، أي ضعفي ما أعد لتلك الفاحشة‏.‏ ولما كان كذلك ساغ إطلاقه دون بيان اعتماداً على بيان السياق كما هنا، فإن ذكر الإذاقة في مقام التحذير ينبئ بأنها إذاقة عذاب موصوف بأنه ضِعف‏.‏

ثم إن الضعف أطلق هنا على القوي الشديد لعدم حمل الضعف على حقيقته إذ ليس ثَمّ عِلم بمقدار العذاب يراد تضعيفه كقوله‏:‏ ‏{‏فآتهم عذاباً ضعفاً من النار وتقدم ذلك‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وإضافة الضعف إلى الحياة وإلى الممات على معنى ‏(‏في‏)‏، فإن تقدير معنى ‏(‏في‏)‏ بَيْنَ المتضايفين لا يختص بإضافة ما يضاف إلى الأوقات‏.‏ فالتقدير‏:‏ لأذقناك ضعفاً في الحياة وضعفاً في الممات، فضعف عذاب الحياة هو تراكم المصائب والأرزاء في مدة الحياة، أي العمر بزوال ما كان يناله من بهجة وسرور بتمام دعوته وانتظام أمته، ذلك أن يتمكن منه أعداؤه، وعذاب الممات أن يموت مكموداً مستذلاً بين كفار يرون أنهم قد فازوا عليه بعد أن أشرفوا على السقوط أمامه‏.‏

ويشبه أن يكون قوله‏:‏ وضعف الممات‏}‏ في استمرار ضعف الحياة، فيكون المعنى‏:‏ لأذقناك ضعف الحياة حتى المماتتِ‏.‏

فليس المراد من ضعف الممات عذاب الآخرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ركن إليهم شيئاً قليلاً لكان ذلك عن اجتهاد واجتلاباً لمصلحة الدين في نظره، فلا يكون على الاجتهاد عقاب في الآخرة إذ العقاب الأخروي لا يكون إلا على مخالفة في التكليف، وقد سوغ الله لنبيئه الاجتهاد وجعل للمخطئ في اجتهاده أجراً كما قرر في تفسير قوله تعالى‏:‏

‏{‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وأما مصائب الدنيا وأرزاؤها فهي مسببة على أسباب من الأغلاط والأخطاء فلا يؤثر في التفادي منها حسن النية إن كان صاحبها قد أخطأ وجه الصواب، فتدبر في هذه المعاني تدبر ذوي الألباب، ولهذا خولف التعبير المعتاد استعماله لعذاب الآخرة‏.‏ وعبر هنا ب ضعف الحياة وضعف الممات‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ثم لا تجد لك علينا نصيراً‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏لأذقناك‏}‏‏.‏

وموقعها تحقيق عدم الخلاص من تلك الإذاقة‏.‏ و‏(‏ثُم‏)‏ للترتيب الرتبي لأن عدم الخلاص من العذاب أهم من إذاقته، فرتبته في الأهمية أرقى‏.‏ والنصير‏:‏ الناصر المخلص من الغلبة أو الذي يثأر للمغلوب، أي لا تجد لنفسك من ينتصر لك فيصدنا عن إلحاق ذلك بك أو يثأر لك منا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73‏]‏ تعداداً لسيئات أعمالهم‏.‏ والضمائر متحدة‏.‏

والاستفزاز‏:‏ الحمل على الترحل، وهو استفعال من فَزّ بمعنى بارح المكان، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازاً، أي خارجاً من مكة‏.‏ وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله‏:‏ ‏{‏واستفزز من استطعت‏}‏ في هذه السورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ كادوا أن يخرجوك من بلدك‏.‏ وذلك بأن هَمُّوا بأن يخرجوه كرهاً ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجراً عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يُبقوه بينهم حتى يقتلوه‏.‏

والتعريف في الأرض‏}‏ تعريف العهد، أي من أرضك وهي مكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليخرجوك‏}‏ تعليل للاستفزاز، أي استفزازاً لقصد الإخراج‏.‏

والمراد بالإخراج‏:‏ مفارقة المكان دون رجوع‏.‏ وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز لأن الاستفزاز أعم من الإخراج‏.‏

وجملة ‏{‏وإذا لا يلبثون خلفك‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وإن كادوا‏}‏، أو هي اعتراض في آخر الكلام، فتكون الواو للاعتراض و‏(‏إذاً‏)‏ ظرفاً لقوله‏:‏ ‏{‏لا يلبثون‏}‏ وهي ‏(‏إذ‏)‏ الملازمة الإضافة إلى الجملة‏.‏

ويجوز أن يكون ‏(‏إذاً‏)‏ حرف جواب وجزاء لكلام سابق‏.‏ وهي التي نونها حرف من الكلمة ولكن كثرت كتابتها بألف في صورة الاسم المنون‏.‏ والأصل فيها أن يكون الفعل بعدها منصوباً ب ‏(‏أن‏)‏ مضمرة، فإذا وقعت بعد عاطف جاز رفع المضارع بعدها ونصبه‏.‏

ويجوز أن تكون ‏(‏إذاً‏)‏ ظرفاً للزمان، وتنوينها عوض عن جملة محذوفة على قول جماعة من نحاة الكوفة، وهو غير بعيد‏.‏ ألا ترى أنها إذا وقعت بعد عاطف لم ينتصب بعدها المضارع إلا نادراً لانتفاء معنى التسبب، ولأنها حينئذٍ لا يظهر فيها معنى الجواب والجزاء‏.‏

والتقدير‏:‏ وإذَا أخرجوك أو وإذا خرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلاً‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏خلفَك‏}‏‏.‏

و ‏{‏خلفك‏}‏ أريد به بعدك‏.‏ وأصل الخلف الوراء فاستعمل مجازاً في البعدية، أي لا يلبثون بعدك‏.‏

وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف ‏{‏خلافك‏}‏ وهو لغة في خلف‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بمقعدهم خلاف رسول الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏‏.‏

واللبث‏:‏ الاستقرار في المكان، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون‏.‏ وقد خرج رسول الله بعد ذلك مهاجراً وكانوا السببَ في خروجه فكأنهم أخرجوه، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجوهم من حيث أخرجوكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلاً ثم خرجوا إلى وقعة بدر فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا وحق عليهم الوعيد، وأبقى الله عامتهم ودهاءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك‏.‏

وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه، أي المتسببين في خروجه، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلاً‏.‏

والسنّة‏:‏ العادة والسيرة التي يلتزمها صاحبها‏.‏

وتقدم القول في أنها اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 136‏]‏، أي عادة الله في كل رسول أخرجه قومه أن لا يبقوا بعده، خرج هود من ديار عاد إلى مكة، وخرج صالح من ديار ثمود، وخرج إبراهيم ولوط وهلكت أقوامهم، فإضافة سنة‏}‏ إلى ‏{‏من قد أرسلنا‏}‏ لأدنى ملابسة، أي سنتنا فيهم بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجد لسنتنا تحويلاً‏}‏ فإضافته إلى ضمير الجلالة هي الإضافة الحقيقيّة‏.‏

وانتصب ‏{‏سنة‏}‏ مِنْ ‏{‏من قد أرسلنا‏}‏ على المفعولية المطلقة‏.‏ فإن كانت ‏{‏سنة‏}‏ اسم مصدر فهو بَدل من فعله‏.‏ والتقدير‏:‏ سَنَنّا ذلك لمن أرسلنا قبلك من رسلنا، أي لأجلهم‏.‏ فلما عدل عن الفعل إلى المصدر أضيف المصدر إلى المتعلق بالفعل إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع؛ وإن كانت ‏{‏سنة‏}‏ اسماً جامداً فانتصابه على الحال لتأويله بمعنى اشتقاقي‏.‏

