فصل: تفسير الآيات رقم (68- 70)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع الكلام على الكلام السابق وهو قوله ‏{‏بل قلوبهم في غمرة من هذا‏}‏ إلى قوله ‏{‏سامراً تهجرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 63 67‏]‏‏.‏ وهذا التفريع معترض بين جملة ‏{‏بل قلوبهم في غمرة من هذا‏}‏ وجملة ‏{‏ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 75‏]‏‏.‏

والمفرع استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعودونه‏.‏

وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة على طريقة المجاز المرسل لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء‏.‏

ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم ولذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل‏.‏ وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه‏.‏

فالاستفهام الأول‏:‏ عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ والتدبر‏:‏ إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له‏.‏ وأصله أنه من النظر في دُبُر الأمر، أي فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏82‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة أغراضه، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول‏.‏ وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر‏.‏

والاستفهام الثاني‏:‏ هو المقدر بعد ‏(‏أم‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم لم يعرفوا رسولهم‏}‏‏.‏ ف ‏(‏أم‏)‏ حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي ‏(‏أم‏)‏ المنقطعة بمعنى ‏(‏بل‏)‏ ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة‏.‏ فقوله ‏{‏جاءهم ما لم يأت آباءهم‏}‏ تقديره‏:‏ بل أجاءهم‏.‏ والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ، وكذلك الإتيان‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ الموصولة صادقة على دين‏.‏ والمعنى‏:‏ أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإله وإثبات البعث، ولذلك كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ولهذا قال الله تعالى ‏{‏وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏

ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي ‏{‏ما لم يأت آباءهم الأولين‏}‏ من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به، تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا ديناً جاءهم ولم يسبق مجيئه لآباءهم‏.‏ ووجه التهكُّم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أُنُفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل‏.‏

وإن كان المراد من الصلة أنه مخالف لما كان عليه آباؤهم لأن ذلك من معنى‏:‏ لم يأت آباءهم، كان الكلام مجرد تغليط، أي لا اتجاه لكفرهم به لأنه مخالف لما كان عليه آباؤهم إذ لا يكون الدين إلا مخالفاً للضلالة ويكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏

وأما الاستفهام الثالث‏:‏ المقدر بعد ‏(‏أم‏)‏ الثانية في قوله‏:‏ ‏{‏أم لم يعرفوا رسولهم‏}‏ فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على أن عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما، فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام هو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل، إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء، ولذلك تفرع على عدم معرفتهم إنكارهم إياه، أي إنكارهم صفاته الكاملة‏.‏

فتعليق ضمير ذاتتِ الرسول ب ‏{‏منكرون‏}‏ هو من باب إسناد الحكم إلى الذات والمراد صفاتها مثل ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذه الصفات هي الصدق والنزاهة عن السحر وأنه ليس في عداد الشعراء‏.‏

ولله در أبي طالب في قوله‏:‏

لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ *** لدينا ولا يعزى لقول الأباطل

وقال تعالى فيما أمر به رسوله ‏{‏فقد لبثتُ فيكم عُمُرا من قبله ‏(‏أي القرآن‏)‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على ‏{‏أم لم يعرفوا رسولهم‏}‏ قوله ‏{‏أم يقولون به جنة‏}‏، وهو الاستفهام الرابع، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذباً‏.‏

والجِنّة‏:‏ الجنون، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن‏.‏

والجِنّة يطلق على الجنِّ وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله‏:‏ ‏{‏من الجِنّة والناس‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ويطلق الجِنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏184‏)‏‏.‏ وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتاناً‏.‏ وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام‏.‏ ثم قد نُقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهو ‏(‏بل‏)‏‏.‏

والحق‏:‏ الثابت في الواقع ونفس الأمر، يكون في الذوات وأوصافها‏.‏ وفي الأجناس، وفي المعاني، وفي الأخبار‏.‏ فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق، فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط‏.‏

فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع ذلك من الشرائع النازلة بمكة، كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم، والاعتراف للفاضل بفضله‏.‏ وزجر الخبيث عن خبثه، وأخوة المسلمين، بعضهم لبعض، والمساواة بينهم في الحق‏.‏ ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأْد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين‏.‏ ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان‏.‏ والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم‏.‏ فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال ‏{‏ما خلقناهما إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسول حقٌّ نقضاً لإنكارهم صدقه‏.‏ ولقولهم هو مجنون كان ما بعد ‏(‏بل‏)‏ نقضاً لقولهم‏.‏

وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله ‏{‏فذرهم في غمرتهم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 54‏]‏ فيكون المعنى‏:‏ أكثر المشركين من قريش كارهون للحق‏.‏ وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلقوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 63‏]‏، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع‏.‏ ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏

وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافاً لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة‏.‏ فكان المعنى‏:‏ بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم، فأما أكثرهم فكراهية للحق، وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم‏.‏

وتقدم المعمول في قوله ‏{‏للحق كارهون‏}‏ اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والارض وَمَن فِيهِنَّ‏}‏‏.‏

عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة ‏{‏وأكثرهم للحق كارهون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 70‏]‏ زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة‏.‏

والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 70‏]‏ وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء‏.‏ وعلم من قوله ‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم‏}‏ أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفاً أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه، وهو مصدر بمعنى المفعول‏.‏ وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس، أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا، فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة‏.‏

والاتِّباع‏:‏ مجاز شائع في الموافقة، أي لو وافق الحق ما يشتهونه‏.‏

ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس‏.‏ فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له؛ فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحداً، وكونه لا يلد، وكون البعث واقعاً للجزاء، فكونها حقاً هو عين تقررها في الخارج‏.‏

ومنها الحقائق المعنوية وهي الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات‏.‏ وكونها حقاً هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلماً، وكون القتل عدواناً، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن، أي من في السماوات والأرض من الناس‏.‏

ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جارياً على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى؛ فمنها المتفق، وأكثرهم مختلف، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقاً لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم‏.‏

فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى ‏{‏لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء‏.‏ وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السموات والأرض كما تقدم‏.‏ وقد قال الله تعالى في هذه السورة ‏{‏ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله‏}‏

‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏ الآية، فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد‏.‏

ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السموات والأرض ومن فيهن‏.‏ فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل؛ فلم يعمل أحد خيراً إذ لا رجاء في ثواب‏.‏ ولم يترك أحد شراً إلا إذ لا خوف من عقاب فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السموات والأرض قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏‏.‏

وكذا لو كان الحق حسنَ الاعتداء والباطلُ قبحَ العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جُهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة‏.‏ ويزيد أمرها فساداً بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفاً للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون‏.‏

وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

والظاهر أن ‏(‏مَن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومن فيهن‏}‏ صادقة على العقلاء من البشر والملائكة‏.‏ ففساد البشر على فرض أن يكون جارياً على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه‏.‏

وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بُنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم ءالهة لأن المتولد من جنس يجب أن يكون مماثلاً لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة‏.‏ وأيضاً لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏مَن‏}‏ صادقاً على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال ‏(‏مَن‏)‏‏.‏ ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلال مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه، فيفسد العالم‏.‏ وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثاً في إمكان فناء العالم وفرَض أسباباً إن وجد واحد منها في هذا العالم‏.‏ وعدّ من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض، فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما‏.‏

وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالاً لزعمهم أن ما جاء به الرسول تصرفات مجنون‏.‏

إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله ‏{‏ولو اتبع الحق أهواءهم‏}‏ أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها‏.‏ كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحاً عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها، فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئاً طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري «فإن الحق قديم» قال تعالى ‏{‏ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وعُدِّي فعل ‏{‏أتيناهم‏}‏ بالباء لأنه استعمل مجازاً في الإرسال والتوجيه‏.‏

والذكر يجوز أن يكون مصدراً بمعنى التذكير‏.‏ ويجوز أن يكون اسماً للكلام الذي يذكر سامعه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية‏.‏ وإضافة الذكر إلى ضميرهم لفظية من الإضافة إلى مفعول المصدر‏.‏

والفاء لتفريع إعراضهم على الإتيان بالذكر إليهم، أي فتفرع على الإرسال إليهم بالذكر إعراضهم عنه‏.‏ والمعنى‏:‏ أرسلنا إليهم القرآن ليُذَكِّرهم‏.‏

