فصل: تفسير الآية رقم (61)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ‏}‏‏.‏

اختلف في أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏ الخ منفصل عن قوله ‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏ وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت، أي فيكون من تمام آية الاستيذان، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد‏.‏

فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إنه ظاهر الآية‏.‏ وهو الذي نختاره تفادياً من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة، ولأن في قوله‏:‏ ‏{‏أن تأكلوا من بيوتكم‏}‏ إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض، فتكون هذه الآية نفياً للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم‏.‏ فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو‏.‏ ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجِبهِ‏.‏ ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجاً وإتماماً لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى‏.‏

وقال بالثاني جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عدّ هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية‏.‏

والجملة‏:‏ على كلا الوجهين مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏‏.‏

مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان لغرض الطعام فيها أو كان للزيارة ونحوها لاشتراك الكل في رفع الحرج، وعلى تقدير أنه متصل به على قول الجمهور فاقتران الجميع في الحكم هو الرخصة للجميع في الأكل، فأذن الله للأعمى والأعرج والمريض أن يدخلوا البيوت للأكل لأنهم محاويج لا يستطيعون التكسب وكان التكسب زمانئذٍ بعمل الأبدان فرخص لهؤلاء أن يدخلوا بيوت المسلمين لشبع بطونهم‏.‏

هذا أظهر الوجوه في توجيه عد هؤلاء الثلاثة مع من عطف عليهم‏.‏ وقد ذكر المفسرون وجوهاً أخر أنهاها أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» إلى ثمانية ليس منها واحد ينثلج له الصدر‏.‏

ولا نطيل بها‏.‏

وأعيد حرف ‏(‏لا‏)‏ مع المعطوف على المنفي قبله تأكيداً لمعنى النفي وهو استعمال كثير‏.‏

والمقصود بالأكل هنا الأكل بدون دعوة وذلك إذا كان الطعام محضراً دون المختزن‏.‏

والمراد بالأنفس ذوات المخاطبين بعلامات الخطاب فكأنه قيل‏:‏ ولا عليكم جناح أن تأكلوا إلى آخره، فالخطاب للأمة‏.‏

والمراد بأكل الإنسان من بيته الأكل غير المعتاد، أي أن يأكل أكلاً لا يشاركه فيه بقية أهله كأن يأكل الرجل وزوجه غائبة، أو أن تأكل هي وزوجها غائب فهذه أثرة مرخص فيها‏.‏

وعطف على بيوت أنفسهم بيوتُ آبائهم، ولم يذكر بيوت أولادهم مع أنهم أقرب إلى الآكلين من الآباء فهم أحق بأن يأكلوا من بيوتهم‏.‏ قيل‏:‏ لأن الأبناء كائنون مع الآباء في بيوتهم، ولا يصح، فقد كان الابن إذا تزوج بنى لنفسه بيتاً كما في خبر عبد الله بن عمر‏.‏ فالوجه أن بيوت الأبناء معلوم حكمها بالأولى من البقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك»‏.‏

وهؤلاء المعدودون في الآية بينهم من القرابة أو الولاية أو الصداقة ما يعتاد بسببه التسامح بينهم في الحضور للأكل بدون دعوة لا يتحرج أحد منهم من ذلك غالباً‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما ملكْتُم مفاتحه‏}‏ موصولة صادقة على المكان أو الطعام، عطف على ‏{‏بيوت خالاتكم‏}‏ لا على ‏{‏أخوالكم‏}‏ ولهذا جيء ب ‏(‏ما‏)‏ الغالب استعمالها في غير العاقل‏.‏

ومِلك المفاتيح أريد به حفظها بقرينة إضافته إلى المفاتيح دون الدور أو الحوائط‏.‏ والمفاتح‏:‏ جمع مَفْتح وهو اسم آلة الفتح‏.‏ ويقال فيها مفتاح ويجمع على مفاتيح‏.‏

وهذه رخصة للوكيل والمختزن للطعام وناطور الحائط ذي الثمر أن يأكل كل منهم مما تحت يده بدون إذن ولا يتجاوز شبع بطنه وذلك للعرف بأن ذلك كالإجارة فلذلك قال الفقهاء‏:‏ إذا كان لواحد من هؤلاء أجرة على عمله لم يجز له الأكل مما تحت يده‏.‏

و ‏(‏صديق‏)‏ هنا مراد به الجنس الصادق بالجماعة بقرينة إضافته إلى ضمير جماعة المخاطبين، وهو اسم تجوز فيه المطابقة لمن يجري عليه إن كان وصفاً أو خبراً في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وهو الأصل، والغالب في فصيح الاستعمال أن يلزم حالة واحدة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما لنا منْ شافعين ولا صديق حميم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 100، 101‏]‏ ومثله الخليط والقطين‏.‏

والصديق‏:‏ فعيل بمعنى فاعل وهو الصادق في المودة‏.‏ وقد جعل في مرتبة القرابة مما هو موقور في النفوس من محبة الصلة مع الأصدقاء‏.‏ وسئل بعض الحكماء‏:‏ أي الرجلين أحب إليك أخوك أم صديقك‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أحب أخي إذا كان صديقي‏.‏

وأعيدت جملة‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جُناح‏}‏ تأكيداً للأولى في قوله‏:‏ ‏{‏ولا على أنفسكم‏}‏ إذ الجناح والحرج كالمترادفين‏.‏

وحسّن هذا التأكيد بُعد ما بين الحال وصاحبها وهو واو الجماعة في قوله‏:‏ ‏{‏أن تأكلوا من بيوتكم‏}‏، ولأجل كونها تأكيداً فصلت بلا عطف‏.‏

والجميع‏:‏ المجتمعون على أمر‏.‏

والأشتات‏:‏ الموزعون فيما الشأن اجتماعهم فيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

والأشتات‏:‏ جمع شَتّ، وهو مصدر شتّ إذا تفرق‏.‏ وأما شتّى فجمع شتيت‏.‏

والمعنى‏:‏ لا جناح عليكم أن يأكل الواحد منكم مع جماعة جاءوا للأكل مثله؛ أو أن يأكل وحده متفرقاً عن مشارك، لئلا يحسب أحدهم أنه إن وجد من سبقه للأكل أن يترك الأكل حتى يخرج الذي سبقه، أو أن يأكل الواحد منكم مع أهل البيت‏.‏ أو أن يأكل وحده‏.‏

وتقدم قراءة ‏{‏بيوت‏}‏ بكسر الباء للجمهور وبضمها لورش وحفص عن عاصم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ في هذه السورة ‏(‏27‏)‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مباركة طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تفريع على الإذن لهم في الأكل من هذه البيوت بأن ذكَّرهم بأدب الدخول المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ لئلا يجعلوا القرابة والصداقة والمخالطة مبيحة لإسقاط الآداب فإن واجب المرء أن يلازم الآداب مع القريب والبعيد ولا يغرنَّه قول الناس‏:‏ إذا استوى الحب سقط الأدب‏.‏

ومعنى ‏{‏فسلموا على أنفسكم‏}‏ فليسلم بعضكم على بعض، كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ولقد عكف قوم على ظاهر هذا اللفظ وأهملوا دقيقته فظنوا أن الداخل يسلم على نفسه إذا لم يجد أحداً وهذا بعيد من أغراض التكليف والآداب‏.‏ وأما ما ورد في التشهد من قول‏:‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فذلك سلام بمعنى الدعاء بالسلامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم لهم عوضاً عما كانوا يقولون‏:‏ السلام على الله، السلام على النبي، السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان وفلان‏.‏ فقال لهم رسول الله‏:‏ «إن الله هو السلام، إبطالاً لقولهم السلام على الله» ثم قال لهم‏:‏ «قولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض»‏.‏

وأما السلام في هذه الآية فهو التحية كما فسره بقوله‏:‏ ‏{‏تحية من عند الله مباركة طيبة‏}‏ ولا يؤمر أحد بأن يسلم على نفسه‏.‏

والتحية‏:‏ أصلها مصدر حيّاه تحية ثم أدغمت الياءان تخفيفاً وهي قول‏:‏ حياك الله‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها‏}‏ في سورة النساء ‏(‏86‏)‏‏.‏

فالتحية مصدر فعل مشتق من الجملة المشتملة على فعل ‏(‏حيّا‏)‏ مثل قولهم‏:‏ جزّاه‏.‏ إذا قال له‏:‏ جزاك الله خيراً، كما تقدم في فعل ‏{‏وتسلموا على أهلها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏ آنفاً‏.‏

وكان هذا اللفظ تحية العرب قبل الإسلام تحية العامة قال النابغة‏:‏

حيّاككِ ربي فإنا لا يحل لنا *** لهو النساء وإن الدين قد عزَما

وكانت تحية الملوك «عم صباحاً» فجعل الإسلام التحية كلمة «السلام عليكم»، وهي جائية من الحنيفية ‏{‏قالوا سلاماً قال سلام‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69‏]‏ وسماها تحية الإسلام، وهي من جوامع الكلم لأن المقصود من التحية تأنيس الداخل بتأمينه إن كان لا يعرفه وباللطف له إن كان معروفاً‏.‏

