فصل: تفسير الآية رقم (12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

استئناف لتوبيخ عصبة الإفك من المؤمنين وتعنيفهم بعد أن سماه إفكاً‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ هنا حرف بمعنى ‏(‏هلا‏)‏ للتوبيخ كما هو شأنها إذا وليها الفعل الماضي وهو هنا ‏{‏ظن المؤمنون‏}‏‏.‏ وأما ‏{‏إذ سمعتموه‏}‏ فهو ظرف متعلق بفعل الظن فقدم عليه ومحل التوبيخ جملة‏:‏ ‏{‏ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً‏}‏ فأسند السماع إلى جميع المخاطبين وخص بالتوبيخ من سمعوا ولم يكذبوا الخبر‏.‏

وجرى الكلام على الإبهام في التوبيخ بطريقة التعبير بصيغة الجمع وإن كان المقصود دون عدد الجمع فإن من لم يظن خيراً رجُلان، فعبر عنهما بالمؤمنين وامرأة فعبر عنها بالمؤمنات على حد قوله‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بأنفسهم خيراً‏}‏ وقع في مقابلة ‏{‏ظن المؤمنون والمؤمنات‏}‏ فيقتضي التوزيع، أي ظن كل واحد منهم بالآخرين ممن رموا بالإفك خيراً إذ لا يظن المرء بنفسه‏.‏

وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تلمزوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ أي يلمز بعضكم بعضاً، وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏‏.‏

روي أن أبا أيوب الأنصاري لما بلغه خبر الإفك قال لزوجه‏:‏ ألا ترين ما يقال‏؟‏ فقالت له‏:‏ لو كنتَ بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءاً‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وتقديم الظرف وهو ‏{‏إذ سمعتموه‏}‏ على عامله وهو ‏{‏قلتم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 16‏]‏ للاهتمام بمدلول ذلك الظرف تنبيهاً على أنهم كان من واجبهم أن يطرق ظن الخير قلوبهم بمجرد سماع الخير وأن يتبرؤا من الخوض فيه بفور سماعه‏.‏

والعدول عن ضمير الخطاب في إسناد فعل الظن إلى المؤمنين التفات، فمقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ ظننتم بأنفسكم خيراً، فعدل عن الخطاب للاهتمام بالتوبيخ فإن الإلتفات ضرب من الاهتمام بالخبر، وليُصرَّح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن‏.‏ وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام فإذا نسب سوءٌ إلى من عُرف بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان‏.‏ وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة فكفى بذلك تشنيعاً له‏.‏

وهذا توبيخ على عدم إعمالهم النظر في تكذيب قول ينادي حاله ببهتانه وعلى سكوتهم عليه وعدم إنكاره‏.‏

وعطف ‏{‏وقالوا هذا إفك مبين‏}‏ تشريع لوجوب المبادرة بإنكار ما يسمعه المسلم من الطعن في المسلم بالقول كما ينكره بالظن وكذلك تغيير المنكر بالقلب واللسان‏.‏

والباء في ‏{‏بأنفسهم‏}‏ لتعدية فعل الظن إلى المفعول الثاني لأنه متعد هنا إلى واحد إذ هو في معنى الاتهام‏.‏

والمبين‏:‏ البالغ الغاية في البيان، أي الوضوح كأنه لقوة بيانه قد صار يبين غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

استئناف ثان لتوبيخ العُصبة الذين جاءوا بالإفك وذم لهم‏.‏ و‏(‏لولا‏)‏ هذه مثل ‏(‏لولا‏)‏ السابقة بمعنى ‏(‏هلا‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الذي يخبر خبراً عن غير مشاهدة يجب أن يستند في خبره إلى إخبار مشاهد، ويجب كون المشاهدين المخبرين عدداً يفيد خبرهم الصدق في مثل الخبر الذي أخبروا به؛ فالذين جاءوا بالإفك اختلقوه من سوء ظنونهم فلم يستندوا إلى مشاهدة ما أخبروا به ولا إلى شهادة من شاهدوه ممن يقبل مثلهم فكان خبرهم إفكاً‏.‏ وهذا مستند إلى الحكم المتقرر من قبل في أول السورة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ فقد علمت أن أول سورة النور نزل أواخر سنة اثنتين أو أوائل سنة ثلاث قبل استشهاد مرثد بن أبي مرثد‏.‏

وصيغة الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏ للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذباً فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب‏.‏

واسم الإشارة لزيادة تمييزهم بهذه الصفة ليحذر الناس أمثالهم‏.‏

والتقييد بقوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ لزيادة تحقيق كذبهم، أي هو كذب في علم الله فإن علم الله لا يكون إلا موافقاً لنفس الأمر‏.‏ وليس المراد ما ذكره كثير من المفسرين أن معنى ‏{‏عند الله‏}‏ في شرعه لأن ذلك يصيره قيداً للاحتراز‏.‏ فيصير المعنى‏:‏ هم الكاذبون في إجراء أحكام الشريعة‏.‏ وهذا ينافي غرض الكلام ويجافي ما اقترن به من تأكيد وصفهم بالكذب؛ على أن كون ذلك هو شرع الله معلوم من قوله‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلودهم ثمانين جلدة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏‏.‏ فمسألة الأخذ بالظاهر في إجراء الأحكام الشرعية مسألة أخرى لا تؤخذ من هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏لولا‏}‏ هذه حرف امتناع لوجود‏.‏ والفضل في الدنيا يتعين أنه إسقاط عقوبة الحد عنهم بعفو عائشة وصفوان عنهم، وفي الآخرة إسقاط العقاب عنهم بالتوبة‏.‏ والخطاب للمؤمنين دون رأس المنافقين‏.‏ وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد حد القذف أحداً من العصبة الذين تكلموا في الإفك‏.‏ وهو الأصح من الروايات‏:‏ إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتاً وسراراً ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم‏.‏ وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في «صحيح البخاري» وكيف سمعت الخبر من أم مسطح وقولها‏:‏ أَوَ قَد تحدث بهذا وبلغ النبي وأبويّ‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ حد حسان ومسطحاً وحمنة، قاله ابن إسحاق وجماعة، وأما عبد الله بن أبيّ فقال فريق‏:‏ إنه لم يحد حد القذف تأليفاً لقلبه للإيمان‏.‏ وعن ابن عباس أن أبيّاً جلد حد القذف أيضاً‏.‏

والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه‏.‏ فالمعنى‏:‏ ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏إذ‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏أفضتم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 14‏]‏ والمقصود منه ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وبتفظيعها‏.‏

وأصل ‏{‏تلقونه‏}‏ تتلقونه بتاءين حذفت إحداهما‏.‏ وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏ أي علمها ولقنها، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير كما قال الشماخ‏:‏

إذا ما راية رُفعت لمجد *** تلقاها عَرابة باليمين

وفي الحديث‏:‏ «من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقاها الرحمن بيمينه‏.‏‏.‏» الحديث، وذلك بتشبيه التهيُؤ لأخذ المعطى بالتهيؤ للقاء الغير وذلك هو إطلاقه في قوله‏:‏ ‏{‏إذ تلقونه بألسنتكم‏}‏‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏بألسنتكم‏}‏ تشبيه الخبر بشخص وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ ويستعد للقائه استعارة مكنية فجعلت الألسن آلة للتلقي على طريقة تخييلية بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء‏.‏ وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر جعلت الألسن مكان الأسماع مجازاً بعلاقة الأيلولة‏.‏ وفيه تعريض بحرصهم على تلقي هذا الخبر فهم حين يتلقونه يبادرون بالإخبار به بلا ترو ولا تريث‏.‏ وهذا تعريض بالتوبيخ أيضاً‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وتقولون بأفواهكم‏}‏ فوجه ذكر ‏{‏بأفواهكم‏}‏ مع أن القول لا يكون بغير الأفواه أنه أريد التمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏ما ليس لكم به علم‏}‏، أي هو قول غير موافق لما في العلم ولكنه عن مجرد تصور لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه‏.‏

وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحققه وإلا فهو أحد رجلين‏:‏ أفن الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر فيوشك أن يقول الكذب فيحسبه الناس كذاباً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ب «حسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع» أو رجل مموه مُراء يقول ما يعتقد خلافه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 3‏]‏‏.‏

هذا في الخبر وكذلك الشأن في الوعد فلا يعد إلا بما يعلم أنه يستطيع الوفاء به‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»‏.‏

وزاد في توبيخهم بقوله‏:‏ ‏{‏وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم‏}‏، أي تحسبون الحديث بالقذف أمراً هيّناً‏.‏ وإنما حسبوه هيِّناً لأنهم استخفُّوا الغيبة والطعن في الناس استصحاباً لما كانوا عليه في مدة الجاهلية إذ لم يكن لهم وازع من الدين يرعهم فلذلك هم يحذرون الناس فلا يعتدون عليهم باليد وبالسب خشية منهم فإذا خلوا أمنوا من ذلك‏.‏

فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئاً هيناً وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق‏.‏

والهيِّن‏:‏ مشتق من الهوان، وهوان الشيء عدم توقيره واللمبالاة بشأنه، يقال‏:‏ هان على فلان كذا، أي لم يعد ذلك أمراً مهماً، والمعنى‏:‏ شيئاً هيِّناً‏.‏ وإنما حسبوه هيِّناً مع أن الحد ثابت قبل نزول الآية بحسب ظاهر ترتيب الآي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ الآية لجواز أنه لم تحدث قضية قذف فيما بين نزول تلك الآية ونزول هذه الآية، أو حدثت قضية عويمر العجلاني ولم يعلم بها أصحاب الإفك، أو حسبوه هيِّناً لغفلتهم عما تقدم من حكم الحد إذ كان العهد به حديثاً‏.‏ وفيه من أدب الشريعة أن احترام القوانين الشرعية يجب أن يكون سواء في الغيبة والحضرة والسرِّ والعلانية‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ في علم الله مما شرعه لكم من الحكم كما تقدم آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏ إلخ‏.‏ وأعيدت ‏(‏لولا‏)‏ وشرطها وجوابها لزيادة الاهتمام بالجملة فلذلك لم يعطف ‏{‏قلتم‏}‏ الذي في هذه الجملة على ‏{‏قلتم‏}‏ الذي في الجملة قبلها لقصد أن يكون صريحاً في عطف الجمل‏.‏

وتقديم الظرف وهو ‏{‏إذ سمعتموه‏}‏ على عامله وهو ‏{‏قلتم ما يكون لنا‏}‏ كتقديم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏ إلخ وهو الاهتمام بمدلول الظرف‏.‏

وضمير ‏{‏سمعتموه‏}‏ عائد إلى الإفك مثل الضمائر المماثلة له في الآيات السابقة‏.‏

واسم الإشارة عائد إلى الإفك بما يشتمل عليه من الاختلاق الذي يتحدث به المنافقون والضعفاء، فالإشارة إلى ما هو حاضر في كل مجلس من مجالس سماع الإفك‏.‏

ومعنى ‏{‏قلتم ما يكون لنا‏}‏ أن يقولوا للذين أخبروهم بهذا الخبر الآفك‏.‏ أي قلتم لهم زجراً وموعظة‏.‏

وضمير ‏{‏لنا‏}‏ مراد به القائلون والمخاطبون‏.‏ فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك‏.‏ والمعنى‏:‏ ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا، وأما المتكلمون فلتنزههم من أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم‏.‏

وإنما قال‏:‏ ‏{‏ما يكون لنا أن نتكلم بهذا‏}‏ دون أن يقول‏:‏ ليس لنا أن نتكلم بهذا، للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء‏.‏ وذلك أن قولك‏:‏ ما يكون لي أن أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك‏:‏ ليس لي أن أفعل‏.‏ ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام ‏{‏قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه‏:‏ ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه‏.‏ فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا هذا إفك مبين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏‏.‏

و ‏{‏سبحانك‏}‏ جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏ما يكون لنا أن نتكلم بهذا‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏هذا بهتان عظيم‏}‏‏.‏ و‏{‏سبحانك‏}‏ مصدر وقع بدلاً من فعله، أي نسبح سبحاناً لك‏.‏ وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وسبحان الله وما أنا من المشركين‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏108‏)‏‏.‏ والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدئ بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول‏:‏ ‏{‏هذا بهتان عظيم‏}‏ تبرّئاً من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه‏.‏

وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏هذا بهتان عظيم‏}‏ تعليل لجملة‏:‏ ‏{‏ما يكون لنا أن نتكلم بهذا‏}‏ فهي داخلة في توبيخ المقول لهم‏.‏

ووصف البهتان بأنه ‏{‏عظيم‏}‏ معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في كنه البهتان مبلغاً قوياً‏.‏

وإنما كان عظيماً لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي‏:‏ الكذب، وكون الكذب يطعن في سلامة العرض، وكونه يسبب إحناً عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم بدون عذر، وكون المفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله عنها‏.‏

والبهتان مصدر مثل الكفران والغفران‏.‏ والبهتان‏:‏ الخبر الكذب الذي يُبهت السامع لأنه لا شبهة فيه‏.‏ وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏156‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

بعد أن بيّن الله تعالى ما في خبر الإفك من تَبعات لحق بسببها للذين جاءوا به والذين تقبلوه عديدُ التوبيخ والتهديد، وافتضاحٌ للذين روّجوه وخيبةٌ مختلقة بنقيض قصدهم، وانتفاعٌ للمؤمنين بذلك، وبيّن بادئ ذي بدء أنه لا يحسب شراً لهم بل هو خير لهم، وأن الذين جاءوا به ما اكتسبوا به إلا إثماً، وما لحق المسلمين به ضر، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم عن سوء نية مختلقيه، وكيف ذهلوا عن ظن الخير بمن لا يعلمون منها إلا خيراً فلم يفندوا الخبر، وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سبباً للحاق العذاب بهم في الدنيا والآخرة، وكيف حسبوه أمراً هيّناً وهو عند الله عظيم، ولو تأملوا لعلموا عظمه عند الله، وسكوتَهم عن تغيير هذا؛ أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله من المجازفة في التلقي، ومن الاندفاع وراء كل ساع دون تثبت في مواطئ الأقدام، ودون تبصر في عواقب الإقدام‏.‏

والوعظ‏:‏ الكلام الذي يطلب به تجنب المخاطب به أمراً قبيحاً‏.‏ وتقدم في آخر سورة النحل ‏(‏125‏)‏‏.‏

