فصل: تفسير الآيات رقم (73- 74)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ‏(‏73‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

عطف على قوله ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم‏.‏

والتّلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ وقد تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلك سليمان‏}‏ في البقرة ‏(‏102‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً‏}‏ في أول الأنفال ‏(‏2‏)‏‏.‏ كان النبي يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون‏:‏ لو كان للمؤمنين خير لعُجل لهم، فنحن في نعمة وأهل سيادة، وأتباع محمّد من عامة الناس، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا، ولو كنا عند الله كما يقول محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52، 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقاً بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم‏.‏ فالمراد بالآيات البيّنات‏:‏ آيات القرآن، ومعنى كونها بيّنات‏:‏ أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة‏.‏

واللاّم في قوله ‏{‏للّذين آمنوا‏}‏ يجوز كونها للتّعليل، أي قالوا لأجل الذين آمنوا، أي من أجل شأنهم، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم‏.‏ ويجوز كونها متعلقة بفعل ‏{‏قَالَ‏}‏ لتعديته إلى متعلّقه، فيكون قولهم خطاباً منهم للمؤمنين‏.‏

والاستفهام في قولهم ‏{‏أيُّ الفريقين‏}‏ تقريريّ‏.‏

وقرأ من عدا ابن كثير ‏{‏مَقاماً‏}‏ بفتح الميم على أنه اسم مكان مِن قام، أطلق مجازاً على الحظ والرفعة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن خاف مقام ربّه جنتان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازاً في الظهور والمقدرة‏.‏

وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان، وهو مستعمل في الكون في الدنيا‏.‏ والمعنى‏:‏ خيرٌ حياةً‏.‏

وجملة ‏{‏وكم أهلكنا قبلهم من قرن‏}‏ خطاب من الله لرسوله‏.‏ وقد أهلك الله أهل قرون كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعاً وأجمل منهم منظراً‏.‏ فهذه الجملة معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبي صلى الله عليه وسلم ما يجيبهم به عن قولهم، وموقعها التهديد وما بعدها هو الجواب‏.‏

والأثاث‏:‏ متاع البيوت الذي يُتزين به، و‏{‏رئياً‏}‏ قرأه الجمهور بهمزة بعد الراء وبعد الهمزة ياء على وزن فِعْل بمعنى مفعول كذبِح، من الرؤية، أي أحسن مَرِئيّاً، أي منظراً وهيئة‏.‏

وقرأه قالون عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر «رِيّاً» بتشديد الياء بلا همزة إما على أنّه من قلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء الأخرى، وإما على أنّه من الرِيّ الذي هو النعمة والترفه، من قولهم‏:‏ ريّان من النّعيم‏.‏ وأصله من الريّ ضد العطش، لأنّ الريّ يستعار للتنعم كما يستعار التلهّف للتألّم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا ‏(‏75‏)‏ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ‏(‏76‏)‏‏}‏

هذا جواب قولهم ‏{‏أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نَدِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏‏.‏ لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نعمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إيّاهم، لأنّ ملاذ الكافر استدراج‏.‏ فمعيار التفرقة بين النّعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال‏.‏ قال تعالى في شأن الأولين‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وقال في شأن الآخرين ‏{‏أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن من كان منغمساً في الضلالة اغترّ بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا ‏{‏أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً‏.‏

واللاّم في قوله فليمدد له الرحمان مداً‏}‏ لام الأمر أو الدعاء، استعملت مجازاً في لازم معنى الأمر، أي التحقيق، أي فسيمد له الرحمان مداً، أي إن ذلك واقع لا محالة على سنّة الله في إمهال الضُّلال، إعذاراً لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏، وتنبيهاً للمسلمين أن لا يغتروا بإنعام الله على الضُّلال حتى أنّ المؤمنين يَدْعُون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفّار‏.‏

فإن كان المقصود من ‏{‏قُل‏}‏ أن يقول النبي ذلك للكفّار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق، وإن كان المقصود أن يبلّغ النبيءُ ذلك عَن الله أنه قال ذلك فلامُ الأمر مجاز أيضاً وتجريد بحيث إنّ الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم‏.‏

والمدّ‏:‏ حقيقته إرخاء الحبل وإطالته، ويستعمل مجازاً في الإمهال كما هنا، وفي الإطالة كما في قولهم‏:‏ مدّ الله في عمرك‏.‏

و ‏{‏مَدّاً‏}‏ مفعول مطلق مؤكد لعامله، أي فليمدد له المدّ الشديد، فيسينتهي ذلك‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ لغاية المد، وهي ابتدائية، أي يمدّ له الرحمان إني أن يَروا ما يوعدون، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدّتهم في النّعمة‏.‏ فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها ‏{‏حتى‏}‏ لا لفظاً مفرداً‏.‏ والتقدير‏:‏ يمدّ لهم الرحمان حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى‏.‏

وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدّلالة على الاستقبال لأنّ الاستقبال استفيد من الغاية‏.‏

و ‏{‏إمّا‏}‏ حرف تفصيل ل ‏{‏ما يوعدون‏}‏، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، فإن كلّ واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما‏.‏

وانتصب لفظ ‏{‏العذاب‏}‏ على المفعولية ل ‏{‏يَروْا‏.‏ وحرف إما‏}‏ غير عاطف، وهو معترض بين العامل ومعموله، كما في قول تأبّط شراً‏:‏

هما خطتّا إمّا إسارٍ ومِنّةٍ

وإما دممٍ والموت بالحر أجدر

بجرّ ‏(‏إسار، ومنّة، ودم‏)‏‏.‏

وقوله ‏{‏شرّ مكاناً وأضعف جنداً‏}‏ مقابل قولهم ‏{‏خيرٌ مقاماً وأحسن نديّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ فالمكان يرادف المقام، والجند الأعوان، لأنّ الندي أريد به أهله كما تقدم، فقوبل ‏{‏خيرٌ نديّاً‏}‏ ب ‏{‏أضعفُ جنداً‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدّاً‏}‏ لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال، والاستمرار‏:‏ الزيادة‏.‏ فالمعنى على الاحتباك، أي فليمدد له الرحمان مداً فيزدَدْ ضلالاً، ويمدّ للذين اهتدوا فيزدادوا هدىً‏.‏

وجملة ‏{‏والباقيات الصالحات خير‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏}‏‏.‏ وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسيعلمون من هو شرّ مكاناً وأضعفُ جنداً‏}‏، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزّة هو أقلّ مما كان عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين، إذ كان مآل الكفرة العذاب ومَآل المؤمنين السلامة من العذاب وبعدُ فللمؤمنين الثواب‏.‏

والباقيات الصالحات‏:‏ صفتان لمحذوف معلوم من المقام، أي الأعمال الباقي نعيمها وخيرها، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب‏.‏ وقد تقدّم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف‏.‏

والمردّ، المرجع‏.‏ والمراد به عاقبة الأمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏77‏)‏ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏78‏)‏ كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ‏(‏79‏)‏ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

تفريع على قوله ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما متّ لسوفَ أخرج حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ وما اتصل به من الاعتراض والتفريعات‏.‏ والمناسبة‏:‏ أن قائل هذا الكلام كان في غرور مثل الغرور الذي كان فيه أصحابه‏.‏ وهو غرور إحالة البعث‏.‏

والآية تشير إلى قصة خبّاب بن الأرتّ مع العاصي بن وائل السهمي‏.‏ ففي «الصحيح»‏:‏ أن خبّاباً كان يصنع السيوف في مكة، فعمل للعاصي بن وائل سَيفاً وكان ثمنه دَيناً على العاصي، وكان خبّاب قد أسلم، فجاء خبّاب يتقاضى دَينه من العاصي فقال له العاصي بن وائل‏:‏ لا أقضيكه حتى تكفر بمحمّد، فقال خبّاب ‏(‏وقد غضب‏)‏‏:‏ لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثمّ يبعثك‏.‏ قال العاصي‏:‏ أو مبعوثٌ أنا بعد الموت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال ‏(‏العاصي متهكماً‏)‏‏:‏ إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دَينَك»‏.‏ فنزلت هذه الآية في ذلك‏.‏ فالعاصي بن وائل هو المراد بالذي كفر بآياتنا‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أفرأيت‏}‏ مستعمل في التعجيب من كفر هذا الكافر‏.‏

والرؤية مستعارة للعلم بقصته العجيبة‏.‏ نُزلت القصة منزلة الشيء المشاهد بالبصر لأنه من أقوى طرق العلم‏.‏ وعبر عنه بالموصول لما في الصلة من منشأ العجب ولا سيما قوله ‏{‏لأُوتين مالاً وولداً‏}‏‏.‏

والمقصود من الاستفهام لفت الذهن إلى معرفة هذه القصة أو إلى تذكرها إن كان عالماً بها‏.‏

والخطاب لكل من يصلح للخطاب فلم يُرد به معيّن‏.‏ ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم

والآيات‏:‏ القرآن، أي كفر بما أنزل إليه من الآيات وكذب بها‏.‏ ومن جملتها آيات البعث‏.‏

والوَلَد‏:‏ اسم جَمْع لوَلَد المفرد، وكذلك قرأه الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي في هذه السورة في الألفاظ الأربعة «ووُلْد» بضمّ الواو وسكون اللام فهو جمع ولد، كأسد وأسد‏.‏

وجملة ‏{‏أطلّع الغيب‏}‏ جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدّين من المال الذي سيجده حين يبعث، فالاستفهام في قوله ‏{‏أطلع الغيب‏}‏ إنكاري وتعجيبي‏.‏

و ‏{‏أطّلع‏}‏ افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطْلَع بالتخفيف ومُطّلع بالتشديد‏.‏ ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء، لأنّ الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من عُلّو، فالأصل أن فعل ‏(‏اطّلع‏)‏ قاصر غير محتاج إلى التعدية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 54، 55‏]‏، فإذا ضُمن ‏{‏اطّلع معنى أشرَف عُدي بحرف الاستعلاء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو اطَلعتَ عليهم لولّيتَ منهم فراراً‏}‏ وتقدّم إجمالاً في سورة الكهف ‏(‏18‏)‏‏.‏

