فصل: الجزء السادس عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء السادس عشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

كان جواب الخضر هذا على نسق جوابه السابق إلا أنه زاد ما حكي في الآية بكلمة ‏{‏لَكَ‏}‏ وهو تصريح بمتعلّق فعل القول‏.‏ وإذ كان المقول له معلوماً من مقام الخطاب كان في التصريح بمتعلق فعل القول تحقيق لوقوع القول وتثبيت له وتقوية، والداعي لذلك أنه أهمل العمل به‏.‏

واللام في قوله ‏{‏لَكَ‏}‏ لام التبليغ، وهي التي تدخل على اسم أو ضمير السامع لقوللٍ أو ما في معناه، نحو‏:‏ قلت له، وأذنت له، وفسّرت له؛ وذلك عندما يكون المقول له الكلام معلوماً من السياق فيكون ذكر اللام لزيادة تقوي الكلام وتبليغه إلى السامع، ولذلك سميت لام التبليغ‏.‏ ألا ترى أن اللام لم يحتج لذكره في جوابه أول مرة ‏{‏ألم أقل أنّك لن تستطيع معي صبراً، فكان التقرير والإنكار مع ذكر لام تعدية القول أقوى وأشدّ‏.‏

وهنا لم يعتذر موسى بالنسيان‏:‏ إما لأنه لم يكن نَسِي، ولكنه رجّح تغيير المنكر العظيم، وهو قتل النفس بدون موجب، على واجب الوفاء بالالتزام؛ وإما لأنّه نسي وأعرض عن الاعتذار بالنسيان لسماجة تكرر الاعتذار به، وعلى الاحتمالين فقد عدل إلى المبادرة باشتراط ما تطمئن إليه نفس صاحبه بأنه إن عاد للسؤال الذي لا يبتغيه صاحبه فقد جعل له أن لا يصاحبه بعدَه‏.‏

وفي الحديث عن النبي‏:‏ كانت الأولى من موسى نسياناً، والثانية شرطاً‏}‏، فاحتمل كلام النبي الاحتمالين المذكورين‏.‏

وأنْصف موسى إذ جعل لصاحبه العذر في ترك مصاحبته في الثالثة تجنباً لإحراجه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لَّدُنّي‏}‏ بتشديد النون قال ابن عطية‏:‏ وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن فيها سنداً خاصاً مروياً فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

وقرأ نافع، وأبو بكر، وأبو جعفر ‏{‏مِنْ لَدُنِي بتخفيف النون على أنه حذف منه نون الوقاية تخفيفاً، لأن ‏(‏لدنْ‏)‏ أثقل من ‏(‏عَن‏)‏ ‏(‏ومَن‏)‏ فكان التخفيف فيها مقبولاً دونهما‏.‏

ومعنى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنّي عُذراً‏}‏ قد وصلت من جهتي إلى العذر‏.‏ فاستعير ‏{‏بَلَغْتَ‏}‏ لمعنى ‏(‏تحتّم وتعين‏)‏ لوجود أسبابه بتشبيه العذر في قَطع الصحبة بمكان ينتهي إليه السائر على طريقة المكنية‏.‏ وأثبت له البلوغ تخييلاً، أو استعار البلوغ لتَعيُّن حصول الشيء بعد المماطلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

نظم قوله ‏{‏فانطَلَقا حَتَّى إذا أَتَيَا أهْلَ قَرْيةٍ استَطْعَمَا أهْلَهَا‏}‏ كنظم نظيريه السابقين‏.‏

والاستطعام‏:‏ طلب الطعام‏.‏ وموقع جملة ‏{‏استَطْعَمَا أَهْلَهَا‏}‏ كموقع جملة ‏(‏خرقها‏)‏ وجملة ‏(‏فقتله‏)‏، فهو متعلق ‏(‏إذَا‏)‏‏.‏ وإظهار لفظ ‏{‏أَهْلَهَا‏}‏ دون الإتيان بضميرهم بأن يقال‏:‏ استطعماهم، لزيادة التصريح، تشنيعاً بهم في لؤمهم، إذ أبوا أن يضيفوهما‏.‏ وذلك لؤم، لأنّ الضيافة كانت شائعة في الأمم من عهد إبراهيم عليه السلام وهي من المواساة المتبعة عند الناس‏.‏ ويقوم بها من ينتدب إليها ممن يمر عليهم عابر السبيل ويسألهم الضيافة، أو من أعدّ نفسه لذلك من كرام القبيلة؛ فإباية أهل قرية كلهم من الإضافة لؤم لتلك القرية‏.‏

وقد أورد الصفدي على الشيخ تقي الدين السبكي سؤالاً عن نكتة هذا الإظهار في أبيات‏.‏ وأجابه السبكي جواباً طويلاً نثراً ونظماً بما لا يقنع، وقد ذكرهما الآلوسي‏.‏

وفي الآية دليل على إباحة طلب الطعام لعابر السبيل لأنه شَرْع من قبلنا، وحكاه القرآن ولم يرد ما ينسخه‏.‏

ودلّ لَوْم موسى الخضرَ، على أن لم يأخذ أجر إقامة الحائط على صاحبه من أهل القرية، على أنه أراد مقابلة حرمانهم لحق الضيافة بحرمانهم من إقامة الجدار في قريتهم‏.‏

وفي الآية مشروعية ضيافة عابر السبيل إذا نزل بأحد من الحيّ أو القرية‏.‏ وفي حديث «الموطأ» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِم ضيفَه جائزَتَه يومٌ وليلة ‏(‏أي يُتحفه ويبالغ في بره‏)‏ وضيافته ثلاثة أيام ‏(‏أي إطعامٌ وإيواء بما حضر من غير تكلّف كما يتكلف في أول ليلة‏)‏ فما كان بعد ذلك فهو صدقة ‏"‏‏.‏

واختلف الفقهاء في وجوبها فقال الجمهور‏:‏ الضيافة من مكارم الأخلاق، وهي مستحبة وليست بواجبة‏.‏ وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي‏.‏ وقال سحنون‏:‏ الضيافة على أهل القُرى والأحياء، ونسب إلى مالك‏.‏ قال سحنون‏:‏ أما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافرون‏.‏ وقال الشافعي ومحمد بن عبد الحكم من المالكية‏:‏ الضيافة حق على أهل الحضر والبوادي‏.‏ وقال الليث وأحمد‏:‏ الضيافة فرض يوماً وليلة‏.‏

ويقال‏:‏ ضَيّفه وأضافه، إذا قام بضيافته، فهو مضيّف بالتشديد‏.‏ ومُضيف بالتخفيف، والمتعرض للضيافة‏:‏ ضَائف ومُتَضيّف، يقال‏:‏ ضِفته وتضيّفته، إذا نزل به ومال إليه‏.‏

والجدار‏:‏ الحائط المبني‏.‏

ومعنى ‏{‏يُرِيدُ أن يَنقَضَّ‏}‏ أشرف على الانقضاض، أي السقوط، أي يكاد يسقط، وذلك بأن مال، فعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية بتشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعلَ شيء فهو يوشك أن يفعله حيث أراده، لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه‏.‏

وإقامة الجدار‏:‏ تسوية مَيله، وكانت إقامته بفعل خارق للعادة بأن أشار إليه بيده كالذي يسوي شيئاً ليّناً كما ورد في بعض الآثار‏.‏

وقول موسى‏:‏ ‏{‏لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرَاً‏}‏ لَوْم، أي كان في مكنتك أن تجعل لنفسك أجراً على إقامة الجدار تأخذه ممن يملكه من أهل القرية ولا تقيمه مجاناً لأنهم لم يقوموا بحق الضيافة ونحن بحاجة إلى ما ننفقه على أنفسنا، وفيه إشارة إلى أن نفقة الأتباع على المتبوع‏.‏

وهذا اللوم يتضمن سؤالاً عن سبب ترك المشارطة على إقامة الجدار عند الحاجة إلى الأجر، وليس هو لوماً على مجرد إقامته مجاناً، لأن ذلك من فعل الخير وهو غير ملوم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لاتّخذتَ بهمزة وصل بعد اللام وبتشديد المثناة الفوقية على أنه ماضي ‏(‏اتخذ‏)‏‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عَمرو، ويعقوب لتَخِذْتَ بدون همزة على أنه ماضي ‏(‏تَخِذ‏)‏ المفتتح بتاء فوقية على أنه ماضي ‏(‏تخذ‏)‏ أوله فوقية، وهو من باب علم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 82‏]‏

‏{‏قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

المشار إليه بلفظ ‏{‏هذا‏}‏ مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا، كما يقال‏:‏ الشرطُ أمْلَك عليك أمْ لك‏.‏ وكثيراً ما يكون المشار إليه مقدراً في الذهن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك الدار الآخرة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وإضافة ‏{‏فراق‏}‏ إلى ‏{‏بيتي‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏ وأصله‏:‏ فراقٌ بيني، أي حاصل بيننا، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله، كما يضاف المصدر إلى مفعوله‏.‏ وقد تقدم خروج ‏(‏بين‏)‏ عن الظرفية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما بلغا مجمع بينِهما‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏سأُنْبِئُك‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، تقع جواباً لسؤال يهجس في خاطر موسى عليه السلام عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر عليه السلام وسأله عنها موسى فإنه قد وعده أن يُحدث له ذكراً مما يفعله‏.‏

والتأويل‏:‏ تفسير لشيء غير واضح، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع‏.‏ شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه‏.‏ وقد مضى في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير، وأيضاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون‏}‏ الخ‏.‏‏.‏ من أول سورة آل عمران ‏(‏7‏)‏‏.‏

وفي صلة الموصول من قوله مَا لَمْ تَسْتطِع عليه صَبْراً‏}‏ تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله ‏{‏فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً‏}‏‏.‏

والمساكين‏:‏ هنا بمعنى ضعَفاء المال الذين يرتزقون من جهدهم ويُرَق لهم لأنهم يكدحون دهرهم لتحصيل عيشهم‏.‏ فليس المراد أنهم فقراء أشدّ الفقر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ بل المراد بتسميتهم بالفقراء أنهم يُرق لهم كما قال الحريري في المقامة الحادية والأربعين‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ مسكين ابن آدم وأيّ مسكين»‏.‏

وكان أصحاب السفينة هؤلاء عملة يأجرون سفينتهم للحمل أو للصيد‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏وكَانَ وَراءَهُم ملِكٌ‏}‏‏:‏ هو ملك بلادهم بالمرصاد منهم ومن أمثالهم يسخّر كل سفينة يجدها غصباً، أي بدون عوض‏.‏ وكان ذلك لنقل أمور بناء أو نحوه مما يستعمله الملِك في مصالح نفسه وشهواته، كما كان الفراعنة يسخرون الناس للعمل في بناء الأهرام‏.‏

