فصل: تفسير الآية رقم (97)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ‏}‏

يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة ‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94‏]‏ جمعاً بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى، فمن أصَرّ على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه‏.‏ وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يُلقِي عقله لتلقي الحق ويتخذُ هواه رائداً له في مواقف الجد‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة ‏{‏قل كفى باللَّه شهيداً بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 96‏]‏ ارتقاء في التسلية، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة‏.‏

والمراد بالهُدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول‏.‏

والتعريف في المهتد‏}‏ تعريف العهد الذهني، فالمعرف مساوٍ للنكرة، فكأنه قيل‏:‏ فهو مهتدٍ‏.‏ وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو ‏{‏ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء‏}‏، كما يقال من عَرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فُلان‏.‏

ويجوز أن تجعل التعريف في قوله‏:‏ ‏{‏المهتد‏}‏ تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصراً إضافياً، أي دون من تريد أنتَ هداه وأضله الله‏.‏ ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان‏.‏

وحُذفت ياء ‏{‏المهتد‏}‏ في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غيرِ المنون بحذف الياء، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة‏.‏ ورسمت بدون ياء لأن شأن أواخر الكلم أن ترسم بمراعاة حال الوقف‏.‏ وأما في حال النطق في الوصل فقرأها نافع وأبو عَمرو بإثبات الياء في الوصل وهو الوجه، ولذلك كتبوا الياء في مصاحفهم باللون الأحمر وجعلوها أدق من بقية الحروف المرسومة في المصحف تفرقة بينها وبين ما رسمه الصحابة كتّاب المصحف‏.‏ والباقون حذفوا الياء في النطققِ في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف‏.‏ وذلك وإن كان نادراً في غير الشعر إلا أن الفصحاء يُجرون الفواصل مجرى القوافي، واعتبروا الفاصلة كل جملة ثم بها الكلام، كما دل عليه تمثيل سيبويه في كتابه الفاصلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قال ذلك ما كنا نبغ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال‏}‏ في سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والخطاب في فلن تجد لهم أولياء من دونه‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له، فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم‏.‏

والأولياء‏:‏ الأنصار، أي لن تجد لهم أنصاراً يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب‏.‏ ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شأنهم، أي لن تجد لهم من يُصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏‏.‏

وجُمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع، أي لن تجد لكل واحد ولياً ولا لجماعته ولياً، كما يقال‏:‏ ركب القوم دوابهم‏.‏

ومن دونه‏}‏ أي غيره‏.‏

ذكر المقصود من نفي الولي أو المَئال له بذكر صورة عقابهم بقوله‏:‏ ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم‏}‏ الآية‏.‏

والحشر‏:‏ جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد‏.‏ ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف ‏(‏على‏)‏ لتضمينه معنى ‏(‏يمشون‏.‏ وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم‏؟‏ فقال‏:‏ إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم‏.‏ والمقصود من ذلك الجمعُ بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملاً لصلابة الأرض من الرجل‏.‏

وهذا جزاء مناسب للجرم، لأنهم روّجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاءَ مشي عِوضاً عن الأرجل‏.‏ ثم كانوا ‏{‏عميا وبكما‏}‏ جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن، و‏{‏صمّاً‏}‏ جزاء امتناعهم من سماع الحق، كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال عنهم‏:‏ ‏{‏قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 125- 126‏]‏، وقال عنهم‏:‏ ‏{‏ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 72‏]‏ أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروماً من متعة النظر‏.‏ وهذه حالتهم عند الحشر‏.‏

والمأوى محل الأوِيِّ، أي النزول بالمأوى‏.‏ أي المنزل والمقر‏.‏

وخبت النار خُبُوّاً وخَبْواً‏.‏ نقص لهيبها‏.‏

والسعير‏:‏ لهب النار، وهو مشتق من سعّر النارَ إذا هيج وقودها‏.‏ وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعاً لتذكير اللهب‏.‏ والمعنى‏:‏ زدناهم لهباً فيها‏.‏

وفي قوله‏:‏ كلما خبت زدناهم سعيراً‏}‏ إشكال لأن نار جهنم لا تخبو‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يخفف عنهم العذاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 86‏]‏‏.‏ فعن ابن عباس‏:‏ أن الكفرة وقود للنار قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقودها الناس والحجارة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعداً من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم‏.‏

فالخُبُوّ وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم‏.‏ ولهذه النكتة سلط فعل زدناهم‏}‏ على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم، فكأنه قيل‏:‏ كلما خبت فيهم زدناهم سعيراً، ولم يقل‏:‏ زدناها سعيراً‏.‏

وعندي‏:‏ أن معنى الآية جارٍ على طريق التهكّم وبادئ الإطماع المسفر عن خيبة، لأنه جعل ازدياد السعير مقترناً بكل زمان من أزمنة الخبُوّ، كما تفيده كلمة ‏(‏كلما‏)‏ التي هي بمعنى كل زمان‏.‏ وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها‏.‏ فهذا الكلام من قبيل التمليح، وهو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏، وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله‏:‏ على من قَضيت‏؟‏ فقال‏:‏ على ابن أخت خالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن العقاب الفظيع المحكي يثير في نفوس السامعين السؤال عن سبب تركب هذه الهيئة من تلك الصورة المفظعة، فالجواب بأن ذلك بِسبب الكفر بالآيات وإنكار المعاد‏.‏

فالإشارة إلى ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ إلى آخر الآية بتأويل‏:‏ المذكور‏.‏

والجزاء‏:‏ العوض عن عمل‏.‏

والباء في بأنهم كفروا‏}‏ للسببية‏.‏

والظاهر أن جملة ‏{‏وقالوا أإذا كنا عظاما‏}‏ الخ‏.‏ عطف على جملة ‏{‏بأنهم كفروا‏}‏‏.‏ فذكر وجه اجتماع تلك العقوبات لهم، وذُكر سببان‏:‏

أحدهما‏:‏ الكفر بالآيات ويندرج فيه صنوف من الجرائم تفصيلاً وجمعاً تناسبها العقوبة التي في قوله‏:‏ ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وثانيهما‏:‏‏}‏ إنكارهم البعث بقولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا عظاما ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقا جديداً‏}‏ المناسب له أن يُعاقبوا عقاباً يناسب ما أنكروه من تجدد الحياة بعد المصير رفاتاً، فإن رفات الإحراق أشد اضمحلالاً من رفات العظام في التراب‏.‏

والاستفهام في حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا عظاماً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أئنا لمبعوثون‏}‏ إنكاري‏.‏ وتقدم اختلاف القراء في إثبات الهمزتين في قوله‏:‏ ‏{‏أإذا‏}‏ وفي إثباتها في قوله‏:‏ ‏{‏أإذا لمبعوثون‏}‏ في نظير هذه الآية من هذه السورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏أو لم يروا‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ذلك جزاؤهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏]‏ باعتبار ما تضمنته الجملة المعطوفُ عليها من الردع عن قولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا عظاما ورفاتاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏]‏‏.‏ فبعدَ زجرهم عن إنكارهم البعث بأسلوب التهديد عطف عليه إبطال اعتقادهم بطريق الاستدلال بقياس التمثيل في الإمكان، وهو كاف في إقناعهم هنا لأنهم إنما أنكروا البعث باعتقاد استحالته كما أفصح عنه حكاية كلامهم بالاستفهام الإنكاري‏.‏ وإحالتهم ذلك مستندة إلى أنهم صاروا عظاماً ورفاتاً، أي بتعذر إعادة خلق أمثال تلك الأجزاء، ولم يستدلوا بدليل آخر، فكان تمثيل خلق أجسام من أجزاء بالية بخلق أشياء أعظم منها من عدم أوْغَل في الفناء دليلاً يقطع دعواهم‏.‏

والاستفهام في أو لم يروا‏}‏ إنكاري مشوب بتعجيب من انتفاء علمهم، لأنهم لما جرت عقائدهم على استبعاد البعث كانوا بحال من لم تظهر له دلائل قدرة الله تعالى، فيؤول الكلام إلى إثبات أنهم علموا ذلك في نفس الأمر‏.‏

والرؤية مستعملة في الاعتقاد لأنها عديت إلى كون الله قادراً، وذلك ليس من المبصرات‏.‏ والمعنى‏:‏ أو لم يعلموا أن الله قادر على أن يخلق مثلهم‏.‏

وضمير ‏{‏مثلهم‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏يروا‏}‏ وهو ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وما منع الناس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94‏]‏ أي المشركين‏.‏

والمِثْل‏:‏ المماثل، أي قادر على أن يخلق ناساً أمثالهم، لأن الكلام في إثبات إعادة أجسام المردود عليهم لا في أن الله قادر على أن يخلق خلقاً آخر، ويكون في الآية إيماء إلى أن البعث إعادة أجسام أخرى عن عدم، فيخلق لكل ميت جسد جديد على مِثال جسده الذي كان في الدنيا وتوضع فيه الروح التي كانت له‏.‏

ويجوز أن يكون لفظ مِثل هنا كناية عن نفس ما أضيف إليه، كقول العرب‏:‏ مثلك لا يبْخل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ على أحد تأويلين فيه، أي على جعل الكاف الداخلة على لفظ مثله غيرَ زائدة‏.‏ والمعنى‏:‏ قادر على أن يخلقهم، أي أن يعيد خلقهم، فإن ذلك ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض‏.‏

