فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر‏}‏

ويجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة في قوله‏:‏ ‏{‏من ينصره‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ فيكون المراد‏:‏ كل من نصر الدين من أجيال المسلمين، أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله‏:‏ وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوامَ نصرهم، وانتظام عقد جماعتهم، والسلامة من اختلال أمرهم، فإن حَادُوا عن ذلك فقد فرّطوا في ضمان نصرهم وأمرُهم إلى الله‏.‏

فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم‏.‏

والتمكين‏:‏ التوثيق، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك، والأرض للجنس، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم‏.‏ وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش‏}‏ في ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض‏}‏ في ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شؤون الدين‏:‏ إما بكونه معروفاً للأمة كلها، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائرُ الأمة‏.‏ وإما بكونه معروفاً لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه‏.‏

والمنكر‏:‏ ما شأنه أن ينكر في الدين، أي أن لا يُرضى بأنه من الدين‏.‏ وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين‏.‏

والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أوللِ ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال، ولتكون معرفة المعروف دليلاً على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ عاقبة الامور‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏، أو على جملة ‏{‏إن الله لقوي عزيز‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏، والمآل واحد، وهو تحقيق وقوع النصر، لأنّ الذي وعَد به لا يمنعه من تحقيق وعدَه مانع، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر‏.‏

والعاقبة‏:‏ آخر الشيء وما يعقُب الحاضرَ‏.‏ وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسماً‏.‏ وفي حديث هرقل «ثم تكون لهم العاقبة»‏.‏ وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

لما نعى على المشركين مساويَهم في شؤون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدّهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه، عُطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فقُصد من ذلك تسليّةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وتمثيلُهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله، وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم، ونظير هذه الآية إجمالاً وتفصيلاً تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها‏.‏

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذبت قبلهم‏}‏ الخ إذ التقدير‏:‏ فلا عجب في تكذيبهم، أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم‏.‏

وقوم إبراهيم هم الكلدان، وأصحاب مَدْين هم قوم شُعيب، وإنما لم يعبّر عنهم بقوم شُعيب لئلا يتكرر لفظ قَوم أكثر من ثلاث مرات‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وكذب موسى‏}‏ لأن مُكذّبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأمليتُ للكافرين‏}‏ معناه فأمليت لهم، فوُضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذِهم هو الكفر بالرسُل تعريضاً بالنذارة لمشركي قُريش‏.‏

والأخذ حقيقته‏:‏ التناول لِما لم يكن في اليد، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاءُ ذلك الإملاء بالتناول، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 70‏]‏ ‏{‏وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين‏}‏ مشير إلى سُوءِ عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك‏.‏

ومناسبة عَدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذُكر فيها من أُخذوا من الأقوام، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبهاً بمشركي قُريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه‏.‏ وألجأوه إلى الخروج من موطنه ‏{‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏‏.‏ فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله‏:‏ ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ مناسبةٌ لذكر قوم إبراهيم‏.‏

والإملاءُ‏:‏ ترك المتلبّس بالعِصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نَجا ثم يؤخذ بالعقوبة‏.‏

والفاء في ‏{‏فأمليت للكافرين‏}‏ للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أُخر لهم، وهو تعقيب موزع، فلكل قوم من هؤلاء تعقيبُ إملائه، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة، فلذلك عطف فعلُه بحرف المهلة‏.‏

وعطفت جملة ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ، وهو استفهام تعجيبي، أي فأعْجَب من نكيري كيف حصل‏.‏ ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة مِحنة، وبالحياة هلاكاً، وبالعمارة خراباً فهو عبرة لغيرهم‏.‏

والنكير‏:‏ الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي يُنكَر عليه‏:‏

و ‏{‏نكيرِ‏}‏ بكسرة في آخره دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً‏.‏

وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم، فإن الله عاقب على المنكر بأشد العقاب، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله، وقد قال الحكماء‏:‏ إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

تفرع ذكر جملة ‏{‏كأين من قرية‏}‏ على جملة ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 44‏]‏ فعطفت عليها بفاء التفريع، والتعقيب في الذكر لا في الوجود، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العَدد شُمولاً للأقوام الذين ذُكروا من قبل في قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذبت قبلهم قوم نوح‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 42‏]‏ إلى آخره فيكون لتلك الجملةِ بمنزلة التذييل‏.‏

و ‏{‏كأيّن‏}‏ اسم دال على الإخبار عن عدد كثير‏.‏

وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر‏.‏ والتقدير‏:‏ كثير من القرى أهلكناها، وجملة ‏{‏أهلكناها‏}‏ الخبر‏.‏

ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره ‏{‏أهلكناها‏}‏ والتقدير‏:‏ أهلكنا كثيراً من القرى أهلكناها، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها ‏(‏كأيّن‏)‏ بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية، وعلى الوجه الأول فجملة ‏{‏أهلكناها‏}‏ في محل جر صفة ل ‏{‏قرية‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏فهي خاوية‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏أهلكناها،‏}‏ وقد تقدم نظيره في قوله ‏{‏وكأين من نبي‏}‏ في ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 146‏]‏‏.‏

وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون، منهم من ذُكر في القرآن مثل عاد وثمود‏.‏ ومنهم من لم يذكر مثل طَسم وجَديس وآثارُهم باقية في اليمامة‏.‏

ومعنى ‏{‏خاوية على عروشها‏}‏ أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار‏.‏ وجملة ‏{‏على عروشها‏}‏ خبر ثان عن ضمير ‏{‏فهي‏}‏ والمعنى‏:‏ ساقطة على عروشها، أي ساقطة جدرانها فوق سُقفها‏.‏

والعروش‏:‏ جمع عَرش، وهو السَقْف، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏

والمعطلة‏:‏ التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا‏.‏ وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئاراً في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بِئراً واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه السلام‏.‏

والقصر‏:‏ المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقاً‏.‏

والمَشِيد‏:‏ المبنيّ بالشّيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجصّ‏:‏ وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رُصّ به‏.‏

والقصور المُشيّدة‏:‏ وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرةٌ مثل‏:‏ قصر غُمدان في اليمن، وقصور ثمود في الحِجْر، وقصور الفراعنة في صعيد مصر، وفي «تفسير القرطبي» يقال‏:‏ «إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان‏.‏ ويقال‏:‏ إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء‏.‏ وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول عليه السلام‏.‏ وكان صالح معهم، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حَنظلة بن صفوان رسولاً فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشاً»‏.‏ يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة ‏(‏كأيّنْ‏)‏ تنافي إرادة قرية معيّنة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أهلكناها‏}‏ بنون العظمة‏:‏ وقرأه أبو عَمرو ويعقوب ‏{‏أهلكتُها‏}‏ بتاء المتكلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏فكأين من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏ وما بعدها‏.‏

والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائها، والتعجيب متعلّق بمن سافروا منهم ورأوا شيئاً من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو آذان يسمعون بها‏}‏‏.‏ فالمقصود بالتعجيب هو حال الذين ساروا في الأرض، ولكن جعل الاستفهام داخلاً على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جُعل كالعدم فكانَ التعجيب من انتفائه، فالكلام جارٍ على خلاف مقتضى الظاهر‏.‏

والفاء في ‏{‏فتكون‏}‏ سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير، أي لم يسيروا سيراً تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض‏.‏ وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتاً وفي هذا المعنى قال المعرّي‏:‏

وقيل أفادَ بالأسفار مالاً *** فقلنا هل أفادَ بها فُؤادا

وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات، فهي تفيد كل ذي همّة في شيء فوائدَ تزيد هِمتَه نفاذاً فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة‏.‏

وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مُفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏يعقلون بها‏}‏ وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال‏:‏ ‏{‏يعقلون بها‏}‏ فأشار إلى أن القلوب هي العقل‏.‏

ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم‏.‏

وأما ذكر الآذان فلأنّ الأذن آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها؛ على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ماعلمه المسافرون علماً سبيلُه سماع الأخبار‏.‏

وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور‏}‏‏.‏

فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت منهم آثارها فلهم قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏‏.‏

والفاء في جملة ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏}‏ تفريع على جواب النفي في قوله‏:‏ ‏{‏فتكون لهم قلوب يعقلون بها‏}‏، وفذلكة للكلام السابق، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم‏.‏

والضمير في قوله ‏{‏فإنها‏}‏ ضمير القصة والشأن، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعدَ الضمير، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب، أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات، والمدرِك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصمّ، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل‏.‏

واستعير العَمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسّة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأبصار‏}‏، و‏{‏القلوب‏}‏، و‏{‏الصدور‏}‏ تعريفُ الجنس الشامل لقلوب المتحدّث عنهم وغيرهم، والجمْع فيها باعتبار أصحابها‏.‏

وحرف التوكيد في قوله‏:‏ ‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار‏}‏ لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه‏.‏

وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانُها بحرف التوكيد‏.‏

والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائيّ للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمىً، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه، فالقصر ترشيح للاستعارة‏.‏

ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبَداعة النظم‏.‏

و ‏{‏التي في الصدور‏}‏ صفة ل ‏{‏القلوب‏}‏ تفيد توكيداً للفظ ‏{‏القلوب‏.‏‏}‏ فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ووزان القيد في قوله‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ فهو لزيادة التقرير والتشخيص‏.‏

ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضاً بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدّة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم «فالآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبيَّ» فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحبّ الأشياء إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإن يكذبوك‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 42‏]‏ عطف القصة على القصة فإن من تكذيبهم أنهم كذبوا بالوعيد وقالوا‏:‏ لو كان محمد صادقاً في وعيده لعُجّل لنا وعيده، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء، كما حكى الله عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 28‏]‏ فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله ‏{‏فأمليت للكافرين‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 44‏]‏ الآية‏.‏

وحُكي ‏{‏ويستعجلونك‏}‏ بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديداً منهم للاستهزاء وتوركاً على المسلمين‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود إبلاغه إياهم‏.‏

والباء من قوله ‏{‏بالعذاب‏}‏ زائدة لتأكيد معنى الاستعجال بشدّته كأنه قيل يحرصون على تعجيله‏.‏ وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ في أول ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ولما كان استعجالهم إياه تعريضاً منهم بأنهم موقنون بأنه غير واقع أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏، أي فالعذاب الموعود لهم واقع لا محالة لأنه وعدٌ من الله والله لا يخلف وعده‏.‏ وفيه تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لئلا يستبطئونه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏، فإن الله توعدهم بالعذاب وهو صادق على عذاب الدنيا والآخرة وهم إنما استعجلوا عذاب الدنيا تهكماً وكناية عن إيقانهم بعدم وقوعه بلازم واحد، وإيماء إلى عدم وقوع عذاب الآخرة بِلازمين، فَردّ الله عليهم رداً عاماً بقوله‏:‏ ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏، وكان ذلك تثبيتاً للمؤمنين، ثم أعقبه بإنذارهم بأن عذاب الآخرة لا يفلتون منه أيضاً وهو أشدّ العذاب‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون‏}‏ خبر مستعمل في التعريض بالوعيد، وهذا اليوم هو يوم القيامة‏.‏

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 5354‏]‏‏.‏

وليس المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وإن يوماً عند ربك‏}‏ إلى آخره استقصار أجل حلول العذاب بهم في الدنيا كما درج عليه أكثر المفسرين لعدم رشاقة ذلك على أن هذا الاستقصار يغني عنه قوله عقب هذا‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 48‏]‏‏.‏

