فصل: سورة الحج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة الحج

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يومَ نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به، ليستبدلوا ذلك بضده‏.‏

وأول فريق من الناس دخولاً في خطاب ‏{‏ياأيها الناس‏}‏ هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم‏.‏ وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم‏.‏

وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يُتَّقَى لعظمته بالخالقية، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم‏.‏

وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيّد‏.‏

وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأننٍ لها مناسببٍ للمقام‏.‏ وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائص، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية‏.‏

وجملة ‏{‏إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏}‏ في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيده حرف التوكيد الواقع في مقام خطاببٍ لا تردد للسامع فيه‏.‏

والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثراً في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن عذاب الله شديد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والزلزلة حقيقتها‏:‏ تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض‏.‏ وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض‏.‏

والساعة‏:‏ عَلَم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها إلى قوله‏:‏ يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وإضافة ‏{‏زلزلة‏}‏ إلى ‏{‏الساعة‏}‏ على معنى ‏(‏في‏)‏، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة‏.‏

فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر‏.‏ والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى الساعة إضافة حقيقية فيكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏

ويجوز أن تكون الزلزلة مجازاً عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله‏:‏ ‏{‏مستهم البأساء والضراء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏ وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب‏:‏ ‏"‏ اللهم اهزمهم وزلزلهم ‏"‏‏.‏ والإتيان بلفظ ‏{‏شيء‏}‏ للتهويل بتوغله في التنكير، أي زلزلة الساعة لا يعرّف كنهها إلاّ بأنها شيء عظيم، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة ‏{‏شيء‏}‏ وهي التي نبّه عليها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

والعظيم‏:‏ الضخم، وهو هنا استعارة للقوي الشديد، والمقام يفيد أنه شديد في الشرّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏يوم ترونها تذهل‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ بيان لجملة ‏{‏إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏ لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئاً عظيماً وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب‏.‏

ويتعلق ‏{‏يوم ترونها‏}‏ بفعل ‏{‏تذهل‏.‏‏}‏ وتقديمُه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس‏.‏ وأصل نظم الجملة‏:‏ تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم تَرون زَلزلة الساعة‏.‏ فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رُؤية تلك الزَلزلة بالإمكان‏.‏

وضمير النصب في ‏{‏ترونها‏}‏ يجوز أن يعود على ‏{‏زلزلة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏ وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تُسمع ولا ترى‏.‏ ويجوز أن يعود إلى الساعة‏.‏

ورؤيتُها‏:‏ رؤيةُ ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه ومشاهدة أهوال العذاب‏.‏ وقرينة ذلك قوله ‏{‏تذهل كل مرضعة‏}‏ الخ‏.‏

والذهول‏:‏ نسيان ما من شأنه أن لا يُنسى لوجود مقتضى تذكره؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل‏.‏ قاله شيخنا الجدّ الوزير قال‏:‏ وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره‏.‏ وكلّ ذلك يدل بدلالة الأوْلى على ذهول غيرها من النساء والرجال‏.‏ وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية‏.‏

والتحقت هاء التأنيث بوصف ‏{‏مرضعة‏}‏ للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تَلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع، كما يقال‏:‏ هي ترضع‏.‏‏.‏ ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ كلّ مرضع، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس‏.‏ وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته «الكافية» بقوله‏:‏

وما من الصفات بالأنثى يخص *** عن تاء استغنى لأنّ اللفظ نص

وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد *** كذي غدت مُرضعة طِفلاً وُلِد

والمراد‏:‏ أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا‏.‏ فالمعنى الحقيقي مراد، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعاً، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن عِلقه على طريقة الكناية‏.‏

وزيادة كلمة ‏(‏كلّ‏)‏ للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها‏.‏ ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة‏.‏

وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة‏.‏ وهذا من بديع الكناية عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأوْلى، فهو لزوم بدرجة ثانية، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء‏.‏

و ‏(‏مَا‏)‏ في ‏{‏عما أرضعت‏}‏ موصولة ما صْدقُها الطفل الرضيع‏.‏ والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل، وحذفُ مثله كثير‏.‏

والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول‏.‏

وقوله ‏{‏وتضع كل ذات حمل حملها‏}‏ هو كناية أيضاً كقوله ‏{‏تذهل كل مرضعة عما أرضعت‏}‏‏.‏ ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين‏.‏

والحمل‏:‏ مصدر بمعنى المفعول، بقرينة تعلقه بفعل ‏{‏تضعُ‏}‏ أي تضع جنينها‏.‏

والتعبير ب ‏{‏ذات حمل‏}‏ دون التعبير‏:‏ بحامل، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر‏.‏ فلا يقال‏:‏ امرأة حامل، بل يقال‏:‏ ذات حمل قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأُولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع‏.‏

والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في ‏{‏تذهل كل مرضعة عما أرضعت‏}‏‏.‏

والخطاب في ‏{‏ترى الناس‏}‏ لغير معيّن، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله ‏{‏يوم ترونها‏}‏، وإنما أوثر الإفرادُ هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع‏.‏ وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله ‏{‏وترى لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ وقوله ‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سُكارى‏}‏ بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف‏.‏ ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ‏.‏ وقوله بعده ‏{‏وما هم بسكارى‏}‏ قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده ‏{‏ولكن عذاب الله شديد‏}‏‏.‏

وقرأه حمزة والكسائي ‏{‏سَكرى‏}‏ بوزن عَطشى في الموضعين‏.‏ وسُكارى وسَكرى جمع سكران‏.‏ وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر، وقياس جمعه سكارى‏.‏ وأما سَكرَى فهو محمول على نَوْكى لما في السكر من اضطراب العقل‏.‏ وله نظير وهو جمع كسلان على كُسالى وكَسلى‏.‏

وجملة ‏{‏وما هم بسكارى‏}‏ في موضع الحال من الناس‏.‏

و ‏{‏عذاب الله‏}‏ صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجَع، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبْن ملائكة العذاب‏.‏

وجملة ‏{‏وما هم بسكارى‏}‏ في موضع الحال من النّاس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ياأيها الناس اتقوا ربكم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏، أي الناس فريقان‏:‏ فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطِل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته‏.‏ وهذا الفريق هم أيمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدّون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه‏.‏

والاقتصارُ على ذكرهم إيماء إلى أنهم لولا تضليلهم قومَهم وصدهم إياهم عن متابعة الدين لاتّبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولها في الفطرة‏.‏

وقيل‏:‏ أريد ب ‏{‏من يجادل في الله‏}‏ النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي، فتكون ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل مَن تصدق عليه الصلة‏.‏

والمجادلة‏:‏ المخاصمة والمحاجّة‏.‏ والظرفية مجازية، أي يجادل جدلاً واقعاً في شأن الله‏.‏ ووصف الجدل بأنه بغير علم، أي جدلاً ملتبساً بمغايرة العلم، وغير العلم هو الجهل، أي جدلاً ناشئاً عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء‏.‏

واتباع الشيطان‏:‏ الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عَرض على نظر واستدلال‏.‏