ولفظ «السلام» يجمع المعنيين لأنه مشتق من السلامة فهو دعاء بالسلامة وتأمين بالسلام لأنه إذا دعا له بالسلامة فهو مسالم له فكان الخبر كناية عن التأمين، وإذا تحقق الأمران حصل خير كثير لأن السلامة لا تجامع شيئاً من الشر في ذات السالم، والأمان لا يجامع شيئاً من الشر يأتي من قِبل المعتدي فكانت دعاء ترجى إجابته وعهداً بالأمن يجب الوفاء به‏.‏ وفي كلمة ‏{‏عليكم‏}‏ معنى التمكن، أي السلامة مستقرة عليكم‏.‏

ولكون كلمة ‏(‏السلام‏)‏ جامعة لهذا المعنى امتن الله على المسلمين بها بأن جعلها من عند الله إذ هو الذي علّمها رسوله بالوحي‏.‏

وانتصب ‏{‏تحية‏}‏ على الحال من التسليم الذي يتضمنه ‏{‏فسلّموا‏}‏ نظير عود الضمير على المصدر في قوله‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والمباركة‏:‏ المجعولة فيها البركة‏.‏ والبركة‏:‏ وفرة الخير‏.‏ وإنما كانت هذه التحية مباركة لما فيها من نية المسالمة وحسن اللقاء والمخالطة وذلك يوفر خير الأخوة الإسلامية‏.‏

والطيِّبة‏:‏ ذات الطيِّب، وهو طِيب مجازي بمعنى النزاهة والقبول في نفوس الناس ووجه طِيب التحية أنها دعاء بالسلامة وإيذان بالمسالمة والمصافاة‏.‏ ووزن ‏{‏طيبة‏}‏ فيعلة مبالغة في الوصف مثل‏:‏ الفيصل‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏ في آل عمران ‏(‏38‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وجَرَيْن بِهِمْ بريح طيبة‏}‏ في سورة يونس ‏(‏22‏)‏‏.‏

والمعنى أن كلمة «السلام عليكم» تحية خيرٌ من تحية أهل الجاهلية‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحيتهم فيها سلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏ أي تحيتهم هذا اللفظ‏.‏

وجملة ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ تكرير للجملتين الواقعتين قبلها في آية الاستئذان لأن في كل ما وقع قبل هذه الجملة بياناً لآيات القرآن اتضحت به الأحكام التي تضمنتها وهو بيان يرجى معه أن يحصل لكم الفهم والعلم بما فيه كمال شأنكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

لما جرى الكلام السابق في شأن الاستئذان للدخول عُقب ذلك بحكم الاستئذان للخروج ومفارقة المجامع فاعتُني من ذلك بالواجب منه وهو استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم في مفارقة مجلسه أو مفارقة جمععٍ جُمِع عن إذنه لأمر مهم كالشورى والقتال والاجتماع للوعظ ونحو ذلك‏.‏

وكان من أعمال المنافقين أن يحضروا هذه المجامع ثم يتسللوا منها تفادياً من عمل يشق أو سآمةً من سماع كلام لا يهتبلون به، فنعى الله عليهم فعلهم هذا وأعلم بمنافاته للإيمان وأنه شعار النفاق، بأن أعرض عن وصف نفاق المنافقين واعتنى باتصاف المؤمنين الأحقاء بضد صفة المنافقين قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 127‏]‏ ولذلك جاء في أواخر هذه الآيات قوله‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لِوَاذاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏‏.‏

فالقصر المستفاد من ‏(‏إنما‏)‏ قصر موصوف على صفة‏.‏ والتعريف في ‏{‏المؤمنون‏}‏ تعريف الجنس أو العهد، أي أن جنس المؤمنين أو أن الذين عُرفوا بوصف الإيمان هم الذين آمنوا بالله ورسوله ولم ينصرفوا حتى يستأذنوه‏.‏ فالخبر هو مجموع الأمور الثلاثة وهو قصر إضافي قصر إفراد، أي لا غيرُ أصحاب هذه الصفة من الذين أظهروا الإيمان ولا يستأذنون الرسول عند إرادة الانصراف، فجعل هذا الوصف علامة مميزة للمؤمنين الأحقاء عن المنافقين يومئذٍ إذ لم يكن في المؤمنين الأحقاء يومئذٍ من ينصرف عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بدون إذنه، فالمقصود‏:‏ إظهار علامة المؤمنين وتمييزهم عن علامة المنافقين‏.‏ فليس سياق الآية لبيان حقيقة الإيمان لأن للإيمان حقيقة معلومة ليس استئذان النبي صلى الله عليه وسلم عند إرادة الذهاب من أركانها، فعلمت أن ليس المقصود من هذا الحصر سلب الإيمان عن الذي ينصرف دون إذن من المؤمنين الأحقاء لو وقع منه ذلك عن غير قصد الخذل للنبيء صلى الله عليه وسلم أو أذاه، إذ لا يعدو ذلك لو فعله أحد المؤمنين عن أن يكون تقصيراً في الأدب يستحق التأديب والتنبيه على تجنب ذلك لأنه خصلة من النفاق كما ورد التحذير من خصال النفاق في أحاديث كثيرة‏.‏

وعلمتَ أيضاً أن ليس المقصود من التعريف في ‏{‏المؤمنون‏}‏ معنى الكمال لأنه لو كان كذلك لم يحصل قصد التشهير بنفاق المنافقين‏.‏

والأمر‏:‏ الشأن والحال المهم‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏59‏)‏‏.‏

والجامع‏:‏ الذي من شأنه أن يجتمع الناس لأجله للتشاور أو التعلم‏.‏ والمراد‏:‏ ما يجتمع المسلمون لأجله حول الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلسه أو في صلاة الجماعة‏.‏ وهذا ما يقتضيه ‏(‏مع‏)‏ و‏(‏على‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏معه على أمر جامع‏}‏ لإفادة ‏(‏مع‏)‏ معنى المشاركة وإفادة ‏(‏على‏)‏ معنى التمكن منه‏.‏

ووصف الأمر ب ‏{‏جامع‏}‏ على سبيل المجاز العقلي لأنه سبب الجمع‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم‏}‏ في سورة يونس ‏(‏71‏)‏‏.‏

وعن مالك‏:‏ أن هذه الآية نزلت في المنافقين يوم الخندق ‏(‏وذلك سنة خمس‏)‏ كان المنافقون يتسللون من جيش الخندق ويعتذرون بأعذار كاذبة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الذين يستأذنونك‏}‏ إلى آخرها تأكيد لجملة‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏ لأن مضمون معنى هذه الجملة هو مضمون معنى جملة‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏}‏ الآية‏.‏ وقد تفنن في نظم الجملة الثانية بتغيير أسلوب الجملة الأولى فجعل مضمون المسند في الأولى مسنداً إليه في الثانية والمسند إليه في الأولى مسنداً في الثانية ومآل الأسلوبين واحد لأن المآل الإخبار بأن هذا هو ذاك على حدِّ‏:‏ وشعري شعري، تنويهاً بشأن الاستئذان، وليبنى عليها تفريع ‏{‏فإذا استئذنوك لبعض شأنهم‏}‏ ليُعلِّم المؤمنين الأعذار الموجبة للاستئذان، أي ليس لهم أن يستأذنوا في الذهاب إلا لشأن مهم من شؤونهم‏.‏

ووقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏يستأذنوك‏}‏ تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب‏.‏

وقد خير الله رسوله في الإذن لمن استأذنه من المؤمنين لأنه أعلم بالشأن الذي قضاؤه أرجح من حضور الأمر الجامع لأن مشيئة النبي لا تكون عن هوى ولكن لعذر ومصلحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واستغفر لهم الله‏}‏ مؤذن بأن ذلك الانصراف خلاف ما ينبغي لأنه لترجيح حاجته على الإعانة على حاجة الأمة‏.‏

وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع‏.‏ وقد أشارت مشروعية الإمامة إلى ذلك النظام‏.‏ ومن السنة أن لا يجتمع جماعة إلا أمّروا عليهم أميراً فالذي يترأس الجمع هو قائم مقام ولي أمر المسلمين فهو في مقام النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه، لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جُمعت لأجلها، وكذلك الأدب أيضاً في التخلف عن الاجتماع عند الدعوة إليه كاجتماع المجالس النيابية والقضائية والدينية أو التخلف عن ميقات الاجتماع المتفق عليه إلا لعذر واستئذان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

لما كان الاجتماع للرسول في الأمور يقع بعدَ دَعوته الناس للاجتماع وقد أمرهم الله أن لا ينصرفوا عن مجامع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا لعذر بعد إذنه أنبأهم بهذه الآية وجوب استجابة دعوة الرسول إذا دعاهم‏.‏ وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏24‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تجعلوا دعوة الرسول إياكم للحضور لديه مخيَّرين في استجابتها كما تتخيرون في استجابة دعوة بعضكم بعضاً، فوجه الشبه المنفي بين الدعوتين هو الخيار في الإجابة‏.‏ والغرض من هذه الجملة أن لا يتوهموا أن الواجب هو الثبات في مجامع الرسول إذا حضروها، وأنهم في حضورها إذا دُعوا إليها بالخيار، فالدعاء على هذا التأويل مصدر دعاه إذا ناداه أو أرسل إليه ليحضر‏.‏

وإضافة ‏{‏دعاء‏}‏ إلى ‏{‏الرسول‏}‏ من إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏ ويجوز أن تكون إضافة ‏{‏دعاء‏}‏ من إضافة المصدر إلى مفعوله والفاعل المقدر ضمير المخاطبين‏.‏ والتقدير‏:‏ لا تجعلوا دعاءكم الرسولَ، فالمعنى نهيهم‏.‏