ولو كان ذلك لمصلحة عامة للأمة لجاز التسخير من كلّ بحسب حاله من الاحتياج لأنّ ذلك فرض كفاية بقدر الحاجة وبعد تحققها‏.‏

و ‏{‏وراءَ اسم الجهة التي خلفَ ظهر من أضيف إليه ذلك الاسم، وهو ضد أمام وقدّام‏.‏

ويستعار ‏(‏الوراء‏)‏ لحال تعقب شيء شيئاً وحال ملازمة طلب شيء شيئاً بحق وحال الشيء الذي سيأتي قريباً، كلّ ذلك تشبيه بالكائن خلف شيء لا يلبث أن يتصل به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ‏}‏ في ‏[‏الجاثية‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقال لبيد‏:‏

أليس ورائي أن تراختْ منيتي *** لزُوم العصا تُحنى عليها الأصابع

وبعض المفسرين فسروا وَرَاءَهُم مَّلِكٌ‏}‏ بمعنى أمامهم ملك، فتوهم بعض مدوني اللغة أن ‏(‏وراء‏)‏ من أسماء الأضداد، وأنكره الفراء وقال‏:‏ لا يجوز أن تقول للذي بين يديك هو وراءك، وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي تقول‏:‏ وراءك بَرد شديد، وبين يديك بَرد شديد‏.‏ يعني أنّ ذلك على المجاز‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وليس من الأضداد كما زعم بعض أهل اللّغة‏.‏

ومعنى ‏{‏كلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً‏}‏ أي صالحة، بقرينة قوله ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏، وقد ذكروا في تعيين هذا الملك وسبب أخذه للسفن قصصاً وأقوالاً لم يثبت شيء منها بعينه، ولا يتعلّق به غرض في مقام العبرة‏.‏

وجملة ‏{‏فَأَرَدتُّ أنْ أعِيبَهَا‏}‏ متفرعة على كل من جملتي ‏{‏فَكَانت لمساكين‏}‏، و‏{‏وكَانَ وَراءَهُم ملِكٌ‏}‏، فكان حقها التأخير عن كلتا الجملتين بحسب الظاهر، ولكنها قدمت خلافاً لمقتضى الظاهر لقصد الاهتمام والعناية بإرادة إعابة السفينة حيث كان عملاً ظاهره الإنكار وحقيقته الصلاح زيادة في تشويق موسى إلى علم تأويله، لأن كون السفينة لمساكين مما يزيد السامع تعجباً في الإقدام على خرقها‏.‏ والمعنى‏:‏ فأردت أن أعيبها وقد فعلت‏.‏ وإنما لم يقل‏:‏ فعبتها، ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل‏.‏

وقد تطلق الإرادة على القصد أيضاً‏.‏ وفي «اللسان» عزو ذلك إلى سيبويه‏.‏

وتصرفُ الخضر في أمر السفينة تصرف برَعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء إذ كان الخضر عالماً بحال الملك، أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي، فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضرين‏.‏ وهذا أمر خفي لم يطلع عليه إلاّ الخضر، فلذلك أنكره موسى‏.‏

وأما تصرفه في قتل الغلام فتصرف بوحي من الله جارٍ على قطع فساد خاص علمه الله وأعلم به الخضر بالوحي، فليس من مقام التشريع، وذلك أنّ الله علم من تركيب عقل الغلام وتفكيره أنه عقل شاذ وفكر منحرف طبع عليه بأسباب معتادة من انحراف طبع وقصور إدراك، وذلك من آثار مفضية إلى تلك النفسية وصاحبها في أنه ينشأ طاغياً كافراً‏.‏ وأراد الله اللّطف بأبويه بحفظ إيمانهما وسلامة العالَم من هذا الطاغي لطفاً أرادهُ الله خارقاً للعادة جارياً على مقتضى سبق علمه، ففي هذا مصلحة للدّين بحفظ أتباعه من الكفر، وهو مصلحة خاصة فيها حفظ الدين، ومصلحة عامة لأنه حقّ لله تعالى فهو كحكم قتل المرتد‏.‏

والزّكاة‏:‏ الطهارة، مراعاة لقول موسى ‏{‏أقتلت نفساً زاكية‏.‏

والرُحْم‏:‏ بضم الراء وسكون الحاء‏:‏ نظير الكُثْر للكثرة‏.‏

والخشية‏:‏ توقع ذلك لو لم يتدارك بقتله‏.‏

وضميرا الجماعة في قوله فَخَشِيَنَا‏}‏ وقوله ‏{‏فَأَرَدْنَا‏}‏ عائدان إلى المتكلم الواحد بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل‏.‏ وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأنّ الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال‏:‏ ‏{‏فَخَشِينَا فَأَرَدْنَا‏}‏، ولم يقل مثله عندما قال ‏{‏فَأَرَدتُ أنْ أعِيبَها‏}‏ لأنّ سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع‏.‏

وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏79‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور أنْ يُبَدِّلَهُمَا‏}‏ بفتح الموحدة وتشديد الدال من التبديل‏.‏ وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بسكون الموحدة وتخفيف الدال من الإبدال‏.‏

وأما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة‏.‏ وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري‏}‏ تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها‏.‏

ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال ‏{‏وما فعلته عن أمري‏}‏ علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى‏.‏ وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول‏:‏ وفعلته عن أمر ربّي، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ‏.‏

وانتصب ‏{‏رحْمَةً‏}‏ على المفعول لأجله فينازعه كل من ‏(‏أردتُ‏)‏، و‏(‏أردنَا‏)‏، و‏(‏أراد ربّك‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً‏}‏ فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله ‏{‏أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين‏}‏، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه‏.‏

و ‏{‏تَسْطِعْ مضارع ‏(‏اسطاع‏)‏ بمعنى ‏(‏استطاع‏)‏‏.‏ حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء، والمخالفةُ بينه وبين قوله سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً‏}‏ للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه‏.‏ وابتدئ بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر ‏{‏تَسْتَطِع‏}‏ يحصل من تكريره ثقل‏.‏

وأكد الموصول الأول الواقع في قوله ‏{‏سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً‏}‏ تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر‏.‏

واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة‏.‏

فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه‏.‏

وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي، وسموه الوحي الإلهامي، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه «الفتوحات المكية»، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين، والثامن والستين بعد المائتين، والرابع والستين بعد ثلاثمائة، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة، وأطال في ذلك، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة‏.‏ وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم‏.‏ وقد تعرض لها النسفي في «عقائده»، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط‏.‏

والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي، لقوله ‏{‏وما فعلته عن أمري‏}‏، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم‏.‏

فكونوا على حذر ممن يقول‏:‏ أخبرني الخَضر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

افتتاح هذه القصة ب ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ‏}‏ يدلّ عل أنها مما نزلت السورة للجواب عنه كما كان الابتداء بقصة أصحاب الكهف اقتضاباً تنبيهاً على مثل ذلك‏.‏

وقد ذكرنا عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏85‏)‏ عن ابن عباس‏:‏ أن المشركين بمكة سألوا النبي ثلاثة أسئلة بإغراء من أحبار اليهود في يثرب‏.‏ فقالوا‏:‏ سلوه عن أهل الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها كلها فليس بنبيء‏.‏ وإن أجاب عن بعضها وأمسك عن بعض فهو نبيء‏؟‏‏.‏ وبيّنا هنالك وجه التعجيل في سورة الإسراء النازلة قبل سورة الكهف بالجواب عن سؤالهم عن الروح وتأخير الجواب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين إلى سورة الكهف‏.‏ وأعقبنا ذلك بما رأيناه في تحقيق الحق من سَوق هذه الأسئلة الثلاثة في مواقع مختلفة‏.‏

فالسائلون‏:‏ قريش لا محالة، والمسؤول عنه‏:‏ خبر رجل من عظماء العالم عرف بلقب ذي القرنين، كانت أخبار سيرته خفيّة مُجملة مغلقة، فسألوا النبي عن تحقيقها وتفصيلها، وأذن له الله أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون الصلاح والعدل، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق، فكان أحْبار اليهود منفردين بمعرفة إجمالية عن هذه المسائل الثلاث وكانت من أسرارهم فلذلك جَرّبوا بها نبوءة محمد‏.‏

ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حِكميةً أو خُلقيةً فلذلك قال الله‏:‏ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنهُ ذِكراً‏}‏‏.‏

والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره، فحذف المضاف إيجازاً لدلالة المقام، وكذلك حذف المضاف في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ أي من خبره و‏(‏مِن‏)‏ تبعيضية‏.‏

والذكر‏:‏ التذكر والتفكر، أي سأتلو عليكم ما به التذكر، فجعل المتلو نفسه ذكراً مبالغة بالوصف بالمصدر، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تُساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية‏.‏

اختلف المفسرون في تعيين المسمى بذي القرنين اختلافاً كثيراً تفرقت بهم فيه أخبار قصصية وأخبار تاريخية واسترواح من الاشتقاقات اللفظية، ولعل اختلافهم له مزيد اتصال باختلاف القصّاصين الذين عُنوا بأحوال الفاتحين عناية تخليط لا عناية تحقيق فراموا تطبيق هذه القصة عليها‏.‏ والذي يجب الانفصال فيه بادئ ذي بدء أن وصفه بذي القرنين يتعين أن يكون وصفاً ذاتياً له وهو وصف عربي يظهر أن يكون عرف بمدلوله بين المثيرين للسؤال عنه فترجموه بهذا اللفظ‏.‏

ويتعين أن لا يحمل القرنان على الحقيقة، بل هما على التشبيه أو على الصورة‏.‏ فالأظهر أن يكونا ذُؤابتين من شعر الرأس متدليتين، وإطلاق القرن على الضفيرة من الشعر شائع في العربية، قال عُمر بن أبي ربيعة‏:‏

فلثمت فاها آخذاً بقُرونها *** شُرب النزيف ببرَد ماء الحشرج

وفي حديث أم عطية في صفة غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم قالت أم عطية‏:‏ «فجعلنا رأسها ثلاثة قرون»، فيكون هذا الملك قد أطال شعر رأسه وضفره ضفيرتين فسمي ذا القرنين، كما سمّي خِربَاق ذا اليدين‏.‏

وقيل‏:‏ هما شبه قرني الكبش من نحاس كانا في خوذة هذا الملك فنُعت بهما‏.‏ وقيل‏:‏ هما ضربتان على موضعين من رأس الإنسان يشبهان منبتي القرنين من ذوات القرون‏.‏