وكلمة ‏(‏كل‏)‏ في قوله ‏{‏كل شيطان‏}‏ مستعملة في معنى الكثرة‏.‏ كما سيأتي قريباً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى كل ضامر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ في هذه السورة‏.‏ وتقدم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 145‏]‏‏.‏

والمَرِيد‏:‏ صفة مُشبهة مِن مَرُد بضم الراء على عمل، إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل، وكأنه مُحول مِن مَرَد بفتح الراء بمعنى مَرَن إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية، فالمريد صفة مشبهة، أي العاتي في الشيطنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏كتب عليه أنه من تولاه‏}‏ إلى آخرها صفة ثانية ل ‏{‏شيطان مريد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏، فالضمير المجرور عائد إلى ‏{‏شيطان‏.‏ وكذلك الضمائر في أنه من تولاه فأنه‏}‏‏.‏

وأما الضميران البارزان في قوله ‏{‏يضله ويهديه إلى عذاب السعير‏}‏ فعائدان إلى ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة، أي يضل الشيطان مُتَوَليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير‏.‏

واتفقت القراءات العشر على قراءة ‏{‏كُتب‏}‏ بضم الكاف على أنه مبني للنائب‏.‏ واتفقت أيضاً على فتح الهمزتين من قوله تعالى‏:‏ أنه من تولاه فأنه يضله‏}‏‏.‏

والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير، فأطلق على لزوم ذلك فعل ‏{‏كتب عليه‏}‏ أي وجب عليه، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة‏.‏ قال الحارث بن حِلّزة‏:‏

وهل يَنْقُضُ ما في المهارق الأهْوَاءُ *** والضمير في ‏{‏أنه‏}‏ عائد إلى ‏{‏شيطان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏ وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل ‏{‏كُتب،‏}‏ إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة، والمصدران المنسبكان من قوله ‏{‏أنه من تولاه‏}‏ وقوله ‏{‏فأنه يضله‏}‏ نائب فعل ‏{‏كتب‏}‏ ومفرع عليه بفاء الجَزاء، أي كتب عليه إضلال من تولاه‏.‏ والتولي‏:‏ اتّخاذ ولي، أي نصير، أي من استنصر به‏.‏

و ‏(‏مَن‏)‏ موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابِت لا على التعليق بالشرط‏.‏ وهي مبتدأ ثان، والضمير المستتر في قوله ‏{‏تولاه‏}‏ عائد إلى ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة‏.‏ والضمير المنصوب البارز عائد إلى ‏{‏شيطان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏، أي أن الذي يتخذ الشيطان ولياً فذلك الشيطان يضله‏.‏

والفاء في قوله ‏{‏فأنه يضله‏}‏ داخلة على الجملة الواقعة خبراً عن ‏(‏من‏)‏ الموصولة تشبيهاً لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشَبَه الموصول بالشرط قصداً لتقوية الإخبار‏.‏ والمصدر المنسبك من قوله ‏{‏فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير‏}‏ في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبراً عن ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة‏.‏ والتقدير‏:‏ فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير‏.‏ وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلَي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ‏.‏ والتقدير‏:‏ ثابتان‏.‏

ويجوز أن تجعل الفاء في قوله ‏{‏فأنه يضله‏}‏ فاء تفريع ويجعلَ ما بعدها معطوفاً على ‏{‏من تولاه‏}‏ ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع‏.‏ والتقدير‏:‏ كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتولّيه وترتب إيصاله متوليَه إلى عذاب السعير‏.‏

هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات‏.‏

واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في ‏[‏سورة براءة‏:‏ 63‏]‏ ‏{‏ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها‏}‏ لأن مقتضى فعل العلم غيرُ مَقتضى فعل ‏(‏كُتب‏)‏‏.‏ فلذلك كانت ‏(‏مَن‏)‏ في قوله من يحادِدِ‏}‏ شرطية لا محالة وكان الكلام جارياً على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله ‏{‏أنه‏}‏ ضمير شأن‏.‏

ولما كان الضلال مشتهراً في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل ‏{‏يضله‏}‏ لظهور المعنى‏.‏

وذُكِر متعلق فعل ‏{‏يهديه‏}‏ وهو ‏{‏إلى عذاب السعير‏}‏ لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهَدْي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب‏.‏

وفي الجمع بين ‏{‏يضله ويهديه‏}‏ محسن الطِباق بالمضادة‏.‏ وقد عدّ من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم‏}‏ النضر بن الحارث‏.‏ وقيل نزلت فيه؛ كان كثير الجدل يقول‏:‏ الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت تراباً‏.‏ وعُد منهم أيضاً أبو جهل، وأبيُّ بن خَلف‏.‏ ومن قال‏:‏ إن المقصود بقوله ‏{‏من يجادل‏}‏ معيناً خص الآية به، ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الارض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ‏}‏

أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه‏.‏ وهو الخلق الأول‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏‏.‏ فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب، ثم كونه من ماء‏.‏ ثم خلقه أطواراً عجيبة، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه‏.‏

ودخول المشركين بادئ ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم‏.‏

وجُعل ريْبهم في البعث مفروضاً ب ‏(‏إن‏)‏ الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبُه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أنّ كنتم قوماً مسرفين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والظرفية المفادة ب ‏(‏في‏)‏ مجازية‏.‏ شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف‏.‏

وجملة ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏ واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جواباً لهذا الشرط بل هي دليل الجواب، والتقدير‏:‏ فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرُّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت، أو التقدير‏:‏ فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب‏.‏

والذي خُلق من تراب هو أصل النوع، وهو آدم عليه السلام وحواء، ثم كونت في آدم وزوجه قوة التناسل، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب ‏(‏ثم‏)‏‏.‏

والنطفة‏:‏ اسم لمنّي الرجل، وهو بوزن فُعلة بمعنى مفعول، أي منطوف، والنَطْف‏:‏ القطر والصب‏.‏ والعلقة‏:‏ القطعة من الدم الجامد اللين‏.‏

والمضغة‏:‏ القطعة من اللحم بقدر ما يُمضغ مثله، وهي فعلة بمعنى مَفعولة بتأويل‏:‏ مقدار ممضوغة‏.‏ و‏(‏ثم‏)‏ التي عطف بها ‏{‏ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة‏}‏ عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد‏.‏

وكون الإنسان مخلوقاً من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مُدة الحيض جزءاً هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين، وهذا الجُزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي ‏(‏المَبِيض‏)‏ بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بَيضات دقيقة هي حُبيبات دقيقة جداً وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت، مودعة في كرة دقيقة كالغِلاف لها يقال لها ‏(‏الحُويصلة‏)‏ بضم الحاء بصيغة تصغير حَوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحُويصلة، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يَحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى ‏(‏بوق فلوبيوس‏)‏ لشبهه بالبُوق، وأضيف إلى ‏(‏فلوبيوس‏)‏ اسم مكتشفه وهو البزرخ بين المَبِيض والرحم، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشِبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي‏.‏

وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل، وبعد أربعين يوماً تصير البيضة عَلَقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 مليمتر، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لَحم هي المسماة ‏(‏مُضغة‏)‏ طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جداً كالخطوط، ثم يزداد التشكل يوماً فيوماً إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفعَ للخروج وهو الولادة‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مخلقة وغير مخلقة‏}‏ صفة ‏{‏مضغة‏}‏‏.‏ وذلك تطور من تطورات المضغة‏.‏ أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة، أي غير ظاهر فيها شَكل الخِلقة، ثم تكون مخلّقة، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف، ولذلك لم يُذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة‏.‏ وإذْ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لازِمان للمضغة، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت‏.‏

والتخليق‏:‏ صيغة تدل على تكرير الفعل، أي خلقاً بعد خلق، أي شكلاً بعد شكل‏.‏

وقُدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال، وذُكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم‏.‏ فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام‏.‏

ولذلك عقب بقوله تعالى ‏{‏لنبين لكم‏}‏، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلاً واضحاً على إمكان الإحياء بعد الموت‏.‏

واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدرُ من فعل ونحوه تدل عليه جملة ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏ الخ، وهو فعل‏:‏ فاعلموا، أو فنُعلمكم، أو فانظروا‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏لِنُبيّن‏}‏ لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا‏.‏

وجملة ‏{‏ونقرّ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏‏.‏ وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم، مع تفاوت القرار‏.‏ فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر، ومنها ما يزيد على ذلك، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏‏.‏ والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد‏.‏

والأجل‏:‏ الأمد المجعول لإتمام عمل ما، والمراد هنا مدة الحمل‏.‏

والمسمّى‏:‏ اسم مفعول من سَماه، إذا جعل له اسماً، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيهاً لضبط الأمور غيرِ المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب، بتسمية الشخص بوجه شبه يُميزه عما شابهه‏.‏ ومنه قول الفقهاء‏:‏ المهر المسمّى، أي المعيّن من نقد معدود أو عَرض موصوف، وقول الموثقين‏:‏ وسمّى لها من الصداق كذا وكذا‏.‏

ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبلَ وضعه‏.‏ والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض، وكلٌّ معين في علم الله تعالى‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى فاكتبوه‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏

وعطف جملة ‏{‏ثم نخرجكم طفلاً‏}‏ بحرف ‏(‏ثم‏)‏ للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود‏.‏ وقوله ‏{‏طفلاً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏نخرجكم،‏}‏ أي حال كونكم أطفالاً‏.‏ وإنما أفرد ‏{‏طفلاً‏}‏ لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع‏.‏

وجملة ‏{‏ثم لتبلغوا أشدكم‏}‏ مرتبطة بجملة ‏{‏ثم نخرجكم طفلاً‏}‏ ارتباط العلّة بالمعلول، واللام للتعليل‏.‏ والمعلّل فعل ‏{‏نخرجكم طفلاً‏}‏‏.‏

وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة عُلم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل‏.‏ وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله ‏{‏ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر‏}‏‏.‏

وحرف ‏(‏ثم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم لتبلغوا أشدكم‏}‏ تأكيد لمثله في قوله ‏{‏ثم نخرجكم طفلاً‏}‏‏.‏ هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي‏.‏

وإنما جُعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا ‏{‏لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً‏}‏ فجعل «الأشد» كأنه الغاية المقصودة من تطويره‏.‏

والأشُدّ‏:‏ سن الفتوة واستجماع القوى‏.‏ وقد تقدم في ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً‏}‏ ووقع في ‏[‏سورة المؤمن‏:‏ 67‏]‏ ‏{‏ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً‏}‏ فعطف طور الشيخوخة على طور الأشُد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفراً يُردون إلى أرذل العمر، وهو طور الشيخوخة بقوله‏:‏ ‏{‏ومنكم من يرد إلى أرذل العمر‏}‏‏.‏

وجيء بقوله ‏{‏ومنكم من يتوفى‏}‏ على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءاً ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث‏.‏ والمعنى‏:‏ ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار‏.‏ وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن ‏(‏67‏)‏‏:‏ ‏{‏ومنكم من يتوفى من قبل‏}‏ وقوله ‏{‏ومنكم من يرد إلى أرذل العمر‏}‏ هو عديل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنكم من يتوفى‏}‏‏.‏ وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب‏.‏

وجُعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصوداً عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن نعمره ننكسه في الخلق‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 68‏]‏ فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم‏.‏

وقوله ‏{‏من بعد علم‏}‏ أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ الداخلة على ‏(‏بعد‏)‏ هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة ‏(‏مِن‏)‏ في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب ‏(‏من‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكي لا يعلم بعد علم شيئاً‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 70‏]‏‏.‏

والآيتان بمعنى واحد فذكر ‏(‏مِن‏)‏ هنا تفنّن في سياق العبرتين‏.‏

و ‏{‏شيئاً‏}‏ واقع في سياق النفي يعم كل معلوم، أي لا يستفيد معلوماً جديداً‏.‏ ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك‏.‏

‏{‏وَتَرَى الارض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام‏.‏

وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالةٍ مشاهدَة فلذلك افتتح بفعل الرؤية، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غيرُ مشاهَد فقيل في شأنه ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏ الآية‏.‏ ومحل الاستدلال من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت‏}‏، فهو مناسبُ قولِه في الاستدلال الأول ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب‏}‏، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازُها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت‏.‏

والهمود‏:‏ قريب من الخمود، فهمود الأرض جَفافها وزوال نبتها، وهمود النار خمودها‏.‏

والاهتزاز‏:‏ التحرك إلى أعلى، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى‏.‏

وربت‏:‏ حصل لها رُبوّ بضمّ الراء وضم الموحدة وهو ازدياد الشيء يقال‏:‏ رَبَا يربو رُبوا، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة، أي ارتفعت‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ رَبَأ بنفسه عن كذا، أي ارتفع مجازاً، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو رُبوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم‏.‏

والزوج‏:‏ الصنف من الأشياء‏.‏ أطلق عليه اسم الزوج تشبيهاً له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجاً فيسمى كلّ واحد منهما زوجاً بهذا المعنى، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكراً ولا أنثى، فأطلق هنا على أنواع النبات‏.‏

والبهيج‏:‏ الحسن المنظر السَارّ للناظر، وقد سِيق هذا الوصف إدماجاً للامتنان في أثناء الاستدلال امتناناً بجمال صورة الأرض المنبتة، لأن كونه بهيجاً لا دخل له في الاستدلال، فهو امتنان محض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

فذلكة لما تقدم، فالجملة تذييل‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه، ومن إحياء الأرض بعد موتها وانبثاق النبت منها‏.‏

وإفراد حرف الخطاب المقترن باسم الإشارة لإرادة مخاطب غير معيّن على نسق قوله ‏{‏وترى الأرض هامدة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ على أن اتصال اسم الإشارة بكاف خطاب الواحد هو الأصل‏.‏

