فصل: تفسير الآيات رقم (17- 21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

بقية ما نودي به موسى‏.‏ والجملة معطوفة على الجمل قبلها انتقالاً إلى محاورة أراد الله منها أن يُري موسى كيفية الاستدلال على المرسَل إليهم بالمعجزة العظيمة، وهي انقلاب العصا حيّة تأكل الحيات التي يظهرونها‏.‏

وإبراز انقلاب العصَا حيّةً في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى، ودفع الشكّ عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأنّ مشاهدَ الخوارق تسارع بالنفس بادئ ذي بدء إلى تأويلها وتُدخل عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل، فلذلك ابتدئ بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حيّة لم يشك في أنّ تلك الحيّة هي التي كانت عصاه‏.‏ فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسؤول عنه‏.‏

والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلّم معتاد ولا في صورة المعتاد، كما دلّ عليه قوله بعد ذلك ‏{‏لنريك من آياتنا الكبرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه‏.‏ وبُنيت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله ‏{‏بِيَمِينِكَ‏}‏، ووقع الظرف حالاً من اسم الإشارة، أي ما تلك حال كونها بيمينك‏؟‏‏.‏

ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسؤول عنه جرياً على الظاهر، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأنّ شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلاّ والسائل يريد من سؤاله أمراً غير ظاهر، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع‏:‏ «أيُّ يوم هذا‏؟‏» سكت النّاس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه‏.‏ وفي رواية أنهم قالوا‏:‏ «الله ورسوله أعلم، فقال‏:‏ أليس يوم الجمعة‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏» إلى آخره‏.‏

فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسؤول عنه، وتوقع أن السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏هِيَ عَصَايَ‏}‏، بذكر المسند إليه، مع أنّ غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسؤولاً عنه، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول‏:‏ عصاي‏.‏ فلما قال‏:‏ ‏{‏هِيَ عَصَايَ‏}‏ كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار، كما يقول سائل لما رأى رجلاً يعرفه وآخر لا يعرفه‏:‏ من هذا معك‏؟‏ فيقول‏:‏ فلان، فإذا لقيَهما مرة أخرى وسأله‏:‏ من هذا معك‏؟‏ أجابه‏:‏ هو فلان، ولذلك عَقب موسى جوابَه ببيان الغرض من اتّخاذها لعلّه أن يكون هو قصد السائل فقال‏:‏ ‏{‏أتَوَكَّؤُا عليها وأَهُشُّ بها على غَنَمي ولِي فيها مَئَارِبُ أخرى‏}‏‏.‏ ففصّل ثمّ أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتّى إذا استزاده بياناً زاده‏.‏

والباء في قوله ‏{‏بِيَمِينِكَ‏}‏ للظرفية أو الملابسة‏.‏

والتوكّؤ‏:‏ الاعتماد على شيء من المتاع، والاتّكاء كذلك، فلا يقال‏:‏ توكّأ على الحائط ولكن يقال‏:‏ توكأ على وسادة، وتوكأ على عصا‏.‏

والهَشّ‏:‏ الخَبْط، وهو ضرب الشجرة بعصاً ليتساقط ورقها، وأصله متعدّ إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع، ثمّ كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش بعلى لتضمين ‏(‏أهشّ‏)‏ معنى أُسقط على غنمي الورق فتأكله، أو استعملت ‏(‏على‏)‏ بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم‏:‏ هو وكيل على فلان‏.‏

ومَآرب‏:‏ جمع مَأرُبة، مثلث الراء‏:‏ الحاجة، أي أمور أحتاج إليها‏.‏ وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس، وقد أفرد الجاحظ من كتاب «البيان والتبيين» باباً لمنافع العصا‏.‏ ومن أمثال العرب‏:‏ «هو خير من تفارق العصا»‏.‏ ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأنّ المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث‏.‏

والظاهر أنّ قوله ‏{‏مَئَارب أُخرى‏}‏ حكاية لقول موسى بمماثله، فيكون إيجازاً بعد الإطناب، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد العصا‏.‏ ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه، أي عدّ منافع أخرى، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى عليه السلام‏.‏

والضمير المشترك في ‏{‏قال ألقِها عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلّم الذي في قوله إنني أنا الله؛ دعا إلى الالتفات وقوع هذا الكلام حواراً مع قول موسى‏:‏ هي عصاي‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وقوله أَلقِهَا‏}‏ يتضح به أن السؤال كان ذريعة إلى غرض سيأتي، وهو القرينة على أن الاستفهام في قوله ‏{‏وما تلك بيمينك‏}‏ مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسؤول عنه كالذي يجيء في قوله‏:‏ ‏{‏وما أعجلك عن قومك يا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 83‏]‏‏.‏

والحيّة‏:‏ اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عضّ بنابيه قتل المعضوض، ويطلق على الذكر‏.‏

ووصف الحيّة بتسعى لإظهار أنّ الحياة فيها كانت كاملة بالمشي الشديد‏.‏ والسعي‏:‏ المشي الذي فيه شدّة، ولذلك خصّ غالباً بمشي الرجل دون المرأة‏.‏

وأعيد فعل ‏{‏قَالَ خُذْهَا‏}‏ بدون عطف لوقوعه في سياق المحاورة‏.‏

والسيرة في الأصل‏:‏ هيئة السير، وأطلقت على العادة والطبيعة، وانتصب ‏{‏سِيرَتَها‏}‏ بنزع الخافض، أي سنعيدها إلى سيرتها الأولى التي كانت قبل أن تنقلب حيّة، أي سنعيدها عصاً كما كانت أول مرة‏.‏

والغرض من إظهار ذلك لموسى أن يعرف أنّ العصا تطبعت بالانقلاب حيّة، فيتذكر ذلك عند مناظرة السحرة لئلا يحتاج حينئذ إلى وحي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏‏}‏

هذه معجزة أخرى عَلمه الله إياها حتى إذا تحدّى فرعون وقومه عمل مثل ذلك أمام السحرة‏.‏ فهذا تمرين على معجزة ثانية مُتّحِد الغرض مع إلقاء العصا‏.‏

والجناح‏:‏ العضد وما تحته إلى الإبط‏.‏ أطلق عليه ذلك تشبيهاً بجناح الطائر‏.‏

والضمّ‏:‏ الإلصاق، أي ألصق يدك اليمنى التي كنت ممسكاً بها العصا‏.‏ وكيفية إلصاقها بجناحه أن تباشر جِلدَ جناحه بأن يدخلها في جَيْب قميصه حتى تماس بَشرة جنبه، كما في آية سورة سليمان‏:‏ ‏{‏وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء‏}‏ ‏[‏النّمل‏:‏ 12‏]‏‏.‏ جعل الله تغيّر لون جلد يده مماستها جناحه تشريفاً لأكثر ما يناسب من أجزاء جسمه بالفعل والانفعال‏.‏

و ‏{‏بيضَاءَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تَخْرُجُ‏}‏، و‏{‏مِنْ غيرِ سُوءٍ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏بَيْضَاء‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏مِنْ غير سُوءٍ‏}‏ من غير مَرض مثل البَرص والبَهق بأن تصير بيضاء ثم تعود إلى لونها المماثل لونَ بقية بشرته‏.‏ وانتصب ‏{‏آيةً‏}‏ على الحال من ضمير ‏{‏تَخْرُجُ‏}‏‏.‏

والتعليل في قوله ‏{‏لِنُريكَ مِن ءاياتنا الكُبْرى‏}‏ راجع إلى قوله ‏{‏تَخْرُجُ بَيْضَاءَ‏}‏، فاللام متعلّقة ب ‏{‏تَخْرُجُ‏}‏ لأنّه في معنى نجعلها بيضاء فتخرج بيضاء أو نخرجها لك بيضاء‏.‏ وهذا التعليل راجع إلى تكرير الآية، أي كررنا الآيات لنريك بعض آياتنا فتعلم قدرتنا على غيرها، ويجوز أن يتعلق ‏{‏لِنُرِيكَ‏}‏ بمحذوف دلّ عليه قوله ‏{‏ألقها‏}‏ وما تفرّع عليه‏.‏ وقوله ‏{‏واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ‏}‏ وما بعده، وتقدير المحذوف‏:‏ فعلنا ذلك لنريك من آياتنا‏.‏

و ‏{‏مِن ءاياتنا‏}‏ في موضع المفعول الثاني ل ‏{‏نريك، فتكون ‏(‏مِن‏)‏ فيه اسماً بمعنى بعض على رأي التفتزاني‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏8‏)‏، ويشير إليه كلام الكشاف‏}‏ هنا‏.‏

و ‏{‏الكبرى‏}‏ صفة ل ‏{‏ءاياتنا‏}‏‏.‏ والكِبر‏:‏ مستعار لقوّة الماهية‏.‏ أي آياتنا القوية الدلالة على قدرتنا أو على أنا أرسلناك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 36‏]‏

‏{‏اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏‏}‏

لما أظهر الله لهُ الآيتين فعلم بذلك أنه مؤيّد من الله تعالى، أمره الله بالأمر العظيم الذي من شأنه أن يُدخل الرّوع في نفس المأمور به وهو مواجهة أعظم ملوك الأرض يومئذ بالموعظة ومكاشفته بفساد حاله، وقد جاء في الآيات الآتية‏:‏ ‏{‏قالا ربّنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 45، 46‏]‏‏.‏

والذهاب المأمور به ذهاب خاص، قد فهمه موسى من مقدمات الإخبار باختياره، وإظهار المعجزات له، أو صرح له به وطوي ذكره هنا على طريقة الإيجاز، على أنّ التّعليل الواقع بعده ينبئ به‏.‏

فجملة ‏{‏إنه طَغَى‏}‏ تعليل للأمر بالذهاب إليه، وإنما صلحت للتعليل لأن المراد ذهاب خاص، وهو إبلاغ ما أمر الله بإبلاغه إليه من تغييره عما هو عليه من عبادة غير الله‏.‏ ولما علم موسى ذلك لم يبادر بالمراجعة في الخوف من ظلم فرعون، بل تلقى الأمر وسأل الله الإعانة عليه، بما يؤول إلى رباطة جأشه وخلق الأسباب التي تعينه على تبليغه، وإعطائه فصاحة القول للإسراع بالإقناع بالحجة‏.‏

وحكي جواب موسى عن كلام الرب بفعل القول غير معطوف جرياً على طريقة المحاورات‏.‏

ورتّب موسى الأشياء المسؤولة في كلامه على حسب ترتيبها في الواقع على الأصل في ترتيب الكلام ما لم يكن مقتض للعدل عنه‏.‏

فالشرح، حقيقته‏:‏ تقطيع ظاهر شيء ليّن‏.‏ واستعير هنا لإزالة ما في نفس الإنسان من خواطر تكدره أو توجب تردده في الإقدام على عمل ما تشبيهاً بتشريح اللحم بجامع التوسعة‏.‏

والقلب‏:‏ يراد به في كلامهم والعقل‏.‏ فالمعنى‏:‏ أزل عن فكري الخوف ونحوه، مما يعترض الإنسان من عقبات تحول بينه وبين الانتفاع بإقدامه وعزامته، وذلك من العُسر، فسأل تيسير أمره، أي إزالة الموانع الحافّة بما كلف به‏.‏

والأمر هنا‏:‏ الشأن، وإضافة ‏(‏أمر‏)‏ إلى ضمير المتكلم لإفادة مزيد اختصاصه به وهو أمر الرسالة كما في قوله الآتي ‏{‏وأشْرِكه في أمْرِي‏}‏‏.‏

والتيسير‏:‏ جعل الشيء يسيراً، أي ذا يسْر‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏185‏)‏‏.‏