ووقع الالتفات من الغيبة إلى خطاب المسلمين حثّاً على تلقي الجملة بنشاط فهممٍ، فالخطاب للمؤمنين الذين تحدث عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يستأذنونك‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ الخ‏.‏ نُهوا عن أن يدْعوا الرسول عند مناداته كما يدعو بعضهم بعضاً في اللفظ أو في الهيئة‏.‏ فأما في اللفظ فبأن لا يقولوا‏:‏ يا محمد، أو يا ابن عبد الله، أو يا ابن عبد المطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبيء الله، أو بكنيته يا أبا القاسم‏.‏ وأما في الهيئة فبأن لا يدعُوه من وراء الحجرات، وأن لا يُلحوا في دعائه إذا لم يخرج إليهم، كما جاء في سورة الحجرات‏.‏ لأن ذلك كله من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا أدب للمسلمين وسدّ لأبواب الأذى عن المنافقين‏.‏ وإذ كانت الآية تحتمل ألفاظُها هذا المعنى صح للمتدبر أن ينتزع هذا المعنى منها إذ يكفي أن يأخذ من لاح له معنى ما لاح له‏.‏

و ‏{‏بينكم‏}‏ ظرف إما لغو متعلق ب ‏{‏تجعلوا‏}‏، أو مستقِرّ صفة ل ‏{‏دعاء‏}‏، أي دعاءه في كلامكم‏.‏ وفائدة ذكره على كلا الوجهين التعريض بالمنافقين الذين تمالؤوا بينهم على التخلف عن رسول الله إذا دعاهم كلما وجدوا لذلك سبيلاً كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏ فالمعنى‏.‏ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كما جعل المنافقون بينهم وتواطأوا على ذلك‏.‏

وهذه الجملة معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ وما تبعها وبين جملة‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً‏}‏ استئناف تهديد للذين كانوا سبب نزول آية

‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ الآية، أي أولئك المؤمنون وضدهم المعرض بهم ليسوا بمؤمنين‏.‏ وقد علِمَهم الله وأطلع على تسللهم‏.‏

‏(‏وقد‏)‏ لتحقيق الخبر لأنهم يظنون أنهم إذا تسللوا متستّرين لم يطلع عليهم النبي فأعلمهم الله أنه عَلمهم، أي أنه أعْلم رسوله بذلك‏.‏

ودخول ‏(‏قد‏)‏ على المضارع يأتي للتكثير كثيراً لأن ‏(‏قد‏)‏ فيه بمنزلة ‏(‏رب‏)‏ تستعمل في التكثير، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله المعوقين منكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 18‏]‏ وقول زهير‏:‏

أخو ثقةٍ لا تُهلك الخمرُ مالَه *** ولكنه قد يُهلك المَالَ نائلُه

و‏{‏الذين يتسللون‏}‏ هم المنافقون‏.‏ والتسلل‏:‏ الانسلال من صُبرة، أي الخروج منه بخفية خروجاً كأنه سَلّ شيء من شيء‏.‏ يقال‏:‏ تسلل، أي تكلف الانسلال مثل ما يقال‏:‏ تدخل إذا تكلف إدخال نفسه‏.‏

واللواذ‏:‏ مصدر لاَوَذَهُ، إذا لاَذَ به ولاذَ به الآخر‏.‏ شبه تستر بعضهم ببعض عن اتفاق وتآمر عند الانصراف خفية بلوذ بعضهم ببعض لأن الذي ستر الخارج حتى يخرج هو بمنزلة من لاذ به أيضاً فجعل حصول فعله مع فعل اللائذ كأنه مفاعلة من اللوذ‏.‏

وانتصب ‏{‏لواذاً‏}‏ على الحال لأنه في تأويل اسم الفاعل‏.‏

و ‏{‏منكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يتسللون‏}‏‏.‏ وضمير ‏{‏منكم‏}‏ خطاب للمؤمنين، أي قد علم الله الذين يخرجون من جماعتكم متسللّين ملاوذين‏.‏

وفرع على ما تضمنته جملة‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً‏}‏ تحذير من مخالفة ما نهى الله عنه بقوله‏:‏ ‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم‏}‏ الآية بعد التنبيه على أنه تعالى مطلع على تسللهم‏.‏

والمخالفة‏:‏ المغايرة في الطريق التي يمشي فيها بأن يمشي الواحد في طريق غير الطريق الذي مشى فيه الآخر، ففعلها متعدّ‏.‏ وقد حذف مفعوله هنا لظهور أن المراد الذين يخالفون الله، وتعدية فعل المخالفة بحرف ‏(‏عن‏)‏ لأنَّه ضُمّن معنى الصدود كما عُدّي ب ‏(‏إلى‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ لما ضمن معنى الذهاب‏.‏ يقال خالفه إلى الماء، إذا ذهب إليه دونه، ولو تُرِكت تعديته بحرف جر لأفاد أصل المخالفة في الغرض المسوق له الكلام‏.‏

وضمير ‏{‏عن أمره‏}‏ عائد إلى الله تعالى‏.‏ والأمر هو ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً‏}‏ فإن النهي عن الشيء يستلزم الأمرَ بضده فكأنه قال‏:‏ اجعلوا لدعاء الرسول الامتثال في العلانية والسر‏.‏ وهذا كقول ابن أبي ربيعة‏:‏

فقلْنَ لها سراً فديناككِ لا يرُحْ *** صحيحاً وإن لم تقتليه فألمم

فجعل قولهن‏:‏ «لا يَرح صحيحاً» وهو نهي في معنى‏:‏ اقتليه، فبنى عليه قوله‏:‏ «وإن لَم تَقتليه فألمم»‏.‏

والحذر‏:‏ تجنب الشيء المخيف‏.‏ والفتنة‏:‏ اضطراب حال الناس، وقد تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في البقرة ‏(‏191‏)‏‏.‏ والعذاب الأليم هنا عذاب الدنيا، وهو عذاب القتل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

ث تذييل لما تقدم في هذه السورة كلها‏.‏ وافتتاحه بحرف التنبيه إيذان بانتهاء الكلام وتنبيه للناس ليعُوا ما يرد بعد حرف التنبيه، وهو أن الله مالك ما في السماوات والأرض، فهو يجازي عباده بما يستحقون وهو عالم بما يفعلون‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ما أنتم عليه‏}‏ الأحوال الملابسين لها من خير وشر، فحرف الاستعلاء مستعار للتمكن‏.‏

وذكَّرهم بالمعاد إذ كان المشركون والمنافقون منكرينه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فينبئهم بما عملوا‏}‏ كناية عن الجزاء لأن إعلامهم بأعمالهم لو لم يكن كناية عن الجزاء لما كانت له جدوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ تذييل لجملة‏:‏ ‏{‏قد يعلم ما أنتم عليه‏}‏ لأنه أعم منه‏.‏

وفي هذه الآية لطيفة الاطلاع على أحوالهم لأنهم كانوا يسترون نفاقهم‏.‏

سورة الفرقان

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل، مثل قول طرفة‏:‏

لخولة أطلال ببُرقة ثِهمد ***

أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرئ القيس‏:‏

قِفَا نَبْكِ البيت ***

أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل ‏(‏إن‏)‏ و‏(‏قد‏)‏ والهمزة و‏(‏هل‏)‏‏.‏ ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلَّزة‏:‏

آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماءُ ***

وقول النَّابغَة‏:‏

كتمتُكَ ليلا بالجمومين ساهراً *** وهَمَّيْن هَمّاً مستكنّاً وظاهرا

وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة، والعزّةُ من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال‏.‏

وتبارك‏:‏ تعاظم خيره وتوفر، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الله رب العالمين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏54‏)‏‏.‏

والبركة‏:‏ الخير، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهبط بسلام مِنَّا وبركاتٍ عليك‏}‏ في سورة هود ‏(‏48‏)‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏تحية من عند الله مباركة طيبة‏}‏ في سورة النور ‏(‏61‏)‏‏.‏

وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان‏}‏ أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة، أو إظهار غرايب صدرت، كقول امرئ القيس‏:‏

ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي *** فيا عجباً من كوْرها المتحمَّلِ

وإنما يتعجب من إقدامه على أن جَعَل كور المطية يحمله هو بعد عَقرها‏.‏ ومنه قول الفِند الزِّمَّاني‏:‏

أيا طعنةَ ما شيخٍ *** كبيرٍ يفن بَالِي

يريد طعنة طعنها قِرْنَه‏.‏ ***

والذي نزل الفرقان هو الله تعالى‏.‏ وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل‏:‏ تباركتُ‏.‏

والموصول يومئ إلى علة ما قَبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله‏:‏ ‏{‏ليكون للعالمين نذيراً‏}‏‏.‏ فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله‏.‏ وهو أيضاً كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة السلام‏.‏

والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنَها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكُنه الذي ينكرونه‏.‏

والفرقان‏:‏ القرآن وهو في الأصل مصدر فرق، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَجعَلْ لكم فُرقاناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وجعل علماً بالغلبة على القرآن لأنه فرّق بين الحق والباطل لما بيَّن من دلائل الحق ودحض الباطل‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل الفرقان‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏4‏)‏‏.‏

وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانيَّة وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرّق بين الحق والباطل‏.‏

ووصفُ النبي ب ‏{‏عبده‏}‏ تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله‏:‏

‏{‏وقالوا مالِ هذا الرسول يأكل الطعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏

والمراد ب ‏{‏للعالمين‏}‏ جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بحسب ما يسمح به المقام، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قُصدوا بالتكليف‏.‏ وقد مضى الكلام على لفظ ‏{‏العالمين‏}‏ في سورة الفاتحة ‏(‏2‏)‏‏.‏