ولعلمائنا طرق في إعادة الأجسام عند البعث فقيل‏:‏ تكون الإعادة عن عدم، وقيل تكون عن جمع ما تَفرق من الأجسام‏.‏ وقيل‏:‏ يَنبت من عَجْب ذنب كل شخص جسد جديد مماثل لجسده كما تنبت من النواة شجرة مماثلة للشجرة التي أثمرت ثمرةَ تلك النواة‏.‏

ووصف اسم الجلالة بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، وهو الإنكار عليهم، لأن خلق السماوات والأرض أمر مشاهد معلوم، وكونه من فعل الله لا ينازعون فيه‏.‏

وجملة وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏أو لم يروا‏}‏ لتأويلها بمعنى قد رأوا ذلك لو كان لهم عقول، أي تحققوا أن الله قادر على إعادة الخلق وقد جعل لهم أجلاً لا ريب فيه‏.‏

والأجل‏:‏ الزمان المجعول غاية يُبلغ إليها في حال من الأحوال‏.‏ وشاع إطلاقه على امتداد الحياة، وهو المدة المقدرة لكل حي بحسب ما أودع الله فيه من سلامة آلات الجسم، وما علمه الله من العوارض التي تعرض له فتخرم بعض تلك السلامة أو تقويها‏.‏

والأجل هنا محتمل لإرادة الوقت الذي جعل لوقوع البعث في علم الله تعالى‏.‏

ووجه كون هذا الجعل لهم أنهم داخلون في ذلك الأجل لأنهم من جملة من يُبعث حينئذٍ، فتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين أنكروا البعث، والمعنى‏:‏ وجعل لهم ولغيرهم أجلاً‏.‏

ومعنى كون الأجل لا ريب فيه‏:‏ أنه لا ينبغي فيه‏:‏ ريب، وأن ريب المرتابين فيه مكابرة أو إعراض عن النظر، فهو من باب قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون الأجل أجل الحياة، أي وجَعل لحياتهم أجلاً، فيكون استدلالاً ثانياً على البعث، أي ألم يروا أنه جعل لهم أجلاً لحياتهم، فما أوجدهم وأحياهم وجعل لحياتهم أجلاً إلا لأنه سيعيدهم إلى حياة أخرى، وإلا لمَا أفناهم بعد أن أحياهم، لأن الحكمة تقتضي أن ما يوجده الحكيم يحرص على بقائه وعدم فنائه، فما كان هذا الفناء الذي لا ريب فيه إلا فناءً عارضاً لاستقبال وجود أعظم من هذا الوجود وأبقى‏.‏

وعلى هذا الوجه فوجه كون هذا الجعل لهم ظاهر لأن الآجال آجالهم‏.‏ وكونه لا ريب فيه أيضاً ظاهر لأنهم لا يرتابون في أن لحياتهم آجالاً‏.‏ وقد تضمن قوله‏:‏ لهم أجلا‏}‏ تعريضاً بالمنة بنعمة الإمهال على كلا المعنيين وتعريضاً بالتذكير بإفاضة الأرزاق عليهم في مدة الأجل لأن في ذكر خلق السماء والأرض تذكيراً بما تحتويه السماوات والأرض من الأرزاق وأسبابها‏.‏

وجملة ‏{‏فأبى الظالمون إلا كفوراً‏}‏ تفريع على الجملتين باعتبار ما تضمنتاه من الإنكار والتعجيب، أي علموا أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة الأجسام ومع علمهم أبوا إلا كفوراً‏.‏ فالتفريع من تمام الإنكار عليهم والتعجيب من حالهم‏.‏

واستثناء الكفور من الإباية تأكيد للشيء بما يشبه ضده‏.‏

والكفور‏:‏ جحود النعمة، وتقدم آنفاً‏.‏ واختير «الكفور» هنا تنبيهاً على أنهم كفروا بما يجب اعتقاده، وكفروا نعمة المنعم عليهم فعبدوا غير المنعم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

اعتراض ناشئ عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلاً على انتفاء إرسال بَشيرٍ، فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم‏.‏ وهذا رد لما تضمنه قولهم‏:‏ ‏{‏حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏تفجيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90- 91‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏أو يكون لك بيت من زخرف‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته‏.‏

ومعنى الرد‏:‏ أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم‏.‏

وأدمج في هذا الرد بيانُ ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير‏.‏ وأدمج في ذلك أيضاً تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها‏.‏ ويصلح لأن يكون هذا خطاباً للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه‏.‏

وشأن ‏(‏لو‏)‏ أن يليها الفعل ماضياً في الأكثر أو مضارعاً في اعتبارات، فهي مختصة بالدخول على الأفعال، فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصدٍ بليغ‏:‏ إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرةً ثانية تأكيدٌ وتقويةٌ؛ مثل قوله‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏ وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص، بناءً على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لمقصد طريققٍ غير مطروق‏.‏ وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ، ومنه قول عُمر لأبي عبيدة لَوْ غيرُك قالها‏.‏

والمعنى‏:‏ لو أنتم اختصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لَما أنفقتم على الفقراء شيئاً‏.‏ وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم‏.‏

وكلا الاعتبارين لا يُنَاكد اختصاص ‏(‏لو‏)‏ بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حَيزها غيرَ مُوال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي، ولكن لا يجوز أن يقال‏:‏ لو أنت عالم لبذذت الأقران‏.‏

واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل‏.‏

وأمسكتم‏}‏ هُنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، لأن المقصود‏:‏ إذن لاتصفتم بالإمساك، أي البخل‏.‏ يقال‏:‏ فلان مُمسك، أي بخيل‏.‏ ولا يراد أنه ممسك شيئاً معيناً‏.‏

وأكد جواب ‏(‏لو‏)‏ بزيادة حرف ‏(‏إذن‏)‏ فيه لتقوية معنى الجوابية، ولأن في ‏(‏إذن‏)‏ معنى الجزاء كما تقدم آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏‏.‏ ومنه قول بشر بن عَوانة‏:‏

أفاطم لو شهدت ببطن خَبْتٍ *** وقد لاقَى الهزبرُ أخاككِ بِشرَا

إذن لرأيتتِ لَيْثا أمَّ لَيثا *** هِزَبْرا أغلباً لاقَى هِزبرا

وجملة ‏{‏وكان الإنسان قتوراً‏}‏ حالية أو اعتراضية في آخر الكلام، وهي تفيد تذييلاً لأنها عامةُ الحكم‏.‏ فالواو فيها ليست عاطفة‏.‏

والقتور‏:‏ الشديد البخل، مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

بَقي قولهم‏:‏ ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏ غيرَ مردود عليهم، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عِذاب ورعب، فهو من قبيل آيات موسى عليه السلام التسع‏.‏ فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيراً لما سأله المشركون‏.‏

والمقصود‏:‏ أننا آتينا موسى عليه السلام تسع آيات بيّناتتِ الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحراً، ففي ذلك مَثلٌ للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم‏.‏ ففي هذا مثَل للمعاندين وتسلية للرسول‏.‏ والآيات التسع هي‏:‏ بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجَها، وانقلاب العصا حية، والطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، والرجز وهو الدمل، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات، وهي مذكورة في سورة الأعراف‏.‏ وجمعها الفيروزآبادي في قوله‏:‏

عَصًا، سَنَةٌ، بَحْر، جراد، وقُمّل

يَدٌ، ودَمٌ، بعد الضفادع طُوفَانُ

فقد حصلت بقوله‏:‏ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات‏}‏ الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات‏.‏

ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالة موسى عليه السلام إقامةً للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شُبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جَوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حساباً‏.‏

فالمعنى‏:‏ ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته‏.‏

وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى الكتاب وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة ‏{‏وآتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 2‏]‏ الآيات، ثم قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏‏.‏

فتكون هذه الجملة عطفاً على جملة ‏{‏قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ أو على جملة ‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 100‏]‏‏.‏

ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهاداً بهم على المشركين، وإدماجاً للتعريض بهم بأنهم سَاووا المشركين في إنكار نبوءة محمد ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه، تذكيراً لهم بحال فرعون وقومه إذ قال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً‏}‏‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏فسئل‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد‏:‏ سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مسحوراً‏}‏ ظاهره أن معناه متأثراً بالسحر، أي سحَركَ السحرة وأفسدوا عقلك فصُرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل ‏(‏مثل المَيْمون والمشؤوم‏)‏‏.‏ وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه ‏{‏يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 35‏]‏، والذي قال فيه ‏{‏إن هذا لساحر عليم‏}‏، ‏[‏الشعراء‏:‏ 34‏]‏ فيكون إعراضاً عن الاشتغال بالآيات وإقبالاً على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم‏.‏

ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه قال ‏{‏لمن حوله ألا تستمعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وكل تلك أقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى عليه السلام فحكي في كل آية شيء منها‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ ظرف متعلق ب آتينا‏}‏‏.‏ والضمير المنصوب في ‏{‏جاءهم‏}‏ عائد إلى بني إسرئيل‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل، فاسألْهم‏.‏

وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر، أوْ تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر، لأن الظن دون اليقين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين‏.‏

ومعنى ولقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض‏}‏‏:‏ أن فرعون لم يبق في نفسه شك في أن تلك الآيات لا تكون إلا بتسخير الله إذ لا يقدر عليها غيرُ الله، وأنه إنما قال‏:‏ ‏{‏إني لأظنك يا موسى مسحوراً‏}‏ عناداً ومكابرة وكبرياء‏.‏

