فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

أُعقِب تمثيل ضلال أهل الضلالة وكيف حرمهم الله الهدى في قوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39، 40‏]‏ بطلب النظر والاعتبار كيف هدى الله تعالى كثيراً من أهل السماوات والأرض إلى تنزيه الله المقتضي الإيمان به وحده، وبما ألهم الطير إلى أصواتها المعربة عن بهجتها بنعمة وجودها ورزقها الناشئَين عن إمداد الله إياها بهما فكانت أصواتها دلائل حال على تسبيح الله وتنزيهه عن الشريك، فأصواتها تسبيح بلسان الحال‏.‏

والجملة استئناف ابتدائي ومناسبته ما علمت‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏ استئناف ثاننٍ وهو من تمام العبرة إذ أودع الله في جميع أولئك ما به ملازمتهم لما فُطروا عليه من تعظيم الله وتنزيهه‏.‏

فتسبيح العقلاء حقيقة، وتسبيح الطير مجاز مرسل في الدلالة على التنزيه‏.‏ وفيه استعمال لفظ التسبيح في حقيقته ومجازه، ولذلك خولف بينهما في الجملة الثانية فعبر بالصلاة والتسبيح مراعاة لاختلاف حال الفريقين‏:‏ فريق العقلاء‏.‏ وفريق الطير وإن جمعتهما كلمة ‏{‏كل‏}‏ فأطلق على تسبيح العقلاء اسم الصلاة لأنه تسبيح حقيقي‏.‏ فالمراد بالصلاة الدعاء وهو من خصائص العقلاء، وليس في أحوال الطير ما يستقيم إطلاق الدعاء عليه على وجه المجاز وأبقي لدلالة أصوات الطير اسم التسبيح لأنه يطلق مجازاً على الدلالة بالصوت بعلاقة الإطلاق وذلك على التوزيع؛ ولولا إرادة ذلك لقيل‏:‏ كل قد علم تسبيحه، أو كل قد علم صلاته‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد من يَبلُغ إليه، أو الخطاب لغير معيّن فيعم كل مخاطب كما هو الشأن في أمثاله‏.‏

والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حال فريق المشركين الذين هم من أصحاب العقول ومع ذلك قد حرموا الهدى لما لم يجعله الله فيهم‏.‏ وقد جعل الهدى في العجماوات إذ جبلها على إدراك أثر نعمة الوجود والرزق‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والصافّات من صفات الطير يراد به صفهن أجنحتهن في الهواء حين الطيران‏.‏ وتخصيص الطير بالذكر من بين المخلوقات للمقابلة بين مخلوقات الأرض والسماء بذكر مخلوقات في الجو بين السماء والأرض ولذلك قيّدت ب ‏{‏صافات‏}‏‏.‏

وفعل ‏{‏علم‏}‏ مراد به المعرفة لظهور الفرق بين علم العقلاء بصلاتهم وعلم الطير بتسبيحها فإن الثاني مجرد شعور وقصد للعمل‏.‏

وضمائر ‏{‏علم صلاته وتسبيحه‏}‏ راجعة إلى ‏{‏كل‏}‏ لا محالة‏.‏

ولو كان المراد بها التوزيع على من في السماوات والأرض والطير من جهة وعلى اسم الجلالة من جهة لوقع ضمير فصل بعد ‏{‏علم‏}‏ فلكان راجعاً إلى الله تعالى‏.‏

والرؤية هنا بصرية لأن تسبيح العقلاء مشاهد لكل ذي بصر، وتسبيح الطير مشاهد باعتبار مسماه فما على الناظر إلا أن يعلم أن ذلك المسمى جدير باسم التسبيح‏.‏

وعلى هذا الاعتبار كان الاستفهام الإنكاري مكين الوقع‏.‏

وإن شئت قلت‏:‏ إن جملة ‏{‏ألم تر‏}‏ جارية مجرى الأمثال في كلام البلغاء فلا التفات فيها إلى معنى الرؤية‏.‏

وقيل‏:‏ الرؤية هنا قلبية‏.‏ وأغنى المصدر عن المفعولين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله عليم بما يفعلون‏}‏ تذييل وهو إعلام بسعة علم الله تعالى الشامل للتسبيح وغيره من الأحوال‏.‏

والإتيان بضمير جمع العقلاء تغليب‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏243‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏6‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

تحقيق لما دل عليه الكلام السابق من إعطائه الهدى للعجماوات في شؤونه وحرمانه إياه فريقاً من العقلاء فلو كان ذلك جارياً على حسب الاستحقاق لكان هؤلاء أهدى من الطير في شأنهم‏.‏

وتقديم المعمولين للاختصاص، أي أن التصرف في العوالم لله لا لغيره‏.‏

وفي هذا انتقال إلى دلالة أحوال الموجودات على تفرد الله تعالى بالخلق ولذلك أعقب بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجماوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيراً لا يتغير، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف‏.‏ وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله ‏{‏فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء‏}‏‏.‏

وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي‏.‏

و ‏{‏يزجي‏}‏‏:‏ يسوق‏.‏ يقال‏:‏ أزجى الإبل إزجاء‏.‏

وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيهِ بالسوْق حتى يصير سحاباً كثيفاً، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يؤلف بينه‏}‏ الخ‏.‏

وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏والسحاب المسخر‏}‏ وفي أول سورة الرعد ‏(‏12‏)‏‏.‏

ودخلت ‏(‏بين‏)‏ على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرئ القيس‏:‏

بَيْن الدخول فحَوْمَل ***

أي يؤلف بين السحابات منه‏.‏

والركام‏:‏ مشتق من الركم‏.‏ والركم‏:‏ الجمع والضم‏.‏ ووزن فُعال وفُعالة يدل على معنى المفعول‏.‏ فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يَروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم‏}‏ في سورة الطور ‏(‏44‏)‏‏.‏

فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق‏.‏ فقال بعض المفسرين‏:‏ هو الودق‏.‏ وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة، والمطر يخرج من خلال السحاب‏.‏

والخلال‏:‏ الفتوق، جمع خَلَل كجبل وجبال‏.‏ وتقدم ‏{‏خلال الديار‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏5‏)‏‏.‏

ومعنى ‏{‏ينزل من السماء‏}‏ يُسقط من علو إلى سفل، أي يُنزل من جو السماء إلى الأرض‏.‏ والسماء‏:‏ الجو الذي فوق جهة من الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من جبال‏}‏ بدل من ‏{‏السماء‏}‏ بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال‏.‏

وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف‏.‏ يقال‏:‏ فلان جبل علم، وطود علم‏.‏ وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان لي مثل أحُد ذهباً لسَرّني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئاً أرصده لدين» أي ما كان يسرني، فالكلام بمعنى النفي، أي لمَا سرني‏.‏ أو لما كان سرني الخ‏.‏

وحرف ‏{‏من‏}‏ الأول للابتداء و‏{‏من‏}‏ الثاني كذلك و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من برد‏}‏ مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة ‏{‏من‏}‏ في الإثبات‏.‏

أو تكون ‏{‏من‏}‏ اسماً بمعنى بعض‏.‏

ومفعول ‏{‏ينزل‏}‏ محذوف يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فيها من برد‏}‏ والتقدير‏:‏ يُنزل بَرداً‏.‏

ووقوع ‏{‏من‏}‏ زائدة لقصد مشاكلة قوله‏:‏ ‏{‏من جبال‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فيصيب به من يشاء‏}‏ جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على أنها حلول مكروه‏.‏ ومن ذلك سميت المصيبةَ الحادثةُ المكروهة‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تصبك حسنة تسؤهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 50‏]‏ فلأن قوله‏:‏ ‏{‏حسنة‏}‏ قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازاً مرسلاً وإما مشتركاً لفظياً أو مشتركاً معنوياً فإن ‏(‏أصاب‏)‏ مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر، فجعل نزول البرَد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة، فضمير ‏{‏به‏}‏ للبرَد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار‏}‏ وصف ل ‏{‏سحاباً‏}‏‏.‏ وضمير ‏{‏برقه‏}‏ عائد إلى ‏{‏سحاباً‏}‏‏.‏ وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكوّن السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرَد، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرْق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة‏.‏ ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر‏.‏

والسنا مقصوراً‏:‏ ضوء البرق وضوء النار‏.‏ وأما السناء الممدود فهو الرفعة‏.‏ قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود‏:‏