وفعل ‏{‏يعظكم‏}‏ لا يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه، فالمصدر المأخوذ من ‏{‏أن تعودوا‏}‏ لا يكون معمولاً لفعل ‏{‏يعظكم‏}‏ إلا بتقدير شيء محذوف، أو بتضمين فعل الوعظ معنى فعل متعدّ، أو بتقدير حرف جر محذوف، فلك أن تضمّن فعل ‏{‏يعظكم‏}‏ معنى التحذير‏.‏ فالتقدير‏:‏ يحذركم من العود لمثله، أو يقدّر‏:‏ يعظكم الله في العود لمثله، أو يقدر حرف نفي، أي أن لا تعودوا لمثله، وحذف حرف النفي كثير إذا دل عليه السياق، وعلى كل الوجوه يكون في الكلام إيجاز‏.‏

والأبد‏:‏ الزمان المستقبل كله، والغالب أن يكون ظرفاً للنفي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ تهييج وإلهاب لهم يبعث حرصهم على أن لا يعودوا لمثله لأنهم حريصون على إثبات إيمانهم، فالشرط في مثل هذا لا يقصد بالتعليق، إذ ليس المعنى‏:‏ إن لم تكونوا مؤمنين فعودوا لمثله، ولكن لما كان احتمال حصول مفهوم الشرط مجتنباً كان في ذكر الشرط بعث على الامتثال، فلو تكلم أحد في الإفك بعد هذه الآية معتقداً وقوعه فمقتضى الشرط أنه يكون كافراً وبذلك قال مالك‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ قال هشام بن عمار‏:‏ «سمعت مالكاً يقول‏:‏ مَن سَبَّ أبا بكر وعمر أُدِّب، ومَن سَبَّ عائشة قُتل لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين‏}‏ فمن سَبَّ عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قُتل» اه‏.‏ يريد بالمخالفة إنكار ما جاء به القرآن نصاً وهو يرى أن المراد بالعود لمثله في قضية الإفك لأن الله برأها بنصوص لا تقبل التأويل، وتواتر أنها نزلت في شأن عائشة‏.‏ وذكر ابن العربي عن الشافعية أن ذلك ليس بكفر‏.‏ وأما السب بغير ذلك فهو مساو لسبِّ غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

‏{‏ويبين الله لكم الآيات‏}‏ أي يجعلها لكم واضحة الدلالة على المقصود والآيات‏:‏ آيات القرآن النازلة في عقوبة القذف وموعظة الغافلين عن المحرمات‏.‏

ومناسبة التذكير بصفتي العلم والحكمة ظاهرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين؛ فالجملة استئناف ابتدائي، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين‏.‏

وجُعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيهاً على أن محبة ذلك تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين‏.‏ ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيراً حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يُسَر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه‏.‏ وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار‏.‏ وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة‏.‏ وتلك المحبة شيء غير الهمّ بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب‏.‏ وهذا نظير الكناية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحض على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 3‏]‏ كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين‏.‏ فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله‏:‏ ‏{‏أن تشيع‏}‏ لأن ‏(‏أن‏)‏ تخلص المضارع للمستقبل‏.‏ وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏أن تشيع الفاحشة‏}‏ أن يشيع خبرها، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو‏:‏ اشتهار التحدث بها‏.‏ فتعين تقدير مضاف، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حداً عظيماً في الشناعة‏.‏

وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏15‏)‏‏.‏ وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏28‏)‏‏.‏ وتقدم الفحشاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يأمركم بالسوء والفحشاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏169‏)‏‏.‏

ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك يجب عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين‏.‏ ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويداً رويداً حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة‏.‏

هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضراً متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب‏.‏

ولهذا ذيل هذا الأدب الجليل بقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 15‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

هذه ثالث مرة كرر فيها ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته‏}‏ وحذف في الأول والثالث جواب ‏(‏لولا‏)‏ لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام‏.‏

وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظاً لأواصرها‏.‏

وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب‏.‏

وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت بعد العشر الآيات المتقدمة، فالجملة استئناف ابتدائي، ووقوعه عقب الآيات العشر التي في قضية الإفك مشير إلى أن ما تضمنته تلك الآيات من المناهي وظنون السوء ومحبة شيوع الفاحشة كله من وساوس الشيطان، فشبه حال فاعلها في كونه متلبساً بوسوسة الشيطان بهيئة الشيطان يمشي والعامل بأمره يتبع خطى ذلك الشيطان‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان‏}‏ تمثيل مبني على تشبيه حالة محسوسة بحالة معقولة إذ لا يعرف السامعون للشيطان خطوات حتى ينهوا على اتباعها‏.‏

وفيه تشبيه وسوسة الشيطان في نفوس الذين جاءوا بالإفك بالمشي‏.‏

‏{‏وخطْوات‏}‏ جمع خطوة بضم الخاء‏.‏ قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير بسكون الطاء كما هي في المفرد فهو جمع سلامة‏.‏ وقرأه من عداهم بضم الطاء لأن تحريك العين الساكنة أو الواقعة بعد فاء الاسم المضمومة أو المكسورة جائز كثير‏.‏

والخطوة بضم الخاء‏:‏ اسم لنقل الماشي إحدى قدميه التي كانت متأخرة عن القدم الأخرى وجعلها متقدمة عليها‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏168‏)‏‏.‏

و ‏(‏مَن‏)‏ شرطية ولذلك وقع فعل ‏{‏يتبع‏}‏ مجزوماً باتفاق القراء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر‏}‏ جواب الشرط، والرابط هو مفعول ‏{‏يأمر‏}‏ المحذوف لقصد العموم فإن عمومه يشمل فاعل فعل الشرط فبذلك يحصل الربط بين جملة الشرط وجملة الجواب‏.‏ وضميرا ‏{‏فإنه يأمر‏}‏ عائدان إلى الشيطان‏.‏ والمعنى‏:‏ ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر لأن الشيطان يأمر الناس بالفحشاء والمنكر، أي بفعلهما‏:‏ فمن يتبع خطوات الشيطان يقع في الفحشاء والمنكر لأنه من أفراد العموم‏.‏

والفحشاء‏:‏ كل فعل أو قول قبيح‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يأمركم بالسوء والفحشاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏169‏)‏‏.‏

والمنكر‏:‏ ما تنكره الشريعة وينكره أهل الخير‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينهون عن المنكر‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏104‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم‏}‏ الآية، أي لولا فضله بأن هداكم إلى الخير ورحمته بالمغفرة عند التوبة ما كان أحد من الناس زاكياً لأن فتنة الشيطان فتنة عظيمة لا يكاد يسلم منها الناس لولا إرشاد الدين، قال تعالى حكاية عن الشيطان ‏{‏قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏‏.‏

و ‏{‏زكى‏}‏ بتخفيف الكاف على المشهور من القراءات‏.‏ وقد كتب ‏{‏زكى‏}‏ في المصحف بألف في صورة الياء‏.‏ وكان شأنه أن يكتب بالألف الخالصة لأنه غير ممال ولا أصله ياء فإنه واوي اللام‏.‏ ورسم المصحف قد لا يجري على القياس‏.‏ ولا تعد قراءته بتخفيف الكاف مخالفة لرسم المصحف لأن المخالفة المضعِّفة للقراءة هي المخالفة المؤدية إلى اختلاف النطق بحروف الكلمة، وأما مثل هذا فمما يرجع إلى الأداء والرواية تعصم من الخطأ فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ تذييل بين الوعد والوعيد، أي سميع لمن يشيع الفاحشة، عليم بما في نفسه من محبّة إشاعتها، وسميع لمن ينكر على ذلك، عليم لما في نفسه من كراهة ذلك فيجازي كلاً على عمله‏.‏