والنذير‏:‏ المخبِر بسوء يقع، وهو فَعيل بمعنى مُفْعِل بصيغة اسم الفاعل مثل الحَكيم‏.‏ والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشير كما في قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏ لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ فكان مقتضياً لذكر النذارة دون البشارة، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة‏.‏ وسيجيء‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً‏}‏ في هذه السورة ‏(‏56‏)‏‏.‏

وفي هذه الآية جمع بين التنويه بشأن القرآن وأنه منزل من الله وتنويه بشأن النبي عليه الصلاة والسلام ورفعة منزلته عند الله وعموم رسالته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربعُ بطريق تعريف الموصوليَّة لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصافُ الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة؛ وإذ قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على مَن عُرِف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هُوَ خالق كل شيء كما في قوله‏:‏ ‏{‏قل مَن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله‏}‏ الآياتتِ من سورة المؤمنين ‏(‏86، 87‏)‏، ولكنهم يثبتون لله ولَداً وشريكاً في الملك‏.‏

ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما مَعهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلَّمَين كالدليل أوّلاً والنتيجة آخراً، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولَداً ولا أن يتخذ شريكاً لأن ملكه العظيم يقتضي غِنَاهُ المطلقَ فيقتضي أن يكون اتخاذه ولداً وشريكاً عبثاً إذ لا غاية له، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس‏.‏

فقوله‏:‏ الذي له ملك السموات والأرض‏}‏ بدل مِن ‏{‏الذي نزّل الفرقان‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانيَّة‏.‏

وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها‏.‏

والخلق‏:‏ الإيجاد، أي أوجد كل موْجود من عظيم الأشياء وحقيرها‏.‏ وفُرع على ‏{‏خلق كل شيء فقدره تقديراً‏}‏ لأنه دليل على إتقان الخلق إتقاناً يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال‏.‏

ومعنى ‏{‏قدّره‏}‏ جعله على مقدار وحدَ معيّن لا مجرد مصادفة، أي خلقه مقدراً، أي محكماً مضبوطاً صالحاً لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل‏.‏ وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعيّنها كقوله‏:‏ ‏{‏إنا كلَّ شيء خلقناه بقَدَر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنزل من السماء ماء فسالت أوديةً بقَدَرِها‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏17‏)‏‏.‏ وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله‏:‏ تقديراً‏}‏ للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير‏.‏

وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم، فهو عطف على جملة‏:‏ ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية، وأردفت بقوله‏:‏ ‏{‏وخلق كل شيء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئاً للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإله المنعوت بصفات الكمال والجلال‏.‏

فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهةً أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر‏.‏

وبين قوله‏:‏ ‏{‏ولم يتخذ ولداً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دونه آلهة‏}‏ محسن الطباق‏.‏

وضمير‏:‏ ‏{‏اتخذوا‏}‏ عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما هم معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قوله‏:‏ ‏{‏ولم يكن له شريك في الملك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا يخلقون شيئاً‏}‏ مقابلة جملة ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهم يخلقون‏}‏ مقابلة جملة‏:‏ ‏{‏ولم يتخذ ولداً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولداً منه فلا يكون مخلوقاً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً‏}‏ مقابلة جملة‏:‏ ‏{‏ولم يكن له شريك في الملك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف‏.‏

وضمير‏:‏ ‏{‏لأنفسهم‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏آلهة‏}‏ أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم‏.‏ ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏واتخذوا‏}‏ أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم‏.‏

واعلم أن ‏{‏ضراً ولا نفعاً‏}‏ هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال، فكأنه قيل‏:‏ لا يملكون التصرف بحال من الأحوال‏.‏ وهذا نظير أن يقال‏:‏ شرقاً وغرباً، وليلاً ونهاراً‏.‏ وبذلك يندفع ما يشكل في بادئ الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه، وبذلك أيضاً لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع، لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين، فالمتكلم مخير في ذلك والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنّن‏.‏

والمجرور في ‏{‏لأنفسهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يملكون‏}‏‏.‏

والضَّر بفتح الضاد مصدر ضرَّه، إذا أصابه بمكروه‏.‏ وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله‏}‏ في سورة يونس ‏(‏49‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً‏}‏ مقابلة جملة ‏{‏وخلق كل شيء فقدره تقديراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت، وذلك من المشاهدات‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏ولا نشوراً‏}‏ فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشوراً يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء يقتضي تحقق ماهيته‏.‏

وأما نحو قول امرئ القيس‏:‏

على لاحب لا يهتدي بمناره ***

يريد لا منار فيه‏.‏ وقول ابن أحمر‏:‏

لا تُفزع الأرنبَ أهوالُها *** ولا ترى الضبّ بها ينجحر

أراد‏:‏ أنها لا أرنب فيها ولا ضب‏.‏ فهو من قبيل التلميح‏.‏

ذُكر في هذه الآية من أقوالهم المقابلة للجمل الموصوف بها الله تعالى اهتماماً بإبطال كفرهم المتعلق بصفات الله لأن ذلك أصل الكفر ومادته‏.‏

واعلم أن معنى‏:‏ ‏{‏وهم يخلقون‏}‏ وهم يُصنعون، أي يصنعهم الصانعون لأن أصنامهم كلها حجارة منحوتة فقد قومتها الصنعة، فأطلق الخلق على التشكيل والنحت من فعل الناس، وإن كان الخلق شاع في الإيجاد بعد العدم؛ إما اعتباراً بأصل مادة الخلق وهو تقدير مقدار الجلد قبل فريه كما قال زهير‏:‏

ولأنت تفري ما خلقت وبع *** ضُ الناس يخلق ثم لا يفري

فأطلق الخلق على النحت؛ إما على سبيل المجاز المرسل، وإما مشاكلة لقوله‏:‏ ‏{‏لا يخلقون شيئاً‏}‏‏.‏

والمِلك في قوله‏:‏ ‏{‏لا يملكون‏}‏ مستعمل في معنى القدرة والاستطاعة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم‏}‏ في سورة العقود ‏(‏17‏)‏، وقوله فيها‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 76‏]‏، أي من لا يقدر على ضركم ولا نفعكم‏.‏ فقوله هنا‏:‏ ‏{‏لأنفسهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يملكون‏}‏، واللام فيه لام التعليل، أي لا يملكون لأجل أنفسهم، أي لفائدتها‏.‏

ثم إن المراد ب ‏{‏أنفسهم‏}‏ يجوز أن يكون الجمع فيه باعتبار التوزيع على الآحاد المفادة بضمير ‏{‏يملكون‏}‏، أي لا يملك كل واحد لنفسه ضراً ولا نفعاً، ويكون المراد بالضر دفعه على تقدير مضاف دل عليه المقام لأن الشخص لا يتعلق غرضه بضر نفسه حتى يقرَع بأنه عاجز عن ضر نفسه‏.‏

وتنكير ‏{‏موتاً وحياة‏}‏ في سياق النفي للعموم، أي موت أحد من الناس ولا حياته‏.‏

والنشور‏:‏ الإحياء بعد الموت‏.‏ وأصله نشر الشيء المطوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة‏.‏

والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه، وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك، بخلاف ما حكي آنفاً من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم‏.‏

وهذه الجملة مقابلة جملة‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة‏.‏ وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دونه آلهة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 3‏]‏ اهتماماً بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفاً‏.‏

والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من ‏(‏إنْ‏)‏ النافية و‏(‏إلاّ‏)‏ قصر قلب؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله‏.‏

وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد‏.‏ فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه‏.‏ وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال‏:‏ بنو أسد قتلوا حجراً‏.‏

واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن‏.‏

والضمير المرفوع في ‏{‏افتراه‏}‏ عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله‏:‏ ‏{‏على عبده‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والإفك‏:‏ الكذب‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين جاءو بالإفك‏}‏ في سورة النور ‏(‏11‏)‏‏.‏ والإفتراء‏:‏ اختلاق الأخبار، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة العقود ‏(‏103‏)‏‏.‏

‏{‏وأعانه عليه‏}‏ أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله، وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود‏.‏ روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس‏:‏ أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم‏:‏ عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار أبو فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي، وفي «سيرة ابن هشام» أنه مولى صفوان بن أمية بن محرِّث، وجبر مولى عامر‏.‏ وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئاً من التوراة والإنجيل ثم أسلموا، وقد مر ذلك في سورة النحل، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سراً ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل‏.‏

والقصر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون‏}‏ متسلط على كلتا الجملتين، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين، هما‏:‏ أن يكون افترى بعضه من نفسه، وأعانه قوم على بعضه‏.‏

وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلماً وزوراً لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء‏.‏

و ‏{‏جاءو‏}‏ مستعمل في معنى ‏(‏عملوا‏)‏ وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية‏.‏

والظلم‏:‏ الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن منع مساجد الله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏114‏)‏‏.‏ والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق‏.‏

والزور‏:‏ الكذب، وأحسن ما قيل في الزور‏:‏ إنه الكذب المحسَّن المموَّه بحيث يشتبه بالصدق‏.‏

وكون قولهم ذلك كذباً ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

الضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصلة مراعى في هذا الضمير إيماء إلى أن هذا القول من آثار كفرهم‏.‏