وجملة ‏{‏سنة من قد أرسلنا‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان سبب كون لبثهم بعده قليلاً‏.‏ وإنما سنّ الله هذه السنّة لرسله لأن تآمر الأقوام على إخراجهم يستدعي حِكمة الله تعالى لأنْ تتعلق إرادته بأمره إياهم بالهجرة لئلا يبقوا مرموقين بعين الغضاضة بين قومهم وأجوارهم بشبه ما كان يسمى بالخلع عند العرب‏.‏

وجملة ‏{‏ولا تجد لسنتنا تحويلاً‏}‏ اعتراض لتكملة البيان‏.‏

والمعنى‏:‏ أن ذلك كائن لا محالة لأننا أجريناه على الأمم السالفة ولأن عادتنا لا تتحول‏.‏

والتعبير ب ‏{‏لا تجد‏}‏ مبالغة في الانتفاء كما في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والتحويل‏:‏ تغيير الحال وهو التبديل‏.‏ ومن غريب التفسير أن المراد‏:‏ أن اليهود قالوا للنبيء الحَق بأرض الشام فإنها أرض الأنبياء فصدّق النبي قولهم فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه الآية، وهي رواية باطلة‏.‏ وسبب غزوة تبوك معروف في كتب الحديث والسير ومن أجل هذه الرواية قال فريق‏:‏ إن الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏‏}‏

كان شَرْع الصلوات الخمس للأمة ليلة الإسراء، كما ثبت في الحديث الصحيح، ولكنه كان غير مثبت في التشريع المتواتر إنما أبلغه النبي أصحابه فيوشك أن لا يعلمه غيرهم ممن يأتي من المسلمين‏.‏ وأيضاً فقد عينت الآية أوقاتاً للصلوات بعد تقرر فرضها، فلذلك جاءت هذه الآية في هذه السورة التي نزلت عقب حادث الإسراء جمعاً للتشريع الذي شرع للأمة أيامئذٍ المبتدأ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ الآيات ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فالجملة استئناف ابتدائي‏.‏ ومناسبة موقعها عقب ما قبلها أن الله لما امتن على النبي بالعصمة وبالنصر ذكره بشكر النعمة بأن أمره بأعظم عبادة يَعبده بها، وبالزيادة منها طلباً لازدياد النعمة عليه، كما دل عليْه قوله في آخر الآية ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

فالخطاب بالأمر للنبيء، ولكن قد تقرر من اصطلاح القرآن أن خطاب النبي بتشريععٍ تدخُل فيه أمته إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك الحكم، وقد عَلم المسلمون ذلك وشاع بينهم بحيث ما كانوا يسألون عن اختصاص حكم إلا في مقام الاحتمال القوي، كمن سأله‏:‏ ألنا هذه أمْ للأبد‏؟‏ فقال‏:‏ بل للأبد‏.‏

والإقامة‏:‏ مجاز في المواظبة والإدامة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ في أول سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

‏(‏واللام في لدلوك الشمس‏}‏ لام التوقيت، وهي بمعنى ‏(‏عند‏)‏‏.‏

والدلوك‏:‏ من أحوال الشمس، فوَرد بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فَرْضيّ في طريق مسيرها اليومي‏.‏ وورد بمعنى‏:‏ مَيل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس وهو وقت العصر، وورد بمعنى غروبها، فصار لفظ الدلوك مشتركاً في المعاني الثلاثة‏.‏

والغسق‏:‏ الظلمة، وهي انقطاع بقايا شعاع الشمس حين يماثل سواد أفق الغروب سواد بقية الأفق وهو وقت غيبوبة الشفق، وذلك وقت العشاء، ويسمى العتمة، أي الظلمة‏.‏

وقد جمعت الآية أوقاتاً أربعة، فالدلوك يجمع ثلاثة أوقات باستعمال المشترك في معانيه، والقرينة واضحة‏.‏ وفهم من حرف ‏(‏إلى‏)‏ الذي للانتهاء أن في تلك الأوقات صلوات لأن الغاية كانت لفعل ‏{‏أقم الصلاة‏}‏ فالغاية تقتضي تكرر إقامة الصلاة‏.‏ وليس المراد غاية لصلاة واحدة جعل وقتها متسعاً، لأن هذا فَهْم ينبو عنه ما تدل عليه اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لدلوك الشمس‏}‏ من وجوب إقامة الصلاة عند الوقت المذكور لأنه الواجب أو الأكمل‏.‏ وقد زاد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بياناً للآية‏.‏

وأما مقدار الاتساع فيعرف من أدلة أخرى وفيه خلاف بين الفقهاء‏.‏ فكلمة «دلوك» لا تعادلها كلمة أخرى‏.‏

وقد ثبت في حديث أبي مسعود الأنصاري في «الموطأ»‏:‏ أن أول الوقت هو المقصود‏.‏ وثبت في حديث عطاء بن يسار مرسلاً في «الموطأ» وموصولاً عن أنس بن مالك عند ابن عبد البر وغيره‏:‏ أن للصبح وقتاً له ابتداء ونهاية‏.‏

وهو أيضاً ثابت لكل صلاة بآثار كثيرة عَدا المغرب فقد سكت عنها الأثر‏.‏ فترددت أنظار الفقهاء فيها بين وقوف عند المروي وبين قياس وقتها على أوقات غيرها، وهذا الثاني أرجح، لأن امتداد وقت الصلاة توسعة على المصلي وهي تناسب تيسير الدين‏.‏

وجُعل الغسق نهاية للأوقات، فعلم أن المراد أول الغسق كما هو الشأن المتعارف في الغاية بحرف ‏(‏إلى‏)‏ فعلم أن ابتداء الغسق وقت صلاة، وهذا جمع بديع‏.‏

ثم عطف ‏{‏قرآن الفجر‏}‏ على ‏{‏الصلاة‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وأقم قرآن الفجر، أي الصلاة به‏.‏ كذا قدر القراء وجمهور المفسرين ليُعلم أن لكل صلاة من تلك الصلوات قرآناً كقوله‏:‏ ‏{‏فاقرءوا ما تيسر من القرآن‏}‏ ‏[‏المزمّل‏:‏ 20‏]‏، أي صَلُّوا به نافلة الليل‏.‏

وخص ذكر ذلك بصلاة الفجر دون غيرها لأنها يجهر بالقرآن في جميع ركوعها، ولأن سنتها أن يقرأ بسور من طوال المفصل فاستماع القرآن للمأمومين أكثر فيها وقراءته للإمام والفذ أكثر أيضاً‏.‏

ويجوز أن يكون عطف وقرآن الفجر‏}‏ عطفَ جملة والكلام على الإغراء، والتقدير‏:‏ والزَمْ قرآنَ الفجر، قاله الزجاج‏.‏ فيعلم أن قراءة القرآن في كل صلاة حتم‏.‏

وهذا مجمل في كيفية الصلوات‏.‏ ومقادير ما تشتمل عليه من القرآن بينته السنّة المتواترة والعرف في معرفة أوقات النهار والليل‏.‏

