فصل: الجزء التاسع عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء التاسع عشر

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسولَ عليه الصلاة والسلام، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب ‏{‏الذين لا يَرجُون لقاءنا‏}‏ وعنون عليهم في المقالات السابقة ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ وب ‏{‏الظالمون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكةِ، وطَلَبوا رؤية الله في الدنيا، ونزولَ الملائكة عليهم في الدنيا، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم‏.‏

واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل، فمن أجل ذلك أيضاً جعل قولهم ذلك طريقاً لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله‏}‏ في سورة يونس ‏(‏15‏)‏‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به، يعنون أنه إن كان صادقاً فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏لا يرجون‏}‏ لا يظنون ظنّاً قريباً، أي يَعُدّون لقاء الله محالاً‏.‏ ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً‏}‏ على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل‏.‏

والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم‏.‏ والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كِلاب أو بني نُمير أنشده ثعلب في «مجالسه» والقالي في «أماليه»‏:‏

أَلاَ يَا سَنا برققٍ على قُلَللِ الحِمى *** لَهِنَّك مِنْ برققٍ علي كريمُ

فإن قوله‏:‏ من برق، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب‏.‏

والاستكبار‏:‏ مبالغة في التكبر، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب‏.‏

و ‏{‏فِي‏}‏ للظرفية المجازية؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏في‏}‏ للتعليل كما في الحديث ‏"‏ دخلتتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها ‏"‏ الحديث، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم‏.‏ وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية‏.‏

والعُتوّ‏:‏ تجاوز الحد في الظلم، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعَتوا عن أمر ربّهم‏}‏ في الأعراف ‏(‏77‏)‏‏.‏ وإنما كان هذا ظلماً لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية‏.‏

وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

استئناف ثان جواب عن مقالتهم، فبعد إبداء التعجيب منها عُقّب بوعيد لهم، فيه حصول بعض ما طلبوا حصوله الآن، أي هم سيرون الملائكة ولكنها رؤية تسوءهم حين يرون زبانية العذاب يسوقونهم إلى النار، ففي هذا الاستئناف تلميح وتهكم بهم لأن ابتداءَه مطمع بالاستجابة وآخرَه مؤيس بالوعيد، فالكلام جرى على طريقة الغَيبة لأنه حكاية عن تورّكهم، والمقصود إبلاغه لهم حين يَسمعونه‏.‏ وانتصب ‏{‏يوم يرون‏}‏ على الظرفية لِ ‏{‏لاَ بُشرى‏}‏‏.‏ وتقديم الظرف للاهتمام به لإثارة الطمع وللتشويق إلى تعيين إبانه حتى إذا ورد ما فيه خيبة طمعهم كان له وقع الكآبة على نفوسهم حينما يسمعونه‏.‏ وإعادة ‏{‏يومئذٍ‏}‏ تأكيد‏.‏

وذِكر وصف المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بأنهم مجرمون بعد أن وصفوا بالكفر والظلم واليأس من لقاء الله‏.‏ وانتفاءُ البشرى مستعمل في إثبات ضده وهو الحزن‏.‏

و ‏(‏حجر‏)‏ بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال بفتح الحاء وضمها على الندرة فهي كلمة يقولونها عند رؤية ما يُخاف من إصابته بمنزلة الاستعاذة‏.‏ قال الخليل وأبو عبيدة‏:‏ كان الرجل إذا رأى الرجل الذي يَخاف منه أن يقتله في الأشهر الحرم يقول له‏:‏ ‏{‏حِجْراً محجوراً‏}‏، أي حَرام قتلي، وهي عوذة‏.‏

و ‏(‏حجر‏)‏ مصدر‏:‏ حجَره، إذا منعه، قال تعالى ‏{‏وحرث حِجر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏، وهو في هذا الاستعمال لازم النصب على المفعول المطلق المنصوب بفعل مضمر مثل‏:‏ معاذ الله، وأمّا رفعه في قول الرّاجز‏:‏