فانتصب الغيب‏}‏ في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «ولاختيار هذه الكلمة شأنٌ، يقول‏:‏ أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب» اه‏.‏

فالغيبُ‏:‏ هو ما غاب عن الأبصار‏.‏

والمعنى‏:‏ أأشرف على عالم الغيب فرأى مالاً وولداً معَدّيْننِ له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال فسيكون لي مال وولد عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنّه معطيه ذلك فأيقن بحصوله، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته، وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه‏.‏

ومتعلّق العهد محذوف يدلّ عليه السياق‏.‏ تقديره‏:‏ بأن يعطيه مالاً وولداً‏.‏

و ‏{‏عند‏}‏ ظرف مكان، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوبة بها تعاهُد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة‏.‏ وقال الحارث بن حلزة‏:‏

حذر الجور والتطاخي وهل ينقض

ما في المهارق الأهواءُ

ولعلّ في تعقيبه بقوله ‏{‏سنكتب ما يقول‏}‏ إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير‏.‏

واختير هنا من أسمائه ‏{‏الرحمن‏}‏، لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر، ولأن في ذكر هذا الاسم توركاً على المشركين الذين قالوا ‏{‏وما الرحمن‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏‏.‏

و ‏{‏كَلاّ‏}‏ حرف ردع وزجر عن مضمون كلام سابق من متكلّم واحد، أو من كلام يحكى عن متكلم آخر أو مسموع منه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61، 62‏]‏‏.‏

والأكثر أن تكون عقب آخر الكلام المبطَل بها، وقد تُقُدِّمَ على الكلام المبطَل للاهتمام بالإبطال وتعجيله والتشويق إلى سماع الكلام الذي سيرد بعدها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح أسفر إنها لإحدى الكبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 32 35‏]‏ على أحد تأويلين، ولِما فيها من معنى الإبطال كانت في معنى النّفي، فهي نقيض إي وأجلْ ونحوهما من أحرف الجواب بتقدير الكلام السابق‏.‏

والمعنى‏:‏ لا يقع ما حكى عنه من زعمه ولا من غرُوره، والغالب أن تكون متبعة بكلام بعدها، فلا يعهد في كلام العرب أن يقول قائل في ردّ كلام‏:‏ كَلاّ، ويسكت‏.‏

ولكونها حرف ردع أفادت معنى تامّاً يحسن السكوت عليه‏.‏ فلذلك جاز الوقف عليها عند الجمهور، ومنع المبرد الوقف عليها بناء على أنها لا بد أن تُتبع بكلام‏.‏ وقال الفراء‏:‏ مواقعها أربعة‏:‏

موقع يحسن الوقف عليها والابتداء بها كما في هذه الآية‏.‏

وموقع يحسن الوقف عليها ولا يحسن الابتداء بها كقوله‏:‏ ‏{‏فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏

وموقع يحسن فيه الابتداء بها ولا يحسن الوقف عليها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها تذكرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وموقع لا يحسن فيه شيء من الأمرين كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وكلام الفراءيبين أنّ الخلاف بين الجمهور وبين المبرد لفظي لأنّ الوقف أعم من السكوت التام‏.‏

وحرف التنفيس في قوله ‏{‏سنكتب‏}‏ لتحقيق أنّ ذلك واقع لا محالة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏.‏

والمد في العذاب‏:‏ الزيادة منه، كقوله‏:‏ ‏{‏فليمدد له الرحمان مداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 75‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما يقول‏}‏ في الموضعين إيجاز، لأنه لو حكي كلامه لطال‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 183‏]‏، أي وبقربان تأكله النار، أي ما قاله من الإلحاد والتهكم بالإسلام، وما قاله من المال والولد، أي سنكتب جزاءَه ونهلكه فنرثه ما سمّاه من المال والولد، أي نرث أعيان ما ذكر أسماءه، إذ لا يعقل أن يورث عنه قولُه وكلامه‏.‏ ف ‏{‏ما يقول‏}‏ بدل اشتمال من ضمير النصب في ‏{‏نرثه‏}‏، إذ التقدير‏:‏ ونرث ولده وماله‏.‏

والإرث‏:‏ مستعمل مجازاً في السلب والأخذ، أو كناية عن لازمه وهو الهلاك‏.‏ والمقصود‏:‏ تذكيره بالموت، أو تهديده بقرب هلاكه‏.‏

ومعنى إرث أولاده أنهم يصيرون مسلمين فيدخلون في حزب الله، فإن العاصي وَلدَ عمَرْاً الصحابي الجليل وهشاماً الصحابي الشهيد يوم أجنادين، فهنا بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم ونكاية وكمد للعاصي بن وائل‏.‏

والفرد‏:‏ الذي ليس معه ما يصير به عدداً، إشارة إلى أنّه يحشر كافراً وحده دون ولده، ولا مال له، و‏{‏فرداً‏}‏ حال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ فضمير ‏{‏اتخذوا‏}‏ عائد إلى الذين أشركوا لأنّ الكلام جرى على بعض منهم‏.‏

والاتخاذ‏:‏ جعل الشخص الشيءَ لنفسه، فجعل الاتخاذ هنا الاعتقاد والعبادة‏.‏ وفي فعل الاتخاذ إيماء إلى أن عقيدتهم في تلك الآلهة شيء مصطلح عليه مختلق لم يأمر الله به كما قال تعالى عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏قال أتعبدون ما تنحتون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏‏.‏

وفي قوله ‏{‏من دون الله‏}‏ إيماء إلى أن الحق يقتضي أن يتّخذوا الله إلهاً، إذ بذلك تقرّر الاعتقاد الحق من مبدأ الخليقة، وعليه دلّت العقول الراجحة‏.‏

ومعنى ‏{‏ليكون لهم عزاً‏}‏ ليكونوا مُعزّين لهم، أي ناصرين، فأخبر عن الآلهة بالمصدر لتصوير اعتقاد المشركين في آلهتهم أنّهم نفس العزّ، أي إن مجرد الانتماء لها يكسبهم عزّاً‏.‏

وأجرى على الآلهة ضمير العاقل لأنّ المشركين الذين اتخذوهم توهموهم عقلاء مدبرين‏.‏

والضميران في قوله‏:‏ ‏{‏سيكفرون ويَكونون يجوز أن يَكونا عائدين إلى آلهة، أي سينكر الآلهةُ عبادةَ المشركين إيّاهم، فعبر عن الجحود والإنكار بالكفر، وستكون الآلهة ذُلاّ ضد العزّ‏.‏

والأظهر أن ضمير سيكفرون‏}‏ عائد إلى المشركين، أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة فيكون مقابل قوله ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة‏}‏‏.‏ وفيه تمام المقابلة، أي بَعد أن تكلفوا جعلهم آلهةً لهم سيكفرون بعبادتهم، فالتعبير بفعل ‏{‏سيكفرون‏}‏ يرجح هذا الحمل لأن الكفر شائع في الإنكار الاعتقادي لا في مطلق الجحود، وأن ضمير ‏{‏يكونون‏}‏ للآلهة وفيه تشتيت الضمائر‏.‏ ولا ضير في ذلك إذ كان السياق يُرجع كلاً إلى ما يناسبه، كقول عباس بن مرداس‏:‏

عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا

أي‏:‏ وأحرز جَمْع المشركين ما جمّعه المسلمون من الغنائم‏.‏

ويجوز أن يكون ضميرا ‏{‏سيكفرون ويكونون راجعين إلى المشركين‏.‏ وأن حرف الاستقبال للحصول قريباً، أي سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ويدخلون في الإسلام ويكونون ضداً على الأصنام يهدمون هياكلها ويلعنونها، فهو بشارة للنبيء بأن دينه سيظهر على دين الكفر‏.‏ وفي هذه المقابلة طباق مرتين‏.‏

والضد‏:‏ اسم مصدر، وهو خلاف الشيء في الماهية أو المعاملة‏.‏ ومن الثاني تسمية العدو ضدّاً‏.‏ ولكونه في معنى المصدر لزم في حال الوصف به حالة واحدة بحيث لا يطابق موصوفه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏‏}‏

استئناف بياني لجواب سؤال يجيش في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من إيغال الكافرين في الضلال جماعتهم وآحادهم، وما جرّه إليهم من سوء المصير ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مِتّ لسوف أخرج حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏، وما تخلل ذلك من ذكر إمهال الله إياهم في الدنيا، وما أعد لهم من العذاب في الآخرة‏.‏ وهي معترضة بين جملة ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81‏]‏ وجملة ‏{‏يوم نحشر المتقين‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وأيضاً هي كالتذييل لتلك الآيات والتقرير لمضمونها لأنها تَستخلص أحوالهم، وتتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إمهالهم وعدم تعجيل عقابهم‏.‏

والاستفهام في ‏{‏ألم تر‏}‏ تعجيبي، ومثله شائع في كلام العرب يجعلون الاستفهام على نفي فعل‏.‏ والمراد حصول ضده بحثّ المخاطب على الاهتمام بتحصيله، أي كيف لم تر ذلك، ونزّل إرسال الشياطين على الكافرين لاتضاح آثاره منزلة الشيء المرثي المشاهد، فوقع التعجيب من مَرآه بقوله‏:‏ ألم تر ذلك‏.‏

والأزُّ‏:‏ الهزّ والاستفزاز الباطني، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتد غليانها‏.‏ شبه اضطراب اعتقادهم وتناقض أقوالهم واختلاق أكاذيبهم بالغليان في صعود وانخفاض وفرقعة وسكون، فهو استعارة فتأكيده بالمصدر ترشيح‏.‏