وأكد كلام موسى بلام القسم وحرف التحقيق تحقيقاً لحصول علم فرعون بذلك‏.‏ وإنما أيقن موسى بأن فرعون قد علم بذلك‏:‏ إما بوحي من الله أعلمه به، وإما برأي مُصيب، لأن حصول العلم عند قيام البرهان الضروري حصول عقلي طبيعي لا يتخلف عن عقل سليم‏.‏

وقرأ الكسائي وحده ‏{‏لقد علمتُ‏}‏ بضم التاء، أي أن تلك الآيات ليست بسحر كما زعمتَ كناية على أنه واثق من نفسه السلامة من السحر‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ إلى الآيات التسع جيء لها باسم إشارة العاقل، وهو استعمال مشهور‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏، وقول جرير‏:‏

ذُم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيشَ بعد أولئِك الأيام

والأكثر أن يشار ب ‏(‏أولاء‏)‏ إلى العاقل‏.‏

والبصائر‏:‏ الحجج المفيدة للبصيرة، أي العلم، فكأنها نفس البصيرة‏.‏

وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا بصائر من ربكم‏}‏ في آخر سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏‏.‏

وعبر عن الله بطريق إضافة وصف الرب للسماوات والأرض تذكيراً بأن الذي خلق السماوات والأرض هو القادر على أن يخلق مثل هذه الخوارق‏.‏

والمثبور‏:‏ الذي أصابه الثُبور وهو الهلاك‏.‏ وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه‏.‏ وإنما جعله موسى ظناً تأدباً مع الله تعالى، أو لأنه علم ذلك باستقراء تام أفاده هلاك المعاندين للرسل، ولكنه لم يدر لعل فرعون يقلع عن ذلك وكان عنده احتمالاً ضعيفاً، فلذلك جعل توقع هلاك فرعون ظناً‏.‏ ويجوز أن يكون الظن هنا مستعملاً بمعنى اليقين كما تقدم آنفاً‏.‏

وفي ذكر هذا من قصة موسى إتمام لتمثيل حال معاندي الرسالة المحمدية بحال من عاند رسالة موسى عليه السلام‏.‏

وجاء في جواب موسى عليه السلام لفرعون بمثل ما شافهه فرعون به من قوله‏:‏ إني لأظنك يا موسى مسحوراً‏}‏ مقارعة له وإظهاراً لكونه لا يخافه وأنه يعامله معاملة المثل قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏ وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

أكملت قصة المثل بما فيه تعريض بتمثيل الحالين إنذاراً للمشركين بأن عاقبة مكرهم وكيدهم ومحاولاتهم صائرة إلى ما صار إليه مكر فرعون وكيده، ففرع على تمثيل حالي الرسالتين وحالي المرسل إليهما ذكر عاقبة الحالة الممثل بها نذارة للممثلين بذلك المصير‏.‏

فقد أضمر المشركون إخراج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة، فمثلت إرادتهم بإرادة فرعون إخراج موسى وبني إسرائيل من مصر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والاستفزاز‏:‏ الاستخفاف، وهو كناية عن الإبعاد‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كادوا ليستفزونك من الأرض‏}‏ في هذه السورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والمراد بمن معه جنده الذين خرجوا معه يتبعون بني إسرائيل‏.‏

والأرض الأولى هي المعهودة وهي أرض مصر، والأرض الثانية أرض الشام وهي المعهودة لبني إسرائيل بوعد الله إبراهيمَ إياها‏.‏

ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر‏.‏

واللفيف‏:‏ الجماعات المختلطون من أصناف شتى، والمعنى‏:‏ حكمنا بينهم في الدنيا بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين، وسنحكم بينهم يوم القيامة‏.‏

ومعنى جئنا بكم‏}‏ أحضرناكم لدينا‏.‏ والتقدير‏:‏ جئنا بكم إلينا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ‏}‏

عود إلى التنويه بشأن القرآن فهو متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 89‏]‏‏.‏ فلما عطف عليه ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الآيات إلى هنا وسمحت مناسبة ذكر تكذيب فرعون موسى عليه السلام عاد الكلام إلى التنويه بالقرآن لتلك المناسبة‏.‏

وقد وُصف القرآن بصفتين عظيمتين كل واحدة منهما تحتوي على ثناء عظيم وتنبيه للتدبر فيهما‏.‏

وقد ذُكر فعل النزول مرتين، وذكر له في كل مرة متعلق متماثل اللفظ لكنه مختلف المعنى، فعلق إنزال الله إياه بأنه بالحق فكان معنى الحق الثابت الذي لا ريب فيه ولا كذب، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وهو رد لتكذيب المشركين أن يكون القرآن وحياً من عند الله‏.‏

وعلق نزول القرآن، أي بلوغه للناس بأنه بالحق فكان معنى الحق الثاني مقابلَ الباطل، أي مشتملاً على الحق الذي به قوام صلاح الناس وفوزهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وضمائر الغيبة عائدة إلى القرآن المعروف من المقام‏.‏

والباء في الموضعين للمصاحبة لأنه مشتمل على الحق والهدي، والمصاحبة تشبه الظرفية‏.‏ ولولا اختلاف معنى الباءين في الآية لكان قوله‏:‏ وبالحق نزل‏}‏ مجرد تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏وبالحق أنزلناه‏}‏ لأنه إذا أنزل بالحق نزل به ولا ينبغي المصير إليه ما لم يتعين‏.‏

وتقديم المجرور في المَوضعين على عامله للقصر رداً على المنكرين الذين ادعوا أنه أساطير الأولين أو سحر مبين أو نحو ذلك‏.‏

جملة معترضة بين جملة ‏{‏وبالحق أنزلناه‏}‏ وجملة ‏{‏وقرآنا فرقناه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏‏.‏ أي وفي ذلك الحق نفع وضر فأنت به مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين‏.‏

والقصر للرد على الذين سألوه أشياء من تصرفات الله تعالى والذين ظنوا أن لا يكون الرسول بشرا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏أنزلناه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وانتصب قرآناً‏}‏ على الحال من الضمير المنصوب في ‏{‏فرقناه‏}‏ مقدمة على صاحبها تنويهاً الكون قرآناً، أي كونه كتاباً مقروءاً‏.‏ فإن اسم القرآن مشتق من القراءة، وهي التلاوة، إشارة إلى أنه من جنس الكلام الذي يحفظ ويتلى، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب وقرآن مبين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 1‏]‏، وقد تقدم بيانه‏.‏ فهذا الكتاب له أسماء باختلاف صفاته فهو كتاب، وقرآن، وفرقان، وذكر، وتنزيل‏.‏

وتجري عليه هذه الأوصاف أو بعضها باختلاف المقام، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرآن الفجر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاقرأوا ما تيسر من القرآن‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ باعتبار أن المقام للأمر بالتلاوة في الصلاة أو مطلقاً، وإلى قوله‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ في مقام كونه فارقاً بين الحق والباطل، ولهذا لم يوصف من الكتب السماوية بوصف القرآن غيرُ الكتاب المنزل على محمد‏.‏

ومعنى فرقناه‏}‏ جعلناه فِرَقاً، أي أنزلناه منجماً مفرقاً غير مجتمع صبُرة واحدة‏.‏ يقال‏:‏ فرق الأشياء إذا باعد بينها، وفرق الصبرة إذا جزأها‏.‏ ويطلق الفرق على البيان لأن البيان يشبه تفريق الأشياء المختلطة، فيكون ‏{‏فرقناه‏}‏ محتملاً معنى بيناه وفصلناه، وإذ قد كان قوله‏:‏ ‏{‏قرآناً‏}‏ حالاً من ضمير ‏{‏فرقناه‏}‏ آل المعنى إلى‏:‏ أنا فرقناه وأقرأناه‏.‏

وقد عُلل بقوله‏:‏ ‏{‏لتقرأه على الناس على مكث‏}‏‏.‏ فهما علتان‏:‏ أن يُقرأ على الناس وتلك علة لجعله قرآناً، وأن يقرأ على مُكْث، أي مَهل وبطء وهي علة لتفريقه‏.‏

والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين‏.‏

وجملة ‏{‏ونزلناه تنزيلاً‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وقرآنا فرقناه‏}‏‏.‏ وفي فعل ‏{‏نزلناه‏}‏ المضاعف وتأكيده بالمفعول المطلق إشارة إلى تفريق إنزاله المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وبالحق أنزلناه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وطوي بيان الحكمة للاجتزاء بما في قوله‏:‏ لتقرأه على الناس على مكث‏}‏ من اتحاد الحكمة‏.‏ وهي ما صَرح به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد‏:‏ فرقنا إنزاله رعياً للأسباب والحوادث‏.‏ وفي كلام الوجهين إبطال لشبهتهم إذ قالوا‏:‏ ‏{‏لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 109‏]‏