زال السنا عن ناظري *** ه وزال عن شرف السناء

ولام التعريف في ‏{‏بالأبصار‏}‏ لام الحقيقة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار‏}‏ هو كقوله في سورة البقرة ‏(‏20‏)‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ سوى أن هذه الآية زيد فيها لفط ‏{‏سنا‏}‏ لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضياً للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين‏:‏ بتكوين البرق في السحاب‏.‏ وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار‏.‏ وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه قوارع ومصائب‏.‏

ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب ‏{‏يذهب بالأبصار‏}‏ وهنالك بقوله‏:‏ ‏{‏يخطف أبصارهم‏}‏ لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في ‏{‏يذهب‏}‏ إذ هو مجرد الاستلاب‏.‏

وأما التعبير هنا ب ‏{‏الأبصار‏}‏ معرفاً باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله‏:‏ ‏{‏أن يأكله الذئب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 13‏]‏ وقولهم‏:‏ ادخل السوق، لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي‏.‏ بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافاً إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معاداً وإن كان المعنى متحداً ولا تجد حق الإيجاز فائتاً فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحروف والنطق‏.‏ وهكذا نرى بلاغة القرآن وإعجازه وحلاوة نظمه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يذهب‏}‏ بفتح التحتية وفتح الهاء، فالباء للتعدية، أي يُذهب الأبصار‏.‏ وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

التقليب تغيير هيئة إلى ضدها ومنه ‏{‏فأصبح يُقلب كفيه على ما أنفق فيها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ أي يدير كفيه من ظاهر إلى باطن، فتقليب الليل والنهار تغيير الأفق من حالة الليل إلى حالة الضياء ومن حالة النهار إلى حالة الظلام، فالمقلَّب هو الجو بما يختلف عليه من الأعراض ولكن لما كانت حالة ظلمة الجو تُسمى ليلاً وحالة نوره تسمى نهاراً عُبر عن الجو في حالتيه بهما، وعدي التقليب إليهما بهذا الاعتبار‏.‏

ومما يدخل في معنى التقليب تغيير هيئة الليل والنهار بالطول والقصر‏.‏ ولرعي تكرر التقلب بمعنييه عبر بالمضارع المقتضي للتكرر والتجدد‏.‏

والكلام استئناف‏.‏ وجيء به مستأنفاً غير معطوف على آيات الاعتبار المذكورة قبله لأنه أريد الانتقال من الاستدلال بما قد يخفى على بعض الأبصار إلى الاستدلال بما يشاهده كل ذي بصر كل يوم وكل شهر فهو لا يكاد يخفى على ذي بصر‏.‏ وهذا تدرج في موقع هذه الجملة عقب جملة ‏{‏يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ كما أشرنا إليه آنفاً‏.‏ ولذلك فالمقصود من الكلام هو جملة ‏{‏إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار‏}‏، ولكن بني نظم الكلام على تقديم الجملة الفعلية لما تقتضيه من إفادة التجدد بخلاف أن يقال‏:‏ إن في تقليب الليل والنهار لعبرة‏.‏

والإشارة الواقعة في قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ إلى ما تضمنه فعل ‏{‏يقلب‏}‏ من المصدر‏.‏ أي إن في التقليب‏.‏ ويرجح هذا القصد ذكر العبرة بلفظ المفرد المنكر‏.‏

والتأكيد ب ‏{‏إن‏}‏ إما لمجرد الاهتمام بالخبر وإما لتنزيل المشركين في تركهم الاعتبار بذلك منزلة من ينكر أن في ذلك عبرة‏.‏

وقيل‏:‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ إلى جميع ما ذكر آنفاً ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله يزجي سحاباً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ فيكون الإفراد في قوله‏:‏ ‏{‏لعبرة‏}‏ ناظراً إلى أن مجموع ذلك يفيد جنس العبرة الجامعة لليقين بأن الله هو المتصرف في الكون‏.‏

ولم تَرد العبرة في القرآن معرّفة بلام الجنس ولا مذكورة بلفظ الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏‏}‏

لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققاً كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيداً لأمرين‏:‏ التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي‏.‏ والتجدد بكون الخبر فعلياً‏.‏

وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب‏.‏

واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏يخلق الله ما يشاء‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏والله خلق كل دابة‏}‏ بصيغة فعل المضي ونصب ‏{‏كل‏}‏‏.‏ وقرأه الكسائي ‏{‏والله خالق كل دابة‏}‏ بصيغة اسم الفاعل وجر ‏{‏كل‏}‏ بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله‏.‏

والدابة‏:‏ ما دبّ على وجه الأرض، أي مشى‏.‏ وغُلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مراداً به الإنسان وغيره مرتين‏.‏

وتنكير ‏{‏ماء‏}‏ لإرادة النوعية تنبيهاً على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار‏.‏

وهذا بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا من الماء كل شيء حي‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏ إذ قُصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالاً ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله‏.‏ وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية ‏{‏وجعلنا من الماء كل شيء حيّ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏{‏خلق‏}‏‏.‏

ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشيٍ متمكنةٍ أعجب من الماشي على رجلين، وهذا المشي زحفاً‏.‏ أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع‏.‏ وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يخلق الله ما يشاء‏}‏ زيادة في العبرة، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا‏.‏ فهي جملة مستأنفة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ تعليل وتذييل‏.‏ ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كلاماً مستقلاً بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

تذييل للدلائل والعبر السالفة وهو نتيجة الاستدلال ولذلك ختم بقوله‏:‏ ‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏، أي إن لم يهتد بتلك الآيات أهل الضلالة فذلك لأن الله لم يهدهم لأنه يهدي من يشاء‏.‏ والمراد بالآيات هنا آيات القرآن كما يقتضيه فعل ‏{‏أنزلنا‏}‏ ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها بعكس قوله السابق ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏‏.‏

ولما كان المقصود من هذا إقامة الحجة دون الامتنان لم يقيد إنزال الآيات بأنه إلى المسلمين كما قيد في قوله تعالى قبله‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ كما تقدم‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏مبينات‏}‏ بفتح الياء على صيغة اسم المفعول، أي بيَّنها الله ووضحها ببلاغتها وقوة حجتها‏.‏ وقرأ الباقون بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل، فإسناد التبيين إلى الآيات على هذه القراءة مجاز عقلي لأنها سبب البيان‏.‏

والمعنى أن دلائل الحق ظاهرة ولكن الله يقدِّر الهداية إلى الحق لمن يشاء هدايته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

عطف جملة‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 46‏]‏ لما تتضمنه جملة‏:‏ ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏ من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى‏:‏ ‏{‏من يشاء‏}‏‏.‏ وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشأ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم أهل النفاق‏.‏ فبعد أن ذُكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفارُ الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها‏.‏

وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن، على أنهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله‏:‏ ‏{‏رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فكلا الفريقين موسوم بالنفاق، ولكن أحدهما استمر على النفاق والمواربة وفريقاً لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علناً‏.‏

ففي قوله‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخللِ الإيمان في قلوبكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتُها في سورة البقرة‏.‏ ومفعول ‏{‏أطعنا‏}‏ محذوف دل عليه ما قبله، أي أطعنا الله والرسول‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وما أولئك‏}‏ إلى ضمير ‏{‏يقولون‏}‏، أي يقولون آمنّا وهم كاذبون في قولهم‏.‏ وإنما يظهر كفرهم عندما تحل بهم النوازل والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح جعله إشارة إلى ‏{‏فريق‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إذا فريق منهم معرضون‏}‏ لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان‏.‏

فالضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا‏}‏ عائد إلى معاد ضمير ‏{‏يقولون‏}‏‏.‏ وإسناد فعل ‏{‏دعوا‏}‏ إلى جميعهم وإن كان المعرضون فريقاً منهم لا جميعهم للإشارة إلى أنهم سواء في التهيؤ إلى الإعراض ولكنهم لا يظهرونه إلا عندما تحل بهم النوازل فالمعرضون هم الذين حلت بهم الخصومات‏.‏

وقد شملت الآية نفراً من المنافقين كانوا حلت بهم خصومات فأبوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحكم عليهم أو بعدما حكم عليهم فلم يُرضهم حكمه، فروى المفسرون أن بشْراً أحد الأوس أو الخزرج تخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع يهودي فلما حكم النبي لليهودي لم يرض بشر بحكمه ودعاه إلى الحكم عند كعب بن الأشرف اليهودي فأبى اليهودي وتساوقا إلى عمر بن الخطاب فقصّا عليه القضية فلما علم عمر أن بشْراً لم يرض بحكم النبي قال لهما‏:‏ مكانكما حتى آتيكما‏.‏