وإرسال الشياطين عليهم تسخيرهم لها وعدم انتفاعهم بالإرشاد النبّوي المنقد من حبائلها، وذلك لكفرهم وإعراضهم عن استماع مواعظ الوحي‏.‏ وللإشارة إلى هذا المعنى عُدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله ‏{‏على الكافرين‏}‏‏.‏ وجعل ‏{‏تؤزهم‏}‏ حالاً مقيّداً للإرسال لأنّ الشياطين مرسلة على جميع الناس ولكن الله يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوّة الإيمان وصلاح العمل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وفرع على هذا الاستئناف وهذه التسلية قوله‏:‏ ‏{‏فلا تعجل عليهم‏}‏ أي فلا تستعجل العذاب لهم إنما نُعدّ لهم عَدّاً، وعبر ب ‏{‏تَعجل عليهم‏}‏ معدى بحرف الاستعلاء إكراماً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن نزل منزلة الذي هلاكهم بيده‏.‏ فنهى عن تعجيله بهلاكهم‏.‏ وذلك إشارة إلى قبول دعائه عند ربّه، فلو دعا عليهم بالهلاك لأهلكهم الله كيلا يُردّ دعوة نبيئه صلى الله عليه وسلم لأنه يقال‏:‏ عَجل على فلان بكذا، أي أسرع بتسليطه عليه، كما يقال‏:‏ عجِل إليه إذا أسرع بالذهاب إليه كقوله‏:‏ ‏{‏وعجلت إليك ربّ لترضى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 84‏]‏، فاختلاف حروف تعدية فعل عجل ينبئ عن اختلاف المعنى المقصود بالتعجيل‏.‏

ولعل سبب الاختلاف بين هذه الآية وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تستعجل لهم‏}‏ في سورة الأحقاف ‏(‏35‏)‏ أنّ المراد هنا استعجال الاستئصال والإهلاك وهو مقدّر كونه على يد النبي، فلذلك قيل هنا‏:‏ فلا تعجل عليهم‏}‏، أي انتظر يومهم الموعود، وهو يوم بدر، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏إنّما نعدّ لهم عدّاً، أي نُنظرهم ونؤجلهم، وأنّ العذاب المقصود في سورة الأحقاف هو عذاب الآخرة لوقوعه في خلال الوعيد لهم بعذاب النار لقوله هنالك‏:‏

‏{‏ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 34، 35‏]‏‏.‏

والعدّ‏:‏ الحساب‏.‏

و ‏{‏إنّما‏}‏ للقصر، أي ما نحن إلا نَعُدّ لهم، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً، أي نعد لهم ولسنا بناسين لهم كما يظنون، أو لسنا بتاركينهم من العذاب بل نؤخرهم إلى يوم موعود‏.‏

وأفادت جملة ‏{‏إنما نعدّ لهم عدّاً‏}‏ تعليل النهي عن التعجيل عليهم لأن ‏{‏إنما‏}‏ مركبة من ‏(‏إنّ‏)‏ و‏(‏ما‏)‏ وإنّ تفيد التعليل كما تقدّم غير مرّة‏.‏

وقد استعمل العدّ مجازاً في قصر المدّة لأن الشيء القليل يُعدّ ويحسب‏.‏ وفي هذا إنذار باقتراب استئصالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 87‏]‏

‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏‏}‏

إتمام لإثبات قلة غَناء آلهتهم عنهم تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏ويكونون عليهم ضداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 82‏]‏‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏لا يملكون الشّفاعة‏}‏ هو مبدأ الكلام، وهو بيان لجملة‏:‏ ‏{‏ويكونون عليهم ضداً‏}‏‏.‏

والظرف وما أضيف الظرف إليه إدماجٌ بينت به كرامة المؤمنين وإهانة الكافرين‏.‏ وفي ضمنه زيادة بيان لجملة ‏{‏ويكونون عليهم ضداً‏}‏ بأنهم كانوا سبب سَوقهم إلى جهنم ورداً ومخالفتهم لحال المؤمنين في ذلك المشهد العظيم‏.‏ فالظرف متعلّق ب ‏{‏يملكون‏}‏ وضمير ‏{‏لا يملكون‏}‏ عائد للآلهة‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يقدرون على أن ينفعوا من اتخذوهم آلهة ليكونوا لهم عزّاً‏.‏

والحشر‏:‏ الجمع مطلقاً، يكون في الخير كما هنا، وفي الشرّ كقوله‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22، 23‏]‏، ولذلك أتبع فعل ‏{‏نحشر‏}‏ بقيد ‏{‏وَفداً‏}‏، أي حَشْر الوفود إلى الملوك، فإن الوفود يكونون مُكرمين، وكانت لملوك العرب وكرمائهم وفود في أوقات، ولأعيان العرب وفادات سنويّة على ملوكهم وسادتهم، ولكلّ قبيلة وفادة، وفي المثل‏:‏ «إن الشّقِيّ وافد البراجم»‏.‏ وقد اتّبع العرب هذه السنّة فوفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه أشرف السادة‏.‏ وسنةُ الوفود هي سنة تسع من الهجرة تلت فتحَ مكة بعموم الإسلام بلاد العرب‏.‏

وذكر صفة ‏{‏الرَّحمان‏}‏ هنا واضحة المناسبة للوفد‏.‏

والسوق‏:‏ تسيير الأنعام قُدام رعاتها، يجعلونها أمَامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تتفلّت عليهم، فالسوق‏:‏ سير خوفٌ وحذر‏.‏

وقوله ‏{‏ورداً‏}‏ حال قصد منها التشبيه، فلذلك جاءت جامدة لأن معنى التشبيه يجعلها كالمشتق‏.‏

والوِرد بكسر الواو‏:‏ أصله السير إلى الماء، وتسمى الأنعامُ الواردة وِرداً تسمية على حذف المضاف، أي ذات ورد، كما يسمى الماء الذي يرده القوم ورداً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبئس الورد المورود‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 98‏]‏‏.‏

والاستثناء في ‏{‏إلاّ من اتخذ عند الرحمان عهداً‏}‏ استثناء منقطع، أي لكن يملك الشفاعة يومئذ من اتخذ عند الرحمان عهداً، أي من وعده الله بأن يشفع وهم الأنبياء والملائكة‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يملكون‏}‏ لا يستطيعون، فإنّ المِلك يطلق على المقدرة والاستطاعة‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً‏}‏ في سورة العقود ‏(‏76‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 95‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ أو على جملة ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81‏]‏ إتماماً لحكاية أقوالهم، وهو القول بأن لله ولداً، وهو قول المشركين‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ وقد تقدم في سورة النحل وغيرها؛ فصريح الكلام رد على المشركين، وكنايته تعريض بالنّصارى الذين شابهوا المشركين في نسبة الولد إلى الله، فهو تكملة للإبطال الذي في قوله تعالى آنفاً‏:‏ ‏{‏ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 35‏]‏ الخ‏.‏

والضمير عائد إلى المشركين، فيفهم منه أنّ المقصود من حكاية قولهم ليس مجرد الإخبار عنهم، أو تعليم دينهم ولكن تفظيع قولهم وتشنيعه، وإنما قالوا ذلك تأييداً لعبادتهم الملائكة والجن واعتقادهم شفعاء لهم‏.‏

وذكر ‏{‏الرّحمان‏}‏ هنا حكاية لقولهم بالمعنى، وهم لا يذكرون اسم الرحمان ولا يُقرون به، وقد أنكروه كما حكى الله عنهم‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏، فهم إنما يقولون‏:‏ ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏ كما حكي عنهم في آيات كثيرة منها آية سورة الكهف ‏(‏4‏)‏‏.‏ فذكر الرحمن‏}‏ هنا وضع للمرادف في موضع مرادفه، فذكر اسم ‏{‏الرحمان‏}‏ لقصد إغاظتهم بذكر اسم أنكروه‏.‏

وفيه أيضاً إيماء إلى اختلال قولهم لمنافاة وصف الرحمان اتخاذ الولد كما سيأتي في قوله‏:‏ ‏{‏وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً‏}‏‏.‏

والخطاب في ‏{‏لقد جئتم‏}‏ للذين قالوا اتخذ الرحمان ولداً، فهو التفات لقصد إبلاغهم التوبيخ على وجه شديد الصراحة لا يلتبس فيه المراد، كما تقدم في قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ فلا يحسن تقدير‏:‏ قل لقد جئتم‏.‏

وجملة ‏{‏لقد جئتم شيئاً إدّاً‏}‏ مستأنفة لبيان ما اقتضته جملة ‏{‏وقالوا اتّخذ الرحمان ولداً‏}‏ من التشنيع والتفظيع‏.‏

وقرأ نافع والكسائي بياء تحتية على عدم الاعتداد بالتأنيث، وذلك جائز في الاستعمال إذا لم يكن الفعل رافعاً لضمير مؤنث متصل، وقرأ البقية‏:‏ ‏{‏تكاد‏}‏ بالتاء المثناة الفوقية، وهو الوجه الآخر‏.‏

والتفطر‏:‏ الانشقاق، والجمع بينه وبين ‏{‏وتنشق الأرض‏}‏ تفنّن في استعمال المترادف لدفع ثقل تكرير اللفظ‏.‏ والخرور‏:‏ السقوط‏.‏

ومن في قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ للتعليل، والضمير المجرور بمن عائد إلى ‏{‏شيئاً إداً‏}‏، أو إلى القول المستفاد من ‏{‏قالوا اتخذ الرحمن ولداً‏.‏

والكلام جار على المبالغة في التهويل من فظاعة هذا القول بحيث إنه يبلغ إلى الجمادات العظيمة فيُغيّر كيانها‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وحفص عن عاصم، والكسائي‏:‏ يتفطرن بمثناة تحتية بعدها تاء فوقية‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، بتحتية بعدها نون، من الانفطار‏.‏ والوجهان مطاوع فطَر المضاعف أو فطر المجرد، ولا يكاد ينضبط الفرق بين البنيتين في الاستعمال‏.‏ ولعلّ محاولة التّفرقة بينهما كما في الكشاف‏}‏ و«الشافية» لا يطرد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تشقق السماء بالغمام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 1‏]‏، وقرئ في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ينفطرون وينفطرن، والأصل توافق القرآتين في البلاغة‏.‏