ومن هنا تأتي الأقوال في تعيين ذي القرنين، فأحد الأقوال‏:‏ إنه الإسكندر بن فيليبوس المقدوني‏.‏ وذكروا في وجه تلقيبه بذي القرنين أنه ضفر شعره قرنين‏.‏ وقيل‏:‏ كان يلبس خوذة في الحرب بها قرنان، وقيل‏:‏ رسم ذاته على بعض نقوده بقرنين في رأسه تمثيلاً لنفسه بالمعبود ‏(‏آمون‏)‏ معبود المصريين وذلك حين ملَك مصر‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إنه ملك من ملوك حمير هو تُبّع أبو كرب‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أنه ملك من ملوك الفرس وأنه ‏(‏أفريدون بن أثفيان بن جمشيد‏)‏‏.‏ هذه أوضح الأقوال، وما دونها لا ينبغي التعويل عليه ولا تصحيح روايته‏.‏

ونحن تجاه هذا الاختلاف يحق علينا أن نستخلص من قصته في هذه الآية أحوالاً تقرّب تعيينه وتزييف ما عداه من الأقوال، وليس يجب الاقتصار على تعيينه من بين أصحاب هذه الأقوال بل الأمر في ذلك أوسع‏.‏

وهذه القصة القرآنية تعطي صفات لا محيد عنها‏:‏

إحداها‏:‏ أنه كان ملكاً صالحاً عادلاً‏.‏

الثانية‏:‏ أنه كان ملهَماً من الله‏.‏

الثالثة‏:‏ أن مُلكه شمل أقطاراً شاسعة‏.‏

الرابعة‏:‏ أنه بلغ في فتوحه من جهة المغرب مكاناً كان مجهولاً وهو عين حَمئة‏.‏

الخامسة‏:‏ أنه بلغ بلاد يأجوج ومأجوج، وأنها كانت في جهة مما شمله ملكه غير الجهتين الشرقية والغربية فكانت وسطاً بينهما كما يقتضيه استقراء مبلغ أسبابه‏.‏

السادسة‏:‏ أنه أقام سدّاً يحول بين ياجوج وماجوج وبين قوم آخرين‏.‏

السابعة‏:‏ أن ياجوج وماجوج هؤلاء كانوا عائثين في الأرض فساداً وأنهم كانوا يفسدون بلاد قوم موالين لهذا الملك‏.‏

الثامنة‏:‏ أنه كان معه قوم أهل صناعة متقنة في الحديد والبناء‏.‏

التاسعة‏:‏ أن خبره خفيّ دقيق لا يعلمه إلاّ الأحبار علماً إجمالياً كما دل عليه سبب النزول‏.‏

وأنت إذا تدبرت جميع هذه الأحوال نفيت أن يكون ذو القرنين إسكندر المقدوني لأنه لم يكن ملكاً صالحاً بل كان وثنياً فلم يكن أهلاً لتلقي الوحي من الله وإن كانت له كمالات على الجملة، وأيضاً فلا يعرف في تاريخه أنه أقام سُدّاً بين بلدَين‏.‏

وأما نسبة السد الفاصل بين الصين وبين بلاد ياجوج وماجوج إليه في كلام بعض المؤرخين فهو ناشئ عن شهرة الإسكندر، فتوهم القصاصون أن ذلك السد لا يكون إلاّ من بنائه، كما توهم العرب أن مدينة تَدمر بناها سليمان عليه السلام‏.‏ وأيضاً فإن هيرودوتس اليوناني المؤرخ ذكر أن الإسكندر حارب أمة ‏(‏سكيثوس‏)‏‏.‏ وهذا الاسم هو اسم ماجوج كما سيأتي قريباً‏.‏

وأحسب أن لتركيب القصة المذكورة في هذه السورة على اسم اسكندر المقدوني أثراً في اشتهار نسبة السد إليه‏.‏ وذلك من أوهام المؤرخين في الإسلام‏.‏

ولا يعرف أن مملكة إسكندر كانت تبلغ في الغرب إلى عين حمئة، وفي الشرق إلى قوم مجهولين عُراة أو عديمي المساكِن، ولا أن أمته كانت تلقبه بذي القرنين‏.‏ وإنما انتحل هذا اللقب له لما توهموا أنه المعْنيّ بذي القرنين في هذه الآية، فمنحه هذا اللقب من مخترعات مؤرخي المسلمين، وليس رسم وجهه على النقود بقرنين مما شأنه أن يلقب به‏.‏ وأيضاً فالإسكندر كانت أخباره مشهورة لأنه حارب الفرس والقبط وهما أمّتان مجاورتان للأمة العربية‏.‏

ومثل هذه المبطلات التي ذكرناها تتأتى لإبطال أن يكون الملكُ المتحدث عنه هو أفريدون، فإما أن يكون من تبابعة حمير فقد يجوز أن يكون في عصر متوغل في القدم‏.‏ وقد توهم بعض المفسرين أنه كان معاصراً إبراهيم عليه السلام وكانت بلاده التي فتحها مجهولة المواقع‏.‏ ولكن يبعد أن يكون هو المراد لأن العرب لا يعرفون من خبره مثل هذا، وقد ظهر من أقوالهم أنّ سبب هذا التوهم هو وجود كلمة ‏(‏ذو‏)‏ التي اشتهر وجود مثلها في ألقاب ملوك اليمن وتبابعته‏.‏

فالذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكاً من ملوك الصين لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع‏.‏

الثاني‏:‏ أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة‏.‏

الثالث‏:‏ أن من سماتهم تطويل شعر رؤوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين‏.‏

الرابع‏:‏ أن سُداً ورَدْماً عظيماً لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المَغُول، وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم، وسيرد وصفه‏.‏

الخامس‏:‏ ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فقال‏:‏ «ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا» وأشار بعقد تسعين ‏(‏أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام‏)‏‏.‏ وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن ياجوج وماجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم، وأن وصفه في القرآن بذي القرنين توصيف لا تلقيب فهو مثل التعبير عن شَاول ملك إسرائيل باسم طالوت‏.‏

وهذا الملك هو الذي بنى السدّ الفاصل بين الصين ومنغوليا‏.‏ واسم هذا الملك ‏(‏تْسِينْشِي هْوَانْفتي‏)‏ أو ‏(‏تْسِينْ شِي هْوَانْقْ تِي‏)‏‏.‏ وكان موجوداً في حدود سنة سبع وأربعين ومائتين قبل ميلاد المسيح فهو متأخر عن إسكندر المقدوني بنحو قرن‏.‏ وبلاد الصين في ذلك العصر كانت متدينة بدين ‏(‏كنفيشيوس‏)‏ المشرع المصلح، فلا جرم أن يكون أهل شريعته صالحين‏.‏

وهذا الملك يؤخذ من كتب التاريخ أنه ساءت حالته في آخر عمره وأفسد كثيراً وقتل علماء وأحرق كتباً، والله أعلم بالحقيقة وبأسبابها‏.‏

ولما ظن كثير من الناس أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو إسكندر بن فيليبوس نحلوه بناء السدّ‏.‏ وزعموه من صنعه كما نحلوه لقب ذي القرنين‏.‏ وكل ذلك بناء أوهام على أوهام ولا أساس لواحِد منهما ولا علاقة لإسكندر المقدوني بقصة ذي القرنين المذكورة في هذه السورة‏.‏

والأمر في قوله ‏{‏قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم‏}‏ إذن من الله لرسوله بأن يَعد بالجواب عن سؤالهم عملاً بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله‏}‏ على أحد تأويلين في معناه‏.‏

والسين في قول ‏{‏سَأَتْلُوا عَلَيْكُم‏}‏ لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربّي‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏98‏)‏‏.‏

وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكراً للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوةً حسب شأن القرآن فإنّه يُتلى لأجل الذكر ولا يُساق مساق القصص‏.‏

وقوله مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكراً وعظة‏.‏ ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف‏:‏ نحن نقصّ عليك من نبئهم، لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر، وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا‏.‏

وحرف ‏(‏من‏)‏ في قوله ‏{‏مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ للتبعيض باعتبار مضاف محذوف، أي من خبره‏.‏

والتمكين‏:‏ جعل الشيء متمكناً، أي راسخاً، وهو تمثيل لقوّة التصرف بحيث لا يزعزع قوته أحد‏.‏ وحق فعل ‏(‏مكنّا‏)‏ التعدية بنفسه، فيقال‏:‏ مكّناه في الأرض كقوله ‏{‏مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فاللام في قوله‏:‏ مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ‏}‏ للتوكيد كاللام في قولهم‏:‏ شكرت له، ونصحت له، والجمْع بينهما تفنن‏.‏ وعلى ذلك جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فمعنى التمكين في الأرض إعطاء المقدرة على التصرف‏.‏

والمراد بالأرض أهل الأرض، والمراد بالأرض أرض معينة وهي أرض مُلكه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

والسبب‏:‏ حقيقته الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتقطعت بهم الأسباب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏166‏)‏‏.‏

و كُلّ شَيْءٍ‏}‏ مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 97‏]‏ أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

السبب‏:‏ الوسيلة‏.‏ والمراد هنا معنى مجازي وهو الطريق، لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود، وقرينة المجاز ذكر الاتباع والبلوغ في قوله‏:‏ ‏{‏فأتبع سبباً حتى إذا بلغ مغرب الشمس‏.‏‏}‏ والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وءاتيناه مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً‏}‏ إظهار اسم السبب دون إضماره، لأنه لما أريد به معنى غير ما أُريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيهاً على اختلاف المعنيين، أي فاتبع طريقاً للسير وكان سيره للغزو، كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ‏}‏‏.‏

ولم يعدّ أهل اللغة معنى الطريق في معاني لفظ السبب لعلهم رأوه لم يكثر وينتشر في الكلام‏.‏ ويظهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أسباب السموات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏ من هذا المعنى‏.‏ وكذلك قول زهير‏:‏

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ***

أي هاب طرق المنايَا أن يسلكها تنله المنايا، أي تأتيه، فذلك مجاز بالقرينة‏.‏

والمراد ب ‏{‏مَغْرِبَ الشَّمْسِ‏}‏ مكان مغرب الشمس من حيث يلوح الغروب من جهات المعمور من طريق غزوته أو مملكته‏.‏ وذلك حيث يلوح أنه لا أرض وراءه بحيث يبدو الأفق من جهة مستبحرة، إذ ليس للشمس مغرب حقيقي إلا فيما يلوح للتخيل‏.‏ والأشبه أن يكون ذو القرنين قد بلغ بحر الخزر وهو بحيرة قزوين فإنها غرب بلاد الصين‏.‏