وقيل‏:‏ إضافة الذكر إلى ضميرهم معنوية، أي الذكر الذي سألوه حين كانوا يقولون ‏{‏لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنَّا عباد الله المخلصين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 168- 169‏]‏ فيكون الذكر على هذا مصدراً بمعنى الفاعل، أي ما يتذكرون به‏.‏ والفاء على هذا الوجه فاء فصيحة، أي فها قد أعطيناهم كتاباً فأعرضوا عن ذكرهم الذي سألوه كقوله تعالى‏:‏ «لو أن عندنا ذكراً من الأولين ‏(‏أي من رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به»، وقول عباس بن الأحنف‏:‏

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خُراسان

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 19‏]‏‏.‏

والتعبير عن إعراضهم بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات إعراضهم وتمكنه منهم‏.‏ وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكرهم ليكون إعراضهم عنه محل عجب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏(‏أم‏)‏ عاطفة على ‏{‏أم يقولون به جنة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 70‏]‏ وهي للانتقال إلى استفهام آخر عن دواعي إعراضهم عن الرسول واستمرار قلوبهم في غمرة‏.‏

والاستفهام المقدر هنا إنكاري، أي ما تسألهم خرجاً فيعتذروا بالإعراض عنك لأجله شحاً بأموالهم‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى ‏{‏قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 47‏]‏ على سبيل الفرض، والتقدير‏:‏ إن كنتُ سألتكم أجراً فقد رددته عليكم فماذا يمنعكم من اتباعي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم تسألهم أجراً فهم من مَغرم مُثقلون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 46‏]‏ كل ذلك على معنى التهكم‏.‏ وأصرح منهما قوله تعالى ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وهذا الانتقال كان إلى غرض نفي أن يكون موجب إعراضهم عن دعوة الرسول جائياً من قِبله وتسببه بعد أن كانت الاستفهامات السابقة الثلاثة متعلقة بموجبات الإعراض الجائية من قبلهم، فالاستفهام الذي في قوله ‏{‏أم تسألهم خرجاً‏}‏ إنكاري إذ لا يجوز أن يصدر عن الرسول ما يوجب إعراض المخاطبين عن دعوته فانحصرت تبعة الإعراض فيهم‏.‏

والخرج‏:‏ العطاء المعيّن على الذوات أو على الأرضين كالإتاوة، وأما الخراج فقيل هو مرادف الخرج وهو ظاهر كلام جمهور اللغويين‏.‏ وعن ابن الأعرابي‏:‏ التفرقة بينهما بأن الخرج الإتاوة على الذوات والخراج الإتاوة على الأرضين‏.‏

وقيل الخرج‏:‏ ما تبرع به المعطي والخراج‏:‏ ما لزمه أداؤه‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ والوجه أن الخرج أخص من الخراج ‏(‏يريد أن الخرج أعم كما أصلح عبارته صاحب «الفرائد» في نقل الطيبي‏)‏ كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ ‏{‏خرجاً فخراج ربك خير‏}‏ يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير» اه‏.‏

وهذا الذي ينبغي التعويل عليه لأن الأصل في اللغة عدم الترادف‏.‏

هذا وقد قرأ الجمهور ‏{‏أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏خرجاً فخرج ربك‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف ‏{‏أم تسألهم خراجا فخراج ربك خير‏}‏‏.‏ فأما قراءة الجمهور فتوجيهها على اعتبار ترادف الكلمتين أنها جرت على التفنن في الكلام تجنباً لإعادة اللفظ في غير المقام المقتضي إعادة اللفظين مع قرب اللفظين بخلاف قوله تعالى ‏{‏قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 47‏]‏ فإن لفظ أجر أعيد بعد ثلاثة ألفاظ‏.‏

وأما على اعتبار الفرق الذي اختاره الزمخشري فتوجيهها باشتمالها على التفنن وعلى محسن المبالغة‏.‏

وأما قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فتوجيهها على طريقة الترادف أنهما وردتا على اختيار المتكلم في الاستعمال مع محسن المزاوجة بتماثل اللفظين‏.‏ ولا توجهان على طريقة الزمخشري‏.‏

قال صاحب «الكشاف»‏:‏ ألزمهم الله الحجة في هذه الآيات ‏(‏أي قوله

‏{‏أفلم يدبروا القول‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏ إلى هنا‏)‏ وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يُعْرَض له حتى يدّعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل‏.‏ واستهتارهم بدين الآباء الضُّلاَّل من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتُهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر» اه‏.‏

وجملة ‏{‏وهو خير الرازقين‏}‏ معترضة تكميلاً للغرض بالثناء على الله والتعريف بسعة فضله‏.‏ ويفيد تأكيداً لمعنى ‏{‏فخراج ربك خير‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

أعقب تنزيه الرسول عما افتروه عليه بتنزيه الإسلام عما وسموه به من الأباطيل والتنزيه بإثبات ضد ذلك وهو أنه صراط مستقيم، أي طريق لا التواء فيه ولا عقبات، فالكلام تعريض بالذين اعتقدوا خلاف ذلك‏.‏ وإطلاق الصراط المستقيم عليه من حيث إنه موصل إلى ما يتطلبه كل عاقل من النجاة وحصول الخير، فكما أن السائر إلى طلبته لا يبلغها إلا بطريق، ولا يكون بلوغه مضموناً ميسوراً إلا إذا كان الطريق مستقيماً فالنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام دعاهم إلى السير في طريق موصل بلا عناء‏.‏

والتأكيد ب ‏(‏إن‏)‏ واللام باعتبار أنه مسوق للتعريض بالمنكرين على ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم

وكذلك التوكيد في قوله‏:‏ ‏{‏وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط الناكبون‏}‏‏.‏ والتعبير فيه بالموصول وصلته إظهار في مقام الإضمار حيث عدل عن أن يقول‏:‏ وإنهم عن الصراط لناكبون‏.‏ والغرض منه ما تنبئ به الصلة من سبب تنكبهم عن الصراط المستقيم أن سببه عدم إيمانهم بالآخرة‏.‏ وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال هذا صراطٌ علي مستقيم‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏41‏)‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏الصراط‏}‏ للجنس، أي هم ناكبون عن الصراط من حيث هو حيث لم يتطلبوا طريق نجاة فهم ناكبون عن الطريق بله الطريق المستقيم ولذلك لم يكن التعريف في قوله ‏{‏عن الصراط‏}‏ للعهد بالصراط المذكور لأن تعريف الجنس أتم في نسبتهم إلى الضلال بقرينة أنهم لا يؤمنون بالآخرة التي هي غاية العامل من عمله فهم إذن ناكبون عن كل صراط موصل إذ لا همة لهم في الوصول‏.‏

والناكب‏:‏ العادل عن شيء، المعرض عنه، وفعله كنصر وفرح‏.‏ وكأنه مشتق من المنكب وهو جانب الكتف لأن العادل عن شيء يولي وجهه عنه بجانبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏ وما بينهما اعتراضات باستدلال عليهم وتنديم وقطع لمعاذيرهم، أي ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم عند نزول العذاب بهم وكشف عنهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والأعمال السيئة لأنها صارت سجية لهم لا تتخلف عنهم‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ هنا داخلة على الفعل الماضي المراد منه الاستقبال بقرينة المقام إذ المقام للإنذار والتأييس من الإغاثة عند نزول العذاب الموعود به، وليس مقام اعتذار من الله عن عدم استجابته لهم أو عن إمساك رحمته عنهم لظهور أن ذلك لا يناسب مقام الوعيد والتهديد‏.‏ وأما مجيء هذا الفعل بصيغة المضي فذلك مراعاة لما شاع في الكلام من مقارنة ‏(‏لو‏)‏ لصيغة الحاضر لأن أصلها أن تدل على الامتناع في الماضي ولذلك كان الأصل عدم جزم الفعل بعدها‏.‏

واللجاج بفتح اللام‏:‏ الاستمرار على الخصام وعدم الإقلاع عن ذلك‏.‏ يقال‏:‏ لجّ يلِجّ ويلَجّ بكسر اللام وفتحها في المضارع على اختلاف حركة العين في الماضي‏.‏

والطغيان‏:‏ أشد الكبر‏.‏ والعمه‏:‏ التردد في الضلالة‏.‏ و‏{‏في طغيانهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يعمهون‏}‏ قدم عليه للاهتمام بذكره، وللرعي على الفاصلة‏.‏ و‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية المراد منها معنى السببية وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏15‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

استدلال على مضمون قوله ‏{‏ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 75‏]‏ بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم‏.‏

والجملة المتقدمة خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه‏.‏ ولكنه لما كان متعلقاً بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه، كان المقام محفوفاً بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى؛ ولذلك وقع قبله ‏{‏فذرْهم في غمرتهم حتى حين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 54‏]‏، ووقع بعده ‏{‏قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏]‏‏.‏

