فصل: تفسير الآية رقم (10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏(‏إذ‏)‏ ظرف مضاف إلى الجملة بعده، وهو متعلق ب ‏{‏كانوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها‏.‏

ويجوز كون الظرف متعلقاً بفعل محذوف تقديره‏:‏ اذكر، فتكون مستأنفة استئنافاً بيانياً للجملة التي قبلها‏.‏ وأياً ما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء، تنبيهاً على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييداً لهم لأجل إيمانهم، فلذلك عطف عليه قوله‏:‏ فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة‏}‏‏.‏

وأوى أُوِياً إلى المكان‏:‏ جعله مسكناً له، فالمكان‏:‏ المَأْوَى‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏8‏)‏‏.‏

والفتية‏:‏ جمع قلة لفتى، وهو الشاب المكتمل‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف‏.‏ والمراد بالفتية‏:‏ أصحاب الكهف‏.‏ وهذا من الإظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ إذ أووا، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أتراباً متقاربي السن‏.‏ وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خُلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي، وثبات الجأش، والدفاع عن الحق، ولذلك عدل عن الإضمار فلم يقل‏:‏ إذ أووا إلى الكهف‏.‏

ودلت الفاء في جملة فقالوا‏}‏ على أنهم لما أووا إلى الكهف بادروا بالابتهال إلى الله‏.‏

ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به، فزيادة ‏{‏من لدنك‏}‏ للتعلق بفعل الإيتاء تشير إلى ذلك، لأن في ‏(‏من‏)‏ معنى الابتداء وفي ‏(‏لدن‏)‏ معنى العندية والانتساب إليه، فذلك أبلغ مما لو قالوا‏:‏ آتنا رحمة، لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألماً، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين‏.‏

ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالاً تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناواة المشركين‏.‏ فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من أمرنا‏}‏ ابتدائية‏.‏

والأمر هنا‏:‏ الشأن والحال الذي يكونون فيه، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك‏.‏ وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم‏.‏ فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم، وأن ألهمهم موضع الكهف، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمةً، وأن أنامهم نوماً طويلاً ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة، وحصل رَشَدهم إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصوراً متبعاً، وجعلهم آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث‏.‏

والرَّشد بفتحتين‏:‏ الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني‏.‏ والرُشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرَّشَد‏.‏ وغلب في حسن تدْبير المال‏.‏ لم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏}‏ في البقرة ‏(‏256‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏6‏)‏ فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء‏.‏

ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي‏:‏ ‏{‏وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 24‏]‏‏:‏ أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل؛ ألا ترى أن الجمهور قرؤوا قوله في هذه السورة‏:‏ ‏{‏على أن تعلمني مما علمت رشدا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 66‏]‏ بضم الراء لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له وهي ‏{‏من لدنا علماً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏معي صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 67‏]‏ ‏{‏ما لم تحط به خُبرا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 68‏]‏ ‏{‏ولا أعصي لك أمراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 69‏]‏ إلى آخره‏.‏ ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

تفريع هذه الجملة بالفاء إما على جملة دعائهم، فيؤذن بأن مضمونها استجابة دعوتهم، فجعل الله إنامتهم كرامة لهم‏.‏ بأن سلمهم من التعذيب بأيدي أعدائهم، وأيد بذلك أنهم على الحق، وأرى الناس ذلك بعد زمن طويل‏.‏

وإما على جملة ‏{‏إذ أوى الفتية‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏ الخ فيؤذن بأن الله عجَل لهم حصول ما قصدوه مما لم يكن في حسبانهم‏.‏

والضرب‏:‏ هنا بمعنى الوضع، كما يقال‏:‏ ضرب عليه حجاباً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضربت عليهم الذلة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وحذف مفعول ضربنا‏}‏ لظهوره، أي ضربنا على آذانهم غشاوة أو حائلاً عن السمع، كما يقال‏:‏ بنَى على امرأته، تقديره‏:‏ بنى بيتاً‏.‏ والضرب على الآذان كناية عن الإنامة لأن النوم الثقيل يستلزم عدم السمع، لأن السمع السليم لا يحجبه إلا النوم، بخلاف البصر الصحيح فقد يحجب بتغميض الأجفان‏.‏

وهذه الكناية من خصائص القرآن لم تكن معروفة قبل هذه الآية وهي من الإعجاز‏.‏

و ‏{‏عدداً‏}‏ نعتُ ‏{‏سنين‏}‏‏.‏ والعدد‏:‏ مستعمل في الكثرة، أي سنين ذات عدد كثير‏.‏ ونظيره ما في حديث بدء الوحي من قول عائشة‏:‏ فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد» تريد الكثيرة‏.‏ وقد أجمل العدد هنا تبعاً لإجمال القصة‏.‏

والبعث‏:‏ هنا الإيقاظ، أي أيقظناهم من نومتهم يقظة مفزوع‏.‏ كما يُبعث البعير من مَبركه‏.‏ وحسن هذه الاستعارة هنا أن المقصود من هذه القصة إثبات البعث بعد الموت فكان في ذكر لفظ البعث تنبيه على أن في هذه الإفاقة دليلاً على إمكان البعث وكيفيته‏.‏

والحزب‏:‏ الجماعة الذين توافقوا على شيء واحد، فالحزبان فريقان‏:‏ أحدهما مصيب والآخر مخطئ في عد الأمد الذي مضى عليهم‏.‏ فقيل‏:‏ هما فريقان من أهل الكهف أنفسهم على أنه المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم كم لبثتم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وفي هذا بعد من لفظ حزب إذ كان القائل واحداً والآخرون شاكين، وبعيد أيضاً من فعل أحصى‏}‏ لأن أهل الكهف ما قصدوا الإحصاء لمدة لبثهم عند إفاقتهم بل خالوها زمناً قليلاً‏.‏ فالوجه‏:‏ أن المراد بالحزبين حزبان من الناس أهل بلدهم اختلفت أقوالهم في مدة لبثهم بعد أن علموا انبعاثهم من نومتهم، أحد الفريقين مصيب والآخر مخطئ، والله يعلم المصيب منهم والمخطئ، فهما فريقان في جانبي صواب وخطأ كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أحصى‏}‏‏.‏

ولا ينبغي تفسير الحزبين بأنهما حزبان من أهل الكهف الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم الآية ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وجُعل حصول علم الله بحال الحزبين علةً لبعثِهِ إياهم كناية عن حصول الاختلاف في تقدير مدتهم فإنهم إذا اختلفوا علم الله اختلافهم عِلْمَ الواقعات، وهو تعلق للعلم يصح أن يطلق عليه تنجيزي وإن لم يقع ذلك عند علماء الكلام‏.‏

وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنبلوهم أيهم أحسن عملاً‏}‏ في أول السورة الكهف ‏(‏7‏)‏‏.‏

وأحصى‏}‏ يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً، أن يكون اسم تفضيل مصوغاً من الرباعي على خلاف القياس‏.‏ واختار الزمخشري في «الكشاف» تبعاً لأبي علي الفارسي الأول تجنباً لصوغ اسم التفضيل على غير قياس لقلته‏.‏ واختارَ الزجاج الثاني‏.‏ ومع كون صوغ اسم التفضيل من غير الثلاثي ليس قياساً فهو كثير في الكلام الفصيح وفي القرآن‏.‏

فالوجه، أن ‏{‏أحصى‏}‏ اسم تفضيل، والتفضيل منصرف إلى ما في معنى الإحصاء من الضبط والإصابة‏.‏ والمعنى‏:‏ لنعلم أي الحزبين أتقن إحصاءً، أي عدا بأن يكون هو الموافق للواقع ونفس الأمر ويكون ما عداه تقريباً ورجماً بالغيب‏.‏ وذلك هو ما فصله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقولون ثلاثة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏

ف ‏(‏أي‏)‏ اسم استفهام مبتدأ وهو معلق لفعل لنعلم‏}‏ عن العمل، ‏{‏وأحصى‏}‏ خبر عن ‏(‏أي‏)‏ و‏{‏أمداً‏}‏ تمييز لاسم التفصيل تمييزَ نسبة، أي نسبة التفضيل إلى موصوفه كما في قوله‏:‏ ‏{‏أنا أكثر منك مالاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 34‏]‏‏.‏ ولا يريبك أنه لا يتضح أن يكون هذا التمييز محولاً عن الفاعل لأنه لا يستقيم أن تقول‏:‏ أفضل أمده، إذ التحويل أمر تقديري يقصد منه التقريب‏.‏

والمعنى‏:‏ ليظهرَ اضطراب الناس في ضبط تواريخ الحوادث واختلال خرصهم وتخمينهم إذا تصدوا لها، ويعلم تفريط كثير من الناس في تحديد الحوادث وتاريخها، وكلا الحالين يمت إلى الآخر بصلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

لما اقتضى قوله‏:‏ ‏{‏لنعلم أي الحزبين أحصى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 12‏]‏ أن في نبأ أهل الكهف تخرصات ورجماً بالغيب أثار ذلك في النفس تطلعا إلى معرفة الصدق في أمرهم، من أصل وجود القصة إلى تفاصيلها من مخبر لا يُشك في صدق خبره كانت جملة نحن نقص عليك نبأهم بالحق استئنافاً بيانياً لجملة لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً ‏[‏الكهف‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وهذا شروع في مجمل القصة والاهتمام بمواضع العبرة منها‏.‏ وقدم منها ما فيه وصف ثباتهم على الإيمان ومنابذتهم قومهم الكفرة ودخولهم الكهف‏.‏

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة نحن نقص عليك‏}‏ يفيد الاختصاص، أي نحن لا غيرُنا يقص قصصهم بالحق‏.‏

والحق‏:‏ هنا الصدق‏.‏ والصدق من أنواع الحق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلا الحق‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏105‏)‏‏.‏

والباء للملابسة، أي القصص المصاحب للصدق لا للتخرصات‏.‏

والقصص‏:‏ سَرد خبر طويل فالإخبارُ بمخاطبة مفرقة ليس بقصص، وتقدم في طالع سورة يوسف‏.‏

والنبأ‏:‏ الخبر الذي فيه أهمية وله شأن‏.‏

وجملة إنهم فتية‏}‏ مبينة للقصص والنبأ‏.‏ وافتتاح الجملة بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام لا لرد الإنكار‏.‏

وزيادة الهدى يجوز أن يكون تقوية هُدى الإيمان المعلوم من قوله‏:‏ ‏{‏آمنوا بربهم‏}‏ بفتح بصايرهم للتفكير في وسائل النجاة بإيمانهم وألهمهم التوفيق والثبات، فكل ذلك هدى زائد على هدى الإيمان‏.‏

ويجوز أن تكون تقوية فضل الإيمان بفضل التقوى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والزيادة‏:‏ وفرةُ مقدار شيء مخصوص، مثل وفرة عدد المعدود، ووزن الموزون، ووفرة سكان المدينة‏.‏

وفعل ‏(‏زاد‏)‏ يكون قاصراً مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 147‏]‏، ويكون متعدياً كقوله‏:‏ ‏{‏فزادهم الله مرضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وتستعار الزيادة لقوة الوصف كما هنا‏.‏

والربط على القلب مستعار إلى تثبيت الإيمان وعدم التردد فيه، فلما شاع إطلاق القلب على الاعتقاد استعير الربط عليه للتثبيت على عقده‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ هو رابط الجأش‏.‏ وفي ضده يقال‏:‏ اضطرب قلبه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وبلغت القلوب الحناجر‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏ استعير الاضطراب ونحوه للتردد والشك في حصول شيء‏.‏

وتعدية فعل ربطنا‏}‏ بحرف الاستعلاء للمبالغة في الشد لأن حرف الاستعلاء مستعار لمعنى التمكن من الفعل‏.‏

و ‏{‏إذ قاموا‏}‏ ظرف للربط، أي كان الربط في وقت في قيامهم، أي كان ذلك الخاطر الذي قاموا به مقارناً لربط الله على قلوبهم، أي لولا ذلك لما أقدموا على مثل ذلك العمل وذلك القول‏.‏

والقيام يحتمل أن يكون حقيقياً، بأن وقفوا بين يدي ملك الروم المشرك، أو وقفوا في مجامع قومهم خطباء معلنين فساد عقيدة الشرك‏.‏ ويحتمل أن يكون القيام مستعاراً للإقدام والجَسْر على عمل عظيم، وللاهتمام بالعمل أو القول، تشبيهاً للاهتمام بقيام الشخص من قعود للإقبال على عمل ما، كقول النابغة‏:‏

بأن حِصْناً وحياً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حِمانا غيرُ مقروب

فليس في ذلك قيام بعد قعود بل قد يكونون قالوه وهم قعود‏.‏

وعرفوا الله بطريق الإضافة إلى ضميرهم‏:‏ إما لأنهم عُرفوا من قبل بأنهم عبدوا الله المنزه عن الجسم وخصائص المحدثات، وإما لأن الله لم يكن معروفاً باسم عَلَم عند أولئك المشركين الذين يزعمون أن رب الأرباب هو ‏(‏جوبتير‏)‏ الممثل في كوكب المشتري، فلم يكن طريق لتعريفهم الإله الحق إلا طريق الإضافة‏.‏ وقريب منه ما حكاه الله عن قول موسى لفرعون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23 24‏]‏‏.‏

هذا إن كان القول مَسوقاً إلى قومهم المشركين قصدوا به إعلان إيمانهم بين قومهم وإظهارَ عدم الاكتراث بتهديد الملك وقومه، فيكون موقفهم هذا كموقف بني إسرائيل حين قالوا لفرعون ‏{‏لا ضيْر إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 50‏]‏، أو قصدوا به موعظة قومهم بدون مواجهةِ خطابهم استنزالاً لطائرهم على طريقة التعريض من باب ‏(‏إيّاككِ أعني فاسمعي يا جارة‏)‏، واستقصاءً لتبليغ الحق إليهم‏.‏ وهذا هو الأظهر لحمل القيام على حقيقته، ولأن القول نُسب إلى ضمير جمعهم دون بعضهم، بخلاف الإسناد في قوله‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم كم لبثتم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ تقتضي أن يكون المقول له ذلك فريقاً آخر، ولظهور قصد الاحتجاج من مقالهم، ويكون قوله‏:‏ رب السماوات والأرض‏}‏ خبر المبتدأ إعلاماً لقومهم بهذه الحقيقة وتكون جملة ‏{‏لن ندعوا‏}‏ استئنافاً‏.‏ وإن كان هذا القول قد جرى بينهم في خاصتهم تمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏وإذ اعتزلتموهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 16‏]‏ الخ‏.‏ فالتعريف بالإضافة لأنها أخطر طريق بينهم، ولأنها تتضمن تشريفاً لأنفسهم، ويكون قوله‏:‏ رب السماوات والأرض‏}‏ صفةً كاشفة، وجملة ‏{‏لن ندعوا من دونه إلهاً‏}‏ خبرَ المبتدأ‏.‏

وذكرو الدعاء دون العبادة لأن الدعاء يشمل الأقوال كلها من إجراء وصف الإلهية على غير الله ومن نداء غير الله عند السؤال‏.‏

وجملة ‏{‏لقد قلنا إذاً شططاً‏}‏ استئناف بياني لما أفاده توكيد النفي بِ ‏(‏لن‏)‏‏.‏ وإن وجود حرف الجواب في خِلال الجملة ينادي على كونها متفرعة على التي قبلها‏.‏ واللام للقسم‏.‏

والشطط‏:‏ الإفراط في مخالفة الحق والصواب‏.‏ وهو مشتق من الشط، وهو البعد عن الموطن لما في البعد عنه من كراهية النفوس، فاستعير للإفراط في شيء مكروه، أي لقد قلنا قولاً شططاً، وهو نسبة الإلهية إلى من دون الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

استئناف بياني لما اقتضته جملة ‏{‏لقد قلنا إذا شططاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 14‏]‏ إذ يثور في نفس السامع أن يتساءل عمن يقول هذا الشطط إن كان في السامعين من لا يعلم ذلك أو بتنزيل غير السائل منزلة السائل‏.‏