والخطاب في ‏{‏تعدون‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تعدون‏}‏ بالفوقية، وقرأه ابن كثير، وحمزة، والكسائي ‏{‏مما يعدون‏}‏ بياء الغائبين‏.‏ أي مما يعده المشركون المستعجلون بالعذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ أو على جملة ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ باعتبار ما تضمنه استعجالهم بالعذاب من التعريض بأنهم آيسون منه لتأخّر وقوعه، فذُكّروا بأن أمماً كثيرة أمهلت ثمّ حلّ بها العذاب‏.‏ فوزان هذه الآية وِزان قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏فكأين من قرية أهلكناها وفي ظالمة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏ الخ؛ إلا أن الأولى قصد منها كثرة الأمم التي أهلكت لئلا يتوهّم من ذكر قوم نوح ومَن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال‏.‏ وهذه الآية القصد منها التذكير بأنّ تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله، ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإمهال ثم الأخذِ بعده المناسب للإملاء من حيث إنه دخول في القْبضَة بعد بعده عنها‏.‏

وأما عطف جملة ‏{‏فكأين من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏ بالفاء وعطف جملة ‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة‏}‏ بالواو فلأن الجملة الأولى وقعت بدَلاً من جملة ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 44‏]‏ فقرنت بالفاء التي دخلت نظيرتُها على الجملة المبدَل منها، وأما هذه الجملة الثانية فخليّة عن ذلك فعطفت بالحرف الأصلي للعطف‏.‏

وجملة ‏{‏وإليَّ المصير‏}‏ تذييل، أي مصير الناس كلهم إليّ‏.‏ والمصير مِصدر ميمي ل ‏(‏صار‏)‏ بمعنى‏:‏ رجع، وهو رُجوع مجازي بمعنى الحصول في المكنة‏.‏

وتقديم المجرور للحصر الحقيقي، أي لا يصير الناس إلا إلى الله، وهو يقتضي أنّ المصير إليه كائن لا محالة، وهو المقصود من الحصر لأن الحصر يقتضي حصول الفعل بالأحرى فهو كناية عن عدم الإفلات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

استئناف بعد المواعظ السالفة والإنذارات، وافتتاحه ب ‏{‏قُل‏}‏ للاهتمام به، وافتتاح المقول بنداء الناس للفت ألبابهم إلى الكلام‏.‏ والمخاطَبون هم المشركون‏.‏

والغرض من خطابهم إعلامهم بأن تكذيبهم واستهزاءهم لا يَغيظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصدّه عن أداء رسالته، ففي ذلك قمع لهم إذ كانوا يحسبون أنهم بتكذيبهم واستهزائهم يُملّونه فيترك دعوتهم، وفيه تثبيت للنبيء وتسلية له فيما يلقاه منهم‏.‏

وقصر النبي على صفة النذارة قصر إضافي، أي لستُ طالباً نكايتكم ولا تزلفاً إليكم فمن آمن فلنفسه ومن عمى فعليها‏.‏

والنذير‏:‏ المحذّر من شرّ يتوقع‏.‏

وفي تقديم المجرور المؤذن بالاهتمام بنذارتهم إيماء إلى أنهم مشرفون على شرّ عظيم فهم أحرياء بالنذارة‏.‏

والمبين‏:‏ المفصِح الموضح، أي مبين للإنذار بما لا إيهام فيه ولا مصانعة‏.‏

وفُرع على الأمر بالقول تقسيم للناس في تلقي هذا الإنذار المأمور الرسولُ بتبليغه إلى مصدق ومكذّب لبيان حال كلا الفريقين في الدنيا والآخرة ترغيباً في الحالة الحسنى وتحذيراً من الحالة السُّوأى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ فهذا إخبار من الله تعالى كما يقتضيه قوله ‏{‏في آياتنا‏}‏‏.‏

والجملة معترضة بالفاء‏.‏

والمغفرة‏:‏ غفران ما قدموه من الشرك وما يتبعه من شرائع الشرك وضلالاته ومفاسده‏.‏ وهذه المغفرة تفضي إلى نعيم الآخرة، فالمعنى‏:‏ أنهم فازوا في الدار الآخرة‏.‏

والرّزق‏:‏ العطاء‏.‏ ووصفه بالكريم يجمع وفرته وصفاءَه من المكدرات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم أجر غير ممنون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 8‏]‏ ذلك هو الجنة‏.‏

والرزق منه ما هو حاصل لهم في الدنيا، فهم متمتعون بانشراح صدورهم ورضاهم عن ربهم، وأعظمه ما يحصل لهم في الآخرة‏.‏

والذين سعوا هم الفريق المقابل للذين آمنوا، فمعناه‏:‏ والذين استمروا على الكفر، فعبر عن الاستمرار بالسعي في الآيات لأنه أخص من الكفر، وذلك حال المشركين المتحدث عنهم‏.‏

والسّعي‏:‏ المشي الشديد‏.‏ ويطلق على شدّة الحرص في العمل تشبيهاً للعامل الحريص بالماشي الشديد المشي في كونه يكدّ للوصول إلى غاية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أدبر يسعى فحشر فنادى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 2223‏]‏ فليس المراد أن فرعون خرج يمشي وإنما المراد أنه صرف عنايته لإحضار السحرة لإحباط دعوة موسى‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏

والكلام تمثيل، شبهت هيئة تفننهم في التكذيب بالقرآن وتطلب المعاذير لنقض دلائله من قولهم‏:‏ هو سحر، هو شعر، هو أساطير الأولين، هو قول مجنون، وتعرضهم بالمجادلات والمناقضات للنبيء صلى الله عليه وسلم بهيئة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالوصول‏.‏