الأساطير‏:‏ جمع أسطورة بضم الهمزة كالأُحدوثة والأحاديث، والأُغلوطة والأغاليط، وهي القصة المسطورة‏.‏ وقد تقدم معناها مفصلاً عند قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏25‏)‏‏.‏ وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث العبدري قال‏:‏ إن القرآن قصص من قصص الماضين‏.‏ وكان النضر هذا قد تعلم بالحيرة قصص ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار فكان يقول لقريش‏:‏ أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً من محمد فهلُمَّ أحدثكم؛ وكان يقول في القرآن‏:‏ هو أساطير الأولين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن فالمقصود منه قول النضر بن الحارث‏.‏ وقد تقدم هذا في سورة الأنعام وفي أول سورة يوسف‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏اكتتبها‏}‏ نعت أو حال ل ‏{‏أساطير الأولين‏}‏‏.‏

والاكتتاب‏:‏ افتعال من الكتابة، وصيغة الافتعال تدل على التكلف لحصول الفعل، أي حصوله من فاعل الفعل، فيفيد قوله‏:‏ ‏{‏اكتتبها‏}‏ أنه تكلف أن يكتبها‏.‏ ومعنى هذا التكلف أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أميّاً كان إسناد الكتابة إليه إسناداً مجازياً فيؤول المعنى‏:‏ أنه سأل من يكتبها له، أي ينقلها، فكان إسناد الاكتتاب إليه إسناداً مجازياً لأنه سببه، والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أميّ لا يكتب، ومن قوله‏:‏ ‏{‏فهي تملى عليه‏}‏ لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرأها بنفسه‏.‏ فالمعنى‏:‏ استنسخها‏.‏ وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو بمعناه، ومراد النضر بهذا الوصف ترويج بهتانه لأنه علم أن هذا الزور مكشوف قد لا يُقبل عند الناس لعلمهم بأن النبي أميّ فكيف يستمد قرآنه من كتب الأولين فهيَّأ لقبول ذلك أنه كتبت له، فاتخذها عنده فهو يناولها لمن يحسن القراءة فيملي عليه ما يقصه القرآن‏.‏

والإملاء‏:‏ هو الإملال وهو إلقاء الكلام لمن يكتب ألفاظه أو يرويها أو يحفظها‏.‏ وتفريع الإملاء على الاكتتاب كان بالنظر إلى أن إملاءها عليه ليقرأها أو ليحفظها‏.‏

والبُكْرة‏:‏ أول النهار‏.‏ والأصيل‏:‏ آخر المساء، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏بالغدوّ والآصال‏}‏ في آخر الأعراف ‏(‏205‏)‏، أي تملى عليه طرفي النهار‏.‏ وهذا مستعمل كناية عن كثرة الممارسة لتلقي الأساطير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

لقن الله رسوله الجواب لرد بهتان القائلين إن هذا القرآن إلا إفك، وإنه أساطير الأولين، بأنه أنزله الله على رسوله‏.‏

وعبر عن منزل القرآن بطريق الموصول لما تقتضيه الصلة من استشهاد الرسول الله على ما في سره لأن الله يعلم كل سر في كل مكان‏.‏

فجملة الصلة مستعملة في لازم الفائدة وهو كون المتكلم، أي الرسول، عالماً بذلك‏.‏ وفي ذلك كناية عن مراقبته الله فيما يبلغه عنه‏.‏ وفي ذلك إيقاظ لهم بأن يتدبروا في هذا الذي زعموه إفكاً أو أساطير الأولين ليظهر لهم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر، فيُوقِنُوا أن القرآن لا يكون إلا من إنزاله، وليعلموا براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستعانة بمن زعموهم يعينونه‏.‏

والتعريف في ‏{‏السر‏}‏ تعريف الجنس يستغرق كل سر، ومنه إسرار الطاعنين في القرآن عن مكابرة وبهتان، أي يعلم أنهم يقولون في القرآن ما لا يعتقدونه ظلماً وزوراً منهم، وبهذا يعلم موقع جملة‏:‏ ‏{‏إنه كان غفوراً رحيماً‏}‏ ترغيباً لهم في الإقلاع عن هذه المكابرة وفي اتباع دين الحق ليغفر الله لهم ويرحمهم، وذلك تعريض بأنهم إن لم يقلعوا ويتوبوا حَق عليهم الغضب والنقمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ‏(‏7‏)‏ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏8‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ ‏{‏أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا‏}‏‏.‏

انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

والضمير عائد إلى الذين كفروا، فمدلول الصفة مراعىً كما تقدم‏.‏

وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثارُ الاستفهام‏.‏

والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولاً بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها‏.‏ وتركيب ‏{‏ما لهذا‏}‏ ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له، فاسم الاستفهام مبتدأ و‏{‏لهذا‏}‏ خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏يأكل الطعام‏}‏ جملة حال‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لهذا الرسول‏}‏ أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال‏.‏

والإشارة إلى حاضر في الذهن، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرّف بلام العهد وهو الرسول‏.‏

وكنّوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعاً منهم إلى إبطال كونه رسولاً لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس، وخصّوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة، ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا‏:‏ ‏{‏لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً‏}‏‏.‏ وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه‏.‏

و ‏(‏لولا‏)‏ حرف تحضيض مستعمل في التعجيز، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه‏.‏

وانتصب ‏(‏فيكونَ‏)‏ على جواب التحضيض‏.‏

و ‏(‏أو‏)‏ للتخيير في دلائل الرسالة في وهَمهم‏.‏

ومعنى ‏{‏يلقى إليه كنز‏}‏ أي ينزل إليه كنز من السماء، إذ كان الغنى فتنة لقلوبهم‏.‏ والإلقاء‏:‏ الرمي، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله لأنهم يتخيلون الله تعالى في السماء‏.‏

والكنز تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز‏}‏ في سورة هود ‏(‏12‏)‏‏.‏ وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوءة لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يأكل منها‏}‏ بياء الغائب، والضمير المستتر عائد إلى ‏{‏هذا الرسول‏}‏‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وخلف ‏{‏نأكل منها‏}‏ بنون الجماعة‏.‏ والمعنى‏:‏ ليتيقنوا أن ثمرها حقيقةٌ لا سحر‏.‏

ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، وأبا البختري، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعبد الله بن أبي أمية، والعاصي بن وائل، ونُبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج، والنضر بن الحارث، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس إذ لم يعين أهل السير قائلها‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك‏.‏ وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء‏.‏

وكتبت لام ‏{‏مال هذا‏}‏ منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف لأن رسم المصحف سنة فيه، كما كتب ‏{‏مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏49‏)‏، وكما كتب‏:‏ ‏{‏مال الذين كفروا قبلك مهطعين‏}‏ في سورة سأل سائل ‏(‏36‏)‏، وكما كتب‏:‏ ‏{‏فمال هؤلاء القوم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏78‏)‏‏.‏ ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلاً بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين فبقيت على يد أحد كتّاب المصحف أثارة من ذلك، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم‏.‏ وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسيناً للرسم وتسهيلاً لتبادر المعنى، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح‏.‏ وأكثر ما وصلوا منه هو الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل ‏(‏ال‏)‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً‏}‏ ‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً‏}‏‏.‏

الظالمون‏:‏ هم المشركون، فغير عنوانهم الأول إلى عنوان الظلم وهم هم تنبيهاً على أن في هذا القول اعتداء على الرسول بنبزه بما هو بريء منه وهم يعلمون أنه ليس كذلك فظلمهم له أشد ظلم، وصلى الله عليه وسلم‏.‏

ذكر الماوردي‏:‏ أن قائل‏:‏ ‏{‏إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ هو عبد الله بن الزِّبَعْرَى، أي هو مبتكر هذا البهتان وإنما أسند القول إلى جميع الظالمين لأنهم تلقفوه ولهجوا به‏.‏

والمسحور‏:‏ الذي أصابه السحر، وهو يورث اختلال العقل عندهم، أي ما تتبعون إلا رجلاً أصابه خلل العقل فهو يقول ما لا يقول مثله العقلاء‏.‏

وذِكْر ‏{‏رجلاً‏}‏ هنا لتمهيد استحالة كونه رسولاً لأنه رجل من الناس‏.‏ وهذا الخطاب خاطبوا به المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم

ومعنى‏:‏ ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا‏}‏ أنهم ضربوا لك الأمثال الباطلة بأن مثلوك برجل مسحور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏انظر‏}‏ مستعار لمعنى العلم تشبيهاً للأمر المعقول بالأمر المرئي لشدة وضوحه‏.‏

و ‏(‏كيف‏)‏ اسم للكيفية والحالة مجرد هنا عن معنى الاستفهام‏.‏

وفرع على هذا التعجيب إخبار عنهم بأنهم ضلوا في تلفيق المطاعن في رسالة الرسول فسلكوا طرائق لا تصل بهم إلى دليل مقنع على مرادهم، ففعل ‏{‏ضلوا‏}‏ مستعمل في معنييه المجازيين هما‏:‏ معنى عدم التوفق في الحجة، ومعنى عدم الوصول للدين الحق، وهو هنا تعجيب من خَطَلِهم وإعراضٌ عن مجاوبتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله، وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشئ عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية، ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها‏.‏

فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله‏:‏ ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك‏}‏‏.‏

وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم ‏{‏أو تكون له جنة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ الخ، أي إن شاء جعل لك خيراً من الذي اقترحوه، أي أفضل منه، أي إن شاء عجله لك في الدنيا، فالإشارة إلى المذكور من قولهم، فيجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جناتتٍ في الدنيا وقصوراً فيها، أي خيراً من الذي اقترحوه دليلاً على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور‏.‏ وبهذا فسر جمهور المفسرين‏.‏ وعلى هذا التأويل تكون ‏(‏إن‏)‏ الشرطية واقعة موقع ‏(‏لو‏)‏، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعداً من الله لرسوله‏.‏

واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله، فالله شاء ذلك لا محالة، بأن يقال‏:‏ تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك‏.‏ فموقع ‏{‏إن شاء‏}‏ اعتراض‏.‏

وأصل المعنى‏:‏ تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك جنات إلى آخره‏.‏ ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم ‏{‏ويجعلُ لك قصوراً‏}‏ برفع ‏{‏يجعلُ‏}‏ على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط، وقراءة الأكثر بالجزم عطفاً على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة، وهذا المحمل أشد تبكيتاً للمشركين وقطعاً لمجادلتهم، وقرينة ذلك قوله بعده‏:‏ ‏{‏بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 11‏]‏، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين‏.‏

والقصور‏:‏ المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏تتخذون من سهولها قصوراً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏74‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وقصر مشيد‏}‏ في سورة الحج ‏(‏45‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏بل‏}‏ للإضراب، فيجوز أن يكون إضرابَ انتقال من ذكر ضلالهم في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكر ضلالهم في إنكار البعث على تأويل الجمهور قوله‏:‏ ‏{‏إن شاء جعل لك خيراً من ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏ كما تقدم‏.‏

ويجوز أن يكون اضرابَ إبطال لما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏إن شاء جعل لك خيراً من ذلك على تأويل ابن عطية من الوعد بإيتائه ذلك في الآخرة، أي بل هم لا يقنعون بأن حظ الرسول عند ربه ليس في متاع الدنيا الفاني الحقير ولكنه في خيرات الآخرة الخالدة غير المتناهية، أي أن هذا رد عليهم ومقنع لهم لو كانوا يصدّقون بالساعة ولكنهم كذبوا بها فهم متمادون على ضلالهم لا تُقنعهم الحجج‏.‏

والساعة‏:‏ اسم غلب على عالم الخلود، تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث‏.‏ وإنما قصر تكذيبهم على الساعة لأنهم كذبوا بالبعث فهم بما وراءه أحرى تكذيباً‏.‏

وجملة‏:‏ وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً‏}‏ معترضة بالوعيد لهم، وهو لعمومه يشمل المشركين المتحدث عنهم، فهو تذييل‏.‏ ومن غرضه مقابلة ما أعد الله للمؤمنين في العاقبة بما أعده للمشركين‏.‏

والسعير‏:‏ الالتهاب، وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعور، أي زيد فيها الوقود، وهو معامل معاملة المذكر لأنه من أحوال اللهب، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما خَبَتْ زِدْناهُم سعيراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏97‏)‏‏.‏ وقد يطلق علَماً بالغلبة على جهنم وذلك على حذف مضاف، أي ذات سعير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ‏(‏13‏)‏ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

تخلص من اليأس من اقتناعهم إلى وصف السعير الذي أعد لهم، وأجري على السعير ضمير ‏{‏رأتهم‏}‏ بالتأنيث لتأويل السعير بجهنم إذ هو علم عليها بالغلبة كما تقدم‏.‏

وإسناد الرؤية إلى النار استعارة والمعنى‏:‏ إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظاً وزفيراً من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى‏:‏ ‏{‏رأتهم‏}‏ رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازاً عقلياً‏.‏

والتغيظ‏:‏ شدة الغيظ‏.‏ والغيظ‏:‏ الغضب الشديد، وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏119‏)‏‏.‏ فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلف الفعل مستعملة مجازاً في قوته لأن المتكلف لفعل يأتي به كأشد ما يكون‏.‏

والمراد به هنا صوت المتغيظ، بقرينة تعلقه بفعل‏:‏ ‏{‏سمعوا‏}‏ فهو تشبيه بليغ‏.‏

والزفير‏:‏ امتداد النفَس من شدة الغيظ وضيق الصدر، أي صوتاً كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضاً‏.‏ ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكاً للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا‏.‏

وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء ‏"‏ رواه في «الموطأ»‏:‏ زاد في رواية مسلم‏:‏ ‏"‏ فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سَمُومها ‏"‏

وجُعل إزجاؤهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في الكناية بهم لأن بعد المكان يقتضي زيادة المشقة إلى الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا‏.‏

ووصف وصولهم إلى جهنم من مكان بعيد ووضعهم فيها بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرَّنين دعوا هنالك ثبوراً‏}‏ فصيغ نظمه في صورة توصيف ضجيج أهل النار من قوله‏:‏ ‏{‏دعوا هنالك ثبوراً‏}‏، وأدمج في خلال ذلك وصف داخل جهنم ووصف وضع المشركين فيها بقوله‏:‏ ‏{‏مكاناً ضيقاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مقرنين‏}‏ تفنناً في أسلوب الكلام‏.‏

والإلقاء‏:‏ الرمي‏.‏ وهو هنا كناية عن الإهانة‏.‏

وانتصب ‏{‏مكاناً‏}‏ على نزع الخافض، أي في مكان ضيّق‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ضيقاً‏}‏ بتشديد الياء، وقرأه ابن كثير ‏{‏ضيْقاً‏}‏ بسكون الياء وكلاهما للمبالغة في الوصف مثل‏:‏ ميّت وميْت، لأن الضيّق بالتشديد صيغة تمكُّن الوصف من الموصوف، والضيْق بالسكون وصف بالمصدر‏.‏

و ‏{‏مقرنين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ألقوا‏}‏ أي مقرَّناً بعضهم في بعض كحال الأسرى والمساجين أن يُقرن عدد منهم في وثاق واحد، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وآخرين مقرنين في الأصفاد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ والمقرَّن‏:‏ المقرون، صيغت له مادة التفعيل للإشارة إلى شدة القرن‏.‏

والدعاء‏:‏ النداء بأعلى الصوت، والثبور‏:‏ الهلاك، أي نادوا‏:‏ يا ثبورنا، أو واثبوراه بصيغة الندبة، وعلى كلا الاحتمالين فالنداء كناية عن التمني، أي تمنوا حلول الهلاك فنادوه كما ينادى من يُطلب حضوره، أو ندبوه كما يندب من يتحسر على فقده، أي تمنوا الهلاك للاستراحة من فظيع العذاب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً‏}‏ إلى آخرها مقولة لقول محذوف، أي يقال لهم، ووصف الثبور بالكثير إما لكثرة ندائه بالتكرير وهو كناية عن عدم حصول الثبور لأن انتهاء النداء يكون بحضور المنادَى، أو هو يأس يقتضي تكرير التمني أو التحسر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

الأمر بالقول يقتضي مخاطباً مقولاً له ذلك‏:‏ فيجوز أن يقصد‏:‏ قل لهم، أي للمشركين الذين يسمعون الوعيد والتهديد السابق‏:‏ «أذلك خير أم الجنة»‏؟‏ فالجمل متصلة السياق، والاستفهام حينئذٍ للتهكم إذ لا شبهة في كون الجنة الموصوفة خيراً‏.‏ ويجوز أن يقصد‏:‏ قل للمؤمنين، فالجملة معترضة بين آيات الوعيد لمناسبة إبداء البون بين حال المشركين وحال المؤمنين، والاستفهام حينئذٍ مستعمل في التلميح والتلطف‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أذلك خيرٌ نُزُلاً أم شجرةُ الزقوم‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏62‏)‏‏.‏

والإشارة إلى المكان الضيق في جهنم‏.‏

و ‏{‏خير‏}‏ اسم تفضيل، وأصله ‏(‏أخير‏)‏ بوزن اسم التفضيل فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال‏.‏ والتفضيل على المحمل الأول في موقع الآية مستعمل للتهكم بالمشركين‏.‏ وعلى المحمل الثاني مستعمل للتلميح في خطاب المؤمنين وإظهار المنة عليهم‏.‏

ووصف الموعودين بأنهم متقون على المحمل الأول جار على مقتضى الظاهر، وعلى المحمل الثاني جار على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير الخطاب، فوجه العدول إلى الإظهار ما يفيده ‏{‏المتقون‏}‏ من العموم للمخاطبين ومن يجيء بعدهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كانت لهم جزاء ومصيراً‏}‏ تذييل لجملة‏:‏ ‏{‏جنة الخلد التي وعد المتقون‏}‏ لما فيها من التنويه بشأن الجنة بتنكير ‏{‏جزاء ومصيراً‏}‏ مع الإيماء إلى أنهم وعدوا بها وعد مجازاة على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نعم الثواب وحسنت مرتفقاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بئس الشراب وساءت مرتفقاً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏31 29‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ لهم فيها ما يشاؤون‏}‏، حال من ‏{‏جنة الخلد‏}‏ أو صفة ثانية‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏كان على ربك وعداً مسئولاً‏}‏ حال ثانية والرابط محذوف إذ التقدير‏:‏ وعداً لهم‏.‏

والضمير المستتر في‏:‏ ‏{‏كان على ربك وعداً‏}‏ عائد إما إلى الوعد المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏التي وعد المتقون‏}‏، أي كان الوعد وعداً مسؤولاً وأخبر عن الوعد ب ‏{‏وعداً‏}‏ وهو عينه ليبنى عليه ‏{‏مسئولاً‏}‏‏.‏