وجملة ‏{‏إن قرآن الفجر كان مشهوداً‏}‏ استئناف بياني لوجه تخصيص صلاة الصبح باسم القرآن بأن صلاة الفجر مشهودة، أي محضورة‏.‏ وفُسِّر ذلك بأنها تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد في الحديث‏:‏ «وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» وذلك زيادة في فضلها وبركتها‏.‏ وأيضاً فهي يحضرها أكثر المصلين لأن وقتها وقت النشاط وبعدها ينتظر الناس طلوع الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم فيكثر سماع القرآن حينئذٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ فإنه في تقدير جملة لكونه معمولاً لفعل أقم ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وقدم المجرور المتعلق ب تهجّدْ على متعلقه اهتماماً به وتحريضاً عليْه‏.‏ وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء‏.‏ وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها، وهو استعمال فصيح‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 26‏]‏ وقول النبي‏:‏ ففيهما فَجَاهِدْ، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وجَعل الزجاج والزمخشري قوله‏:‏ ومن الليل‏}‏ في معنى الإغراء بناءً على أن نصب ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ على الإغراء فيكون فتهجد‏}‏ تفريعاً على الإغراء تفريع مفصل على مجمل، وتكون ‏(‏من‏)‏ اسماً بمعنى ‏(‏بعض‏)‏ كالتي في قوله‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا يحرفون الكلم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 46‏]‏ وهو أيضاً حسن‏.‏

وضمير به‏}‏ للقرآن المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وقرآن الفجر ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ وإن كان المعاد مقيداً بكونه في الفجر والمذكورُ هنا مراداً مُطلقهُ، كقولك‏.‏ عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم لا نصف الدرهم الذي عندك‏.‏

والباء للسببية‏.‏

والتهجد‏:‏ الصلاة في أثناء الليل، وهو اسم مشتق من الهجود، وهو النوم‏.‏ فمادة التفعل فيه للإزالة مثل التحَرج والتأثم‏.‏

والنافلة‏:‏ الزيادة من الأمر المحبوب‏.‏

واللام في لك‏}‏ متلعقة ب ‏{‏نافلة‏}‏ وهي لام العلة، أي نافلة لأجلك‏.‏ وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر للوجوب‏.‏ وبذلك انتظم في عداد الصلوات الواجبة فبعضها واجب عليه وعلى الأمة، وبعضها واجب عليه خاصة ويعلم منه أنه مرغب فيه كما صرحت به آية سورة ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ما تيسر منه‏}‏ وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له، ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاماً محموداً‏.‏ فجملة عسى أن يبعثك‏}‏ تعليل لتخصيصه بإيجاب التهجد عليه، والرجاء من الله تعالى وعد‏.‏ فالمعنى‏:‏ ليبعثك ربك مقاماً محموداً‏.‏

والمقام‏:‏ محل القيام‏.‏ والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا، وإلا فهو المجلس‏.‏

وانتصب ‏{‏مقاماً‏}‏ على الظرفية ل ‏{‏يبعثك‏}‏‏.‏

ووصفُ المقام بالمحمود وصف مجازي‏.‏ والمحمود من يقوم فيه، أي يحمد أثره فيه، وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام، ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى‏.‏

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عمر ‏"‏ أن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً بضم الجيم وتخفيف المثلثة أي جماعات كل أمة تتبع نبيئها يقولون‏:‏ يا فلان أشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود ‏"‏ وفي «جامع الترمذي» عن أبي هُريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا قال‏:‏ هي الشفاعة‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وقد ورد وصف الشفاعة في صحيح البخاري‏}‏ مفصلاً‏.‏ وذلك مقام يحمده فيه كل أهل المحشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

لما أمره الله تعالى بالشكر الفعلي عطف عليْه الأمر بالشكر اللساني بأن يبتهل إلى الله بسؤال التوفيق في الخروج من مكان والدخول إلى مكان كيلا يضره أن يستفزه أعداؤه من الأرض ليخرجوه منها، مع ما فيه من المناسبة لقوله‏:‏ ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏، فلما وعده بأن يقيمه مقاماً محموداً ناسب أن يسأل أن يكون ذلك حاله في كل مقام يقومه‏.‏ وفي هذا التلقين إشارة إلهية إلى أن الله تعالى مُخرجه من مكة إلى مهاجَر‏.‏ والظاهر أن هذه الآية نزلت قُبيل العقبة الأولى التي كانت مقدمة للهجرة إلى المدينة‏.‏

والمُدخل والمُخرج بضم الميم وبفتح الحرف الثالث أصله اسم مكان الإدخال والإخراج‏.‏ اختير هنا الاسم المشتق من الفعل المتعدي للإشارة إلى أن المطلوب دخول وخروج ميسران من الله تعالى وواقعان بإذنه‏.‏ وذلك دعاء بكل دخول وخروج مباركيْن لتتم المناسبة بين المسؤول وبين الموعود به وهو المقام المحمود‏.‏ وهذا السؤال يعم كل مكان يدخل إليه ومكان يخرج منه‏.‏

والصدق‏:‏ هنا الكمال وما يحمد في نوعه، لأن ما ليس بمحمود فهو كالكاذب لأنه يخلف ظن المتلبس به‏.‏

وقد عمت هذه الدعوة جميع المداخل إلى ما يقدر له الدخول إليه وجميع المخارج التي يخرج منها حقيقة أو مجازاً‏.‏ وعطف عليه سؤال التأييد والنصر في تلك المداخل والمخارج وغيرها من الأقطار النائية والأعمال القائم بها غيره من أتباعه وأعدائه بنصر أتباعه وخذل أعدائه‏.‏

فالسلطان‏:‏ اسم مصدر يطلق على السُلطة وعلى الحجة وعلى المُلك‏.‏ وهو في هذا المقام كلمة جامعة؛ على طريقة استعمال المشترك في معانيه أو هو من عموم المشترك، تشمل أن يجعل له الله تأييداً وحجة وغلبة ومُلكاً عظيماً، وقد آتاه الله ذلك كله، فنصره على أعدائه، وسخر له من لم يُنوه بنهوض الحجة وظهور دلائل الصدق، ونصره بالرعب‏.‏

ومنهم من فسر المدخل والمخرج بأن المخرج الإخراج إلى فتح مكة والمدخل الإدخال إلى بلد مكة فاتحاً، وجعل الآية نازلة قبيل الفتح، فبنى عليه أنها مدنية، وهو مدخول من جهات‏.‏ وقد تقدم أن السورة كلها مكية على الصحيح‏.‏

والنصير‏:‏ مبالغة في الناصر، أي سلطاناً ينصرني‏.‏ وإذ قد كان العمل القائم به النبي هو الدعوة إلى الإسلام كان نصره تأييداً له فيما هو قائم به، فصار هذا الوصف تقييداً للسلطان بأنه لم يسأل سلطاناً للاستعلاء على الناس، وإنما سأل سلطاناً لنصره فيما يطلب النصرة وهو التبليغ وبث الإسلام في الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

أعقب تلقينه الدعاءَ بسداد أعماله وتأييده فيها بأن لقنه هذا الإعلان المنبئ بحصول إجابة الدعوة المُلْهَمَة بإبراز وعده بظهور أمره في صورة الخبر عن شيء مضى‏.‏

ولما كانت دعوة الرسول هي لإقامة الحق وإبطاللِ الباطل كان الوعد بظهور الحق وعداً بظهور أمر الرسول وفوزه على أعدائه، واستحفظه الله هذه الكلمة الجليلة إلى أن ألقاها يوم فتح مكة على مسامع من كانوا أعداءه فإنه لما دخل الكعبة ووجد فيها وحولها الأصنام جعل يشير إليها بقضيب ويقول‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏ فتسقط تلك الأنصاب على وجوهها‏.‏

ومجيء الحق مستعمل مجازاً في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيهاً للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غايباً فورد جائياً‏.‏

و ‏{‏زهَق‏}‏ اضمحل بعد وجوده‏.‏ ومصدره الزُهوق والزَهَق‏.‏ وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيماً بينهم ففارقهم‏.‏ والمعنى‏:‏ استقر وشاع الحق الذي يدعو إليه النبي وانقضى الباطل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه‏.‏