والتعريف في قوله ‏{‏بالعذاب‏}‏ للعهد، أي بالعذاب المذكور آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏ الخ‏.‏ ومصبّ الحال هو ما عطف على جملتها من قوله ‏{‏فما استكانوا لربهم‏}‏، فلا تتوهمنّ أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفاً مستنداً إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها‏.‏ وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان ‏(‏13 15‏)‏ ‏{‏أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه‏}‏ إلى قوله ‏{‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏ والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجؤار دون التوبة والاستغفار‏.‏

وقيل‏:‏ هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفاً فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر‏.‏

والاستكانة‏:‏ مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته‏.‏ وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب، والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة‏.‏

وقيل الألف للإشباع، أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة‏.‏ وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذاً كقول طرفة‏:‏

ينباع من ذفري غضوب جسرة ***

أي ينبع‏.‏ وأشار في «الكشاف» إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة‏:‏

وأنت من الغوائل حين ترمي *** ومن ذم الرجال بمنتزاح

أراد‏:‏ بمنتزح فأشبع الفتحة‏.‏

ويبعد أن يكون ‏{‏استكانوا‏}‏ استفعالاً من الكون من جهتين‏:‏ جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح‏.‏

والتعبير بالمضارع في ‏{‏يتضرعون‏}‏ لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم‏.‏ والتضرع‏:‏ الدعاء بتذلل، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يتضرعون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏42‏)‏‏.‏ والقول في جملة ‏{‏حتى إذا فتحنا عليهم باباً‏}‏ كالقول في ‏{‏حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 64‏]‏‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ من قوله ‏{‏حتى إذا فتحنا عليهم باباً‏}‏ مثل ‏(‏إذا‏)‏ التي تقدمت في قوله ‏{‏حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب‏}‏ إلخ‏.‏

وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزاً عنه حسب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى ‏{‏ولو دُخلت عليهم من أقطارها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 14‏]‏‏.‏

شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه، أو تقول‏:‏ شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم‏.‏ وهذا كما مثل بقوله‏:‏ ‏{‏وفار التنور‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ وقولهم‏:‏ طفحت الكأس بأعمال فلان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 59‏]‏ وقول علقمة‏:‏

فحقّ لشاس من نداكَ ذَنوبُ ***

ومنه قول الكتّاب‏:‏ فتح باب كذا على مصراعيه، تمثيلاً لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلاً من الإحسان، وقول أبي تمام‏:‏

من شاعر وقف الكلام ببابه *** واكتن في كنفيْ ذراه المنطق

ووصف ‏{‏باباً‏}‏ بكونه ‏{‏ذا عذاب شديد‏}‏ دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال‏:‏ باب عذاب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 13‏]‏ لأن ‏{‏ذا عذاب‏}‏ يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب، وليتأتى بذلك وصف ‏(‏عذاب‏)‏ ب ‏(‏شديد‏)‏ بخلاف قوله ‏{‏سوط عذاب‏}‏ فقد استغني عن وصفه ب ‏(‏شديد‏)‏ بأنه معمول لفعل ‏(‏صب‏)‏ الدال على الوفرة‏.‏

والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل‏.‏ والأرجح‏:‏ أن المراد به عذاب السيف يوم بدر‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ أنه عذاب الجوع‏.‏

وقيل‏:‏ عذاب الآخرة‏.‏ وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏‏.‏

والإبلاس‏:‏ شدة اليأس من النجاة‏.‏ يقال‏:‏ أبلس، إذا ذل ويئس من التخلص، وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلاً مجرداً‏.‏ فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المِسح، وأن أصل أبلس صار ذا بَلاس‏.‏ وكان شعار من زهدوا في النعيم‏.‏ يقال‏:‏ لبس المسوح، إذا ترهب‏.‏

وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة ‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 23‏]‏ وما تفرع عليها من قوله ‏{‏فذرهم في غمرتهم حتى حين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 54‏]‏ إلى قوله ‏{‏إذا هم فيه مبلسون‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

هذا رجوع إلى غرض الاستدلال على انفراد الله تعالى بصفات الإلهية والامتنان بما منح الناس من نعمة لعلهم يشكرون بتخصيصه بالعبادة، وذلك قد انتقل عنه من قوله ‏{‏وعليها وعلى الفلك تحملون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 22‏]‏ فانتقل إلى الاعتبار بآية فُلك نوح عليه السلام فأتبع بالاعتبار بقصص أقوام الرسل عقب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعليها وعلى الفلك تحملون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 22‏]‏ فالجملة إما معطوفة على جملة ‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 21‏]‏ والغرض واحد وما بينهما انتقالات‏.‏

وإما مستأنفة رجوعاً إلى غرض الاستدلال والامتنان وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وفي هذا الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ثم الرجوع إلى الغرض تجديد لنشاط الذهن وتحريك للإصغاء إلى الكلام وهو من أساليب كلام العرب في خطبهم وطوالهم‏.‏ وسماه السكاكي‏:‏ قرى الأرواح‏.‏ وجعله من آثار كرم العرب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ لكم السمع‏}‏ تذكير بوحدانية الله تعالى‏.‏

والأظهر أن يكون ضمير الجلالة مسنداً واسم الموصول مسنداً إليه لأنهم علموا أن منشئاً أنشأ لهم السمع والأبصار، فصاحب الصلة هو الأولى بأن يعتبر مسنداً إليه وهم لما عبدوا غيره نزلوا منزلة من جهل أنه الذي أنشأ لهم السمع فأتى لهم بكلام مفيد لقصر القلب أو الإفراد، أي الله الذي أنشأ ذلك دون أصنامكم‏.‏ والخطاب للمشركين على طريقة الالتفات، أو لجميع الناس، أو للمسلمين، والمقصود منه التعريض بالمشركين‏.‏

والإنشاء‏:‏ الإحداث، أي الإيجاد‏.‏

وجمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد أصحابها‏.‏ وأما إفراد السمع فجرى على الأصل في إفراد المصدر لأن أصل السمع أنه مصدر‏.‏ وقيل‏:‏ الجمع باعتبار المتعلقات فلما كان البصر يتعلق بأنواع كثيرة من الموجودات وكانت العقول تدرك أجناساً وأنواعاً جُمِعا بهذا الاعتبار‏.‏ وأفرد السمع لأنه لا يتعلق إلا بنوع واحد وهو الأصوات‏.‏

وانتصب ‏{‏قليلاً‏}‏ على الحال من ضمير ‏{‏لكم‏}‏‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏ والتقدير‏:‏ في حال كونكم قليلاً شكركم‏.‏ فإن كان الخطاب للمشركين فالشكر مراد به التوحيد، أي فالشكر الصادر منكم قليل بالنسبة إلى تشريككم غيره معه في العبادة‏.‏ وإن كان الخطاب لجميع الناس فالشكر عام في كل شكر نعمة وهو قليل بالنسبة لقلة عدد الشاكرين، لأن أكثر الناس مشركون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجد أكثرهم شاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وإن كان الخطاب للمسلمين والمقصود التعريض بالمشركين فالشكر عام وتقليله تحريض على الاستزادة منه ونبذ الشرك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

هو على شاكلة قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏‏.‏

والذرء‏:‏ البث‏.‏ وتقدم في سورة الأنعام ‏(‏136‏)‏‏.‏ وهذا امتنان بنعمة الإيجاد والحياة وتيسير التمكن من الأرض وإكثار النوع لأن الذرء يستلزم ذلك كله‏.‏ وهذا استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالإلهية إذ قد علموا أنه لا شريك له في الخلق فكيف يشركون معه في الإلهية أصنافاً هم يعلمون أنها لا تخلق شيئاً‏.‏ وهو أيضاً استدلال على البعث لأن الذي أحيا الناس عن عدم قادر على إعادة إحيائهم بعد تقطع أوصالهم‏.‏

وقوبل الذرء بضده وهو الحشر والجمع، فإن الحشر يجمع كل من كان على الأرض من البشر‏.‏ وفيه محسن الطباق‏.‏

والمقصود من هذه المقابلة الرد على منكري البعث، فتقديم المجرور في ‏{‏إليه تحشرون‏}‏ تعريض بالتهديد بأنهم محشورون إلى الله فهو يجازيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

هو من أسلوب ‏{‏وهو الذي أنشأ لكم السمع‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏ وأعقب ذكر الحشر بذكر الإحياء لأن البعث إحياء إدماجاً للاستدلال على إمكان البعث في الاستدلال على عموم التصرف في العالم‏.‏