ودخل بيته فأخرج سيفه وضرب بشراً بالسيف فقتله‏.‏ فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر يومئذٍ الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، أي فرق بينهما بالمشاهدة‏.‏ وقيل‏:‏ إن أحد المنافقين اسمه المغيرة بن وائل من الأوس من بني أمية بن زيد الأوسي تخاصم مع علي بن أبي طالب في أرض اقتسماها ثم كره أمية القسم الذي أخذه فرام نقض القسمة وأبى علي نقضها ودعاه إلى الحكومة لدى النبي صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة‏:‏ أما محمد فلست آتية لأنه يُبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك‏}‏ الآية في سورة النساء ‏(‏60‏)‏‏.‏

ومن سماجة الأخبار ما نقله الطبرسي الشيعي في تفسيره المسمى «مجمع البيان» عن البلخي أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال‏:‏ بيني وبينك رسول الله‏.‏ فقال له الحكم بن أبي العاص إن حاكمته إلى ابن عمه يحكمْ له فلا تحاكمه إليه‏.‏ فنزلت الآيات‏.‏ وهذا لم يروه أحد من ثقات المفسرين ولا أشك في أنه مما اعتيد إلصاقه ببني أمية من تلقاء المشوهين لدولتهم تطلعا للفتنة، والحكم بن أبي العاص أسلم يوم الفتح وسكن المدينة وهل يظن به أن يقول مثل هذه المقالة بين مسلميْن‏.‏

وإنما جعل الدعاء إلى الله ورسوله كليهما مع أنهم دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حكم الرسول حكم الله لأنه لا يحكم إلا عن وحي‏.‏ ولهذا الاعتبار أفرد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ليحكم‏}‏ العائد إلى أقرب مذكور ولم يقل‏:‏ ليحكما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه‏}‏ أي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

ومعنى‏:‏ ‏{‏وإن يكن لهم الحق‏}‏ أنه يكون في ظن صاحب الحق ويقينه أنه على الحق‏.‏ ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فعُلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون‏.‏ وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل، وشأن المبطل أن يأبى العدل لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق‏.‏

وهذا وجه موقع جملة‏:‏ ‏{‏أفى قلوبهم مرض‏}‏ إلى آخرها‏.‏

ووقع حرف ‏{‏إذا‏}‏ المفاجأة في جواب ‏{‏إذا‏}‏ الشرطية لإفادة مبادرتهم بالإعراض دون تريث لأنهم قد أيقنوا من قبل بعدالة الرسول وأيقنوا بأن الباطل في جانبهم فلم يترددوا في الإعراض‏.‏

والإذعان‏:‏ الانقياد والطاعة‏.‏

ولما كان هذا شأناً عجيباً استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية لأنهم كانوا يظهرون خلافها‏.‏

وأُتبع بعض الاستفهامات بعضاً بحرف ‏{‏أم‏}‏ المنقطعة التي هي هنا للإضراب الانتقالي كشأنها إذا عطفت الجمل الاستفهامية فإنها إذا عطفت الجمل لم تكن لطلب التعيين كما هي في عطف المفردات لأن المتعاطفات بها حينئذٍ ليست مما يطلب تعيين بعضه دون بعض، وأما معنى الاستفهام فملازم لها لأنه يقدر بعد ‏{‏أم‏}‏‏.‏

والانتقال هنا تدرج في عدّ أخلاقهم‏.‏ فالمعنى أنه إن سأل سائل عن اتصافهم بخُلق من هذه المذكورات علم المسؤول أنهم متصفون به، فكان الاستفهام المكرر ثلاث مرات مستعملاً في التنبيه مجازاً مرسلاً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏195‏)‏‏.‏

والقلوب‏:‏ العقول‏.‏ والمرض مستعار للفساد أو للكفر قال تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏ أو للنفاق‏.‏

وأتي في جانب هذا الاستفهام بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات المرض في قلوبهم وتأصله فيها بحيث لم يدخل الإيمان في قلوبهم‏.‏

والارتياب‏:‏ الشك‏.‏ والمراد‏:‏ ارتابوا في حقيّة الإسلام، أي حدث لهم ارتياب بعد أن آمنوا إيماناً غير راسخ‏.‏

وأتي في جانبه بالجملة الفعلية المفيدة للحدوث والتجدد، أي حدث لهم ارتياب بعد أن اعتقدوا الإيمان اعتقاداً مزلزلاً‏.‏ وهذا يشير إلى أنهم فريقان‏:‏ فريق لم يؤمنوا ولكنهم أظهروا الإيمان وكتموا كفرهم، وفريق آمنوا إيماناً ضعيفاً ثم ظهر كفرهم بالإعراض‏.‏

والحيف‏:‏ الظلم والجور في الحكومة‏.‏ وجيء في جانبه بالفعلين المضارعين للإشارة إلى أنه خوف في الحال من الحيف في المستقبل كما يقتضيه دخول ‏{‏أن‏}‏، وهي حرف الاستقبال، على فعل ‏{‏يحيف‏}‏‏.‏ فهم خافوا من وقوع الحيف بعد نشر الخصومة فمن ثمة أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

وأسند الحيف إلى الله ورسوله بمعنى أن يكون ما شرعه الإسلام حيفاً لا يظهر الحقوق‏.‏ وهذا كناية عن كونهم يعتقدون أنه غير منزل من الله وأن يكون حكم الرسول بغير ما أمر الله، فهم يطعنون في الحكم وفي الحاكم وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بأن شريعة الإسلام منزلة من الله ولا يؤمنون بأن محمداً عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله، فالكلام كناية عن إنكارهم أن تكون الشريعة إلهية وأن يكون الآتي بها صادقاً فيما أتى به‏.‏

واعلم أن المنافقين اتصفوا بهذه الأمور الثلاثة وكلها ناشئة عن عدم تصديقهم الرسول سواء في ذلك من حلت به قضية ومن لم تحل‏.‏

وفيما فسرنا به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفي قلوبهم مرض‏}‏ ما يثلج صدر الناظر ويخرج به من سكوت الساكت وحيرة الحائر‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ للإضراب الانتقالي من الاستفهام التنبيهي إلى خبر آخر‏.‏ ولم يؤت في هذا الإضراب ب ‏{‏أم‏}‏ لأن ‏{‏أم‏}‏ لا بد معها من معنى الاستفهام، وليس المراد عطف كونهم ظالمين على الاستفهام المستعمل في التنبيه بل المراد به إفادة اتصافهم بالظلم دون غيرهم لأنه قد اتضح حالهم فلا داعي لإيراده بصيغة استفهام التنبيه‏.‏ وليست ‏{‏بل‏}‏ هنا للإبطال لأنه لا يستقيم إبطال جميع الأقسام المتقدمة فإن منها مرض قلوبهم وهو ثابت، ولا دليل على قصد إبطال القسم الأخير خاصة، ولا على إبطال القسمين الآخرين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أولئك هم الظالمون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع بعد أن طنت بأذنه تلك الاستفهامات الثلاثة ثم أعقبت بحرف الإضراب يترقب ماذا سيُرسي عليه تحقيق حالهم فكان قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الظالمون‏}‏ بياناً لما يترقبه السامع‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم يخافون أن يحيف الرسول عليهم ويظلمهم‏.‏ وليس الرسول بالذي يظلم بل هم الظالمون‏.‏ فالقصر الحاصل من تعريف الجزأين ومن ضمير الفصل حصر مؤكَّد، أي هم الظالمون لا شرعُ الله ولا حكم رسوله‏.‏

وزاد اسم الإشارة تأكيداً للخبر فحصل فيه أربعة مؤكدات‏:‏ اثنان من صيغة الحصر إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيداً على تأكيد، والثالث ضمير الفصل، والرابع اسم الإشارة‏.‏

واسم الإشارة الموضوع للتمييز استعمل هنا مجازاً لتحقيق اتصافهم بالظلم، فهم يقيسون الناس على حسب ما يقيسون أنفسهم، فلما كانوا أهل ظلم ظنوا بمن هو أهل الإنصاف أنه ظالم كما قال أبو الطيب‏:‏