وجملة ‏{‏إن الباطل كان زهوقاً‏}‏ تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان‏.‏ وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق‏.‏

وبهذا كانت الجملة تذييلاً لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها‏.‏ والمعنى‏:‏ ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له‏.‏

ودل فعل ‏{‏كان‏}‏ على أن الزهوق شنشنة الباطل، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجباً‏}‏ في صدر سورة ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ على ما في تلك الجملة والجمل التي سبقتها من معنى التأييد للنبيء ومن الإغاظة للمشركين ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك عن الذين أوحينا إليك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 73‏]‏‏.‏ فإنه بعد أن امتن عليه بأن أيده بالعصمة من الركون إليهم وتبشيره بالنصرة عليهم وبالخلاص من كيدهم، وبعد أن هددهم بأنهم صائرون قريباً إلى هلاك وأن دينهم صائر إلى الاضمحلال، أعلن له ولهم في هذه الآية‏:‏ أن ما منه غيظهم وحنقهم، وهو القرآن الذي طمعوا أن يسألوا النبي أن يبدله بقرآن ليس فيه ذكر أصنامهم بسوء، أنه لا يزال متجدداً مستمراً، فيه شفاء للرسول وأتباعه وخسارة لأعدائه الظالمين، ولأن القرآن مصدرُ الحق ومَدحَض الباطل أعقب قولُه‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة‏}‏ الآية‏.‏ ولهذا اختير للإخبار عن التنزيل الفعل المضارع المشتق من فَعَّلَ المضاعف للدلالة على التجديد والتكرير والتكثير، وهو وعد بأنه يستمر هذا التنزيل زمناً طويلاً‏.‏

و ‏{‏ما هو شفاء‏}‏ مفعول ‏{‏ننزل‏}‏‏.‏ و‏{‏من القرآن‏}‏ بيان لما في ‏(‏ما‏)‏ من الإبهام كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏، أي الرجس الذي هو الأوثان‏.‏ وتقديم البيان لتحصيل غرض الاهتمام بذكر القرآن مع غرض الثناء عليه بطريق الموصولية بقوله‏:‏ ما هو شفاء ورحمة‏}‏ إلخ، للدلالة على تمكن ذلك الوصف منه بحيث يعرف به‏.‏ والمعنى‏:‏ ننزل الشفاء والرحمة وهو القرآن‏.‏ وليست ‏(‏مِن‏)‏ للتبعيض ولا للابتداء‏.‏

والشفاء حقيقته زوال الداء، ويستعمل مجازاً في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيهاً له ببرء السقم، كقول عنترة‏:‏

ولقد شَفَى نفسي وابرأ سُقمها *** قيلُ الفوارس‏:‏ ويْكَ عنترَ قَدّمِ

والمعنى‏:‏ أن القرآن كله شفاءً ورحمة للمؤمنين ويزيد خسارة للكافرين، لأن كل آية من القرآن من أمره ونهيه ومواعظه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده، كل آية من ذلك مشتملة على هَديٍ وصلاححِ حاللٍ للمؤمنين المتبعينَه، ومشتملة بضد ذلك على ما يزيد غيظ المستمرين على الظلم، أي الشرك، فيزدادون بالغيظ كراهية للقرآن فيزدادون بذلك خساراً بزيادة آثامهم واستمرارهم على فاسد أخلاقهم وبُعْدِ ما بينهم وبين الإيمان‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124- 125‏]‏‏.‏

وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المشترك في معنييه‏.‏ وهذا مما بينا تأصيله في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

والأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة بله الاستعاذة بآيات منه من الضلال كثيرة في صحيح البخاري‏}‏ و«جامع الترمذي» وغيرهما، وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال‏:‏

«بعثنا رسول الله في سرية ثلاثين راكباً فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا فلُدغ سيد الحَيّ فأتونا، فقالوا‏:‏ أفيكم أحد يَرقي من العقرب‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم ولكن لا أفعل حتى يُعطونا، فقالوا‏:‏ فإنا نعطيكم ثلاثين شاة، قال‏:‏ فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ» الحديث‏.‏ وفيه‏:‏ «حتى أتينا رسول الله فأخبرته فقال‏:‏ وما يُدريكَ أنها رُقْيَة، قلت‏:‏ يا رسول الله شيءٌ ألقي في روعي ‏(‏أي إلهام ألهمه الله‏)‏، قال‏:‏ كلوا وأطعمونا من الغنم» فهذا تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم بصحة إلهام أبي سعيد رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏‏}‏

لما كان القرآن نعمة عظيمة للناس، وكان إعراض المشركين عنه حرماناً عظيماً لهم من خيرات كثيرة، ولم يكن من شأن أهل العقول السليمة أن يرضوا بالحرمان من الخير، كان الإخبار عن زيادته الظالمين خساراً مستغرباً من شأنه أن يثير في نفوس السامعين التساؤل عن سبب ذلك، أعقب ذلك ببيان السبب النفساني الذي يوقع العقلاء في مهواة هذا الحرمان، وذلك بعد الاشتغال بما هو فيه من نعمة هَويها وأولع بها، وهي نعمة تتقاصر عن أوج تلك النعم التي حرم منها لولا الهوى الذي علق بها والغرور الذي أراه إياها قصَارى المطلوب، وما هي إلا إلى زوال قريب، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا‏}‏ ‏[‏المزمّل‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196- 197‏]‏‏.‏

فهذه الجملة مضمونها مقصود بذاته استفيد بيانها بوقوعها عقب التي قبلها‏.‏

والتعريف في الإنسان‏}‏ تعريف الجنس، وهو يفيد الاستغراق وهو استغراق عرفي، أي أكثر أفراد الإنسان لأن أكثر الناس يومئذٍ كفار وأكثر العرب مشركون‏.‏ فالمعنى‏:‏ إذا أنعمنا على المشركين أعرضوا وإذا مسهم الشر يئسوا‏.‏ وهذا مقابل حال أهل الإيمان الذين كان القرآن شفاءً لأنفسهم وشكر النعمة من شِيمهم والصبر على الضر من خلقهم‏.‏

والمراد بالإنعام‏:‏ إعطاء النعمة‏.‏ وليس المراد النعم الكاملة من الإيمان والتوفيق، كما في قوله‏:‏ ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصدّيقين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏

والإعراض‏:‏ الصد، وضد الإقبال‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وعِظهم‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 63‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏‏.‏

والنأي‏:‏ البعد، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينأون عنه‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والجانب‏:‏ الجنب‏.‏ وهو الجهة من الجسد التي فيها اليد، وهما جانبان‏:‏ يمين ويسار‏.‏

والباء في قوله‏:‏ بجانبه‏}‏ للمصاحبة، أي بَعِدَ مصاحباً لجانبه، أي مبعداً جانبه‏.‏ والبُعد بالجانب تمثيل الإجفال من الشيء، قال عنترة‏:‏

وكأنما ينأى بجانب دَفّها الْ *** وَحْشِيّ من هزج العشي مؤوم

فالمفاد من قوله‏:‏ ‏{‏وناء بجانبه‏}‏ صد عن العبادة والشكر‏.‏ وهذا غير المفاد من معنى ‏{‏أعرض‏}‏ فليس تأكيداً له، فالمعنى‏:‏ أعرض وتباعد‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏أعرض ونأى‏}‏ لدلالة المقام عليه من قوله‏:‏ ‏{‏أنعمنا على الإنسان‏}‏، أي أعرض عنا وأجفل منا، أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وناء‏}‏ بهمزة بعد النون وألف بعد الهمزة‏.‏

وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر ‏{‏وناء‏}‏ بألف بعد النون ثم همزة‏.‏ وهذا من القلب المكاني لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة لأن وقوعها بعد المد أخف‏.‏

من ذلك قولهم‏:‏ راء في رأى، وقولهم‏:‏ آرام في أرْام، جمع رئم، وقيل‏:‏ ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل، أي عن الشكر، أي في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنه أخلد إلى الأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وإذا مسه الشر كان يؤساً احتراس من أن يتَوهم السامع من التقييد بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء، فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ولكنه ييَأس من الخير ويبقى حنقاً ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره‏.‏

ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة ‏[‏فصلت‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض‏}‏ كما سيأتي هنالك‏.‏

ودل قوله‏:‏ كان يؤساً‏}‏ على قوة يأسه إذ صيغ له مثال المبالغة‏.‏ وأقحم معه فعل ‏(‏كان‏)‏ الدال على رسوخ الفعل، تعجيباً من حاله في وقت مس الضر إياه لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه، بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

هذا تذييل، وهو تنهية للغرض الذي ابتدئ من قوله‏:‏ ‏{‏ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 66‏]‏ الراجع إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس في خلال الاستدلال على أنه المتصرف الوحيد، وإلى التحذير من عواقب كفران النعم‏.‏ وإذ قد ذكر في خلال ذلك فريقان في قوله‏:‏ ‏{‏يوم ندعوا كل أناس بإمامهم‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 71‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

ولما في كلمة ‏(‏كل‏)‏ من العموم كانت الجملة تذييلاً‏.‏

وتنوين كل‏}‏ تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أحد مما شمله عموم قوله‏:‏ ‏{‏ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 72‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

والشاكلة‏:‏ الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها‏.‏ وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه‏.‏ قال النابغة يذكر ثوباً يشبه به بُنيات الطريق‏:‏

له خُلج تهوي فُرادَى وترعوي *** إلى كل ذي نيرَين بادي الشواكل

وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا‏.‏ وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل‏.‏

وفرع عليه قوله‏:‏ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا‏}‏ وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون، كقوله‏:‏ ‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى‏}‏ الآية ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

وقْعُ هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمُه أن مرجع ضمير ‏{‏يسألونك‏}‏ هو مرجع الضمائر المتقدمة، فالسائلون عن الروح هم قريش‏.‏ وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال‏:‏ قالت قريش ليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل عنه، فقالوا‏:‏ سَلوه عن الروح، قال‏:‏ فسألوه عن الروح، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ الآية‏.‏

وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم‏.‏ وحينئذٍ فلا إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية‏.‏ وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسبباً على نزولها بين نزول تلك الآيات‏.‏

واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة‏.‏ وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده، كما كان بين أمية بن خلف وسَعْد بن معاذ‏.‏ وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من «صحيح البخاري»‏.‏

روى ابن إسحاق أن قريشاً بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما‏:‏ سلوه عن ثلاثة‏.‏ وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف، فسألتْه قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف، وأجاب عن الروح بما في هذه السورة‏.‏

وهذه الرواية تثير إشكالاً في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف‏.‏

ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفرداً أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة‏.‏

ويجوز أن تكون آية سؤال الروح مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف‏.‏ والجمهور على أن الجميع نزل بمكة، قال الطبري عن عطاء بن يسار‏:‏ نزل قوله‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم قليلاً‏}‏ بمكة‏.‏

وأما ما روي في «صحيح البخاري» عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ «بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يردّ عليهم شيئاً، فعلمتُ أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ الآية‏.‏ فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم‏:‏ أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشاً، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشاً سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير‏.‏

هذا، والذي يترجح عندي‏:‏ أن فيما ذكره أهلُ السير تخليطاً، وأن قريشاً استقوا من اليهود شيئاً ومن النصارى شيئاً فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى، بناءً على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الإسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتاريخ بلاد الروم، فتعين أن اليهود ما لَقنوا قريشاً إلا السؤال عن الروح‏.‏ وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف‏.‏ على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شأن الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس‏.‏

وسُؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوا عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالّة فيه‏.‏

والروح‏:‏ يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنيناً بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوماً‏.‏ وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا سويته ونفخت فيه من روحي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وهذا يسمى أيضاً بالنفس كقوله‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وروح منه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏

ويطلق لفظ ‏(‏الروح‏)‏ على المَلك الذي ينزل بالوحي على الرسل‏.‏ وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193‏]‏‏.‏

واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة‏.‏ فالجمهور قالوا‏:‏ المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالاً عن معنى مصطلح قرآني‏.‏ وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول وروح الله يرف على وجه المياه‏.‏ وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم‏.‏

وعن قتادة والحسن‏:‏ أنهم سألوا عن جبريل، والأصح القول الأول‏.‏ وفي الروض الأنف‏}‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم مرة، فقال لهم‏:‏ هوجبريل عليه السلام‏.‏ وقد أوضحناه في سورة الكهف‏.‏

وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها، فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين، لظهور أن في الجسد الحي شيئاً زائداً على الجسم، به يكون الإنسان مدركاً وبزواله يصير الجسم مسلوبَ الإرادة والإدراك، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئاً زائداً على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئاً من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة‏.‏

وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع، أجيبوا بأن الروح من أمر الله، أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعلمه‏.‏ فلفظ ‏{‏أمر‏}‏ يحتمل أن يكون مرادف الشيء‏.‏ فالمعنى‏:‏ الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله، فإضافة ‏{‏أمر‏}‏ إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص، أي أمر اختص بالله اختصاص علممٍ‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ للتبعيض، فيكون هذا الإطلاق كقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ويحتمل أن يكون الأمر أمرَ التكوين، فإما أن يراد نفس المصدر وتكون ‏(‏من‏)‏ ابتدائية كما في قوله‏:‏ ‏{‏إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏، أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و‏(‏من‏)‏ تبعيضية، أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المرادُ بالروح جبريلَ عليه السلام، أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي، وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جواباً عن سؤالهم‏.‏

وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال‏:‏ لم يأته في ذلك جواب ا ه‏.‏ أي أن قوله‏:‏ قل الروح من أمر ربي‏}‏ ليس جواباً ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بأن هذا من العلم الذي لم يؤتوه‏.‏ والاحتمالات كلها مرادة، وهي كلمة جامعة‏.‏ وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفاً بالجنس وهو رسم‏.‏

وجملة ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ يجوز أن تكون مما أمَر الله رسولَه أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم، ويجوز أن يكون تذييلاً أو اعتراضاً فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب، والمخاطبون متفاوتون في القليل المستثنى من المؤْتَى من العلم‏.‏ وأن يكون خطاباً للمسلمين‏.‏

والمراد بالعلم هنا المعلوم، أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله‏.‏ ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق‏.‏

وفي «جامع الترمذي» قالوا ‏(‏أي اليهود‏)‏‏:‏ «أوتينا علماً كثيراً التوراةَ ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزلت‏:‏ ‏{‏قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي‏}‏ الآية ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏‏.‏

وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال‏:‏ نزلت بمكة وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا‏:‏ يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏، أفعنيتنا أم قومَك‏؟‏ قال‏:‏ كُلاّ قد عنيت‏.‏

قالوا‏:‏ فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء‏.‏ فقال رسول الله‏:‏ هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم‏.‏ فأنزل الله ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏

هذا، والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي، وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم وكلها لا تعدو أن تكون رسوماً خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان‏.‏

وإذا قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصُرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم، فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير، وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعداداً لتجلي بعض ماهية الروح، فلذلك لا نجاري الذين قالوا‏:‏ إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة‏.‏ فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في العواصم‏}‏، والنووي في «شرح مسلم»‏:‏ أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون‏.‏ فقال جمهور المتكلمين‏:‏ إنها من الجواهر المجردة، وهو غير بعيد عن قول بعضهم‏:‏ هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس‏.‏ وقال قدماء الفلاسفة‏:‏ هي قديمة‏.‏ وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم‏.‏ ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى‏.‏ فقيل‏:‏ الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها، وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين، وقيل‏:‏ تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 87‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

هذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ الآية أفضت إليه المناسبة فإنه لما تضمن قوله‏:‏ ‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ تلقينَ كلمة علم جامعة، وتضمن أن الأمة أوتيت علماً ومُنعت علماً، وأن علم النبوءة من أعظم ما أوتيته، أعقب ذلك بالتنبيه إلى الشكر على نعمة العلم دفعاً لغرور النفس، لأن العلم بالأشياء يكسبها إعجاباً بتميزها عمن دونها فيه، فأوقظت إلى أن الذي منح العلم قادر على سلبه، وخوطب بذلك النبي لأن علمه أعظم علم، فإذا كان وجود علمه خاضعاً لمشيئة الله فما الظن بعلم غيره، تعريضاً لبقية العلماء‏.‏ فالكلام صريحُه تحذير، وهو كناية عن الامتنان كما دل عليه قوله بعده إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيراً وتعريض بتحذير أهل العلم‏.‏

واللام موطئة للقسم المحذوف قبل الشرط‏.‏

وجملة لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏}‏ جواب القسم‏.‏ وهو دليل جواب الشرط ومغن عنه‏.‏

و ‏{‏لنذهبن بالذي أوحينا‏}‏ بمعنى لنذهبنه، أي عنك، وهو أبلغ من ‏(‏نُذهبه‏)‏ كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏الذي أسرى بعبده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وما صدق الموصول القرآن‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ للترتيب الرتبي، لأن نفي الطمع في استرجاع المسلوب أشد على النفس من سلبه‏.‏ فذكره أدخل في التنبيه على الشكر والتحذير من الغرور‏.‏

والوكيل‏:‏ من يوكل إليه المهم‏.‏ والمراد به هنا المدافع عنك والشفيع لك‏.‏ ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب ‏(‏على‏)‏‏.‏ ولما فيه من معنى التعهد والمطالبة عدي إلى المردود بالباء، أي متعهداً بالذي أوحينا إليك‏.‏ ومعنى التعهد‏:‏ به التعهد باسترجاعه، لأنه في مقابلة قوله‏:‏ لنذهبن بالذي أوحينا إليك‏}‏، ولأن التعهد لا يكون بذات شيء بل بحال من أحواله فجرى، الكلام على الإيجاز‏.‏

وذكر هنا ‏{‏وكيلاً‏}‏ وفي الآية قبلها ‏{‏نصيراً‏}‏ لأن معنى هذه على فرض سلب نعمة الاصطفاء، فالمطالبة بإرجاع النعمة شفاعة ووكالة عنه، وأما الآية قبلها فهي في فرض إلحاق عقوبة به، فمدافعة تلك العقوبة أو الثأر بها نصر‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا رحمة من ربك‏}‏ منقطع فحرف الاستثناء فيه بمعنى الاستدراك‏.‏ وهو استدراك على ما اقتضاه فعل الشرط من توقع ذلك، أي لكن رحمة من ربك نفت مشيئة الذهاب بالذي أوحينا إليك فهو باققٍ غير مذهوب به‏.‏

وهذا إيماء إلى بقاء القرآن وحفظه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وموقع إن فضله كان عليك كبيراً‏}‏ موقع التعليل للاستثناء المنقطع، أي لكن رحمة من ربك منعت تعلق المشيئة بإذهاب الذي أوحينا إليك، لأن فضله كان عليك كبيراً فلا يحرمك فضل الذي أوحاه إليك‏.‏ وزيادة فعل ‏(‏كان‏)‏ لتوكيد الجملة زيادة على توكيدها بحرف التوكيد المستعمل في معنى التعليل والتفريع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

استئناف للزيادة في الامتنان‏.‏ وهو استئناف بياني لمضمون جملة ‏{‏إن فضله كان عليك كبيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وافتتاحه ب ‏(‏قل‏)‏ للاهتمام به‏.‏ وهذا تنويه بشرف القرآن فكان هذا التنويه امتناناً على الذين آمنوا به وهم الذين كان لهم شفاء ورحمة، وتحدياً بالعجز على الإتيان بمثله للذين أعرضوا عنه وهم الذين لا يزيدهم إلا خساراً‏.‏

واللام موطئة للقسم‏.‏

وجملة لا يأتون بمثله‏}‏ جواب القسم المحذوف‏.‏

وجرد الجواب من اللام الغالب اقترانها بجواب القسم كراهية اجتماع لامين‏:‏ لام القسم، ولام النافية‏.‏

ومعنى الاجتماع‏:‏ الاتفاق واتحاد الرأي، أي لو تواردت عقول الإنس والجن على أن يأتي كل واحد منهم بمثل هذا القرآن لما أتوا بمثله‏.‏ فهو اجتماع الرأي لا اجتماع التعاون، كما تدل عليه المبالغة في قوله بعده‏:‏ ‏{‏ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‏}‏‏.‏

وذكر الجن مع الإنس لقصد التعميم، كما يقال‏:‏ «لو اجتمع أهل السماوات والأرض»، وأيضاً لأن المتحدِّين بإعجاز القرآن كانوا يزعمون أن الجن يقدرون على الأعمال العظيمة‏.‏

والمراد بالمماثلة للقرآن‏:‏ المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع، وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي‏.‏

وجملة ‏{‏لا يأتون‏}‏ جواب القسم الموطَأ له باللام‏.‏ وجواب ‏(‏إن‏)‏ الشرطيّة محذوف دل عليه جواب القسم‏.‏

وجملة ‏{‏ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‏}‏ في موقع الحال من ضمير ‏{‏لا يأتون‏}‏‏.‏

و ‏(‏لو‏)‏ وصلية، وهي تفيد أن ما بعدها مظنة أن لا يشمله ما قبلها‏.‏ وقد تقدم معناها عند قوله‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ قي سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏

والظهير‏:‏ المعين‏.‏ والمعنى‏:‏ ولو تعاون الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله فكيف بهم إذا حاولوا ذلك متفرقين‏.‏

وفائدة هذه الجملة تأكيد معنى الاجتماع المدلول بقوله‏:‏ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن‏}‏ أنه اجتماع تظافر على عمل واحد ومقصد واحد‏.‏

وهذه الآية مفحمة للمشركين في التحدي بإعجاز القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما سواه من الكلام، مدمجاً في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثَل‏.‏ وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال‏.‏ وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ويجوز أن يراد بالمثل الحال أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه‏.‏

فجملة ولقد صرفنا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن‏}‏ مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز‏.‏

وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله، فمورد التأكيد هو فعل ‏{‏صرفنا‏}‏ الدال على أنه من عند الله‏.‏

والتصريف تقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وزيد في هذه الآية قيد للناس‏}‏ دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز، فكان الناس مقصودين به قصداً أصلياً مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم‏.‏

ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل ‏{‏صرفنا‏}‏ على الآخر‏:‏ أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقاً لتحديهم والحجة عليهم، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تُقدّم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية، أن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارَفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالاً‏.‏ ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر‏.‏ والأظهر كون التعريف في ‏{‏الناس‏}‏ للعموم كما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏فأبى أكثر الناس إلا كفوراً‏}‏‏.‏

وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله‏:‏ ‏{‏من كل مثل‏}‏ بخلاف الآية السابقة، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزاً لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بيِّن من جهتين، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ فإن ‏(‏من‏)‏ للتبعيض وتنوين ‏(‏مثل‏)‏ للتعظيم والتشريف، أي من كل مثل شريف‏.‏ والمراد‏:‏ شرفه في المقصود من التمثيل‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ من كل مثل‏}‏‏.‏ للتبعيض، و‏(‏كل‏)‏ تفيد العموم، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏أبى‏}‏ للقرينة، أي أبى العمل به‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إلا كفوراً‏}‏ تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي تأكيد في صورة النقص، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة، ثم يأتي المستثنى مؤكداً لمعنى المستثنى منه، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة‏.‏ وهو استثناء مُفرغ لما في فعل ‏{‏أبى من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله‏:‏ ‏{‏هل كنت إلا بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏‏.‏

والكُفور بضم الكاف المجحود، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

عطف جملة ‏{‏وقالوا‏}‏ على جملة ‏{‏فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 89‏]‏، أي كفروا بالقرآن وطالبوا بمعجزات أخرى‏.‏

وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفوراً، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلاً جميعه أو بعضهم قائلاً بعضه‏.‏

ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبي مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات‏.‏ وقد ذكر ابن إسحاق‏:‏ أن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، وناساً معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي أن يأتيهم‏.‏ فأسرع إليهم حرصاً على هداهم، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم‏.‏ وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد‏.‏ وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا يبتغي غير نصحهم، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية‏.‏

وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى‏:‏ أو ترقى في السماء‏}‏ إلى آخره، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي‏.‏

وحكى الله امتناعم عن الإيمان بحرف ‏(‏لن‏)‏ لمفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه‏.‏

والمراد بالأرض‏:‏ أرض مكة، فالتعريف للعهد‏.‏ ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات‏.‏

والتفجير‏:‏ مصدر فجر بالتشديد مبالغة في الفَجْر، وهو الشق باتساع‏.‏ ومنه سمي فجر الصباح فجراً لأن الضوء يشق الظلمة شقاً طويلاً عريضاً، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه‏.‏ ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفجرنا خلالها نهراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏ وقوله‏:‏ فتفجر الأنهار‏}‏‏.‏

وقرأه الجمهور بضم التاء وتشديد الجيم على أنه مضارع ‏(‏فجر‏)‏ المضاعف‏.‏ وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة على أنه مضارع فجر كنصَر، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع‏.‏

ومعنى ‏{‏لن نؤمن لك‏}‏ لن نصدقك أنك رسول الله إلينا‏.‏

والإيمان‏:‏ التصديق‏.‏ يقال‏:‏ آمنه، أي صدقه‏.‏ وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنت بمؤمن لنا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏ وقال ‏{‏فآمن له لوط‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وهذه اللام من قبيل ما سماه في مغني اللبيب‏}‏ لام التنبيين‏.‏ وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها، فإن مجرور اللام بعد فعل ‏{‏نؤمن‏}‏ مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد‏.‏

وقد يقال‏:‏ إنها لدفع التباس مفعول فعل «آمن» بمعنى صدق بمفعول فعل ‏(‏آمن‏)‏ إذا جعله أميناً‏.‏ وتقدم قوله تعالى؛ ‏{‏فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه‏}‏ في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏‏.‏

والينبوع‏:‏ اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها‏.‏ وصيغة يفعول صيغة مبالغة غير قياسية، والينبوع مشتقة من مادة النبع؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري‏.‏ وقيل‏:‏ اشتق من العَب المجازي‏.‏ ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل؛ يَكْسوم اسم قائد حبشي، ويرموك اسم نهر‏.‏ وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف المعجم‏.‏ وقال السيوطي في المزهر‏}‏‏:‏ إن ابن دريد عقد له في «الجمهرة» باباً‏.‏

والجنة، والنخيل، والعنب، والأنهار تقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 266‏]‏‏.‏

وخصوا هذه الجنة بأن تكون له، لأن شأن الجنة أن تكون خاصة لملك واحد معين، فأروه أنهم لا يبتغون من هذا الاقتراح نفع أنفسهم ولكنهم يبتغون حصوله ولو كان لفائدة المقترح عليه‏.‏ والمقترح هو تفجير الماء في الأرض القاحلة، وإنما ذكروا وجود الجنة تمهيداً لتفجير أنهار خلالها فكأنهم قالوا‏:‏ حتى تفجر لنا ينبوعاً يسقي الناس كلهم، أو تفجر أنهاراً تسقي جنة واحدة تكون تلك الجنة وأنهارها لك‏.‏ فنحن مقتنعون بحصول ذلك لا بغية الانتفاع منه‏.‏ وهذا كقولهم‏:‏ أو يكون لك بيت من زخرف‏}‏‏.‏

وذكر المفعول المطلق بقوله‏:‏ ‏{‏تفجيراً‏}‏ للدلالة على التكثير لأن ‏{‏تُفجر قد كفى في الدلالة على المبالغة في الفَجْر، فتعين أن يكون الإتيان بمفعوله المطلق للمبالغة في العدد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونزلناه تنزيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏، وهو المناسب لقوله‏:‏ خلالها‏}‏، لأن الجنة تتخللها شعب النهر لسقي الأشجار‏.‏ فجمع الأنهار باعتبار تشعب ماء النهر إلى شعب عديدة‏.‏ ويدل لهذا المعنى إجماع القراء على قراءة ‏{‏فتفجر‏}‏ هنا بالتشديد مع اختلافهم في الذي قبله‏.‏ وهذا من لطائف معاني القراءات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفانين إعجاز القرآن‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ انتقال من تحديه بخوارق فيها منافع لهم إلى تحديه بخوارق فيها مضرتهم، يريدون بذلك التوسيع عليه، أي فليأتهم بآية على ذلك ولو في مضرتهم‏.‏ وهذا حكاية لقولهم كما قالوا‏.‏ ولعلهم أرادوا به الإغراق في التعجيب من ذلك فجمعوا بين جعل الإسقاط لنفس السماء‏.‏ وعززوا تعجيبهم بالجملة المعترضة وهي ‏{‏كما زعمت‏}‏ إنباء بأن ذلك لا يصدق به أحد‏.‏ وعنوا به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 9‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم‏}‏

‏[‏الطور‏:‏ 44‏]‏، إذ هو تهديد لهم بأشراط الساعة وإشرافهم على الحساب‏.‏ وجعلوا ‏(‏من‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كسفاً من السماء‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 44‏]‏ تبعيضية، أي قطعة من الأجرام السماوية، فلذلك أبوا تعدية فعل تسقط‏}‏ إلى ذات السماء‏.‏ واعلم أن هذا يقتضي أن تكون هاتان الآيتان أو إحداها نزلت قبل سورة الإسراء وليس ذلك بمستبعد‏.‏

و «الكسف» بكسر الكاف وفتح السين جمع كسْفة، وهي القطعة من الشيء مثل سِدرة وسدر‏.‏ وكذلك قرأه نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر‏.‏ وقرأه الباقون بسكون السين بمعنى المفعول، أي المكسوف بمعنى المقطوع‏.‏