ثم سأل سلامة آلة التبليغ وهو اللسان بأن يرزقه فصاحة التعبير والمقدرة على أداء مراده بأوضح عبارة، فشبه حُبسة اللسان بالعُقدة في الحبل أوالخيط ونحوهما لأنها تمنع سرعة استعماله‏.‏

والعُقدة‏:‏ موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر منه، وهي بزنة فُعلة بمعنى مفعول كقُضة وغُرفة؛ أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف على وجه الاستعارة لعدم تصرف اللسان عند النطق بالكلمة وهي استعارة مصرّحة، ويقال لها حُبْسة‏.‏ يقال‏:‏ عَقِد اللسان كفرح، فهو أعقد إذا كان لا يبين الكلام‏.‏ واستعار لإزالتها فعل الحل المناسب العقدة على طريقة الاستعارة المكنية‏.‏

وزيادة لِي‏}‏ بعد ‏{‏اشْرَحْ‏}‏ وبعد ‏{‏يسر‏}‏ إطناب كما أشار إليه صاحب «المفتاح» لأنّ الكلام مفيد بدونه‏.‏

ولكن سلك الإطناب لما تفيده اللام من معنى العلّة، أي اشرح صدري لأجلي ويسر أمري لأجلي، وهي اللام الملقبة لامَ التبيين التي تفيد تقوية البيان، فإن قوله ‏{‏صدري وأمري واضح أن الشرح والتيسير متعلقان به فكان قوله لي فيهما زيادة بيان كقوله‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏ وهو هنا ضرب من الإلحاح في الدعاء لنفسه‏.‏

وأمّا تقديم هذا المجرور على متعلقه فليحصل الإجمال ثم التفصيل فيفيد مفاد التأكيد من أجل تكرر الإسناد‏.‏

ولم يأت بذلك مع قوله ‏{‏واحْللْ عُقدةً مِن لِساني‏}‏ لأنّ ذلك سؤال يرجع إلى تبليغ رسالة الله إلى فرعون فليست فائدتها راجعة إليه حتى يأتي لها بلام التبيين‏.‏

وتنكير ‏{‏عقدة‏}‏ للتعظيم، أي عقدة شديدة‏.‏

و ‏{‏مِن لِساني‏}‏ صفة لعُقْدة‏.‏ وعدل عن أن يقول‏:‏ عقدة لساني، بالإضافة ليتأتى التنكير المشعر بأنها عقدة شديدة‏.‏

وفعل ‏{‏يَفْقَهُوا‏}‏ مجزوم في جواب الأمر على الطريقة المتّبعة في القرآن من جعل الشيء المطلوب بمنزلة الحاصل عقب الشرط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏ أي إن نقل لهم غضّوا يغضوا، أي شأنهم الامتثال‏.‏ والفقه‏:‏ الفهم‏.‏

والوزير‏:‏ فعيل بمعنى فاعل، من وَزار على غير قياس، مثل حكيم من أحكم، وهو مشتق من الأزْر، وهو المعونة، والمؤازرة كذلك، والكل مشتق من الأزر، أي الظهر، كما سيأتي قريباً، فحقه أن يكون أزيراً بالهمزة إلا أنّهم قلبوا همزته واواً حملاً على موازر الذي هو بمعناه الذي قلبت همزته واواً لانضمام ما قبلها‏.‏ فلما كثر في الكلام قولهم‏:‏ موازر ويوازر بالواو نطقوا بنظيره في المعنى بالواو بدون موجب للقلب إلاّ الحمل على النظير في النطق، أي اعتياد النطق بهمزته واواً، أي اجعَل معيناً من أهلي‏.‏

وخصّ هارون لفرط ثقته به ولأنه كان فصيح اللسان مقوالاً، فكونه من أهله مظنة النصح له، وكونه أخاه أقوى في المناصحة، وكونه الأخ الخاصّ لأنه معلوم عنده بأصالة الرأي‏.‏

وجملة ‏{‏اشْدُدْ به أَزْرِي‏}‏ على قراءة الجمهور بصيغة الأمر في فعلي ‏{‏اشدد، وأشرك بيان لجملة اجْعَل لي وَزِيراً‏}‏‏.‏ سأل الله أن يجعله معيناً له في أعماله، وسأله أن يأذن له بأن يكون شريكاً لموسى في أمره، أي أمر رسالته‏.‏

وقرأ ابن عامر بصيغة المتكلم بفتح الهمزة المقطوعة في «اشدُد» وبضم همزة «أشركه»، فالفعلان إذن مجزومان في جواب الدعاء كما جزم ‏{‏يفقهوا قولي‏.‏

و هارون‏}‏ مفعول أول لفعل ‏{‏اجْعَل‏}‏، قُدم عليه المفعول الثاني للاهتمام‏.‏

والشد‏:‏ الإمساك بقوّة‏.‏

والأزر‏:‏ أصله الظهر‏.‏ ولما كان الظهر مجمع حركة الجسم وقوام استقامته أطلق اسمه على القُوّة إطلاقاً شائعاً يساوي الحقيقة فقيل الأزر للقوّة‏.‏

وقيل‏:‏ آزره إذا أعانه وقوّاه‏.‏ وسمي الإزار إزاراً لأنّه يشدّ به الظهر، وهو في الآية مراد به الظهر ليناسب الشدّ، فيكون الكلام تمثيلاً لهيئة المعين والمعان بهيئة مشدود الظهر بحزام ونحوه وشادّه‏.‏

وعلّل موسى عليه السلام سؤاله تحصيل ما سأله لنفسه ولأخيه، بأن يسبّحا الله كثيراً ويذكُرَا الله كثيراً‏.‏ ووجه ذلك أنّ فيما سأله لنفسه تسهيلاً لأداء الدعوة بتوفر آلاتها ووجود العون عليها، وذلك مظنة تكثيرها‏.‏

وأيضاً فيما سأله لأخيه تشريكه في الدعوة ولم يكن لأخيه من قبل، وذلك يجعل من أخيه مضاعفة لدعوته، وذلك يبعث أخاه أيضاً على الدعوة‏.‏ ودعوةُ كلّ منهما تشتمل على التعريف بصفات الله وتنزيهه فهي مشتملة على التسبيح، وفي الدعوة حثّ على العمل بوصايا الله تعالى عباده، وإدخال الأمة في حضرة الإيمان والتّقوى، وفي ذلك إكثار من ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى بعد هذه الآيات ‏{‏اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تَنِيَا في ذِكري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 42‏]‏، أي لا تضعفا في تبليغ الرسالة، فلا جرم كان في تحصيل ما دعا به إكثار من تسبيحهما وذكرهما الله‏.‏

وأيضاً في التعاون على أداء الرسالة تقليل من الاشتغال بضرورات الحياة، إذ يمكن أن يقتسما العملَ الضروري لحياتهما فيقلّ زَمن اشتغالهما بالضروريات وتتوفّر الأوقات لأداء الرسالة‏.‏ وتلك فائدة عظيمة لكليهما في التبليغ‏.‏

والذي ألجأ موسى إلى سؤال ذلك علمُه بشدّة فرعون وطغيانه ومنعه الأمة من مفارقة ضلالهم، فعلم أنّ في دعوته فتنة للداعي فسأل الإعانة على الخلاص من تلك الفتنة ليتوفّرا للتسبيح والذكر كثيراً‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً‏}‏ تعليل لسؤاله شرح صدره وما بعده، أي لأنك تعلم حالي وحال أخي، وأنّي ما دعوتك بما دعوت إلا لأننا محتاجان لذلك، وفيه تفويض إلى الله تعالى بأنه أعلم بما فيه صلاحهم، وأنه ما سأل سؤاله إلاّ بحسب ما بلغ إليه علمه‏.‏

وقوله ‏{‏قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى‏}‏ وعد له بالإجابة، وتصديق له فيما توسمه من المصالح فيما سأله لنفسه ولأخيه‏.‏

والسُؤْلُ بمعنى المسؤول‏.‏ وهو وزن فُعْل بمعنى مفعول كالخُبز بمعنى المخبوز، والأكْل بمعنى المأكول‏.‏ وهذا يدل على أن العقدة زالت عن لسانه، ولذلك لم يحك فيما بعد أنّه أقام هارون بمجادلة فرعون‏.‏ ووقع في التّوراة في الإصحاح السابع من سفر الخروج‏:‏ «فقال الرب لموسى أنت تتكلّم بكلّ ما أمرك به وهارون أخوك يكلّم فرعون»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 41‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏

جملة ولقد مَنَنَّا عليْكَوَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى * إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى * أَنِ‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏قد أوتيتَ سُؤْلك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 36‏]‏ لأنّ جملة ‏{‏قد أوتيت سؤلك تتضمن منّة عليه، فعطف عليها تذكير بمنّة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنّه لما كان بمحل العناية من ربّه من أوّل أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعدَ سؤاله أحْرى، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه‏.‏ فهذا طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيّداً في سائر أحواله المستقبلة، كقوله تعالى لمحمد‏:‏ ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 5 8‏]‏‏.‏

وتأكيد الخبر بلام القسم و‏(‏قد‏)‏ لتحقيق الخبر، لأنّ موسى عليه السلام قد علم ذلك، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أوتيت سؤلك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 36‏]‏‏.‏

والمَرّة‏:‏ فَعلة من المرور، غلبت على معنى الفَعلة الواحدة من عمل معيّن يعرف بالإضافة أو بدلالة المقام‏.‏ وقد تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم بدأوكم أول مرة‏}‏ في سورة براءة ‏(‏13‏)‏‏.‏ وانتصاب مَرَّةً‏}‏ هنا على المفعولية المطلقة لفعل ‏{‏مَنَنَّا‏}‏، أي مرّة من المنّ‏.‏ ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنّة‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف للمنّة‏.‏

والوحي، هنا‏:‏ وحي الإلهام الصادق‏.‏ وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجزم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى‏.‏ وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق‏.‏

و ‏{‏ما يوحى‏}‏ موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها‏.‏ ومفيد تأكيد كونه إلهاماً من قبل الحق‏.‏

و ‏{‏أنِ‏}‏ تفسير لفعل ‏{‏أوْحَيْنَا‏}‏ لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى‏.‏

والقذف‏:‏ أصله الرمي، وأطلق هنا على الوضع في التابوت، تمثيلاً لهيئة المُخفى عمله، فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجراً ونحوه‏.‏

والتابوت‏:‏ الصندوق‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏248‏)‏‏.‏

واليمّ‏:‏ البحر، والمراد به نهر النّيل‏.‏

والساحل‏:‏ الشاطئ، ولام الأمر في قوله فَلْيُلْقِهِ‏}‏ دالة على أمر التكوين، أي سخرنا اليَمّ لأن يلقيه بالساحل، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد، والمراد ساحل معهود، وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة‏.‏

والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنّه المقصود وهو حاضر في ذهن أمّه الموحى إليها، وقَذفه في التّابوت وفي اليَمّ وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلّقة بضميره، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشراً أو في ضمن غيره، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة‏.‏ ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك‏.‏

وجزم ‏{‏يَأْخُذْهُ‏}‏ في جواب الأمر على طريقة جزم قوله ‏{‏يفقهوا قولي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 28‏]‏ المتقدم آنفاً‏.‏

والعدوّ‏:‏ فرعون، فهو عدوّ الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية، وعدوّ موسى تقديراً في المستقبل، وهو عدوّه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنّه اعتزم على قتل أبنائهم‏.‏

‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى‏}‏

عطف على جملة ‏{‏أوحينا أي حين أوحينا إلى أمّك ما كان به سلامتك من الموت، وحين ألقيت عليك محبّة لتحصل الرقّة لواجده في اليَمّ، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولداً كما جاء في الآية الأخرى ‏{‏وقالت امرأة فرعون قرّةُ عيننٍ لي ولك لا تقتلوه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 9‏]‏؛ لأنّ فرعون قد غلب على ظنه أنّه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط‏.‏

وإلقاء المحبة مجاز في تعلّق المحبة به، أي خلق المحبّة في قلب المحبّ بدون سبب عاديّ حتى كأنه وضعٌ باليد لا مقتضي له في العادة‏.‏

ووصف المحبّة بأنها من الله للدّلالة على أنها محبّة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبّة العرفيّة من الإلف والانتفاع، ألا ترى قول امرأة فرعون‏:‏ ‏{‏عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 9‏]‏ مع قولها‏:‏ ‏{‏قرّة عين لي ولك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 9‏]‏، فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولداً‏.‏

‏{‏

جملة ولتصنع على عينيوَلِتُصْنَعَ على عينى * إِذْ تمشى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فرجعناك إلى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إذ أوحينا إلى أمك الخ‏.‏ جُعل الأمران إتماماً لمنّة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلاّ إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبليّة‏.‏ والتقدير‏:‏ وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تُصنع على عيني‏.‏

والصنع‏:‏ مستعار للتربية والتنمية، تشبيهاً لذلك بصنع شيء مصنوع، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة‏:‏ هو صنيعة فلان‏.‏

وأخت موسى‏:‏ مريم ابنة عمران‏.‏ وفي التّوراة‏:‏ أنّها كانت نبيئة كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج‏.‏ وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صِين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد‏.‏ وذلك سنة 1417 قبل المسيح‏.‏

وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل تُصنَعَ‏.‏ وقرأه أبو جعفر بسكون اللاّم على أنها لام الأمر وبجزم الفعل على أنّه أمر تكويني، أي وقلنا‏:‏ لتصنع‏.‏

وقوله على عيني‏}‏ ‏(‏على‏)‏ منه للاستعلاء المجازي، أي المصاحبة المتمكنة، فعلى هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏

والعَين‏:‏ مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك بأعيننا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37‏]‏، وقول النابغة‏:‏

عهدتك ترعاني بعيننٍ بصيرة *** وتبعثُ حُراساً عليّ وناظِرا

ووقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته، وفصّلت في سورة القصص‏.‏

والاستفهام في ‏{‏هَلْ أدُلُكُمْ‏}‏ للعَرْض‏.‏ وأرادت ب ‏{‏مَن يَكْفُلُهُ‏}‏ أمّه‏.‏ فلذلك قال ‏{‏فرجعناك إلى أُمِّكَ‏}‏‏.‏

وهذه منّة عليه لإكمال نمائه، وعلى أمّه بنجاته فلم تفارق ابنها إلاّ ساعات قلائل، أكرمها الله بسبب ابنها‏.‏

وعطفُ نفي الحزن على قرّة العين لتوزيع المنّة، لأنّ قرّة عينها برجوعه إليها‏.‏ وانتفاءَ حزنها بتحقق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى‏.‏ وتقديم قرّة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن؛ روعي فيه مناسبة تعقيب ‏{‏فرجعناك إلى أُمِّكَ‏}‏ بما فيه من الحكمة، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على من يكفله في بيتها، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة، وكذلك ثبت في التّوراة في سفر الخروج‏.‏

جملة وقَتَلْتَوَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم وفتناك فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فى أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى * واصطنعتك لِنَفْسِى‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ولقد منّنا عليك مرة أخرى لأنّ المذكور في جملة وقتلت نفساً‏}‏ منّة أخرى ثالثة‏.‏

وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنّة، حيث افتتحت القصّة بذكر جناية عظيمة التبعة، وهي قتل النّفس ليكون لقوله ‏{‏فنجيناك‏}‏ موقع عظيم من المنّة، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثلُه‏.‏

وهذه النفس هي نفس القبطيّ من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه كما قصّ ذلك في سورة القصص‏.‏

والغمّ‏:‏ الحزن‏.‏ والمعنيّ به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه، لأنّ فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهيّن بينهم‏.‏ ويظهر أنّ فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك‏.‏

والفُتون‏:‏ مصدر فَتن، كالخُروج، والثُبور، والشُكور، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو ‏{‏فتنّاك، وتنكيرهُ للتعظيم، أي فتوناً قويّاً عظيماً‏.‏

والفتون كالفتنة‏:‏ هو اضطراب حال المرء في مدّة من حياته‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشدّ من القتل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏191‏)‏‏.‏ ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر، فيكون في الشرّ وفي الخير‏.‏ وأما الفتنة فلعلّها خاصة باختبار المضرّ‏.‏ ويظهر أن التنوين في فتوناً للتقليل، وتكون جملة وفتناك فُتُوناً‏}‏ كالاستدراك على قوله ‏{‏فنجيناك مِنَ الغَمّ‏}‏، أي نجيناك وحصل لك خوف، كقوله ‏{‏فأصبح في المدينة خائفاً يترقب‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 18‏]‏ فذلك الفتون‏.‏

والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبح في المدينة خائفاً يترقب إلى قوله‏:‏ ‏{‏وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقّب قال رب نجنّي من القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 18 21‏]‏‏.‏

وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم تَرِد إليهم دعوة إلهية حينئذ‏.‏ فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلَى موسى بالخوف والغربة عتاباً له على إقدامه على قتل النفس، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15 16‏]‏‏.‏ وعباد الله الذين أراد بهم خيراً ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالاً يكسبونه، ويُسمى مثل ذلك بالابتلاء، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئةَ ضمير لتحمّل المصاعب، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام‏.‏ ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله ‏{‏فَلِبثْتَ سِنينَ في أهللِ مَديَنَ ثمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يامُوسى‏}‏ فبين له كيف كانت عاقبة الفتون‏.‏

أو يكون الفتون مشتركاً بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، أي واختبرناك اختباراً، والاختبار‏:‏ تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر، ولهذا اختير هنا دون الفتنة‏.‏

وأهل مدين‏:‏ قوم شعيب‏.‏ ومَدْيَن‏:‏ اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيْكة على شاطئ البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علماً للمكان فمن ثمّ أضيف إليه ‏(‏أهل‏)‏‏.‏ وقد تقدم في سورة الأعراف‏.‏

ومعنى ‏{‏جئتَ‏}‏ حضرتَ لدينا، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي‏.‏

و ‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه‏.‏

والقدَر‏:‏ تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل، قال النّابغة‏:‏

فريع قلبي وكانتْ نظرةً عرضت *** يوماً وتوفيق أقدار لأقدار

أي موافقة ما كنتُ أرغبه‏.‏

فقوله ‏{‏ثم جئت على قدر يا موسى‏}‏ يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير‏.‏

فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه‏.‏

وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام‏.‏ وقد انتبَه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز‏:‏

أتى الخلافة إذْ كانت له قَدراً *** كما أتَى ربّه موسى على قَدَر

ومن هنا ختم الامتنان بما هو الفذلكة، وذلك جملة ‏{‏واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي‏}‏ الذي هو بمنزلة ردّ العجز على الصدر على قوله ‏{‏ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك الآية، وهو تخلص بديع إلى الغرض المقصود وهو الخطاب بأعمال الرسالة المبتدأ من قوله‏:‏ ‏{‏وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 13‏]‏ ومن قوله‏:‏ ‏{‏اذهب إلى فرعون إنّه طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والاصطناع‏:‏ صنع الشيء باعتناء‏.‏ واللام للأجْل، أي لأجْل نفسي‏.‏ والكلام تمثيل لِهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئاً لفائدة نفسه فيصرف فيه غاية إتقان صنعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏‏}‏

رجوع إلى المقصد بعد المحاورة، فالجملة بيان لجملة‏:‏ ‏{‏اذهب إلى فرعون إنه طغى‏}‏، أو هي استئناف بياني لأن قوله‏:‏ ‏{‏واصطنعتُك لنفسي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 41‏]‏ يؤذن بأنه اختاره وأعدّه لأمر عظيم، لأنّ الحكيم لا يتّخذ شيئاً لنفسه إلاّ مريداً جعلَه مظهراً لحكمته، فيترقب المخاطب تعيينها، وقد أمره هنا بالذهاب إلى فرعون وأن يذهب أخوه معه‏.‏ ومعنى ذلك أنه يبلّغ أخاه أن الله أمره بمرافقته، لأنّ هارون لم يكن حاضراً حين كلّم الله موسى في البقعة المباركة من الشجرة‏.‏ ولأنه لم يكن الوقت وقت الشروع في الذهاب إلى فرعون، فتعيّن أن الأمر لطلب حصول الذهاب المستقبل عند الوصول إلى مصر بلد فرعون وعند لقائه أخاه هارون وإبلاغه أمر الله إياه، فقرينة عدم إرادة الفور هنا قائمة‏.‏

والباء للمصاحبة لقصد تطمين موسى بأنّه سيكون مصاحباً لآيات الله، أي الدلائل التي تدلّ على صدقه لدى فرعون‏.‏

ومعنى ‏{‏ولاَ تَنِيَا‏}‏ لا تضعُفا‏.‏ يقال‏:‏ ونَى ينِي ونَىً، أي ضعف في العمل، أي لا تننِ أنت وأبلغ هارون أن لا يني، فصيغة النهي مستعملة في حقيقتها ومجازها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون انتقال إلى خطاب موسى وهارون‏.‏ فيقتضي أن هارون كان حاضراً لهذا الخطاب، وهو ظاهر قوله بعده ‏{‏قالا ربنا إننا نخاف‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 45‏]‏، وكان حضور هارون عند موسى بوحي من الله أوحاه إلى هارون في أرض «جاسان» حيث منازل بني إسرائيل من أرض قرب ‏(‏طِيبة‏)‏‏.‏ قال في التّوراة في الإصحاح الرابع من سفر الخروج «وقال ‏(‏أي الله‏)‏ ها هو هارون خارجاً لاستقبالك فتكلمه أيضاً»‏.‏ وفيه أيضاً «وقال الرب لهارون اذهب إلى البرية لاستقبال موسى فذهب والتقيا في جبل الله» أي جبل حُوريب، فيكون قد طُوي ما حدث بين تكليم الله تعالى موسى في الوادي عند النار وما بين وصول موسى مع أهله إلى جبل ‏(‏حوريب‏)‏ في طريقِه إلى أرض مصر، ويكون قوله ‏{‏قالا ربنا إننا نخاف‏}‏ الخ، جواباً عن قول الله تعالى لهما‏:‏ ‏{‏اذهب إلى فرعون الخ‏.‏ ويكون فصل جملة قالا ربنا إننا نخاف الخ لوقُوعها في أسلوب المحاورة‏.‏

ويجوز أن تكون جملة اذْهَبَا إلى فِرْعَونَ‏}‏ بدلاً من جملة ‏{‏اذْهَب أنتَ وأخوك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 42‏]‏، فيكون قوله ‏{‏اذهبا أمراً لموسى بأن يذهب وأن يأمر أخاه بالذهاب معه وهارون غائب، وهذا أنسب لسياق الجُمل، وتكون جملة قالا ربنا إننا نخاف مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، وقد طوي ما بين خطاب الله موسى وما بين حكاية قالا ربنا إننا نخاف الخ‏.‏ والتقدير‏:‏ فذهب موسى ولقي أخاه هارون، وأبلغه أمر الله له بما أمره، فقالا ربّنا إننا نخاف الخ‏.‏