والمُعاجز‏:‏ المسابق الطالب عجز مُسايره عن الوصول إلى غايته وعن اللحاق به، فصيغ له المفاعلة لأنّ كل واحد يطلب عجز الآخر عن لحاقه‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم بعملهم يغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يشعرون أنهم يحاولون أن يغلبوا الله وقد ظنوا أنهم نالوا مُرادهم في الدنيا ولم يعلموا ما لهم من سوء العاقبة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏معاجزين‏}‏ بألف بعد العين وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو ‏{‏مُعَجّزين‏}‏ بفتح العين وتضعيف الجيم، أي محاولين إعجاز الله تعالى وهم لا يعلمون‏.‏

والتصدير باسم الإشارة في قوله ‏{‏أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ للتنبيه على أن المخبَر عنهم جديرون بما سيرد بعد اسم الإشارة من الحُكم لأجل ما ذكر قبلَه من الأوصاف، أي هم أصحاب الجحيم لأنّهم سعوا في آياتِنا معاجزين‏.‏ ومن أحسن ما يفسر هذه الآية ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن مثَلي ومثَل ما بعثني الله به كمثَل رجل أتى قومه فقال‏:‏ يا قوم إني رأيت الجيش بعيْني وأنا النذير العُريان فالنّجَاءَ النّجاءَ، فأطاعته طائفة من قومه فأدْلَجُوا وانطلقوا على مهلهم، وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانَهم فصبّحهم الجيش فأهلكهمُ واجتاحهم‏.‏ فذلك مَثَليَ ومثَلُ من أطاعني واتّبع ما جئتُ به، ومثَل مَن عصاني وكذّب ما جئت به من الحقّ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 49‏]‏ لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 48‏]‏ الخ‏.‏‏.‏ وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء عليهم السلام، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله عليهم السلام‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏من رسول ولا نبيء‏}‏ نص في العموم، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل‏.‏

وعطف ‏{‏نبي‏}‏ على ‏{‏رسول‏}‏ دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول‏:‏

فالرسول‏:‏ هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة‏.‏ والنبي‏:‏ مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول، وهو التحقيق‏.‏

والتمنّي‏:‏ كلمة مشهورة، وحقيقتها‏:‏ طلب الشيء العسير حصولُه‏.‏ والأمنية‏:‏ الشيء المتمنّى‏.‏ وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين، والاستثناءُ من عموممِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو ‏{‏من رسول ولا نبيء‏}‏، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حاللِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير‏.‏

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره‏.‏

والإلقاء حقيقته‏:‏ رمي الشيء من اليد‏.‏ واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهاً للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكذلك ألقى السامري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 87‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فألقوا إليهم القول‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86‏]‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 96‏]‏ على ما حققناه فيما مضى‏.‏

ومفعول ‏{‏ألقى‏}‏ محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد‏.‏ فالتقدير‏:‏ أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد‏.‏

ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم، فإلقاء الشيطان بوسوسته‏:‏ أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أيمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى‏:‏

‏{‏يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فالله بهديهِ وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران‏.‏

وقد فسر كثيرٌ من المفسرين ‏{‏تمنَى‏}‏ بمعنى قَرَأ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها‏.‏ وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر‏.‏ فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده‏.‏

وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير‏:‏

تمنى كتاب الله أولَ ليله *** تمنيَ داوود الزبورَ على مَهل

فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيءُ من حرصه أو أن يضجره، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد‏.‏ فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحاً إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏‏.‏

و ‏{‏ثُمّ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يحكم الله آياته‏}‏ للترتيب الرتبي، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخاً‏.‏

وجملة ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ معترضة‏.‏

ومعنى هذه الآية‏:‏ أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان، كما حكى الله عن المشركين قولهم‏:‏ ‏{‏أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏

‏[‏الفرقان‏:‏ 41- 42‏]‏ فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم، وذلك هو الصبر الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لولا أن صبرنا عليها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة‏.‏ فالنسخ‏:‏ الإزالة، والإحكام‏:‏ التثبيت‏.‏ وفي كلتا الجملتين حذف مضاف، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان، ويُحكم آثارَ آياته‏.‏

واللامان في قوله ‏{‏ليجعل‏}‏ وفي قوله ‏{‏وليعْلَمَ‏}‏ متعلقان بفعل ‏{‏ينسخ الله‏}‏ فإن النسخ يقتضي منسوخاً، وفي ‏{‏يجعل‏}‏ ضميرٌ عائد إلى الله في قوله‏:‏ ‏{‏فينسخ الله‏}‏‏.‏

والجعل هنا‏:‏ جَعل نظام ترتب المسببات على أسبابها، وتكويننِ تفاوت المدارك ومراتب درجاتها‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنّ الله مكّن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسُله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيمان بحسب اختلاف القابليات‏.‏ فهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 39-40‏]‏‏.‏

ولام ‏{‏ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة‏}‏ مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنةُ من افتتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان، وعن استماع ما أحكم الله به آياته، فيستمر كفرهم ويقوى‏.‏

وأما لام ‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك‏}‏ فهي على أصل معنى التّعليل، أي ينسخ الله ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون أنه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدى كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم‏.‏

و ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ هم المتردّدون في قبول الإيمان‏.‏ و‏{‏القاسية قلوبهم‏}‏ هم الكافرون المصممون على الكفر‏.‏ والفريقان هم المراد ب ‏{‏الظالمين‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإن الظالمين لفي شقاق بعيد‏}‏‏.‏ فذكر ‏{‏الظالمين‏}‏ إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علّة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم، أي كفرهم‏.‏

والشقاق‏:‏ الخلاف والعداوة‏.‏

والبعيد هنا مستعمل في معنى‏:‏ البالغ حدّاً قوياً في حقيقته‏.‏ تشبيهاً لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى ‏{‏فذو دعاء عريض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 51‏]‏ أي دعاء كثير مُلح‏.‏