والمجرور خبر عن اسم الإشارة، أي ذلك حصل بسبب أن الله هو الحق الخ‏.‏‏.‏‏.‏ والباء للسببية فالمعنى‏:‏ تَكوّن ذلك الخلق من تراب وتطَور، وتكوّن إنزال الماء على الأرض الهامدة والنبات البهيج بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره‏.‏ ويجوز أن تكون الباء للملابسة، أي كان ذلك الخلق وذلك الإنبات البهيج ملابساً لحقيّة إلهيّة الله‏.‏ وهذه الملابسة ملابسة الدليل لمدلوله، وهذا أرشق من حمل الباء على معنى السببية وهو أجمع لوجوه الاستدلال‏.‏

والحق‏:‏ الثابت الذي لا مراء فيه، أي هو الموجود‏.‏ والقصر إضافي، أي دون غيره من معبوداتكم فإنها لا وجود لها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 23‏]‏ وهذا الاستدلال هو أصل بقية الأدلة لأنه نقضٌ للشرك الذي هو الأصل لجميع ضلالات أهله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وأما بقية الأمور المذكورة بعد قوله ‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏}‏، فهي لبيان إمكان البعث‏.‏

ووجه كون هذه الأمور الخمسة المعدودة في هذه الآية ملابسة لأحوال خلق الإنسان وأحوال إحياء الأرض أن تلك الأحوال دالة على هذه الأمور الخمسة‏:‏ إما بدلالة المسبب على السبب بالنسبة إلى وجود الله وإلى ثبوت قدرته على كل شيء، وإما بدلالة التمثيل على الممثَّل والواقععِ على إمكان نظيره الذي لم يقع بالنسبة إلى إحياء الله الموتى، ومجيء الساعة، والبعثثِ‏.‏ وإذا تبين إمكان ذلك حق التصديق بوقوعه لأنهم لم يكن بينهم وبين التصديق به حائل إلا ظنهم استحالته، فالذي قدر على خلق الإنسان عن عدم سابق قادر على إعادته بعد اضمحلاله الطارئ على وجوده الأحْرَى، بطريقة‏.‏

والذي خلق الأحياء بعد أن لم تكن فيها حياةٌ يمكنه فعل الحياة فيها أو في بقيّة آثارها أو خلق أجسام مماثلة لها وإيداع أرواحها فيها بالأولى‏.‏ وإذا كان كذلك علم أن ساعة فناء هذا العالم واقعة قياساً على انعدام المخلوقات بعد تكوينها، وعُلم أن الله يعيدها قياساً على إيجاد النسل وانعدام أصله الحاصل للمشركين في وقوع الساعة منزّل منزلة العدم لانتفاء استناده إلى دليل‏.‏

وصيغة نفي الجنس على سبيل التنصيص صيغة تأكيد، لأن ‏(‏لاَ‏)‏ النافية للجنس في مقام النفي بمنزلة ‏(‏إنّ‏)‏ في مقام الإثبات ولذلك حملت عليها في العمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏8‏)‏ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏9‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ كما عطفت جملة ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏}‏ على جملة ‏{‏ياأيها الناس اتقوا ربكم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة، فالناسُ بعد ذلك فريقان‏:‏ فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقى في ريب، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أيّمة الشرك وزعماء الباطل‏.‏

وجملة ‏{‏لا ريب فيها‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 7‏]‏ معترضة بين المتعاطفات، أي ليس الشأن أن يُرتاب فيها، فلذلك نفي جنس الريب فيها، أي فالريب‏.‏

المعنيُّ بهذه الآية هو المعنيُّ بقوله فيما مضى ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏، فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة، فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث‏.‏

ودافِعُهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدمُ علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين‏.‏

ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث علم علمهم ما يجادلون فيه، وانتفاء الهُدى، وانتفاء تلقي شريعة من قبل، والتكبر عن الاعتراف بالحجة، ومحبةُ إضلال الناس عن سبيل الله‏.‏ فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة‏.‏ ومن أساطين هذا الفريق من عدّوا في تفسير الآية الأولى مثلُ‏:‏ النضْر بن الحارث، وأبي جهل، وأُبيّ بن خلف‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من هذه الآية بمن يجادل في الله‏:‏ النضر بن الحارث‏.‏ كُرر الحديث عنه تبييناً لحالتي جداله، وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل، كما قيل‏:‏ إن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ هو الأخنَس بن شَريق‏.‏ وتقدم معنى قوله ‏{‏بغير علم‏}‏ في نظير هذه الآية‏.‏ وقيل المراد ب ‏{‏من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏ المقلدون بكسر اللام من المشركين الذين يتّبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر، والمراد ب ‏{‏من يجادل في الله بغير علم ولا هدى‏}‏ المقلّدون بفتح اللام أئمة الكفر‏.‏

والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله، أي ولا هُدى هو مَهدِي به‏.‏ وتلك مجادلة المقلّد إذا كان مقلداً هادياً للحق مثل أتباع الرسل، فهذا دون مرتبَة من يجادل في الله بعلم، ولذلك لم يستغن بذكر السابِق عن ذكر هذا‏.‏

والكتاب المُنير‏:‏ كُتب الشرائع مثل‏:‏ التوراة والإنجيل، وهذا كما يجادلُ أهلُ الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير‏.‏

والمنير‏:‏ المبين للحق‏.‏ شبه بالمصباح المضيء في الليل‏.‏

ويجيء في وصف ‏{‏كتاب‏}‏ بصفة ‏{‏مُنير‏}‏ تعريض بالنضر بن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وبين كتاب أخبار رُستم، وكتاب أخبار أسفنديار المظلمة الباطلة‏.‏

والثّنْيُ‏:‏ لَيُّ الشيء‏.‏ يقال‏:‏ ثنى عنان فرسه، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها‏.‏ ويطلق أيضاً الثّني على الإمالة‏.‏

والعِطف‏:‏ المنكب والجانب‏.‏ و‏{‏ثاني عطفه‏}‏ تمثيل للتكبر والخيلاء‏.‏ ويقال‏:‏ لوى جيدَه، إذا أعرض تكبراً‏.‏ وهذه الصفة تنطبق على حالة أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا‏.‏

واللام في قوله ‏{‏ليُضل‏}‏ لتعليل المجادلة، فهو متعلّق ب ‏{‏يجادل‏}‏ أي غرضه من المجادلة الإضلال‏.‏

وسبيل الله‏:‏ الدّين الحق‏.‏

وقوله ‏{‏ليُضل‏}‏ بضم الياء أي ليُضلل الناسَ بجداله‏.‏ فهذا المجادل يريد بجدله أن يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه‏.‏

وإفراد الضمير في قوله ‏{‏عطفه‏}‏ وما ذكر بعده مراعاةٌ للفظ ‏(‏مَن‏)‏ وإنْ كان معنى تلك الضمائر الجمع‏.‏

وخزي الدنيا‏:‏ الإهانة، وهو ما أصابهم من القتل يوم بَدر ومن القتل والأسر بعد ذلك‏.‏ وهؤلاء هم الذين لم يسلموا بعدُ‏.‏ وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما ابنا عفراء‏.‏ وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يخطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره‏.‏

وينطبق الخزيُ أيضاً على ما حلّ بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبراً في موضع يقال له‏:‏ الأثَيْل قرب المدينة عقب وقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة‏:‏