وأما ذكر الإماتة فلمناسبة التضاد، ولأن فيها دلالة على عظيم القدرة والقهر‏.‏ ولما كان من الإحياء خلْق الإيقاظ ومن الإماتة خلق النوم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ الآية عطف على ذلك أن بقدرته اختلاف الليل والنهار لتلك المناسبة، ولأن في تصريف الليل والنهار دلالة على عظيم القدرة، والعلم دلالة على الانفراد بصفات الإلهية وعلى وقوع البعث كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

واللام في ‏{‏له اختلاف الليل والنهار‏}‏ للملك، أي بقدرته تصريف الليل والنهار، فالنهار يناسب الحياة ولذلك يسمى الهبوب في النهار بعثاً، والليلُ يناسب الموت ولذلك سمى الله النوم وفاةً في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وتقديم المجرور للقصر، أي له اختلاف الليل والنهار لا لغيره، أي فغيره لا تحق له الإلهية‏.‏

ولما كانت هذه الأدلة تفيد من نظر فيها علماً بأن الإله واحد وأن البعث واقع وكان المقصودون بالخطاب قد أشركوا به ولم يهتدوا بهذه الأدلة جُعلوا بمنزلة غير العقلاء فأنكر عليهم عدم العقل بالاستفهام الإنكاري المفرع على الأدلة الأربعة بالفاء في قوله ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏‏.‏

وهذا تذييل راجع إلى قوله ‏{‏وإليه تحشرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 79‏]‏ وما بعده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

هذا إدماج لذكر أصل آخر من أصول الشرك وهو إحالة البعث بعد الموت‏.‏ و‏(‏بل‏)‏ للإضراب الإبطالي إبطالاً لكونهم يعقلون‏.‏ وإثباتٌ لإنكارهم البعث مع بيان ما بعثهم على إنكاره وهو تقليد الآباء‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا يعقلون الأدلة لكنهم يتبعون أقوال آبائهم‏.‏

والكلام جرى على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة لأن الكلام انتقل من التقريع والتهديد إلى حكاية ضلالهم فناسب هذا الانتقال مقام الغيبة لما في الغيبة من الإبعاد فالضمير عائد إلى المخاطبين‏.‏

والقول هنا مراد به ما طابق الاعتقاد لأن الأصل في الكلام مطابقة اعتقاد قائله، فالمعنى‏:‏ بل ظنوا مثل ما ظن الأولون‏.‏

والأولون‏:‏ أسلافهم في النسب أو أسلافهم في الدين من الأمم المشركين‏.‏

وجملة ‏{‏قالوا أإذا متنا‏}‏ إلخ بدل مطابق من جملة ‏{‏قالوا مثل ما قال الأولون‏}‏ تفصيل لإجمال المماثلة، فالضمير الذي مع ‏{‏قالوا‏}‏ الثاني عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏قالوا‏}‏ الأول وليس عائداً على ‏{‏الأولون‏}‏‏.‏ ويجوز جعل ‏{‏قالوا‏}‏ الثاني استئنافاً بيانياً لبيان ‏{‏ما قال الأولون‏}‏ ويكون الضمير عائداً إلى ‏{‏الأولون‏}‏ والمعنى واحد على التقديرين‏.‏ وعلى كلا الوجهين فإعادة فعل ‏(‏قالوا‏)‏ من قبيل إعادة الذي عمل في المبدل منه‏.‏ ونكتته هنا التعجيب من هذا القول‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أإذا متنا‏}‏ بهمزتين على أنه استفهام عن الشرط‏.‏ وقرأه ابن عامر بهمزة واحدة على صورة الخبر والاستفهام مقدر في جملة ‏{‏إنا لمبعوثون‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أإنّا لمبعوثون‏}‏ بهمزتين على تأكيد همزة الاستفهام الأولى بإدخال مثلها على جواب الشرط‏.‏ وقرأه نافع وأبو جعفر بدون همزة استفهام ووجود همزة الاستفهام داخلة على الشرط كاف في إفادة الاستفهام عن جوابه‏.‏

والاستفهام إنكاري، و‏{‏إذا‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏مبعوثون‏}‏‏.‏

والجمع بين ذكر الموت والكون تراباً وعظاماً لقصد تقوية الإنكار بتفظيع إخبار القرآن بوقوع البعث، أي الإحياء بعد ذلك التلاشي القوي‏.‏

وأما ذكر حرف ‏(‏إن‏)‏ في قولهم ‏{‏أإنا لمبعوثون‏}‏ فالمقصود منه حكاية دعوى البعث بأن الرسول الذي يدعيها بتحقيق وتوكيد مع كونها شديدة الاستحالة، ففي حكاية توكيد مدعيها زيادة في تفظيع الدعوى في وهمهم‏.‏

وجملة ‏{‏لقد وعدنا‏}‏ إلخ تعليل للإنكار وتقوية له‏.‏ وقد جعلوا مستند تكذيبهم بالبعث أنه تكرر الوعد به في أزمان متعددة فلم يقع ولم يبعث واحد من آبائهم‏.‏

ووجه ذكر الآباء دفع ما عسى أن يقول لهم قائل‏:‏ إنكم تبعثون قبل أن تصيروا تراباً وعظاماً، فأعَدوا الجواب بأن الوعد بالبعث لم يكن مقتصراً عليهم فيقعوا في شك باحتمال وقوعه بهم بعد موتهم وقبل فناء أجسامهم بل ذلك وعد قديم وُعد به آباؤهم الأولون وقد مضت أزمان وشوهدت رفاتهم في أجداثهم وما بعث أحد منهم‏.‏

وجملة ‏{‏إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ من القول الأول وهي مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال يثيره قولهم ‏{‏لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل‏}‏ وهو أن يقول سائل‏:‏ فكيف تمالأ على هذه الدعوى العدد من الدعاة في عصور مختلفة مع تحققهم عدم وقوعه، فيجيبون بأن هذا الشيء تلقفوه عن بعض الأولين فتناقلوه‏.‏

والإشارة في قوله ‏{‏لقد وعدنا هذا‏}‏ إلى ما تقدم في قولهم ‏{‏أإذا متنا‏}‏ إلى آخره، أي هذا المذكور من الكلام‏.‏ وكذلك اسم الإشارة الثاني ‏{‏إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏‏.‏ وصيغة القصر بمعنى‏:‏ هذا منحصر في كونه من حكايات الأولين‏.‏ وهو قصر إضافي لا يعدو كونه من الأساطير إلى كونه واقعاً كما زعم المدّعون‏.‏

والعدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة تمييزه تشهيراً بخطئه في زعمهم‏.‏

والأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي الخبر الكاذب الذي يكسى صفة الواقع مثل الخرافات والروايات الوهمية لقصد التلهي بها‏.‏ وبناء الأفعولة يغلب فيما يراد به التلهي مثل‏:‏ الأعجوبة والأضحوكة والأرجوحة والأحدوثة وقد مضى قريباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

استئناف استدلاللٍ عليهم في إثبات الوحدانية لله تعالى عاد به الكلام متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 80‏]‏‏.‏

والاستفهام تقريري، أي أجيبوا عن هذا، ولا يسعهم إلا الجواب بأنها لله‏.‏ والمقصود‏:‏ إثبات لازم جوابهم وهو انفراده تعالى بالوحدانية‏.‏

و ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ شرط حذف جوابه لدلالة الاستفهام عليه، تقديره‏:‏ فأجيبوني عن السؤال‏.‏ وفي هذا الشرط توجيه لعقولهم أن يتأملوا فيظهر لهم أن الأرض لله وأن من فيها لله فإن كون جميع ذلك لله قد يخفى لأن الناس اعتادوا نسبة المسببات إلى أسبابها المقارنة والتصرفات إلى مباشريها فنُبهوا بقوله ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ إلى التأمل، أي إن كنتم تعلمون علم اليقين، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏سيقولون لله‏}‏، أي يجيبون عقب التأمل جواباً غير بطيء‏.‏ وانظر ما تقدم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏12‏)‏‏.‏

ووقعت جملة ‏{‏قل أفلا تذكرون‏}‏ جواباً لإقرارهم واعترافهم بأنها لله‏.‏ والاستفهام إنكاري إنكار لعدم تذكرهم بذلك، أي تفطن عقولهم لدلالة ذلك على انفراده تعالى بالإلهية‏.‏ وخص بالتذكر لما في بعضه من خفاء الدلالة والاحتياج إلى النظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 87‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