وهذه الجملة من بقية كلام الفتية كما اقتضاه ضمير قوله‏:‏ دونه‏}‏ العائد إلى ‏{‏ربنا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 14‏]‏‏.‏

والإشارة إلى قومهم ب هؤلاء‏}‏ لقصد تمييزهم بما سيخبر به عنهم‏.‏ وفي هذه الإشارة تعريض بالتعجب من حالهم وتفضيح صنعهم، وهو من لوازم قصد التمييز‏.‏

وجملة ‏{‏اتخذوا‏}‏ خبر عن اسم الإشارة، وهو خبر مستعمل في الإنكار عليهم دون الإخبار إذ اتخاذهم آلهة من دون الله معلوم بين المتخاطبين، فليس الإخبار به بمفيد فائدة الخبر‏.‏

ومعنى ‏{‏من دونه‏}‏ من غيره، و‏(‏من‏)‏ ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله، وكان قومهم يومئذٍ يعبدون الأصنام على عقيدة الروم ولا يؤمنون بالله‏.‏

وجملة ‏{‏لولا يأتون عليهم بسلطان بين‏}‏ مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم‏.‏

و ‏(‏لولا‏)‏ حرف تحْضيض‏.‏ حقيقتهُ‏:‏ الحثّ على تحصيل مدخولها‏.‏ ولما كان الإتيان بسلطان على ثبوت الإلهية للأصنام التي اتخذوها آلهة متعذراً بقرينة أنهم أنكروه عليهم انصرف التحضيض إلى التبكيت والتغليط، أي اتخذوا آلهة من دون الله لا برهان على إلهيتهم‏.‏

ومعنى ‏{‏عليهم‏}‏ على آلهتهم، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏اتخذوا من دونه آلهة‏}‏‏.‏

والسلطان‏:‏ الحجة والبرهان‏.‏

والبين‏:‏ الواضح الدلالة‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ إذ لم يأتوا بسلطان على ذلك فقد أقاموا اعتقادهم على الكذب والخطأ، ولذلك فرع عليه جملة ‏{‏فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً‏}‏‏.‏

و ‏(‏مَن‏)‏ استفهامية، وهو إنكار، أي لا أظلمُ ممن افترى‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أظلم من غيره‏.‏ وليس المراد المساواة بينه وبين غيره، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن هؤلاء افتروا على الله كذباً، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع‏.‏

وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏103‏)‏‏.‏

ثم إن كان الكلام من مبدئه خطاباً لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم‏:‏ هؤلاء قومنا‏}‏ على ظاهرها، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة؛ وإن كان الكلام من مبدئه دائراً بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏ أي مشركو مكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة‏.‏ وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعِواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر‏.‏ ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضاً، وهو ضرب من الالتفات‏.‏ فعلى الوجه الأول يكون فعل ‏{‏اعتزلتموهم‏}‏ مستعملاً في إرادة الفعل مثل ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضاً‏.‏ وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك ممّا لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص‏.‏

و إذ للظرفية المجازية بمعنى التعليل‏.‏

والاعتزال‏:‏ التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء، فمعنى اعتزال القوم ترك مخالطتهم‏.‏ ومعنى اعتزال ما يعبدون‏:‏ التباعد عن عبادة الأصنام‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ إلا الله‏}‏ منقطع لأن الله تعالى لم يكن يعبده القوم‏.‏

والفاء للتفريع على جملة ‏{‏وإذ اعتزلتموهم‏}‏ باعتبار إفادتها معنى‏:‏ اعتزلتم دينهم اعتزالاً اعتقادياً، فيقدر بعدها جملة نحو‏:‏ اعتزلوهم اعتزالَ مفارقة فأوُوا إلى الكهف، أو يقدر‏:‏ وإذ اعتزلتم دينهم يعذبونكم فأووا إلى الكهف‏.‏ وجوز الفراء أن تضمن ‏(‏إذْ‏)‏ معنى الشرط ويكون ‏{‏فأووا‏}‏ جوابها‏.‏ وعلى الشرط يتعين أن يكون ‏{‏اعتزلتموهم‏}‏ مستعملاً في إرادة الاعتزال‏.‏

والأوْيُ تقدم آنفاً، أي فاسكنوا الكهف‏.‏

والتعريف في ‏{‏الكهف‏}‏ يجوز أن يكون تعريف العهد، بأن كان الكهف معهوداً عندهم يتعبدون فيه من قبل‏.‏ ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة مثل ‏{‏وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 13‏]‏، أي فأووا إلى كهف من الكهوف‏.‏ وعلى هذا الاحْتمال يكون إشارة منهم إلى سُنة النصارى التي ذكرناها في أول هذه الآيات، أو عادة المضطهدين من اليهود كما ارتأيناه هنالك‏.‏

ونشر الرحمة‏:‏ توفر تعلقها بالمرحومين‏.‏ شبه تعليق الصفة المتكرر بنشر الثوب في أنه لا يُبقي من الثوب شيئاً مخفياً، كما شبه بالبسط وشبه ضده بالطيّ وبالقبض‏.‏

والمَرفق بفتح الميم وكسر الفاء‏:‏ ما يرتفق به وينتفع‏.‏ وبذلك قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر، وبكسر الميم وفتح الفاء وبه قرأ الباقون‏.‏

وتهيئته مستعارة للإكرام به والعناية، تشبيهاً بتهيئة القرى للضيف المعتنى به‏.‏ وجزم ينشر‏}‏ في جواب الأمر‏.‏ وهو مبني على الثقة بالرجاء والدعاء‏.‏ وساقوه مساق الحاصل لشدة ثقتهم بلطف ربهم بالمؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ‏}‏‏.‏

عطف بعض أحوالهم على بعض‏.‏ انتقل إلى ذكره بمناسبة الإشارة إلى تحقيق رجائهم في ربهم حين قال بعضهم لبعض ‏{‏ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وهذا حال عظيم وهو ما هيأ الله لهم في أمرهم من مرفق، وأن ذلك جزاؤهم على اهتدائهم وهو من لطف الله بهم‏.‏

والخطاب لغير معين‏.‏ والمعنى‏:‏ يَرى مَن تُمكنه الرؤيةُ‏.‏ وهذا كثير في الاستعمال، ومنه قول النابغة‏:‏

ترى عافيات الطير قد وثقت لها *** بشبع من السُخل العتاق الأكايل

وقد أوجز من الخبر أنهم لما قال بعضهم لبعض ‏{‏فأووا إلى الكهف‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 16‏]‏ أنهم أووا إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ فأخذوا بنصيحته فأووا إلى الكهف‏.‏ ودل عليه قوله في صدر القصة ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏ فرُد عجزُ الكلام على صدره‏.‏

وتزاور‏}‏ مضارع مشتق من الزور بفتح الزاي، وهو المَيل‏.‏ وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الزاي بعدها ألف وفتح الواو‏.‏ وأصله‏:‏ تتزاور بتاءين أدغمت تاء التفاعل في الزاي تخفيفاً‏.‏

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الزاي على حذف إحدى التاءين وهي تاء المضارعة للتخفيف اجتزاء برفع الفعل الدال على المضارعة‏.‏ وقرأه ابن عامر ويعقوب ‏{‏تزور‏}‏ بفتح التاء بعدها زاي ساكنة وبفتح الواو وتشديد الراء بوزن تَحْمَرُّ‏.‏ وكلها أبنية مشتقة من الزَوَر بالتحريك، وهو الميل عن المكان، قال عنترة‏:‏

فازورّ من وقع القنَا بلبَانِه ***

أي مال بعض بدنه إلى بعض وانقبض‏.‏

والإتيان بفعل المضارعة للدلالة على تكرر ذلك كل يوم‏.‏

و ‏{‏تقرضهم‏}‏ أي تنصرف عنهم‏.‏ وأصل القَرْض القطع، أي أنها لا تطلع في كهفهم‏.‏

و ‏{‏ذات اليمين وذات الشمال‏}‏ بمعنى صاحبة، وهي صفة لمحذوف يدل عليه الكلام، أي الجهة صاحبة اليمين‏.‏ وتقدم الكلام على ‏{‏ذات‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأصلحوا ذات بينكم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏1‏)‏‏.‏