والهدّ‏:‏ هدم البناء‏.‏ وانتصب هَدّاً‏}‏ على المفعولية المطلقة لبيان نوع الخرور، أي سقوط الهَدم، وهو أن يتساقط شظايا وقطعاً‏.‏

و ‏{‏أن دَعوا للرحمان ولداً‏}‏ متعلّق بكل مِن ‏{‏يتفطرن، وتنشق، وتخرّ، وهو على حذف لام الجرّ قبل ‏(‏أنْ‏)‏ المصدريّة وهو حذف مطرّد‏.‏

والمقصود منه تأكيد ما أفيد من قوله‏:‏ منه‏}‏، وزيادةُ بياننٍ لمعادِ الضمير المجرور في قوله ‏{‏منه‏}‏ اعتناء ببيانه‏.‏

ومعنى ‏{‏دَعَوا‏}‏‏:‏ نسبوا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، ومنه يقال‏:‏ ادّعى إلى بني فلان، أي انتسب‏.‏ قال بَشامة بن حَزْن النهشلي‏:‏

إنّا بني نَهشل لا نَدّعي لأب *** عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

وجملة ‏{‏وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولداً‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً‏.‏

ومعنى ما ينبغي‏}‏ ما يتأتّى، أو ما يجوز‏.‏ وأصل الانبغاء‏:‏ أنّه مطاوع فعل بغى الذي بمعنى طلَب‏.‏ ومعنى، مطاوعِته‏:‏ التأثّر بما طُلب منه، أي استجابةُ الطلب‏.‏

نقل الطيبي عن الزمخشري أنه قال في «كتاب سيبويه»‏:‏ كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعُه على الانفعال كصَرف وطلب وعلم، وما ليس فيه علاج كعَدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة» اه‏.‏ فبان أن أصل معنى ‏{‏ينبغي‏}‏ يستجيب الطلب‏.‏ ولما كان الطلب مختلف المعاني باختلاف المطلوب لزم أن يكون معنى ‏{‏ينبغي‏}‏ مختلفاً بحسب المقام فيستعمل بمعنى‏:‏ يتأتى، ويمكن، ويستقيم، ويليق، وأكثر تلك الإطلاقات أصله من قبيل الكناية واشتهرت فقامت مقام التصريح‏.‏

والمعنى في هذه الآية‏:‏ وما يجوز أن يتّخذ الرحمان ولداً، بناء على أن المستحيل لو طلب حصوله لما تأتّى لأنه مستحيل لا تتعلّق به القدرة، لا لأنّ الله عاجز عنه، ونحوُ قوله‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 18‏]‏ يفيد معنى‏:‏ لا يستقيم لنا، أو لا يُخوّل لنا أن نتخذ أولياء غيرك، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏ يفيد معنى لا تسْتطيع‏.‏ ونحو ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 69‏]‏ يفيد معنى‏:‏ أنه لا يليق به، ونحو‏:‏ ‏{‏وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏ يفيد معنى‏:‏ لا يستجاب طلبه لطالبه إن طلبه، وفرقٌ بين قولك‏:‏ ينبغي لك أن لا تفعل هذا، وبين لا ينبغي لك أن تفعل كذا، أي ما يجوز لِجلال الله أن يتخذ ولداً لأنّ جميع الموجودات غيرَ ذاته تعالى يجب أن تكون مستوية في المخلوقية له والعبودية له‏.‏ وذلك ينافي البُنوة لأن بُنوة الإله جزء من الإلهية، وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرّحمان ولد فأنا أول العابدين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏، أي لو كان له ولد لعبدتُه قبلكم‏.‏

ومعنى ‏{‏آتي الرحمان عبداً‏}‏‏:‏ الإتيان المجازي، وهو الإقرار والاعتراف، مثل‏:‏ باء بكذا، أصله رجع، واستعمل بمعنى اعترَف‏.‏

و ‏{‏عبداً‏}‏ حال، أي معترف لله بالإلهية غير مستقل عنه في شيء في حال كونه عبداً‏.‏

ويجوز جعل ‏{‏آتي الرحمان‏}‏ بمعنى صائر إليه بعد الموت، ويكون المعنى أنّه يحيا عبداً ويحشر عبداً بحيث لا تشوبه نسبة البنوة في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

وتكرير اسم ‏{‏الرّحمان‏}‏ في هذه الآية أربع مرات إيماء إلى أن وصف الرحمان الثابت لله، والذي لا ينكر المشركون ثبوت حقيقته لله وإن أنكروا لفظه، ينافي ادعاء الولد له لأنّ الرحمان وصف يدلّ على عموم الرّحمة وتكثرها‏.‏ ومعنى ذلك‏:‏ أنّها شاملة لكل موجود، فذلك يقتضي أن كل موجود مفتقر إلى رحمة الله تعالى، ولا يتقوم ذلك إلا بتحقق العبودية فيه‏.‏ لأنه لو كان بعض الموجودات ابناً لله تعالى لاستغنى عن رحمته لأنه يكون بالبنوة مساوياً له في الإلهية المقتضية الغنى المطلقَ، ولأن اتخاذ الابن يتطلّبُ به متخذُه برّ الابن به ورحمته له، وذلك ينافي كون الله مفيض كلّ رحمة‏.‏

فذكر هذا الوصف عند قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً‏}‏ وقوله ‏{‏أن دعوا للرحمان ولداً‏}‏ تسجيل لغباوتهم‏.‏

وذكره عند قوله‏:‏ ‏{‏وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولداً‏}‏ إيماء إلى دليل عدم لياقة اتخاذ الابن بالله‏.‏

وذكرُه عند قوله‏:‏ ‏{‏إلا آتي الرحمان عبداً‏}‏ استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها‏.‏

وجملة ‏{‏لقد أحصاهم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لقد جئتم شيئاً إدّاً‏}‏، مستأنفة ابتدائية لتهديد القائلين هذه المقالة‏.‏ فضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً‏}‏ وما بعده‏.‏ وليس عائداً على ‏{‏من في السماوات والأرض‏}‏، أي لقد علم الله كل من قال ذلك وعدّهم فلا ينفلت أحد منهم من عقابه‏.‏

ومعنى ‏{‏وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً‏}‏ إبطال ما لأجله قالوا اتخذ الله ولداً، لأنهم زعموا ذلك موجب عبادتهم للملائكة والجنّ ليكونوا شفعاءهم عند الله، فأيْأسهم الله من ذلك بأن كل واحد يأتي يوم القيامة مفرداً لا نصير له كما في قوله في الآية السالفة‏:‏ ‏{‏ويأتينا فرداً‏.‏ وفي ذلك تعريض بأنهم آتون لما يكرهون من العذاب والإهانة إتيانَ الأعزل إلى من يتمكن من الانتقام منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏‏}‏

يقتضي اتصال الآيات بعضها ببعض في المعاني أنّ هذه الآية وصف لحال المؤمنين يوم القيامة بضد حال المشركين، فيكون حال إتيانهم غير حال انفرادٍ بل حال تأنس بعضهم ببعض‏.‏

ولمّا ختمت الآية قبلها بأن المشركين آتون يوم القيامة مفردين، وكان ذلك مشعراً بأنهم آتون إلى ما من شأنه أن يتمنى المورّط فيه مَن يدفع عنه وينصره، وإشعار ذلك بأنّهم مغضوب عليهم، أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين الصالحين، وأنهم على العكس من حال المشركين، وأنهم يكونون يومئذ بمقام المودّة والتبجيل‏.‏ فالمعنى‏:‏ سيجعل لهم الرحمان أودّاء من الملائكة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 31‏]‏، ويجعل بين أنفسهم مودّة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وإيثارُ المصدر ليفي بعدّة متعلقات بالودّ‏.‏ وفُسّر أيضاً جعل الودّ بأن الله يجعل لهم محبّة في قلوب أهل الخير‏.‏ رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي‏.‏ وليست هذه الزيادة عن أحد ممن روى الحديث عن غير قتيبة بن سعيد ولا عن قتيبة بن سعيد في غير رواية الترمذي، فهذه الزيادة إدراج من قتيبة عند الترمذي خاصة‏.‏

وفُسر أيضاً بأن الله سيجعل لهم محبة منه تعالى، فالجعل هنا كالإلقاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏ هذا أظهر الوجوه في تفسير الودّ، وقد ذهب فيه جماعات المفسرين إلى أقوال شتى متفاوتة في القبول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏‏}‏

إيذان بانتهاء السورة، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأنّ المتكلم سيطوي بساطه‏.‏ وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام‏.‏ فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم‏.‏

فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدلّ عليه المذكور، كأنه قيل‏:‏ بلّغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلاّ للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما يحصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد‏.‏ وذلك أن المشركين كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم «لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه آرائنا لاتّبعناك»‏.‏

ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله‏:‏ ‏{‏لقد أحصاهم وعدم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 94، 95‏]‏‏.‏ ووعد المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 96‏]‏‏.‏ والمفرّع هو مضمون ‏{‏لِتُبَشر به‏}‏ الخ ‏{‏وتُنْذِر به‏}‏ الخ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئتَ به من النذارة، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلاّ لذلك‏.‏

وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السيّاق مثل‏:‏ ‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن‏.‏ وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسّر للقراءة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

واللّسان‏:‏ اللّغة، أي بلغتك، وهي العربية، كقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالميننزل به الروح الأمين على قلبك لنكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192 195‏]‏؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب‏.‏

والباء للسببية أو المصاحبة‏.‏

وعبر عن الكفار بقوم لدّ ذمّاً لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة، أي أهل تصميم على باطلهم، فاللّدُ‏:‏ جمع ألدّ، وهو الأقوى في اللّدد، وهو الإباية من الاعتراف بالحق‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخَصِم ‏"‏ ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللّدد، قال بعضهم في رثاء البعض‏:‏

إن تحتَ الأحجار حزماً وعزماً *** وخصيماً ألدّ ذا مِغلاق

وقد حَسُن مقابلة المتقين بقوم لدّ، لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولَدَد‏.‏

وفيه تعريض بأن كفرهم عن عناد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللّدد شأنهم، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏101‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