وجملة إنَّهُ طغى‏}‏ تعليل للأمر بأن يذهبا إليه‏.‏ فعُلم أنه لقصد كفّه عن طغيانه‏.‏

وفعل ‏{‏طغى‏}‏ رسم في المصحف آخره ألفاً مُمالة، أي بصورة الياء للإشارة إلى أنّه من طَغِي مثل رَضي‏.‏ ويجوز فيه الواو فيقال‏:‏ يطغو مثل يدعو‏.‏

والقول الليّنُ‏:‏ الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال، بأن يظهر المتكلّم للمخاطب أنّ له من سداد الرأي ما يتقبّل به الحق ويميّز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله‏.‏

فشبه الكلام المشتمل على المعاني الحسنة بالشيء الليّننِ‏.‏

واللين، حقيقة من صفات الأجسام، وهو‏:‏ رطوبة ملمس الجسم وسهولة ليّه، وضد الليّن الخشونة‏.‏ ويستعار الليّن لسهولة المعاملة والصفح‏.‏ وقال عمرو بن كلثوم‏:‏

فإن قناتنا يا عَمْرو أعيَت *** على الأعداءِ قبلَكَ أن تلينا

واللين من شعار الدعوة إلى الحق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فبما رحمة من الله لِنتَ لهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ ومن اللين في دعوة موسى لفرعون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل هل لك إلى أن تَزّكّى وأهديَك إلى ربك فتخشى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18، 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والسلام على من اتبّع الهدى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏، إذ المقصود من دعوة الرسل حصول الاهتداء لا إظهار العظمة وغلظة القول بدون جدوى‏.‏

فإذا لم ينفع اللين مع المدعوّ وأعرض واستكبر جاز في موعظته الإغلاظ معه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏، وقال تعالى عن موسى‏:‏ ‏{‏إنّا قد أوحي إلينا أن العَذاب على من كذّب وتولّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 48‏]‏‏.‏

والتّرجي المستفاد من ‏(‏لعلّ‏)‏ إما تمثيل لشأن الله في دعوة فرعون بشأن الراجي، وإما أن يكون إعلاماً لموسى وفرعون بأن يرجوَا ذلك، فكان النطق بحرف الترجي على لسانهما، كما تقول للشخص إذا أشرت عليه بشيء‏:‏ فلعلّه يصادفك تيْسير، وأنت لا تريد أنّك ترجو ذلك ولكن بطلب رجاء من المخاطب‏.‏ وقد تقدمت نظائره في القرآن غير مرّة‏.‏

والتذكّر‏:‏ من الذُّكر بضم الذال أي النظر، أي لعلّه ينظر نظر المتبصّر فيعرف الحق أو يخشى حلولَ العقاب به فيُطيع عن خشية لا عن تبصر‏.‏ وكان فرعون من أهل الطغيان واعتقاد أنه على الحق، فالتذكر‏:‏ أن يعرف أنه على الباطل، والخشيةُ‏:‏ أن يتردد في ذلك فيخشى أن يكون على الباطل فيحتاط لنفسه بالأخذ بما دعاه إليه موسى‏.‏

وهنا انتهى تكليم الله تعالى موسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏‏}‏

فصلت الجملتان لوقوعهما موقع المحاورة بين موسى مع أخيه وبين الله تعالى على كلا الوجهين اللذين ذكرناهما آنفاً، أي جمعا أمرهما وعزم موسى وهارون على الذهاب إلى فرعون فناجيا ربّهما ‏{‏قَالاَ رَبَّنا إنَّنا نَخَافُ أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أو أن يطغى‏}‏، لأنّ غالب التفكير في العواقب والموانع يكون عند العزم على الفعل، والأخذِ في التهيُّؤ له، ولذلك أُعيد أمرهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتِيَاهُ‏}‏‏.‏

و ‏{‏يَفْرُطَ‏}‏ معناه يعجّل ويسبق، يقال‏:‏ فَرط يفرُط من باب نصر‏.‏ والفارط‏:‏ الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشرب‏.‏ والمعنى‏:‏ نخاف أن يعجّل بعِقابنا بالقتل أو غيره من العقوبات قبل أن نبلُغه ونحجّه‏.‏

والطغيان‏:‏ التظاهر بالتكبر‏.‏ وتقدم آنفاً عند قوله ‏{‏اذهب إلى فرعون إنه طغى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 24‏]‏، أي نخاف أن يُخامره كبره فيعدّ ذكرنا إلهاً دونه تنقيصاً له وطعْناً في دعواه الإلهية فيطغى، أي يصدر منه ما هو أثر الكبر من التحقير والإهانة‏.‏ فذكر الطغيان بعد الفَرط إشارة إلى أنّهما لا يطيقان ذلك، فهو انتقال من الأشدّ إلى الأضعف لأن ‏{‏نخاف يؤول إلى معنى النفي‏.‏ وفي النفي يذكر الأضعف بعد الأقوى بعكس الإثبات ما لم يوجد ما يقتضي عكس ذلك‏.‏

وحذف متعلّق يطغى‏}‏ فيحتمل أن حذفه لدلالة نظيره عليه، وأوثر بالحذف لرعاية الفواصل‏.‏ والتقدير‏:‏ أو أن يطغى علينا‏.‏ ويحتمل أن متعلّقه ليس نظير المذكور قبله بل هو متعلّق آخر لكون التقسيم التقديري دليلاً عليه، لأنهما لما ذكر متعلّق ‏{‏يفرط علينا وكان الفَرْط شاملاً لأنواع العقوبات حتى الإهانة بالشتم لزم أن يكون التقسيم بأو منظوراً فيه إلى حالة أخرى وهي طغيانه على من لا يناله عقابه، أي أن يطغى على الله بالتنقيص كقوله‏:‏ ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لعليّ اطّلِعُ إلى إله موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، فحذف متعلق ‏{‏يطغى حينئذ لتنزيهه عن التصريح به في هذا المقام‏.‏ والتقدير‏:‏ أو أن يطغى عليك فيتصلّب في كفره ويعسر صرفه عنه‏.‏ وفي التحرز من ذلك غيرة على جانب الله تعالى، وفيه أيضاً تحرز من رسوخ عقيدة الكفر في نفس الطاغي فيصير الرجاء في إيمانه بعد ذلك أضعف منه فيما قبل، وتلك مفسدة في نظر الدّين‏.‏ وحصلت مع ذلك رعاية الفاصلة‏.‏

قال الله لاَ تَخَافَا‏}‏، أي لا تخافا حصول شيء من الأمرين، وهو نهي مكنى به عن نفي وقوع المنهي عنه‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّنِي مَعَكُمَا‏}‏ تعليل للنهي عن الخوف الذي هو في معنى النفي، والمعيّة معيّة حفظ‏.‏

و ‏{‏أسْمَعُ وأرى‏}‏ حالان من ضمير المتكلم، أي أنا حافظكما من كل ما تخافانه، وأنا أعلم الأقوال والأعمال فلا أدَعُ عمَلاً أو قولاً تخافانه‏.‏

ونزل فعلاَ ‏{‏أسْمَعُ وأرى‏}‏ منزلة اللازمين إذ لا غرض لبيان مفعولهما بل المقصود‏:‏ أني لا يخفى عليّ شيء‏.‏

وفرع عليه إعادة الأمر بالذهاب إلى فرعون‏.‏

والإتيان‏:‏ الوُصول والحلول، أي فحُلاّ عنده، لأنّ الإتيان أثر الذهاب المأمور به في الخطاب السابق، وكانا قد اقتربا من مكان فرعون لأنهما في مدينته، فلذا أمِرا بإتيانه ودعوته‏.‏

وجاءت تثنية رسول على الأصل في مطابقة الوصف الذي يجري عليه في الإفراد وغيره‏.‏

وفَعول الذي بمعنى مفعول تجوز فيه المطابقة، كقولهم ناقة طروقَة الفَحل، وعدم المطابقة كقولهم‏:‏ وَحشية خلوج، أي اختُلج ولدُها‏.‏ وجاء الوجهان في نحو ‏(‏رسول‏)‏ وهما وجهان مستويان‏.‏ ومن مجيئه غير مطابق قوله تعالى في سورة الشعراء ‏(‏16‏)‏‏:‏ ‏{‏فأتِيا فرعون فقولا إنا رسولُ ربّ العالمين‏}‏ وسيجيء تحقيق ذلك هنالك إن شاء الله‏.‏

وأدخل فاء التفريع على طَلب إطلاق بني إسرائيل لأنّه جعل طلب إطلاقهم كالمستقرّ المعلوم عند فرعون؛ إما لأنّه سبقت إشاعَة عزمهما على الحضور عند فرعون لذلك المطلب، وإما لأنه جعله لأهميته كالمقرّر‏.‏ وتفريع ذلك على كونهما مرسلَيْن من الله ظاهر، لأنّ المرسل من الله تجب طاعته‏.‏

وخصّا الربّ بالإضافة إلى ضمير فرعون قصداً لأقصى الدعوة، لأنّ كون الله ربّهما معلوم من قولهما إنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏ وكونه ربّ الناس معلوم بالأحْرى لأنّ فرعون علّمهم أنه هو الرب‏.‏

والتعذيب الذي سألاه الكفّ عنه هو ما كان فرعون يسخّر له بني إسرائيل من الأعمال الشاقّة في الخدمة، لأنه كان يعُدّ بني إسرائيل كالعبيد والخول جزاء إحلالهم بأرضه‏.‏

وجملة ‏{‏قَدْ جئناك بِآيَةٍ مِن رَبّك‏}‏ فيها بيان لجملة ‏{‏إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ‏}‏ فكانت الأولى إجمالاً والثانية بياناً‏.‏ وفيها معنى التعليل لتحقيق كونهما مرسلَيْن من الله بما يظهره الله على يد أحدهما من دلائل الصدق‏.‏ وكلا الغرضين يوجب فصل الجملة عن التي قبلها‏.‏

واقتصر على أنهما مصاحبان لآيةٍ إظهاراً لكونهما مستعدّيْن لإظهار الآية إذا أراد فرعون ذلك‏.‏ فأما إن آمن بدون احتياج إلى إظهار الآية يكن إيمانه أكمل، ولذلك حكي في سورة الأعراف ‏(‏16‏)‏ قول فرعون‏:‏ ‏{‏قال إن كنت جئت بآية فإت بها إن كنت من الصادقين‏}‏ وهذه الآية هي انقلاب العصا حيّة، وقد تبعتها آيات أخرى‏.‏

والاقتصار على طلب إطلاق بني إسرائيل يدلّ على أن موسى أُرسل لإنقاذ بني إسرائيل وتكوين أمّة مستقلّة؛ بأن يبثّ فيهم الشريعة المصلحة لهم والمقيمة لاستقلالهم وسلطانهم، ولم يرسل لخطاب القبط بالشريعة ومع ذلك دعا فرعون وقومه إلى التوحيد لأنه يجب عليه تغيير المنكر الذي هو بين ظهرانيه‏.‏

وأيضاً لأنّ ذلك وسيلة إلى إجابته طلب إطلاق بني إسرائيل‏.‏ وهذا يؤخذ مما في هذه الآية وما في آية سورة الإسراء وما في آية سورة النازعات والآيات الأخرى‏.‏

والسّلام‏:‏ السلامة والإكرام‏.‏ وليس المراد به هنا التحيّة، إذ ليس ثَمّ معيّن يقصد بالتحيّة‏.‏ ولا يراد تحيّة فرعون لأنها إنما تكون في ابتداء المواجهة لا في أثناء الكلام، وهذا كقول النبي في كتابه إلى هرقل وغيره‏:‏ أسلمْ تَسْلَمْ‏.‏