تكرير الأمر بالقول وإن كان المقول مختلفاً دون أن تعطف جملة ‏{‏مَن رب السماوات‏}‏ لأنها وقعت في سياق التعداد فناسب أن يعاد الأمر بالقول دون الاستغناء بحرف العطف‏.‏ والمقصود وقوع هذه الأسئلة متتابعة دفعاً لهم بالحجة، ولذلك لم تُعَد في السؤالين الثاني والثالث جملة ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏]‏ اكتفاءً بالافتتاح بها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سيقولون لله‏}‏ بلام جارة لاسم الجلالة على أنه حكاية لجوابهم المتوقع بمعناه لا بلفظه، لأنهم لما سئلوا ب ‏(‏مَن‏)‏ التي هي للاستفهام عن تعيين ذات المستفهم عنه كان مقتضى الاستعمال أن يكون الجواب بذكر اسم ذات المسؤول عنه، فكان العدول عن ذلك إلى الجواب عن كون السماوات السبع والعرش مملوكة لله عدولاً إلى جانب المعنى دون اللفظ مراعاة لكون المستفهم عنه لوحظ بوصف الربوبية والربوبية تقتضي الملك‏.‏ ونظير هذا الاستعمال ما أنشده القرطبي وصاحب «المطلع»‏:‏

إذَا قِيلَ مَنْ ربّ المَزَالف والقرى *** وربّ الجياد الجُرد‏؟‏ قلت لخالد

ولم أقف على من سبقهما بذكر هذا البيت ولعلهما أخذاه من «تفسير الزجاج» ولم يعزواه إلى قائل ولعل قائله حذا به حذو استعمال الآية‏.‏

وأقول‏:‏ إن الأجدر أن نبين وجه صوغ الآية بهذا الأسلوب فأرى أن ذلك لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا‏:‏ رب السماوات السبع اللَّهُ، لأنهم أثبتوا مع الله أرباباً في السماوات إذ عبدوا الملائكة فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها؛ ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك»‏.‏ ففي حكاية جوابهم بهذا اللفظ تورك عليهم، ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله تعالى‏.‏

وقرأه أبو عمرو ويعقوب ‏{‏سيقولون الله‏}‏ بدون لام الجر وهو كذلك في مصحف البصرة وبذلك كان اسم الجلالة مرفوعاً على أنه خبر ‏(‏مَن‏)‏ في قوله ‏{‏من رب السموات‏}‏ والمعنى واحد‏.‏

ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84‏]‏ ونحوه كما جاء في سابقه لأن انفراد الله تعالى بالربوية في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية‏.‏

وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكر ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام‏.‏ وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض وأنهم لا يسعهم إلاّ الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه لأنه يستحق الطاعة له وحده وأن يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

وحذف مفعول ‏{‏تتقون‏}‏ لتنزيل الفعل منزلة القاصر لأنه دال على معنى خاص وهو التقوى الشاملة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قد عرفت آنفاً نكتة تكرير القول‏.‏

والملكوت‏:‏ مبالغة في الملك بضم الميم‏.‏ فالملكوت‏:‏ الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده ‏{‏كل شيء‏}‏‏.‏

واليد‏:‏ القدرة‏.‏ ومعنى ‏{‏يجير‏}‏ يغيث ويمنع من يشاء من الأذى‏.‏ ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة، وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجارَ بأذى فمعنى ‏{‏لا يجار عليه‏}‏ لا يستطيع أحد أن يمنع أحداً من عقابه‏.‏ فيفيد معنى العزة التامة‏.‏

وبني فعل ‏{‏يجار عليه‏}‏ للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار‏.‏

ولما كان تصرف الله هذا خفياً يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عُقب الاستفهام بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثاً لهم على علمه والاهتداء إليه‏.‏

ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل ‏{‏سيقولون لله‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سيقولون لله‏}‏ بلام الجر داخلة على اسم الجلالة مثل سالفه‏.‏ وقرأه أبو عمرو ويعقوب بدون لام وقد علمت ذلك في نظيره السابق‏.‏

‏(‏وأنَّى‏)‏ يجوز أن تكون بمعنى ‏(‏من أين‏)‏ كما تقدم في سورة آل عمران ‏(‏37‏)‏ ‏{‏قال يا مريم أنى لك هذا‏}‏ والاستفهام تعجيبي‏.‏ والسحر مستعار لترويج الباطل بجامع تخيل ما ليس بواقع واقعاً‏.‏ والمعنى‏:‏ فمن أين اختل شعوركم فراج عليكم الباطل‏.‏ فالمراد بالسحر ترويج أيمة الكفر عليهم الباطل حتى جعلوهم كالمسحورين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

إضراب لإبطال أن يكونوا مسحورين، أي بل ليس الأمر كما خيل إليهم‏.‏ فالذي أتيناهم به الحق يعني القرآن‏.‏ والباء للتعدية كما يقال‏:‏ ذهب به أي أذهبه‏.‏ وهذا كقوله آنفاً ‏{‏بل أتيناهم بذكرهم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 71‏]‏‏.‏

والعدول عن الخطاب من قوله ‏{‏فأنى تسحرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 89‏]‏ إلى الغيبة التفات لأنهم الموجه إليهم الكلام في هذه الجملة‏.‏ والحق هنا‏:‏ الصدق فلذلك قوبل بنسبتهم إلى الكذب فيما رموا به القرءان من قولهم ‏{‏إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 83‏]‏ وفي مقابلة الحق ب ‏{‏كاذبون‏}‏ محسن الطباق‏.‏

وتأكيد نسبتهم إلى الكذب ب ‏(‏إن‏)‏ واللام لتحقيق الخبر‏.‏

وقد سُلكت في ترتيب هذه الأدلة طريقة الترقي؛ فابتدئ بالسؤال عن مالك الأرض ومن فيها لأنها أقرب العوالم لإدراك المخاطبين، ثم ارتقي إلى الاستدلال بربوبية السماوات والعرش، ثم ارتقي إلى ما هو أعم وأشمل وهو تصرفه المطلق في الأشياء كلها ولذلك اجتلبت فيه أداة العموم وهي ‏(‏كل‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

أتبع الاستدلال على إثبات الوحدانية لله تعالى بالاستدلال على انتفاء الشركاء له في الإلهية‏.‏ وقدمت النتيجة على القياس لتجعل هي المطلوب فإن النتيجة والمطلوب متحدان في المعنى مختلفان بالاعتبار، فهي باعتبار حصولها عقب القياس تسمى نتيجة، وباعتبار كونها دعوى مقام عليها الدليل وهو القياس تسمى مطلوباً كما في علم المنطق‏.‏ ولتقديمها نكتة أن هذا المطلوب واضح النهوض لا يفتقر إلى دليل إلا لزيادة الاطمئنان فقوله‏:‏ ‏{‏ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله‏}‏ هو المطلوب وقوله ‏{‏إذاً لذهب كل إله بما خلق‏}‏ إلى آخر الآية هو الدليل‏.‏ وتقديم هذا المطلوب على الدليل أغنى عن التصريح بالنتيجة عقب الدليل‏.‏ وذكر نفي الولد استقصاء للرد على مختلف عقائد أهل الشرك من العرب فإن منهم من توهم أنه ارتقى عن عبادة الأصنام فعبدوا الملائكة وقالوا‏:‏ هم بنات الله‏.‏

وإنما قدم نفي الولد على نفي الشريك مع أن أكثر المشركين عبدة أصنام لا عبدة الملائكة نظراً إلى أن شبهة عبدة الملائكة أقوى من شبهة عبدة الأصنام لأن الملائكة غير مشاهدين فليست دلائل الحدوث بادية عليهم كالأصنام، ولأن الذين زعموهم بنات الله أقرب للتمويه من الذين زعموا الحجارة شركاء لله، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً عند قوله تعالى ‏{‏قل من رب السماوات السبع‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 86‏]‏ الآية‏.‏

و ‏(‏إذن‏)‏ حرف جواب وجزاء لكلام قبلها ملفوظ أو مقدر‏.‏ والكلام المجاب هنا هو ما تضمنه قوله ‏{‏وما كان معه من إله‏}‏ فالجواب ضد ذلك النفي‏.‏ وإذ قد كان هذا الضد أمراً مستحيل الوقوع تعين أن يقدر له شرط على وجه الفرض والتقدير، والحرف المعد لمثل هذا الشرط هو ‏(‏لو‏)‏ الامتناعية، فالتقدير‏:‏ ولو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق‏.‏