والقول في تركيب ‏{‏حتى إذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ‏}‏ كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا ركبا في السفينة خرقها‏}‏‏.‏

والعين‏:‏ منبع ماء‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص ‏{‏في عيننٍ حمئة مهموزاً مشتقاً من الحمأة، وهو الطين الأسود‏.‏ والمعنى‏:‏ عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف‏.‏

وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف‏:‏ في عين حامية بألف بعد الحاء وياء بعد الميم، أي حارة من الحمو وهو الحرارة، أي أن ماءها سخن‏.‏

ويظهر أن هذه العين من عيون النفْط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة ‏(‏باكو‏)‏، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفاً يومئذ‏.‏ والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة‏.‏

وتنكير قَوْماً‏}‏ يؤذن بأنهم أمّة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم‏.‏

فجملة ‏{‏قُلْنا ياذا القَرْنَيْنِ‏}‏ استئناف بياني لما أشعر به تنكير ‏{‏قَوْماً‏}‏ من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين‏.‏

وقد دل قوله‏:‏ ‏{‏إمَّا أن تُعَذّبَ وإمَّا أن تَتَّخِذَ فِيهمْ حُسْناً‏}‏ على أنهم مستحقون للعذاب، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل‏.‏

وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام، أي ألقينا في نفسه تردداً بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل، ويكون قوله ‏{‏قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ‏}‏، أي قال في نفسه معتمداً على حالة وسط بين صورتي التردد‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذا القرنين كان نبيئاً يوحى عليه فيكون القول كلاماً موحىً به إليه يخيّره فيه بين الأمرين، مثل التخيير الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما منا بعد وإما فداء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ‏}‏ جواباً منه إلى ربّه‏.‏ وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله‏:‏ ‏{‏ففهمناها سليمان‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

و ‏{‏حُسْناً‏}‏ مصدر‏.‏ وعدل عن ‏(‏أن تحسن إليهم‏)‏ إلى ‏{‏أن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسناً‏}‏ مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتّخذ فيهم نفس الحُسن، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولوا للناس حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما‏.‏

والظلم‏:‏ الشرك، بقرينة قسيمه في قوله ‏{‏وأما من آمن وعمل صالحاً‏}‏‏.‏

واجتلاب حرف الاستقبال في قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ‏}‏ يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصرّ على الكفر يعذبه‏.‏ وقد صرح بهذا المفهوم في قوله ‏{‏وأمَّا مَن ءَامَنَ وعَمِلَ صالحا‏}‏ أي آمن بعد كفره‏.‏ ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير‏.‏

والمعنى‏:‏ فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال‏:‏ ‏{‏ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً‏}‏ وذلك عذاب الآخرة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏جزاءُ الحسنى بإضافة جزاء إلى الحسنى على الإضافة البيانية‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وخلف جزاءً الحسنى بنصب جزاءً منوناً على أنه تمييز لنسبة استحقاقه الحسنى، أو مصدر مؤكد لمضمون جملة فَلَهُ جَزَاءً الحُسْنَى‏}‏، أو حال مقدمة على صاحبها باعتبار تعريف الجنس كالتنكير‏.‏

وتأنيث ‏{‏الحُسْنَى‏}‏ باعتبار الخصلة أو الفعلة‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏الحسنى‏}‏ هي الجنة كما في قوله ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والقول اليسر‏:‏ هو الكلام الحسن، وصف باليسر المعنوي لكونه لا يثقل سماعه، وهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل لهم قولاً ميسوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 28‏]‏ أي جميلاً‏.‏

فإن كان المراد من ‏{‏الحسنى‏}‏ الخصال الحسنى، فمعنى عطف ‏{‏وسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أمْرِنَا يُسْراً‏}‏ أنه يجازَى بالإحسان وبالثناء، وكلاهما من ذي القرنين، وإن كان المراد من ‏{‏الحُسْنَى‏}‏ ثواب الآخرة فذلك من أمر الله تعالى وإنما ذو القرنين مُخبر به خبراً مستعملاً في فائدة الخبر، على معنى‏.‏ إنا نُبشره بذلك، أو مستعملاً في لازم الفائدة تأدباً مع الله تعالى، أي أني أعلم جزاءه عندك الحسنى‏.‏

وعطف عليه ‏{‏وسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً‏}‏ لبيان حظ الملك من جزائه وأنه البشارة والثناء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

تقدم خلاف القراء في ‏{‏فَأتْبَعَ سَبَباً‏}‏ فهو كذلك هنا‏.‏

ومطلع الشمس‏:‏ جهة المشرق من سلطانه ومملكته، بلغ جهة قاصية من الشرق حيث يُخال أن لا عمران وراءها، فالمطلع مكان الطلوع‏.‏

والظاهر أنه بلغ ساحل بحر اليابان في حدود منشوريا أو كوريا شرقاً، فوجد قوماً تطلع عليهم الشمس لا يسترهم من حرها، أي لا جبل فيها يستظلون بظلّه ولا شجر فيها، فهي أرض مكشوفة للشمس، ويجوز أن يكون المعنى أنهم كانوا قوماً عراة فكانوا يتّقون شعاع الشمس في الكهوف أو في أسراب يتخذونها في التراب‏.‏ فالمراد بالستر ما يستر الجسد‏.‏

وكانوا قد تعودوا ملاقاة حرّ الشمس، ولعلهم كانوا يتعرضون للشمس ليدفعوا عن أنفسهم ما يلاقونه من القُر ليلاً‏.‏

وفي هذه الحالة عبرة من اختلاف الأمم في الطبائع والعوائد وسيرتهم على نحو مناخهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

الكاف للتشبيه، والمشبه به شيء تضمنه الكلام السابق بلفظه أو معناه‏.‏

والكاف ومجرورها يجوز أن يكون شِبه جملة وقع صفة لمصدر محذوف يدلّ عليه السياق، أي تشبيهاً مماثلاً لما سمعت‏.‏

واسم الإشارة يشير إلى المحذوف لأنه كالمذكور لتقرر العلم به، والمعنى‏:‏ من أراد تشبيهه لم يشبهه بأكثر من أن يشبهه بذاته على طريقة ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

ويجوز أن يكون جزء جملة حذف أحد جزأيها والمحذوف مبتدأ‏.‏ والتقدير‏:‏ أمر ذي القرنين كذلك، أي كما سمعت‏.‏

ويجوز أن يكون صفة ل قَوْماً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً‏}‏ أي قوماً كذلك القوم الذين وجدهم في مغرب الشمس، أي في كونهم كفاراً، وفي تخييره في إجراء أمرهم على العقاب أو على الإمهال‏.‏ ويجوز أن يكون المجرور جزء جملة أيضاً جلبت للانتقال من كلام إلى كلام فيكون فصل خطاب كما يقال‏:‏ هذا الأمر كذا‏.‏

وعلى الوجوه كلها فهو اعتراض بين جملة ‏{‏ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ مطلع الشمس‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وجملة ‏{‏ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 92، 93‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏

هذه الجملة حال من الضمير المرفوع في ثم اتبع وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً‏}‏‏.‏

و ‏{‏بِما لَدَيهِ‏}‏‏:‏ ما عنده من عظمة الملك من جند وقوّة وثروة‏.‏

والخبرُ بضم الخاء وسكون الموحدة‏:‏ العلم والإحاطة بالخبر، كناية عن كون المعلوم عظيماً بحيث لا يحيط به علماً إلاّ علاّم الغيوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 98‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏‏}‏

السدّ بضم السين وفتحها‏:‏ الجبل‏.‏ ويطلق أيضاً على الجدار الفاصل، لأنه يسد به الفضاء، وقيل‏:‏ الضم في الجبل والفتح في الحاجز‏.‏

وقرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف، ويعقوب بضم السين وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم بفتح السين على لغة عدم التفرقة‏.‏

والمراد ‏{‏بالسدين هنا الجبلان، وبالسد المفرد الجدار الفاصل، والقرينة هي التي عيّنت المراد من هذا اللفظ المشترك‏.‏

وتعريف السَّدَّيْنِ‏}‏ تعريف الجنس، أي بين سدّين معينين، أي اتبع طريقاً آخر في غزوه حتى بلغ بين جبلين معلومين‏.‏

ويظهر أن هذا السبب اتّجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق، فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب‏.‏ وعينه المفسّرون أنه للشمال، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني، فقالوا‏:‏ إن جهة السدّين بين ‏(‏أرمينيا وأذربيجان‏)‏‏.‏ ونحن نبني على ما عيّناه في الملقب بذي القرنين، فنقول‏:‏ إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء ‏(‏قوبِي‏)‏ الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب ‏(‏منغوليا‏)‏‏.‏ وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثارهُ إلى اليوم شاهدَها الجغرافيون والسائحون وصورت صوراً شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية‏.‏

ومعنى ‏{‏لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً‏}‏ أنهم لا يعرفون شيئاً من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يَفْقَهُونَ‏}‏ بفتح الياء التحتية وفتح القاف أي لا يفهمون قول غيرهم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي بضم الياء وكسر القاف أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم‏.‏ والمعنيان متلازمان‏.‏ وهذا كما في حديث الإيمان‏:‏ «نسمع دويّ صوته ولا نفهم ما يقول»‏.‏

وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج، وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج‏.‏ ولم يذكر المفسرون تعيين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلهم سوى أنهم قالوا‏:‏ هم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوماً صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتاخم بلاد المغول والتّتر‏.‏

وجملة ‏{‏قَالُوا‏}‏ استئناف للمحاورة‏.‏ وقد بينا في غير موضع أن جمل حكاية القول في المحاورات لا تقترن بحرف العطف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏ فعلى أول الاحتمالين في معنى ‏{‏لا يَكَادونَ يَفْقَهونَ قَولاً‏}‏ أنهم لا يدركون ما يطلب منهم من طاعة ونظام ومع ذلك يعربون عما في نفوسهم من الأغراض مثل إعراب الأطفال، وعلى الاحتمال الثاني أنهم أمكنهم أن يفهم مرادهم بعد لأي‏.‏

وافتتاحهم الكلام بالنداء أنهم نادوه نداء المستغيثين المضطرين، ونداؤهم إياه بلقب ذي القرنين يدل على أنه مشهور بمعنى ذلك اللقب بين الأمم المتاخمة لبلاده‏.‏

وياجوج وماجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين، وهم المغول وبعض أصناف التتار‏.‏ وهذا هو المناسب لأصل رسم الكلمة ولا سيما على القول بأنهما اسمان عربيان كما سيأتي فقد كان الصنفان متجاورين‏.‏