والتعريف في اليمين‏}‏، و‏{‏الشمال‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي يمين الكهف وشماله، فيدل على أن فم الكهف كان مفتوحاً إلى الشمال الشرقي، فالشمس إذا طلعت تطلع على جانب الكهف ولا تخترقه أشعتُها، وإذا غربتْ كانت أشعتها أبعد عن فم الكهف منها حينَ طلوعها‏.‏

وهذا وضع عجيب يسّره الله لهم بحكمته ليكون داخلُ الكهف بحالة اعتدال فلا ينتاب البِلى أجسادَهم، وذلك من آيات قدرة الله‏.‏

والفجوة‏:‏ المتسع من داخل الكهف، بحيث لم يكونوا قريبين من فم الكهف‏.‏ وفي تلك الفجوة عون على حفظ هذا الكهف كما هو‏.‏

‏{‏ذلك مِنْ ءَايَاتِ الله‏}‏

الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المذكور من قوله‏:‏ ‏{‏وترى الشمس‏}‏‏.‏

وآيات الله‏:‏ دلائل قدرته وعنايته بأوليائه ومؤيدي دين الحق‏.‏

والجملة معترضة في خلال القصة للتنويه بأصحابها‏.‏

والإشارةُ للتعظيم‏.‏

استئناف بياني لما اقتضاه اسمُ الإشارة من تعظيم أمر الآية وأصحابِها‏.‏

وعموم ‏(‏مَن‏)‏ الشرطية يشمل المتحدَث عنهم بقرينة المقام‏.‏ والمعنى‏:‏ أنَهم كانوا مهتدين لأن الله هداهم فيمن هدى، تنبيهاً على أن تيسير ذلك لهم من الله هو أثر تيسيرهم لليسرى والهُدى، فأبلغهم الحق على لسان رسولهم، ورزقهم أفهاماً تؤمن بالحق‏.‏ وقد تقدم الكلام على نظير ‏{‏من يهد الله فهو المهتد‏}‏، وعلى كتابة ‏{‏المهتد‏}‏ بدون ياء في سورة الإسراء‏.‏

والمرشد‏:‏ الذي يُبين للحيران وجه الرشد، وهو إصابة المطلوب من الخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال‏}‏

عطف على بقية القصة، وما بينهما اعتراض‏.‏ والخطاب فيه كالخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وترى الشمس‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس‏.‏

ومعنى حسبانهم أيقاضاً‏:‏ أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم، فقيل‏:‏ كانت أعينهم مفتوحة‏.‏

وصيغ فعل تحسبهم‏}‏ مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة‏.‏

والأيقاظ‏:‏ جمع يَقِظ، بوزن كتف، وبضم القاف بوزن عَضُد‏.‏

والرقود‏:‏ جمع راقد‏.‏

والتقليب‏:‏ تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبح يقلب كفيه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وذات اليمين وذات الشمال‏}‏ أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة‏.‏

والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي‏.‏ ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية‏.‏

‏{‏وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد‏}‏

هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب‏.‏

والوصيد‏:‏ مدخل الكهف، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق‏.‏

وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه‏.‏

‏{‏لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا‏}‏

الخطاب لغير معين، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية‏.‏

والمعنى‏:‏ لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابئ لقطاع الطريق، كما قال تأبط شراً‏:‏

أقولُ للَحْيَاننٍ وقد صفّرتْ لهم *** وطابي يوَمي ضَيّقُ الجُحْر مُعوِر

ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نكرهم وأوجس منهم خيفة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏‏.‏ وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب، على أنه قد سبق وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود‏}‏‏.‏

والاطلاع‏:‏ الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء، وضمن معنى الإشراف فعدي ب ‏(‏على‏)‏، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏أطلع الغيب‏}‏ في سورة مريم ‏(‏78‏)‏، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء‏.‏ وفي الكشاف‏}‏ عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح‏.‏

وانتصب ‏{‏فراراً‏}‏ على المفعول المطلق المبين لنوع ‏{‏وليت‏.‏

ومُلّئتَ‏}‏ مبني للمجهول، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرئ بهما‏.‏

والمَلْء‏:‏ كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف، ومُثل عقل الإنسان بالظرف، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف، فكان في قوله‏:‏ ‏{‏ملّئت‏}‏ استعارة تمثيلية، وعكسه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وانتصب رعباً‏}‏ على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يَمْلأ، فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإجمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلاً تمييزاً‏.‏ وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال، وليس تمييزا مُحولاً عن المفعول كما قد يلوح بادئ الرأي‏.‏

والرعب تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏151‏)‏‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير ولَمُلِّئْتَ‏}‏ بتشديد اللام على المبالغة في الملء، وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏رعباً‏}‏ بسكون العين‏.‏ وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم ‏{‏رب أرني كيف تحيي الموتى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ وكذلك‏}‏ إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها، أي كما أنمناهم قروناً بعثناهم‏.‏ ووجه الشبه‏:‏ أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة‏.‏

ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجيب كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة، وفي التعليل من قوله‏:‏ ليتساءلوا‏}‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ بعثناهم فتساءلوا بينهم‏.‏

وجملة قال قائل منهم‏}‏ بيان لجملة ‏{‏ليتساءلوا‏}‏‏.‏ وسميت هذه المحاورة تساؤلاً لأنها تحاور عن تطلب كل رأيَ الآخر للوصول إلى تحقيق المدة‏.‏ والذين قالوا‏:‏ ‏{‏لبثنا يوماً أو بعض‏}‏ هم مَن عدا الذي قال‏:‏ ‏{‏كم لبثتم‏}‏‏.‏

وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم‏:‏ إما لأنهم تواطؤوا عليه، وإما على إرادة التوزيع، أي منهم من قال‏:‏ لبثنا يوماً، ومنهم قال‏:‏ لبثنا بعض يوم‏.‏ وعلى هذا يجوز أن تكون ‏(‏أو‏)‏ للتقسيم في القول بدليل قوله بعد ‏{‏قالوا ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى، وذلك من كمال إيمانهم‏.‏ فالقائلون ‏{‏ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر‏.‏ ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صواباً‏.‏

وتفريع قولهم‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم‏}‏ على قولهم‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ لأنه في معنى فدَعُوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم، وهو قريب من الأسلوب الحكيم‏.‏ وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً على أن غيره أولى بحاله، ولولا قولهم‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ لكان قولهم‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم‏}‏ عين الأسلوب الحكيم‏.‏

والوَرِق بفتح الواو وكسر الراءِ‏:‏ الفضة‏.‏ وكذلك قرأه الجمهور‏.‏ ويقال وَرْق بفتح الواو وسكون الراء وبذلك قرأ أبوعمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم ورَوح عن يعقوب وخلف‏.‏ والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة، وهي الدراهم قيل‏:‏ كانت من دراهم ‏(‏دقيوس‏)‏ سلطان الروم‏.‏

والإشارة بهذه إلى دَراهم معينة عندهم، والمدينة هي ‏(‏أبْسُسْ‏)‏ بالباء الموحدة‏.‏ وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة‏.‏

و ‏{‏أيها‏}‏ ما صدقه أي مكان من المدينة، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاماً، أي أزكى طعامُه من طعام غيره‏.‏

وانتصب ‏{‏طعاماً‏}‏ على التمييز لنسبة ‏(‏أزكى‏)‏ إلى ‏(‏أي‏)‏‏.‏

والأزكى‏:‏ الأطْيب والأحسن، لأن الزّكْوَ الزيادة في الخير والنفع‏.‏

والرزق‏:‏ القوت‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لا يأتيكما طعام ترزقانه‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏37‏)‏، والفاء لتفريع أمرهم مَن يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف‏.‏