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم

ولا تعلق لهذه الآية بحكم من دعي إلى القاضي للخصومة فامتنع لأن الذم والتوبيخ فيها كانا على امتناع ناشئ عن كفرهم ونفاقهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن الإخبار عن الذين يعرضون عندما يدعون إلى الحكومة بأنهم ليسوا بالمؤمنين في حين أنهم يظهرون الإيمان يثير سؤال سائل عن الفاصل الذي يميز بين المؤمن الحق وبين الذي يرائي بإيمانه في حين يُدعى إلى الحكومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتضي أن يبين للسائل الفرق بين الحالين لئلا يلتبس عنده الإيمان المزور بالإيمان الصادق، فقد كان المنافقون يموهون بأن إعراض من أعرض منهم عن التحاكم عند رسول الله ليس لتزلزل في إيمانه بصدق الرسول ولكنه إعراض لمراعاة أعراض من العلائق الدنيوية كقول بشْر‏:‏ إن الرسول يُبغضني‏.‏ فبيّن الله بطلان ذلك بأن المؤمن لا يرتاب في عدل الرسول وعدم مصانعته‏.‏

وقد أفاد هذا الاستئناف أيضاً الثناء على المؤمنين الأحقاء بضد ما كان ذماً للمنافقين‏.‏ وذلك من مناسبات هذا الاستئناف على عادة القرآن في إرداف التوبيخ بالترغيب والوعيد بالوعد والنذارة بالبشارة والذم بالثناء‏.‏

وجيء بصيغة الحصر ب ‏{‏إنما‏}‏ لدفع أن يكون مخالف هذه الحالة في شيء من الإيمان وإن قال بلسانه إنه مؤمن، فهذا القصر إضافي، أي هذا قول المؤمنين الصادقين في إيمانهم لا كقول الذين أعرضوا عن حكم الرسول حين قالوا‏:‏ ‏{‏آمنا بالله وبالرسول وأطعنا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏ فلما دعوا إلى حكم الرسول عصوا أمره فإن إعراضهم نقيض الطاعة، وسيأتي بيانه قريباً‏.‏ وليس قصراً حقيقياً لأن أقوال المؤمنين حين يدعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم غير منحصرة في قول‏:‏ ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ ولا في مرادفه، فلعل منهم من يزيد على ذلك‏.‏

وفي «الموطأ» من حديث زيد بن خالد الجهني‏:‏ ‏"‏ أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما‏:‏ يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله ‏(‏يعني وهو يريد أن رسول الله يقضي له كما وقع التصريح في رواية الليث بن سعد في «البخاري» أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله فقال‏:‏ أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله‏)‏‏.‏ وقال الآخر وهو أفقههما‏:‏ أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم ‏(‏يريد لا تقض له علي فأذَنْ لي أن أبين‏)‏ فقال رسول الله تكلم‏.‏‏.‏ ‏"‏ الخ‏.‏

وليس المراد بقول ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ خصوص هذين اللفظين بل المراد لفظهما أو مرادفهما للتسامح في مفعول فعل القول أن لا يحكى بلفظه كما هو مشهور‏.‏ وإنما خص هذان اللفظان بالذكر هنا من أجل أنهما كلمة مشهورة تقال في مثل هذه الحالة وهي مما جرى مجرى المثل كما يقال أيضاً «سمع وطاعة» بالرفع و«سمعاً وطاعة» بالنصب، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا‏}‏

في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وفي حديث أبي هريرة‏:‏ «قال النبي للأنصار‏:‏ تكفوننا المؤونة ونَشْرِكُكم في الثمرة‏.‏ فقال الأنصار‏:‏ سمعنا وأطعنا»‏.‏ و‏{‏قول المؤمنين‏}‏ خبر ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏أن يقولوا‏}‏ هو اسم ‏{‏كان‏}‏ وقدم خبر كان على اسمها متابعة للاستعمال العربي لأنهم إذا جاؤوا بعد ‏{‏كان‏}‏ بأن والفعل لم يجيئوا بالخبر إلا مقدماً على الاسم نظراً إلى كون المصدر المنسبك من أن والفعل أعرفَ من المصدر الصريح، ولم يجيئوا بالخبر إلا مقدماً كراهية توالي أداتين وهما‏:‏ ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏أن‏}‏‏.‏ ونظائر هذا الاستعمال كثيرة في القرآن‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏‏.‏

وجيء في وصف المؤمنين بالفلاح بمثل التركيب الذي وصف به المنافقون بالظلم بصيغة القصر المؤكد ليكون الثناء على المؤمنين ضداً لمذمة المنافقين تاماً‏.‏

واعلم أن القصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ هنا قصر إفراد لأحد نوعي القول‏.‏ فالمقصود منه الثناء على المؤمنين برسوخ إيمانهم وثبات طاعتهم في المنشط والمكره‏.‏ وفيه تعريض بالمنافقين إذ يقولون كلمة الطاعة ثم ينقضونها بضدها من كلمات الإعراض والارتياب‏.‏ ونظير هذه الآية في طريق قصر ب ‏(‏إلاّ‏)‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

الواو اعتراضية أو عاطفة على جملة ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وهم الفائزون‏.‏ فجاء نظم الكلام على هذا الإطناب ليحصل تعميم الحكم والمحكوم عليه‏.‏ وموقع هذه الجملة موقع تذييل لأنها تعم ما ذكر قبلها من قول المؤمنين ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏ وتشمل غيره من الطاعات بالقول أو بالفعل‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ شرطية عامة، وجملة‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ جواب الشرط‏.‏ والفوز‏:‏ الظفر بالمطلوب الصالح‏.‏ والطاعة‏:‏ امتثال الأوامر واجتناب النواهي‏.‏

والخشية‏:‏ الخوف‏.‏ وهي تتعلق بالخصوص بما عسى أن يكون قد فُرّط فيه من التكاليف على أنها تعم التقصير كله‏.‏

والتقوى‏:‏ الحذر من مخالفة التكاليف في المستقبل‏.‏

فجمعت الآية أسباب الفوز في الآخرة وأيضاً في الدنيا‏.‏

وصيغة الحصر للتعريض بالذين أعرضوا إذا دعوا إلى الله ورسوله وهي على وزن صيغة القصر التي تقدمتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ويقولون ءامنا بالله وبالرسول‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏‏.‏ أتبعت حكاية قولهم ذلك بحكاية قسم أقسموه بالله ليتنصلوا من وصمة أن يكون إعراضهم عن الحكومة عند الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءوه فأقسموا إنهم لا يضمرون عصيانه فيما يقضي به فإنه لو أمرهم الرسول بأشق شيء وهو الخروج للقتال لأطاعوه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ لما بيّن كراهتهم لحكم النبي أتوه فقالوا‏:‏ والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا لخرجنا ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وكلام القرطبي يقتضي أنهم ذكروا خروجيْن‏.‏ وبذلك يكون من الإيجاز في الآية حذف متعلق الخروج ليشمل ما يطلق عليه لفظ الخروج من حقيقة ومجاز بقرينة ما هو معروف من قصة سبب نزول الآية يومئذٍ، فإنه بسبب خصومة في مال فكان معنى الخروج من المال أسبق في القصد‏.‏ واقتصر جمهور المفسرين على أن المراد ليخرجُنّ من أموالهم وديارهم‏.‏ واقتصر الطبري على أن المراد ليخرجن إلى الجهاد على اختلاف الرأيين في سبب النزول‏.‏

والإقسام‏:‏ النطق بالقسم، أي اليمين‏.‏

وضمير ‏{‏أقسموا‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏ويقولون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 47‏]‏‏.‏ والتعبير بفعل المضي هنا لأن ذلك شيء وقع وانقضى‏.‏

والجَهْد بفتح الجيم وسكون الهاء منتهى الطاقة‏.‏ ولذلك يطلق على المشقة كما في حديث بدء الوحي ‏"‏ فغَطْني حتى بلغ منِّي الجَهْد ‏"‏ لأن الأمر الشاق لا يعمل إلا بمنتهى الطاقة‏.‏ وهو مصدر «جَهَد» كمنع متعدياً إذا أتعب غيره‏.‏