ووقع لعلماء التاريخ وعلماء الأنساب في اختلاف إطلاق اسمي المغول والتتار كل على ما يطلق عليه الآخر لعسر التفرقة بين المتقاربين منهما، وقد قال بعض العلماء‏:‏ إن المغول هم ماجوج بالميم اسم جد لهم يقال له أيضاً ‏(‏سكيثوس‏)‏ وربما يقال له ‏(‏جيته‏)‏‏.‏ وكان الاسم العام الذي يجمع القبيلتين ماجوج ثم انقسمت الأمة فسميت فروعها بأسماء خاصة، فمنها ماجوج وياجوج وتتر ثم التركمان ثم الترك‏.‏ ويحتمل أن الواو المذكورة ليست عاطفة ولكنها جاءت في صورة العاطفة فيكون اللفظ كلمة واحدة مركبة تركيباً مزجياً، فيتكون اسماً لأمة وهم المغول‏.‏

والذي يجب اعتماده أن ياجوج وماجوج هم المغول والتتر‏.‏ وقد ذكر أبو الفداء أن ماجوج هم المغول فيكون ياجوج هم التتر‏.‏ وقد كثرت التتر على المغول فاندمج المغول في التتر وغلب اسم التتر على القبيلتين‏.‏ وأوضح شاهد على ذلك ما ورد في حديث أمّ حبيبة عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول‏:‏ «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج مثل هذه»‏.‏ وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها‏.‏ وقد تقدم آنفاً‏.‏

ولا يعرف بالضبط وقت انطلاقهم من بلادهم ولا سبب ذلك‏.‏ ويقدّر أن انطلاقهم كان أواخر القرن السادس الهجري‏.‏ وتشتت ملك العرب بأيدي المغول والتتر من خروج جنكيز خان المغولي واستيلائه على بخارى سنة ست عشرة وستمائة من الهجرة ووصلوا ديار بكر سنة 628هـ ثم ما كان من تخريب هولاكو بغداد عاصمة ملك العرب سنة 660هـ‏.‏

ونظير إطلاق اسمين على حي مؤتلف من قبيلتين إطلاق طسم وجديس على أمّة من العرب البائدة، وإطلاق السكاسك والسكرن في القبائل اليمنية، وإطلاق هلال وزغبة على أعراب إفريقية الواردين من صعيد مصر، وإطلاق أولاد وزاز وأولاد يحيى على حيّ بتونس بالجنوب الغربي، ومَرَادة وفِرْجان على حي من وطن نابل بتونس‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ياجوج وماجوج‏}‏ كلتيهما بألف بعد التحتية بدون همز، وقرأه عاصم بالهمز‏.‏

واختلف المفسرون في أنه اسم عربي أو معرّب، وغالب ظني أنه اسم وضعه القرآن حاكى به معناه في لغة تلك الأمة المناسب لحال مجتمعهم فاشتق لهما من مادة الأج، وهو الخلط، إذ قد علمت أن تلك الأمة كانت أخلاطاً من أصناف‏.‏

والاستفهام في قوله ‏{‏فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ‏}‏، مستعمل في العَرض‏.‏

والخرْج‏:‏ المال الذي يدفع للملك‏.‏ وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء في قراءة الجمهور‏.‏ ويقال فيه الخراج بألف بعد الراء، وكذلك قرأه حمزة، والكسائي، وخلف‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سُدًّا بضم السين وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، وحمزة، والكسائي، وخلف بفتح السين‏.‏

وقوله ما مكَّنّي فِيه ربِّي خيرٌ‏}‏ أي ما آتاني الله من المال والقوة خير من الخراج الذي عرضتموه أو خير من السد الذي سألتموه، أي ما مكنني فيه ربي يأتي بخير مما سألتم، فإنه لاح له أنه إن سد عليهم المرور من بين الصدفين تحيلوا فتسلقوا الجبال ودخلوا بلاد الصين، فأراد أن يبني سُوراً ممتداً على الجبال في طول حدود البلاد حتى يتعذّر عليهم تسلق تلك الجبال، ولذلك سمّاه رَدْماً‏.‏

والردم‏:‏ البناء المردّم‏.‏ شبه بالثوب المردّم المؤتلف من رقاع فوق رقاع، أي سُداً مضاعفاً‏.‏ ولعله بَنى جدارين متباعدين وردم الفراغ الذي بينهما بالتُراب المخلوط ليتعذر نقبه‏.‏

ولما كان ذلك يستدعي عملة كثيرين قال لهم‏:‏ ‏{‏فأعينوني بقوة‏}‏ أي بقوّة الأبدان، أراد تسخيرهم للعمل لدفع الضر عنهم‏.‏

وقد بنى ذو القرنين وهو ‏(‏تْسين شي هوانق تِي‏)‏ سلطان الصين هذا الردم بناء عجيباً في القرن الثالث قبل المسيح وكان يعمل فيه ملايين من الخَدمَة، فجعل طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة كيلومتر‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ ألفا ومائتي ميل، وذلك بحسب اختلاف الاصطلاح في تقدير الميل، وجعل مبدأه عند البحر، أي البحر الأصفر شرقي مدينة ‏(‏بيكنغ‏)‏ عاصمة الصين في خط تجاه مدينة ‏(‏مُكْدن‏)‏ الشهيرة‏.‏ وذلك عند عرض 4، 540 شمالاً، وطول 02، 512 شرقاً، وهو يلاقي النهر الأصفر حيث الطول 50، 5111 شرقاً، والعرض 50، 539 شمالاً، وأيضاً في 375 عرض شمالي‏.‏ ومن هنالك ينعطف إلى جهة الشمال الغربي وينتهي بقرب 599 طولاً شرقياً و540 عرضاً شمالياً‏.‏

وهو مبني بالحجارة والآجر وبعضه من الطين فقط‏.‏

وسمكه عند أسفله نحو 25 قدماً وعند أعلاه نحو 15 قدماً وارتفاعه يتراوح بين 15 إلى 20 قدماً، وعليه أبراج مبنية من القراميد ارتفاع بعضها نحو 40 قدماً‏.‏

وهو الآن بحالة خراب فلم يبق له اعتبار من جهة الدفاع، ولكنه بقي علامة على الحد الفاصل بين المقاطعات الأرضية فهو فاصل بين الصين ومنغوليا، وهو يخترق جبال ‏(‏يابلوني‏)‏ التي هي حدود طبيعية بين الصين وبلاد منغوليا فمنتهى طرَفه إلى الشمال الغربي لصحراء ‏(‏قوبي‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏مَكَّنّي‏}‏ بنون مدغمة، وقرأه ابن كثير بالفك على الأصل‏.‏

وقوله ‏{‏ءَاتُوني زُبَرَ الحَدِيدِ‏}‏ هو أمر لهم بمناولة زبر الحديد‏.‏

فالإيتاء مستعمل في حقيقة معناه وهو المناولة وليس تكليفاً للقوم بأن يجلبوا له الحديد من معادنه لأن ذلك ينافي قوله ‏{‏ما مكَّني فيه ربي خير فأعينوني بقوة‏}‏ أي أنه غني عن تكليفهم إنفاقاً على جعل السدّ‏.‏ وكأن هذا لقصد إقامة أبواب من حديد في مداخل الردم لمرور سيول الماء في شُعَب الجبل حتى لا ينهدم البناء بأن جعل الأبواب الحديدية كالشبابيك تمنع مرور الناس ولا تمنع انسياب الماء من بين قضبها، وجعل قضبان الحديد معضودة بالنحاس المذاب المصبوب على الحديد‏.‏

والزُبَر‏:‏ جمع زُبْرة، وهي القطعة الكبيرة من الحديد‏.‏

والحديد‏:‏ معدن من معادن الأرض يكون قِطعاً كالحَصَى ودون ذلك فيها صلابة‏.‏ وهو يصنف ابتداء إلى صنفين‏:‏ ليّن، ويقال له الحديد الأنثى، وصُلب ويقال له الذكر‏.‏ ثم يُصنف إلى ثمانية عشر صنفاً، وألوانه متقاربة وهي السنجابي، منها ما هو إلى الحمرة، ومنها ما هو إلى البياض، وهو إذا صهر بنار قوية في أتون مغلق التأمت أجزاؤه وتجمعت في وسط النار كالإسفنجة واشتدت صلابته لأنه بالصهر يدفع ما فيه من الأجزاء الترابية وهي المسماة بالصدأ والخبث، فتعلو تلك الأجزاء على سطحه وهي الزبَد‏.‏ وخبَث الحديد الوارد في الحديث‏:‏ ‏"‏ إنّ المدينة تنفي خبَثها كما ينفي الكِيرُ خبث الحديد ‏"‏‏.‏ ولذلك فبمقدار ما يطفو من تلك الأجزاء الغريبة الخبيثة يخلص الجزء الحديدي ويصفو ويصير زُبَراً‏.‏ ومن تلك الزُبر تُصنع الأشياء الحديدية من سيوف وزجاج ودروع ولأمات، ولا وسيلة لصنعه إلاّ الصهر أيضاً بالنار بحيث تصير الزبرة كالجَمر، فحينئذ تُشَكّل بالشكل المقصود بواسطة المطارق الحديدية‏.‏

والعصرُ الذي اهتدى فيه البشر لصناعة الحديد يسمى في التاريخ العصر الحديدي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتَّى إذا سَاوَى بَينَ الصَّدَفَينِ‏}‏ أشعرت ‏{‏حَتَّى‏}‏ بشيء مغيّاً قبلها، وهو كلام محذوف تقديره‏:‏ فآتوه زُبَر الحديد فنضدها وبناها حتى إذا جعل ما بين الصدفين مساوياً لعلو الصدفين‏.‏ وهذا من إيجاز الحذف‏.‏ والمساواة‏:‏ جعل الأشياء متساوية، أي متماثلة في مقدار أو وصف‏.‏

والصدفان بفتح الصاد وفتح الدال في قراءة الجمهور وهو الأشهر‏.‏ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب بضم الصاد والدال، وهو لغة‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الصاد وسكون الدال‏.‏

والصدف‏:‏ جانب الجبل، وهما جانبا الجبلين وهما السدان‏.‏ وقال ابن عطية والقزويني في «الكشف»‏:‏ لا يقال إلاّ صدفان بالتثنية، ولا يقال لأحدهما صَدف لأن أحدهما يصادف الآخر، أي فالصدفان اسم لمجموع الجانبين مثل المِقَصّان لما يقطع به الثوب ونحوه‏.‏ وعن أبي عيسى‏:‏ الصدف كلّ بناء عظيم مرتفع‏.‏