‏{‏قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

استئناف خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليلقنه بما يقوله للمشركين الذين لم يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله، فإنه بعد أن أوضح لهم الدلائل على أن مثل ذلك القرآن لا يكون إلا منزلاً من عند الله من قوله‏:‏ ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏ فعجزوا عن الإتيان بمثله، ثم ببيان فضائل ما اشتمل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 89‏]‏، ثم بالتعرض إلى ما اقترحوه من الإتيان بمعجزات أخر، ثم بكشف شبهتهم التي يموهون بها امتناعهم من الإيمان برسالة بشَر، وبَيّن لهم غلطهم أو مغالطتهم، ثم بالأمر بإقامة الله شهيداً بينه وبينهم، ثم بتهديدهم بعذاب الآخرة، ثم بتمثيل حالهم مع رسولهم بحال فرعون وقومه مع موسى وما عُجل لهم من عذاب الدنيا بالاستئصال، ثم بكشف شبهتهم في تنجيم القرآن؛ أعقب ذلك بتفويض النظر في ترجيح الإيمان بصدق القرآن وعدم الإيمان بقوله‏:‏ آمنوا به أو لا تؤمنون‏}‏ للتسوية بين إيمانهم وعدمه عند الله تعالى‏.‏ فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏آمنوا‏}‏ للتسوية، أي إن شئتم‏.‏

وجُزم ‏{‏لا تؤمنوا‏}‏ بالعطف على المجزوم‏.‏ ومثله قوله في سورة الطور ‏(‏16‏)‏ ‏{‏فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم‏}‏، فحرف ‏(‏لا‏)‏ حرف نفي وليس حرف نهي، ولا يقع مع الأمر المراد به التسوية إلا كذلك، وهو كناية عن الإعراض عنهم وا حتقارهم وقلة المبالاة بهم، ويندمج فيه مع ذلك تسلية الرسول‏.‏

وجملة إن الذين أوتوا العلم‏}‏ تعليل لمعنى التسوية بين إيمانهم به وعدمه أو تعليل لفعل ‏{‏قل‏}‏، أو لكليهما، شأن العلل التي ترد بعد جُمل متعددة، ولذلك فصلت‏.‏ وموقع ‏(‏إن‏)‏ فيها موقع فاء التفريع، أي إنما كان إيمانكم بالقرآن وعدمُه سواء لأنه مستغن عن إيمانكم به بإيمان الذين أوتوا العلم من قبل نزوله، فهم أرجح منكم أحلاماً وأفضل مقاماً، وهم الذين أوتوا العلم، فإنهم إذا يسمعونه يؤمنون به ويزيدهم إيماناً بما في كتبهم من الوعد بالرسول الذي أنزل هذا عليه‏.‏

وفي هذا تعريض بأن الذين أعرضوا عن الإيمان بالقرآن جهلة وأهل جاهلية‏.‏

والمراد بالذين أوتوا العلم أمثالُ‏:‏ ورقة بن نَوفل، فقد تسامع أهل مكة بشهادته للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن آمن بعد نزول هذه السورة من مِثل‏:‏ عبد الله بن سلام، ومعيقيب، وسَلمان الفارسي‏.‏

ففي هذه الآية إخبار بمغيّب‏.‏

وضمائر «به، ومن قبله، ويتلى» عائدة إلى القرآن‏.‏ والكلام على حذف مضاف معلوم من المقام معهود الحذف، أي آمنوا بصدقة‏.‏ ومن قبل نزوله‏.‏

والخرور‏:‏ سقوط الجسم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فخر عليهم السقف من فوقهم‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 26‏.‏

‏(‏وقد تقدم في قوله‏:‏

‏{‏وخر موسى صعقاً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏143‏.‏

‏(‏واللام في للأذقان‏}‏ بمعنى ‏(‏على‏)‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتله للجبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏]‏، وقول تأبط شراً‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** صريعاً لليدين وللجران

وأصل هذه اللام أنها استعارة تبعية‏.‏ استعير حرف الاختصاص لمعنى الاستعلاء للدلالة على مزيد التمكن كتمكن الشيء بما هو مختص به‏.‏

والأذقان‏:‏ جمع الذَقَن بفتح الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين‏.‏ وذكر الذقن للدلالة على تمكينهم الوجوه كلها من الأرض من قوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع لله تعالى‏.‏

وسجداً‏}‏ جمع ساجد، وهو في موضع الحال من ضمير ‏{‏يخرون‏}‏ لبيان الغرض من هذا الخرور، وسجودهم سجود تعظيم لله عند مشاهدة آية من دلائل علمه وصدق رسله وتحقيق وعده‏.‏

وعطفت ‏{‏ويقولون سبحان ربنا‏}‏ على ‏{‏يخرون‏}‏ للإشارة إلى أنهم يجمعون بين الفعل الدال على الخضوع والقول الدال على التنزيه والتعظيم‏.‏ ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 15‏]‏‏.‏ على أن في قولهم‏:‏ سبحان ربنا‏}‏ دلالة على التعجب والبهجة من تحقق وعد الله في التوراة والإنجيل بمجيء الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم

وجملة ‏{‏إن كان وعد ربنا لمفعولا‏}‏ من تمام مقولهم‏.‏ وهو المقصود من القول، لأن تسبيحهم قبله تسبيح تَعجب واعتبار بأنه الكتاب الموعود به وبرسوله في الكتب السابقة‏.‏

و ‏(‏إن‏)‏ مخففة من الثقيلة، وقد بطل عملها بسبب التخفيف، ووليها فعل من نواسخ المبتدأ جرياً على الغالب في استعمال المخففة‏.‏ وقرن خبر الناسخ باللام الفارقة بين المخففة والنافية‏.‏

والوعد باققٍ على أصله من المصدرية‏.‏ وتحقيق الوعد يستلزم تحقيق الموعود به فحصل التصديق بالوعد والموعود به‏.‏

ومعنى ‏{‏مفعولا‏}‏ أن الله يفعل ما جاء في وعده، أي يكونه ويحققه، وهذا السجود سجود تعظيم لله إذ حقق وعده بعد سنين طويلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويخرون للأذقان يبكون‏}‏ تكرير للجملة باختلاف الحال المقترنة بها، أعيدت الجملة تمهيداً لذكر الحال‏.‏ وقد يقع التكرير مع العطف لأجل اختلاف القيود، فتكون تلك المغايرة مصححة العطف، كقول مُرة بن عَداء الفقعسي‏:‏

فَهَلاّ أعدُّوني لِمثلي تفاقدوا *** إذا الخصم أبْزى مائلُ الرأس أنكبُ

وهلا أعدوني لِمثلي تفاقدوا *** وفي الأرض مبثوث شُجاع وعقربُ

فالخرور المحكي بالجملة الثانية هو الخرور الأول، وإنما خروا خروراً واحداً ساجدين باكين، فذكر مرتين اهتماماً بما صحبه من علامات الخشوع‏.‏

وذكر ‏{‏يبكون‏}‏ بصيغة المضارع لاستحضار الحالة‏.‏

والبكاء بكاء فرح وبهجة‏.‏ والبكاء‏:‏ يحصل من انفعال باطني ناشئ عن حزن أو عن خوف أو عن شوق‏.‏

ويزيدهم القرآن خشوعاً على خشوعهم الذي كان لهم من سماع كتابهم‏.‏

ومن السنة سجود القارئ والمستمع له بقصد هذه الآية اقتداء بأولئك الساجدين بحيث لا يذكر المسلم سجود أهل الكتاب عند سماع القرآن إلا وهو يرى نفسه أجدر بالسجود عند تلاوة القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسمآء الحسنى‏}‏

لا شك أن لنزول هذه الآية سبباً خاصاً إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العَلَم وبين دعائه بصفة الرحمان خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل‏:‏ الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى‏.‏

ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة‏.‏

فأما سبب نزولها فروى الطبري والواحدي عن ابن عباس قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو يا رحمان يا رحيم، فقال المشركون‏:‏ هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا اللَّه أو ادعو الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏}‏‏.‏ وعليه فالاقتصار على التخيير في الدعاء بين اسم الله وبين صفة الرحمان اكتفاء، أي أو الرحيم‏.‏

وفي «الكشاف»‏:‏ عن ابن عباس سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ يا الله يا رحمان‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر‏.‏ وأخرجه ابن مردويه‏.‏ وهذا أنسب بالآية لاقتصارها على اسم الله وصفة الرحمان‏.‏

وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدثَ حين نزول الآية التي قبلها‏.‏

والكلام رد وتعليم بأن تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى، وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات، والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء‏.‏

و ‏(‏أي‏)‏ اسم استفهام في الأصل، فإذا اقترنت بها ‏(‏ما‏)‏ الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها ‏(‏ما‏)‏ الزائدة‏.‏ ولذلك جزم الفعل بعدها وهو ‏{‏تدعوا‏}‏ شرطاً، وجيء لها بجواب مقترن بالفاء، وهو ‏{‏فله الأسماء الحسنى‏}‏‏.‏

والتحقيق أن ‏{‏فله الأسماء الحسنى‏}‏ علة الجواب‏.‏ والتقدير‏:‏ أي اسم من أسمائه تعالى تَدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى وإذ المسمى واحد‏.‏

ومعنى ‏{‏ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن‏}‏ ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم، أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا، فالمسمى واحد‏.‏ وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل ‏{‏ادعوا‏}‏ مستعملاً في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم‏.‏

ويجوز أن يكون الدعاء مستعملاً في معنى سمّوا، وهو حينئذٍ يتعدى إلى مفعولين‏.‏ والتقدير‏:‏ سموا ربكم اللّهَ أو سموه الرحمان، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام‏.‏