وبقاء اللام في صدر الكلام الواقع بعد ‏(‏إذن‏)‏ دليل على أن المقدر شرط ‏(‏لو‏)‏ لأن اللام تلزم جواب ‏(‏لو‏)‏ ولأن غالب مواقع ‏(‏إذن‏)‏ أن تكون جواب ‏(‏لو‏)‏ فلذلك جاز حذف الشرط هنا لظهور تقديره‏.‏

وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم إذن مثلهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏140‏)‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏إذن لذهب كل إله بما خلق‏}‏ استدلال على امتناع أن يكون مع الله آلهة‏.‏

وإنما لم يستدل على امتناع أن يتخذ الله ولداً لأن الاستدلال على ما بعده مغن عنه لأن ما بعده أعم منه وانتفاء الأعم يقتضي انتفاء الأخص فإنه لو كان لله ولد لكان الأولاد آلهة لأن ولد كل موجود إنما يتكون على مثل ماهية أصله كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏ أي له‏.‏

والذهاب في قوله ‏{‏لذهب كل إله‏}‏ مستعار للاستقلال بالمذهوب به وعدم مشاركة غيره له فيه‏.‏

وبيان انتظام هذا الاستدلال أنه لو كان مع الله ءالهة لاقتضى ذلك أن يكون الآلهة سواء في صفات الإلهية وتلك الصفات كمالات تامة فكان كل إله خالقاً لمخلوقات لثبوت الموجودات الحادثة وهي مخلوقة، فلا جائز أن تتوارد الآلهة على مخلوق واحد لأن ذلك‏:‏ إما لعجز عن الانفراد بخلق بعض المخلوقات وهذا لا ينافي الإلهية، وإما تحصيل للحاصل وهو محال، فتعين أن ينفرد كل إله بطائفة من المخلوقات‏.‏ ولنفرض أن تكون مخلوقات كل إله مساوية لمخلوقات غيره بناء على أن الحكمة تقتضي مقداراً معيناً من المخلوقات يعلمها الإله الخالق لها؛ فتعين أن لا تكون للإله الذي لم يخلق طائفة من المخلوقات ربوبيةٌ على ما لم يخلقه وهذا يفضي إلى نقص في كل من الآلهة وهو يستلزم المحال لأن الإلهية تقتضي الكمال لا النقص‏.‏ ولا جرم أن تلك المخلوقات ستكون بعد خلقها معرضة للزيادة والنقصان والقوة والضعف بحسب ما يحف بها عن عوارض الوجود التي لا تخلو عنها المخلوقات كما هو مشاهد في مخلوقات الله تعالى الواحد‏.‏ ولا مناص عن ذلك لأن خالق المخلوقات أودع فيها خصائص ملازمة لها كما اقتضته حكمته، فتلك المخلوقات مظاهر لخصائصها لا محالة فلا جرم أن ذلك يقتضي تفوق مخلوقات بعض الآلهة على مخلوقات بعض آخر بعوارض من التصرفات والمقارنات لازمة لذلك، لا جرم يستلزم ذلك كله لازمين باطلين‏:‏

أولهما‏:‏ أن يكون كل إله مختصاً بمخلوقاته فلا يتصرف فيها غيره من الآلهة ولا يتصرف هو في مخلوقات غيره، فيقتضي ذلك أن كل إله من الآلهة عاجز عن التصرف في مخلوقات غيره‏.‏ وهذا يستلزم المحال لأن العجز نقص والنقص ينافي حقيقة الإلهية‏.‏ وهذا دليل برهاني على الوحدانية لأنه أدى إلى استحالة ضدها‏.‏ فهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لذهب كل إله بما خلق‏}‏‏.‏

وثاني‏:‏ اللازمين أن تصير مخلوقات بعض الآلهة أوفر أو أقوى من مخلوقات إله آخر بعوارض تقتضي ذلك من آثار الأعمال النفسانية وآثار الأقطار والحوادث كما هو المشاهد في اختلاف أحوال مخلوقات الله تعالى الواحد، فلا جرم أن ذلك يفضي إلى اعتزاز الإله الذي تفوقت مخلوقاته على الإله الذي تنحط مخلوقاته، وهذا يقتضي أن يصير بعض تلك الآلهة أقوى من بعض وهو مناف للمساواة في الإلهية‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولعلا بعضهم على بعض‏}‏‏.‏

وهذا الثاني بناء على المعتاد من لوازم الإلهية في أنظار المفكرين، وإلا فيجوز اتفاق الآلهة على أن لا يخلقوا مخلوقات قابلة للتفاوت بأن لا يخلقوا إلا حجارة أو حديداً مثلاً؛ إلا أن هذا ينافي الواقع في المخلوقات‏.‏

ويجوز اتفاق الآلهة أيضاً على أن لا يعتز بعضهم على بعض بسبب تفاوت ملكوت كل على ملكوت الآخر بناء على ما اتصفوا به من الحكمة المتماثلة التي تعصمهم عن صدور ما يؤدي إلى اختلال المجد الإلهي؛ إلا أن هذا المعنى لا يخلو من المصانعة وهي مشعرة بضعف المقدرة‏.‏

فبذلك كان الاستدلال الذي في هذه الآية برهانياً، وهو مثل الاستدلال الذي في قوله تعالى ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ إلا أن هذا بني على بعض لزوم النقص في ذات الآلهة وهو ما لا يجوزه المردود عليهم، والآخر بني على لزوم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة‏.‏

أما الدليل البرهاني الخالص على استحالة تعدد الآلهة بالذات فله مقدمات أخرى قد وفّى أيمة علم الكلام بسطها بما لارواج بعده لعقيدة الشرك‏.‏ وقد أشار إلى طريقة منها المحقق عمر القزويني في هذا الموضع من «حاشيته» على «الكشاف» ولكنه انفرد بادعاء أنه مأخوذ من الآية وليس كما ادعى‏.‏ وقد ساقه الشهاب الآلوسي فإن شئت فتأمله‏.‏

ولما اقتضى هذا الدليل بطلان قولهم عقب الدليل بتنزيه الله تعالى عن أقوال المشركين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الله عمايصفون‏}‏ وهو بمنزلة نتيجة الدليل‏.‏ وما يصفونه به هو ما اختصوا بوصفهم الله به من الشركاء في الإلهية ومن تعذر البعث عليه ونحو ذلك وهو الذي جرى فيه غرض الكلام‏.‏

وإنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله ‏{‏علام الغيب والشهادة‏}‏ المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في ‏{‏الغيب والشهادة‏}‏ من الاستغراق الحقيقي، أي عالم كل مغيب وكل ظاهر، لدفع توهم أن يقال‏:‏ إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض، لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته‏.‏ ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القُدَر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل، فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت‏.‏ فظهر أن قوله ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ من تمام الاستدال على انتفاء الشركاء، ولذلك فرع عنه بالفاء قوله ‏{‏فتعالى عما يشركون‏}‏‏.‏

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف ‏{‏عالمُ الغيب‏}‏ برفع ‏{‏عالم‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو من الحذف الشائع في الاستعمال إذا أريد الإخبار عن شيء بعد أن أجريت عليه أخبار أو صفات‏.‏

وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بجر ‏{‏عالم‏}‏ على الوصف لاسم الجلالة في قوله ‏{‏سبحان الله عما يصفون‏}‏‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ مصدرية‏.‏ والمعنى فتعالى عن إشراكهم، أي هو أعظم من أن يكون موصوفاً بكونه مشاركاً في وصفه العظيم، أي هو منزه عن ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

آذنت الآيات السابقة بأقصى ضلال المشركين وانتفاء عذرهم فيما دانوا به الله تعالى وبغضب الله عليهم لذلك، وأنهم سواء في ذلك مع الأمم التي عجل الله لها العذاب في الدنيا وادخر لها عذاباً آخر في الآخرة، فكان ذلك نذراة لهم بمثله وتهديداً بما سيقولونه وكان مثاراً لخشية النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل العذاب بقومه في حياته والخوف من هوْله فلقن الله نبيئه أن يسأل النجاة من ذلك العذاب‏.‏ وفي هذا التلقين تعريض بأن الله منجيهم من العذاب بحكمته، وإيماء إلى أن الله يري نبيئه حلول العذاب بمكذبيه كما هو شأن تلقين الدعاء كما في قوله‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ الآية‏.‏

فهذه الجملة استئناف بياني جواباً عما يختلج في نفس رسول الله عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقد تحقق ذلك فيما حل بالمشركين يوم بدر ويوم حنين‏.‏ فالوعيد المذكور هنا وعيد بعقاب في الدنيا كما يقتضيه قوله‏:‏ ‏{‏فلا تجعلني في القوم الظالمين‏}‏‏.‏