و ‏(‏على‏)‏ للتمكّن، أي سلامة من اتبع الهدى ثابتة لهم دون ريب‏.‏

وهذا احتراس ومقدمة للإنذار الذي في قوله إنَّا قد أُوحِي إلينا أنَّ العَذابَ على مَن كَذَّبَ وتولَّى‏}‏، فقوله‏:‏ ‏{‏والسلام على من اتّبع الهدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏ تعريض بأن يطلب فرعون الهدى الذي جاء به موسى عليه السلام‏.‏

وقوله ‏{‏إنَّا قد أُوْحِيَ إلينا‏}‏ تعريض لإنذاره على التكذيب قبل حصوله منه ليبلغ الرسالة على أتمّ وجه قبل ظهور رأي فرعون في ذلك حتى لا يجابهه بعد ظهور رأيهِ بتصريح توجيه الإنذار إليه‏.‏ وهذا من أسلوب القول اللّين الذي أمرهما الله به‏.‏

وتعريف العَذَابَ تعريف الجنس، فالمعرّف بمنزلة النكرة، كأنّه قيل‏:‏ إنّ عذاباً على من كذّب‏.‏

وإطلاق السّلام والعذاب دون تقييد بالدنيا أو الآخرة تعميم للبشارة والنذارة، قال تعالى في سورة النازعات ‏(‏25، 26‏)‏‏:‏ ‏{‏فأخذه الله نكالَ الآخرة والأولى‏}‏ إنّ في ذلك لعبرةً لمن يخشى‏.‏

وهذا كلّه كلام الله الذي أمرهما بتبليغه إلى فرعون، كما يدلّ لذلك تعقيبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فمَن ربُّكما يا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49‏]‏ على أسلوب حكاية المحاورات‏.‏ وما ذكر من أول القصة إلى هنا لم يتقدّم في السور الماضية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏‏}‏

هذا حكاية جواب فرعون عن الكلام الذي أمر الله موسى وهارون بإبلاغه فرعون، ففي الآية حذف جمل دلّ عليها السياق قصداً للإيجاز‏.‏ والتقدير‏:‏ فأتَيَاه فقالا له ما أمِرا به، فقال‏:‏ فمن ربّكما‏؟‏‏.‏

ولذلك جاءت حكاية قول فرعون بجملة مفصولة على طريقة حكاية المحاورات التي استقريناها من أسلوب القرآن وبَينّاها في سورة البقرة وغيرها‏.‏

ووجّه فرعون الخطاب إليهما بالضمير المشترك، ثمّ خصّ موسى بالإقبال عليه بالنداء، لعلمه بأنّ موسى هو الأصل بالرسالة وأنّ هارون تابع له، وهذا وإن لم يحتو عليه كلامهما فقد تعيّن أن يكون فرعون عَلِمه من كيفيّة دخولهما عليه ومخاطبته، ولأنّ موسى كان معروفاً في بلاط فرعون لأنه ربيُّه أو رَبيّ أبيه فله سابقة اتصال بدار فرعون، كما دلّ عليه قوله له المحكي في آية سورة الشعراء ‏(‏18‏)‏‏:‏ ‏{‏قال ألم نربّك فينا وليداً ولبثتَ فينا من عمرك سنين‏}‏ الآية‏.‏ ولعلّ موسى هو الذي تولى الكلام وهارون يصدقه بالقول أو بالإشارة‏.‏

وإضافته الرب إلى ضميرهما لأنّهما قالا له ‏{‏إنّا رسولا ربّك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وأعرض عن أن يقول‏:‏ فمن ربي‏؟‏ إلى قوله ‏{‏فمن ربُّكما‏}‏ إعراضاً عن الاعتراف بالمربوبية ولو بحكاية قولهما، لئلا يقع ذلك في سمع أتباعه وقومه فيحسبوا أنه متردد في معرفة ربّه، أو أنه اعترف بأنّ له ربّاً‏.‏ وتولى موسى الجواب لأنّه خصّ بالسؤال بسبب النّداء له دون غيره‏.‏

وأجاب موسى بإثبات الربوبية لله لجميع الموجودات جرياً على قاعدة الاستدلال بالكلية على الجزئية بحيث ينتظم من مجموعهما قياس، فإن فرعون من جملة الأشياء، فهو داخل في عموم ‏{‏كل شيء‏}‏‏.‏

و ‏{‏كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ مفعول أول ل ‏{‏أعطى‏}‏‏.‏ و‏{‏خَلْقَهُ‏}‏ مفعوله الثاني‏.‏

والخلق‏:‏ مصدر بمعنى الإيجاد‏.‏ وجيء بفعل الإعطاء للتنبيه على أنّ الخلق والتكوين نعمة، فهو استدلال على الربوبية وتذكير بالنعمة معاً‏.‏

ويجوز أن يكون الخلق بالمعنى الأخصّ، وهو الخَلق على شكل مخصوص، فهو بمعنى الجَعْل، أي الذي أعطى كل شيء من الموجودات شكله المختصّ به، فكُونت بذلك الأجناسُ والأنواع والأصناف والأشخاص من آثار ذلك الخلق‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ مفعولاً ثانياً ل ‏{‏أعطى‏}‏ ومفعوله الأول ‏{‏خَلْقَهُ‏}‏، أي أعطى خلقه ما يحتاجونه، كقوله‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به نبات كل شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏‏.‏ فتركيب الجملة صالح للمعنيين‏.‏

والاستغراق المستفاد من ‏(‏كلّ‏)‏ عُرفي، أي كل شيء من شأنه أن يعطاه أصنافُ الخلق ويناسب المعطي، أو هو استغراق على قصد التوزيع بمقابلة الأشياء بالخلق، مثل‏:‏ ركب القوم دوابّهم‏.‏

والمعنى‏:‏ تأمل وانظر هل أنتَ أعطيت الخَلق أوْ لاَ‏؟‏ فلا شك أنه يعلم أنّه ما أعطى كلّ شيء خلقه، فإذا تأمل علم أن الرب هو الذي أفاض الوجود والنّعم على الموجودات كلّها، فآمن به بعنوان هذه الصفة وتلك المعرفة الموصّلة إلى الاعتقاد الحق‏.‏

و ‏(‏ثُم‏)‏ للترتيب بمعنييْه الزمني والرتبي، أي خلق الأشياء ثمّ هدى إلى ما خلقهم لأجله، وهداهم إلى الحق بعد أن خلقهم، وأفاض عليهم النّعم، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 8 10‏]‏ أي طريقي الخير والشرّ، أي فرّقنا بينهما بالدلائل الواضحة‏.‏

قال الزمخشري في «الكشاف»‏:‏ «ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالباً للحق»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏‏}‏

والبال‏:‏ كلمة دقيقة المعنى، تطلق على الحال المهمّ، ومصدره البالة بتخفيف اللاّم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كفّر عنهم سيّآتهم وأصلح بالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 2‏]‏، أي حالهم‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ كل أمر ذي بال‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الخ، وتطلق على الرأي يقال‏:‏ خطر كذا ببالي‏.‏ ويقولون‏:‏ ما ألقى له بالاً، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغيّة‏.‏

أراد فرعون أن يحاجّ موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملّة فرعون، أي قرون أهل مصر، أي ما حالهم، أفتزعم أنّهم اتفقوا على ضلالة‏.‏ وهذه شنشنة من لا يجد حجّة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه، وهو في معنى قول فرعون وملئه في الآية الأخرى ‏{‏قالوا أجِئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 78‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى أنّ فرعون أرَاد التشغيب على موسى حين نهضت حجّته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى‏:‏ هل هم في عذاب بمناسبة قول موسى‏:‏ ‏{‏أنّ العذاب على من كذّب وتولّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 48‏]‏، فإذا قال‏:‏ إنّهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال‏:‏ هم في سلام، نهضت حجّة فرعون لأنه متابع لدينهم، ولأنّ موسى لمّا أعلمه بربّه وكان ذلك مشعراً بالخلق الأوّل خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير النّاس بعد الفناء، فسأل‏:‏ ما بال القرون الأولى‏؟‏ ما شأنهم وما الخبر عنهم‏؟‏ وهو سؤال تعجيز وتشغيب‏.‏

وقول موسى في جوابه ‏{‏عِلْمُهَا عند رَبِّي فِي كتاب‏}‏ صالحٌ للاحتمالين، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن أحوال الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن ذراري المشركين فقال‏:‏ «الله أعلم بما كانوا عاملين»‏.‏

وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولاً عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله‏.‏

والحاصل أنّ موسى تجنّب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنّه لم يبعث بذلك‏.‏ وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم‏.‏

وإضافة ‏{‏عِلْمُهَا‏}‏ من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏ وضمير ‏{‏عِلْمُها‏}‏ عائد إلى ‏{‏القُرُوننِ الأولى‏}‏ لأنّ لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره‏.‏

وقوله ‏{‏في كتاب‏}‏ يحتمل أن يكون الكتاب مجازاً في تفصيل العلم تشبيهاً له بالأمور المكتوبة، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأنّ الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حِلِّزَة‏:‏

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

ويؤكد هذا المعنى قوله ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبي ولا يَنسَى‏}‏‏.‏

والضلال‏:‏ الخطأ في العلم، شبّه بخطأ الطريق‏.‏ والنسيان‏:‏ عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏‏}‏

هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى‏.‏

فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنّن الأغراض لتجديد نشاط الأذهان‏.‏ ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله‏:‏ ‏{‏فأخْرَجْنَا بهِ أزواجاً‏}‏‏.‏ فقوله ‏{‏الذي جَعَلَ لكمُ الأرضَ مِهَاداً‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم من ‏{‏ربي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 52‏]‏، أي هو ربّ موسى‏.‏

وتعريف جزأي الجملة يُفيد الحصر، أي الجاعل الأرض مهاداً فكيف تعبدون غيره‏.‏ وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقاً بالإلهية‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏مِهاداً بكسر الميم وألففٍ بعد الهاء وهو اسم بمعنى الممهُود مثل الفراش واللّباس‏.‏ ويجوز أن يكون جمع مَهْد، وهو اسم لما يمهد للصّبيّ، أي يوضع عليه ويحمل فيه، فيكون بوزن كِعاب جمعاً لكَعب‏.‏ ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع‏.‏

وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف مَهْداً بفتح الميم وسكون الهاء، أي كالمهد الذي يمهد للصبي، وهو اسم بمصدر مَهدَه، على أنّ المصدر بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق، ثمّ شاع ذلك فصار اسماً لما يمهد‏.‏

ومعنى القراءتين واحد، أي جعل الأرض ممهودة مسهلة للسّير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نُتوء فيها إلاّ نادراً يمكن تجنبه، كقوله‏:‏ ‏{‏والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سُبلاً فجاجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏

‏{‏وسَلَكَ‏}‏ فعل مشتق من السُلوك والسّلْك الذي هو الدخول مجتازاً وقاطعاً‏.‏ يقال‏:‏ سلك طريقاً، أي دخله مجتازاً‏.‏ ويستعمل مجازاً في السّير في الطريق تشبيهاً للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر‏.‏ يقال‏:‏ سلك طريقاً‏.‏ فحق هذا الفعل أن يتعدّى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه، ويستعمل متعدياً بمعنى أسلك‏.‏ وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال‏:‏ أسلك المسمار في اللّوح، أي جعله سالكاً إياه، إلاّ أنّه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نسلكه عذاباً صعداً‏}‏ ‏[‏الجنّ‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وكثر كون الاسم الذي كان مفعولاً ثانياً يصير مجروراً ب ‏(‏في‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما سَلَكَكُم في سَقَر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42‏]‏ بمعنى أسلككم سقر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك سلَكْنَاه في قلوب المجرمين‏}‏ في سورة الشعراء ‏(‏200‏)‏، وقوله ‏{‏ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماء فسَلَكه ينابيع في الأرض‏}‏ في سورة الزمر ‏(‏21‏)‏‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