صبْراً يقاد إلى المنية متعَبا *** صبرَ المقيّد وهو عَاننٍ مُوثق

وإذ كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محالة كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏له في الدنيا خزي‏}‏ من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القرآن‏.‏

وإذاقة العذاب تخييل للمكنيّة‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك بما قدمت يداك‏}‏ مقول قول محذوف تدل عليه صيغة الكلام وهي جملة مستأنفة، أو في موضع الحال من ضمير النصب في قوله تعالى ‏{‏ونذيقه‏}‏‏.‏

و ‏{‏قدّمتْ‏}‏ بمعنى‏:‏ أسلفت‏.‏ جعل كفره كالشيء الذي بعث به إلى دار الجزاء قبل أن يصِل هو إليها فوحده يوم القيامة حاضراً ينتظره قال تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدوا ما عملوا حاضراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

والإشارة إلى العذاب والباءُ سببية‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ موصولة‏.‏ وعطف على ‏(‏ما‏)‏ الموصولة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏ لأنه في تأويل مصدر، أي وبانتفاءِ ظلم الله العبيد، أي ذلك العذاب مسبب لهذين الأمرين فصاحبه حقيق به لأنه جزاء فساده ولأنه أثر عدل الله تعالى وأنه لم يظلمه فيما أذاقه‏.‏

وصيغة المبالغة تقتضي بظاهرها نفي الظلم الشديد، والمقصود أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد فيصغت له زنة المبالغة، وكذلك التزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن، وقد اعتاد جمع من المتأخرين أن يجعلوا المبالغة راجعة للنفي لا للمنفي وهو بعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المُعرض عنها إعراضاً تاماً ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام‏.‏ فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخيَر عقب ذلك عَلموا أن دينهم القديم ليس بحق وأنّ آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق، وإن أصابهم شرّ من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه‏.‏ وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضباً من مفارقتهم عبادتها كما حكى الله عن عَاد إذ قالوا لرسولهم ‏{‏إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏]‏‏.‏

فالعبادة في قوله تعالى ‏{‏من يعبد الله على حرف‏}‏ مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة، ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏ قال‏:‏ كان الرجل يقدم المدينة فإن وَلدت امرأته غلاماً ونُتجت خيله قال‏:‏ هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال‏:‏ هذا دينُ سُوءٍ‏.‏

وفي رواية الحسن‏:‏ أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل‏:‏ عبد الله بن أبي بن سلول، وهذا بعيد لأنّ أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله ‏{‏فإن أصابه خير اطمأن به‏}‏‏.‏ وممن يصلح مثالاً لهذا الفريق العرنيُّون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلمّا صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذّود وفَروا، فألحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم الطلبَ في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا‏.‏

وفي حديث «الموطأ»‏:‏ أن أعرابياً أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه وعكٌ بالمدينة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيله بَيعته فأبى أن يقيله، فخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المدينة كالكير تنفي خبَثها وينصَع طيبها ‏"‏ فجعله خبثاً لأنه لم يكن مؤمناً ثابتاً‏.‏ وذكر الفخر عن مقاتل أن نفراً من أسد وغَطفان قالوا‏:‏ نخاف أن لا ينصر الله محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏ الآيات‏.‏

وعن الضحاك‏:‏ أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم‏:‏ عيينة بن حِصن والأقرع بن حَابِس والعبّاس بن مِرداس قالوا‏:‏ ندخل في دين محمد فإن أصبْنا خيراً عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل‏.‏

وهذا كله ناشئ عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية‏.‏ وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا‏.‏ ولنعم المعبّر عن ذلك قوله تعالى ‏{‏خسر الدنيا والآخرة‏}‏ إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها‏.‏

وحَرف الشيء طَرفه وجَانبه سواء كان مرتفعاً كحرف الجبل والوادي أم كان مستوياً كحرف الطريق‏.‏ ويطلق الحرف على طرف الجيش ويجمع على طِرَف بوزن عِنب قال في «القاموس»‏:‏ ولا نظير له سوى طَللٍ وطِلَل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعبد الله على حرف‏}‏ تمثيل لحال المتردد في عمله، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جَبَل أو حرف وادٍ فهو متهيّئ لأن يزِل عنه إلى أسفله فينقلب، أي ينكَب‏.‏

ومعنى اطمأن‏:‏ استقر وسكن في مكانه‏.‏ ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطُمَأنينة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ استمر على التوحيد فرحاً بالخير الذي أصابه، واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمناً إذا زال عنه التردد‏.‏ وحال هؤلاء قريب من حال المؤلّفة قلوبهم‏.‏

والانقلاب‏:‏ مطاوع قلبه إذا كبّه، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسفله كما يُقلب القالب بفتح اللام‏.‏ فالانقلاب مستعمل في حقيقته، والكلام تمثيل‏.‏ وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله ‏{‏على وجهه‏}‏ أي سقط وانكب عليه، كقول امرئ القيس‏:‏

يكب على الأذقان دوح الكنهبل *** وكقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبّهُ الله على وجهه ‏"‏‏.‏ وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضاً الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف‏.‏

ويطلق الانقلاب كثيراً على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون‏.‏ ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه‏:‏ انقلب على عقبيه لا على وجهه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه‏.‏

والفتنة‏:‏ اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له، وهي مقابل الخير‏.‏

وجملة ‏{‏خسر الدنيا والآخرة‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏انقلب على وجهه‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك هو الخسران المبين‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏انقلب على وجهه‏}‏ وجملة ‏{‏يدعو من دون الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12‏]‏ التي هي في موضع الحال من ضمير ‏{‏انقلب‏}‏ أي أسقط في الشرك‏.‏

والخسران‏:‏ تلف جزء من أصل مال التجارة، فشبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله، وثني على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال‏.‏

وتعليق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف‏.‏ والتقدير خسر خير الدنيا وخير الآخرة‏.‏

فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجوّ له‏.‏

والمبين‏:‏ الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل‏.‏ والمراد أنه خسران شديد لا يخفى‏.‏

والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند إليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان‏.‏

وضمير ‏{‏هو‏}‏ ضمير فصل، والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي‏.‏ ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم، والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه‏.‏ وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏يدعو من دون الله‏}‏ الخ حال من ضمير ‏{‏انقلب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقدم الضر على النفع في قوله ‏{‏ما لا يضره‏}‏ إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنباً للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسباً أنها لا تضره‏.‏ وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لا ينفعه‏}‏ أي فهو مخطئ في دعائه الأصنام لتزيل عنه الضر فينتفع بفعلها‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها لا تفعل ما يجلب ضرّاً ولا ما يجلب نفعاً‏.‏

والإشارة في قوله ‏{‏ذلك هو الضلال‏}‏ إلى الدعاء المستفاد من ‏{‏يدعو‏}‏‏.‏

والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدّم في قوله ‏{‏ذلك هو الخسران المبين‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والبعيد‏:‏ المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لا غناء له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

جملة في موضع حال ثانية، ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام‏.‏ فبعد أن بيّن لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر‏.‏ فموضع الارتقاء هو مضمون جملة ‏{‏ما لا يضره‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12‏]‏ كأنه قيل‏:‏ ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضرّ‏.‏ وذلك أن عبادة الأصنام تضرّه في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار‏.‏

ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضراً ناشئاً عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لمن ضره أقرب من نفعه‏}‏ ولم يقل‏:‏ لمن يضر ولا ينفع، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله ‏{‏ما لا يضره‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12‏]‏ وقوله ‏{‏لمن ضره أقرب من نفعه‏}‏‏.‏

وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحّضه للضرّ وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلاّ الضر‏.‏

واللام في قوله ‏{‏لمَن‏}‏ لام الابتداء، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها، فلام الابتداء تفيد مفاد ‏(‏إنّ‏)‏ من التأكيد‏.‏

وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة ‏(‏من الموصولة‏.‏ والأصل‏:‏ يدعو من لضَره أقرب من نفعه‏)‏‏.‏

ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على ‏(‏من‏)‏ الموصولة ويكون فعل ‏{‏يدعو معلقاً عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب‏.‏

وجملة لبئس المولى ولبئس العشير‏}‏ إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادراً كان مذمة وغضاضة، فأما أن يكون ذلك منه مطرداً فذلك شر الموالي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا مقابل قوله ‏{‏ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خسر الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالجملة معترضة، وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله يفعل ما يريد‏}‏ تذييل للكلام المتقدم من قوله ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 8‏]‏ إلى هنا، وهو اعتراض بين الجمل الملتئم منها الغرض‏.‏ وفيها معنى التعليل الإجمالي لاختلاف أحوال الناس في الدنيا والآخرة‏.‏

وفعْلُ الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سُنة نظام هذا العالم، وتبيينه الخير والشرّ، وترتيبه الثواب والعقاب، وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية غامض، ومُفادها كذلك‏.‏ ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالاً‏.‏

فيحتمل أن يكون موقعها استئنافاً ابتدائياً أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 8‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصْر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجُّلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون‏.‏

ويحتمل أن يكون موقعها تذييلاً لقوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ الآية بعد أن اعتُرض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد‏:‏ أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏خسر الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إنْ بقُوا على الإسلام‏.‏

فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاءً، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل ‏{‏لن ينصره‏}‏ بالمجرور بقوله ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله ‏{‏خسر الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم، وهؤلاء مشركون مترددون‏.‏

ويترجح هذا الاحتمالُ بتغيير أسلوب الكلام، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله ‏{‏ومن الناس من يعبد الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ ولم تورد فيه جملة ‏{‏ومن الناس‏}‏ كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق‏.‏ فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله ‏{‏من كان يظن‏}‏ الخ إظهاراً في مقام الإضمار؛ فإن مقتضى الظاهر أن يؤتَى بضمير ذلك الفريق فيقالَ بعد قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يفعل ما يريد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 14‏]‏، ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ عائداً الضميرُ المستتر في قوله ‏{‏فليمدد‏}‏ على ‏{‏مَن يعبد الله على حرف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين، أحدهما‏:‏ بُعد معاد الضمير، وثانيهما‏:‏ التنبيه على أنّ عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين‏.‏

وضمير النصب في ‏{‏ينصره‏}‏ عائد إلى ‏{‏من يعبد الله على حرف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ على كلا الاحتمالين‏.‏

واسم ‏{‏السماء‏}‏ مرادٌ به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضاً أخذاً بما رواه القرطبي عن ابن زيد ‏(‏يعني عبد الرحمان بن زيد بن أسلم‏)‏ أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏}‏ قال‏:‏ هي السماء المعروفة، يعني المُظِلة‏.‏ فالمعنى‏:‏ فليَنُط حبلاً بالسماء مربوطاً به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئاً من إزالة غيظه‏.‏

ومفعول ‏{‏يقطع‏}‏ محذوف لدلالة المقام عليه‏.‏

والتقدير‏:‏ ثم ليقطعه، أي ليقطع السبب‏.‏

والأمر في قوله ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏}‏ للتعجيز، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرطٍ لا يقع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نُسجت على إيجاز بديع، شُبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارِهم الإسلام على حنَق، أو حالةُ تردّدهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم‏:‏ عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سُبل الانفراج، فامدُدوا حبلاً بأقصى ما يُمَدّ إليه حبلٌ، وتعلّقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخرّوا إلى الأرض، وذلك تهكم بهم في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم، وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة‏.‏

ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومُرتابين في نَيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضرّ الله ولا رسوله ولا يكيد الدينَ وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم، ولعلّ هؤلاء من المنافقين‏.‏

فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف، والمناسبة ظاهرة‏.‏

ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير ‏{‏ينصره الله‏}‏ عائداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج‏.‏

ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضاً بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2324‏]‏ الآية‏.‏

والسبب‏:‏ الحبل‏.‏ وتقدم في قوله ‏{‏وتقطعت بهم الأسباب‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 166‏]‏‏.‏

والقطع‏:‏ قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس‏.‏

و ‏(‏مَا‏)‏ مصدرية، أي غيظَهُ‏.‏

والاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ إنكاري، وهو معلق فعلَ ‏{‏فلينظر‏}‏ عن العمل، والنظر قلبي، وسمي الفعلُ كيداً لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ثم لْيَقطع‏}‏ بسكون لام ليقطع وهو لام الأمر‏.‏ فإذا كان في أول الكلمة كان مكسوراً، وإذا وقع بعد عاطف غير ‏(‏ثُمّ‏)‏ كان ساكناً مثل ‏{‏ولْتَكُنْ منكم أمّة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏‏.‏ فإذا وقع بعد ‏(‏ثُم‏)‏ جاز فيه الوجهان‏.‏ وقرأه ابن عامر، وأبو عمرو وورش عن نافع، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بكسر اللام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

لما تضمنت هذه الآيات تبيين أحوال الناس تجاه دعوة الإسلام بما لا يبقى بعده التباس عقبت بالتنويه بتبيينها، بأن شُبه ذلك التبيينُ بنفسه كناية عن بلوغه الغاية في جنسه بحيث لا يلحق بأوضح منه، أي مثلَ هذا الإنزال أنزلنا القرآن آيات بيّنات‏.‏

فالجملة معطوفة على الجُمل التي قبلها عطف غرض على غرض‏.‏ والمناسبة ظاهرة، فهي استئناف ابتدائي‏.‏ وعطف على التنويه تعليل إنزاله كذلك بأن الله يهدي من يريد هديه أي بالقرآن‏.‏ فلام التعليل محذوفة، وحذف حرف الجر مع ‏(‏أن‏)‏ مطّرد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

فذلكة لما تقدم، لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مثاراً لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان، وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدَّعي أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك‏.‏

فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة، إذ لم تفدهم الحجج في الدنيا‏.‏

وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه، لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 15‏]‏ وذلك من قبيل الكناية التعريضية‏.‏

وذِكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود‏.‏

وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة‏.‏ وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل المِلل، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر‏.‏

فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين‏:‏ إلهاً للخير، وإلهاً للشرّ، وهم أهل فارس‏.‏ ثم هي تتشعب شعباً تأوي إلى هذين الأصلين‏.‏ وأقدم النِحَل المجوسية أسسها ‏(‏كيومرث‏)‏ الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم عليه السلام، ولذلك يلقب أيضاً بلقب ‏(‏جل شاه‏)‏ تفسيره‏:‏ ملك الأرض‏.‏ غير أن ذلك ليس مضبوطاً بوجه علمي وكان عصرُ ‏(‏كيومرث‏)‏ يلقب ‏(‏زروان‏)‏ أي الأزل، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة‏:‏ الزروانية وهي تثبت إلهين هما ‏(‏يَزدَان‏)‏ و‏(‏أهْرُمُن‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ كان يَزذان منفرداً بالوجود الأزلي، وأنه كان نُورانياً، وأنه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة ثم حدث له خاطر في نفسه‏:‏ أنه لو حَدَث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي ‏(‏أهْرُمُن‏)‏ وهو إله الظلمة مطبوعاً على الشرّ والضرّ‏.‏ وإلى هذا أشار أبو العلاء المعرّي بقوله في لزومياته‏:‏

قال أناسٌ باطل زعمهُم *** فراقِبُوا الله ولاَ تَزعُمُنْ

فكّرَ يَزدانُ على غِرّة *** فصيغ من تفكيره أهْرُمُن

فحدث بين ‏(‏أهْرُمن‏)‏ وبين ‏(‏يزدان‏)‏ خلاف ومحاربة إلى الأبد‏.‏ ثمّ نشأت على هذا الدّين نحل خُصّت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة ‏(‏زَرَادَشْت‏)‏ الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، وبه اشتهرت المجوسية‏.‏ وقد سمي إله الخير ‏(‏أهُورَا مَزْدَا‏)‏ أو ‏(‏أرمزد‏)‏ أو ‏(‏هرمز‏)‏، وسمي إله الشرّ ‏(‏أهْرُمن‏)‏، وجعل إله الخير نوراً، وإله الشر ظلمة‏.‏

ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النّور‏.‏

ووسّع شريعة المجوسية، ووضع لها كتاباً سمّاه «زَندافستا»‏.‏ ومن أصول شريعته تجنّب عبادة التماثيل‏.‏

ثم ظهرت في المجوس نِحلة «المَانوية»، وهي المنسوبة إلى ‏(‏مَاني‏)‏ الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة 238 وسنة 271م‏.‏

وظهرت في المجوس نحلة ‏(‏المزدكية‏)‏، وهي منسوبة إلى ‏(‏مَزدك‏)‏ الذي ظهر في زمن قُباذ بين سنة 487 وسنة 523م‏.‏ وهي نحلة قريبة من ‏(‏المانوية‏)‏، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسيّة قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس‏.‏

وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار، وبأن لها كتاباً، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب‏.‏ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم‏:‏ ‏"‏ سُنوا بهم سنة أهل الكتاب ‏"‏ أي في الاكتفاء بأخذ الجزية منهم دون الإكراه على الإسلام كما يُكره المشركون على الدخول في الإسلام‏.‏

وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وأعيدت ‏(‏إنّ‏)‏ في صدر الجملة الواقعة خبراً عن اسم ‏(‏إنّ‏)‏ الأولى توكيداً لفظياً للخبر لطول الفصل بين اسم ‏(‏إن‏)‏ وخبرها‏.‏ وكون خبرها جملة وهو توكيد حسن بسبب طول الفصل‏.‏ وتقدم منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏}‏ في ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وإذا لم يطل الفصل فالتوكيد بإعادة ‏(‏إن‏)‏ أقل حُسناً كقول جرير‏:‏

إنّ الخليفة أنّ الله سربلَه *** سِربال مُلك به تُزْجَى الخواتيم

ولا يحسن إذا كان مبتدأ الجملة الواقعة خبراً ضميرَ اسم ‏(‏إنّ‏)‏ الأولى كما تقول‏:‏ إن زيداً إنه قائم، بل لا بد من الاختلاف ليكون المؤكد الثاني غير الأول فتقبل إعادة المؤكد وإن كان المؤكّد الأول كافياً‏.‏

والفصل‏:‏ الحكم، أي يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من تصحيح الديانة‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله على كل شيء شهيد‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للإعلام بإحاطة علم الله بأحوالهم واختلافهم والصحيح من أقوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية‏.‏ وهي مرتبطة بمعنى قوله ‏{‏يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه إلى قوله‏:‏ لبئس المولى ولبئس العشير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12، 13‏]‏ ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية‏.‏ وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه‏.‏

وما وقع بين هاتين الجملتين استطرادٌ واعتراضٌ‏.‏

والرؤية‏:‏ علمية‏.‏ والخطاب لغير معين‏.‏

والاستفهام إنكاريّ‏.‏ أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية‏.‏ ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريرياً، لأنّ حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل‏.‏ وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين‏.‏

وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه، وهو حسن وإن أباه الزمخشري، وقد حققناه في المقدمة التاسعة، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم‏.‏

ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع‏.‏ وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلاً في حالهم كحال المخلوقات الأخرى‏.‏

وجملة ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏}‏ معترضة بالواو‏.‏

وجملة ‏{‏حق عليه العذاب‏}‏ مكنّى بها عن ترك السجود لله، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار‏.‏ فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به‏.‏

وجملة ‏{‏ومن يهن الله فما له من مكرم‏}‏ اعتراض ثان بالواو‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله يفعل ما يشاء‏}‏ في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرفَ التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل، فتغني ‏(‏أنّ‏)‏ غناء حرف التعليل أو السببية‏.‏

وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ‏(‏20‏)‏ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ‏(‏21‏)‏ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة ‏{‏هذان خصمان‏}‏ موقع الاستئناف البياني‏.‏ لأن قوله ‏{‏وكثير حق عليه العذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏ يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك، فهي استئناف بياني‏.‏ فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏ من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏ من كون أولئك فريقين‏:‏ فريق يسجد لله تعالى، وفريق يسجد لغيره‏.‏ فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين، ومثلها كثير في الكلام‏.‏

والاختصام‏:‏ افتعال من الخصومة، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال‏:‏ خاصمه واختصما، وهو من الأفعال المقتضية جَانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحداً‏.‏ وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ في ‏[‏سورة النساء‏:‏ 105‏]‏‏.‏ واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله ‏{‏فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار‏}‏‏.‏

فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين‏.‏

ووقع في «الصحيحين» عن أبي ذرّ‏:‏ أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏}‏ نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليدَ بن عتبة‏.‏

وفي «صحيح البخاري» عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة‏.‏ قال قيس بن عُبادة‏:‏ وفيهم نزلت ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏}‏‏.‏ قال‏:‏ هم الذين بارزوا يوم بدر‏:‏ علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة‏.‏ وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون ‏{‏هذان‏}‏ إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد، وهو استعمال في كلام البُلغاء، ومنه قول الأحنف بن قيس‏:‏ «خرجتُ لأنصر هذا الرجل» يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين‏.‏

والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية‏.‏

ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين‏.‏ والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة‏.‏

واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 21‏]‏ فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اختصموا في ربهم‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏في ربهم‏}‏ في شأنه وصفاته، فالكلام على حذف مضاف ظاهر‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏هاذان‏}‏ بتخفيف النون‏.‏ وقرأه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان‏.‏

والتقطيع‏:‏ مبالغة القطع، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته‏.‏ والمراد‏:‏ قطع شُقّة الثوب‏.‏ وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار‏.‏ والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة‏.‏

والحميم‏:‏ الماء الشديد الحرارة‏.‏

والإصهار‏:‏ الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس، يقال‏:‏ أصْهره وصهّره‏.‏

وما في بطونهم‏:‏ أمعاؤهم، أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم‏.‏

والمقامع‏:‏ جمع مِقمعة بكسر الميم بصِيغة اسم آلة القَمع‏.‏ والقمع‏:‏ الكف عن شيء بعنف‏.‏ والمقمعة‏:‏ السوط، أي يُضربون بسياط من حديد‏.‏

ومعنى ‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها‏}‏ أنهم لشدة ما يغمهم، أي يمنعهم من التنفس، يحاولون الخروج فيُعَادون فيها فيحصل لهم ألم الخيبة، ويقال لهم‏:‏ ذوقوا عذاب الحريق‏.‏

والحريق‏:‏ النار الضخمة المنتشرة‏.‏ وهذا القول إهانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفاً بالواو على جملة ‏{‏فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ بأن يقال‏:‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات يُدخلهم الله جنات‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏ فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلاً مفتتحاً بحرف التأكيد ومتوّجاً باسم الجلالة، والبليغ لا تفوته معرفة أنّ هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال ‏{‏هذان خصمان اختصموا في ربهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏يدخل الذين آمنوا‏}‏ الخ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب‏}‏ يقابل قوله ‏{‏يصب من فوق رؤوسهم الحميم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولباسهم فيها حرير‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏قطعت لهم ثياب من نار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 22‏]‏ فإنه من القول النكِد‏.‏

والتحليّة وضع الحَلْي على أعضاء الجسم‏.‏ حَلاّه‏:‏ ألبسه الحَلي مثل جلبب‏.‏

والأساور‏:‏ جمع أسورة الذي هو جمع سِوار‏.‏ أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً‏}‏ في ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله ‏{‏من أساور‏}‏ زائدة للتوكيد‏.‏ ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يُحلّون أساور معرّضاً للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي، ولذلك ف ‏{‏أساور‏}‏ في موضع المفعول الثاني ل ‏{‏يُحلَّون‏}‏‏.‏

‏{‏ولؤلؤاً‏}‏ قرأه ناقع، ويعقوب، وعاصم بالنصب عطفاً على محل ‏{‏أساور‏}‏ أي يحلون لؤلؤاً أي عقوداً ونحوها‏.‏ وقرأه الباقون بالجرّ عطفاً على اللفظ والمعنى‏:‏ أساور من ذهب وأساور من لُؤلؤ‏.‏

وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر ‏{‏لؤلؤ‏}‏ مخالفة لمكتوب المصحف‏.‏ والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجباً على من يروي بما يخالفه‏.‏ وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف، والذين قرأوه بالنصب خالفوا أيضاً خط المصحف واعتمدوا روايتهم‏.‏

وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأنّ التأكيد تعلّق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف‏.‏

واللؤلؤ‏:‏ الدرّ‏.‏ ويقال له الجمان والجوهر‏.‏ وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقراق تُستخرج من أجواف حيوان مائي حَلزوني مستقرّ في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غِلافه صَدفاً، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه‏.‏ وهذا الحيوان يوجد في عدّة بحار‏:‏ كبحر العجم وهو المسمّى بالبحرين، وبحر الجابون، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات، ويستخرجه غَوّاصون مدَرّبون على التقاطه من قعر البحر بالغوص، يغوص الغائص مُشدوداً بحبل بيد مَن يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط‏.‏

وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علَس أو الأعشى‏:‏

لَجمانة البحريّ جاء بها *** غَوّاصها من لُجّة البحر

نَصفَ النّهارَ الماء غامره *** ورفيقه بالغيب لا يدري

وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة‏:‏

فجَاءَ بِها ما شئتَ من لَطَمِيّة *** على وجهها ماء الفرات يموج

وقد أشارت إليه آية ‏[‏سورة النحل‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها‏}‏ ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد يُحَلّون‏}‏ بصيغة الاسم دون ‏(‏يلبسون‏)‏ لتحصيل الدلالة على الثّبات والاستمرار كما دلّت صيغة ‏{‏يُحَلّون‏}‏ على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل‏:‏ يحلّون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه‏.‏

والحرير‏:‏ يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا‏.‏ وأصل اسم الحرير اسم لخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفّها لَفّاً بعضها إلى بعض مثل كُبّة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدّة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه‏.‏ وإنما تحصّلُ الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيُطلقونها خيطاً واحداً طويلاً‏.‏ ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان‏.‏ وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديماً وحديثاً، وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريباً حيث يكثر شجر التوت، لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان عَلَفُه ورقَ التُّوت، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التُّوت‏.‏ وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصّلون الحرير إلاّ من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية‏.‏ وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب، ثم نقل بَزر دود الحرير الذي يتولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الأمبراطور ‏(‏بوستنيانوس‏)‏ بين سنة 527 وسنة 565م‏.‏ ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف‏.‏ وعُرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي‏.‏

ومعنى ‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول‏}‏ أن الله يرشدهم إلى أقوال، أي يُلهمهم أقوالاً حسنة يقولونها بينهم، وقد ذُكر بعضها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين‏}‏

‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أنهم يرشدون إلى أماكن يسمعون فيها أقوالاً طيبة‏.‏ وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وهذا أشد مناسبة بمقابلة مما يسمعه أهل النار في قوله‏:‏ ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وهدوا إلى صراط الحميد‏}‏ معترضة في آخر الكلام، والواو للاعتراض، هي كالتكملة لوصف حسن حالهم لمناسبة ذكر الهداية في قوله‏:‏ ‏{‏وهدوا إلى الطيب من القول‏}‏، ولم يسبق مقابل لمضمون هذه الجملة بالنسبة لأحوال الكافرين وسيجيء ذكر مقابلها في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏نذقه من عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ وذلك من أفانين المقابلة‏.‏ والمعنى‏:‏ وقد هُدُوا إلى صراط الحميد في الدنيا، وهو دين الإسلام، شبه بالصراط لأنه موصل إلى رضى الله‏.‏

والحميد من أسماء الله تعالى، أي المحمود كثيراً فهو فعيل بمعنى مفعول، فإضافة ‏{‏صراط‏}‏ إلى اسم «الله» لتعريف أيّ صراط هو‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏الحميد‏}‏ صفة ل ‏{‏صراط،‏}‏ أي المحمود لسالكه‏.‏ فإضافة صراط إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، والصراط المحمود هو صراط دين الله‏.‏ وفي هذه الجملة إيماء إلى سبب استحقاق تلك النعم أنه الهداية السابقة إلى دين الله في الحياة الدنيا‏.‏