ونَصْبُ ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ يجوز أن يكون على الحال من ضمير ‏{‏أقسموا‏}‏ على تأويل المصدر باسم الفاعل كقوله ‏{‏لا تأتيكم إلا بغتة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، أي جاهدين‏.‏ والتقدير‏:‏ جاهدين أنفسهم، أي بالغين بها أقصى الطاقة وهذا على طريقة التجريد‏.‏ ومعنى ذلك‏:‏ أنهم كرّروا الأيمان وعدّدوا عباراتها حتى أتعبوا أنفسهم ليوهموا أنهم صادقون في أيمانهم‏.‏ وإضافة ‏{‏جهد‏}‏ إلى ‏{‏أيمانهم‏}‏ على هذا الوجه إضافة على معنى ‏(‏من‏)‏، أي جهداً ناشئاً عن أيمانهم‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏جهد‏}‏ منصوباً على المفعول المطلق الواقع بدلاً من فعله‏.‏ والتقدير‏:‏ جَهَدوا أيمانهم جَهداً‏.‏ والفعل المقدر في موضع الحال من ضمير ‏{‏أقسموا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ أقسموا يَجْهَدون أيمانهم جهداً‏.‏ وإضافة ‏{‏جهد‏}‏ إلى ‏{‏أيمانهم‏}‏ على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ جعلت الأيمان كالشخص الذي له جَهد، ففيه استعارة مكنية، ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو أن أحداً يجهده، أي يستخرج منه طاقته فإن كل إعادة لليمين هي كتكليف لليمين بعمل متكرر كالجهد له، فهذا أيضاً استعارة‏.‏

وتقدم الكلام على شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏

في سورة العقود ‏(‏53‏)‏ وقوله‏:‏ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏109‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لئن أمرتهم‏}‏ الخ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏أقسموا‏}‏‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏أمرتهم‏}‏ لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏ليخرجن‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ لئن أمرتهم بالخُروج ليَخرُجن‏.‏

فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المَعَاني الكثيرة وهي ‏{‏لا تقسموا طاعة معروفة‏}‏‏.‏ وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهياً عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته، بمعنى‏:‏ لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم، أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذباً‏.‏

ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في معنى عدم المطالبة بالقسم، أي ما كان لكم أن تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم‏.‏

ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في التسوية مثل ‏{‏اصبروا أوْ لاَ تصْبروا سواء عليكم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ويحتمل أن يكون النهي مستعملاً في حقيقته والمُقسم عليه محذوف، أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك‏.‏ ومقام مواجهة نفاقهم يقتضي أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏طاعة معروفة‏}‏ كلام أُرسِل مثلاً وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏لا تقسموا‏}‏‏.‏

وتنكير ‏{‏طاعة‏}‏ لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب‏:‏ تمرة خير من جَرادة، و‏{‏معروفة‏}‏ خبره‏.‏

فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملاً في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم، أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة، أي معروف وهنها وانتفاؤها‏.‏

وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى‏:‏ لماذا تقسمون أفَأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي، أي أعرف عدم وقوعها، والكلام تهكم أيضاً‏.‏

وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى‏:‏ قسَمُكُم ونفيُه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة‏.‏

أو يكون ‏{‏طاعة‏}‏ مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أوْلَى من الأيمان، ويَكون وصف ‏{‏معروفة‏}‏ مشتقاً من المعرفة بمعنى العلم، أي طاعة تُعلم وتُتحقق أوْلى من الأيمان على طاعة غير واقعةٍ، وهو كالعرفان في قولهم‏:‏ لا أعرفنك تفعل كذا‏.‏

وإن كان النهي مستعملاً في حقيقته فالمعنى‏:‏ لا تقسموا هذا القسمَ، أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف، فيكون وصف ‏{‏معروفة‏}‏ مشتقاً من العرفان، أي عدم النكران كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يعصِينَك في معروف‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏ صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة، وهي تعليل لما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

تلقين آخر للرسول عليه الصلاة والسلام بما يَرُدّ بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذباً، ويختلف معنى ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم‏.‏

وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاماً مستقلاً غير معطوف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يجوز أن يكون تفريعاً على فعل ‏{‏أطيعوا‏}‏ فيكونّ فعلُ ‏{‏تولوا‏}‏ من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلاً مضارعاً بتاء الخطاب‏.‏ وأصله‏:‏ تَتَولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال‏.‏ والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم، فيكون ضميراً ف ‏{‏عَلَيْه ما حُمِّلَ‏}‏ عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

ويجوز أن يكون تفريعاً على فعل ‏{‏قل‏}‏ أيْ فإذا قلت ذلك فَتَوَلَّوْا ولم يطيعوا الخ، فيكون فعل ‏{‏تولوا‏}‏ ماضياً بتاء واحدة مُواجَهاً به النبي صلى الله عليه وسلم أي فإن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حُمِّلْتَ من التبليغ وعليهم ما حُمِّلوا من تَبِعَة التكليف‏.‏ كمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين‏}‏ في سورة النحل ‏(‏82‏)‏ فيكون في ضمائر فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم‏}‏ التفاتٌ‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ فإنما عليك ما حُملتَ وعليهم ما حُمِّلوا‏.‏ والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة‏.‏

وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين‏:‏ معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد، ومعنى من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم وموادعة لهم‏.‏ وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لا يضرون بتولّيهم إلا أنفسهم‏.‏ ونظيره قوله في سورة آل عمران ‏(‏23 32‏)‏‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً‏}‏ من الكتاب ‏(‏هم اليهود‏)‏ يُدعَوْن إلى كتاب الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قل أطيعوا الله والرسول فإن تَولوا فإن الله لا يحب الكافرين‏}‏

واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَيمموا الخبيثَ منه تنفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تَولوا عنه وأنتم تسمعون‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏20‏)‏، وأما قوله تعالى في سورة القتال ‏(‏38‏)‏ ‏{‏وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم‏}‏ فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سورة آل عمران‏.‏

والبلاغ‏:‏ اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية‏.‏ ومعنى كونه مبيناً أنه فصيح واضح‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وإن تطيعوه تهتدوا‏}‏ إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏وعليكم ما حملتم‏}‏ بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد‏.‏

وجملة ‏{‏وما على الرسول إلا البلاغ المبين‏}‏ بيان لإبهام قوله‏:‏ ‏{‏ما حمل‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

الأشبه أن هذا الكلام استئناف ابتدائي انتقل إليه بمناسبة التعرض إلى أحوال المنافقين الذين أبقاهم على النفاق تردّدُهم في عاقبة أمر المسلمين، وخشيتُهم أن لا يستقر بالمسلمين المُقام بالمدينة حتى يغزوَهم المشركون، أو يخرجهم المنافقون حين يجدون الفرصة لذلك كما حكى الله تعالى من قول عبد الله بن أبَيّ‏:‏ ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ منها الأذَلّ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، فكانوا يظهرون الإسلام اتقاء من تمام أمر الإسلام ويبطنون الكفر ممالاة لأهل الشرك حتى إذا ظهروا على المسلمين لم يلمزوا المنافقين بأنهم قد بدّلوا دينهم، مع ما لهذا الكلام من المناسبة مع قوله‏:‏ ‏{‏وإن تطيعوه تهتدوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏، فيكون المعنى‏:‏ وإن تطيعوه تهتدوا وتُنصروا وتأمنوا‏.‏ ومع ما روي من حوادث تخوف المسلمين ضُعفهم أمام أعدائهم فكانوا مشفقين عن غزو أهل الشرك ومن كيد المنافقين ودلالتهم المشركين على عورات المسلمين فقيل كانت تلك الحوادث سبباً لنزول هذه الآية‏.‏

قال أبو العالية‏:‏ مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويُمسون في السلاح‏.‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله أمَا يأتي علينَا يوم نأمن فيه ونضع السلاح‏؟‏ فقال رسول الله‏:‏ «لا تَغْبُرون ‏(‏أي لا تمكثون‏)‏ إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في المَلإ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة»‏.‏ ونزلت هذه الآية‏.‏

فكان اجتماع هذه المناسبات سبباً لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصراً على إبدال خوفهم أمناً كما اقتضاه أثر أبي العالية، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عِداد الأسباب‏.‏

وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وَعْدهم بالأمن أن وَعَدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيهاً لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها‏.‏ ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمناً إيماء إلى التهيُّؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك، وأنّ ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏وإن تطيعوه تهتدوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏، وإذا حلّ الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات‏.‏

والموصول عام لا يختص بمعيّن، وعُمُومه عُرفي، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة‏.‏

والخطاب في ‏{‏منكم‏}‏ لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد‏.‏

والتعريف في ‏{‏الصالحات‏}‏ للاستغراق، أي عملوا جميع الصالحات، وهي الأعْمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح‏.‏

فالصالحات جمع صالحة‏:‏ وهي الخصلة والفَعلة ذات الصلاح، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة‏.‏ وقد تقدم في أول البقرة‏.‏

واستغراق ‏{‏الصالحات‏}‏ استغراق عرفي، أي عَمِل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصَّة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة فإنها معفو عنها إذا لم يُسترسل عليها وإذا ما وقع السعي في تداركها‏.‏