قالت فيها حيدة وذُعْر *** عَوْذ بربي منكمُ وحُجْر

فهو تصرف فيه، ولعله عند سيبويه ضرورة لأنه لم يذكر الرفع في استعمال هذه الكلمات في هذا الغرض وهو الذي حكاه الراجز‏.‏ وأمّا رفع ‏(‏حجر‏)‏ في غير حالة استعماله للتعوذ فلا مانع منه لأنه الأصل، وقد جاء في القرآن منصوباً لا على المفعولية المطلقة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل بينهما برزخاً وحِجْراً محجوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 53‏]‏، فإنه معطوف على مفعول ‏{‏جعل‏}‏ وسننبه عليه قريباً‏.‏

و ‏{‏محجوراً‏}‏ وصف ل ‏{‏حجراً‏}‏ مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا‏:‏ ليل أليل، وذيل ذائل، وشِعْر شاعر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مَجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث، وقد قالت خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقالَ لها‏:‏ «لقد خشِيتُ على نفسي»، فقالت‏:‏ «والله لا يخزيك الله أبداً‏.‏ إنك لتصل الرحم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق»‏.‏ فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم‏:‏ لئن كان البعث حقّاً لنجدنّ أعمالاً عملناها من البرّ تكون سبباً لنجاتنا، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذٍ‏.‏

والقدوم مستعمل في معنى العَمْد والإرادة، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعَزم والشروع مثل‏:‏ قَام يفعل، وذَهب يقول، وأقبل، ونحوها‏.‏ وأصل ذلك ناشئ عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يَمشي إليه، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول‏:‏ وعَمَدْنا أو أردنا إلى ما عملوا‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من عمل‏}‏ بيانية لإبهام ‏{‏ما‏}‏ وتنكير ‏{‏عمل‏}‏ للنوعية، والمراد به عمل الخير، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير‏.‏

والهباء‏:‏ كائنات جسمية دقيقة لا تُرى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها، تلوح كأنها سَابحة في الهواء وهي أدق من الغبار، أي فجعلناه كهباء منثور، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهَباء في عدم إمساكه مع كونه موجوداً، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبُسّت الجبالُ بسّاً فكانت هباءً منبثاً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏

والمنثور‏:‏ غير المنتظم، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثوراً، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي جيء به لمقابلة حال المشركين في الآخرة بضدها من حال أصحاب الجنة وهم المؤمنون، لأنه لما وصف حال المشركين في الآخرة عُلم أن لا حظ لهم في الجنّة فتعينت الجنة لغير المشركين يومئذ وهم المؤمنون، إذ أهل مكة في وقت نزول هذه الآية فريقان‏:‏ مشركون ومؤمنون‏.‏ فمعنى الكلام‏:‏ المؤمنون يومئذ هم أصحاب الجنة وهم ‏{‏خير مستقراً وأحسن مقيلاً‏}‏‏.‏

والخير هنا‏:‏ تفضيل، وهو تهكم بالمشركين، وكذلك ‏{‏أحسن‏}‏‏.‏

والمستقر‏:‏ مكان الاستقرار‏.‏

والمقيل‏:‏ المكان الذي يؤوى إليه في القيلولة والاستراحة في ذلك الوقت من عادة المترفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ‏(‏25‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏يوم يرون الملائكة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 22‏]‏‏.‏ والمقصود تأييسهم من الانتفاع بأعمالهم وبآلهتهم وتأكيد وعيدهم‏.‏ وأدمج في ذلك وصف بعض شؤون ذلك اليوم، وأنه يوم تنزيل الملائكة بمرأى من الناس‏.‏

وأعيد لفظ ‏{‏يَومَ‏}‏ على طريقة الإظهار في مقام الإضمار وإن كان ذلك يوماً واحداً لبعد ما بين المعاد ومكان الضمير‏.‏

والتشقق‏:‏ التفتح بين أجزاءٍ ملتئمة، ومنه ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ولعله انخراق يحصل في كُوَر تلك العوالم، والذين قالوا‏:‏ السموات لا تقبل الخرق ثم الالتئام بنوه على تخيّلهم إياها كقباب من معادن صُلبة، والحكماء لم يصلوا إلى حقيقتها حتى الآن‏.‏