كما سلك السّكيّ في الباب فيْتَق *** أي أدخل المسمارَ في الباب نجارٌ، فصار فعل سلك يستعمل قاصراً ومتعدياً‏.‏

فأما قوله هنا وسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً‏}‏ فهو سَلك المتعدي، أي أسلك فيها سبلاً، أي جعل سبلاً سالكة في الأرض، أي داخلة فيها، أي متخللة‏.‏ وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض‏.‏

والمراد بالسبل‏:‏ كلّ سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال، أو كان من أثر فعل النّاس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقاً يتابعُ الناس السير فيها‏.‏

ولما ذَكَر منّة خلق الأرض شفعها بمنّة إخراج النّبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء‏.‏ وتلك منّة تنبئ عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير، ولذا لم يقل‏:‏ وصببنا الماء على الأرض، كما في آية‏:‏ ‏{‏أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقّاً‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏ وهذا إدماج بليغ‏.‏

والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم في قوله‏:‏ ‏{‏فأخرجنا‏}‏ التفات‏.‏ وحسّنه هنا أنّه بعد أن حَجّ المشركين بحجّة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلّم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخّر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر، فهو يُخرج النّبات من الأرض بسبب ماء السماء، فكان تسخير النبات أثراً لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض‏.‏

ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ألم ترَ أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمراتتٍ مختلفاً ألوانُها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائقَ ذاتَ بهجة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏ ومنها قوله في سورة الزخرف ‏(‏11‏)‏‏:‏ ‏{‏والذي نزّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً‏}‏ وقد نبّه إلى ذلك في الكشاف‏}‏، ولله درّه‏.‏ ونظائره كثيرة في القرآن‏.‏

والأزواج‏:‏ جمع زوج‏.‏ وحقيقة الزوج أنه اسم لكلّ فرد من اثنين من صنف واحد‏.‏ فكلّ أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجاً‏.‏ ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسلك فيها من كلّ زوجين اثنين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 27‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 39‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏اسكن أنتَ وزوجُك الجنّة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ولمّا شاعت فيه ملاحظة معنى اتّحاد النّوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانياً لآخر، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تُنْبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 36‏]‏، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏فأنبتنا فيها من كلّ زَوج كريم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرتهُ حجبة الجنّة‏.‏‏.‏‏.‏» الحديثَ، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة، ومثل الخَيل والرواحل‏.‏ وهذا الإطلاق هو المراد هنا، أي فأنبتنا به أنواعاً من نبات‏.‏ وتقدّم في سورة الرعد‏.‏

والنّبات‏:‏ مصدر سمي به النبات، فلكونه مصدراً في الأصل استوى فيه الواحد والجمع‏.‏

وشتّى‏:‏ جمع شتيت بوزن فَعلى، مثل‏:‏ مريض ومَرضى‏.‏

والشّتيت‏:‏ المشتّت، أي المبعّد‏.‏ وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللّون والطعم، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان‏.‏

والجملة الثانية ‏{‏كُلُوا وارْعوا أنعامكُم‏}‏ مقول قول محذوف هو حال من ضمير ‏{‏فأخرجنا‏.‏

والتقدير‏:‏ قائلين‏:‏ كُلوا وارعوا أنعامكم‏.‏ والأمر للإباحة مراد به المنّة‏.‏ والتقدير‏:‏ كلوا منها وارعوا أنعامكم منها‏.‏ وهذا من مقابلة الجمع بالجمع لقصد التوزيع‏.‏

وفعل ‏(‏رعى‏)‏ يستعمل قاصراً ومتعدياً‏.‏ يقال‏:‏ رعت الدابةُ ورعاها صاحبها‏.‏ وفرق بينهما في المصدر فمصدر القاصر‏:‏ الرّعي، ومصدر المتعدي‏:‏ الرعاية‏.‏ ومنه قول النّابغة‏:‏

رأيتكَ ترعاني بعين بصيرة *** والجملة الثالثة إنَّ في ذلك لآياتٍ لأُوْلِى النهى‏}‏ معترضة مؤكدة للاستدلال؛ فبعد أن أُشير إلى ما في المخلوقات المذكورة آنفاً من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته، والمنّة بها على الإنسان لمن تأمل، جُمعت في هذه الجملة وصرح بما في جميعها من الآيات الكثيرة‏.‏ وكلّ من الاعتراض والتوكيد مقتض لفصل الجملة‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين، لأنّهم لم ينظروا في دلالة تلك المخلوقات على وحدانية الله، وهم يحسبون أنفسهم من أولي النّهى، فما كان عدم اهتدائهم بتلك الآيات إلاّ لأنهم لم يَعُدوها آيات‏.‏ لا جرم أنّ ذلك المذكور مشتمل على آيات جمّة يتفطن لها ذوو العقول بالتأمّل والتفكّر، وينتبهون لها بالتذكير‏.‏

والنُهى‏:‏ اسم جمع نُهْية بضم النون وسكون الهاء، أي العقل، سمي نُهية لأنّه سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة والمهلكة، ولذلك أيضاً سمّي بالعقل وسمي بالحِجْر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏‏}‏

مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏ وهذا إدماج للتذكير بالخلق الأول ليكون دليلاً على إمكان الخلق الثاني بعد الموت‏.‏ والمناسبة متمكنة؛ فإن ذكر خلق الأرض ومنافعها يستدعي إكمال ذكر المهم للنّاس من أحوالها، فكان خلق أصل الإنسان من الأرض شبيهاً بخروج النبات منها‏.‏ وإخراج النّاس إلى الحشر شبيه بإخراج النبات من الأرض‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏

وتقديم المجرورات الثلاثة على متعلقاتها؛ فأما المجرور الأول والمجرور الثالث فللاهتمام بكون الأرض مبدأ الخلق الأول والخلق الثاني‏.‏ وأما تقديم ‏{‏وفِيهَا نُعِيدكُم‏}‏ فللمزاوجة مع نظيريه‏.‏

ودل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفِيهَا نُعيدُكُم‏}‏ على أن دفن الأموات في الأرض هو الطريقة الشرعيّة لمواراة الموتى سواء كان شَقّاً في الأرض أو لحْداً، لأن كليهما إعادة في الأرض؛ فما يأتيه بعض الأمم غير المتدينة من إحراق الموتى بالنّار، أو إغراقهم في الماء، أو وضعهم في صناديق فوق الأرض، فذلك مخالف لسنّة الله وفطرته‏.‏ لأنّ الفطرة اقتضت أنّ الميت يسقط على الأرض فيجب أن يوارى فيها‏.‏ وكذلك كانت أول مواراة في البشر حين قتَل أحدُ ابني آدم أخَاه‏.‏ كما قال تعالى في سورة العقود ‏(‏31‏)‏ ‏{‏فبعث الله غراباً يبحث في الأرض لِيُريَه كيف يُوارِي سوْأة أخيه قال يا ويْلَتَى أعجَزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوَارِيَ سوأة أخي‏}‏ فجاءت الشرائع الإلهيّة بوجوب الدفن في الأرض‏.‏

والتّارة‏:‏ المرة، وجمعها تارات‏.‏ وأصل ألفها الواو‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ أصل ألفها همزة فلمّا كثر استعمالهم لها تركوا الهمزة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ظهر الهمز في جمعها على فِعَل فقالوا‏:‏ تِئَر بالهمز‏.‏ ويظهر أنّها اسم جامد ليس له أصل مشتق منه‏.‏

والإخراج‏:‏ هو إخراجها إلى الحشر بعد إعادة هياكل الأجسام في داخل الأرض، كما هو ظاهر قوله ومنها نُخْرِجُكُم‏}‏، ولذلك جعل الإخراج تارة ثانية للخلق الأول من الأرض‏.‏ وفيه إيماء إلى أن إخراج الأجساد من الأرض بإعادة خلقها كما خلقت في المرّة الأولى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدَأنا أوَّل خلق نُعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏‏}‏

رجوع إلى قصص موسى عليه السلام مع فرعون‏.‏ وهذه الجملة بين الجمل التي حكت محاورة موسى وفرعون وقعت هذه كالمقدمة لإعادة سَوق ما جرى بين موسى وفرعون من المحاورة‏.‏ فيجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏قال فمن ربكما يا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49‏]‏ باعتبار ما يقدّر قبل المعطوف عليها من كلام حذف اختصاراً، تقديره‏:‏ فأتيَاهُ فقالاَ ما أمرناهما أن يقولاه قال فمن ربّكما الخ‏.‏ المعنى‏:‏ فأتياه وقالا ما أمرناهما وأريناه آياتنا كلها على يد موسى عليه السلام‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين ما قبلها، والواو اعتراضيّة‏.‏

وتأكيد الكلام بلام القسم و‏(‏قد‏)‏ مستعمل في التعجيب من تصلّب فرعون في عناده، وقصد منها بيان شِدّته في كفره وبيان أن لموسى آيات كثيرة أظهرها الله لفرعون فلم تُجْد في إيمانه‏.‏

وأجملت وعُممت فلم تفصل، لأنّ المقصود هنا بيان شدّة تصلبه في كفره بخلاف آية سورة الأعراف التي قصد منها بيان تعاقب الآيات ونصرتها‏.‏

وإراءة الله إياه الآيات‏:‏ إظهارها له بحيث شاهدها‏.‏

وإضافة ‏(‏آيات‏)‏ إلى ضمير الجلالة هنا يفيد تعريفاً لآيات معهودة، فإن تعريف الجمع بالإضافة يأتي لما يأتي له التعريف باللاّم يكون للعهد ويكون للاستغراق، والمقصود هنا الأول، أي أرينا فرعون آياتنا التي جرت على يد موسى، وهي المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في تسع آيات إلى فرعون وقومه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وهي انقلاب العصا حيّة، وتبدّل لون اليد بيضاء، وسِنُو القحط، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والطوفان، وانفلاق البحر‏.‏ وقد استمر تكذيبه بعد جميعها حتى لما رأى انفلاق البحر اقتحمه طمعاً للظفر ببني إسرائيل‏.‏

وتأكيد الآيات بأداة التوكيد ‏{‏كُلَّها‏}‏ لزيادة التعجيب من عناده‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها‏}‏ في سورة القمر ‏(‏41، 42‏)‏‏.‏

وظاهر صنيع المفسرين أنهم جعلوا جملة ولَقَدْ أريناهُ ءاياتنا‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏قال فمن ربكما يا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 49‏]‏، وجملة ‏{‏قال فمن ربكما بياناً لجملة فَكَذَّبَ وأبى‏}‏‏.‏ فيستلزم ذلك أن يكون عزم فرعون على إحضار السحرة متأخّراً عن إرادة الآيات كلها فوقعوا في إشكال صحة التعميم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آياتِنَا كُلَّهَا‏.‏‏}‏ وكيف يكون ذلك قبل اعتراف السحرة بأنهم غلبوا مع أن كثيراً من الآيات إنما ظهر بعد زمن طويل مثل‏:‏ سني القحط، والدم، وانفلاق البحر‏.‏ وهذا الحمل لا داعي إليه لأنّ العطف بالواو لا يقتضي ترتيباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏‏}‏

هذه الجملة متصلة بجملة ‏{‏قال فما بال القرون الأولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 51‏]‏ وجواب موسى عنها‏.‏ وافتتاحُها بفعل ‏{‏قَالَ‏}‏ وعدم عطفه لا يترك شكّاً في أن هذا من تمام المحاورة‏.‏