وصيغة الأمر في قوله‏:‏ فليأتكم‏}‏ و‏{‏ليتلطف‏}‏ أمر لأحدٍ غير معين سيوكَلونه، أي أن تبعثوه يأتكم برزق، ويجوز أن يكون المأمور معيناً بينهم وإنما الإجمال في حكاية كلامهم لا في الكلام المحكي‏.‏ وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك‏.‏

قيل التاء من كلمة ‏{‏وليتلطف‏}‏ هي نصف حروف القرآن عَدًّا‏.‏ وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جئت شيئاً نكراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 74‏]‏ هي نصف حروف القرآن‏.‏

والإشعار‏:‏ الإعلام، وهو إفعال من شَعَر من باب نصر وكَرُم شُعوراً، أي علم‏.‏ فالهمزة للتعدية مثل همزة أعلم‏}‏ من علم الذي هو عِلم العرفان يتعدى إلى واحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يُشعِرَنَّ‏}‏‏.‏ فمدخول الباء هو المشعور، أي المعلوم‏.‏ والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني متعلق الضمير المجرور بفعل ‏{‏يشعرن‏}‏ من قبيل تعليق الحكم بالذات، والمراد بعض أحوالها‏.‏ والتقدير‏:‏ ولا يخبرن بوجودكم أحداً‏.‏ فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك‏.‏ والنون لتوكيد النهي تحذيراً من عواقبه المضمنة في جملة ‏{‏إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم‏}‏ الواقعة تعليلاً للنهي، وبياناً لوجه توكيد النهي بالنون، فهي واقعة موقع العلة والبيان، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها‏.‏

وجملة ‏{‏إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم‏}‏ علة للأمر بالتلطف والنهي عن إشعار أحد بهم‏.‏

وضمير ‏{‏إنهم‏}‏ عائد إلى ما أفاده العموم في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يشعرن بكم أحداً‏}‏، فصار ‏{‏أحداً‏}‏ في معنى جميع الناس على حكم النكرة في سياق شبه النهي‏.‏

والظهور أصله‏:‏ البروز دون ساتر‏.‏ ويطلق على الظفر بالشيء، وعلى الغلبة على الغير، وهو المراد هنا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وأظهره الله عليه‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 3‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏‏.‏

والرجم‏:‏ القتل برمي الحجارة على المرجوم حتى يموت، وهو قتل إذلال وإهانة وتعذيب‏.‏

وجملة ‏{‏يرجموكم‏}‏ جواب شرط ‏{‏إن يظهروا عليكم‏}‏‏.‏ ومجموع جملتي الشرط وجوابه دليل على خبر ‏(‏إن‏)‏ المحذوف لدلالة الشرط وجوابه عليه‏.‏

ومعنى ‏{‏يعيدوكم في ملتهم‏}‏ يرجعوكم إلى الملة التي هي من خصائصهم، أي لا يخلو أمرهم عن أحد الأمرين إما إرجاعكم إلى دينهم أو قتلكم‏.‏

والملة‏.‏ الدين‏.‏ وقد تقدم في سورة يوسف ‏(‏37‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله‏.‏‏}‏ وأكد التحذير من الإرجاع إلى ملتهم بأنها يترتب عليها انتفاء فلاحهم في المستقبل، لما دلت عليه حرف ‏(‏إذاً‏)‏ من الجزائية‏.‏

وأبداً‏}‏ ظرف للمستقبل كله‏.‏ وهو تأكيد لما دل عليه النفي ب ‏(‏لن‏)‏ من التأبيد أو ما يقاربه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا‏}‏‏.‏

انتقل إلى جزء القصة الذي هو موضع عبرَةِ أهل زمانهم بحالهم وانتفاعهم باطمئنان قلوبهم لوقوع البعث يوم القيامة بطرِيقة التقريب بالمشاهدة وتأييد الدين بما ظهر من كرامة أنصاره‏.‏

وقد كان القوم الذين عثروا عليهم مؤمنين مثلهم، فكانت آيتهم آية تثبيت وتقوية إيمان‏.‏

فالكلام عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك بعثناهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ الآية‏.‏

والقول في التشبيه والإشارة في وكذلك‏}‏ نظيرُ القول في الذي قبله آنفاً‏.‏

والعثور على الشيء‏:‏ الاطلاع عليه والظفَر به بعد الطلب‏.‏ وقد كان الحديث عن أهل الكهف في تلك المدينة يتناقله أهلها فيسر الله لأهل المدينة العثور عليهم للحكمة التي في قوله‏:‏ ‏{‏ليعلموا أن وعد الله حق‏}‏ الآية‏.‏

ومفعول ‏{‏أعثرنا‏}‏ محذوف دل عليه عموم ‏{‏ولا يشعرن بكم أحداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 20‏]‏‏.‏ تقديره‏:‏ أعثرنا أهل المدينة عليهم‏.‏

وضمير ليعلموا‏}‏ عائد إلى المفعول المحذوف المقدر لأن المقدر كالمذكور‏.‏

ووعد الله هو إحياء الموتى للبعث‏.‏ وأما علمهم بأن الساعة لا ريب فيها، أي ساعة الحشر، فهو إن صار علمهم بذلك عن مشاهدة تزول بها خواطر الخفاء التي تعتري المؤمن في اعتقاده حين لا يتصور كيفية العقائد السمعية وما هو بريب في العلم ولكنه في الكيفية، وهو الوارد فيه أنه لا يخطر إلا لصديق ولا يدوم إلا عند زنديق‏.‏

الظرف متعلق ب ‏{‏أعثرنا‏}‏، أي أعثرنا عليهم حين تنازعوا أمرهم‏.‏ وصيغ ذلك بصيغة الظرفية للدلالة على اتصال التنازع في أمر أهل الكهف بالعثور عليهم بحيث تبادروا إلى الخوض في كرامة يجعلونها لهم‏.‏ وهذا إدماج لذكر نزاع جرى بين الذين اعتدوا عليهم في أمور شتى جمعها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمرهم‏}‏ فضمير ‏{‏يتنازعون‏}‏ و‏{‏بينهم‏}‏ عائدان إلى ما عاد الله ضمير ‏{‏ليعلموا‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏أمرهم‏}‏ يجوز أن يعود إلى أصحاب الكهف‏.‏ والأمر هنا بمعنى الشأن‏.‏

والتنازع‏:‏ الجدال القوي، أي يتنازع أهل المدينة بينهم شأن أهل الكهف، مثل‏:‏ أكانوا نياماً أم أمواتاً، وأيبقون أحياء أم يموتون، وأيبقون في ذلك الكهف أم يرجعون إلى سكنى المدينة، وفي مدة مكثهم‏.‏

ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏أمرهم‏}‏ عائداً إلى ما عاد عليه ضمير ‏{‏يتنازعون‏}‏، أي شأنهم فيما يفعلونه بهم‏.‏

والإتيان بالمضارع لاستحضار حالة التنازع‏.‏

طوي هنا وصف العثور عليهم، وذكر عودهم إلى الكهف لعدم تعلق الغرض بذكره، إذ ليس موضع عبرة لأن المصير إلى مرقدهم وطرو الموت عليهم شأن معتاد لكل حي‏.‏

وتفريع ‏{‏فقالوا‏}‏ على ‏{‏يتنازعون‏}‏‏.‏

وإنما ارتأوا أن يبنوا عليهم بنياناً لأنهم خشوا عليهم من تردد الزائرين غير المتأدبين، فلعلهم أن يؤذوا أجسادهم وثيابهم باللمس والتقليب، فأرادوا أن يبنوا عليهم بناءً يمكن غلق بابه وحراسته‏.‏

وجملة ‏{‏ربهم أعلم بهم‏}‏ يجوز أن تكون من حكاية كلام الذين قالوا، ابنوا عليهم بنياناً‏.‏

والمعنى‏:‏ ربهم أعلم بشؤونهم التي تنزعنا فيها، فهذا تنهية للتنازع في أمرهم‏.‏ ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله تعالى في أثناء حكاية تنازع الذين أعثروا عليهم، أي رب أهل الكهف أو رب المتنازعين في أمرهم أعلم منهم بواقع ما تنازعوا فيه‏.‏