والزعم‏:‏ القول المستبعد أو المحال‏.‏

والقبيل‏:‏ الجماعة من جنس واحد‏.‏ وهو منصوب على الحال من الملائكة، أي هم قبيل خاص غير معروف، كأنهم قالوا‏:‏ أو تأتي بفريق من جنس الملائكة‏.‏

والزخرف‏:‏ الذهب‏.‏

وإنما عدي ‏{‏ترقى في السماء‏}‏ بحرف ‏(‏في‏)‏ الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم‏.‏

ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرؤونه، فيه شهادة بأنه بلغ السماء‏.‏ قيل‏:‏ قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية، قال‏:‏ حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك‏.‏

ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتاباً كاملاً دفعة واحدة، فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن، توهماً بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلاً من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه، ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لرقيك‏}‏ يجوز أن تكون لام التبيين‏.‏ على أن «رقيك» مفعول ‏{‏نؤمن‏}‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك‏}‏ فيكون ادعاء الرقي منفياً عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب‏.‏ ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول ‏{‏نؤمن‏}‏ محذوفاً دل عليه قوله قبله‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتاباً‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتاباً يرونه نازلاً من السماء‏.‏ وهذا تورك منهم وتهكم‏.‏

ولما كان اقتراحهم اقتراح مُلاجّة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كلامهم بكلمة ‏{‏سبحان ربي‏}‏ التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة، ثم بالاستفهام الإنكاري، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصراً إضافياً، أي لستُ رباً متصرفاً أخلق ما يطلب مني، فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏قل‏}‏ بصيغة فعل الأمر‏.‏ وقرأه ابن كثير، وابن عامر ‏{‏قال‏}‏ بألف بعد القاف بصيغة الماضي على أنه حكاية لجواب الرسول صلى الله عليه وسلم عن قولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ على طريقة الالتفات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

بعد أن عُدّت أشكال عنادهم ومَظاهر تكذيبهم أعقبت ببيان العلة الأصلية التي تبعث على الجحود في جميع الأمم وهي توهمهم استحالة أن يبعث الله للناس برسالة بشراً مثلهم‏.‏ فذلك التوهم هو مثار ما يأتونه من المعاذير، فالذين هذا أصل معتقدهم لا يرجى منهم أن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، وما قصدهم من مختلف المقتَرحات إلا إرضاءُ أوهامهم بالتنصل من الدخول في الدين، فلو أتاهم الرسول بما سألوه لانتقلوا فقالوا‏:‏ إن ذلك سحر، أو قلوبنا غلف، أو نحو ذلك‏.‏ ومع ما في هذا من بيان أصل كفرهم هو أيضاً رد بالخصوص لقولهم‏:‏ ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏ ورد لقولهم‏:‏ ‏{‏أو ترقى في السماء‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ إلى آخره‏.‏

وقوله‏:‏ إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا‏}‏ يقتضي بصريحه أنهم قالوا بألسنتهم وهو مع ذلك كناية عن اعتقادهم ما قالوه‏.‏ ولذلك جعل قولهم ذلك مانعاً من أن يؤمنوا لأن اعتقاد قائليه يمنع من إيمانهم بضده ونطقهم بما يعتقدونه يمنع من يسمعونهم من متبعي دينهم‏.‏

وإلقاء هذا الكلام بصيغة الحصر وأداة العموم جعله تذييلاً لما مضى من حكاية تفننهم في أساليب التكذيب والتهكم‏.‏

فالظاهر حمل التعريف في ‏{‏الناس‏}‏ على الاستغراق‏.‏ أي ما منع جميع الناس أن يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها فقال حكاية عن قوم نوح ‏{‏ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وحكى مثله عن هود ‏{‏ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 33- 34‏]‏، وعن قوم صالح ‏{‏ما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏ سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 154‏]‏، وعن قوم شُعيب ‏{‏وما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 186‏]‏، وحكى عن قوم فرعون ‏{‏قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏‏.‏ وقال في قوم محمد ‏{‏بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وإذ شمل العموم كفار قريش أمر الرسول بأن يجيبهم عن هذه الشبهة بقوله‏:‏ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين‏}‏ الآية، فاختص الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باجتثاث هذه الشبهة من أصلها اختصاصاً لم يُلقنه من سَبق من الرسل، فإنهم تلقوا تلك الشبهة باستنصار الله تعالى على أقوامهم فقال عن نوح ‏{‏قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 118‏]‏‏.‏

وقال مثله عن هود وصالح، وقال عن موسى وهارون، ‏{‏فكذبوهما فكانوا من المهلكين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 48‏]‏، فقد ادخر الله لرسوله قواطع الأدلة على إبطال الشرك وشبه الضلالة بما يناسب كونه خاتم الرسل، ولهذا قال في خطبة حجّة الوداع‏:‏ إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ لو كان في الأرض ملائكة يمشون‏}‏ الخ‏:‏ أن الله يرسل الرسول للقوم من نوعهم للتمكين من المخالطة لأن اتحاد النوع هو قوام تيسير المعاشرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏، أي في صورة رجل ليمكن التخاطب بينه وبين الناس‏.‏

وجملة يمشون‏}‏ وصف ل ‏{‏ملائكة‏}‏‏.‏

و ‏{‏مطمئنين‏}‏ حال‏.‏ والمطمئن‏:‏ الساكن‏.‏ وأريد به هنا المتمكن غير المضطرب، أي مشي قرار في الأرض، أي لو كان في الأرض ملائكة قاطنون على الأرض غير نازلين برسالة للرسل لنزلنا عليهم ملكاً‏.‏

ولما كان المشي والاطمئنان في الأرض من صفة الإنسان آل المعنى إلى‏:‏ لو كنتم ملائكة لنزلنا عليكم من السماء ملكاً فلما كنتم بشراً أرسلنا إليكم بشراً مثلكم‏.‏

ومجيء الهدى هو دعوة الرسل إلى الهُدى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

بعد أن خص الله محمداً صلى الله عليه وسلم بتلقين الحجة القاطعة للضلالة أردف ذلك بتلقينه أيضاً ما لقنه الرسل السابقين من تفويض الأمر إلى الله وتحكيمه في أعدائه، فأمره ب ‏{‏قل كفى بالله‏}‏ تسلية له وتثبيتاً لنفسه وتعهداً له بالفصل بينه وبينهم كما قال نوح وهود ‏{‏رب انصرني بما كذبون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 26‏]‏، وغيرهما من الرسل قال قريباً من ذلك‏.‏

وفي هذا رد لمجموع مقترحاتهم المتقدمة على وجه الإجمال‏.‏

ومفعول ‏{‏كفى‏}‏ محذوف، تقديره‏:‏ كفاني‏.‏ والشهيد‏:‏ الشاهد، وهو المخبر بالأمر الواقع كما وقع‏.‏

وأريد بالشهيد هنا الشهيد للمُحق على المبطل، فهو كناية عن النصير والحاكم لأن الشهادة سبب الحكم، والقرينَةُ قوله‏:‏ ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ لأن ظرف ‏(‏بين‏)‏ يناسب معنى الحُكم‏.‏ وهذا بمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يوم القيامة يفصل بينكم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والباء الداخلة على اسم الجلالة زائدة لتأكيد لصوق فعل كفى‏}‏ بفاعله‏.‏ وأصله‏:‏ كفى الله شهيداً‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان بعباده خبيرا بصيراً‏}‏ تعليل للاكتفاء به تعالى، والخبير‏:‏ العليم‏.‏ وأريد به العليم بالنوايا والحقائق، والبصير‏:‏ العليم بالذوات والمشاهداتتِ من أحوالها‏.‏، والمقصود من اتباعه به إحاطةُ العلم وشموله‏.‏