وقوله ‏{‏أجِئتَنَا لِتُخْرِجَنَا من أرْضِنَا بِسِحْرِكَ‏}‏ يقتضي أنه أراه آية انقلاب العصا حَيّة، وانقلاب يَده بيضاء‏.‏ وذلك ما سمّاه فرعون سِحراً‏.‏ وقد صُرح بهذا المقتضى في قوله تعالى حكاية عنهما‏:‏ ‏{‏قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين قال أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 29- 35‏]‏‏.‏ وقد استغنى عن ذكره هنا بما في جملة ‏{‏ولقد أريناه آياتنا كلها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 56‏]‏ من العموم الشامل لآية انقلاب العصا حيّة‏.‏

وإضافته السحرَ إلى ضمير موسى قُصد منها تحقير شأن هذا الذي سمّاه سحراً‏.‏

وأسنَدَ الإتيان بسحرٍ مثله إلى ضمير نفسه تعظيماً لشأنه‏.‏ ومعنى إتيانه بالسحر‏:‏ إحضار السحرة بين يديه، أي فلنأتينك بسحر ممنْ شأنهم أن يأتوا بالسحر، إذ السحر لا بد له من ساحر‏.‏

والمماثلة في قوله ‏{‏مِثْلِهِ‏}‏ مماثلة في جنس السحر لا في قوته‏.‏

وإنما جعل فرعون العلّة في مجيء موسى إليه‏:‏ أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياساً منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولَهم محلّهم، يعني أن موسى غرّته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه، أي حسبتَ أنّ إظهار الخوارق يطوّع لك الأمة فيجعلونك ملكاً عليهم وتخرجني من أرضي‏.‏ فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة، لأنّ موسى لم يصدر عنه ما يشمّ منه إخراجهم من أرضهم‏.‏

ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملاً في الجماعة تغليباً، ونزّل فرعون نفسه واحداً منها‏.‏ وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى ‏{‏فأرسِلْ معنا بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 47‏]‏، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمّة بما تظهر لهم من سحرك‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أجِئْتَنَا‏}‏ إنكاري، ولذلك فرّع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله، والقسم من أساليب إظهار الغضب‏.‏

واللام لام القسم، والنون لتوكيده‏.‏ وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق، لعلّ ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر‏.‏

وفرّع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليُحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره‏.‏

والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد، وهذا إيجاز في الكلام‏.‏

وقوله ‏{‏مكاناً‏}‏ بدل اشتمال من ‏{‏موعداً‏}‏ بأحد معنييه، لأنّ الفعل يقتضي مكاناً وزماناً فأبدل منه مكانُه‏.‏

وقوله ‏{‏لا نُخْلِفُهُ‏}‏ في قراءة الجمهور برفع الفعل صفةً ل ‏{‏موعداً‏}‏ باعتبار معناه المصدري‏.‏ وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من ‏(‏نخلفْه‏)‏ على أن ‏(‏لا‏)‏ ناهية‏.‏ والنهي تحذير من إخلافه‏.‏

و ‏{‏سِوىً‏}‏ قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين‏.‏ وقرأه عاصم، وحمزة، وابن عامر، ويعقوب، وخلف بضم السين وهما لغتان، فالكسر بوزن فِعَل، قال أبو عليّ‏:‏ وزن فِعَل يقلُّ في الصفات، نحو‏:‏ قوم عِدىً‏.‏ وقال أبو عبيدة، وأبو حاتم، والنحاس‏:‏ كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء‏:‏ فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين‏.‏ وأنشد أبو عبيدة لموسى ابن جابر الحنفي‏:‏

وإن أبانا كانَ حلّ ببلدة *** سِوىً بين قيسسٍ قيس عيلان والفِزْر

‏(‏الفِزر‏:‏ لقب لسعد بن زيد مناةَ بن تميم هو بكسر الفاء‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ قال مجاهد‏:‏ إنه مكان نصف، وكأنّ المرادَ أنّه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة‏.‏ وعن ابن زيد‏:‏ المعنى مكاناً مستوياً، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين، أراد مكاناً منكشفاً للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة‏.‏

ثم تعيين الموعد غيرِ المخلَف يقتضي تعيين زمانه لا محالة، إذ لا يتصوّر الإخلاف إلاّ إذا كان للوعد وقت معيّن ومكان معيّن، فمن ثم طابقه جواب موسى بقوله ‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينةِ وأن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً‏}‏‏.‏

فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكاناً معروفاً‏.‏ ولعلّه كان بساحة قصر فرعون، لأنّهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم‏.‏

فقوله ‏{‏يَوْمُ الزِّينَةِ‏}‏ تعيين للوقت، وقوله ‏{‏وأن يُحْشَرَ النَّاسُ‏}‏ تعيين للمكان، وقوله ‏{‏ضُحىً‏}‏ تقييد لمطلق الوقت‏.‏

والضحى‏:‏ وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها‏.‏

ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند القبط، وهو يوم كسر الخليج أوالخِلجان، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للسقي، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها‏.‏

وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطيّة، وذلك هو أول يوم من شهر ‏(‏توت‏)‏ القبطي، وهو ‏(‏أيلول‏)‏ بحسب التاريخ الإسكندري، وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوماً، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يوماً، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين ‏(‏سبتمبر‏)‏‏.‏ وأول أيام شهر ‏(‏توت‏)‏ هو يوم النيروز عند الفرس، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس‏.‏

واختار موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلَجُ له، فأحبّ أن يكون ذلك في وقت أكثرَ مشاهِداً وأوضح رؤيةً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏‏}‏

تفريع التولّي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يُضععِ الوقت للتهيئة له‏.‏

والتولّي‏:‏ الانصراف، وهو هنا مستعمل في حقيقته، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيثُ يُرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عُرفوا بعلم السحر، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات ‏(‏22، 23‏)‏ ‏{‏ثم أدبر يسعى فحشر فنادى‏}‏

ومعنى جمع الكيد‏:‏ تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأنّ موسى ليس على شيء‏.‏

وهذا أسلوب قديم في المناظرات‏:‏ أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجّة خصمه بكلّ وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومباداته بما يفتّ في عضده ويشوش رأيه حتّى يذهب منه تدبيره‏.‏

فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي‏.‏ واستقصاء ترتيب الأمر، كقوله ‏{‏فأجمعوا أمركم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده، أي جمع السحرة، على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجمع السحرة لميقات يوم معلوم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والكَيْد‏:‏ إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كيدي متين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏183‏)‏‏.‏

ومعنى ثُمَّ أتى‏}‏ ثمّ حضر الموعدَ، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معاً، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهمّ من جمع الكيد، لأنّ فيه ظهور أثر ما أعدّه‏.‏

وجملة ‏{‏قَالَ لَهُم موسى‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ قوله ‏{‏ثُمَّ أتى‏}‏ يثير سؤالاً في نفس السامع أن يقول‏:‏ فماذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد‏.‏ وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة‏.‏

وضمير ‏{‏لَهُم‏}‏ عائد إلى معلوم من قوله ‏{‏فلنأتينك بسحر مثله أي بأهل سحر، أو يكون الخطاب للجميع، لأنّ ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته، فيكون معاد الضمير ما دلّ عليه قوله فَجَمعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى‏}‏، أي جمع رجال كيده‏.‏

والخطاب بقوله ‏{‏وَيْلَكُمْ‏}‏ يجوز أن يكون أراد به حقيقة الدعاء، فيكون غير جار على ما أمر به من إلانة القول لفرعون‏:‏ إما لأن الخطاب بذلك لم يكن مواجهاً به فرعون بل واجه به السحرةَ خاصة الذين اقتضاهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَمعَ كَيْدَهُ‏}‏، أي قال موسى لأهل كيد فرعون؛ وإما لأنه لما رأى أن إلانة القول له غير نافعة، إذ لم يزل على تصميمه على الكفر، أغلظ القول زجراً له بأمر خاص من الله في تلك الساعة تقييداً لمطلق الأمر بإلانة القول، كما أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏}‏ الآيات في سورة الحج ‏(‏39‏)‏؛ وإما لأنه لما رأى تمويههم على الحاضرين أنّ سحرهم معجزة لهم من آلهتهم ومن فرعون ربّهم الأعلى وقالوا‏:‏ ‏{‏بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 44‏]‏ رأى واجباً عليه تغيير المنكر بلسانه بأقصى ما يستطيع، لأن ذلك التغيير هو المناسب لمقام الرسالة‏.‏

ويجوز أن تكون كلمة ‏{‏وَيْلَكُمْ‏}‏ مستعملة في التعجب من حال غريبة، أي أعجبُ منكم وأحذركم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير‏:‏ «ويلُ أُمهُ مسعر حرب» فحكى تعجب موسى باللفظ العربي الدال على العجب الشديد‏.‏

والويل‏:‏ اسم للعذاب والشر، وليس له فعل‏.‏

وانتصب ‏{‏وَيْلَكُمْ‏}‏ إما على إضمار فعل على التحذير أو الإغراء، أي الزموا ويلكم، أو احذروا ويلكم؛ وإما على إضمار حرف النداء فإنهم يقولون‏:‏ يا ويلنا، ويا ويلتنا‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏‏.‏

والإفتراء‏:‏ اختلاق الكذب‏.‏ والجمع بينه وبين كَذِباً‏}‏ للتأكيد، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏103‏)‏‏.‏

والافتراء الذي عناه موسى هو ما يخيّلونه للناس من الشعوذة، ويقولون لهم‏:‏ انظروا كيف تحرّك الحبل فصار ثعباناً، ونحو ذلك من توجيه التخيّلات بتمويه أنها حقائق، أو قولهم‏:‏ ما نفعله تأييد من الله لنا، أو قولهم‏:‏ إن موسى كاذب وساحر، أو قولهم‏:‏ إن فرعون إلههم، أو آلهة فرعون آلهة‏.‏ وقد كانت مقالات كفرهم أشتاتاً‏.‏

وقرأ الجمهور فَيَسْحَتَكُم‏}‏ بفتح الياء مضارع سَحَتَه‏:‏ إذا استأصله، وهي لغة أهل الحجاز‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخَلف، ورويسٌ عن يعقوب بضم الياء التحتية من أسحته، وهي لغة نجد وبني تميم، وكلتا اللغتين فصحى‏.‏

وجملة ‏{‏وقَدْ خَابَ مَننِ افترى‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏لا تَفْتَرُوا‏}‏ وهي مسوقة مساق التعليل للنهي، أي اجتنبوا الكذب على الله فقد خاب من افترى عليه من قبلُ‏.‏ بعد أن وعظهم فنهاهم عن الكذب على الله وأنذرهم عذابه ضرب لهم مثلاً بالأمم البائدة الذين افتروا الكذب على الله فلم ينجحوا فيما افتَرَوْا لأجله‏.‏

و ‏{‏منْ‏}‏ الموصولة للعموم‏.‏

وموقع هذه الجملة بعد التي قبلها كموقع القضية الكبرى من القياس الاقتراني‏.‏

وفي كلام موسى إعلان بأنه لا يتقول على الله ما لم يأمره به لأنه يعلم أنه يستأصله بعذاب ويعلم خيبة من افترى على الله؛ ومن كان يعلم ذلك لا يُقدم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏‏}‏

أي تفرع على موعظة موسى تنازُعهم الأمرَ بينهم، وهذا يؤذن بأن منهم من تركتْ فيه الموعظة بعضَ الأثر، ومنهم من خشي الانخذال، فلذلك دعا بعضهم بعضاً للتشاور فيما ذا يصنعون‏.‏