ويجوز أن يعود الضمير إلى ‏{‏ما يشاءون‏}‏ والإخبار عنه ب ‏{‏وعداً‏}‏ من الإخبار بالمصدر والمراد المفعول كالخلق بمعنى المخلوق‏.‏

ويتعلق‏:‏ ‏{‏على ربك‏}‏ ب ‏{‏وعداً‏}‏ لتضمين ‏{‏وعداً‏}‏ معنى ‏(‏حقّاً‏)‏ لإفادة أنه ‏{‏وعداً‏}‏ لا يخلف كقوله تعالى ‏{‏وعداً علينا إنا كنا فاعلين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

والمسؤول‏:‏ الذي يسأله مستحقه ويطالب به، أي حقّاً للمتقين أن يترقبوا حصوله كأنه أجر لهم عن عمل‏.‏ وهذا مسوق مساق المبالغة في تحقيق الوعد والكرم كما يشكرك شاكر على إحسان فتقول‏:‏ ما أتيت إلا واجباً، إذ لا يتبادر هنا غير هذا المعنى، إذ لا معنى للوجوب على الله تعالى سوى أنه تفضل وتعهد به، ولا يختلف في هذا أهل الملة وإنما اختلفوا في جواز إخلاف الوعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

عُطف ‏{‏ويوم نحشرهم‏}‏ إما على جملة‏:‏ ‏{‏قل أذلك خير‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 15‏]‏ إن كان المراد‏:‏ قل للمشركين، أو عُطف على جملة‏:‏ ‏{‏وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 11‏]‏ على جواز أن المراد‏:‏ قل للمؤمنين‏.‏

وعلى كلا الوجهين فانتصاب ‏{‏يوم نحشرهم‏}‏ على المفعولية لفعل محذوف معلوم في سياق أمثاله، تقديره‏:‏ اذكر ذلك اليوم لأنه لما توعدهم بالسعير وما يلاقون من هولها بيّن لهم حال ما قبل ذلك وهو حالهم في الحشر مع أصنامهم‏.‏ وهذا مظهر من مظاهر الهول لهم في المحشر إذ يشاهدون خيبة آمالهم في آلهتهم إذ يرون حقارتها بين يدي الله وتبرؤها من عُبّادها وشهادتها عليهم بكفرانهم نعمة الله وإعراضهم عن القرآن، وإذ يسمعون تكذيب من عبدوهم من العقلاء من الملائكة وعيسى عليهم السلام والجن ونسبوا إليهم أنهم أمروهم بالضلالات‏.‏

وعموم الموصول من قوله‏:‏ ‏{‏وما يعبدون‏}‏ شامل لأصناف المعبودات التي عبدوها ولذلك أوثرت ‏(‏ما‏)‏ الموصولة لأنها تصدق على العقلاء وغيرهم‏.‏ على أن التغليب هنا لغير العقلاء‏.‏ والخطاب في ‏{‏أأنتم أضللتم‏}‏ للعقلاء بقرينة توجيه الخطاب‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏قالوا سبحانك‏}‏ جواب عن سؤال الله إياهم‏:‏ ‏{‏أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل‏}‏، فهو استئناف ابتدائي ولا يتعلق به ‏{‏يوم نحشرهم‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نحشرهم‏}‏ بالنون و‏{‏يقول‏}‏ بالياء ففيه التفات من التكلم إلى الغيبة‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏يحشرهم ويقول‏}‏ كليهما بالياء‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏نحشرهم ونقول‏}‏ كليهما بالنون‏.‏

والاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد‏.‏ والمعنى‏:‏ أأنتم أضللتموهم أم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم‏.‏ ففي الكلام حذف دل عليه المذكور‏.‏

وأخبر بفعل‏:‏ ‏{‏أضللتم‏}‏ عن ضمير المخاطبين المنفصل وبفعل ‏{‏ضلّوا‏}‏ عن ضمير الغائبين المنفصل ليفيد تقديم المسند إليهما على الخبرين الفعليين تقوي الحكم المقرر به لإشعارهم بأنهم لا مناص لهم من الإقرار بأحد الأمرين وأن أحدهم محقق الوقوع لا محالة‏.‏ فالمقصود بالتقوية هو معادل همزة الاستفهام وهو‏:‏ ‏{‏أم هم ضلوا السبيل‏}‏‏.‏

والمجيبون هم العقلاء من المعبودين الملائكة وعيسى عليهم السلام‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ كلمة تنزيه كني بها عن التعجب من قول فظيع‏.‏ كقول الأعشى‏:‏

قد قلت لما جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر

وتقدم في سورة النور ‏(‏16‏)‏‏:‏ ‏{‏سبحانك هذا بهتان عظيم‏}‏ واعلم أن ظاهر ضمير نحشرهم‏}‏ أن يعود على المشركين الذين قرعتهم الآية بالوعيد وهم الذين قالوا‏:‏ ‏{‏مال هذا الرسول يأكل الطعام‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مسحوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7، 8‏]‏؛ لكن ما يقتضيه وصفهم ب ‏{‏الظالمون‏}‏ والإخبار عنهم بأنهم كذبوا بالساعة وما يقتضيه ظاهر الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏لمن كذب بالساعة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 11‏]‏ من شمول كل من تحقق فيه مضمون الصلة، كل ذلك يقتضي أن يكون ضمير ‏{‏نحشرهم‏}‏ عائداً إلى ‏{‏من كذب بالساعة‏}‏ فيشمل المشركين الموجودين في وقت نزول الآية ومن انقرض منهم بعد بلوغ الدعوة المحمدية ومن سيأتي بعدهم من المشركين‏.‏

ووصف العباد هنا تسجيل على المشركين بالعبودية وتعريض بكفرانهم حقها‏.‏

والإشارة إليهم لتمييزهم من بين بقية العباد‏.‏

وهذا أصل في أداء الشهادة على عين المشهود عليه لدى القاضي‏.‏

وإسناد القول إلى ما يُعبدون من دون الله يقتضي أن الله يجعل في الأصنام نطقاً يسمعه عبدتها، أما غير الأصنام ممن عبد من العقلاء فالقول فيهم ظاهر‏.‏

وإعادة فعل ‏{‏ضلوا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أم هم ضلوا السبيل‏}‏ ليجري على ضميرهم مسند فعلي فيفيد التقوّي في نسبة الضلال إليهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم دون تضليل منكم‏.‏ وحق الفعل أن يعدى ب ‏(‏عن‏)‏ ولكنه عدي بنفسه لتضمنه معنى ‏(‏أخطؤوا‏)‏، أو على نزع الخافض‏.‏

و ‏{‏سبحانك‏}‏ تعظيم لله تعالى في مقام الاعتراف بأنهم ينزهون الله عن أن يدّعوا لأنفسهم مشاركته في الإلهية‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ما كان ينبغي لنا‏}‏ ما يطاوعنا طلب أن نتخذ عبدة لأن ‏(‏انبغى‏)‏ مطاوع ‏(‏بغاه‏)‏ إذا طلبه‏.‏ فالمعنى‏:‏ لا يمكن لنا اتخاذنا أولياء، أي عباداً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏92‏)‏‏.‏ وهو هنا كناية عن انتفاء طلبهم هذا الاتخاذ انتفاء شديداً، أي نتبرأ من ذلك، لأن نفي ‏(‏كان‏)‏ وجعل المطلوب نفيه خبراً عن ‏(‏كان‏)‏ أقوى في النفي ولذلك يسمى جحوداً‏.‏ والخبر مستعمل في لازم فائدته، أي نعلم أنه لا ينبغي لنا فكيف نحاوله‏.‏

‏(‏ومن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من دونك‏}‏ للابتداء لأن أصل ‏(‏دون‏)‏ أنه اسم للمكان، ويقدر مضاف محذوف يضاف إليه ‏(‏دون‏)‏ نحو‏:‏ جلست دون، أي دون مكانه، فموقع ‏(‏من‏)‏ هنا موقع الحال من ‏{‏أولياء‏}‏‏.‏ وأصلها صفة ل ‏{‏أولياء‏}‏ فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالاً‏.‏ والمعنى‏:‏ لا نتخذ أولياء لنا موصوفين بأنهم من جانب دون جانبك، أي أنهم لا يعترفون لك بالوحدانية في الإلهية فهم يشركون معك في الإلهية‏.‏

وعن ابن جني‏:‏ أن ‏(‏من‏)‏ هنا زائدة‏.‏ وأجاز زيادة ‏(‏من‏)‏ في المفعول‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من أولياء‏}‏ مزيدة لتأكيد عموم النفي، أي استغراقه لأنه نكرة في سياق النفي‏.‏

والأولياء‏:‏ جمع الولي بمعنى التابع في الولاء فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء، أي على السيد والعبد، أو الناصر والمنصور‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الوليّ التابع كما في قوله‏:‏ ‏{‏فتكون للشيطان ولياً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏45‏)‏، أي لا نطلب من الناس أن يكونوا عابدين لنا‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نتخذ‏}‏ بالبناء للفاعل‏.‏ وقرأه أبو جعفر ‏{‏نتخذ‏}‏ بضم النون وفتح الخاء على البناء للمفعول، أي أن يتخذنا الناس أولياء لهم من دونك‏.‏ فموقع ‏{‏من دونك‏}‏ موقع الحال من ضمير ‏{‏نتخذ‏}‏‏.‏ والمعنى عليه‏:‏ أنهم يتبرَّؤون من أن يدعوا الناس لعبادتهم، وهذا تسفيه للذين عبدوهم ونسبوا إليهم موالاتهم‏.‏