والخطاب في قوله ‏{‏انْفُخُوا‏}‏ وقوله ‏{‏ءَاتُونِي‏}‏ خطاب للعملة‏.‏ وحذف متعلّق ‏{‏انْفُخُوا‏}‏ لظهوره من كون العمل في صنع الحديد‏.‏ والتقدير‏:‏ انفخوا في الكِيرَان، أي الكيران المصفوفة على طول ما بين الصدفين من زُبر الحديد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قَالَ ءَاتُونّي‏}‏ مثل الأول‏.‏ وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم ‏{‏ائتوني على أنه أمر من الإتيان، أي أمرهم أن يحضروا للعمل‏.‏

والقطر‏}‏ بكسر القاف‏:‏ النّحاس المُذاب‏.‏

وضمير ‏{‏اسْطَاعُوَا‏}‏ و‏{‏اسَتَطَاعُوا‏}‏ ليأجوج ومأجوج‏.‏

والظهور‏:‏ العلو‏.‏ والنقب‏:‏ كسر الرّدم، وعدم استطاعتهم ذلك لارتفاعه وصلابته‏.‏

و ‏{‏اسْطَاعُوَا‏}‏ تخفيف ‏{‏اسَتَطَاعُوا‏}‏، والجمع بينهما تفنن في فصاحة الكلام كراهية إعادة الكلمة‏.‏ وابتدئ بالأخف منهما لأنه وليه الهمز وهو حرف ثقيل لكونه من الحلق، بخلاف الثاني إذ وليه اللام وهو خفيف‏.‏

ومقتضى الظاهر أن يُبتدأ بفعل ‏{‏اسَتَطَاعُوا‏}‏ ويثني بفعل ‏{‏اسْطَاعُوَا‏}‏ لأنه يثقل بالتكرير، كما وقع في قوله آنفاً ‏{‏سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏ذلك تأويل ما لم تَسْطِع عليه صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

ومن خصائص مخالفة مقتضى الظاهر هنا إيثار فعل ذي زيادة في المبنى بموقع فيه زيادة المعنى لأن استطاعة نقب السد أقوى من استطاعة تسلقه، فهذا من مواضع دلالة زيادة المبنى على زيادة في المعنى‏.‏

وقرأ حمزة وحده ‏{‏فَما اسْطَّاعوا الأول بتشديد الطاء مدغماً فيها التاء‏.‏

وجملة قال هذا رحمة من ربي‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنه لما آذن الكلام بانتهاء حكاية وصف الردم كان ذلك مثيراً سؤال من يسأل‏:‏ ماذا صدر من ذي القرنين حين أتم هذا العمل العظيم‏؟‏ فيجاب بجملة‏:‏ ‏{‏قال هذا رحمة من ربي‏}‏‏.‏

والإشارة بهذا إلى الرّدم، وهو رحمة للناس لما فيه من ردّ فساد أمّة ياجوج وماجوج عن أمة أخرى صالحة‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ ابتدائية، وجعلت من الله لأنّ الله ألهمه لذلك ويسرّ له ما هو صعب‏.‏

وفرع عليه ‏{‏فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً‏}‏ نطقاً بالحكمة لأنه يعلم أن كل حادث صائر إلى زوال‏.‏ ولأنه علم أن عملاً عظيماً مثل ذلك يحتاج إلى التعهد والمحافظة عليه من الانهدام، وعلم أنّ ذلك لا يتسنى في بعض أزمان انحطاط المملكة الذي لا محيص منه لكلّ ذي سلطان‏.‏

والوعد‏:‏ هو الإخبار بأمر مستقبل‏.‏ وأراد به ما في علم الله تعالى من الأجل الذي ينتهي إليه دوام ذلك الردم، فاستعار له اسم الوعد‏.‏ ويجوز أن يكون الله قد أوحى إليه إن كان نبيئاً أو ألهمه إن كان صالحاً أن لذلك الردم أجلاً معيناً ينتهي إليه‏.‏

وقد كان ابتداء ذلك الوعد يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم «فُتح اليوم من رَدم ياجوج وماجوج هكذا، وعقد بين أصبعيه الإبهام والسبابة» كما تقدم‏.‏

والدك في قراءة الجمهور مصدر بمعنى المفعول للمبالغة، أي جعله مدكوكاً، أي مسوّى بالأرض بعد ارتفاع‏.‏ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏جَعلهُ دَكّاءَ‏}‏ بالمد‏.‏ والدكاء‏:‏ اسم للناقة التي لا سنام لها، وذلك على التشبيه البليغ‏.‏

وجملة ‏{‏وكان وعد ربي حقاً‏}‏ تذييل للعلم بأنه لا بد له من أجل ينتهي إليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ و‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 49‏]‏ أي وكان تأجيل الله الأشياء حقاً ثابتاً لا يتخلف‏.‏ وهذه الجملة بعمومها وما فيها من حكمة كانت تذييلاً بديعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 101‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ‏}‏

الترك‏:‏ حقيقته مفارقة شيء شيئاً كان بقربه، ويطلق مجازاً على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلاً لحال إلفائه على حالة، ثم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه، وإنما يكون هذا المجاز مقيداً بحالة كان عليها مفعول تَرك، فيفيد أن ذلك آخر العهد، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة‏.‏

والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله ‏{‏حتى إذا بلغ بين السدين،‏}‏ فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد ياجوج وماجوج، بمنزلة جملة ‏{‏قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب‏}‏ في القصة الأولى، وجملة ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً‏}‏ فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد‏.‏

و ‏{‏يومئذ‏}‏ هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله ‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه‏}‏ الآية‏.‏

و ‏{‏يَمُوج‏}‏ يضطرب تشبيهاً بموج البحر‏.‏

وجملة ‏{‏يَمُوج‏}‏ حال من ‏{‏بعضهم‏}‏ أو مفعول ثان ل ‏{‏تَرَكنا‏}‏ على تأويله ب ‏(‏جعلنا‏)‏، أي جعلنا ياجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصراً عليهم ودفع عن غيرهم‏:‏

والنار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله

لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء‏.‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فجمعناهم جَمْعاً‏}‏ ‏{‏للهلله للهوَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً * الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً‏}‏‏.‏

تخلصٌ من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر، تذكيراً للسامعين بأمر الحشر وتقريباً بحصوله في خيال المشركين‏.‏ فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد، بفعل من يسره لذلك من خلقه، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته، لأنّ متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب‏.‏ وقد تقدّم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات البعث‏.‏ واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيهاً على تحقيق وقوعه‏.‏

والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيهاً لحال الدّاعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج‏.‏ على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة‏.‏

والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى‏.‏

وتأكيد فعلي ‏{‏جمعناهم‏}‏ و‏{‏عرضنا‏}‏ بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل‏.‏

ونعت الكافرين ب ‏{‏الذين كانت أعينهم في غطاء‏}‏ للتنبيه على أن مضمون الصلة هو سبب عرض جهنم لهم، أي الذين عرفوا بذلك في الدنيا‏.‏

والغطاء‏:‏ مستعار لِعدم الانتفاع بدلالة البصر على تفرد الله بالإلهية‏.‏

وحرف ‏(‏من‏)‏ للظرفية المجازية، وهي تَمكُّن الغطاء من أعينهم بحيث كأنها محوية للغطاء‏.‏

و ‏(‏عن‏)‏ للمجاوزة، أي عن النظر فيما يحصل به ذكري‏.‏

ونفي استطاعتهم السمع أنهم لشدة كفرهم لا تطاوعهم نفوسهم للاستماع‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏سمعا‏}‏ لدلالة قوله ‏{‏عن ذكري‏}‏ عليه‏.‏

والتقدير‏:‏ سمعاً لآياتي، فنفي الاستطاعة مستعمل في نفي الرغبة وفي الإعراض كقوله ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وعرَض جهنم مستعمل في إبرازها حين يشرفون عليها وقد سيقوا إليها فيعلمون أنها المهيئة لهم، فشبه ذلك بالعرض تهكماً بهم، لأنّ العرض هو إظهار ما فيه رغبة وشهوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

أعقب وصف حرمانهم الانتفاع بدلائل المشاهدات على وحدانية الله وإعراضهم عن سماع الآيات بتفريع الإنكار لاتخاذهم أولياء من دون الله يزعمونها نافعة لهم تنصرهم تفريعَ الإنكار على صلة الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري، لأن حسبانهم ذلك نشأ عن كون أعينهم في غطاء وكونهم لا يستطيعون سمعاً، أي حسبوا حسباناً باطلاً فلم يغن عنهم ما حسبوه شيئاً، ولأجله كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً‏.‏

وتقدم حرف الاستفهام على فاء العطف لأن للاستفهام صدر الكلام وهو كثير في أمثاله‏.‏ والخلاف شهير بين علماء العربية في أن الاستفهام مقدم من تأخير، أو أن العطف إنما هو على ما بعد الاستفهام بعد حذف المستفهم عنه لدلالة المعطوف عليه‏.‏ فيقدر هنا‏:‏ أأمِنوا عذابي فحسبوا أن يتخذوا إلخ‏.‏‏.‏‏.‏ وأول القولين أولى‏.‏ وقد تقدمت نظائره منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏75‏)‏‏.‏

والاستفهام إنكاري، والإنكار عليهم فيما يحسبونه يقتضي أن ما ظنوه باطل، ونظيره قوله ‏{‏أحسب الناس أن يتركوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 2‏]‏‏.‏

و ‏{‏أن يتخذوا‏}‏ سادٌّ مسدّ مفعولي ‏{‏حسب‏}‏ لأنه يشتمل على ما يدل على المفعولين فهو ينحل إلى مفعولين‏.‏ والتقدير‏:‏ أحسبَ الذين كفروا عبادي متخِذين أولياء لهم من دوني‏.‏

والإنكار متسلط على معمول المفعول الثاني وهو ‏{‏أولياء‏}‏ المعمول ل ‏{‏يتخذوا‏}‏ بقرينة ما دل عليه فعل ‏{‏حسب‏}‏ من أن هنالك محسوباً باطلاً، وهو كونهم أولياء باعتبار ما تقتضيه حقيقة الولاية من الحماية والنصر‏.‏

و ‏{‏عبادي‏}‏ صادق على الملائكة والجنّ والشياطين ومن عبدوهم من الأخيار مثل عيسى عليه السلام، ويصدق على الأصنام بطريق التغليب‏.‏