والاستقامة في الخُويصَّة هي موجب هذا الوعد وهي الإيمان وقواعد الإسلام، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به‏.‏

وقد بين الله تعالى أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ وقوله في سياق الذم‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم‏}‏ ‏[‏محمّد‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وبين الرسول عليه الصلاة والسلام تصرفات ولاة الأمور في شؤون الرعية ومع أهل الذمة ومع الأعداء في الغزو والصلح والمهادنة والمعاهدة، وبين أصول المعاملات بين الناس‏.‏

فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضّح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل‏.‏

وهذه التكاليف التي جعلها الله قِواماً لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسباباً لها‏.‏ وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع، وجُعل الإيمان عمودها وشرطاً للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقاً لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته‏.‏ فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح، وبه يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصيرهم في القيام بها‏.‏ وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجّل لهم الشر وتلوّم لهم في إنزال العقوبة‏.‏ وقد أشار إلى هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105 107‏]‏ يريد بذلك كله المسلمين‏.‏ وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء وقوله‏:‏

‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا‏}‏ في سورة الحج ‏(‏38‏)‏‏.‏

فلو أن قوماً غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنوا من سيرتهم صوراً تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسباباً وسنناً تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سنناً وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد‏.‏ ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامت أمورهم‏.‏ ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الأشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنّ علوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً‏}‏ وقد تقدم في سورة الإسراء ‏(‏4، 5‏)‏‏.‏

والاستخلاف‏:‏ جعلهم خلفاء، أي عن الله في تدبير شؤون عباده كما قال‏:‏ ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏ والسين والتاء للتأكيد‏.‏ وأصله‏:‏ ليخلفنهم في الأرض‏.‏

وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شؤون الأمة منوطاً بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعاً بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع، كما حكى تعالى قولَ موسى لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وجعلكم ملوكاً‏}‏ كما تقدم في سورة العقود ‏(‏20‏)‏‏.‏

ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعُها، وأن الظرفية المدلولة بحرف ‏(‏في‏)‏ ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامُها سكانه‏.‏ والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعمركم فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله‏:‏ ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏ دون تقييد بقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ ل ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏ للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم الأرض‏.‏ وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام‏.‏ ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم‏.‏ وهذا اسخلاف كامل ولذلك نظّر بتشبيهه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الأشوريين والمصريين والفنيقيين واليهود زمن سليمان، والفرس، واليونان، والرومان‏.‏

وعن مالك‏:‏ أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر فيكون موصول الجمع مستعملاً في معنى المثنى‏.‏

وعن الضحاك‏:‏ هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي‏.‏ ولعل هذا مراد مالك‏.‏ وعلى هذا فالمراد بالذين من قبلهم صلحاء الملوك مثل‏:‏ يوسف، وداود، وسليمان، وأنوشروان، وأصحمة النجاشي، ومُلكي صادق الذي كان في زمن إبراهيم ويدعى حمورابي، وذي القرنين، وإسكندر المقدوني، وبعض من ولي جمهورية اليونان‏.‏

وفي الآية دلالة واضحة على أن خلفاء الأمة مثل‏:‏ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية كانوا بمحل الرضى من الله تعالى لأنه استخلفهم استخلافاً كاملاً كما استخلف الذين من قبلهم وفتح لهم البلاد من المشرق إلى المغرب وأخاف منهم الأكاسرة والقياصرة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ليستخلفنهم‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏وعد‏}‏ لأنها عين الموعود به‏.‏ ولما كانت جملةَ قسم وهو من قبيل القول كانت إحداهما بياناً للأخرى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏كما استخلف‏}‏ بالبناء للفاعل، أي كما استخلف الله الذين من قبلهم‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم بالبناء للنائب فيكون ‏{‏الذين‏}‏ نائب فاعل‏.‏

وتمكين الدين‏:‏ انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه‏.‏ استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام فكان كالشيء المثبَّت المرسّخ، وإذا كان متَّبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل‏.‏ وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها حديث الحديبية إذ جاء فيه قوله‏:‏ «وإن هم أبوا ‏(‏أي إلا القتال‏)‏ فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ‏(‏أي ينفصل مقدم العنق عن الجسد‏)‏ ولينفذنَّ الله أمره»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله‏:‏ ‏{‏دينهم‏}‏ لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقاً من مفعول الفعل، فقدم ‏{‏لهم‏}‏ عليه للإيماء إلى العناية بهم، أي بكون التمكين لأجلهم، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به لأنه دين الله كما دل عليه قوله عقبه‏:‏ ‏{‏الذي ارتضى لهم‏}‏، أي الذي اختاره ليكون دينهم، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضاً ليكونوا أتباع هذا الدين‏.‏ وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم‏.‏

وإنما قال‏:‏ ‏{‏وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً‏}‏ ولم يقل‏:‏ وليؤمننهم، كما قال في سابقَيْه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذٍ إلا إلى الأمن، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفاً، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة‏.‏ وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر‏.‏

وتنكير ‏{‏أمناً‏}‏ للتعظيم بقرينة كونه مبدّلاً من بعد خوفهم المعروف بالشدة‏.‏ والمقصود‏:‏ الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين‏.‏

وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة‏.‏ وليس هذا الوعد بمقتض أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضالّ مالك الأشتر النخعي، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرّة وغير ذلك من الحوادث وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وليَبُدّلنهم‏}‏ بفتح الموحدة وتشديد الدال‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف الدال والمعنى واحد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يعبدونني‏}‏ حال من ضمائر الغيبة المتقدمة، أي هذا الوعد جرى في حال عبادتهم إياي‏.‏ وفي هذه الحال إيذان بأن ذلك الوعد جزاء لهم، أي وعدتُّهم هذا الوعد الشامل لهم والباقي في خلفهم لأنهم يعبدونني عبادة خالصة عن الإشراك‏.‏

وعبر بالمضارع لإفادة استمرارهم على ذلك تعريضاً بالمنافقين إذ كانوا يؤمنون ثم ينقلبون‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا يشركون بي شيئاً‏}‏ حال من ضمير الرفع في ‏{‏يعبدونني‏}‏ تقييداً للعبادة بهذه الحالة لأن المشركين قد يعبدون الله ولكنهم يشركون معه غيره‏.‏ وفي هاتين الجملتين ما يؤيد ما قدمناه آنفاً من كون الإيمان هو الشريطة في كفالة الله للأمة هذا الوعد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏}‏ تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعاً للاتكال‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ إلى الإيمان المعبر عنه هنا ب ‏{‏يعبدونني لا يشركون بي شيئاً‏}‏ والمعبر عنه في أول الآيات بقوله‏:‏ ‏{‏وعد الله الذين آمنوا‏}‏، أي ومن كفر بعد الإيمان وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق‏.‏

وصيغة الحصر المأخوذة من تعريف المسند بلام الجنس مستعملة مبالغة للدلالة على أنه الفسق الكامل‏.‏

ووصف الفاسقين له رشيق الموقع، لأن مادة الفسق تدل على الخروج من المكان من منفذ ضيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏يعبدونني لا يشركون بي شيئاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ لما فيها من معنى الأمر بترك الشرك، فكأنه قيل‏:‏ اعبدوني ولا تشركوا وأقيموا الصلاة، لأن الخبر إذا كان يتضمن معنى الأمر كان في قوة فعل الأمر حتى أنه قد يجزم جوابه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله ورسوله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يغفرْ لكم ذنوبكم‏}‏ ‏[‏الصفّ‏:‏ 11 12‏]‏ بجزم ‏{‏يغفرْ‏}‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ في قوة أن يقول‏:‏ آمنوا بالله‏.‏

والخطاب موجه للذين آمنوا خاصة بعد أن كان موجهاً لأمة الدعوة على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوسفُ أعرِضْ عن هذا واستغفري لذنبك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏، فالطاعة المأمور بها هنا غير الطاعة التي في قوله‏:‏ ‏{‏قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ الخ لأن تلك دعوة للمعرضين وهذه ازدياد للمؤمنين‏.‏

وقد جمعت هذه الآية جميع الأعمال الصالحات فأهمها بالتصريح وسائرها بعموم حذف المتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ أي في كل ما يأمركم وينهاكم‏.‏