والمعنى لا نتخذ من يوالينا دونك، أي من يعبدنا دونك‏.‏

والاستدراك الذي أفاده ‏(‏لكن‏)‏ ناشئ عن التبريء من أن يكونوا هم المضلين لهم بتعقيبه ببيان سبب ضلالهم لئلا يتوهم أن تبرئة أنفسهم من إضلالهم يرفع تبعة الضلال عن الضالين‏.‏ والمقصود بالاستدراك ما بعد ‏(‏حتى‏)‏ وهو ‏{‏نسوا الذكر‏}‏‏.‏ وأما ما قبلها فقد أدمج بين حرف الاستدراك ومدخوله ما يسجل عليهم فظاعة ضلالهم بأنهم قَابَلوا رحمةَ الله ونعمتَه عليهم وعلى آبائهم بالكفران، فالخبر عن الله بأنه متّع الضالين وآباءهم مستعمل في الثناء على الله بسعة الرحمة، وفي الإنكار على المشركين مقابلة النعمة بالكفران غضباً عليهم‏.‏

وجعل نسيانهم الذكر غاية للتمتيع للإيماء إلى أن ذلك التمتيع أفضى إلى الكفران لخبث نفوسهم فهو كجَوْد في أرضضٍ سبخةٍ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 82‏]‏‏.‏

والتعرض إلى تمتيع آبائهم هنا مع أن نسيان الذكر إنما حصل من المشركين الذين بلغتهم الدعوة المحمدية ونسوا الذكر، أي القرآن، هو زيادة تعظيم نعمة التمتيع عليهم بأنها نعمة متأثلة تليدة، مع الإشارة إلى أن كفران النعمة قد انجرّ لهم من آبائهم الذين سنّوا لهم عبادة الأصنام‏.‏ ففيه تعريض بشناعة الإشراك ولو قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم

وبهذا يظهر أن ضمير ‏{‏نسوا‏}‏ وضمير ‏{‏كانوا‏}‏ عائدان إلى الظالمين المكذبين بالإسلام دون آبائهم لأن الآباء لم يسمعوا الذكر‏.‏

والنسيان مستعمل في الإعراض عن عمد على وجه الاستعارة لأنه إعراض يشبه النسيان في كونه عن غير تأمل ولا بصيرة‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتنسون ما تشركون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏41‏)‏‏.‏

والذكر‏:‏ القرآن لأنهُ يُتذكر به الحق، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏6‏)‏‏.‏

والبور‏:‏ جمع بائر كالعُوذ جمع عائذ، والبائر‏:‏ هو الذي أصابه البوار، أي الهلاك‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحلوا قومهم دار البوار‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 28‏]‏ أي الموت‏.‏ وقد استعير البور لشدة سوء الحالة بناء على العرف الذي يعد الهلاك آخر ما يبلغ إليه الحي من سوء الحال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُهلكون أنفسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 42‏]‏، أي سوء حالهم في نفس الأمر وهم عنه غافلون‏.‏ وقيل‏:‏ البوار الفساد في لغة الأزد وأنه وما اشتق منه مما جاء في القرآن بغير لغة مضر‏.‏

واجتلاب فعل ‏(‏كان‏)‏ وبناء ‏{‏بوراً‏}‏ على ‏{‏قوماً‏}‏ دون أن يقال‏:‏ حتى نسوا الذكر وباروا للدلالة على تمكن البوار منهم بما تقتضيه ‏(‏كان‏)‏ من تمكن معنى الخبر، وما يقتضيه ‏(‏قوماً‏)‏ من كون البوار من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً‏}‏‏.‏

الفاء فصيحة، أي إفصاح عن حجة بعد تهيئة ما يقتضيها، وهو إفصاح رائع وزاده الالتفات في قوله‏:‏ ‏{‏كذبوكم‏}‏‏.‏

وفي الكلام حذف فعل قول يدل عليه المقام‏.‏ والتقدير‏:‏ إن قلتم هؤلاء آلهتنا فقد كذبوكم، وقد جاء التصريح بما يدل على القول المحذوف في قول عباس بن الأحنف‏:‏

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي إن قلتم ذلك فقد جئنا خراسان‏.‏ وفي حذف فعل القول في هذه الآية استحضار لصورة المقام كأنه مشاهد غير محكي وكأن السامع آخر الآية قد سمع لهذه المحاورة مباشرة دون حكاية فقرع سمعه شهادة الأصنام عليهم ثم قرع سمعه توجه خطاب التكذيب إلى المشهود عليهم، وهو تفنن بديع في الحكاية يعتمد على تخييل المحكي واقعاً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يُسْحَبُون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فجملة ‏{‏فقد كذبوكم‏}‏ إلخ مستأنفة ابتدائية هو إقبال على خطاب الحاضرين وهو ضرب من الالتفات مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفري لذنبك‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما تقولون‏}‏ يجوز أن تكون بمعنى ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية، أي كذبوكم تكذيباً واقعاً فيما تقولون، ويجوز أن تكون للسببية، أي كذبوكم بسبب ما تقولون‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ موصولة‏.‏ والذي قالوه هو ما يستفاد من السؤال والجواب وهو أنهم قالوا إنهم دعوهم إلى أن يعبدوهم‏.‏

وفرع على الإعلان بتكذيبهم إياهم تأييسُهم من الانتفاع بهم في ذلك الموقف إذ بين لهم أنهم لا يستطيعون صرفاً، أي صرف ضر عنهم، ولا نصراً، أي إلحاق ضر بمن يغلبهم‏.‏ ووجه التفريع ما دل عليه قولهم ‏{‏سبحانك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 18‏]‏ الذي يقتضي أنهم في موقف العبودية والخضوع‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يستطيعون‏}‏ بياء الغائب، وقرأه حفص بتاء الخطاب على أنه خطاب للمشركين الذين عبدوا الأصنام من دون الله‏.‏

‏{‏وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً‏}‏‏.‏

تذييل للكلام يشمل عمومه جميع الناس، ويكون خطاب ‏{‏منكم‏}‏ لجميع المكلفين‏.‏ ويفيد ذلك أن المشركين المتحدث عنهم معذبون عذاباً كبيراً‏:‏ والعذاب الكبير هو عذاب جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق‏}‏‏.‏

هذا رد على قولهم‏:‏ ‏{‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ بعد أن رد عليهم قولهم ‏{‏أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏، ولكن لما كان قولهم‏:‏ ‏{‏أو يلقى إليه كنز‏}‏ حالة لم تعط للرسل في الحياة الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيراً من ذلك في الآخرة‏.‏

وأما قولهم‏:‏ ‏{‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم فقد قالوا‏:‏ ‏{‏فليأتنا بآية كما أرسل الأولون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس‏.‏ وقد قال موسى ‏{‏موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ليأكلون الطعام‏}‏ في موضع الحال لأن المستثنى منه عموم الأحوال‏.‏ والتقدير‏:‏ وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حاللٍ إلا في حال ‏{‏إنهم ليأكلون الطعام‏}‏‏.‏ والتوكيد ب ‏(‏إن‏)‏ واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلاً للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏.‏ ولم تقترن جملة الحال بالواو لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي‏:‏ إلاّ، وإنّ، واللام، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 208‏]‏‏.‏

وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك وإنما يغير الله حياتهم النفسية لأن في تغييرها إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية‏.‏

ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم لأنه ما خلقها عبثاً فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏‏.‏

تذييل، فضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏بعضكم‏}‏ يعم جميع الناس بقرينة السياق‏.‏ وكلا البعضين مبهم يبينه المقام‏.‏ وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف، فبعضها فتنة في العقيدة، وبعضها فتنة في الأمن، وبعضها فتنة في الأبدان‏.‏

والإخبار عنه ب ‏{‏فتنة‏}‏ مجازي لأنه سبب الفتنة، وشمل أحد البعضين النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، والبعض الآخر المشركين؛ فكان حال الرسول فتنة للمشركين إذ زعموا أن حاله مناف للرسالة فلم يؤمنوا به وكان حال المؤمنين في ضعفهم فتنة للمشركين إذ ترفعوا عن الإيمان الذي يسويهم بهم، فقد كان أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وأضرابهم يقولون‏:‏ إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار بن ياسر وصهيب وبلال ترفعوا علينا إدلالاً بالسابقة‏.‏

وهذا كقول صناديد قوم نوح لا نؤمن حتى تطرد الذين آمنوا بك فقال‏:‏ ‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 29، 30‏]‏‏.‏

وقال تعالى للنبيء صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بَيْنِنا أليس الله بأعلمَ بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏

والكلام تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم عن إعراض بعض قومه عن الإسلام، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏أتصبرون‏}‏، وهو استفهام مستعمل في الحث والأمر كقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وموقع ‏{‏وكان ربك بصيراً‏}‏ موقع الحث على الصبر المأمور به، أي هو عليم بالصابرين، وإيذان بأن الله لا يضيع جزاء الرسول على ما يلاقيه من قومه وأنه ناصره عليهم‏.‏

وفي الإسناد إلى وصف الرب مضافاً إلى ضمير النبي إلماع إلى هذا الوعد فإن الرب لا يضيع أولياءه كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97 99‏]‏ أي النصر المحقق‏.‏