لا شك أن لهذه الجملة اتصالاً بجملة ‏{‏قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ يؤيد ما تقدم في وجه اتصال قوله‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعو الرحمن‏}‏ بالآيات التي قبله، فقد كان ذلك بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه باسم الرحمان‏.‏

والصلاة‏:‏ تحتمل الدعاء، وتحتمل العبادة المعروفة‏.‏ قود فسرها السلف هنا بالمعنيين‏.‏ ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة‏.‏

وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرحمان، فقال فريق من المشركين‏:‏ ما الرحمان‏؟‏ وقالوا‏:‏ إن محمداً يدعو إلهين، وقام فريق منهم يسب القرآن ومن جاء به، أو يسب الرحمان ظناً أنه رب آخر غيرُ الله تعالى وغيرُ آلهتهم، فأمر الله رسوله أن لا يجهر بدعائه أو لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية‏.‏

ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم والتطاول عليهم بذكر الله تعالى مجرداً عن ذكر آلهتهم فاغتاظوا وسبوا، فأمره الله تعالى بأن لا يجهر بصلاته هذا الجهر تجنباً لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم‏.‏

والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تخافت بها‏}‏ فالمقصود منه الاحتراس لكيلا يجعل دعاءه سراً أو صلاته كلها سراً فلا يبلغ أسماع المتهيئين للاهتداء به، لأن المقصود من النهي عن الجهر تجنب جهر يُتوهم منه الكفارُ تحككاً أو تطاولاً كما قلنا‏.‏

والجهر‏:‏ قوة صوت الناطق بالكلام‏.‏

والمخافتة مفاعلة‏:‏ من خَفَتَ بكلامه، إذا أسر به‏.‏ وصيغة المفاعلة مستعملة في معنى الشدة، أي لا تُسرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى المذكور، أي الجهر والمخافتة المعلومين من فعلي ‏{‏تجهر وتخافت أي اطلب سبيلاً بين الأمرين ليحصل المقصود من إسماع الناس القرآن وينتفي توهم قصد التطاول عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

لما كان النهي عن الجهر بالدعاء أو قراءة الصلاة سداً لذريعة زيادة تصميمهم على الكفر أعقب ذلك بأمره بإعلان التوحيد لقطع دابر توهم من توهموا أن الرحمان اسم لمسمى غير مسمى اسم الله، فبعضهم توهمه إلهاً شريكاً، وبعضهم توهمه مُعيناً وناصراً، أمر النبي بأن يقول ما يقلع ذلك كله وأن يعظمه بأنواع من التعظيم‏.‏

وجملة ‏{‏الحمد لله‏}‏ تقتضي تخصيصه تعالى بالحمد، أي قصر جنس الحمد عليه تعالى لأنه أعظم مستحق لأن يحمد‏.‏ فالتخصيص ادعائي بادعاء أن دواعي حمد غير الله تعالى في جانب دواعي حمد الله بمنزلة العدم، كما تقدم في سورة الفاتحة‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الذل‏}‏ بمعنى لام التعليل‏.‏

والذل‏:‏ العجز والافتقار، وهو ضدّ العز، أي ليس له ناصر من أجل الذل‏.‏ والمراد‏:‏ نفي الناصر له على وجه مؤكد، فإن الحاجة إلى الناصر لا تكون إلا من العجز عن الانتصار للنفس‏.‏ ويجوز تضمين ‏(‏الولي‏)‏ معنى ‏(‏المانع‏)‏ فتكون ‏(‏من‏)‏ لتعدية الاسم المضمن معناه‏.‏

ومعنى ‏{‏كبره‏}‏ اعتقد أنه كبير، أي عظيم العِظم المعنوي الشامل لوجوب الوجود والغِنى المطلق، وصفات الكمال كلها الكاملة التعلقات، لأن الاتصاف بذلك كله كمال، والاتصاف بأضداد ذلك نقص وصغار معنوي‏.‏

وإجراء هذه الصلات الثلاث على اسم الجلالة الذي هو متعلق الحمد لأن في هذه الصلاة إيماء إلى وجه تخصيصه بالحمد‏.‏ والإتيان بالمفعول المطلق بعد ‏{‏كَبّره‏}‏ للتوكيد، ولما في التنوين من التعظيم، ولأنّ من هذه صفاته هو الذي يقدر على إعطاء النعم التي يعجز غيره عن إسدائها‏.‏

سورة الكهف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

موقع الافتتاح بهذا التحميد كموقع الخطبة يفتتح بها الكلام في الغرض المهم‏.‏

ولما كان إنزال القرآن على النبي أجزل نَعماء الله تعالى على عباده المؤمنين لأنه سبب نجاتهم في حياتهم الأبدية، وسبب فوزهم في الحياة العاجلة بطيب الحياة وانتظام الأحوال والسيادة على الناس، ونعمة على النبي بأن جعله واسطة ذلك ومبلَغه ومبينه؛ لأجل ذلك استحق الله تعالى أكمل الحمد إخباراً وإنشاءً‏.‏ وقد تقدم إفادة جملة «الحمد لله» استحقاقه أكمل الحمد في صدر سورة الفاتحة‏.‏

وهي هنا جملة خبرية، أخبر الله نبيئَه والمسلمين بأن مستحق الحمد هو الله تعالى لا غيره، فأجرى على اسم الجلالة الوصف بالموصول تنويهاً بمضمون الصلة ولما يفيده الموصول من تعليل الخبر‏.‏

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لله تقريب لمنزلته وتنويه به بما في إنزال الكتاب عليه من رفعة قدره كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ فكل مقدار منزل من القرآن فهو الكتاب‏}‏‏.‏ فالمراد بالكتاب هنا ما وقع إنزاله من يوم البعثة في غار حراء إلى يوم نزول هذه السورة، ويلحق به ما ينزل بعد هذه الآية ويزاد به مقداره‏.‏

وجملة ‏{‏ولم يجعل له عوجاً‏}‏ معترضة بين ‏{‏الكتاب‏}‏ وبين الحال منه وهو ‏{‏قيماً‏}‏‏.‏ والواو اعتراضية‏.‏ ويجوز كون الجملة حالاً والواو حالية‏.‏

والعِوج بكسر العين وفتحها وبفتح الواو حقيقته‏:‏ انحراف جسم ما عن الشكل المستقيم، فهو ضد الاستقامة‏.‏ ويطلق مجازاً على الانحراف عن الصواب والمعاني المقبولة المستحسنة‏.‏

والذي عليه المحققون من أيمة اللغة أن مكسور العين ومفتوحها سواء في الإطلاقين الحقيقي والمجازي‏.‏ وقيل‏:‏ المكسورُ العيننِ يختص بالإطلاق المجازي وعليه درج في «الكشاف»‏.‏ ويبطله قوله تعالى لما ذكر نسف الجبال ‏{‏فيذرها قاعاً صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 106 107‏]‏ حيث اتفق القراء على قراءته بكسر العين‏.‏ وعن ابن السكيت‏:‏ أن المكسور أعم يجيء في الحقيقي والمجازي وأن المفتوح خاص بالمجازي‏.‏

والمراد بالعِوج هنا عوج مدلولات كلامه بمخالفتها للصواب وتناقضها وبعدها عن الحكمة وإصابة المراد‏.‏

والمقصود من هذه الجملة المعترضة أو الحالية إبطال ما يرميه به المشركون من قولهم‏:‏ افتراه، وأساطير الأولين، وقول كاهن، لأن تلك الأمور لا تخلو من عوج، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وضمير له‏}‏ عائد إلى ‏{‏الكتاب‏}‏‏.‏

وإنما عدي الجعل باللام دون ‏(‏في‏)‏ لأن العوج المعنوي يناسبه حرف الاختصاص دون حرف الظرفية لأن الظرفية من علائق الأجسام، وأما معنى الاختصاص فهو أعم‏.‏

فالمعنى‏:‏ أنه متصف بكمال أوصاف الكتب من صحة المعاني والسلامة من الخطأ والاختلاف‏.‏ وهذا وصف كمال للكتاب في ذاته وهو مقتض أنه أهل للانتفاع به، فهذا كوصفه ب ‏{‏أنه لا ريب فيه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏2‏)‏‏.‏

و قيماً‏}‏ حال من ‏{‏الكتاب‏}‏ أو من ضميره المجرور باللام، لأنه إذا جعل حالاً من أحدهما ثبت الاتصاف به للآخر إذ هما شيء واحد، فلا طائل فيما أطالوا به من الإعراب‏.‏

والقيم‏:‏ صفة مبالغة من القيام المجازي الذي يطلق على دوام تعهد شيء وملازمة صلاحه، لأن التعهد يستلزم القيام لرؤية الشيء والتيقظ لأحواله، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحي القيوم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏255‏)‏‏.‏

والمراد به هنا أنه قيم على هدي الأمة وإصلاحها، فالمراد أن كماله متعدّ بالنفع، فوزانه وزان وصفه بأنه ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ في سورة البقرة‏:‏ ‏(‏2‏)‏‏.‏

والجمع بين قوله‏:‏ ولم يجعل له عوجاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قيماً‏}‏ كالجمع بين ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وبين ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وليس هو تأكيداً لنفي العوج‏.‏

لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ‏}‏

‏{‏لينذر‏}‏ متعلق ب ‏{‏أنزل‏}‏‏.‏ والضمير المرفوع عائد إلى اسم الجلالة، أي لينذر الله بأساً شديداً من لدنه، والمفعول الأول ل ‏{‏ينذر‏}‏ محذوف لقصد التعميم، أو تنزيلاً للفعل منزلة اللازم لأن المقصود المنذَر به وهو البَأس الشديد تهويلاً له ولتهديد المشركين المنكرين إنزال القرآن من الله‏.‏

والبأس‏:‏ الشدة في الألم‏.‏ ويطلق على القوة في الحرب لأنها تؤلم العدو‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس‏}‏ من سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏ والمراد هنا‏:‏ شدة الحال في الحياة الدنيا، وذلك هو الذي أطلق على اسم البأس في القرآن، وعليه درج الطبري‏.‏ وهذا إيماء بالتهديد للمشركين بما سيلقونه من القتل والأسر بأيدي المسلمين، وذلك بأس من لدنه تعالى لأنه بتقديره وبأمره عباده أن يفعلوه، فاستعمال ‏(‏لدن‏)‏ هنا في معنييه الحقيقي والمجازي‏.‏

وليس في جعل الإنذار ببأس الدنيا علّةً لإنزال الكتاب ما يقتضي اقتصار عِلل إنزاله على ذلك، لأن الفعل الواحد قد تكون له علل كثيرة يذكر بعضُها ويُترك بعض‏.‏

وإنما آثَرْتُ الحمل على جعل اليأس الشديد بأسَ الدنيا للنقصي مما يرد على إعادة فعل ‏{‏وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏ كما سيأتي‏.‏

ويجوز أن يراد بالبأس عذابُ الآخرة فإنه بأس شديد، ويكون قوله‏:‏ من لدنه‏}‏ مستعملاً في حقيقته‏.‏ وبهذا الوجه فسر جمهور المفسرين‏.‏

ويجوز أن يراد بالبأس الشديد ما يشمل بأس عذاب الآخرة وبأس عذاب الدنيا، وعلى هذا درج ابن عطية والقرطبي، ويكون استعمال من ‏{‏لدنه‏}‏ في معنييه الحقيقي والمجازي، أما في عذاب الآخرة فظاهر، وأما في عذاب الدنيا فلأن بعضه بالقتل والأسر وهما من أفعال الناس ولكن الله أمر المسلمين بهما فهما من لدنه‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏ينذر‏}‏ لدلالة السياق عليه لظهور أنه ينذر الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب ولا بالمنزل عليه، ولدلالة مقابله عليه في قوله‏:‏ ‏{‏ويبشر المؤمنين‏}‏‏.‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏لينذر بأساً‏}‏، فهو سبب آخر لإنزال الكتاب أثارته مناسبة ذكر الإنذار ليبقى الإنذار موجهاً إلى غيرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن لهم أجراً حسناً‏}‏ متعلق ب ‏{‏يبشر‏}‏ بحذف حرف الجر مع ‏(‏أن‏)‏، أي بأن لهم أجراً حسناً‏.‏ وذكر الإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى أن استحقاق ذلك الأجر بحصول ذلك لأمرين‏.‏ ولا يتعرض القرآن في الغالب لحالة حصول الإيمان مع شيء من الأعمال الصالحة كثيرٍ أو قليللٍ، ولحُكْمِهِ أدلة كثيرة‏.‏

والمكث‏:‏ الاستقرار في المكان، شُبه ما لهم من اللذات والملائمات بالظرف الذي يستقر فيه حالُّهُ للدلالة على أن الأجر الحسن كالمحيط بهم لا يفارقهم طرفة عين، فليس قوله‏:‏ ‏{‏أبداً‏}‏ بتأكيدٍ لمعنى ‏{‏ماكثين‏}‏ بل أفيد بمجموعها الإحاطة والدوام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

تعليل آخر لإنزال الكتاب على عبده، جعل تالياً لقوله‏:‏ ‏{‏لينذر بأساً شديداً من لدنه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏ باعتبار أن المراد هنا إنذار مخصوص مقابل لما بَشر به المؤمنين‏.‏ وهذا إنذار بجزاء خالدين فيه وهو عذاب الآخرة، فإن جَرَيْتَ على تخصيص البأس في قوله‏:‏ ‏{‏بأساً شديداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏ بعذاب الدنيا كما تقدم كان هذا الإنذار مغايراً لما قبله؛ وإن جريت على شمول البأس للعذابين كانت إعادة فعل ينذر وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا * مَّا‏}‏ تأكيدا، فكان عطفه باعتبار أن لمفعوله صفة زائدة على معنى مفعول فِعل ‏{‏ينذر‏}‏ السابق يُعرف بها الفريق المنذرون بكلا الإنذارين، وهو يُومئ إلى المنذرَين المحذوف في قوله‏:‏ ‏{‏لينذر بأساً شديداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏ ويغني عن ذكره‏.‏ وهذه العلة أثارتها مناسبه ذكر التبشير قبلها، وقد حذف هنا المنذر به اعتماداً على مقابِلِه المبشر به‏.‏

والمراد بالذين قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ هنا المشركون الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وليس المراد به النصارى الذين قالوا بأن عيسى ابن الله تعالى، لأن القرآن المكي ما تعرض للرد على أهل الكتاب مع تأهلهم للدخول في العموم لاتحاد السبب‏.‏

والتعبير عنهم بالموصول وصلته لأنهم قد عُرفوا بهذه المقالة بين أقوامهم وبين المسلمين تشنيعاً عليهم بهذه المقالة، وإيماء إلى أنهم استحقوا ما أنذروا به لأجلها ولغيرها، فمضمون الصلة من موجبات ما أنذروا به لأن العلل تتعدد‏.‏

والولد‏:‏ اسم لمن يولد من ذكر أو أنثى، يستوي فيه الواحد والجمع‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه‏}‏ في سورة يونس ‏(‏68‏)‏‏.‏

وجملة ما لهم به من علم‏}‏ حال من ‏{‏الذين قالوا‏}‏‏.‏ والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من ‏{‏قالوا‏}‏‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ لتوكيد النفي‏.‏ وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذباً ليست لهم فيه شبهة، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏‏.‏

وضمير به‏}‏ عائد على مصدر مأخوذ من فعل ‏{‏قالوا‏}‏، أي ما لهم بذلك القول من علم‏.‏

وعطف ‏{‏ولا لآبائهم‏}‏ لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولون ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يُقلدوهم‏.‏

استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع‏.‏

ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية‏.‏

وفعل ‏{‏كبرت‏}‏ بضم الباء‏.‏ أصله‏:‏ الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه، ويستعمل مجازاً في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة، وهو هنا مستعمل في التعجيب من كِبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام‏.‏ ودل على قصد التعجيب منها انتصاب ‏{‏كلمة‏}‏ على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجيب، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فَعُل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نِعم وبئس بحسب المقام‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏كبرت‏}‏ يرجع إلى الكلمة التي دل عليها التمييز‏.‏

وأطلقت الكلمة على الكلام وهو إطلاق شائع، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏، وقول النبي‏:‏ أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا اللّهَ باطل ***

وجملة تخرج من أفواههم‏}‏ صفة ل ‏{‏كلمة‏}‏ مقصود بها من جُرْأتِهم على النطق بها ووقاحتهم في قولها‏.‏

والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار صورة خروجها من أفواههم تخييلاً لفظاعتها‏.‏ وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك الكلام ليس له مصدر غير الأفواه، لأنه لاستحالته تتلقاه وتنطق به أفواههم وتسمعه أسماعهم ولا تتعقله عقولهم لأن المحال لا يعتقده العقل ولكنه يتلقاه المقلد دون تأمل‏.‏

والأفواه‏:‏ جمع فَم وهو بوزن أفعال، لأن أصل فم فَوَه بفتحتين بوزن جَمل، أو فيهٍ بوزن ريح، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة حروف الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرفاً يعتمد عليه لسانه، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار «فاً» ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التي هي الأصل في الكلمة لأنهما شفهيتان فصار «فم»، ولما جمعوه ردوه إلى أصله‏.‏

وجملة ‏{‏إن يقولون إلا كذباً‏}‏ مؤكدة لمضمون جملة ‏{‏تخرج من أفواههم‏}‏ لأن الشيء الذي تنطق به الألسن ولا تحقق له في الخارج ونفسسِ الأمر هو الكذب، أي تخرج من أفواههم خروج الكذب، فما قولهم ذلك إلا كذب، أي ليست له صفة إلا صفة الكذب‏.‏

هذا إذا جعل القول المأخوذ من ‏{‏يقولون‏}‏ خصوص قولهم‏:‏ ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ولك أن تحمل يقولون‏}‏ على العموم في سياق النفي، أي لا يصدر منهم قول إلا الكذب، فيكون قصراً إضافياً، أي ما يقولونه في القرآن والإسلام، أو ما يقولونه من معتقداتهم المخالف لما جاء به الإسلام فتكون جملة إن ‏{‏يقولون‏}‏ تذييلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏ باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين بهم في قوله‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

و ‏(‏لعل‏)‏ حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لا زمان لتوقع الأمر المكروه‏.‏

وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه‏.‏ وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم‏.‏

والباخع‏:‏ قاتل نفسه، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جبير‏.‏ وفسره البخاري بمهلك‏.‏ وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة‏.‏