لما ذكروا بالعناد والمكابرة أتبع بالتعريض بتهديدهم على ذلك بتذكيرهم بالأمم التي استأصلها الله لجبروتها وتعنّتها لتكون لهم قياساً ومثلاً‏.‏ فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏ باعتبار ما تضمنته من بشارة المؤمنين ونذارة المعاندين، لأنّ في التعريض بالوعيد لهم نذارة لهم وبشارة للمؤمنين باقتراب إراحتهم من ضرّهم‏.‏

و ‏{‏كم‏}‏ خبرية عن كثرة العدد‏.‏

والقرن‏:‏ الأمة والجيل‏.‏ ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمّة، وشاع تقديره بمائة سنة‏.‏ و‏{‏من‏}‏ بيانية، وما بعدها تمييز ‏{‏كم‏}‏‏.‏

والاستفهام في ‏{‏هل تُحسّ منهم من أحد‏}‏ إنكاري، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك أي ما تُحسّ، أي ما تشعر بأحد منهم‏.‏ والإحساس‏:‏ الإدراك بالحس، أي لا ترى منهم أحداً‏.‏

والركز‏:‏ الصوت الخفيّ، ويقال‏:‏ الرز، وقد روي بهما قول لبيد‏:‏

وتَوَجّسَتْ رِكْزَ الأنيس فراعها *** عن ظهر عيب والأنيس سَقامُها

وهو كناية عن اضمحلالهم، كني باضمحلال لوازم الوجود عن اضمحلال وجودهم‏.‏

سورة طه

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏‏}‏

وهذان الحرفان من حروف فواتح بعض السور مثل آلم، ويس‏.‏ ورسما في خط المصحف بصورة حروف التهجي التي هي مسمى ‏(‏طا‏)‏ و‏(‏ها‏)‏ كما رُسم جميع الفواتح التي بالحروف المقطعة‏.‏ وقرئا لجميع القراء كما قرئت بقية فواتح السور‏.‏ فالقول فيهما كالقول المختار في فواتح تلك السور، وقد تقدم في أول سورة البقرة وسورة الأعراف‏.‏

وقيل هما حرفان مقتضَبَان من كلمتي ‏(‏طاهر‏)‏ و‏(‏هاد‏)‏ وأنهما على معنى النّداء بحذف حرف النداء‏.‏

وتقدم وجه المدّ في ‏(‏طا‏)‏ ‏(‏ها‏)‏ في أول سورة يونس‏.‏ وقيل مقتضبان من فعل ‏(‏طَأْ‏)‏ أمراً من الوطء‏.‏ ومن ‏(‏ها‏)‏ ضمير المؤنثة الغائبة عائد إلى الأرض‏.‏ وفُسر بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول أمره إذا قام في صلاة الليل قام على رِجْل واحدة فأمره الله بهذه الآية أن يطأ الأرض برجله الأخرى‏.‏ ولم يصح‏.‏

وقيل ‏(‏طاها‏)‏ كلمة واحدة وأن أصلها من الحبشية، ومعناها إنسان، وتكلمت بها قبيلة ‏(‏عَك‏)‏ أو ‏(‏عُكْل‏)‏ وأنشدوا ليزيد بن مهلهل‏:‏

إن السفاهة طاها من شمائلكم *** لا باركَ الله في القوممِ الملاعين

وذهب بعض المفسرين إلى اعتبارهما كلمة لغة ‏(‏عَك‏)‏ أو ‏(‏عُكل‏)‏ أو كلمة من الحبشية أو النبطية وأنّ معناها في لغة‏:‏ ‏(‏عك‏)‏ يا إنسان، أو يا رجل، وفي ما عداها‏:‏ يا حبيبي، وقيل‏:‏ هي اسم سمى الله به نبيئه صلى الله عليه وسلم وأنه على معنى النّداء، أو هو قسم به‏.‏ وقيل‏:‏ هي اسم من أسماء الله تعالى على معنى القسم‏.‏

ورويت في ذلك آثار وأخبار ذكر بعضها عياض في «الشِّفاء»‏.‏ ويجري فيها قول من جعل جميع هذه الحروف متحدة في المقصود منها‏.‏ كقول من قال‏:‏ هي أسماء للسور الواقعة فيها، ونحو ذلك مما تقدم في سورة البقرة‏.‏ وإنما غرّهم بذلك تشابه في النطق فلا نطيل بردها‏.‏ وكذلك لا التفات إلى قول من زعموا أنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 6‏]‏

‏{‏مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

افتتحت السورة بملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك، أي تصيبه المشقّة ويشده التعب، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده‏.‏ وفي هذا تنويه أيضاً بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولولا ذلك لما ادّكروا بالقرآن‏.‏

وفي هذه الفاتحة تمهيدٌ لما يرد من أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالاضطلاع بأمر التبليغ، وبكونه من أولي العزم مثل موسى عليه السلام وأن لا يكون مفرطاً في العزم كما كان آدم عليه السلام قبل نزوله إلى الأرض‏.‏ وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن لأن في ضمن ذلك تنويهاً بمن أنزل عليه وجاء به‏.‏

والشقاء‏:‏ فرط التعب بعمل أو غمّ في النفس، قال النابغة‏:‏

إلاّ مقالةَ أقوام شَقِيت بهم *** كانت مقالتهم قَرعا على كبدي

وهمزة الشقاء مُنقلبة عن الواو‏.‏ يقال‏:‏ شَقاء وشَقاوة بفتح الشين وشِقوة بكسرها‏.‏

ووقوع فعل ‏{‏أنْزَلْنَا‏}‏ في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله، لأنّ الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه، وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور‏.‏ فيعمّ نفي جميع كلّ إنزال للقرآن فيه شقاء له، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال، أي جميع أنواع الشّقاء فلا يكون إنزال القرآن سبباً في شيء من الشقاء للرسول صلى الله عليه وسلم

وأول ما يراد منه هنا أسف النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون المراد‏:‏ ما أرسلناك لتخِيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة‏.‏

وقوله ‏{‏إلاَّ تَذْكِرَةً‏}‏ استثناء مفرّغ من أحوال للقرآن محذوفة، أي ما أنزلنا عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى‏:‏ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة‏.‏ ويدل لذلك تعقيبه بقوله ‏{‏تنزيلاً ممَّن خَلَق الأرضَ‏}‏ الذي هو حال من القرآن لا محالة، ففعل ‏{‏أنْزَلنا‏}‏ عامل في ‏{‏لِتَشْقَى‏}‏ بواسطة حرف الجرّ، وعامل في ‏{‏تَذْكِرة‏}‏ بواسطة صاحب الحال، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلّة المنفية بقوله‏:‏ ‏{‏لِتَشْقَى‏}‏ حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعاً وتقع في كُلف لتصحيح النّظم‏.‏

وقال الواحدي في «أسباب النزول»‏:‏ «قال مقاتل‏:‏ قال أبو جهل والنضر بن الحارث ‏(‏وزاد غير الواحدي‏:‏ الوليد بن المغيرة، والمطعِم بنَ عديّ‏)‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم إنك لتشقى بترك ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ الآية، وليس فيه سند‏.‏

والتذكرة‏:‏ خطور المنسي بالذهن؛ فإن التوحيد مستقرّ في الفطرة والإشراك مناف لها، فالدعوة إلى الإسلام تذكير لما في الفطرة أو تذكير لملّة إبراهيم عليه‏.‏

و ‏{‏من يخشى‏}‏ هو المستعد للتأمل والنظر في صحة الدّين، وهو كل من يفكّر للنجاة في العاقبة، فالخشية هنا مستعملة في المعنى العَربي الأصلي، ويجوز أن يراد بها المعنى الإسلامي، وهو خوف الله، فيكون المراد من الفعل المآل، أي من يؤول أمره إلى الخشية بتيْسِير الله تعالى له التقوى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ أي الصائرين إلى التقوى‏.‏

و ‏{‏تنزيلاً‏}‏ حال من ‏{‏القُرءَانَ‏}‏ ثانية‏.‏

والمقصود منها التنويه بالقرآن والعناية به لينتقل من ذلك إلى الكناية بأن الذي أنزله عليك بهذه المثابة لا يترك نصرك وتأييدك‏.‏

والعدول عن اسم الجلالة أو عن ضميره إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من تحتم إفراده بالعبادة، لأنه خالق المخاطبين بالقرآن وغيرهم مما هو أعظم منهم خلقاً، ولذلك وُصف والسَّمَاوات بالعُلَى صفةً كاشفةً زيادة في تقرير معنى عظمة خالقها‏.‏ وأيضاً لمّا كان ذلك شأن مُنْزل القرآن لا جرم كان القرآن شيئاً عظيماً، كقول الفرزدق‏:‏

إنّ الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأطول

و ‏{‏الرحمن‏}‏ يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعاً للاستعمال في حذف المسند إليه كما سماه السكّاكي‏.‏ ويجوز أن يكون مبتدأ‏.‏ واختير وصف ‏{‏الرحمن‏}‏ لتعليم النّاس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمان‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وفي ذكره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكراً على إحسانه بالرحمة البالغة‏.‏

وجملة ‏{‏على العرش استوى‏}‏ حال من ‏{‏الرحمن‏}‏‏.‏ أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف‏.‏

والاستواء‏:‏ الاستقرار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 28‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏واستوت على الجوديّ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والعرش‏:‏ عالم عظيم من العوالم العُليا، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها‏.‏ وقيل غير ذلك، ويسمى‏:‏ الكرسي أيضاً على الصحيح، وقيل‏:‏ الكرسي غير العرش‏.‏

وأيّاً مّا كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله‏:‏ ‏{‏ممَّن خلقَ الأرضَ والسموات العُلى‏}‏‏.‏

وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش‏.‏ وقد عَرَف العرب من أولئك ملوكَ الفرس وملوكَ الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة‏.‏

وحَسّنَ التعبيرَ بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو ممّا يُستوى عليه في المتعارف، فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى، فالآية من المتشابه البيّن تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة‏:‏ أن ليس كمثله شيء‏.‏