وذكر في هذا الدعاء لفظ ‏(‏رب‏)‏ مكرراً تمهيداً للإجابة لأن وصف الربوبية يقتضي الرأفة بالمربوب‏.‏

وأدخل بعد حرف الشرط ‏(‏ما‏)‏ الزائدة للتوكيد فاقترن فعل الشرط بنون التوكيد لزيادة تحقيق ربط الجزاء بالشرط‏.‏

ونظيره في تكرير المؤكدات بين الشرط وجوابه قول الأعشى‏:‏

إما تَرَيْنا حفاةً لا نعال لنا *** إنا كذلِك ما نحفَى وننتعل

أي فاعلمي حقاً أنا نحفى تارة وننتعل أخرى لأجل ذلك، أي لأجل إخفاء الخطى لا للأجل وجدان نعل مرة وفقدانها أخرى كحال أهل الخصاصة‏.‏

وقد تقدم في قوله ‏{‏وإما ينزغنك من الشيطان نزغ‏}‏ في آخر الأعراف ‏(‏200‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ إذا كان ما يوعدون حاصلاً في حياتي فأنا أدعوكم أن لا تجعلوني فيهم حينئذ‏.‏

واستعمال حرف الظرفية من قوله‏:‏ ‏{‏في القوم الظالمين‏}‏ يشير إلى أنه أُمر أن يَسأل الكون في موضع غير موضع المشركين، وقد تحقق ذلك بالهجرة إلى المدينة فالظرفية هنا حقيقية، أي بينهم‏.‏

والخبر الذي هو قوله‏:‏ ‏{‏وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون‏}‏ مستعمل في إيجاد الرجاء بحصول وعيد المكذبين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فلا حاجة إلى إعلام الرسول بقدرة الله على ذلك‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أن نريك‏}‏ إيماء إلى أنه في منجاة من أن يلحقه ما يوعدون به وأنه سيراه مرأى عين دون كون فيه‏.‏ وقد يبدو أن هذا وعد غريب لأن المتعارف أن يكون العذاب سماوياً فإذا نجى الله منه بعض رسله مثل لوط فإنه يُبعده عن موضع العذاب ولكن كان عذاب هؤلاء غير سماوي فتحقق في مصرع صناديدهم يوم بدر بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف رسول الله على القليب قليب بدر وناداهم بأسمائهم واحداً واحداً وقال لهم «لقد وَجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً»‏.‏ وبهذا القصد يظهر موقع حرفي التأكيد ‏(‏إن‏)‏ واللام من إصابة محزّ الإعجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

لما أنبأ الله رسوله عليه الصلاة والسلام بما يلمح له بأنه منجز وعيده من الذين كذبوه فعلم الرسولُ والمسلمون أن الله ضمن لهم النصر أعقب ذلك بأن أمره بأن يدفع مكذبيه بالتي هي أحسن وأن لا يضيق بتكذيبهم صدره فذلك دفع السيئة بالحسنة كما هو أدب الإسلام‏.‏ وسيأتي بيانه في سورة فصلت ‏(‏34‏)‏ عند قوله ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن‏.‏‏}‏ وقوله نحن أعلم بما يصفون‏}‏ خبر مستعمل كناية عن كون الله يعامل أصحاب الإساءة لرسوله بما هم أحقاء به من العقاب لأن الذي هو أعلم بالأحوال يُجري عمله على مناسب تلك الأحوال بالعدل وفي هذا تطمين لنفس الرسول صلى الله عليه وسلم

وحذف مفعول ‏{‏يصفون‏}‏ وتقديره‏:‏ بما يصفونك، أي مما يضيق به صدرك‏.‏ وذلك تعهد بأنه يجازيهم على ما يعلم منهم قرُب أحد يبدو منه السوء ينطوي ضميره على بعض الخير فقد كان فيهم من يحدب على النبي في نفسه، ورب أحد هو بعكسه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏‏.‏

و ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ مراد بها الحسنة الكاملة، فاسم التفضيل للمبالغة مثل قوله ‏{‏السجن أحب إليَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والتخلق بهذه الآية هو أن المؤمن الكامل ينبغي له أن يفوض أمر المعتدين عليه إلى الله فهو يتولى الانتصار لمن توكل عليه وأنه إن قابل السيئة بالحسنة كان انتصار الله أشفى لصدره وأرسخ في نصره، وماذا تبلغ قدرة المخلوق تجاه قدرة الخالق، وهو الذي هزم الأحزاب بلا جيوش ولا فيالق‏.‏

وهكذا كان خلُق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان لا ينتقم لنفسه وكان يدعو ربه‏.‏ وذكر في «المدارك» في ترجمة عبد الله بن غانم‏:‏ أن رجلاً يقال له ابن زرعة كان له جاه ورئاسة وكان ابن غانم حكم عليه بوجه حق ترتب عليه، فلقي ابنَ غانم في موضع خال فشتمه فأعرض عنه ابن غانم فلما كان بعد ذلك لقيه بالطريق فسلم ابن زرعة على ابن غانم فرد عليه ابن غانم ورحب به ومضى معه إلى منزله وعمل له طعاماً فلما أراد مفارقته قال لابن غانم‏:‏ يا أبا عبد الرحمن اغفر لي واجعلني في حل مما كان من خطابي، فقال له ابن غانم‏:‏ أما هذا فلست أفعله حتى أوقفك بين يدي الله تعالى، وأما أن ينالك مني في الدنيا مكروه أو عقوبة فلا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

الظاهر أن يكون المعطوف موالياً للمعطوف هو عليه، فيكون قوله ‏{‏وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين‏}‏ متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن السيئة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏ فلما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يفوض جزاءهم إلى ربه أمره بالتعوذ من حيلولة الشياطين دون الدفع بالتي هي أحسن، أي التعوذ من تحريك الشيطان داعية الغضب والانتقام في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ‏{‏الشياطين‏}‏ مستعملاً في حقيقته‏.‏ والمراد من همزات الشياطين‏:‏ تصرفاتهم بتحريك القوى التي في نفس الإنسان ‏(‏أي في غير أمور التبليغ‏)‏ مثل تحريك القوة الغضبية كما تأول الغزالي في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ‏"‏ ولكن الله أعانني عليه فأسْلم ‏"‏‏.‏ ويكون أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالتعوذ من همزات الشياطين مقتضياً تكفل الله تعالى بالاستجابة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، أو يكون أمره بالتعوذ من همزات الشياطين مراداً به الاستمرار على السلامة منهم‏.‏ قال في «الشفاء»‏:‏ الأمة مجتمعة ‏(‏أي مجمعة‏)‏ على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏قل رب إما تريني ما يوعدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 93‏]‏ بأن أمره الله بأن يلجأ إليه بطلب الوقاية من المشركين وأذاهم، فيكون المراد من الشياطين المشركين فإنهم شياطين الإنس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ ويكون هذا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏قل أعوذ برب الناس‏}‏ إلى قوله ‏{‏الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 1 6‏]‏ فيكون المراد‏:‏ أعوذ بك من همزات القوم الظالمين أو من همزات الشياطين منهم‏.‏

والهمز حقيقته‏:‏ الضغط باليد والطعن بالإصبع ونحوه، ويستعمل مجازاً بمعنى الأذى بالقول أو بالإشارة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويل لكل هُمزة لمزة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ومحمله هنا عندي على المعنى المجازي على كلا الوجهين في المراد من الشياطين‏.‏ وهمز شياطين الجن ظاهر، وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له‏.‏

ومعنى التعوذ من همزهم‏:‏ التعوذ من آثار ذلك‏.‏ فإن من ذلك أن يغمزوا بعض سفهائهم إغراء لهم بأذاه، كما وقع في قصة إغرائهم من أتى بسلا جزور فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته حول الكعبة‏.‏ وهذا الوجه في تفسير الشياطين هو الأليق بالغاية في قوله ‏{‏حتى إذا جاء أحدهم الموت‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏ كما سيأتي‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وأعوذ بك رب أن يحضرون‏}‏ فهو تعوذ من قربهم لأنهم إذا اقتربوا منه لحقه أذاهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية وقد علمت مفادها غير مرة، وتقدمت في سورة الأنبياء‏.‏ ولا تفيد أن مضمون ما قبلها مُغيّا بها فلا حاجة إلى تعليق ‏(‏حتى‏)‏ ب ‏{‏يصفون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏ والوجه أن ‏(‏حتى‏)‏ متصلة بقوله ‏{‏وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 95‏]‏‏.‏ فهذا انتقال إلى وصف ما يلقون من العذاب في الآخرة بعد أن ذكر عذابهم في الدنيا فيكون قوله هنا ‏{‏حتى إذا جاء أحدهم الموت‏}‏ وصفاً أُنُفا لعذابهم في الآخرة‏.‏ وهو الذي رجحنا به أن يكون ما سبق ذكره من العذاب ثلاث مرات عذاباً في الدنيا لا في الآخرة‏.‏ فإن حملتَ العذاب السابق الذكر على عذاب الآخرة كان ذلك إجمالاً وكان قوله ‏{‏حتى إذا جاء أحدهم الموت‏}‏ إلى آخره تفصيلاً له‏.‏