وإظهار اسم الجلالة فيه ليكون التذييل مستقلاً بنفسه لأنه مما يجري مجرى المثل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏لا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 21‏]‏ عطف خاص على عام للاهتمام به لأنه قد يخفى أنه من خطوات الشيطان فإن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم أن الموسوس إليه من الذين يتوخون البر والطاعة، وأنه ممن يتعذر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة‏.‏

وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة المُطَّلبي إذ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه‏.‏ ولما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجداً في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية‏.‏ فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر، والمراد من أولي القربى ابتداء مسطح بن أثاثة، وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا‏:‏ والله لا نصل مَن تكلَّم في شأن عائشة‏.‏ فنزلت الآية في جميعهم‏.‏

ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏ قال أبو بكر‏:‏ بلى أحب أن يغفر الله لي‏.‏ ورجّع إلى مسطح وأهله ما كان ينفق عليهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكفّر أبو بكر عن يمينه، رواه عن عائشة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا يأتل‏}‏‏.‏ والايتلاء افتعال من الإلية وهي الحلف وأكثر استعمال الإلية في الحلف على امتناع، يقال‏:‏ آلى وائتلى‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏226‏)‏‏.‏ وقرأه أبو جعفر ‏{‏ولا يتألّ‏}‏ من تألّى تفعّل من الأليّة‏.‏

والفضل‏:‏ أصله الزيادة فهو ضد النقص، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا‏.‏ ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه وليس مراداً هنا لأن عطف ‏{‏والسعة‏}‏ عليه يبعد ذلك‏.‏ والمعنيّ من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق‏.‏

والسعة‏:‏ الغنى‏.‏ والأوصاف في قوله‏:‏ ‏{‏أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله‏}‏ مقتضية المواساة بانفرادها، فالحلف على ترك مواساة واحد منهم سد لباب عظيم من المعروف وناهيك بمن جمع الأوصاف كلها مثل مسطح الذي نزلت الآية بسببه‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ألا تحبون‏}‏ إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة وذلك العفو والصفح في قوله‏:‏ ‏{‏وليعفوا وليصفحوا‏}‏‏.‏ وفيه إشعار بأنه قد تعارض عن أبي بكر سبب المعروف وسبب البر في اليمين وتجهم الحنث وأنه أخذ بجانب البر في يمينه وترك جانب ما يفوته من ثواب الإنفاق ومواساة القرابة وصلة الرحم وكأنه قدم جانب التأثم على جانب طلب الثواب فنبهه الله على أنه يأخذ بترجيح جانب المعروف لأن لليمين مخرجاً وهو الكفارة‏.‏

وهذا يؤذن بأن كفارة اليمين كانت مشروعة من قبل هذه القصة ولكنهم كانوا يهابون الإقدام على الحنث كما جاء في خبر عائشة‏.‏ أن لا تكلم عبد الله بن الزبير حين بلغها قوله‏:‏ إنه يحجر عليها لكثرة إنفاقها المال‏.‏ وهو في «صحيح البخاري» في كتاب الأدب باب الهجران‏.‏

وعُطف ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏ زيادة في الترغيب في العفو والصفح وتطميناً لنفس أبي بكر في حنثه وتنبيها على الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏إن الذين يرمون المحصنات‏}‏ استئناف بعد استئناف قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 19‏]‏ والكل تفصيل للموعظة التي في قوله‏:‏ ‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 17‏]‏؛ فابتدئ بوعيد العود إلى محبة ذلك وثُني بوعيد العود إلى إشاعة القالة، فالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يرمون‏}‏ للاستقبال‏.‏ وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه‏.‏

و ‏{‏الغافلات‏}‏ هن اللاتي لا علم لهن بما رُمين به‏.‏ وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رُمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلاً عنه فالمعنى‏:‏ إن الذين يرمون المحصنات كذباً عليهن، فلا تحسب المرادَ الغافلات عن قول الناس فيهن‏.‏ وذكر وصف ‏{‏المؤمنات‏}‏ لتشنيع قذف الذين يقذفونهن كذباً لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعنوا‏}‏ إخبار عن لعن الله إياهم بما قدَّر لهم من الإثم وما شَرع لهم‏.‏

واللعن‏:‏ في الدنيا التفسيق، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، وحد القذف، واللعن في الآخرة‏:‏ الإبعاد من رحمة الله‏.‏

والعذاب العظيم‏:‏ عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعيّن هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة‏.‏

والظرف في قوله‏:‏ ‏{‏يوم تشهد عليهم‏}‏ متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبراً للمبتدأ في قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏‏.‏ وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون‏.‏

وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار‏.‏

وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏ لأن لهذه الأعضاء عملاً في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وخلف ‏{‏يشهد عليهم‏}‏ بالتحتية، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ يوفيهم الله دينهم‏}‏ استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالاً عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم‏.‏ فدينهم جزاؤهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏ملك يوم الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

و ‏{‏الحقَّ‏}‏ نعت للدين، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويعلمون أن الله هو الحق المبين‏}‏ أي ينكشف للناس أن الله الحق‏.‏ ووصف الله بأنه ‏{‏الحق‏}‏ وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق، كقول الخنساء‏:‏

ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار

وصفة الله بأنه ‏{‏الحق‏}‏ بمعنيين‏:‏

أولهما‏:‏ بمعنى الثابت الحاق، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم‏.‏

وعلى هذا المعنى في اسمه تعالى‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏ اقتصر الغزالي في «شرح الأسماء الحسنى»‏.‏

وثانيهما‏:‏ معنى أنه ذو الحق، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله‏:‏ ‏{‏دينهم الحق‏}‏‏.‏ وبه فسر صاحب «الكشاف» فيحتمل أنه أراد تفسير معنى الحق هنا، أي وصف الله بالمصدر وليس مراده تفسيرَ الاسم‏.‏ ويحتمل إرادة الإخبار عن الله بأنه صاحب هذا الاسم وهذا الذي درج عليه ابن برّجان الإشبيلي في كتابه «شرح الأسماء الحسنى» والقرطبي في «التفسير»‏.‏

و ‏{‏الحق‏}‏ من أسماء الله الحسنى‏.‏ ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر ب ‏{‏المبين‏}‏‏.‏ والمبين‏:‏ اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعدياً بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية، ويستعمل بمعنى بان، أي ظهر على اعتبار الهمزة زائدة، فلك أن تجعله وصفاً ل ‏{‏الحق‏}‏ بمعنى العدل كما صرح به في «الكشاف»، أي الحق الواضح‏.‏ ولك أن تجعله وصفاً لله تعالى بمعنى أن الله مبيَّن وهاد‏.‏ وإلى هذا نحا القرطبي وابن برَّجان، فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم ‏{‏المبين‏}‏‏.‏

فإن كان وصف الله ب ‏{‏الحق‏}‏ بالمعنى المصدري فالحصر المستفاد من ضمير الفصل ادعائي لعدم الاعداد ب ‏{‏الحق‏}‏ الذي يصدر من غيره من الحاكمين لأنه وإن يصادف المحز فهو مع ذلك معرض للزوال وللتقصير وللخطأ فكأنه ليس بحق أو ليس بمبين‏.‏ وإن كان الخبر عن الله بأنه ‏{‏الحق‏}‏ بالمعنى الاسمي لله تعالى فالحصر حقيقي إذ ليس اسم الحق مسمى به غير ذات الله تعالى، فالمعنى‏:‏ أن الله هو صاحب هذا الاسم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل تعلم له سميّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وعلى هذين الوجهين يجري الكلام في وصَفه تعالى ب ‏{‏المبين‏}‏‏.‏

ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين‏:‏ أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏الذين يرمون المحصنات الغافلات‏}‏ خصوص عبد الله بن أبي بن سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بله الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم لأنه زُين عند أنفسهم، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة ويعلمون أن الله هو الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله فجاعلين الحق ثابتاً لأصنامهم، فالقصر حيئنذ إضافي، أي يعلمون أن الله وحده دون أصنامهم‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏الذين يرمون المحصنات الغافلات‏}‏ عبد الله بن أبي بن سلول وحده فعبر عنه بلفظ الجمع لقصد إخفاء اسمه تعريضاً به، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

بعد أن برأ الله عائشة رضي الله عنها مما قال عصبة الإفك ففضحهم بأنهم ما جاؤا إلا بسيء الظن واختلاق القذف وتوعدهم وهددهم ثم تاب على الذين تابوا أنحى عليهم ثانية ببراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تكون له أزواج خبيثات لأن عصمته وكرامته على الله يأبى الله معها أن تكون أزواجه غير طيبات‏.‏ فمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم كافية في الدلالة على براءة زوجه وطهارة أزواجه كلهن‏.‏ وهذا من الاستدلال على حال الشيء بحال مقارنه ومماثله‏.‏ وفي هذا تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم، فقوله‏:‏ ‏{‏الخبيثات للخبيثين‏}‏ تعريض بالمنافقين المختلقين للإفك‏.‏

والابتداء بذكر ‏{‏الخبيثات‏}‏ لأن غرض الكلام الاستدلال على براءة عائشة وبقية أمهات المؤمنين‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للخبيثين‏}‏ لام الاستحقاق‏.‏ والخبيثات والخبيثون والطيبات والطيبون أوصاف جرت على موصوفات محذوفة يدل عليها السياق‏.‏ والتقدير في الجميع‏:‏ الأزواج‏.‏

وعطف ‏{‏والخبيثون للخبيثات‏}‏ إطناب لمزيد العناية بتقرير هذا الحكم ولتكون الجملة بمنزلة المثل مستقلة بدلالتها على الحكم وليكون الاستدلال على حال القرين بحال مقارنه حاصلاً من أي جانب ابتدأه السامع‏.‏

وذكر ‏{‏والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات‏}‏ إطناب أيضاً للدلالة على أن المقارنة دليل على حال القرينين في الخير أيضاً‏.‏

وعطف ‏{‏والطيبون للطيبات‏}‏ كعطف ‏{‏والخبيثون للخبيثات‏}‏‏.‏

وتقدم الكلام على الخبيث والطيب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليميز الله الخبيث من الطيب‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏37‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏38‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويحرّم عليهم الخبائث‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏157‏)‏‏.‏

وغلب ضمير التذكير في قوله‏:‏ ‏{‏مبرءون‏}‏ وهذه قضية كلية ولذلك حق لها أن تجري مجرى المثل وجعلت في آخر القصة كالتذييل‏.‏

والمراد بالخبث‏:‏ خبث الصفات الإنسانية كالفواحش‏.‏ وكذلك المراد بالطيب‏:‏ زكاء الصفات الإنسانية من الفضائل المعروفة في البشر فليس الكفر من الخبث ولكنه من متمماته‏.‏ وكذلك الإيمان من مكملات الطيب فلذلك لم يكن كفر امرأة نوح وامرأة لوط ناقضاً لعموم قوله‏:‏ ‏{‏الخبيثات للخبيثين‏}‏ فإن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 10‏]‏ أنهما خانتا زوجيهما بإبطان الكفر‏.‏ ويدل لذلك مقابلة حالهما بحال امرأة فرعون ‏{‏إذ قالت رب ابْننِ لي عندك بيتاً في الجنة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ونجني من القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والعدول عن التعبير عن الإفك باسمه إلى ‏{‏ما يقولون‏}‏ إلى أنه لا يعدو كونه قولاً، أي أنه غير مطابق للواقع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونرثه ما يقول‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 80‏]‏ لأنه لا مال له ولا ولد في الآخرة‏.‏

والرزق الكريم‏:‏ نعيم الجنة‏.‏ وتقدم أن الكريم هو النفيس في جنسه عند قوله‏:‏ ‏{‏درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏4‏)‏‏.‏

وبهذه الآيات انتهت زواجر قصة الإفك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور‏.‏ فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد‏.‏

وقد كان الاستئذان معروفاً في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل‏.‏ وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجاً للمزور أو مثقلاً عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها‏.‏

وشرع الاستئذان لمن يزور أحداً في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حرّ وقرّ ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يحب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب‏.‏

ومعنى ‏{‏تستأنسوا‏}‏ تطلبوا الأنس بكم، أي تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية‏.‏ وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان، أي أن يستأذن الداخل، أي يطلب إذناً من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل‏.‏ قال ابن وهب قال مالك‏:‏ الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان‏.‏ يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل‏.‏ ووقع لابن القاسم في «جامع العتيبة» أن الاستئناس التسليم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو بعيد‏.‏ وقلت‏:‏ أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف ‏{‏وتسلموا‏}‏ عطف تفسير‏.‏ وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عُبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان‏.‏

وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلاًّ على غيره، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية‏.‏

وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيهاً على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما‏.‏

وعن ابن سيرين‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أأدخل‏؟‏ فأمر النبي رجلاً عنده أو أَمَةً اسمها روضة فقال‏:‏ إنه لا يحسن أن يستأذن فليقُل‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏.‏ فسمعه الرجل فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏.‏ فقال‏:‏ ادْخلْ ‏"‏، وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم‏:‏ «أنه استأذن على عبد الله بن عمر فقال‏:‏ أألج‏.‏ فأذن له ابن عمر، فلما دخل قال له ابن عمر‏:‏ ما لك واستئذان العرب‏؟‏ ‏(‏يريد أهل الجاهلية‏)‏ إذا استأذنت فقل‏:‏ السلام عليكم‏.‏ فإذا رد عليك السلام فقل‏:‏ أأدخل، فإن أذن لك فادخل»‏.‏

وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان‏.‏ وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصاً بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارقَ فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافياً عن السلام‏.‏ قال المازري في كتاب «المعلم على صحيح مسلم»‏:‏ الاستئذان مشروع‏.‏ وقال ابن العربي في «أحكام القرآن» قال جماعة‏:‏ الاستئذان فرض والسلام مستحب‏.‏ وروي عن عطاء‏:‏ الاستئذان واجب على كل محتلم‏.‏ ولم يفصح عن حكم الاستئذان سوى فقهاء المالكية‏.‏ قال الشيخ أبو محمد في «الرسالة»‏:‏ الاستئذان واجب فلا تدخُلْ بيتاً فيه أحد حتى تستأذن ثلاثاً فإن أذن لك وإلا رجعت‏.‏ وقال ابن رشد في «المقدمات»‏:‏ الاستئذان واجب‏.‏ وحكى أبو الحسن المالكي في «شرح الرسالة» الإجماع على وجوب الاستئذان‏.‏ وقال النووي في «شرح صحيح مسلم»‏:‏ الاستئذان مشروع‏.‏ وهي كلمة المازري في «شرح مسلم»‏.‏

وأقول‏:‏ ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتض مساواتَهما في الحكم إذا كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاظ في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان‏.‏

وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب‏.‏ فالقرآن أمر بالحالة الكاملة وأحال تفصيل أجزائها على تبيين السنة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقد أجملت حكمة الاستئذان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون‏}‏ أي ذلكم الاستئذان خير لكم، أي فيه خير لكم ونفع فإذا تدبرتم علمتم ما فيه من خير لكم كما هو المرجو منكم‏.‏

وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه، وورد في أحاديث كثيرة الأمر بتقديم السلام على الاستئذان فيكون ذلك أولى ولا يعارض الآية‏.‏

وليس للاستئذان صيغة معينة‏.‏ وما ورد في بعض الآثار فإنما محمله على أنه المتعارف بينهم أو على أنه كلام أجمع من غيره في المراد‏.‏ وقد بينت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف‏.‏

وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب في «صحيح البخاري» وهو ما روي‏:‏ «عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور قال‏:‏ استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يأذن لي فرجعت ‏(‏وفسره في رواية أخرى بأن عمر كان مشتغلاً ببعض أمره ثم تذكر فقال‏:‏ ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس‏؟‏ قالوا‏:‏ استأذن ثلاثاً ثم رجع‏)‏ فأرسل وراءه فجاء أبو موسى فقال عمر‏:‏ ما منعك‏؟‏ قال قلت‏:‏ استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت‏.‏ ‏"‏ وقال رسول الله‏:‏ إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع ‏"‏ فقال عمر‏:‏ والله لتقيمن عليه بينة‏.‏ قال أبو موسى‏:‏ أمنكم أحد سمعه من النبي‏؟‏ فقال أبيّ بن كعب‏:‏ والله لا يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك‏.‏ فقال عمر‏:‏ خفِي عليّ هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق‏.‏

وقد علم أن الاستئذان يقتضي إذناً ومنعاً وسكوتاً فإن أذن له فذاك وإن منع بصريح القول فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم‏}‏‏.‏ والضمير عائد إلى الرجوع المفهوم من ‏{‏ارجعوا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏ازكى لكم‏}‏ أنه أفضل وخير لكم من أن يأذنوا على كراهية‏.‏ وفي هذا أدب عظيم وهو تعليم الصراحة بالحق دون المواربة ما لم يكن فيه أذى‏.‏ وتعليم قبول الحق لأنه أطمن لنفس قابله من تلقي ما لا يدري أهو حق أم مواربة، ولو اعتاد الناس التصارح بالحق بينهم لزالت عنهم ظنون السوء بأنفسهم‏.‏

وأما السكوت فهو ما بيّن حكمه حديث أبي موسى‏.‏ وفعل ‏{‏تسلموا‏}‏ معناه تقولوا‏:‏ السلام عليكم، فهو من الأفعال المشتقة من حكاية الأقوال الواقعة في الجمل مثل‏:‏ رحّب وأهّل، إذا قال‏:‏ مرحباً وأهلاً، وحيّا، إذا قال‏:‏ حيَّاك الله، وجزّأ إذ قال له‏:‏ جزاك الله خيراً‏.‏ وسهَّل، إذا قال‏:‏ سهلاً، أي حللت سهلاً‏.‏ قال البعيث بن حريث‏:‏

فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً *** فردت بتأهيل وسهل ومرحبِ

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ‏"‏‏.‏ وهي قريبة من النحت مثل‏:‏ بسمل، إذا قال‏:‏ باسم الله، وحسبل، إذا قال‏:‏ حسبنا الله‏.‏

و ‏{‏على أهلها‏}‏ يتعلق ب ‏{‏تسلموا‏}‏ لأنه أصله من بقية الجملة التي صيغ منها الفعل التي أصلها‏:‏ السلام عليكم، كما يعدى رحَّب به، إذا قال‏:‏ مرحباً بك، وكذلك أهّل به وسهّل به‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وصيغة التسليم هي‏:‏ السلام عليكم‏.‏ وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ونهى أبا جُزَي الهجيمي عن أن يقول‏:‏ عليك السلام‏.‏ وقال له‏:‏ إن عليك السلام تحية الميت ثلاثاً، أي الابتداء بذلك‏.‏ وأما الرد فيقول‏:‏ وعليك السلام بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ورحمة الله‏.‏ أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان‏.‏ وتقدم السلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تجدوا فيها أحداً‏}‏ إلخ للاحتراس من أن يظن ظان أن المنازل غير المسكونة يدخلها الناس في غيبة أصحابها بدون إذن منهم توهماً بأن علة شرع الاستئذان ما يَكره أهل المنازل من رؤيتهم على غير تأهب بل العلة هي كراهتهم رؤية ما يحبون ستره من شؤونهم‏.‏ فالشرط هنا يشبه الشرط الوصلي لأنه مراد به المبالغة في تحقيق ما قبله ولذلك ليس له مفهوم مخالفة‏.‏

والغاية في قوله‏:‏ ‏{‏حتى يؤذن لكم‏}‏ لتأكيد النهي بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تدخلوها‏}‏ أي حتى يأتي أهلها فيأذنوا لكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏ تذييل لهذه الوصايا بتذكيرهم بأن الله عليم بأعمالهم ليزدجر أهل الإلحاح عن إلحاحهم بالتثقيل، وليزدجر أهل الحيل أو التطلع من الشقوق ونحوها‏.‏ وهذا تعريض بالوعيد لأن في ذلك عصياناً لما أمر الله به‏.‏ فعلمه به كناية عن مجازاته فاعليه بما يستحقون‏.‏

وخطاب ‏{‏لا تدخلوا‏}‏ يعم وهو مخصوص بمفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏ كما سيأتي‏.‏ ولذا فإن المماليك والأطفال مخصصون من هذا العموم كما سيأتي‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بيوتاً‏}‏ حيثما وقع بكسر الباء‏.‏ وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء‏.‏ وقد تقدم في سورة آل عمران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

هذا تخصيص لعموم قوله‏:‏ ‏{‏بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ بالبيوت المعدة للسكنى، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة على طرق المسافرين لنزولهم، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متاعهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم، وتسمى الخانات جمع خان بالخاء المعجمة فهو اسم معرب من الفارسية‏.‏ ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعاً وأقتاباً وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم‏.‏

وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق‏.‏ وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع، والحمامات، وحوانيت التجار، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شؤونه‏.‏ فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏غير مسكونة‏}‏ أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة‏.‏

وأما الخوانيق ‏(‏جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاهْ‏)‏ وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور، فلا استئذان بين قطانها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فيها متاع لكم‏}‏ صفة ثانية ل ‏{‏بيوتاً‏}‏‏.‏

والمتاع‏:‏ الجهاز من العروض والسلع والرحال‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏فيها متاع‏}‏ أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول‏.‏ ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه بدلالة لحن الخطاب‏.‏ وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس‏.‏

وقد فسر المتاع بالمصدر، أي التمتع والانتفاع‏.‏ قال جابر بن زيد‏:‏ كل منافع الدنيا متاع‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ هذا شرح حسن من قول إمام من أيمة المسلمين وهو موافق للغة، وتبعه على ذلك في «الكشاف»‏.‏ ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏ مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاجاً إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

أعقب حكم الاستئذان ببيان آداب ما تقتضيه المجالسة بعد الدخول وهو أن لا يكون الداخل إلى البيت محدقاً بصره إلى امرأة فيه بل إذا جالسته المرأة غض بصره واقتصر على الكلام ولا ينظر إليها إلا النظر الذي يعسر صرفه‏.‏