وقيل‏:‏ الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء‏.‏ وأنشدوا قول الأخطل‏:‏

قد استوى بشر على العراق *** بغير سيف ودممٍ مُهْراق

وهو مولّد‏.‏ ويحتمل أنه تمثيل كالآية‏.‏ ولعلّه انتزعه من هذه الآية‏.‏

وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية‏.‏

وفي تقييد الأبيّ على تفسير ابن عرفة‏:‏ واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة‏.‏

قيل لابن عرفة‏:‏ عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها، فذكر النبي دليلٌ على عدم تكفير من يقول بالتجسيم، فقال‏:‏ هذا صعب ولكن تجاسرتُ على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك‏.‏

وأتبع ما دلّ على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريراً وهو جملة‏:‏ له ما في السمَّوات‏}‏ الخ‏.‏ فهي بيان لجملة ‏{‏الرحمان على العرش استوى‏}‏‏.‏ والجملتان تدلان على عظيم قدرته لأن ذلك هو المقصود من سعة السلطان‏.‏

وتقديم المجرور في قوله ‏{‏له ما في السموات‏}‏ للقصر، رداً على زعم المشركين أن لآلهتهم تصرفات في الأرض، وأن للجنّ اطلاعاً على الغيب، ولتقرير الردّ ذكرت أنحاء الكائنات، وهي السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى‏.‏

والثّرى‏:‏ التراب‏.‏ وما تحته‏:‏ هو باطن الأرض كله‏.‏

وجملة ‏{‏له ما في السَّموات‏}‏ عطف على جملة ‏{‏على العرششِ اسْتَوى‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 6‏]‏ لدلالة هذه الجملة على سعة علمه تعالى كما دلّت الجملة المعطوف عليها على عظيم سلطانه وقدرته‏.‏ وأصل النظم‏:‏ ويعلم السر وأخفى إن تجهر بالقول؛ فموقع قوله‏:‏ ‏{‏وإن تَجْهَر بالقَوْلِ‏}‏ موقع الاعتراض بين جملة ‏{‏يعلم السر وأخفى وجملة الله لا إله إلاّ هو‏.‏ فصيغ النظم في قالب الشرط والجزاء زيادة في تحقيق حصوله على طريقة ما يسمى بالمذهب الكلامي، وهو سوق الخبر في صيغة الدليل على وقوعه تحقيقاً له‏.‏

والمعنى‏:‏ إنه يعلم السر وأخفى من السرّ في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه، أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى‏.‏ وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة‏.‏ وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي‏:‏

فأتت به حُوش الفؤاد مبطّنا *** سُهُداً إذَا ما نَام ليلُ الهَوْجل

أي سُهُداً في كلّ وقت حين ينام غيره ممن هو هَوْجل‏.‏ وقول بشامة بن حزن النهشلي‏:‏

إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم *** حَدّ الظُبات وصَلناها بأيدينا

وقول إبراهيم بن كُنيف النبهاني‏:‏

فإن تكن الأيام جَالت صروفها *** ببؤسَى ونُعمى والحوادث تفعل

فما ليَّنَتْ منا قناةً صَليبةً *** وما ذللتنا للّتي ليس تَجْمُل

وقول القطامِي‏:‏

فمن تكن الحضارة أعجبته *** فأيّ رجال بادية ترانا

فالخطاب في قوله وإنْ تَجْهَر‏}‏ يجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعم غيره‏.‏ ويجوز أن يكون لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب‏.‏

واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأنّ السر أخفى الأشياء عن علم الناس في العادة‏.‏ ولمّا جاء القرآن مذكراً بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقهُ قلوبِهم فقال أحدهم‏:‏ أترون أنّ الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ يسمع إن جَهَرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر‏:‏ إنْ كان يسمع إذا جهرنا ‏(‏أي وهو بعيد عنا‏)‏ فإنه يسمع إذا أخفينا‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا قلوبكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقد كثر في القرآن أنّ الله يعلم ما يسرّ الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرتْ الآية الآنفة الذكر‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 5‏]‏‏.‏

يبقى النظر في توجيه الإتيان بهذا الشرط بطريقة الاعتراض، وتوجيه اختيار فرض الشرط بحالة الجهر دون حالة السر مع أن الذي يتراءى للناظر أنّ حالة السر أجدر بالذكر في مقام الإعلام بإحاطة علم الله تعالى بما لا يحيط به علم الناس، كما ذكر في الخبر المروي عن ابن مسعود في الآية الآنفة الذكر‏.‏

وأحسب لفرض الشرط بحالة الجهر بالقول خصوصية بهذا السياق اقتضاها اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر بالقرآن في الصلاة أو غيرها، فيكون مورد هذه الآية كمورد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏ فيكون هذا مما نسخَه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدَع بما تؤمر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏، وتعليم للمسلمين باستواء الجهر والسر في الدعاء، وإبطال لتوهم المشركين أن الجهر أقرب إلى علم الله من السر، كما دل عليه الخبر المروي عن أبي مسعود المذكور آنفاً‏.‏

والقول‏:‏ مصدر، وهو تلفظ الإنسان بالكلام، فيشمل القراءة والدعاء والمحاورة، والمقصود هنا ما له مزيد مناسبة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 2‏]‏ الآيات‏.‏

وجواب شرط ‏{‏وإن تجهر بالقول‏}‏ محذوف يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإنه يعلم السر وأخفى‏.‏ والتقدير‏:‏ فلا تشقّ على نفسك فإنّ الله يعلم السر وأخفى، أي فلا مزية للجهر به‏.‏

وبهذا تعلم أن ليس مساق الآية لتعليم الناس كيفية الدعاء، فقد ثبت في السُّنّة الجهر بالدعاء والذكر، فليس من الصواب فرض تلك المسألة هنا إلاّ على معنى الإشارة‏.‏

وأخفى اسم تفضيل، وحذف المفضل عليه لدلالة المقام عليه، أي وأخفى من السر‏.‏ والمراد بأخفى منه‏:‏ ما يتكلم اللسان من حديث النفس ونحوه من الأصوات التي هي أخفى من كلام السر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

تذييل لما قبله لأنّ ما قبله تضمن صفات من فعل الله تعالى ومن خَلقه ومن عظمته فجاء هذا التذييل بما يجمع صفاته‏.‏

واسم الجلالة خبر لمبتدأ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ هو الله، جرياً على ما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن على العَرْشِ استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لا إله إلاَّ هُو‏}‏ حال من اسم الجلالة‏.‏ وكذلك جملة ‏{‏لهُ الأسماءُ الحسنى‏}‏‏.‏

والأسماء‏:‏ الكلمات الدالة على الاتّصاف بحقائق‏.‏ وهي بالنسبة إلى الله‏:‏ إما علَم وهو اسم الجلالة خاصةً‏.‏ وإما وصف مثل الرحمان والجبّار وبقية الأسماء الحسنى‏.‏

وتقديم المجرور في قوله ‏{‏له الأسماءُ الحُسْنى‏}‏ للاختصاص، أي لا لغيره لأنّ غيره إما أن يكون اسمه مجرداً من المعاني المدلولة للأسماء مثل الأصنام، وإما أن تكون حقائقها فيه غير بالغة منتهى كمال حقيقتها كاتصاف البشر بالرحمة والمِلك، وإما أن يكون الاتّصاف بها كَذباً لا حقيقة، كاتصاف البشر بالكِبْر، إذ ليس أهلاً للكبر والجبروت والعزّة‏.‏

ووصْف الأسمَاءُ بالحسنى لأنها دالة على حقائق كاملة بالنسبة إلى المسمى بها تعالى وتقدس‏.‏ وذلك ظاهر في غير اسم الجلالة، وأما في اسم الجلالة الذي هو الاسم العلَم فلأنه مخالف للأعلام من حيث إنّه في الأصل وصف دال على الانفراد بالإلهية لأنّه دال على الإله، وعُرّف باللام الدالة على انحصار الحقيقة عنده، فكان جامعاً لمعنى وجوب الوجود، واستحق العبادة لوجود أسباب استحقاقها عنده‏.‏

وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏180‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏‏}‏

أعقب تثبيت الرسول على التبليغ والتنويه بشأن القرآن بالنسبة إلى من أنزله ومن أنزل عليه بذكر قصة موسى عليه السلام ليتأسّى به في الصبر على تحمل أعباء الرسالة ومقاساة المصاعب، وتسليةً له بأن الذين كذبوه سيكون جزاؤهم جزاء مَن سلَفَهم من المكذبين، ولذلك جاء في عقب قصة موسى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 99 101‏]‏‏.‏ وجاء بعد ذكر قصة آدم وأنه لم يكن له عزم ‏{‏فاصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 130‏]‏ الآيات‏.‏

فجملة ‏{‏وهل أتَاكَ حَدِيثُ موسى‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 2‏]‏‏.‏ الغرض هو مناسبة العطف كما تقدم قريباً‏.‏ وهذه القصة تقدّم بعضها في سورة الأعراف وسورة يونس‏.‏

والاستفهام مستعمل في التشويق إلى الخبر مجازاً وليس مستعملاً في حقيقته سواء كانت هذه القصة قد قُصت على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أم كان هذا أولَ قصصها عليه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إذ رأى ناراً زيادة في التشويق كما يأتي قريباً‏.‏

وأوثر حرف ‏(‏هل‏)‏ في هذا المقام لما فيه من معنى التحقيق لأن ‏(‏هل‏)‏ في الاستفهام مثل ‏(‏قَد‏)‏ في الإخبار‏.‏

والحديث‏:‏ الخبر، وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر حدث في الخارج، ويجمع على أحاديث على غير قياس‏.‏ قال الفراء‏:‏ واحِد الأحاديث أُحْدُوثة ثم جعلوه جمعاً للحديث اه‏.‏ يعني استغنوا به عن صيغة فُعلاء‏.‏