و ‏{‏من دوني‏}‏ متعلّق ب ‏{‏أولياء‏}‏ إما بجعل ‏{‏دوني‏}‏ اسماً بمعنى حول، أي من حول عذابي، وتأويل ‏{‏أولياء‏}‏ بمعنى أنصاراً، أي حائلين دون عذابي ومانعيهم منه، وإما بجعل ‏{‏دوني‏}‏ بمعنى غيري، أي أحسبوا أنهم يستغنون بولايتهم‏.‏

وصيغ فعل الاتخاذ بصيغة المضارع للدلالة على تجدده منهم وأنهم غير مقلعين عنه‏.‏

وجعل في «الكشاف» فعل ‏{‏يتخذوا‏}‏ للمستقبل، أي أحسبوا أن يتخذوا عبادي أولياء يوم القيامة كما اتّخذوهم في الدنيا، وهو المشار إليه بقوله ‏{‏وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا‏}‏‏.‏ ونظرّه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40 41‏]‏‏.‏

وإظهار الذين كفروا دون أن يقال‏:‏ أفحسبوا، بإعادة الضمير إلى الكافرين في الآية قبلها، لقصد استقلال الجملة بدلالتها، وزيادةً في إظهار التوبيخ لها‏.‏

وجملة ‏{‏إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً‏}‏ مقررة لإنكار انتفاعهم بأوليائهم فأكد بأن جهنم أُعدت لهم نزلاً فلا محيص لهم عنها ولذلك أكد بحرف ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏

و ‏{‏أعتدنا‏:‏‏}‏ أعددنا، أبدل الدال الأولى تاء لقرب الحرفين، والإعداد‏:‏ التهيئة، وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أعتدنا للظالمين ناراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏}‏‏.‏ وجَعل المسند إليه ضميرَ الجلالة لإدخال الروع في ضمائر المشركين‏.‏

والنُزُل بضمتين‏:‏ ما يُعدّ للنزيل والضيف من القِرى‏.‏ وإطلاق اسم النزل على العذاب استعارة علاقتها التهكم، كقول عمرو بن كلثوم‏:‏

قريناكم فعجّلنا قِراكم *** قُبيلَ الصبح مِرْدَاةً طحونا

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

اعتراض باستئناف ابتدائي أثاره مضمون جملة ‏{‏أفحسب الذين كفروا‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ فإنهم لما اتْخذوا أولياءَ مَن ليسوا ينفعونهم فاختاروا الأصنام وعبدوها وتقربوا إليها بما أمكنهم من القُرب اغتراراً بأنها تدفع عنهم وهي لا تغني عنهم شيئاً فكان عملهم خاسراً وسعيهم باطلاً‏.‏ فالمقصود من هذه الجملة هو قوله ‏{‏وهم يحسبون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

وافتتاح الجملة بالأمر بالقول للاهتمام بالمقول بإصغاء السامعين لأنّ مثل هذا الافتتاح يشعر بأنه في غرض مُهمّ، وكذلك افتتاحه باستفهامهم عن إنبائهم استفهاماً مستعملاً في العَرض لأنّه بمعنى‏:‏ أتحبون أن نُنبئكم بالأخسرين أعمالاً، وهو عرض تهكم لأنه منبئهم بذلك دون توقف على رضاهم‏.‏

وفي قوله ‏{‏بالأخسرين أعمالاً‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ تمليح إذ عدل فيه عن طريقة الخطاب بأن يقال لهم‏:‏ هل ننبئكم بأنكم الأخسرون أعمالاً، إلى طريقة الغيبة بحيث يستشرفون إلى معرفة هؤلاء الأخسرين فما يروعهم إلاّ أن يعلموا أنّ المخبر عنهم هم أنفسهم‏.‏

والمقول لهم‏:‏ المشركون، توبيخاً لهم وتنبيهاً على ما غفلوا عنه من خيبة سعيهم‏.‏

ونون المتكلّم المشارك في قوله ‏{‏ننبئكم‏}‏ يجوز أن تكون نون العظمة راجعة إلى ذات الله على طريقة الالتفات في الحكاية‏.‏ ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ هل ينبئكم الله، أي سينبئكم ويجوز أن تكون للمتكلّم المشارك راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الله تعالى لأنه ينبئهم بما يوحَى إليه من ربّه‏.‏ ويجوز أن تكون راجعة للرسول وللمسلمين‏.‏

وقوله ‏{‏الذين ضل سعيهم‏}‏ بدل من ‏{‏بالأخسرين أعمالاً‏}‏ وفي هذا الإطناب زيادة التشويق إلى معرفة هؤلاء الأخسرين حيث أجرى عليهم من الأوصاف ما يزيد السامع حرصاً على معرفة الموصوفين بتلك الأوصاف والأحوال‏.‏

والضلال‏:‏ خطأ السبيل‏.‏ شبه سعيهم غير المثمر بالسير في طريق غير موصلة‏.‏

والسعي‏:‏ المشي في شدة‏.‏ وهو هنا مجاز في العمل كما تقدّم عند قوله ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏19‏)‏، أي عملوا أعمالاً تقربوا بها للأصنام يحسبونها مبلغة إياهم أغراضاً وقد أخطؤوها وهم يحسبون أنّهم يفعلون خيراً‏.‏

وإسناد الضلال إلى سعيهم مجاز عقلي‏.‏ والمعنى‏:‏ الذين ضلوا في سعيهم‏.‏

وبين يحسبون‏}‏ و‏{‏يحسنون‏}‏ جناس مصحّف، وقد مثل بهما في مبحث الجناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

جملة هي استئناف بياني بعد قوله ‏{‏هل ننبئكم‏}‏‏.‏

وجيء باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز لئلا يلتبسوا بغيرهم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وللتنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من حكم بسبب ما أجري عليهم من الأوصاف‏.‏

والآيات‏:‏ القرآن والمعجزات‏.‏

والحبط‏:‏ البطلان والدحض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ربّهم‏}‏ يجري على الوجه الأول في نون ‏{‏هل ننبئكم‏}‏ أنه إظهار في مقام الإضمار‏.‏ ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ أولئك الذين كفروا بآياتنا، ويجري على الوجهين الثاني والثالث أنه على مقتضى الظاهر‏.‏

ونون ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ على الوجه الأول في نون ‏{‏قل هل ننبئكم‏}‏ جارية على مقتضى الظاهر‏.‏

وأما على الوجهين الثالث والرابع فإنها التفات عن قوله ‏{‏بآيات ربّهم،‏}‏ ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فلا يقيم لهم‏.‏

ونفي إقامة الوزن مستعمل في عدم الاعتداد بالشيء، وفي حقارته لأن الناس يزنون الأشياء المتنافس في مقاديرها والشيء التافه لا يوزن، فشبهوا بالمحقرات على طريقة المكنية وأثبت لهم عدم الوزن تخييلاً‏.‏

وجُعل عدم إقامة الوزن مفرعاً على حبط أعمالهم لأنهم بحبط أعمالهم صاروا محقرين لا شيء لهم من الصالحات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

الإشارة إما إلى ما تقدّم من وعيدهم في قوله ‏{‏إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً‏}‏، أي ذلك الإعداد جزاؤهم‏.‏

وقوله ‏{‏جزاؤهم‏}‏ خبر عن اسم الإشارة‏.‏ وقوله ‏{‏جهنم‏}‏ بدل من ‏{‏جزاؤهم‏}‏ بدلاً مطابقاً لأن إعداد جهنم هو عين جهنّم‏.‏ وإعادة لفظ جهنم أكسبه قوّة التأكيد‏.‏

وإما إلى مقدر في الذهن دل عليه السياق يبينه ما بعده على نحو استعمال ضمير الشأن مع تقدير مبتدأ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ الأمر والشأن ذلك جزاؤهم جهنّم‏.‏

والباء للسببية، و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي بسبب كفرهم‏.‏

‏{‏واتخذوا‏}‏ عطف على ‏{‏كفروا‏}‏ فهو من صلة ‏(‏ما‏)‏ المصدرية‏.‏ والتقدير‏:‏ وبما اتّخذوا آياتي ورسلي هزؤاً، أي باتخاذهم ذلك كذلك‏.‏

والرسل يجوز أن يراد به حقيقة الجمع فيكون إخباراً عن حال كفار قريش ومن سبقهم من الأمم المكذبين، ويجوز أن يراد به الرسول الذي أرسل إلى الناس كلهم وأطلق عليه اسم الجمع تعظيماً كما في قوله ‏{‏نجب دعوتك ونتبع الرّسل‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والهزُؤُ بضمتين مصدر بمعنى المفعول‏.‏ وهو أشد مبالغة من الوصف باسم المفعول، أي كانوا كثيري الهزؤ بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

هذا مقابل قوله‏:‏ ‏{‏إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً‏}‏ على عادة القرآن في ذكر البشارة بعد الإنذار‏.‏

وتأكيد الجملة للاهتمام بها لأنها جاءت في مقابلة جملة ‏{‏إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا،‏}‏ وهي مؤكدة كي لا يظن ظانّ أن جزاء المؤمنين غير مهتم بتأكيده مع ما في التأكيديْن من تقوية الإنذار وتقوية البشارة‏.‏

وجعل المسند إليه الموصولَ بصلة الإيمان وعمل الصالحات للاهتمام بشأن أعمالهم، فلذلك خولف نظم الجملة التي تقابلها فلم يقل‏:‏ جزاؤهم الجنّة‏.‏ وقد تقدّم نظير هذا الأسلوب في المخالف بين وصف الجزاءَين عند قوله تعالى في هذه السورة‏:‏ ‏{‏إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏}‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وفي الإتيان ب ‏{‏فَكانت‏}‏ دلالة على أن استحقاقهم الجنّات أمر مستقر من قبل مهيّأ لهم‏.‏

وجيء بلام الاستحقاق تكريماً لهم بأنهم نالوا الجنة باستحقاق إيمانهم وعملهم‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وجمع الجنّات إيماء إلى سعة نعيمهم، وأنها جنان كثيرة كما جاء في الحديث‏:‏ «إنها جنان كثيرة»‏.‏

والفردوس‏:‏ البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين، وعن مجاهد هو معرّب عن الرومية‏.‏ وقيل عن السريانية‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو عربي، أي ليس معرباً‏.‏ ولم يرد ذكره في كلام العرب قبل القرآن‏.‏ وأهل الشام يقولون للبساتين والكروم‏:‏ الفراديس‏.‏ وفي مدينة حلب باب يسمّى باب الفراديس‏.‏

وإضافة الجنات إلى الفردوس بيانية، أي جنات هي من صنف الفردوس‏.‏ وورد في الحديث أن الفردوس أعلى الجنّة أو وسط الجنّة‏.‏ وذلك إطلاق آخر على هذا المكان المخصوص يرجع إلى أنه علم بالغلبة‏.‏