وفي اشتقاقه خلاف، فقيل مشتق من البِخاع بالباء الموحدة ‏(‏بوزن كتاب‏)‏ وهو عرق مستبطن في القفا فإذا بلغ الذابحُ البخاع فذلك أعمق الذبح، قاله الزمخشري في قوله تعالى‏:‏ لعلك باخع نفسك في سورة الشعراء ‏(‏3‏)‏ وانفرد الزمخشري بذكر هذا الاشتقاق في الكشاف‏}‏ و«الفائق» و«الأساس»‏.‏ قال ابن الأثير في «النهاية»‏:‏ «بحثت في كتب اللغة والطب فلم أجد البِخاع بالموحدة» يعني أن الزمخشري انفرد بهذا الاشتقاق وبإثبات البخاع اسماً لهذا العرق‏.‏ قلت‏:‏ كفى بالزمخشري حجة فيما أثبته‏.‏ وقد تبعه عليه المطرزي في «المُغرب» وصاحب «القاموس»‏.‏ فالبخع‏:‏ أصله أن يبلغ الذابح بالذبح إلى القفا ثم أطلق على القتل المشوب بغيظ‏.‏

والآثار‏:‏ جمع أثر وهو ما يؤثره، أي يُبقيه الماشي أو الراكب في الرمل أو الأرض من مواطئ أقدامه وأخفاف راحلته‏.‏ والأثر أيضاً ما يبقيه أهل الدار إذا ترحلوا عنها من تافه آلاتهم التي كانوا يعالجون بها شؤونهم كالأوتاد والرماد‏.‏

وحرف ‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى‏:‏ لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يُعرض السائر عن المكان الذي كان فيه، فتكون ‏(‏على‏)‏ للتعليل‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حرصه على اتباع قومه له وفي غمه من إعراضهم‏.‏ وتمثيل حالهم في النفور والإعراض بحال من فارقه أهله وأحبتُه فهو يرى آثار ديارهم ويحزن لفراقهم‏.‏ ويكون حرف ‏(‏على‏)‏ ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير الخطاب، ومعنى ‏(‏على‏)‏ الاستعلاء المجازي وهو شدة الاتصال بالمكان‏.‏

وكأن هذا الكلام سيق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر أوقات رجائه في إيمانهم إيماء إلى أنهم غير صائرين إلى الإيمان، وتهيئة نفسه أن تتحمل ما سيلقاه من عنادهم رأفة من ربه به، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إن لم يؤمنوا بهذا الحديث‏}‏ بصيغة الفعل المضارع المقتضية الحصول في المستقبل، أي إن استمر عدم إيمانهم‏.‏

واسم الإشارة وبيانُه مراد به القرآن، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار‏.‏ وبُيّن بأنه الحديث‏.‏

والحديث‏:‏ الخبر‏.‏ وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخباراً وقصصاً‏.‏ سمي الحديث حديثاً باعتبار اشتماله على الأمر الحديث، أي الذي حدث وجَد، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب، فالحديث فعيل بمعنى مفعول‏.‏ وانظر ما يأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نزل أحسن الحديث‏}‏ في سورة الزمر ‏(‏23‏)‏‏.‏

وأسفاً‏}‏ مفعول له من ‏{‏باخع نفسك‏}‏ أي قاتلها لأجل شدة الحزن، والشرط معترض بين المفعولين، ولا جواب له للاستغناء عن الجواب بما قَبْل الشرط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

مناسبة موقع هذه الآية هنا خفية جداً أعوز المفسرين بيانُها، فمنهم ساكت عنها، ومنهم محاول بيانها بما لا يزيد على السكوت‏.‏

والذي يبدو‏:‏ أنها تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على إعراض المشركين بأن الله أمهلهم وأعطاهم زينة الدنيا لعلهم يشكرونه، وأنهم بطروا النعمة، فإن الله يسلب عنهم النعمة فتصير بلادهم قاحلة‏.‏ وهذا تعريض بأنه سيحل بهم قحط السنين السبع التي سأل رسولُ الله ربه أن يجعلها على المشركين كسنين يوسف عليه السلام‏.‏

ولهذا اتصال بقوله‏:‏ ‏{‏لينذر بأساً شديداً من لدنه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وموقع ‏(‏إن‏)‏ في صدر هذه الجملة موقع التعليل للتسلية التي تضمنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ويحصل من ذلك تذكير بعضهم قدرة الله تعالى، وخاصة ما كان منها إيجاداً للأشياء وأضدادها من حياة الأرض وموتها المماثل لحياة الناس وموتهم، والمماثل للحياة المعنوية والموت المعنوي من إيمان وكفر، ونعمة ونقمة، كلها عِبَر لمن يعتبر بالتغير ويأخذ الأهبة إلى الانتقال من حال إلى حال فلا يثق بقوته وبطشه، ليقيس الأشياء بأشباهها ويعرض نفسه على معيار الفضائل وحسنى العواقب‏.‏

وأوثر الاستدلال بحال الأرض التي عليها الناس لأنها أقرب إلى حسهم وتعقلهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17 20‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وفي الأرض آيات للموقنين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقد جاء نظم هذا الكلام على أسلوب الإعجاز في جمع معاننٍ كثيرة يصلح اللفظ لها من مختلف الأغراض المقصودة، فإن الإخبار عن خلق ما على الأرض زينةً يجمع الامتنان على الناس والتذكير ببديع صنع الله إذ وضع هذا العالم على أتقن مثال ملائم لما تحبه النفوس من الزينة والزخرف‏.‏ والامتنان بمثل هذا كثير، مثل قوله‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏زين للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ولا تكون الأشياء زينة إلا وهي مبثوثة فيها الحياة التي بها نماؤها وازدهارها‏.‏ وهذه الزينة مستمرة على وجه الأرض منذ رآها الإنسان، واستمرارها باستمرار أنواعها وإن كان الزوال يَعرض لأشخاصها فتخلفها أشخاص أخرى من نوعها‏.‏ فيتضمن هذا امتناناً ببث الحياة في الموجودات الأرضية‏.‏

ومن لوازم هذه الزينة أنها توقظ العقول إلى النظر في وجود منشئها وتسبُر غورَ النفوس في مقدار الشكر لخالقها وجاعلها لهم، فمِن موففٍ بحق الشكر، ومقصر فيه وجاحد كافرٍ بنعمة هذا المنعم ناسببٍ إياها إلى غير موجدها‏.‏ ومن لوازمها أيضاً أنها تثير الشهوات لاقتطافها وتناولها فتستثار من ذلك مختلِف الكيفيات في تناولها وتعَارُض الشهوات في الاستيثار بها مما يفضي إلى تغالب الناس بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض‏.‏

وذلك الذي أوجد حاجتهم إلى الشرائع لتضبط لهم أحوال معاملاتهم، ولذلك عُلل جعل ما على الأرض زينة بقوله‏:‏ لنبلوهم أيهم أحسن عملاً‏}‏، أي أفْوَتَ في حسن العمل مِن عمل القلب الراجع إلى الإيمان والكفر، وعلم الجسد المتبدي في الامتثال للحق والحَيدة عنه‏.‏

فمجموع الناس متفاوتون في حسن العمل‏.‏ ومن درجات التفاوت في هذا الحسن تُعلم بطريق الفحوى درجةُ انعدام الحُسن من أصله وهي حالة الكفر وسوء العمل، كما جاء في حديث «‏.‏‏.‏ مَثَل المنافق الذي يقرَأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن»‏.‏ والبَلْو‏:‏ الاختبار والتجربة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت‏}‏ في سورة يونس ‏(‏30‏)‏‏.‏ وهو هنا مستعار لتعلق علم الله التنجيزي بالمعلوم عند حصوله بقرينة الأدلة العقلية والسمعية الدالة على إحاطة علم الله بكل شيء قبل وقوعه فهو مستغننٍ عن الاختبار والتجربة‏.‏ وفائدة هذه الاستعارة الانتقال منها إلى الكناية عن ظهور ذلك لكل الناس حتى لا يلتبس عليهم الصالح بضده‏.‏ وهو كقول قيس بن الخطيم‏:‏

وأقبلت والخطي يخطر بيننا *** لأعْلَم مَن جَبَانُها من شُجاعها

وقوله‏:‏ وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً‏}‏ تكميل للعبرة وتحقيق لفناء العالم‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏جاعلون‏}‏ اسم فاعل مراد به المستقبل، أي سنجعل ما على الأرض كله معدوماً فلا يكون على الأرض إلا تراب جاف أجرد لا يصلح للحياة فوقه وذلك هو فناء العالم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏‏.‏

والصعيد‏:‏ التراب‏.‏ والجُرز‏:‏ القاحل الأجرد‏.‏ وسيأتي بيان معنى الصعيد عند قوله‏:‏ ‏{‏فتصبح صعيداً زلقا‏}‏ في هذه السورة ‏(‏40‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏(‏أم‏)‏ للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض‏.‏ ولما كان هذا من المقاصد التي أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضاباً بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود‏.‏

على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت، فكان ذكر أهل الكهف وبعثِهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالاً لإمكان البعث‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ هذه هي ‏(‏أم‏)‏ المنقطعة بمعنى ‏(‏بل‏)‏، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها، يقدر بعدها حرف استفهام، وقد يكون ظاهراً بعدها كقول أفْنُون التغلبي‏:‏