ورتب على ذلك رجاء حصول الرحمة لهم، أي في الدنيا بتحقيق الوعد الذي من رحمته الأمن وفي الآخرة بالدرجات العلى‏.‏ والكلام على ‏(‏لعل‏)‏ تقدم في غير موضع في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لتحقيق ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏، فقد كان المشركون يومئذٍ لم يزالوا في قوة وكثرة، وكان المسلمون لم يزالوا يخافون بأسهم فربما كان الوعد بالأمن من بأسهم متلقىً بالتعجب والاستبطاء الشبيه بالتردد فجاء قوله‏:‏ ‏{‏لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض‏}‏ تطميناً وتسلية‏.‏

والخطاب لمن قد يخامره التعجب والاستبطاء دون تعيين‏.‏

والمقصود من النهي عن هذا الحسبان التنبيه على تحقيق الخبر‏.‏

وقراءة الجمهور‏:‏ ‏{‏تحسبن‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة فصار ‏{‏الذين كفروا‏}‏ فاعلّ ‏{‏يحسبن‏}‏ فيبقى ل ‏{‏يحسبن‏}‏ مفعول واحد هو ‏{‏معجزين‏}‏‏.‏ فقال أبو حاتم والنحاس والفراء‏:‏ هي خطأ أو ضعيفة لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين‏.‏ وهذا القول جرأة على قراءة متواترة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المفعول الأول محذوف تقديره‏:‏ أنفسهم، وقد وفق لأن الحذف ليس بعزيز في الكلام‏.‏ وفي «الكشاف» أن ‏{‏في الأرض‏}‏ هو المفعول الثاني، أي لا يحسبوا ناساً معجزين في الأرض ‏(‏يعني ما من كائن في الأرض إلا وهو في متناول قدرة الله إن شاء أخذه، أي فلا ملجأ لهم في الأرض كلها‏)‏ قال‏:‏ «وهذا معنى قوي جيّد»‏.‏

والمعجز‏:‏ الذي يُعجز غيره، أي يجعله عاجزاً عن غلبه‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏134‏)‏‏.‏ وكذلك المعاجز بمعنى المحاول عجز ضده تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين سعوا في آياتنا معاجزين‏}‏ في سورة الحج ‏(‏51‏)‏‏.‏

والأرض‏:‏ هي أرض الدنيا، أي هم غير غالبين في الدنيا كما حسبوا أنه ليس ثمة عالم آخر‏.‏ وفي الأرض‏}‏ متعلق ب ‏{‏بمعجزين‏}‏ على قراءة الجمهور وعلى بعض التوجيهات من قراءة حمزة وابن عامر، أو هو مفعول ثان على بعض التوجيهات كما علمت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ أي هم في الآخرة معلوم أن مأواهم النار فقد خسروا الدارين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

استئناف انتقالي إلى غرض من أحكام المخالطة والمعاشرة‏.‏ وهو عود إلى الغرض الذي ابتدئت به السورة وقُطع عند قوله ‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ كما تقدم‏.‏

وقد ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيت، فهو من متممات ما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ وهو بمفهوم الزمان يقتضي تخصيص عموم قوله‏:‏ ‏{‏لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ الآيات لأن ذلك عام في الأعيان والأوقات فكان قوله‏:‏ ‏{‏الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن بعد صلاة العشاء‏}‏ تشريعاً لاستئذانهم في هذه الأوقات وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثلاثة، فصار المفهوم مخصصاً لعموم النهي في قوله‏:‏ ‏{‏لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا‏}‏‏.‏ وأيضاً هذا الأمر مخصص بعموم ‏{‏ما ملكت أيمانهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ وعموم ‏{‏الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ الخ المتقدم آنفاً‏.‏

وقد روي أن أسماء بنت مرثد دخل عليها عبد لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إنما خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها‏.‏ فنزلت الآية، ‏(‏يعني أنها اشتكت إباحة ذلك لهم‏)‏‏.‏ ولو صحت هذه الرواية لكانت هذه الآية نسخاً لعموم ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ وعموم ‏{‏أو الطفل‏}‏ لأنها تقتضي أنه وقع العمل بذلك العموم ثم خصص بهذه الآية‏.‏ والتخصيص إذا ورد بعد العمل بعموم العام صار نسخاً‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏ليستئذنكم‏}‏ للوجوب عند الجمهور‏.‏ وقال أبو قلابة‏:‏ هو ندب‏.‏

فأما المماليك فلأن في عرف الناس أن لا يتحرجوا من اطلاع المماليك عليهم إذ هم خَول وتَبَع‏.‏ وقد تقدم ذلك آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وأما الأطفال فلأنهم لا عناية لهم بتطلع أحوال الناس‏.‏ وتقدم آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

كانت هذه الأوقات أوقاتاً يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم كما آذن به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة‏}‏ فكان من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته، ولأنه يجب أن ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا‏.‏

ووُجّه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان على معنى‏:‏ لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين ملكت أيمانكم‏}‏ يشمل الذكور والإناث لمالكيهم الذكور والإناث‏.‏

وأما مسألة النظر وتفصيلها في الكبير والصغير والذكر والأنثى فهي من علائق ستر العورة المفصلة في كتب الفقه‏.‏ وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏على عورات النساء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ فلا ينبغي التصدي بإيراد صورها في هذه الآية‏.‏

وتعيين الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوة الرجال والنساء وأوقات التعري من الثياب، وهي أوقات نوم وكانوا غالباً ينامون مجردين من الثياب اجتزاء بالغطاء، وقد سماها الله تعالى‏:‏ ‏{‏عورات‏}‏‏.‏

وما بعد صلاة العشاء هو الليل كله إلى حين الهبوب من النوم قبل الفجر‏.‏ وانتصب ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ على أنه مفعول مطلق ل ‏{‏يستأذنكم‏}‏ لأن مرات في قوة استئذانات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من قبل صلاة الفجر‏}‏ ظرف مستقر في محل نصب على البدل من ‏{‏ثلاث مرات‏}‏ بدل مفصل من مجمل‏.‏ وحرف ‏(‏من‏)‏ مزيد للتأكيد‏.‏

وعطف عليه ‏{‏وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء‏}‏‏.‏ والظهيرة‏:‏ وقت الظهر وهو انتصاف النهار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثلاث عورات‏}‏ قرأه الجمهور مرفوعاً على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هي ثلاث عورات، أي أوقات ثلاث عورات‏.‏ وحذف المسند إليه هنا مما اتبع فيه الاستعمال في كل إخبار عن شيء تقدم الحديث عنه‏.‏

و ‏{‏لكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏عورات‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ‏{‏ثلاث مرات‏}‏‏.‏

والعورة في الأصل‏:‏ الخلل والنقص‏.‏ وفيه قيل لمن فقدت عينه أعور وعورت عينه، ومنه عورة الحي وهي الجهة غير الحصينة منه بحيث يمكن الدخول منها كالثغر، قال لبيد‏:‏

وأجَنَّ عورات الثغور ظلامها ***

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون إنّ بيوتنا عورة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏ ثم أطلقت على ما يكره انكشافه كما هنا وكما سمي ما لا يحب الإنسان كشفه من جسده عورة‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ثلاث عورات لكم‏}‏ نص على علة إيجاب الاستئذان فيها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن‏}‏ تصريح بمفهوم الظروف في قوله‏:‏ ‏{‏من قبل صلاة الفجر‏}‏ وما عطف عليه، أي بعد تلك الأوقات المحددة‏.‏ فصلاة الفجر حد معلوم، وحالة وضع الثياب من الظهيرة تحديد بالعرف، وما بعد صلاة العشاء من الحصة التي تسع في العرف تصرفَ الناس في التهيؤ إلى النوم‏.‏

ولك أن تجعل ‏(‏بعدَ‏)‏ بمعنى ‏(‏دون‏)‏، أي في غير تلك الأوقات الثلاثة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يهديه من بعد الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، وضمير ‏{‏بعدهن‏}‏ عائد إلى ثلاث عورات، أي بعد تلك الأوقات‏.‏

ونفي الجناح عن المخاطبين في قوله‏:‏ ‏{‏ليس عليكم‏}‏ بعد أن كان الكلام على استئذان المماليك والذين لم يبلغوا الحلم إيماء إلى لحن خطاب حاصل من قوله‏:‏ ‏{‏ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم‏}‏ فإن الأمر باستئذان هؤلاء عليهم يقتضي أمر أهل البيت بالاستئذان على الذين ملكت أيمانهم إذا دعاهم داع إلى الدخول عليهم في تلك الأوقات كما يرشد السامعَ إليه قوله‏:‏ ‏{‏ثلاث عورات لكم‏}‏‏.‏