فإن حُملت هذه الآية عليه كانت إضافة ‏{‏جنات‏}‏ إلى ‏{‏الفردوس‏}‏ إضافة حقيقية، أي جنات هذا المكان‏.‏

والنزُل‏:‏ تقدم قريباً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يبغون عنها حولاً‏}‏ أي ليس بعدما حوته تلك الجنات من ضروب اللّذات والتمتع ما تتطلع النفوس إليه فتود مفارقة ما هي فيه إلى ما هو خير منه، أي هم يجدون فيها كل ما يخامر أنفسهم من المشتهى‏.‏

والحِوَل‏:‏ مصدر بوزن العِوج والصِغر‏.‏ وحرف العلة يصحح في هذه الصيغة لكن الغالب فيما كان على هذه الزنة مصدرا التصحيحُ مثل‏:‏ الحِول، وفيما كان منها جمعاً الإعلال نحو‏:‏ الحِيل جمع حِيلة‏.‏ وهو من ذوات الواو مشتق من التحول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

لما ابتدئت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ثم أفيض فيها من أفانين الإرشاد والإنذار والوعد والوعيد، وذكر فيها من أحسن القصص ما فيه عبرة وموعظة، وما هو خفي من أحوال الأمم، حُول الكلام إلى الإيذان بأن كل ذلك قليل من عظيم علم الله تعالى‏.‏

فهذا استئناف ابتدائي وهو انتقال إلى التنويه بعلم الله تعالى مفيضضِ العلم على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لما سألوه عن أشياء يظنونها مفحمة للرسول وأن لا قبل له بعلمها علمه الله إياها، وأخبر عنها أصدق خبر، وبيّنها بأقصى ما تقبله أفهامهم وبما يقصر عنه علم الذين أغروا المشركين بالسؤال عنها، وكان آخرها خبر ذي القرنين، أتبع ذلك بما يعلم منه سعة علم الله تعالى وسعة ما يجري على وفق علمه من الوحي إذا أراد إبلاغ بعض ما في علمه إلى أحد من رسله‏.‏ وفي هذا رد عجز السورة على صدرها‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت لأجل قول اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقول، أي في سورة الإسراء ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التّوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً‏.‏ وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏85‏)‏‏.‏

وقال الترمذي عن ابن عباس‏:‏ قال حيي بن أخطب اليهودي‏:‏ في كتابكم ‏{‏ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ ثم تقرأون‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، فنزل قوله تعالى‏:‏ قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وكلمات الله‏:‏ ما يدلّ على شيء مِن علمه مما يوحي إلى رسله أن يبلغوه، فكل معلوم يمكن أن يخبر به‏.‏ فإذا أخبر به صار كلمة، ولذلك يطلق على المعلومات كلمات، لأن الله أخبر بكثير منها ولو شاء لأخبر بغيره، فإطلاق الكلمات عليها مجاز بعلاقة المآل‏.‏ ونظيرها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وفي هذا دليل لإثبات الكلام النفسي ولإثبات التعلّق الصلوحي لصفة العلم‏.‏ وقل من يتنبه لهذا التعلّق‏.‏

ولما كان شأن ما يُخبِر الله به على لسان أحد رسله أن يكتَب حرصاً على بقائه في الأمة، شبهت معلومات الله المخبَر بها والمطلق عليها كلمات بالمكتوبات، ورُمز إلى المشبه به بما هو من لوازمه وهو المِداد الذي به الكتابة على طريقة المكنية، وإثبات المداد تخييل كتخيُّل الأظفار للمنية‏.‏ فيكون ما هنا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله‏}‏ فإن ذكر الأقلام إنما يناسب المداد بمعنى الحِبر‏.‏

ويجوز أن يكون هنا تشبيه كلمات الله بالسراج المضيء، لأنه يهدي إلى المطلوب، كما شبه نور الله وهديُه بالمصباح في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة فيها مصباح‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ ويكون المداد تخييلاً بالزيت الذي يمد به السراج‏.‏

والمدَاد يطلق على الحِبر لأنه تُمَد به الدواة، أي يمد به ما كان فيها من نوعه، ويطلق المداد على الزيت الذي يمد به السراج وغلب إطلاقه على الحبر‏.‏ وهو في هذه الآية يحتمل المعنيين فتتضمّن الآية مكنيتين على الاحتمالين‏.‏

واللام في قوله ‏{‏لكلماته‏}‏ لام العلّة، أي لأجل كلمات ربي‏.‏ والكلام يؤذن بمضاف محذوف، تقديره‏:‏ لكتابة كلمات ربي، إذ المداد يراد للكتابة وليس البحر مما يكتب به ولكن الكلام بني على المفروض بواسطة ‏(‏لو‏)‏‏.‏

والمداد‏:‏ اسم لما يمد به الشيء، أي يزاد به على ما لديه‏.‏ ولم يقل مداداً، إذ ليس المقصود تشبيهه بالحبر لحصول ذلك بالتشبيه الذي قبله وإنما قصد هنا أن مثله يمده‏.‏

والنفاد‏:‏ الفناء والاضمحلال، ونفاد البحر ممكن عقلاً‏.‏

وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو ‏{‏قَبْلَ‏}‏ إمكان نفاد كلمات الله؛ ولكن لما بُني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه ‏(‏لو‏)‏ كان المعنى لو كان البحر مداداً لكلمات ربي وكانت كلمات ربي مما ينفد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي‏.‏

وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها تلك المسائل الثلاث التي سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتضي قوله‏:‏ ‏{‏قبل أن تنفد كلمات ربي‏}‏ إن لكلمات الله تعالى نفاداً كما علمته‏.‏

وجملة ‏{‏ولو جئنا بمثله مدداً‏}‏ في موضع الحال‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ وصلية، وهي الدالة على حالة هي أجدر الأحوال بأن لا يتحقق معها مفاد الكلام السابق فيُنبّه السامع على أنها متحقق معها مُفاد الكلام السابق‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏، وهذا مبالغة ثانية‏.‏

وانتصب مدداً‏}‏ على التمييز المُفسر للإبهام الذي في لفظ ‏{‏بِمِثله‏}‏، أي مثل البحر في الإمداد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

استئناف ثان، انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يُسأل عن الإخبار به، إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية، ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تُلقَى إليه، ولكنه بشَر عِلمه كعلم البشر أوحَى الله إليه بما شاء إبلاغه عبادهُ من التوْحيد والشريعة، ولا علم له إلاّ ما علّمه ربّه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما أتبع ما يُوحى إليّ من ربّي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏‏.‏

فالحصر في قوله ‏{‏إنما أنا بشر مثلكم‏}‏ قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب، أي ما أنا إلاّ بشر لاَ أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيّبات‏.‏

وأدمج في هذا أهم ما يوحي إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى‏.‏ وهذا من ردّ العجز على الصدر من قوله في أوّل السورة ‏{‏لينذر بأساً شديداً من لدنه‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن يقولون إلا كذباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2 5‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏يوحى إلي‏}‏ مستأنفة، أو صفة ثانية ل ‏{‏بشر‏}‏‏.‏

و ‏{‏أنما مفتوحة الهمزة أخت ‏(‏إنما‏)‏ المكسورة الهمزة وهي مركبة من ‏(‏أَنّ‏)‏ المفتوحة الهمزة و‏(‏ما‏)‏ الكَافة كما ركبت ‏(‏إنما‏)‏ المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده ‏(‏أَنّ‏)‏ المفتوحة من المصدرية، وما تفيده ‏(‏إنما‏)‏ من الحصر، والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب‏.‏ والمعنى‏:‏ يوحي الله إليّ توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة‏.‏

وتفريع ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه‏}‏ هو من جملة الموحى به إليه، أي يوحَى إليّ بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة‏.‏

فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة، إذ جعل التوحيد أصلاً لها وفرع عليه الأصلان الآخران، وأكد الإخبار بالوحدانية بالنّهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى، وحصل مع ذلك ردّ العجز على الصدر وهو أسلوب بديل‏.‏

19 سورة مريم

اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنّة سورة مريم‏.‏ ورويت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبراني والديلمي، وابن منده، وأبو نعيم، وأبو أحمد الحاكم‏:‏ عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جدّه أبي مريم قال‏:‏ ‏"‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية، فقال‏:‏ والليلة أنزلت عليّ سورة مريم فسمّها مريم ‏"‏‏.‏ فكان يكنى أبا مريم، واشتهر بكنيته، واسمه نذير، ويظهر أنه أنصاري‏.‏

وابن عبّاس سمّاها سورة ‏{‏كَهَيَعَصَ، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري‏}‏ في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها‏.‏ ولم يعدها جلال الدين في «الإتقان» في عداد السور المسماة باسمين، ولعله لم ير الثاني اسماً‏.‏

وهي مكية عند الجمهور‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ أن آية السجدة مدنية‏.‏ ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد‏.‏

وذكر السيوطي في «الإتقان» قولاً بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ الآية مدني، ولم يعزه لقائل‏.‏

وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه‏.‏ وكان نزول سورة طَه قبل إسلام عُمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية، وليس أبو مريم هذا معدوداً في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولاً‏.‏

ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصّل في غيرها‏.‏ ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة‏.‏

وعدّت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعاً وتسعين‏.‏ وفي عدد أهل الشام والكوفة ثماناً وتسعين‏.‏

أغراض السورة

ويظهر أنّ هذه السورة نزلت للردّ على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقدَاستهم في الخير‏.‏

وهل يثبت الخطيّ إلا وَشيجهُ

ثمّ التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم‏.‏

والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولداً، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولداً لله تعالى‏.‏

والتنزيه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته، وأن الله يسرّه بكونه عربياً ليسر تلك اللغة‏.‏

والإنذار ممّا حل بالمكذبين من الأمم من الاستيصال‏.‏

واشتملت على كرامة زكرياء إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولداً على الكبر وعُقْر امرأته‏.‏

وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه السلام‏.‏ ومثله كلامه في المهد‏.‏

والتنزيه بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وإسماعيل، وإدريس عليهم السلام‏.‏

ووصف الجنّة وأهلها‏.‏

وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبَيّ بن خلف والعاصي بن وائل وتبججهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم‏.‏

وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها‏.‏

ووعد الرسول النصر على أعدائه‏.‏

وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى‏.‏

والتنويه بالقرآن ولملته العربية، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم‏.‏

وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمن ست عشرة مرة، وذكر اسم الرحمة أربع مرات، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمن‏.‏ والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان ‏(‏60‏)‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن‏}‏ ووقع في هذه السورة استطراد بآية ‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 64‏]‏‏.‏