أنّى جَزَوا عامراً سُوءاً بضعته *** أم كيف يجزونني السُّوأَى عن الحسن

والاستفهام المقدر بعد ‏(‏أم‏)‏ تعجيبي مثل الذي في البيت‏.‏

والتقدير هنا‏:‏ أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجباً من بين آياتنا، أي أعجب من بقية آياتنا، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف‏.‏ لأن في إنامتهم إبقاءً للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم‏.‏ وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنَهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولون‏:‏ ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏‏.‏ أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة وأن الدهر يهلكنا وهو باققٍ‏.‏

وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العِبر والأسباب وآثارها‏.‏ ولذلك ابتدئ ذكر أحوالهم بقوله‏:‏ ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏ فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه، وبقوله‏:‏ ‏{‏إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 13‏]‏‏.‏ الآيات الدالِّ على أنهم أبطلوا الشرك وسفهوا أهله تعريضاً بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم‏.‏

والخطاب للنبيء‏.‏ والمراد‏:‏ قومه الذين سألوا عن القصة، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها وتطلب بيانها‏.‏ ويظهر أن الذين لقنوا قريشاً السؤال عن أهل الكهف هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة من التجار الواردين إلى مكة؛ أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف‏.‏ ومحل التعجب هو قوله‏:‏ من آياتنا‏}‏، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق؛ فيؤول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ومنها ما يساويها‏.‏

فمعنى ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من آياتنا‏}‏ التبعيض، أي ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب من بين الآيات الأخرى، كما تقول‏:‏ سأل فلاناً فهو العالم منا، أي المنفرد بالعلم من بيننا‏.‏

ولك أن تجعلها للظرفية المجازية، أي كانوا عجباً في آياتنا، أي وبقية الآيات ليست عجباً‏.‏ وهذا نداء على سوء نظرهم إذ يعلقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدر بالاهتمام‏.‏

وأخبر عن أصحاب الكهف بالعجب وإنما العجب حالهم في قومهم، فَثمّ مضاف محذوف يدل عليه الكلام‏.‏

وأخبر عن حالهم بالمصدر مبالغة، والمراد عجيب‏.‏

والكهف‏:‏ الشق المتسع الوسط في جبل، فإن لم يكن متسعاً فهو غار‏.‏

والرقيم‏:‏ فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة‏.‏ فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم‏.‏ قيل‏:‏ كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد، وقيل‏:‏ هو كتاب دينهم، ديننٍ كان قبل عيسى عليه السلام، وقيل‏:‏ هو دين عيسى، وقيل‏:‏ كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف فراراً من كفر قومهم‏.‏

وابتدأ القرآن من قصتهم بمحل العبرة الصادقة والقدوة الصالحة منه، وهو التجاؤهم إلى ربهم واستجابته لهم‏.‏

وقد أشارت الآية إلى قصة نفَر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنباً لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فراراً من الفتنة في دينهم، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقَى عليهم نوماً بقُوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم‏.‏ وبعد أن أيقنوا بذلك أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البِلى كرامة لهم‏.‏

وقد عَرَف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم ولا وقفوا على رقيمهم، ولذلك اختلفوا في شأنهم، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها‏.‏

ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف‏.‏ وقد ذكر ابن عطية ملخصاً في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقُصّاص‏.‏

والذي ذكره الأكثر أن في بلد يقال له ‏(‏أَبْسُس‏)‏ بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم السين بعدها سين أخرى مهملة وكان بلداً من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية‏.‏

وليست هي ‏(‏أفسس‏)‏ بالفاء أخت القاف المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها فإنها من بلاد اليونان وإلى أهلها كتب بُولس رسالته المشهورة‏.‏ وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين‏.‏ وهي قريبة من ‏(‏مَرْعش‏)‏ من بلاد أرمينية، وكانت الديانة النصرانية دخلت في تلك الجهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين، فكان من أهل ‏(‏أبسُس‏)‏ نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام‏.‏

وكانوا في زمن الأنبراطور ‏(‏دوقيوس‏)‏ ويقال ‏(‏دقيانوس‏)‏ الذي ملك في حدود سنة 237‏.‏ وكان ملكه سنة واحدة‏.‏ وكان متعصباً للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانيّة، فأظهروا كراهية الديانة الرومانية‏.‏ وتوعدهم دوقيوس بالتعذيب، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له ‏(‏بنجلوس‏)‏ فيه كهف أووا إليه وانفردوا فيه بعبادة الله‏.‏ ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومةً فظنهم أتباعُ الملك أمواتاً‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه أمر أن تُسد فوهة كهفهم بحائط، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم‏.‏ ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك إذ لم تزد مدته على عام واحد، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة، وكان انبعاثهم في مدة مُلك ‏(‏ثاوذوسيوس‏)‏ فيصر الصغير، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة‏.‏

ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم وأرسلوا أحدهم إلى المدينة، وهي ‏(‏أبسس‏)‏، بدراهم ليشتري لهم طعاماً‏.‏ فعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال‏.‏ وتسامَع أهل المدينة بأمرهم، فخرج قيصر الصغير مع أساقفةٍ وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم، وكانت آية تأيّد بها دين المسيح‏.‏

والذي في «كتاب الطبري» أن الذين ذهبوا إلى مشاهدة أصحاب الكهف هم رئيسا المدينة ‏(‏أريوس‏)‏ و‏(‏أطيوس‏)‏ ومن معهما من أهل المدينة، وقيل لما شاهدهم الناس كتبَ واليا المدينة إلى ملك الروم، فحضر وشاهدهم وأمر بأن يبنى عليهم مسجد‏.‏ ولم يذكروا هَلْ نُفّذ بناء المسجد أو لم ينفذ‏.‏ ولم يذكر أنه وقع العثور على هذا الكهف بعد ذلك‏.‏ ولعله قد انهدم بحادث زلزال أو نحوه كرامة من الله لأصحابه، وإن كانت الأخبار الزائفة عن تعيينه في مواضع من بلدان المسلمين في أقطار الأرض كثيرة‏.‏ وفي جنوب القطر التونسي موضع يُدعى أنه الكهف‏.‏ وفي مواضع أخرى من بادية القطر مشاهد يسمونها السبعة الرقود اعتقاداً بأن أهل الكهف كانوا سبعة‏.‏ وستعلم مثار هذه التوهمات‏.‏

وفي «تفسير الألوسي» عن ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ غزونا مع معاوية غزو المَضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف‏.‏ فقال معاوية‏:‏ لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس‏:‏ ليس ذلك لك، قد منع الله ذلك مَن هو خير منك، فقال‏:‏

‏{‏لو اطلعتَ عليهم لوليتَ منهم فراراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 18‏]‏ فقال معاوية‏:‏ لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالاً وقال‏:‏ اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم‏.‏ وروى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة‏:‏ أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام‏.‏ فقال رجل‏:‏ هذه عظام أهل الكهف‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة‏.‏

وفي تفسير الفخر‏}‏ عن القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم‏:‏ «أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف، فسافر إلى الروم فوجه ملك الروم معه أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال‏:‏ وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم، قال‏:‏ فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم، قال‏:‏ وعرفت أنه تمويه واحتيال، وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره» ا ه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فسافر إلى الروم‏)‏ مبني على اعتقادهم أن الكهف كان حول مدينة ‏(‏أفسوس‏)‏ بالفاء أخت القاف وهو وهم حصل من تشابه اسمي البلدين كما نبهنا عليه آنفاً، فإن بلد ‏(‏أفسس‏)‏ في زمن الواثق لا تزال في حكم قياصرة الروم بالقسطنطينية، ولذلك قال بعض المؤرخين‏:‏ إن قيصر الروم لما بلغته بعثة الجماعة الذين وجههم الخليفة الواثق، أمر بأن يجعل دليل في رفقة البعثة ليسهل لهم ما يحتاجونه، أما مدينة ‏(‏أبسس‏)‏ بالباء الموحدة فقد كانت حينئذٍ من جملة مملكة الإسلام‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ «وبالأندلس في جهة ‏(‏أغرناطة‏)‏ بقرب قرية تسمى ‏(‏لُوشة‏)‏ كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجدْ مِن علم شأنهم أثارةً، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتُهم سنة أربع وخمسمائة، وهم بهذه الحال وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر محلق ‏(‏كذا بحاء مهملة لعله بمعنى مستدير كالحلقة‏)‏ وقد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض حَزنة، وبأعلى حَضرة ‏(‏أغرناطة‏)‏ مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة ‏(‏دقيوس‏)‏ وجدنا في آثارها غرائب في قبورها ونحوها» ا ه‏.‏

وقصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض‏.‏

وللكهوف ذكر شائع في اللوْذ إليها والدفن بها‏.‏

وقد كان المتنصرون يُضطهدون في البلاد فكانوا يفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن فإذا مات أحدهم دفن هنالك، وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها‏.‏ ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك، وكانوا كثيراً ما يستصحبون معهم كلباً ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها‏.‏

وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف‏.‏

غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية، فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود وكانوا يأوون إلى الكهوف‏.‏ ويوجد مكان بأرض سُكرة قرب المرسى من أحواز تونس فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم‏.‏

ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين اليهودية والنصرانية خبراً عن قوم من صالحيهم عرفوا بأهل الكهف أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته، وبُني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم‏.‏

قال السهيلي في «الروض الأنف»‏:‏ وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به ا ه‏.‏ وقد تقدم طرف من هذا عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏85‏)‏‏.‏