وجملة ‏{‏وإن الظالمين لفي شقاق بعيد‏}‏ معترضة بين المتعاطفات‏.‏

و ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ هم المؤمنون بقرينة مقابلته ب ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ وبقوله ‏{‏وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏ فالمراد بالعلم الوحي والكُتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم‏.‏

وإطلاق ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ على المؤمنين تكرر في القرآن‏.‏

وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم، وهو علم الدّين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن نور النُّبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول‏.‏ ولذلك تجد من يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قبل الإيمان جِلفاً فإذا آمن انقلب حكيماً، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»‏.‏ وضمير ‏{‏أنه الحق‏}‏ عائد إلى العلم الذي أوتوه، أي ليزدادوا يقيناً بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي‏.‏ ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏أنه‏}‏ عائداً إلى ما تقدم من قوله ‏{‏فينسخ الله‏}‏ إلى قوله ‏{‏ثم يحكم الله آياته‏}‏، أي أن المذكور هو الحق، كقول رُؤبة‏:‏

فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجِلد توليع البَهق

أي كان كالمذكور‏.‏

وقوله ‏{‏فيؤمنوا به‏}‏ معناه‏:‏ فيزدادوا إيماناً أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكَم كما آمنوا بالأصل‏.‏

والإخباتُ‏:‏ الاطمئنان والخشوع‏.‏ وتقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر المخبتين‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال بلى ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

وبما تلقيتَ في تفسير هذه الآية من الانتظام البيّن الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنَهله عن عُلالته، والسالم من التكلّفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السُّنّة، وتلقاه منهم فريق من المفسرين حباً في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير، وابن شهاب، ومحمد بن كعب القرطبي، وأبي العالية، والضحاك وأقربُها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا‏:‏ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قُريش كثير أهله من مسلمين وكافرين، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19- 20‏]‏ ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله‏:‏ ‏{‏تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى‏}‏ ففرح المشركون بأن ذكَر آلهتهم بخير، وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة، فلما سجد في آخر السورة سجد كلّ من حضر من المسلمين والمشركين، وتسامع الناس بأن قُريشاً أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة، فرجع من مهاجرة الحبشة نفرٌ منهم عثمان بن عفان إلى المدينة، وأن النبي لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم، فأعلمه جبريل عليه السلام فاغتمّ لذلك فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك‏}‏ الآية تسلية له‏.‏

وهي قصة يجدها السامع ضِغثاً على إبَالة، ولا يلقي إليها النِّحرير بالَه‏.‏ وما رُويت إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسندها إلى ابن عباس سندٌ مطعون‏.‏ على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي‏.‏ ويكفي تكذيباً لها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ينطق عن الهوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 3‏]‏ وفي معرفة الملكَ‏.‏ فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية‏.‏ وكيف يروج على ذي مُسكة من عقل أن يجْتمع في كلاممٍ واحد تسفيهِ المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏ فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها «الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى»‏.‏ وهل هذا إلا كلام يلعنُ بعضُه بعضاً‏.‏ وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتِها ‏{‏فاسجدوا لله واعبدوا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 62‏]‏ لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19‏]‏ وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم‏.‏ فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها‏:‏ أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعُزّى فُرصة للدخَل لاختلاق كلمات في مدحهنّ، وهي هذه الكلمات وروّجُوها بين الناس تأنيساً لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان‏.‏

وفي «شرح الطيبي على الكشاف» نقلاً عن بعض المؤرّخين‏:‏ أن كلمات «الغرانيق‏.‏‏.‏‏.‏» ‏(‏أي هذه الجمل‏)‏ من مفتريات ابن الزِّبعرى‏.‏ ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه قصةُ آلهة العرب ‏(‏أي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19‏]‏ الخ‏)‏ فجعَل يتلو‏:‏ اللاّتَ والعُزّى ‏(‏أي الآية المشتملة على هذا‏)‏ فسمع أهل مكة نبي الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودنوا يستمعون فألقَى الشيطان تلك الغرانيق العُلَى مِنها الشفاعة ترتجَى» فإن قوله‏:‏ «دنوا يستمعون فألقى الشيطان» الخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات‏.‏ ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس‏.‏ وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوتُ المُحاكَى‏.‏

وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أنّ المشركين سَجدوا في آخر سورة النجم لما سجد المسلمون، وذلك مروي في الصحيح، فذلك من تخليط المؤلفين‏.‏

وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ‏.‏ وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة‏.‏

وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رَجع من مهاجرة الحبشة‏.‏ وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة‏.‏

فالوجه‏:‏ أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام، إنما هي من اختلاقات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى، وأنهم عمدوا إلى آية ذُكرت فيها اللات والعُزّى ومناةَ فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خَصُّوا سورة النجم بهذه المرجَفة لأنهم حَضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلباً لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة، فزعموا أن ‏{‏تمنّى‏}‏ بمعنى‏:‏ قرأ، والأمنية‏:‏ القراءة، وهو ادّعاء لا يوثق به ولا يُوجد له شاهد صريح في كلام العرب‏.‏ وأنشدوا بيتاً لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي الله عنه‏:‏

تمنّى كتاب الله أول لَيْله *** وآخره لاقى حِمام المَقادر

وهو محتمل أن معناه تمنّى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكّن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل‏.‏ ولهذا جعله تمنياً لأنه أحبَ ذلك فلم يستطع‏.‏ وربما أنشدوه برواية أخرى فظُنّ أنه شاهد آخر، وربما توهَموا الرواية الثانية بيتاً آخر‏.‏ ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في الأساس‏}‏‏.‏ وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم‏}‏ معترضة‏.‏ والواو للاعتراض، والذين أوتوا العلم هم المؤمنون‏.‏ وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث‏}‏ في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وكما في سورة ‏[‏سبأ‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق‏}‏ فإظهار لفظ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ في مقام ضمير ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ لقصد مدحهم بوصف الإيمان، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم‏.‏ وعكسه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فالمراد بالهُدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر‏.‏