والذين غلبوا على أمرهم ولاة الأمور بالمدينة، فضمير ‏{‏أمرهم‏}‏ يعود إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏فقالوا‏}‏، أي الذين غلبوا على أمر القائلين‏:‏ ابنوا عليهم بنياناً‏.‏

وإنما رأوا أن يكون البناء مسجداً ليكون إكراماً لهم ويدوم تعهد الناس كهفهم‏.‏ وقد كان اتخاذ المساجد على قبور الصالحين من سنة النصارى، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ «ولولا ذلك لأبرز قبرُه»، أي لأبرز في المسجد النبوي ولم يجعل وراء جدار الحجرة‏.‏

واتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها منهي عنه، لأن ذلك ذريعة إلى عبادة صاحب القبر أو شبيهٌ بفعل من يعبدون صالحي ملتهم‏.‏ وإنما كانت الذريعة مخصوصة بالأموات لأن ما يعرض لأصحابهم من الأسف على فقدانهم يبعثهم على الإفراط فيما يحسبون أنه إكرام لهم بعد موتهم، ثم يتناسى الأمر ويظن الناس أن ذلك لخاصية في ذلك الميّت‏.‏ وكان بناء المساجد على القبور سنة لأهل النصرانية، فإن كان شرعاً لهم فقد نسخه الإسلام، وإن كان بدعة منهم في دينهم فأجدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏‏.‏

لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم، وحصر مدة مكثهم في كهفهم، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصاً، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس، ودل عَلَم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك‏.‏

وضمير «يقولون» عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام، أي يقول الناس أو المسلمون، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نُبّهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه‏.‏ ومعنى سين الاستقبال سارٍ إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر‏.‏

وقد أعلم الله أن قليلاً من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك‏.‏ وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم‏.‏ وروي أن ابن عباس قال‏:‏ أنا من القليل‏.‏

وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية تيمناً بعدد المفرد، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره، وقد سمى الله قولهم ذلك رجماً بالغيب‏.‏

والرجم حقيقته‏:‏ الرمي بحجر ونحوه‏.‏ واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت، قال زهير‏:‏

وما هو عنها بالحديث المرجم

والباء في ‏{‏بالغيب‏}‏ للتعدية، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به‏.‏

وكل من جملة ‏{‏رابعهم كلبهم‏}‏ وجملة ‏{‏سادسهم كلبهم‏}‏ في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف‏.‏

وجملة ‏{‏وثامنهم كلبهم‏}‏ الواو فيها واو الحال، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ، وهو وإن كان نكرة فإن وقوعه خبراً عن معرفةٍ أكسبه تعريفاً‏.‏ على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة‏.‏ ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما ذهب إليه في «الكشاف» لأنه غير معروف في فصيح الكلام‏:‏ وقد رده السكاكي في المفتاح وغير واحد‏.‏

ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم‏:‏ إن هذه الواو واو الثمانية، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعَفة النحاة ولم يُعين مبتكره‏.‏ وقد عد ابن هشام في «مغني اللبيب» من القائلين بذلك الحريري وبعض ضعفة النحاة كابن خالويه والثعلبي من المفسرين‏.‏

قلت‏:‏ أقدمُ هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة 370 فهو المقصود ببعض ضعفة النحاة‏.‏ وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في «الانتصاف على الكشاف» من سورة التحريم إذ روى عن ابن الحاجب‏:‏ أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكارا‏}‏ في سورة التحريم ‏(‏5‏)‏ هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية‏.‏ وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة، أحدها‏:‏ التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ في سورة براءة ‏(‏112‏)‏‏.‏ والثانية‏:‏ في قوله‏:‏ وثامنهم كلبهم‏}‏‏.‏ والثالثة‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وفُتِّحَتْ أبوابها‏}‏ في الزمر ‏(‏73‏)‏‏.‏ قال ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكَره يوماً بحَضرة أبي الجُود النحوي المُقْري؛ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد إلى آخره‏.‏

وقال في المغني‏}‏‏:‏ سبق الثعلبي الفاضلَ إلى عدها من المواضع في تفسيره‏.‏ وأقول‏:‏ لعل الفاضل لم يطلع عليه‏.‏ وزاد الثعلبي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبع ليال وثمانية أيام حسوما‏}‏ في سورة الحاقة ‏(‏7‏)‏ حيث قرن اسم عدد ‏(‏ثمانية‏)‏ بحرف الواو‏.‏

ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاقٌ بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظه كما هنا وآية الحاقة، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم، وإما بكون مسماه معدوداً بعدد الثمانية كما في آية الزمر‏.‏ ولقد يعدُّ الانتباه إلى ذلك من اللطائف، ولا يبلغ أن يكون من المعارف‏.‏ وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضللِ منها آية سورة التحريم لأنها صادفت الثامنة في الذكر وإن لم تكن ثامنة في صفات الموصُوفين، وكذلك لعد الثعلبي آية سورة الحاقة؛ ومثل هذه اللطائف كالزهرةُ تُشم ولا تحك‏.‏

وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والناهون عن المنكر‏}‏ في سورة براءة ‏(‏112‏)‏‏.‏

وجملة قل ربي أعلم بعدتهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لما تثيره جملة ‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم‏}‏ إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم‏.‏ فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب‏.‏ وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه‏.‏

وجملة ‏{‏ما يعلمهم إلا قليل‏}‏ كذلك مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا‏:‏ هل يكون بعض الناس عالماً بعدتهم علماً غير كامل، فأجيب بأن قليلاً من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كلّ حال فهم لا يوصفون بالأعلمية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك‏.‏

تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف، أي إذا أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى‏.‏ وهذا التفريع وما عطف عليه مُعترض في أثناء القصة‏.‏

والتماري‏:‏ تفاعل مشتق من المرية، وهي الشك‏.‏ واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة‏.‏ والمراد بالمراء فيهم‏:‏ المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع‏.‏

والمراء الظاهر‏:‏ هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه‏.‏ وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏قل ربي أعلم بعدتهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما يعلمهم إلا قليل‏}‏، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنكاره وإبايتهِ لوضوح حجّته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه‏.‏

والاستفتاء‏:‏ طلب الفتوى، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد‏.‏ ومعنى ‏{‏فيهم‏}‏ أي في أمرهم، أي أمر أهل الكهف‏.‏ والمراد من النهي عن استفتائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف، فضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏سيقولون ثلاثة‏}‏، وهم أهل مكة الذين سألوا عن أمر أهل الكهف‏.‏

أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد، وأنه لا يُعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف، وتكون ‏(‏من‏)‏ تعليلية، والضمير المجرور بها عائداً إلى السائلين المتعنتين، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علِمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه‏.‏ وفي التقييد ب ‏{‏منهم‏}‏ مُحترز ولا يستقيم جعل ضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائداً إلى أهل الكتاب، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنِّى فَاعِلٌ ذلك غَداً‏}‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله‏}‏‏.‏

عطف على الاعتراض‏.‏ ومناسبة موقعه هنا ما رواه ابن إسحاق والطبري في أول هذه السورة والواحدي في سورة مريم‏:‏ أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد ولم يَقُل ‏"‏ إن شَاءَ الله ‏"‏ فلم يأته جبريل عليه السلام بالجواب إلا بعد خمسة عشرَ يوماً‏.‏ وقيل‏:‏ بعد ثلاثة أيام كما تقدم، أي فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتاباً رمزياً من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام كما عاتب سليمان عليه السلام فيما رواه البخاري‏:‏ ‏"‏ أن سليمان قال‏:‏ لأطوفَنّ الليلة على مائة امرأة تَلِد كل واحدة ولداً يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شِقّ غلام ‏"‏‏.‏ ثم كان هذا عتاباً صريحاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول‏:‏ «إن شاء الله» كما نسي سليمان، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يَعِد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله‏.‏ وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي، أي هو استثناء من حكم النهي، أي لا تقولن‏:‏ إني فاعل الخ‏.‏‏.‏‏.‏ إلا أن يشاء الله أن تقوله‏.‏ ومشيئة الله تُعلم من إذنه بذلك، فصار المعنى‏:‏ إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله‏.‏ وعليه فالمصدر المسبك من ‏{‏أن يشاء الله‏}‏ مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى، ومفعول ‏{‏يشاء الله‏}‏ محذوف دل عليْه ما قبله كما هو شأن فِعل المشيئة والتقدير‏:‏ إلا قولاً شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله‏.‏

ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة ‏{‏إني فاعل ذلك غداً‏}‏، فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه، أيْ إلا قولاً مقترناً ب ‏(‏إن شاء الله‏)‏ فيكون المصدر المنسبك من ‏(‏أن‏)‏ والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة‏.‏ والتقدير‏:‏ إلا ب ‏(‏إن يشاء الله‏)‏ أي بما يدل على ذكر مشيئة الله، لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ ‏(‏إن شاء الله‏)‏ ونحوهِ، فالمراد بالمشيئة إذن الله له‏.‏

وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبيء صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات‏:‏

الأولى‏:‏ أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين‏.‏

الثانية‏:‏ أنه علمه علماً عظيماً من أدب النبوءة‏.‏

الثالثة‏:‏ أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناساً لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم‏.‏ ومثاله ما في الصحيح‏:‏ أن حكيم بن حزام قال‏:‏ ‏"‏ سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال‏:‏ يا حكيم إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى‏.‏ قال حكيم‏:‏ يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا ‏"‏‏.‏ فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سُؤْله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم‏:‏ أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئاً، ولم يقل‏:‏ لا أسألك بعد هذه المرة شيئاً‏.‏

فنظم الآية أن اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لشيء‏}‏ ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة، أي لا تقولن‏:‏ إني فاعل كذا لأجل شيء تَعِدُ به، فاللام بمنزلة ‏(‏في‏)‏‏.‏

و «شيء» اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أي لشيء تريد أن تفعله‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ عائدة إلى «شيء»‏.‏ أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه‏.‏

و ‏{‏غداً‏}‏ مستعمل في المستقبل مجازاً‏.‏ وليست كلمة ‏(‏غداً‏)‏ مراداً بها اليوم الذي يلي يَومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليومُ بمعنى زمان الحال، والأمسُ بمعنى زمن الماضي‏.‏ وقد جمعها قول زهير‏:‏

وأعلمُ عِلم اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ

وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاءً مثل الأيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها، فقال جمهورهم‏:‏ يكون ذكر ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ حَلاً لعقد اليمين يُسقط وجوب الكفارة‏.‏ ولعلهم أخذوه من معنى ‏(‏شيء‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك‏}‏ الخ‏:‏ بحيث إذا أُعقبت اليمينُ بقول ‏(‏إلا أن يشاء الله‏)‏ ونحوه لم يلزم البر في اليمين‏.‏ وروى ابن القاسم وأشهب وابنُ عبد الحكم عن مالك أن قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل‏}‏ الخ‏.‏‏.‏ إنما قُصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء‏.‏ يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية بل هو مما ثبت بالسنّة‏.‏ ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين، وهي قول ‏(‏إن شاء الله‏)‏‏.‏ وهذا قول أبي حنيفة والشافعي‏.‏

عطف على النهي، أي لا تَعِدْ بوعد فإن نسيتَ فقلت‏:‏ إني فاعل، فاذكر ربك، أي اذكر ما نهاك عنه‏.‏

والمراد بالذكر التدارك وهو هنا مشتق من الذُكر بضم الذال، وهو كناية عن لازم التذكر، وهو الامتثال، كما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ «أفْضَلُ من ذكر الله باللسان ذِكْرُ الله عند أمره ونهيه»‏.‏

وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير المخاطب دون اسم الجلالة العَلَم من كمال الملاطفة ما لا يخفى‏.‏

وحُذف مفعول ‏{‏نسيت‏}‏ لظهوره من المقام، أي إذا نسيت النهي فقلت‏:‏ إني فاعل‏.‏ وبعض الذين أعْملوا آية ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ في حل الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله‏:‏ ‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏}‏ ترخيصاً في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك، فمنهم من لم يحد ذلك بمدة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ لا تحديد بمدة بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا‏.‏ والجمهور على أن قوله‏:‏ ‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏}‏ لا دلالة فيه على جواز تأخير الثنيا، واستدلوا بأن السنّة وردت بخلافه‏.‏

لما أبر الله وعَد نبيه صلى الله عليه وسلم الذي وعده المشركين أن يبين لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه وأوقفهم عليْه، أعقب ذلك بعتابه على التصدي لمجارَاتهم في السؤال عما هو خارج عن غرض الرسالة دون إذن من الله، وأمَره أن يذكر نهي ربه‏.‏ ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يُسأل منه بيانُه دون أن يأذنه الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بُعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو أن الله يهديه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم‏.‏ والمعنى‏:‏ وقل لهم عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً‏.‏

فجملة ‏{‏وقل عسى أن يهدين‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ معطوفة على جملة ‏{‏فلا تمار فيهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون جملة وقل عسى أن يهدين ربي‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏}‏، أي اذكر أمره ونهيه وقل في نفسك‏:‏ عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً، أي ادع الله بهذا‏.‏

وانتصب ‏{‏رشداً‏}‏ على تمييز نسبة التفضيل من قوله‏:‏ ‏{‏لأقرب من هذا‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق مبين لنوع فعل ‏{‏أن يهدين‏}‏ لأن الرشد نوع من الهداية‏.‏

ف ‏{‏عسى‏}‏ مستعملة في الرجاء تأدباً، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضاً في أثنائها‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ وارجُ من الله أن يهديك فيُذكرك أن لا تَعِد وعداً ببيان شيء دون إذن الله‏.‏

والرّشَد بفتحتين‏:‏ الهدى والخير‏.‏ وقد تقدم القول فيه عند قوله تعالى في هذه السورة ‏{‏وهيء لنا من أمرنا رشداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏‏}‏

رجوع إلى بقية القصة بعد أن تخلل الاعتراض بينها بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تمار فيهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏رشداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22 24‏]‏‏.‏

فيجوز أن تكون جملة ولبثوا‏}‏ عطفاً على مقولهم في قوله‏:‏ ‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ أي ويقولون‏:‏ لبثوا في كهفهم، ليكون موقع قوله‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ كموقع قوله السابق ‏{‏قل ربي أعلم بعدتهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏، وعليْه فلا يكون هذا إخباراً عن مدة لبثهم‏.‏ وعن ابن مسعود أنه قرأ وقالوا لبثوا في كهفهم‏}‏ إلى آخره، فذلك تفسير لهذا العطف‏.‏

ويجوز أن يكون العطف على القصة كلها‏.‏ والتقدير‏:‏ وكذلك أعثرنا عليهم إلى آخره، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسعَ سنين‏.‏

وعلى اختلاف الوجهين يختلف المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ كما سيأتي‏.‏ ثم إن الظاهر أن القرآن أخبر بمدة لبث أهل الكهف في كهفهم، وأن المراد لبثُهم الأول قبل الإفاقة وهو المناسب لسبق الكلام على اللبث في قوله‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏، وقد قدمنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ أن مؤرخي النصارى يزعمون أن مدة نومة أهل الكهف مائتان وأربعون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد لبثهم من وقت موتهم الأخير إلى زمن نزول هذه الآية‏.‏

والمعنى‏:‏ أن يقدر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين‏.‏ فعُبّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع، ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف وهم أهل بلاد الروم‏.‏ قال السهيلي في الروض الأنف‏}‏‏:‏ النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به‏.‏ وأقول‏:‏ واليهود الذين لَقّنوا قريشاً السؤالَ عنهم يؤرخّون الأشهر بحساب القمر ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية، فالتفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسيةً، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسيةٍ بثلاث سنين زائدة قمرية‏.‏ كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسر‏.‏ وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد‏.‏ وهذا من علم القرآن وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ثلاث مائةٍ‏}‏ بالتنوين‏.‏ وانتصب ‏{‏سنين‏}‏ على البدلية من اسم العدد على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوباً، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك‏.‏