وإذْ‏}‏ ظرف للحديث‏.‏ وقد تقدّم نظائره، وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقاً إلى استعلام كنه الخبر، لأن رؤية النار تحتمل أحوالاً كثيرة‏.‏

ورؤية النار تدلّ على أن ذلك كان بليل، وأنه كان بحاجة إلى النار؛ ولذلك فرع عليه‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لأَهْله امْكُثُوا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

والأهل‏:‏ الزوج والأولاد‏.‏ وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله ‏{‏امكثوا‏.‏ وفي سفر الخروج من التّوراة فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر‏.‏

وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير أهلِه على الأصل‏.‏ وقرأه حمزة وخلف‏:‏ بضم الهاء، تبعاً لضمة همزة الوصل في امكثوا‏.‏

والإيناس‏:‏ الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه‏.‏

وتأكيد الخبر بإن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة‏.‏

والقبَس‏:‏ ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس، كالجَمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك‏.‏ وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به‏.‏ وقيل‏:‏ اقتدح زَنده فَصَلَد، أي لم يقدح‏.‏

ومعنى أو أجدُ على النار هدى‏}‏‏:‏ أو ألقَى عارفاً بالطريق قاصداً السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل‏.‏ قيل‏:‏ كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدّة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلاً‏.‏

و ‏{‏أوْ‏}‏ هنا للتخيير، لأنّ إتيانه بقبس أمر محقق، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير، وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصداً الطريق مثله فيصحبه‏.‏

وحرف ‏{‏على‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أو أجِدُ على النَّارِ هُدىً‏}‏ مستعمل في الاستعلاء المجازي، أي شدّة القرب من النار قرباً أشبه الاستعلاء، وذلك أنّ مُشعِل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها‏.‏ قال الأعشى‏:‏

وباتَ على النار النّدى والمحلّقُ *** وأراد بالهدى صاحب الهدى‏.‏

وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاماً إياه أنه سيجد عند تلك النار هُدى عظيماً، ويبلّغ قومه منه ما فيه نفعهم‏.‏

وإظهار النّار لموسى رمْز رباني لطيف؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزاً على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏‏}‏

بني فعل النداء للمجهول زيادة في التشويق إلى استطلاع القصة، فإبهام المنادي يشوّق سامع الآية إلى معرفته فإذا فاجأه ‏{‏إنِّي أنا ربُّكَ‏}‏ علم أنّ المنادي هو الله تعالى فتمكن في النفس كمال التمكن‏.‏ ولأنه أدخل في تصوير تلك الحالة بأنّ موسى ناداه مناد غير معلوم له، فحكي نداؤه بالفعل المبني للمجهول‏.‏

وجملة ‏{‏إنِّي أنا ربُّكَ‏}‏ بيان لجملة ‏{‏نُودِيَ‏}‏‏.‏ وبهذا النداء علم موسى أنّ الكلام موجّه إليه من قِبَل الله تعالى لأنه كلام غير معتاد والله تعالى لا يغيّر العوائد التي قررها في الأكوان إلاّ لإرادة الإعلام بأنّ له عناية خاصة بالمغيّر، فالله تعالى خلق أصواتاً خَلقاً غير معتاد غير صادرة عن شخص مشاهد، ولا موجهة له بواسطة ملَك يتولى هو تبليغ الكلام لأنّ قوله ‏{‏إنِّي أنا ربُّكَ‏}‏ ظاهر في أنه لم يبلّغ إليه ذلك بواسطة الملائكة، فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلم الله موسى تكليماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، إذ علم موسى أن تلك الأصوات دالة على مراد الله تعالى‏.‏ والمرادُ التي تدلّ عليه تلك الأصوات الخارقة للعادة هو ما نسميه بالكلام النفسي‏.‏ وليس الكلام النفسي هو الذي سمعه موسى لأن الكلام النفسي صفة قائمة بذات الله تعالى منزّه عن الحروف والأصوات والتعلّق بالأسماع‏.‏

والإخبار عن ضمير المتكلم بأنه ربّ المخاطب لتسكين روعة نفسه من خطاب لا يرى مخاطِبه فإن شأن الرب الرفق بالمربوب‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ لتحقيقه لأجل غرابته دفعاً لتطرق الشك عن موسى في مصدر هذا الكلام‏.‏

وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أني» بفتح الهمزة على حذف باء الجر‏.‏ والتقدير‏:‏ نودي بأني أنا ربّك‏.‏ والتأكيد حاصل على كلتا القراءتين‏.‏

وتفريع الأمر بخلع النعلين على الإعلام بأنه ربّه إشارة إلى أن ذلك المكان قد حلّه التقديس بإيجاد كلام من عند الله فيه‏.‏

والخلع‏:‏ فصل شيء عن شيء كان متّصلاً به‏.‏

والنعلان‏:‏ جلدان غليظان يجعلان تحت الرجل ويشدّان برباط من جلد لوقاية الرِّجل ألم المشي على التّراب والحصى، وكانت النعل تجعل على مثال الرجل‏.‏

وإنما أمره الله بخلع نعليه تعظيماً منه لذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي‏.‏ وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كانت نعلاه من جلد حمارٍ ميّت ‏"‏ أقول‏:‏ وفيه أيضاً زيادة خشوع‏.‏ وقد اقتضى كلا المعنيين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّكَ بالوادِ المُقَدَّسِ‏}‏ فحرف التوكيد مفيد هنا التعليل كما هو شأنه في كل مقام لا يقتضي التأكيد‏.‏ وهذه خصوصية من جهات فلا يؤخذ منها حكمٌ يقتضي نزع النعل عند الصلاة‏.‏

والواد‏:‏ المَفْرج بين الجبال والتلاللِ‏.‏ وأصله بياء في آخره‏.‏ وكثر تخفيفه بحذف الياء كما في هذه الآية فإذا ثُني لزمتْه الياء يقال‏:‏ وادِيان ولا يقال وادَان‏.‏

وكذلك إذا أضيف يقال‏:‏ بوادِيك ولا يقال بوادِك‏.‏

والمقدّس‏:‏ المطهّر المنزّه‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونُقدس لك‏}‏ في أول البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏ وتقديس الأمكنة يكون بما يحلّ فيها من الأمور المعظمة وهو هنا حلول الكلام الموجه من قِبَل الله تعالى‏.‏

واختلف المفسرون في معنى طُوَىً‏}‏ وهو بضم الطاء وبكسرها، ولم يقرأ في المشهور إلاّ بضم الطاء، فقيل‏:‏ اسم لذلك المكان، وقيل‏:‏ هو اسم مصدر مثل هُدى، وصف بالمصدر بمعنى اسم المفعول، أي طواه موسى بالسير في تلك الليلة، كأنه قيل له‏:‏ إنك بالواد المقدّس الذي طويتَه سَيراً، فيكون المعنى تعيين أنه هو ذلك الواد‏.‏ وأحسن منه على هذا الوجه أن يقال هو أمر لموسى بأن يطوي الوادي ويصعَدَ إلى أعلاه لتلقي الوحي‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ موسى صَعِدَ أعلى الوادي‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى المقدس تقديسين، لأن الطي هو جعل الثوب على شقين، ويجيء على هذا الوجه أن تجعل التثنية كناية عن التكرير والتضعيف مثل‏:‏ ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ المقدّس تقديساً شديداً‏.‏ فاسم المصدر مفعول مطلق مبيّن للعدد، أي المقدّس تقديساً مضاعفاً‏.‏

والظاهر عندي‏:‏ أنّ ‏{‏طُوىً‏}‏ اسم لصنف من الأودية يكون ضيقاً بمنزلة الثوب المطوي أو غائراً كالبئر المطوية، والبئر تسمى طَوِيّاً‏.‏ وسمي وادٍ بظاهر مكة ‏(‏ذا طوى‏)‏ بتثليث الطاء، وهو مكان يسن للحاج أو المعتمر القادم إلى مكة أن يغتسل عنده‏.‏

وقد اختلف في ‏(‏طوى‏)‏ هل ينصرف أو يمنع من الصرف بناء على أنه اسم أعجمي أو لأنه معدول عن طاو، مثل عُمر عن عامر‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏طوى بلا تنوين على منعه من الصرف‏.‏ وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف منوّناً، لأنه اسم واد مذكّر‏.‏

وقوله وأنَا اخْتَرْتُكَ‏}‏ أخبر عن اختيار الله تعالى موسى بطريق المسند الفعلي المفيد تقوية الحكم، لأنّ المقام ليس مقام إفادة التخصيص، أي الحصر نحو‏:‏ أنا سعيت في حاجتك، وهو يعطي الجزيل‏.‏ وموجِب التقوّي هو غرابة الخبر ومفاجأته به دفعاً لتطرّق الشك في نفسه‏.‏

والاختيار‏:‏ تكلف طلب ما هو خير‏.‏ واستعملت صيغة التكلف في معنى إجادة طلب الخير‏.‏

وفُرع على الإخبار باختياره أن أُمِر بالاستماع للوحي لأنه أثر الاختيار إذ لا معنى للاختيار إلاّ اختياره لتلقي ما سيوحي الله‏.‏

والمراد‏:‏ ما يوحى إليه حينئذ من الكلام، وأما ما يوحى إليه في مستقبل الأيام فكونه مأموراً باستماعه معلوم بالأحْرى‏.‏

وقرأ حمزة وحده ‏{‏وأنّا اخترناك بضميري التعظيم‏.‏

واللام في لِمَا يُوحَى‏}‏ للتقوية في تعدية فعل «استمع» إلى مفعوله، فيجوز أن تتعلق باخْتَرْتُكَ، أي اخترتك للوحي فاستمع، معترضاً بين الفعل والمتعلّق به‏.‏ ويجوز أن يضمّن استمع معنى أصْغغِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏‏}‏

هذا ما يوحى المأمور باستماعه، فالجملة بدل من ‏{‏ما يوحى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 13‏]‏ بدلاً مطلقاً‏.‏