ولما كان الغض التام لا يمكن جيء في الآية بحرف ‏{‏من‏}‏ الذي هو للتبعيض إيماء إلى ذلك إذ من المفهوم أن المأمور بالغض فيه هو ما لا يليق تحديق النظر إليه وذلك يتذكره المسلم من استحضاره أحكام الحلال والحرام في هذا الشأن فيعلم أن غض البصر مراتب‏:‏ منه واجب ومنه دون ذلك، فيشمل غض البصر عما اعتاد الناس كراهية التحقق فيه كالنظر إلى خبايا المنازل، بخلاف ما ليس كذلك فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب حين دخل مشربة النبي صلى الله عليه وسلم «فرفعت بصري إلى السقف فرأيت أهَبَةً معلقة»‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ «لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية»‏.‏

وفي هذا الأمر بالغض أدب شرعي عظيم في مباعدة النفس عن التطلع إلى ما عسى أن يوقعها في الحرام أو ما عسى أن يكلفها صبراً شديداً عليها‏.‏

والغض‏:‏ صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر‏.‏ ويكون من الحياء كما قال عنترة‏:‏

وأغض طرفي حين تبدو جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها

ويكون من مذلة كما قال جرير‏:‏

فغض الطرف إنك من نمير ***

ومادة الغض تفيد معنى الخفض والنقص‏.‏

والأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار لأن النظر رائد الزنى‏.‏ فلما كان ذريعة له قصد المتذرع إليه بالحفظ تنبيهاً على المبالغة في غض الأبصار في محاسن النساء‏.‏ فالمراد بحفظ الفروج حفظها من أن تباشر غير ما أباحه الدين‏.‏

واسم الإشارة إلى المذكور، أي ذلك المذكور من غض الأبصار وحفظ الفروج‏.‏

واسم التفضيل بقوله‏:‏ ‏{‏أزكى‏}‏ مسلوب المفاضلة‏.‏ والمراد تقوية تلك التزكية لأن ذلك جنة من ارتكاب ذنوب عظيمة‏.‏

وذيل بجملة‏:‏ ‏{‏إن الله خبير بما يصنعون‏}‏ لأنه كناية عن جزاء ما يتضمنه الأمر من الغض والحفظ لأن المقصد من الأمر الامتثال‏.‏

‏(‏31‏)‏ ‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النسآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النسآء‏}‏‏.‏

أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة، وتصريحاً بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضاً‏.‏ ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكاباً لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضاً‏.‏

وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعوّدْن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في لفظ الزينة بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏‏.‏

والزينة‏:‏ ما يحصل به الزين‏.‏ والزين‏:‏ الحسن، مصدر زانه‏.‏ قال عمر بن أبي ربيعة‏:‏

جلل الله ذلك الوجه زَيْناً

يقال‏:‏ زين بمعنى حسن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏زين للناس حب الشهوات‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏14‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏وزيناها للناظرين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏16‏)‏‏.‏

والزينة قسمان خِلقية ومكتسبة‏.‏ فالخلقية‏:‏ الوجه والكفان أو نصف الذراعين، والمكتسبة‏:‏ سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء‏.‏ وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏32‏)‏، وعلى اللباس الحسن في قوله ‏{‏قال موعدكم يوم الزينة‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏‏.‏ والتزين يزيد المرأة حسناً ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال، فلذلك نهى النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر‏.‏

واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ إن الزينة نوعان‏:‏ خلقية ومصطنعة‏.‏ فأما الخلقية‏:‏ فمعظم جسد المرأة وخاصة‏:‏ الوجه والمعصمين والعضدين والثديين والساقين والشعر‏.‏ وأما المصطنعة‏:‏ فهي ما لا يخلو عنه النساء عرفاً مثل‏:‏ الحلي وتطريز الثياب وتلوينها ومثل الكحل والخضاب بالحناء والسواك‏.‏ والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين‏.‏ والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدوّ أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدمالج‏.‏

واختلف في السوار والخلخال والصحيح أنهما من الزينة الظاهرة وقد أقر القرآن الخلخال بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏ كما سيأتي‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ روى ابن القاسم عن مالك‏:‏ ليس الخضاب من الزينة اه ولم يقيده بخضاب اليدين‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ والخضاب من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين‏.‏

فمعنى ‏{‏ما ظهر منها‏}‏ ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان‏.‏

وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر‏.‏ وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلاً الانتفاع بها أو مدخلاً حرجاً على صاحبتها وذلك الوجه والكفان، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية‏.‏ فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء؛ ففي مذهب مالك قولان‏:‏ أشهرهما أنها يجب ستر قدميها، وقيل‏:‏ لا يجب، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجب ستر قدميها، أما ما كان من محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها‏.‏ وروى مالك في «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ‏"‏ قال ابن عبد البر‏:‏ أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر، أي هن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة اه‏.‏ وفي نسخة ابن بشكوال من «الموطأ» عن القنازعي قال فسر مالك‏:‏ إنهن يلبسن الثياب الرقاق التي لا تسترهن اه‏.‏ وفي سماع ابن القاسم من «جامع العتبية» قال مالك‏:‏ بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي‏.‏ قال ابن رشد في «شرحه»‏:‏ هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها، وتبدي ما يستحسن منها، امتثالاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ اه‏.‏ وفي روايات ابن وهب من «جامع العتبية» قال مالك في الإماء يلبسن الأقبية‏:‏ ما يعجبني فإذا شدته عليها كان إخراجاً لعجزتها‏.‏

وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه‏.‏ وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه‏.‏

ونُهِين عن التساهل في الخِمرة‏.‏ والخمار‏:‏ ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أُمرْنَ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏‏.‏

والضرب‏:‏ تمكين الوضع وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيِ أن يضرب مثلاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ ليشددن وضع الخمر على الجيوب، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد‏.‏

والباء في قوله ‏{‏بخمرهن‏}‏ لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل ‏{‏يضربن‏}‏‏.‏

والجُيوب‏:‏ جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة‏.‏ والمعنى‏:‏ وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجَيب ما يظهر منه الجيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن‏}‏ أعيد لفظ ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ تأكيداً لقوله ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا لبعولتهن‏}‏ إلخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على ‏{‏إلا لبعولتهن‏}‏ لبعد ما بين الأول والثاني، أي ولا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذُكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجاً عليها‏.‏

وذكرت الآية اثني عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم‏.‏ وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى‏.‏ وسنذكر ذلك عند الفراغ من ذكر المصرح بهم في الآية‏.‏

والبعولة‏:‏ جمع بعل‏.‏ وهو الزوج، وسيد الأَمَة‏.‏ وأصل البعل الرب والمالك ‏(‏وسمي الصنم الأكبر عند أهل العراق القدماء بعْلاً وجاء ذكره في القرآن في قصة أهل نينوى ورسولهم إلياس‏)‏، فأطلق على الزوج لأن أصل الزواج ملك وقد بقي من آثار الملك فيه الصداق لأنه كالثمن‏.‏ ووزن فعولة في الجموع قليل وغير مطرد وهو مزيد التاء في زنة فعول من جموع التكسير‏.‏

وكل من عد من الرجال الذين استُثْنوا من النهي هم من الذين لهم بالمرأة صلة شديدة هي وازع من أن يهموا بها‏.‏ وفي سماع ابن القاسم من كتاب «الجامع من العتبية»‏:‏ سئل مالك عن الرجل تضع أم امرأته عنده جلبابها قال‏:‏ لا بأس بذلك‏.‏ قال ابن رشد في «شرحه»‏:‏ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن‏}‏ الآية، فأباح الله تعالى أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب أو الصهر ا ه‏.‏ أي قاس مالك زوج بنت المرأة على ابن زوج المرأة لاشتراكهما في حُرمة الصهر‏.‏

والإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏نسائهن‏}‏ إلى ضمير ‏{‏المؤمنات‏}‏‏:‏ إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص فقيل المراد نساء أُمَّتِهن، أي المؤمنات، مثل الإضافة في قوله تعالى‏:‏

‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، أي من رجال دينكم‏.‏ ويجوز أن يكون المراد أو النساء‏.‏ وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة إتباعاً لبقية المعدود‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ إن في هذه الآية خمسة وعشرين ضميراً فجاء هذا للإتباع ا ه‏.‏ أي فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضيه الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ أي ألهمها الفجور والتقوى‏.‏ فإضافتهما إلى الضمير إتباع للضمائر التي من أول السورة‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏ وكذلك قوله فيها‏:‏ ‏{‏كذبت ثمود بطغواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11‏]‏ أي بالطغوى وهي الطغيان فذكر ضمير ثمود مستغنى عنه لكنه جيء به لمحسن المزاوجة‏.‏

ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبي من جسدها‏.‏ وكلام المفسرين من المالكية وكلام فقهائهم في هذا غير مضبوط‏.‏ والذي يستخلص من كلامهم قول خليل في «التوضيح» عند قول ابن الحاجب‏:‏ وعورة الحرة ما عدا الوجه والكفين‏.‏ ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله بن الحاج‏:‏ أما الكافرة فكالأجنبية مع الرجال اتفاقاً ا ه‏.‏

وفي مذهب الشافعي قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن غير المسلمة لا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين ورجحه البغوي وصاحب «المنهاج» البيضاوي واختاره الفخر في «التفسير»‏.‏ ونقل مثل هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وعلله ابن عباس بأن غير المسلمة لا تتورع عن أن تصف لزوجها المسلمة‏.‏ وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح‏:‏ «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنعْ من ذلك وحُلْ دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عِرْيَة المسلمة»‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن المرأة غير المسلمة كالمسلمة ورجحه الغزالي‏.‏

ومذهب أبي حنيفة كذلك فيه قولان‏:‏ أصحهما أن المرأة غير المسلمة كالرجل الأجنبي فلا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين والقدمين، وقيل‏:‏ هي كالمرأة المسلمة‏.‏

وأما ما ملكت أيمانهن فهو رخصة لأن في ستر المرأة زينتها عنهم مشقة عليها‏.‏ لكثرة ترددهم عليها‏.‏ ولأن كونه مملوكاً لها وازع له ولها عن حدوث ما يحرم بينهما، والإسلام وازع له من أن يصف المرأة للرجال‏.‏

وأما التابعون غير أولي الإربة من الرجال فهم صنف من الرجال الأحرار تشترك أفراده في الوصفين وهما التبعية وعدم الإربة‏.‏

فأما التبعية فهي كونهم من أتباع بيت المرأة وليسوا ملك يمينها ولكنهم يترددون على بيتها لأخذ الصدقة أو للخدمة‏.‏

والإربة‏:‏ الحاجة‏.‏ والمراد بها الحاجة إلى قربان النساء‏.‏ وانتفاء هذه الحاجة تظهر في المجبوب والعنين والشيخ الهرم فرخص الله في إبداء الزينة لنظر هؤلاء لرفع المشقة عن النساء مع السلامة الغالبة من تطرق الشهوة وآثارها من الجانبين‏.‏

واختلف في الخصي غير التابع هل يلحق بهؤلاء على قولين مرويين عن السلف‏.‏

وقد روي القولان عن مالك‏.‏ وذكر ابن الفرس‏:‏ أن الصحيح جواز دخوله على المرأة إذا اجتمع فيه الشرطان التبعيّة وعدم الإربة‏.‏ وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان‏.‏

وأما قضية ‏(‏هيتٍ‏)‏ المخنث أو المخصي ونهى النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يدخلن عليهن فتلك قضية عين تعلقت بحالة خاصة فيه‏.‏ وهي وصفه النساء للرجال فتقصى على أمثاله‏.‏ ألا ترى أنه لم ينه عن دخوله على النساء قبل أن يسمع منه ما سمع‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏غير أولي الإربة‏}‏ بخفض ‏{‏غير‏}‏‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بنصب ‏{‏غير‏}‏ على الحال‏.‏

والطفل مفرد مراد به الجنس فلذلك أجري عليه الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏الذين لم يظهروا‏}‏ وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏ثم نخرجكم طفلاً‏}‏ ‏[‏الحجّ‏:‏ 5‏]‏ أي أطفالاً‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ لم يطلعوا عليها‏.‏ وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء وذلك ما قبل سن المراهقة‏.‏

ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك‏:‏ فقال الحسن والجمهور‏:‏ هما مساويان لمن ذكر من المحارم وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع‏.‏ وقال الشعبي بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم‏.‏ وهذا تعليل واهٍ لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة‏.‏

والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة، فالتعداد جرى على الغالب‏.‏ ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ‏"‏‏.‏ وجزم بذلك الحسن، ولم أر فيه قولاً للمالكية‏.‏ وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر‏.‏

‏{‏وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ‏}‏‏.‏

الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله‏:‏ يضرب في الأرض‏.‏

روى الطبري عن حضرمي‏:‏ أن امرأة اتخذت بُرتين ‏(‏تثنية بُرَة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخَلْخَال‏)‏ من فضة واتخذت جَزْعاً في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية‏.‏

والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجاً وتباهياً بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة‏.‏

قال الزجاج‏:‏ سماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من النظر للزينة فأما صوتُ الخلخال المعتادُ فلا ضير فيه‏.‏

وفي أحاديث ابن وهب من «جامع العتبية»‏:‏ سئل مالك عن الذي يكون في أرجل النساء من الخلاخل قال‏:‏ «ما هذا الذي جاء فيه الحديث وتركُه أحب إليّ من غير تحريم»‏.‏

قال ابن رشد في «شرحه«‏:‏ أراد أن الذي يحرمُ إنما هو أن يقصدْنَ في مشيهن إلى إسماع قعقعة الخلاخل إظهاراً بهن من زينتهن‏.‏

وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يُذَكِّرَ الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يُرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغَزَل‏.‏ ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه‏.‏ وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏ ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن‏.‏

قال مكي بن أبي طالب ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه الآية جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع وسماها أبو بكر ابن العربي‏:‏ آية الضمائر‏.‏

‏{‏وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين والمؤمنات بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعاً لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم‏.‏

والجملة معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ووقع التفات من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع‏.‏

ونبه بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا‏.‏

وتقدم الكلام على التوبة في سورة النساء ‏(‏17‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما التوبة على الله‏.‏‏}‏ وكتب في المصحف ‏{‏أيه‏}‏ بهاء في آخره اعتباراً بسقوط الألف في حال الوصل مع كلمة ‏{‏المؤمنون‏}‏‏.‏ فقرأها الجمهور بفتح الهاء بدون ألف في الوصل‏.‏ وقرأها أبو عامر بضم الهاء إتباعاً لحركة ‏(‏أيّ‏)‏‏.‏ ووقف عليها أبو عمرو والكسائي بألف في آخرها‏.‏ ووقف الباقون عليها بسكون الهاء على اعتبار ما رسمت به‏.‏