وقرأه حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين على أنه تمييز للمائة‏.‏ وقد جاء تمييز المائة جمعاً، وهو نادر لكنه فصيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

إن كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏ إخباراً مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله‏:‏ قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ قطعاً للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم‏.‏

وإن كان قوله‏:‏ ‏{‏ولبثوا‏}‏ حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ تفويضاً إلى الله في علم ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏قل ربي أعلم بعدتهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم‏.‏ واللام في له‏}‏ للملك‏.‏ وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص، أي لله لا لغيره، رداً على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم‏.‏

و ‏{‏أبصر به وأسمع‏}‏ صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد‏.‏

وضمير الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏ما لهم من دونه من ولي‏}‏ يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم‏.‏ وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول ‏(‏من‏)‏ الزائدة على النكرة المنفية‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولا يشرك في حكمه أحداً‏}‏ هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ولا يشرك‏}‏ برفع ‏{‏يشرك‏}‏ وبياء الغيبة‏.‏ والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم‏}‏‏.‏ وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و‏{‏يشرك‏}‏ على أن ‏(‏لا‏)‏ ناهية‏.‏ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته، أو الخطاب لكل من يتلقاه‏.‏

وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ بما فيها من قوله‏:‏ ‏{‏ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ كانوا أيامئذٍ لا يُبَيّن لهم شيء إلا وانتقلوا إلى طلب شيء آخر فسألوا عن أهل الكهف وعن ذي القرنين، وطلبوا من النبي أن يجعل بعض القرآن للثناء عليهم، ونحو ذلك، كما تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏73‏)‏‏.‏ ”

والمعنى‏:‏ لا تَعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعضضِ ما أوحي إليك واتلُ جميع ما أوحي إليك فإنه لا مبدِّل له‏.‏ فلما وعدهم الجواب عن الروح وعن أهل الكهف وأبرَّ اللّهُ وعدَه إياهم قطعاً لمعذرتهم ببيان إحدى المسألتين ذيل ذلك بأن أمر نبيئه أن يقرأ القرآن كما أنزل عليه وأنه لا مبدِّل لكلمات الله، ولكي لا يُطمعهم الإجابة عن بعض ما سألوه بالطمع في أن يجيبهم عن كل ما طلبوه‏.‏

وأصل النفي ب ‏(‏لا‏)‏ النافية للجنس أنه نفي وجود اسمه‏.‏ والمراد هنا نفي الإذن في أن يبدل أحد كلمات الله‏.‏

والتبديل‏:‏ التغيير بالزيادة والنقص، أي بإخفاء بعضه بترك تلاوة ما لا يرضون بسماعه من إبطال شركهم وضلالهم‏.‏ وهذا يؤذن بأنهم طعنوا في بعض ما اشتملت عليهم القصة في القرآن كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏سيقولون ثلاثة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا مبدل لكلمات الله‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏‏.‏

فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏واتل‏}‏ كناية عن الاستمرار‏.‏ و‏{‏ما أوحي‏}‏ مفيد للعموم، أي كل ما أوحي إليك‏.‏ ومفهوم الموصول أن ما لم يوح إليه لا يتلوه، وهو ما اقترحوا أن يقوله في الثناء عليهم وإعطائهم شطراً من التصويب‏.‏

والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً‏}‏ في الأنفال ‏(‏2‏)‏‏.‏

والملتحد‏:‏ اسم مكان ميمي يجيء على زنة اسم المفعول من فِعله‏.‏ والملتحد‏:‏ مكان الالتحاد، والالتحاد‏:‏ الميل إلى جانب‏.‏ وجاء بصيغة الافتعال لأن أصله تكلف الميل‏.‏ ويفهم من صيغة التكلف أنه مفر من مكروه يتكلف الخائف أن يأوي إليه، فلذلك كان الملتَحد بمعنى الملجأ‏.‏ والمعنى‏:‏ لن تجد شيئاً يُنجيك من عقابه‏.‏ والمقصود من هذا تأييسهم مما طمعوا فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا‏}‏‏.‏

هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف، فهو مشارك لقوله‏:‏ ‏{‏واتل ما أوحى إليك من كتاب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 27‏]‏‏.‏ الآية وتقدم في سورة الأنعام ‏(‏52‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناساً أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتَوْا إلى مجالسة النبي واستمعوا القرآن، فاقترحوا عليْه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد الله عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة‏.‏

وما هنا آكدُ إذْ أمرَه بملازمتهم بقوله‏:‏ واصبر نفسك‏}‏، أي احبسها معهم حبس ملازمة‏.‏ والصبر‏:‏ الشد بالمكان بحيث لا يفارقه‏.‏ ومنه سميت المَصْبورة وهي الدابة تشد لتُجعل غَرضاً للرمي‏.‏ ولتضمين فعل ‏(‏اصبر‏)‏ معنى الملازمة علق به ظرف ‏(‏مع‏)‏‏.‏

و ‏{‏الغداة‏}‏ قرأه الجمهور بألف بعد الدال‏:‏ اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس‏.‏ والعَشي‏:‏ المساء‏.‏ والمقصود أنهم يدعون الله دعاءً متخللاً سائر اليوم والليلة‏.‏ والدعاء‏:‏ المناجاة والطلب‏.‏ والمراد به ما يشمل الصلوات‏.‏

والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏بالغَدْوَةِ‏}‏ بسكون الدال وواو بعد الدال مفتوحة وهو مرادف الغداة‏.‏

وجملة ‏{‏يريدون وجهه‏}‏ في موضع الحال‏.‏ ووجه الله‏:‏ مجاز في إقباله على العبد‏.‏

ثم أكّد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم‏.‏

وظاهر ‏{‏ولا تعد عيناك عنهم‏}‏ نَهْي العينين عن أن تَعْدُوَا عن الذين يدعون ربهم، أي أن تُجاوزاهم، أي تبعُدَا عنهم‏.‏ والمقصود‏:‏ الإعراض، ولذلك ضمن فعل العَدْو معنى الإعراض، فعدي إلى المفعول ب ‏(‏عن‏)‏ وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال‏:‏ عداه، إذا جاوزه‏.‏ ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما، فيؤول إلى معنى‏:‏ ولا تعدّي عينيك عنهم‏.‏ وهو إيجاز بديع‏.‏

وجملة ‏{‏تريد زينة الحياة الدنيا‏}‏ حال من كاف الخطاب، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت‏.‏

وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة وجعلوا همّهم الصور الظاهرة‏.‏

هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون‏.‏ والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تُجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم

وما صدق ‏(‏مَن‏)‏ كل من اتصف بالصلة، وقيل نزلت في أمية بن خَلَف الجُمَحي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة قريش‏.‏

والمراد بإغفال القلب جعله غافلاً عن الفكر في الوحدانية حتى راج فيه الإشراك، فإن ذلك ناشئ عن خلقة عقول ضيفة التبصر مسوقة بالهوى والإلف‏.‏

وأصل الإغفال‏:‏ إيجاد الغفلة، وهي الذهول عن تذكر الشيء، وأريد بها هنا غفلة خاصة، وهي الغفلة المستمرة المستفادة من جعل الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في خِلقة تلك القلوب، وما بالطبع لا يتخلف‏.‏

وقد اعتضد هذا المعنى بجملة ‏{‏واتبع هواه‏}‏، فإن اتباع الهوى يكون عن بصيرة لا عن ذهول، فالغفلة خلقة في قلوبهم، واتباع الهوى كسب من قدرتهم‏.‏

والفُرُط بضمتين‏:‏ الظلم والاعتداء‏.‏ وهو مشتق من الفُروط وهو السبق لأن الظلم سبْق في الشر‏.‏

والأمر‏:‏ الشأن والحال‏.‏

وزيادة فعل الكون للدلالة على تمكن الخبر من الاسم، أي حالة تمكن الإفراط والاعتداء على الحق‏.‏