وضمائر الغيبة عائدة إلى ما عادت عليه الضمائر السابقة من قوله ‏{‏قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 82‏]‏ إلى ما هنا وليست عايدة إلى الشياطين‏.‏ ولقصد إدماج التهديد بما سيشاهدون من عذاب أعدّ لهم فيندمون على تفريطهم في مدة حياتهم‏.‏

وضمير الجمع في ‏{‏ارجعون‏}‏ تعظيم للمخاطب‏.‏ والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها‏:‏ أنتم‏.‏ ولا يقال‏:‏ أنتن‏.‏ قال العرجي‏:‏

فإن شئتتِ حرَّمتُ النساء سواكم *** وإن شئتتِ لم أطعم نُقاخاً ولا بردا

فقال‏:‏ سواكم، وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة‏:‏

فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم *** لشيء ولا أني من الموت أفرق

فقال‏:‏ بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقَّف عليه‏.‏

وجملة الترجي في موضع العلة لمضمون ‏{‏ارجعون‏}‏‏.‏

والترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة‏.‏ وما صدق ‏{‏ما تركت‏}‏ عالم الدنيا‏.‏ ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر، فالمعنى‏:‏ لعلي أسلم وأعمل صالحاً في حالة إسلامي الذي كنت رفضته، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف‏.‏ ورُكب بهذا النظم الموجز قضاءً لحق البلاغة‏.‏

و ‏{‏كلاّ‏}‏ ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنها كلمة هو قائلها‏}‏ تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن‏.‏ وحاصل معناه‏:‏ أن قول المشرك ‏{‏رب ارجعون‏}‏ إلخ لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسانه لا جدوى له فيه، أي لا يستجاب طلبه به‏.‏

فجملة ‏{‏هو قائلها‏}‏ وصف ل ‏{‏كلمة‏}‏، أي هي كلمة هذا وصفها‏.‏ وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف ‏{‏كلمة‏}‏ به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملاً في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها‏.‏

وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف ‏(‏إن‏)‏ لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف‏.‏

والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل ***

وكما في قولهم‏:‏ كلمة الشهادة وكلمة الإسلام‏.‏ وتقدم قوله تعالى ‏{‏ولقد قالوا كلمة الكفر‏}‏ في سورة براءة ‏(‏74‏)‏‏.‏

والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه‏.‏ شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه، وهذا كقوله تعالى ‏{‏والله من ورائهم محيط‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 20‏]‏ وقوله ‏{‏ومن ورائهم جهنم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 10‏]‏ وقوله ‏{‏من ورائهم عذاب غليظ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وتقدم قوله‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وقال لبيد‏:‏

أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تُحنى عليها الأصابع

والبرزخ‏:‏ الحاجز بين مكانين‏.‏ قيل‏:‏ المراد به في هذه الآية القبر، وقيل‏:‏ هو بقاء مدة الدنيا، وقيل‏:‏ هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل، وإلى هذا مال الصوفية‏.‏ وقال السيد في «التعريفات»‏:‏ البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال اه، أي عند الفلاسفة القدماء‏.‏

ومعنى ‏{‏إلى يوم يبعثون‏}‏ أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث‏.‏ فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وُعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم ‏{‏إلى يوم يبعثون‏}‏ هو الذي أعلمهم بما هو البعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 104‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

تفريع على قوله ‏{‏إلى يوم يبعثون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ فإن زمن النفخ في الصور هو يوم البعث فالتقدير‏:‏ فإذا جاء يوم يبعثون، ولكن عدل عن ذلك إلى ‏{‏فإذا نفخ في الصور‏}‏ تصوير لحالة يوم البعث‏.‏

والصور‏:‏ البوق الذي ينفخ فيه النافخ للتجمع والنفير، وهو مما ينادى به للحرب وينادى به للصلاة عند اليهود كما جاء في حديث بدء الأذان من «صحيح البخاري»‏.‏ وتقدم ذكر الصور عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله الملك يوم ينفخ في الصور‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏73‏)‏‏.‏

وأسند ‏{‏نُفِخ‏}‏ إلى المجهول لأن المعتنى به هو حدوث النفخ لا تعيين النافخ‏.‏ وإنما يُنفخ فيه بأمر تكوين من الله تعالى، أو ينفخ فيه أحد الملائكة وقد ورد أنه الملك إسرافيل‏.‏

والمقصود التفريع الثاني في قوله ‏{‏فمن ثقلت موازينه‏}‏ إلى آخره لأنه مناط بيان الرد على قول قائلهم ‏{‏رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏ المردود إجمالاً بقوله تعالى ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ فقدم عليه ما هو كالتمهيد له وهو قوله ‏{‏فلا أنساب بينهم‏}‏ إلى آخره مبادرة بتأييسهم من أن تنفعهم أنسابهم أو استنجادهم‏.‏

والأظهر أن جواب ‏(‏إذا‏)‏ هو قوله الآتي ‏{‏قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 112‏]‏ كما سيأتي وما بينهما كله اعتراض نشأ بعضه عن بعض‏.‏

وضمير ‏{‏بينهم‏}‏ عائد إلى ما عادت عليه ضمائر جمع الغائبين قبله وهي عائدة إلى المشركين‏.‏

ومعنى نفي الأنساب نفي آثارها من النجدة والنصر والشفاعة لأن تلك في عرفهم من لوازم القرابة‏.‏ فقوله ‏{‏فلا أنساب بينهم‏}‏ كناية عن عدم النصير‏.‏

والتساؤل‏:‏ سؤال بعضهم بعضاً‏.‏ والمعنيّ به التساؤل المناسب لحلول يوم الهول، وهو أن يسأل بعضهم بعضاً المعونة والنجدة، كقوله تعالى ‏{‏ولا يسأل حميم حميماً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وأما إثبات التساؤل يومئذ في قوله تعالى ‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27 33‏]‏ فذلك بعد يأسهم من وجود نصير أو شفيع‏.‏ وفي «البخاري»‏:‏ أن رجلاً ‏(‏هو نافع بن الأزرق الخارجي‏)‏ قال لابن عباس‏:‏ إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ‏{‏فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون‏}‏ وقال ‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما قوله ‏{‏فلا أنساب بينهم‏}‏ فهو في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون اه‏.‏ يريد اختلاف الزمان وهو قريب مما قلناه‏.‏

وذكر من ‏{‏ثقلت موازينه‏}‏ في هذه الآية إدماج للتنويه بالمؤمنين وتهديد المشركين لأن المشركين لا يجدون في موازين الأعمال الصالحة شيئاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وتقدم الكلام على نظير قوله ‏{‏فمن ثقلت موازينه‏}‏ في أول سورة الأعراف ‏(‏8‏)‏‏.‏

والخسارة‏:‏ نقصان مال التجارة وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏12‏)‏، وقوله ‏{‏فأولئك الذين خسروا أنفسهم‏}‏ في أول الأعراف ‏(‏9‏)‏‏.‏ وهي هنا تمثيل لحال خيبتهم فيما كانوا يأملونه من شفاعة أصنامهم وأن لهم النجاة في الآخرة أو من أنهم غير صائرين إلى البعث، فكذبوا بما جاء به الإسلام وحسبوا أنهم قد أعدوا لأنفسهم الخير فوجدوا ضده فكانت نفوسهم مخسورة كأنها تَلِفَت منهم‏.‏ ولذلك نصب ‏{‏أنفسهم‏}‏ على المفعول ب ‏{‏خسروا‏}‏‏.‏ واسما الإشارة لزيادة تمييز الفريقين بصفاتهم‏.‏

وجملة ‏{‏تلفح وجوههم النار‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏‏.‏ ومعنى ‏{‏تلفح وجوههم النار‏}‏ تحرق‏.‏ واللفح‏:‏ شدة إصابة النار‏.‏

والكالح‏:‏ الذي به الكلوح وهو تقلص الشفتين وظهور الأسنان من أثر تقطب أعصاب الوجه عند شدة الألم‏.‏