والتنازل‏:‏ تفاعل من النزع، وهو الجَذْب من البئر، وجَذْب الثوب من الجسد، وهو مستعمل تمثيلاً في اختلاف الرأي ومحاولة كل صاحب رأي أن يقنع المخالف له بأن رأيه هو الصواب، فالتنازع‏:‏ التخالف‏.‏

والنّجوى‏:‏ الحديث السريّ، أي اختَلَوْا وتحادثوا سِرّاً ليَصدروا عن رأي لا يطّلع عليه غيرهم، فجَعْلُ النجوى معمولاً ل ‏{‏أسَرّوا‏}‏ يفيد المبالغة في الكتمان، كأنه قيل‏:‏ أسرّوا سرّهم، كما يقال‏:‏ شعر شاعر‏.‏

وزادهُ مبالغة قوله ‏{‏بَيْنَهُم‏}‏ المقتضي أنّ النجوى بين طائفة خاصة لا يشترك معهم فيها غيرهم‏.‏

وجملة ‏{‏قَالُوا إنْ هذانن لساحران‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏وأسَرُّوا النجوى‏}‏، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذُكر منها هذا القول، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه، فهو زبدة مخيض النجوى‏.‏ وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه‏.‏

وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى‏:‏ قال بعضهم‏:‏ هذان لساحران، فقال جميعهم‏:‏ نعم هذان لسَاحران، فأسند هذا القول إلى جميعهم، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها‏.‏ وقال بعضهم لبعض‏:‏ نعم هو كذلك، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران‏.‏

واعلم أنّ جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله «هاذان» ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر‏.‏ وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ ‏(‏هذانِ‏)‏ أكثر تواتراً بقطع النظر عن كيفيّة النطق بكلمة ‏(‏إنّ‏)‏ مشدّدة أو مخفّفة، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرأوا بتشديد نون ‏(‏إنّ‏)‏ ما عدا ابنَ كثير وحفصاً عن عاصم فهما قرءَا ‏(‏إنْ‏)‏ بسكون النون على أنها مخففة من الثقيلة‏.‏

وإن المصحف الإمام ما رسمُوه إلاّ اتّباعاً لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقرّاء أصحابه، فإن حفظ القرآن في صدور القرّاء أقدم من كتابته في المصاحف، وما كتب في أصول المصاحف إلاّ من حفظ الكاتِبين، وما كُتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحُفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي‏.‏

فأما قراءة الجمهور ‏{‏إنّ هذان لساحران بتشديد نون ‏(‏إنّ‏)‏ وبالألف في هذان وكذلك في لساحران، فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستّة‏.‏ وأظهرها أن تكون ‏(‏إنّ‏)‏ حرف جواب مثل‏:‏ نعم وأجَل، وهو استعمال من استعمالات ‏(‏إنّ‏)‏، أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النّجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيّات‏:‏

ويقلْن شيب قد عَلا *** كَ وقد كبِرت فقلت إنّه

أي أجل أو نعم، والهاء في البيت هاءُ السّكْتتِ، وقول عبد الله بن الزُبير لأعرابي استجداه فلم يعطه، فقال الأعرابي‏:‏ لعَن الله ناقة حملتني إليك‏.‏ قال ابن الزّبير‏:‏ إنّ وراكِبَها‏.‏ وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في تفسيره‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ عرضته على عالمينا وشيْخينا وأستاذيْنا محمد بن يزيد ‏(‏يعني المبرد‏)‏، وإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد ‏(‏يعني القاضي الشهير‏)‏ فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا‏.‏

وقلت‏:‏ لقد صدقا وحقّقا، وما أورده ابن جنّي عليه من الرد فيه نظر‏.‏

وفي «التفسير الوجيز» للواحدي سأل إسماعيل القاضي ‏(‏هو ابن إسحاق بن حمّاد‏)‏ ابنَ كيسان عن هذه المسألة، فقال ابنُ كيسان‏:‏ لما لم يظهر في المبهم إعرابٌ في الواحد ولا في الجمع ‏(‏أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان‏)‏ جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغيّر‏.‏ فقال له إسماعيل‏:‏ ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يُؤْنس به فقال له ابنُ كيسان‏:‏ فليقل به القاضي حتى يؤنس به، فتبسم‏.‏

وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ هَذاننِ لسَاحِرانِ‏}‏ حكايةً لمقال فريق من المتنازعين، وهو الفريق الذي قبِل هذا الرأي لأنّ حرف الجواب يقتضي كلاماً سبقه‏.‏

ودخلت اللاّم على الخبر‏:‏ إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدأها وهو مدخول اللام في التقدير، ووجودُ اللاّم ينبئ بأن الجملة التي وقعت خبراً عن اسم الإشارة جملة قسميّة؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة‏.‏

ووجهت هذه القراءة أيضاً بجعل ‏(‏إنّ‏)‏ حرف توكيد وإعراببِ اسمها المثنّى جَرى على لغة كنانة وبِلْحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألفَ في أحوال الإعراب كلها، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمّس‏:‏

فأطرقَ إطراقَ الشُجاع ولو درى *** مساغاً لِنَأبَاهُ الشجاعُ لصمّما

وقرأه حفص بكسر الهمزة وتخفيف نون ‏(‏إنْ‏)‏ مسكنة على أنها مخففة ‏(‏إنّ‏)‏ المشددة‏.‏ ووجه ذلك أن يكون اسم ‏(‏إنْ‏)‏ المخففة ضمير شأن محذوفاً على المشهور‏.‏ وتكون اللاّم في ‏{‏لساحران‏}‏ اللاّم الفارقة بين ‏(‏إنْ‏)‏ المخففة وبين ‏(‏إن‏)‏ النافية‏.‏

وقرأ ابن كثير بسكون نون ‏(‏إنْ‏)‏ على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في «هذان» وبتشديد نون ‏(‏هاذانّ‏)‏‏.‏

وأما قراءة أبي عمرو وحده ‏{‏إنَّ هذَيْن بتشديد نون ‏(‏إنّ‏)‏ وبالياء بعد ذال هذين‏.‏ فقال القرطبي‏:‏ هي مخالفة للمصحف‏.‏ وأقل‏:‏ ذلك لا يطعن فيها لأنّها رواية صحيحة ووافقت وجهاً مقبولاً في العربيّة‏.‏

ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود‏.‏ فلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة إن هاذان خطأ من كاتب المصحف، وروايتِهم ذلك عن أبانَ بن عثمان بن عفّان عن أبيه، وعن عروة بن الزبير عن عائشة، وليس في ذلك سند صحيح‏.‏

حسبوا أنّ المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفّل، فإن المصحف ما كتب إلاّ بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيّفاً وعشرين سنة في أقطار الإسلام، وما كتبت المصاحف إلاّ من حفظ الحفّاظ، وما أخذ المسلمون القرآن إلاّ من أفواه حُفّاظه قبل أن تكتب المصاحف، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخطّ لما تبعه القراء، ولكان بمنزلة ما تُرك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة، والزكاة، والحياة، والرّبا بالواو في موضع الألف وما قرأوها إلاّ بألِفاتها‏.‏

وتأكيد السحرة كونَ موسى وهارون ساحرين بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما‏.‏

وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحراً لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبي لقومها‏:‏ جئتكم من عندِ أسْحر النّاس، وهو في كتاب المغازي من صحيح البخاري‏}‏‏.‏

والقائلون‏:‏ قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة‏.‏

والخطاب في قوله ‏{‏أن يُخْرِجَاكُم‏}‏ لملئهم‏.‏ ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة، أي يريداننِ الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون‏.‏

والطريقة‏:‏ السُّنّة والعادة؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر، بجامع الملازمة‏.‏

والمثلى‏:‏ مؤنّث الأمثل‏.‏ وهو اسم تفضيل مشتقّ من المَثَالة، وهي حسن الحالة يقال‏:‏ فلان أمثل قومِه، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالاً‏.‏

وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها‏.‏ ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى‏.‏

والباء في ‏{‏بطريقتكم‏}‏ لتعدية فعل ‏{‏يذهبا‏.‏ والمعنى‏:‏ يُذهبانها، وهو أبلغ في تعلّق الفعل بالمفعول من نصب المفعول‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏17‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور فأجمِعوا‏}‏ بهمزة قطع وكسر الميم أمراً من‏:‏ أجمع أمره، إذا جعله متفقاً عليه لا يختلف فيه‏.‏

وقرأ أبو عمرو ‏{‏فاجمَعوا‏}‏ بهمزة وصل وبفتح الميم أمراً من جمع، كقوله فيما مضى ‏{‏فجَمَع كيْدَه‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 60‏]‏‏.‏ أطلق الجمع على التعاضد والتعاون، تشبيهاً للشيء المختلف بالمتفرّق، وهو مقابل قوله ‏{‏فتنازعوا أمرهم‏}‏‏.‏

وسموا عملهم كيداً لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب، فهم يأتون بمثله أو أشدّ منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به‏.‏

والظاهر أنّ عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى، وما أظهره الله على يديه من المعجزة، وأصبحوا متحيّرين في شأنه؛ فمن أجل ذلك اهتمّ السحرة بالكيد له، وهو ما حكاه قوله تعالى‏:‏ في آية سورة الشعراء ‏(‏38 40‏)‏‏:‏

‏{‏فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين‏}‏

ودبروا لإرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون بالاتفاق على أن يأتوا حين يتقدمون لإلقاء سحرهم مصطفين لأن ذلك أهيبُ لهم‏.‏

ولم يزل الذين يرومون إقناع العموم بأنفسهم يتخيّرون لذلك بَهاء الهيبة وحسن السمت وجلال المظهر‏.‏ فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود، وربما لبس الأبطال جلود النمور في الحرب‏.‏ وقد فسر به فعل تنمّروا في قول ابن معد يكرب‏:‏

قوم إذا لبِسوا الحديد *** تنَمروا حَلَقاً وقَدّاً

وقيل‏:‏ إن ذلك المراد من قولهم الجاري مجرى المثل لبس لي فلان جلد النمر‏.‏ وثبت في التاريخ المستند للآثار أنّ كهنة القبط في مصر كانوا يلبسون جلود النمور‏.‏

والصفّ‏:‏ مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول، أي صافّين أو مصفوفين، إذا ترتبوا واحد حذو الآخر بانتظام بحيث لا يكونون مختلطين، لأنهم إذا كانوا الواحد حذو الآخر وكان الصف منهم تلو الآخر كانوا أبهر منظراً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ ‏[‏الصفّ‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وكان جميع سحرة البلاد المصريّة قد أحضروا بأمر فرعون فكانوا عدداً كثيراً‏.‏ فالصفّ هنا مراد به الجنس لا الواحدة، أي ثم ائتوا صفوفاً، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الروح والملائكة صفاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والملك صفاً صفاً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏صَفّاً‏}‏ على الحال من فاعل ‏{‏ائتُوا‏}‏ والمقصود الإتيان إلى موضع إلقاء سحرهم وشعوذتهم، لأنّ التناجي والتآمر كان في ذلك اليوم بقرينة قولهم ‏{‏وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَننِ اسْتَعلَى‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏وقَدْ أفلحَ اليومَ مَننِ استَعْلى‏}‏ تذييل للكلام يجمع ما قصدوه من تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع‏.‏ ف ‏{‏استعلى‏}‏ مبالغة في عَلا، أي علا صاحبَه وقهره، فالسين والتاء للتأكيد مثل استأخر‏.‏

وأرادوا الفلاح في الدنيا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بأنّ أمثال هذه المواقف مما يؤثر في حال الحياة الأبديّة وإن كانوا يؤمنون بالحياة الثانية‏.‏