وإنما لم يصرح بأمر المخاطبين بأن يستأذنوا على الذين ملكت أيمانهم لندور دخول السادة على عبيدهم أو على غلمانهم إذ الشأن أنهم إذا دعتهم حاجة إليهم أن ينادوهم فأما إذا دعت الحاجة إلى الدخول عليهم فالحكم فيهم سواء‏.‏ وقد أشار إلى العلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏طوافون عليكم بعضكم على بعض‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏طوافون عليكم‏}‏ خبر مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هم طوافون، يعود على ‏{‏الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم‏}‏‏.‏

والكلام استئناف بياني، أي إنما رفع الجناح عليهم وعليكم في الدخول بدون استئذان بعد تلك الأوقات الثلاثة لأنهم طوافون عليكم فلو وجب أن يستأذنوا كان ذلك حرجاً عليهم وعليكم‏.‏

وفي الكلام اكتفاء‏.‏ تقديره‏:‏ وأنتم طوافون عليهم دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن‏}‏ وقوله عقبه‏:‏ ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏‏.‏

و ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏ جملة مستأنفة أيضاً‏.‏ ويجعل ‏{‏بعضكم‏}‏ مبتدأ، ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏على بعض‏}‏ بحبر محذوف تقديره‏:‏ طواف على بعض‏.‏ وحذف الخبر وبقي المتعلق به وهو كون خاص حذف لدلالة ‏{‏طوافون‏}‏ عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ بعضكم طواف على بعض‏.‏ ولا يحسن من جعل ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏ بدلاً من الواو في ‏{‏طوافون عليكم‏}‏ لأنه عائد إلى ‏{‏الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم‏}‏ فلا يحسن أن يبدل منه بعض المخاطبين وهم ليسوا من الفريقين إلا بتقدير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ أي مثل ذلك البيان الذي طرق أسماعكم يبين الله لكم الآيات، فبيانه بالغ الغاية في الكمال حتى لو أريد تشبيهه لما شبّه إلا بنفسه‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏الآيات‏}‏ تعريف الجنس‏.‏ والمراد بالآيات القرآن فإن ما يقع فيه إجمال منها يبين بآيات أخرى، فالآيات التي أولها ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم‏}‏ جاءت بياناً لآيات ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ معترضة‏.‏ والمعنى‏:‏ يبين الله لكم الآيات بياناً كاملاً وهو عليم حكيم، فبيانه بالغ غاية الكمال لا محالة‏.‏

ووقع قوله‏:‏ ‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم‏}‏ في موقع التصريح بمفهوم الصفة في قوله‏:‏ ‏{‏والذين لم يبلغوا الحلم‏}‏ ليعلم أن الأطفال إذا بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ الآيات، فالمراد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ فيما ذكر من الآية السابقة أو الذين كانوا يستأذنون من قبلهم وهم كانوا رجالاً قبل أن يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم‏}‏ القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفاً، وهو تأكيد له بالتكرير لمزيد الاهتمام والامتنان‏.‏ وإنما أضيفت الآيات هنا لضمير الجلالة تفنناً ولتقوية تأكيد معنى كمال التبيين الحاصل من قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏‏.‏ وتأكيد معنى الوصفين «العليم الحكيم»‏.‏ أي هي آيات من لدن مَن هذه صفاته ومَن تلك صفات بيانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

هذه الآية مخصّصة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏على عورات النساء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستيذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساءُ المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن‏.‏ فعن ابن مسعود وابن عباس‏:‏ الثياب الجلباب، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار‏.‏ وقال السدي‏:‏ يجوز لهن وضع الخمار أيضاً‏.‏

والقواعد‏:‏ جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل‏:‏ حامل وحائض لأنه وصف نُقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض‏.‏ استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيضُ من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصّاً بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي لا يرجون نكاحاً‏}‏، وذلك من الكبر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اللاتي لا يرجون نكاحاً‏}‏ وصف كاشف ل ‏{‏القواعد‏}‏ وليس قيداً‏.‏

واقترن الخبر بالفاء في قوله ‏{‏فليس عليهن جناح‏}‏ لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ولا حاجة إلى ادعاء أن ‏(‏ال‏)‏ فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين‏.‏ و‏{‏أن يضعن‏}‏ متعلق ب ‏{‏جناح‏}‏ بتقدير ‏(‏في‏)‏‏.‏

والمراد بالثياب بعضها وهو المأمور بإدنائه على المرأة بقرينة مقام التخصيص‏.‏

والوضع‏:‏ إناطة شيء على شيء، وأصله أن يعدى بحرف ‏(‏على‏)‏ وقد يعدى بحرف ‏(‏عن‏)‏ إذا أريد أنه أزيل عن مكان ووضع على غيره وهو المراد هنا كفعل ‏(‏ترغبون‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ في سورة النساء ‏(‏127‏)‏، أي أن يزلن عنهن ثيابهن فيضعنها على الأرض أو على المشجب‏.‏ وعلة هذه الرخصة هي أن الغالب أن تنتفي أو تقل رغبة الرجال في أمثال هذه القواعد لكبر السن‏.‏ فلما كان في الأمر بضرب الخُمُر على الجيوب أو إدناء الجلابيب كلفة على النساء المأمورات اقتضاها سد الذريعة، فلما انتفت الذريعة رفع ذلك الحكم رحمة من الله، فإن الشريعة ما جعلت في حكم مشقة لضرورة إلا رفعت تلك المشقة بزوال الضرورة وهذا معنى الرخصة‏.‏

ولذلك عقب هذا الترخيص بقوله‏:‏ ‏{‏وأن يستعففن خير لهن‏}‏‏.‏

والاستعفاف‏:‏ التعفف، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب، أي تعففهن عن وضع الثياب عنهن أفضل لهن ولذلك قيد هذا الإذن بالحال وهو ‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏ أي وضعاً لا يقارنه تبرج بزينة‏.‏

والتبرج‏:‏ التكشف‏.‏ والباء في ‏{‏بزينة‏}‏ للملابسة فيؤول إلى أن لا يكون وضع الثياب إظهاراً لزينة كانت مستورة‏.‏ والمراد‏:‏ إظهار ما عادة المؤمنات ستره‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏، فإن المرأة إذا تجلت بزينة من شأنها إخفاؤها إلا عن الزوج فكأنها تعرض باستجلاب استحسان الرجال إياها وإثارة رغبتهم فيها، وهي وإن كانت من القواعد فإن تعريضها بذلك يخالف الآداب ويزيل وقار سنها، وقد يرغب فيها بعض أهل الشهوات لما في التبرج بالزينة من الستر على عيوبها أو الإشغال عن عيوبها بالنظر في محاسن زينتها‏.‏

فالتبرج بالزينة‏:‏ التحلي بما ليس من العادة التحلي به في الظاهر من تحمير وتبييض وكذلك الألوان النادرة، قال بشار‏:‏

وإذا خرجتتِ تقنَّعي *** بالحُمْر إن الحسن أحمر

وسألت عائشة أم المؤمنين عن الخضاب والصباغ والتمايم ‏(‏أي حقاق من فضة توضع فيها تمايم ومعاذات تعلقها المرأة‏)‏ والقرطين والخَلخَال وخاتم الذهب ورقاق الثياب فقالت‏:‏ «أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرَّماً»‏.‏ فأحالت الأمر على المعتاد والمعروف، فيكون التبرج بظهور ما كان يحجبه الثوب المطروح عنها كالوشام في اليد أو الصدر والنقش بالسواد في الجيد أو الصدر المسمى في تونس بالحرقوص ‏(‏غير عربية‏)‏‏.‏ وفي «الموطإ»‏:‏ «دخلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة أم المؤمنين وعلى حفصة خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً» أي شقته لئلا تختمر به فيما بعد‏.‏

وقيل‏:‏ إن المعنيَّ بقوله‏:‏ ‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏ غير منكشفات من منازلهن بالخروج في الطريق، أي أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، أي فإذا خرجت فلا يحل لها ترك جلبابها، فيؤول المعنى، إلى أن يضعن ثيابهن في بيوتهن، ويكون تأكيداً لما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ أي كونهن من القواعد لا يقتضي الترخيص لهن إلا في وضع ثيابهن وضعاً مجرداً عن قصد ترغيب فيهن‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعاً، فوصف «السميع» تذكير بأنه يسمع ما تحدثهن به أنفسهن من المقاصد، ووصف «العليم» تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها‏.‏