وكتب في المصحف ‏{‏لهاد‏}‏ بدون ياء بعد الدال واعتباراً بحالة الوصل على خلاف الغالب‏.‏ وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

لمّا حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرّسل يكون عليهم فتنة‏.‏ خصّ في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمّهم مع جملة الكافرين بالرسل، فخصّهم بأنهم يستمر شكّهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يُحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة، فالذين كفروا هنا هم مشركو العرب بقرينة المضارع في فعل ‏{‏لا يزال‏}‏ وفعل ‏{‏حتى تأتيهم‏}‏ الدّالين على استمرار ذلك في المستقبل‏.‏

ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين‏:‏ إن ضمير ‏{‏في مرية منه‏}‏ عائد إلى القرآن المفهوم من المقام، والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير ‏{‏أنه الحق من ربك فيؤمنوا به‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏‏.‏

و ‏{‏الساعة‏}‏ علَم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن، واليوم‏:‏ يوم الحرب، وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب‏.‏ ومنه دُعيت حروب العرب المشهورة «أيام العرب»‏.‏

والعقيم‏:‏ المرأة التي لا تلد؛ استعير العقيم للمشؤوم لأنهم يُعدّون المرأة التي لا تلد مشؤومة‏.‏

فالمعنى‏:‏ يأتيهم يوم يُستأصلون فيه قتلاً‏:‏ وهذا إنذار بيوم بدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

آذنت الغاية التي في قوله‏:‏ ‏{‏حتى تأتيهم الساعة بغتة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 55‏]‏ أن ذلك وقت زوال مرية الذين كفروا، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية‏:‏ وعن ماذا يلقونه عند زوالها، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة ‏{‏الملك يومئذ لله يحكم بينهم‏}‏ إلى آخر ما فيها من التفصيل، فهي استئناف بياني‏.‏

فقوله ‏{‏يومئذ‏}‏ تقدير مضافه الذي عُوّض عنه التنوين‏:‏ يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة‏.‏

وجملة ‏{‏يحكم بينهم‏}‏ اشتمال من جملة ‏{‏الملك يومئذ لله‏}‏‏.‏

والحكم بينهم‏:‏ الحكمُ فيما اختلفوا فيه من ادّعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل، الدال عليه قوله‏:‏ ‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يزال الذين كفروا في مرية منه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 55‏]‏ فقد يكون الحكم بالقول، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق، وقد فُصل الحكم بقوله‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ الخ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدلّ على تفصيل أصله، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم‏.‏

وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه‏.‏ وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويهاً بشأن الهجرة، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر‏.‏

والتعريف في ‏{‏الملك‏}‏ تعريف الجنس، فدلّت جملة ‏{‏الملك يومئذ لله‏}‏ على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون مِلكاً لله، كما تقدم في قوله تعالى ‏{‏الحمد لله‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ أي لا ملك لغيره يومئذ‏.‏

والمقصود بالكلام هو جملة ‏{‏يحكم بينهم‏}‏ إذ هم البدل‏.‏ وإنما قدمت جملة ‏{‏الملك يومئذ لله‏}‏ تمهيداً لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه‏.‏

وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله ‏{‏فأولئك لهم عذاب مهين‏}‏ للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المُهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالكفر والتكذيب بالآيات‏.‏

والمُهين‏:‏ المذل، أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه‏.‏

وقرن ‏{‏فأولئك لهم عذاب مهين‏}‏ بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو ‏(‏أما‏)‏، كأنه قيل‏:‏ وأما الذين كفروا، لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيراً لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل‏.‏

والرزق‏:‏ العطاء، وهو كل ما يتفضّل به من أعيان ومنافع، ووصفه بالحسن لإفادة أنه يُرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه‏.‏ وجملة ‏{‏ليدخلنهم مدخلاً يرضونه‏}‏ بدل من جملة ‏{‏ليرزقنهم الله رزقاً حسناً‏}‏، وهي بدل اشتمال، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم، ولذلك وصف المدخل ب ‏{‏يرضونه‏}‏‏.‏

ووقعت جملة ‏{‏وإن الله لهو خير الرازقين‏}‏ معترضة بين البدل والمبدل منه، وصريحها الثناء على الله‏.‏ وكنايتُها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين‏.‏

وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويراً لعظمة رزق الله تعالى‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وإن الله لعليم حليم‏}‏ تذييل، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شأن هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم، وهو حليم بهم فيما لاقَوه فهو يجازيهم بما لقُوه من أجله‏.‏ وهذه الآية تبيّن مزية المهاجرين في الإسلام‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏مَدخلاً‏}‏ بفتح الميم على أنه اسم مكان من دَخل المجردِ لأن الإدخال يقتضي الدخول‏.‏ وقرأ الباقون بضم الميم جرياً على فعل ‏{‏ليُدخلنّهم‏}‏ المزيد وهو أيضاً اسم مكان للإدخال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتاً لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأنّ ما بعده غير صالح لأن يكون خبراً عن اسم الإشارة‏.‏ وقد تقدم نظيره عند قوله‏:‏ ‏{‏ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏ومن عاقب‏}‏ الخ، معطوفة على جملة ‏{‏والذين هاجروا في سبيل الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 58‏]‏ الآية‏.‏

والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3940‏]‏، فإنه قد جاء معترضاً في خلال النّعي على تكذيب المكذبين وكفرِهم النعمَ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات، ثمّ عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلاً يرضونه‏.‏

وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده‏.‏

وما صْدَقُ ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة العموم لقوله فيما سلف ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جَزاء على اعتداء سابق كما دلّ عليه أيضاً قوله ‏{‏بأنهم ظلموا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله ‏{‏أذن للذين يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ إلى أسلوب الإفراد في قوله ‏{‏ومن عاقب‏}‏ للإشارة إلى إرادة العموم من هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنّة من سنن الله تعالى في الأمم‏.‏

ولما أتي في الصلة هنا بفعل ‏{‏عاقَب‏}‏ مع قصد شمول عموم الصلة للذين أُذِن لهم بأنهم ظُلموا عَلم السامع أنّ القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق‏.‏

وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلاً للعدوان المجزى عليه، أي أن لا يكون أشدّ منه‏.‏

وسُميّ اعتداء المشركين على المؤمنين عقاباً في قوله ‏{‏بمثل ما عوقب به‏}‏ لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم‏.‏ ويعلم أنّ ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى‏:‏ ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏بمثل ما عوقب به‏}‏ المماثلةُ في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين وأرْغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن‏.‏ ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه، إما بالقتال فهو إخراج كامل، أو بالأسر‏.‏

و ‏{‏ثمّ‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ثم بغي عليه‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ومن عاقب بمثل ما عوقب به‏}‏، ف ‏(‏ثم‏)‏ للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءاً بالظلم كما يقال «البادئ أظلم»‏.‏ فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين‏.‏

ومعنى الآية في معني قوله‏:‏ ‏{‏ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وكان هذا شرعاً لأصول الدفاع عن البيضة، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عُوقبوا به، وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حَيرة في تلئيم معانيها‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لعفو غفور‏}‏ تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله‏:‏ ‏{‏ومن عاقب بمثل ما عوقب به‏}‏ دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قَضَيَا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك أوفق بالحق‏.‏ ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له‏:‏ بم دام ملككم‏؟‏ فقال‏:‏ لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغَضب، فليس ذكر وصفي ‏{‏عفو غفور‏}‏ إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين‏.‏

ويجوز أن يكون تعليلاً للوعد بجزاء المهاجرين اتباعاً للتعليل في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لعليم حليم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 59‏]‏ لأن الكلام مستمر في شأنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

ليس اسم الإشارة مستعملاً في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدّين على ضدّه وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة، فضرب له مثلاً بتغليب مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها، لما تقرر من اشتهار التضادّ بين الليل والنهار، أي الظلمة والنور، وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول المرّار السُّلَمي‏:‏

وكتيبَةٍ لبّسْتُها بكتيبة حتى *** إذا التَبست نفضتُ لها يدي

فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله‏:‏ ‏{‏بأن الله يولج الليل‏}‏ الخ‏.‏

ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريراً لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة ‏{‏بأن الله يولج الليل في النهار‏}‏ الخ، مرتبطة بجملة ‏{‏ومن عاقب بمثل ما عوقب به‏}‏ الخ، ولذلك يصح جعل ‏{‏بأن الله يولج الليل في النهار‏}‏ الخ متعلقاً بقوله ‏{‏لينصرنه الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏‏.‏

والإيلاج‏:‏ الإدخال‏.‏ مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيهاً لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر، فإيلاج الليل في النهار‏:‏ غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل، وإيلاج النهار في الليل‏:‏ غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار‏.‏ فالمُولج هو المُختفي، فإيلاج الليل انقضاؤه‏.‏ واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجاً، وكذلك تقلّص ضوء النهار يحصل تدريجاً، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلاً فيه شيئاً فشيئاً‏.‏

والباء للسببية، أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلّة المسلمين، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حيناً بعد أن كان أمرهما على العكس حيناً آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي، فصار حاصل المعنى‏:‏ ذلك بأن الله قادر على نصرهم‏.‏

والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلّب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالباً، ويصير ذلك الغالب مغلوباً‏.‏ مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادّة ولا تلزم طريقَة واحدة كقدرة الصناع من البشر‏.‏ وفيه إدماج التنبيه بأنّ العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل‏.‏

وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار لأن الكفر ضلالة اعتقادٍ، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة، ولأنّ الإيمان نور يتجلّى به الحق والاعتقاد الصحيح، فصاحبه كالذي يمشي في النهار، ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل، أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك، ولذلك ابتدئ في الآية بإيلاج الليل في النهار، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويولج النهار في الليل‏}‏ تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية‏.‏ وتقدم في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏تولج الليل في النهار‏}‏ وعُطف ‏{‏وأن الله سميع بصير‏}‏ على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من عَلم أنه ناصره لا محالة، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف‏.‏ ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعَل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نَصْرَهم ولا أنفسَهم يَنصُرون‏.‏ وهذا على حمل الباء في قوله‏:‏ ‏{‏بأن الله هو الحق‏}‏ على معنى السببية، وهو محمل المفسرين‏.‏ وسيأتي في سورة لُقمان في نظيرها‏:‏ أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف ‏{‏وأن ما تدعون من دونه هو الباطل‏}‏‏.‏

والحق‏:‏ المطابق للواقع، أي الصدق، مأخوذ من حَقّ الشيءُ إذا ثبَت‏:‏ والمعنى‏:‏ أنه الحق في الإلهيّة، فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي‏.‏

وأما القصر في قوله ‏{‏وأن ما تدعون من دونه هو الباطل‏}‏ المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائيّ لعدم الاعتداد بباطللِ غيرها حتى كأنه ليس من الباطل‏.‏ وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأنّ المقام مقام مناضلة وتوعد، وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضاً‏.‏

وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر ‏{‏تَدْعُون‏}‏ بالتاء الفوقيّة على الالتفات إلى خطاب المشركين لأنّ الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم‏.‏ وقرأ البقية بالتحتية على طريقة الكلام السابق‏.‏

وعلوّ الله‏:‏ مستعار للجلال والكمال التام‏.‏

والكِبر‏:‏ مستعار لتمام القدرة، أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

انتقال إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس بمناسبة ما جرى من قوله ‏{‏بأن الله يولج الليل في النهار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 62‏]‏ الآية‏.‏ والمقصود‏:‏ التعريض بشكر الله على نعمه وأن لا يعبدوا غيره كما دلّ عليه التذييل عقب تعداد هذه النعم بقوله ‏{‏إن الإنسان لكفور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 66‏]‏، أي الإنسان المشرك‏.‏ وفي ذلك كله إدماج الاستدلال على انفراده بالخلق والتدبير فهو الرب الحق المستحق للعبادة‏.‏ والمناسبة هي ما جرى من أن الله هو الحق وأن ما يدْعُونه الباطل، فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

والخطاب لكلّ من تصلح منه الرؤية لأنّ المرئِيّ مشهور‏.‏

والاستفهام‏:‏ إنكاري، نزلت غفلة كثير من الناس عن الاعتبار بهذه النعمة والاعتدادِ بها منزلة عدم العلم بها، فأُنكر ذلك العدم على الناس الذين أهملوا الشكر والاعتبار‏.‏

وإنما حكي الفعل المستفهم عنه الإنكاري مقترناً بحرف ‏(‏لم‏)‏ الذي يخلّصه إلى المضي، وحكي متعلقه بصيغة الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏أنزل من السماء ماء‏}‏ وهو الإنزال بصيغة الماضي كذلك ولم يراع فيهما معنى تجدّد ذلك لأن موقع إنكار عدم العلم بذلك هو كونه أمراً متقرراً ماضياً لا يدّعى جهله‏.‏

و ‏{‏تصبح‏}‏ بمعنى تصير فإن خَمساً من أخوات ‏(‏كان‏)‏ تستعمل بمعنى‏:‏ صار‏.‏

واختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من إقامة أقوات الناس والبهائم بذكر لونه الأخضر لأنّ ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضاً مُوجب شكرٍ على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وإنما عبّر عن مصير الأرض خضراء بصيغة ‏{‏تصبح مخضرة‏}‏ مع أن ذلك مفرّع على فعل ‏{‏أنزل من السماء ماء‏}‏ الذي هو بصيغة الماضي لأنه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة، ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زماناً بعد زماننٍ كما تقول‏:‏ أنعم فلان عليّ فأروح وأغدو شاكراً له‏.‏

وفعل ‏{‏تصبح‏}‏ مفرّع على فعل ‏{‏أنزل‏}‏ فهو مثبَت في المعنى‏.‏ وليس مفرّعاً على النفي ولا على الاستفهام، فلذلك لم ينصب بعد الفاء لأنه لم يقصد بالفاء جوابٌ للنفي إذ ليس المعنى‏:‏ ألم تر فتصبحَ الأرض‏.‏ قال سيبويه‏:‏ «وسألته ‏(‏يعني الخليل‏)‏ عن ‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة‏}‏ فقال‏:‏ هذا واجب ‏(‏أي الرفع واجب‏)‏ وهو تنبيه كأنك قلت‏:‏ أتسمع‏:‏ أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا اه‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ «لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه ‏(‏أي الكلام‏)‏ إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار‏.‏ مثاله أن تقول لصاحبك‏:‏ ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر‏.‏ وهذا وأمثاله مما يجب أن يَرغبَ له من اتسم بالعلم في علم الإعراب» اه‏.‏

والمخضرّة‏:‏ التي صار لونها الخضرة‏.‏ يقال‏:‏ اخضرّ الشيء، كما يقال‏:‏ اصفرّ الثَمر واحمرّ، واسودّ الأفق‏:‏ وصيغة افعلَّ مما يصاغ للاتصاف بالألوان‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ في موقع التعليل للإنزال، أي أنزل الماء المتفرّع عليه الاخضرار لأنه لطيف، أي رفيق بمخلوقاته، ولأنه عليم بترتيب المسببات على أسبابها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

الجملة خبر ثان عن اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 63‏]‏ للتنبيه على اختصاصه بالخالقية والملك الحقّ ليعلم من ذلك أنه المختصّ بالمعبودية فيرد زعم المشركين أنّ الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم، والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض‏.‏

وإنما لم تعطف الجملة على التي قبلها مع اتحادهما في الغرض لأن هذه تتنزّل من الأولى منزلة التذييل بالعموم الشامل لما تضمنته الجملة التي قبلها، ولأن هذه لا تتضمن تذكيراً بنعمة‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لهو الغني الحميد‏}‏ عطف على جملة ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏‏.‏ وتقديم المجرور للدلالة على القصر‏.‏ أي له ذلك لا لغيره من أصنامكم، إن جعلتَ القصر إضافياً، أو لعدم الاعتداد بغنى غيره ومحموديته إن جعلت القصر ادعائياً‏.‏

ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره، وهو معنى الغِنَى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محلّ ولا إلى مخصّص بالوجود دون العدم والعكس تنبيهاً على أنّ افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها‏.‏

وأما وصف ‏{‏الحميد‏}‏ بِمعنى المحمود كثيراً، فذكره لمزاوجة وصف الغِنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه‏.‏

وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجّهون الحمد لغير الله تعالى‏.‏ وأكد الحصرُ بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقاً لنسبة القصر إلى المقصور كقول عمرو بن معد يكرب‏:‏ «إني أنا الموت»‏.‏ وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجِب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى‏.‏