ووقع الإخبار عن ضمير المتكلم باسمه العلَم الدالّ على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد‏.‏ وذلك أول ما يجب علمه من شؤون الإلهية، وهو أن يعلم الاسم الذي جعله الله علَماً عليه لأن ذلك هو الأصل لجميع ما سيُخاطب به من الأحكام المبلغة عن ربّهم‏.‏

وفي هذا إشارة إلى أنّ أول ما يتعارف به المتلاقون أن يعرفوا أسماءهم، فأشار الله إلى أنه عالم باسم كليمه وعلّم كليمه اسمه، وهو الله‏.‏

وهذا الاسم هو علم الربّ في اللغة العربية‏.‏ واسمه تعالى في اللغة العبرانية ‏(‏يَهْوهْ‏)‏ أو ‏(‏أَهْيَهْ‏)‏ المذكور في الإصحاح الثالث من سفر الخروج في التوراة، وفي الإصحاح السادس‏.‏ وقد ذكر اسم الله في مواضع من التوراة مثل الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر الخروج في الفقرة الثامنة عشرة، والإصحاح الثاني والثلاثين في الفقرة السادسة عشرة‏.‏ ولعله من تعبير المترجمين وأكثر تعبير التوراة إنما هو الرب أو الإله‏.‏

ولفظ ‏(‏أهْيَهْ‏)‏ أو ‏(‏يَهْوَهْ‏)‏ قريب الحروف من كلمة إله في العربية‏.‏

ويقال‏:‏ إن اسم الجلالة في العبرانية «لاَهُمْ»‏.‏ ولعل الميم في آخره هي أصل التنوين في إله‏.‏

وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لدفع الشك عن موسى؛ نزل منزلة الشاكّ لأن غرابة الخبر تعرّض السامع للشك فيه‏.‏

وتوسيط ضمير الفصل بقوله ‏{‏إنَّني أنا الله‏}‏ لزيادة تقوية الخبر، وليس بمفيد للقصر، إذ لا مقتضى له هنا لأن المقصود الإخبار بأنّ المتكلّم هو المسمى الله، فالحمل حمل مواطاة لا حملُ اشتقاق‏.‏ وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لا إله إلاَّ أنا‏}‏ خبر ثان عن اسم ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏ والمقصود منه حصول العلم لموسى بوحدانية الله تعالى‏.‏

ثمّ فرع على ذلك الأمر بعبادته‏.‏ والعبادة تجمع معنى العمل الدالّ على التعظيم من قول وفعل وإخلاصصٍ بالقلب‏.‏ ووجه التفريع أن انفراده تعالى بالإلهية يقتضي استحقاقه أن يُعبد‏.‏

وخصّ من العبادات بالذكر إقامة الصلاة لأنّ الصلاة تجمع أحوال العبادة‏.‏ وإقامة الصلاة‏:‏ إدامتها، أي عدم الغفلة عنها‏.‏

والذكر يجوز أن يكون بمعنى التذكر بالعقل، ويجوز أن يكون الذكر باللّسان‏.‏

واللاّم في ‏{‏لِذِكْرِي‏}‏ للتّعليل، أي أقم الصلاة لأجل أن تذْكُرني، لأنّ الصلاة تذكّر العبد بخالقه‏.‏ إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته‏.‏ ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة وبضميمته إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ يظهر أن التقوى من حكمة مشروعية الصلاة لأنّ المكلّف إذا ذكر أمر الله ونهيه فعل ما أمره واجتنب ما نهاه عنه والله عرّف موسى حكمَة الصلاة مُجملةً وعرّفها محمداً صلى الله عليه وسلم مفصّلة‏.‏

ويجوز أن يكون اللام أيضاً للتوقيت، أي أقم الصلاة عند الوقت الذي جعلتُه لذِكري‏.‏

ويجوز أن يكون الذكر الذكرَ اللساني لأن ذكر اللسان يحرّك ذكر القلب ويشتمل على الثناء على الله والاعتراففِ بما له من الحق، أي الذي عيّنته لك‏.‏ ففي الكلام إيماء إلى ما في أوقات الصلاة من الحكمة، وفي الكلام حذف يعلم من السياق‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّ السَّاعة ءَاتِيَة‏}‏ مستأنفة لابتداء إعلام بأصل ثان من أصول الدّين بعد أصل التوحيد، وهو إثبات الجزاء‏.‏

والساعة‏:‏ علَم بالغلبة على ساعة القيامة أو ساعة الحساب‏.‏

وجملة ‏{‏أكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏ في موضع الحال من الساعَةَ، أو معترضة بين جملة وعلّتها‏.‏

والإخفاء‏:‏ الستر وعدم الإظهار، وأريد به هنا المجاز عن عدم الإعلام‏.‏

والمشهورُ في الاستعمال أن «كاد» تدلّ على مقاربة وقوع الفعل المخبر به عنها، فالفعل بعدها في حيّز الانتفاء، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كادُوا يكونون عليه لِبداً‏}‏ ‏[‏الجنّ‏:‏ 19‏]‏ يدلّ على أن كونهم لِبَداً غير واقع ولكنه اقترب من الوقوع‏.‏

ولما كانت الساعة مخفية الوقوع، أي مخفية الوقت، كان قوله ‏{‏أكاد أُخفيها‏}‏ غير واضح المقصود، فاختلفوا في تفسيره على وجوه كثيرة أمثلها ثلاثة‏.‏

فقيل‏:‏ المراد إخفاء الحديث عنها، أي من شدّة إرادة إخفاء وقتها، أي يراد ترك ذكرها ولعلّ توجيه ذلك أنّ المكذبين بالساعة لم يزدهم تكرر ذكرها في القرآن إلا عناداً على إنكارها‏.‏

وقيل‏:‏ وقعت ‏{‏أكَادُ‏}‏ زائدة هنا بمنزلة زيادة كان في بعض المواضع تأكيداً للإخفاء‏.‏ والمقصود‏:‏ أنا أخفيها فلا تأتي إلاّ بغتة‏.‏

وتأوّل أبو عليّ الفارسي معنى ‏{‏أُخْفِيها‏}‏ بمعنى أظهرها، وقال‏:‏ همزة ‏{‏أخفيها للإزالة مثل همزة أعْجَم الكتابَ، وأشكى زيداً، أي أزيل خفاءَها‏.‏ والخفاء‏:‏ ثوب تلفّ فيه القِربة مستعار للستر‏.‏

فالمعنى‏:‏ أكاد أظهرها، أي أظهر وقوعها، أي وقوعها قريب‏.‏ وهذه الآية من غرائب استعمال ‏(‏كاد‏)‏ فيضم إلى استعمال نفيها في قوله‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏71‏)‏‏.‏

وقوله لتجزى‏}‏ يتعلّق بآتِيَةٌ وما بينهما اعتراض‏.‏ وهذا تعليم بحكمة جعل يوم للجزاء‏.‏

واللام في ‏{‏لِتُجْزى كلُّ نَفْسٍ‏}‏ متعلّق بآتِيَةٌ‏.‏

ومعنى ‏{‏بِمَا تسعى‏}‏ بما تعمل، فإطلاق السعي على العمل مجاز مرسل، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏19‏)‏‏.‏

وفُرع على كونها آتية وأنها مخفاة التحذيرُ من أن يصدّه عن الإيمان بها قوم لا يؤمنون بوقوعها اغتراراً بتأخر ظهورها، فالتفريع على قوله أكاد أُخفيها‏}‏ أوقع لأنّ ذلك الإخفاء هو الذي يُشبّه به الذين أنكروا البعث على الناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وصيغ نهي موسى عن الصدّ عنها في صيغة نهي من لا يؤمن بالساعة عن أن يصدّ موسى عن الإيمان بها، مبالغة في نهي موسى عن أدنى شيء يحول بينه وبين الإيمان بالساعة، لأنه لما وجّه الكلام إليه وكان النّهي نهي غير المؤمن عن أن يصدّ موسى، عُلم أنّ المراد نهي موسى عن ملابسة صدّ الكافر عن الإيمان بالساعة، أي لا تكن ليّن الشكيمة لمن يصدك ولا تُصْغ إليه فيكون لينك له مجرئاً إياه على أن يصدك، فوقع النهي عن المسبب‏.‏

والمراد النهي عن السبب، وهذا الأسلوب من قبيل قولهم‏:‏ لا أعرفنّك تفعل كذا ولا أرَينّك ههنا‏.‏

وزيادة ‏{‏واتَّبَعَ هَواه‏}‏ للإيماء بالصلة إلى تعليل الصدّ، أي لا داعي لهم للصدّ عن الإيمان بالساعة إلا اتّباع الهوى دون دليل ولا شبهة، بل الدليل يقتضي الإيمان بالساعة كما أشار إليه قوله ‏{‏لِتُجزى كلُّ نفسسٍ بما تَسعى‏}‏‏.‏

وفرع على النهي أنّه إن صُدّ عن الإيمان بالساعة رَدِيَ، أي هلك‏.‏ والهلاك مستعار لأسْوأ الحال كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يهلكون أنفسهم‏}‏ في سورة براءة ‏(‏42‏)‏‏.‏

والتفريع ناشئ عن ارتكاب المنهِي لا على النهي، ولذلك جيء بالتفريع بالفاء ولم يقع بالجزاء المجزوم، فلم يقل‏:‏ تَرْدَ، لعدم صحة حلول ‏(‏إنْ‏)‏ مع ‏(‏لا‏)‏ عوضاً عن الجزاء، وذلك ضابط صحة جزم الجزاء بعد النّهي‏.‏

وقد جاء خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام بطريقة الاستدلال على كلّ حكممٍ، وأمرٍ أو نهي، فابتدئ بالإعلام بأنّ الذي يُكلمه هو الله، وأنه لا إله إلاّ هو، ثمّ فرع عليه الأمر في قوله فاعْبُدني وأقِممِ الصلاة لِذِكري‏}‏، ثم عقب بإثبات الساعة، وعلل بأنها لتجزى كلّ نفس بما تسعى، ثم فرع عليه النهي عن أن يصده عنها من لا يؤمن بها‏.‏ ثم فرع على النهي أنه إن ارتكب ما نهي عنه هلك وخسر‏.‏