وتشقُّق السماءِ حالة عجيبة تظهر يوم القيامة، ومعناه زوال الحواجز والحدود التي كانت تمنع الملائكة من مبارحة سماواتهم إلا من يؤذن له بذلك، فاللام في الملائكة للاستغراق، أي بين جمع الملائكة فهو بمنزلة أن يقال‏:‏ يوم تفتح أبواب السماء‏.‏ قال ‏(‏تعالى‏)‏‏:‏ ‏{‏وفتحت السماء فكانت أبواباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 19‏]‏؛ على أن التشقّق يستعمل في معنى انجلاء النور كما قال النابغة‏:‏

فانشق عنها عمود الصبح جافلة *** عَدْو النَّحُوص تخاف القَانِصَ اللَّحِما

وحاصل المعنى‏:‏ أن هنالك انبثاقاً وانتفاقاً يقارنه نزول الملائكة لأن ذلك الانشقاق إذنٌ للملائكة بالحضور إلى موقع الحشر والحساب‏.‏

والتعبير بالتنزيل يقتضي أن السموات التي تنشقّ عن الملائكة أعلى من مكان حضور الملائكة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تشّقق‏}‏ بتشديد الشين‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الشين‏.‏

والغَمام‏:‏ السحاب الرقيق‏.‏ وهو ما يغشى مكان الحساب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلَل مِن الغَمام والملائكةُ وقُضِيَ الأمر‏}‏ تقدم في سورة البقرة ‏(‏210‏)‏‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالغمام‏}‏ قيل بمعنى ‏(‏عن‏)‏ أي تشقق عن غمام يحفّ بالملائكة‏.‏ وقيل للسببية، أي يكون غمام يخلقه الله فيه قوة تنشقّ بها السماء لينزل الملائكة مثل قوة البرق التي تشق السحاب‏.‏ وقيل الباء للملابسة، أي تشَّقَّق ملابسة لغمام يظهر حينئذ‏.‏ وليس في الآية ما يقتضي مقارنة التشقق لنزول الملائكة ولا مقارنة الغمام للملائكة، فدَعْ الفهم يذهبْ في ترتيب ذلك كلَّ مذهب ممكن‏.‏

وأُكد ‏{‏نُزِّل الملائكة‏}‏ بالمفعول المطلق لإفادة أنه نزول بالذات لا بمجرد الاتصال النُوراني مثل الخواطر الملكية التي تشعشع في نفوس أهل الكمال‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ونُزِّلَ الملائكةُ‏}‏ بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام ورفع ‏{‏الملائكة‏}‏ مبنياً للنائب‏.‏ وقرأه ابن كثير ‏{‏ونُنْزِل‏}‏ بنونين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وبضم اللام ونصب ‏{‏الملائكة‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الملك يومئذٍ‏}‏ هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به ‏{‏يَومَ تشقق السماء بالغمام‏}‏، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله‏:‏ ‏{‏يَوْم يَرَوْن الملائكة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 22‏]‏ وكذلك القول في تكرير ‏{‏يومئذ‏}‏‏.‏

و ‏{‏الحق‏}‏‏:‏ الخالص، كقولك‏:‏ هذا ذهب حقّاً‏.‏ وهو المُلك الظاهر أنه لا يماثله مُلك، لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة‏.‏ والمُلك الكامل إنما هو لله، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتَبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدّعي شيئاً من التصرف، وفي الحديث‏:‏ «ثم يقول الله‏:‏ أنا المَلِكُ أيْن ملوكُ الأرض»

ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين‏.‏

وتقديم ‏{‏على الكافرين‏}‏ للحصر‏.‏ وهو قصر إضافي، أي دون المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ‏(‏27‏)‏ يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ‏(‏28‏)‏ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

هذا هو ذلك اليوم أعيد الكلام عليه باعتبار حال آخر من أحوال المشركين فيه، أو باعتبار حال بعض المشركين المقصود من الآية‏.‏

والتعريف في ‏{‏الظالم‏}‏ يجوز أن يكون للاستغراق‏.‏ والمراد بالظلم الشرك فيعم جميع المشركين الذين أشركوا بعد ظهور الدعوة المحمدية بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً‏}‏، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً‏}‏ إعلاماً بما لا تخلو عنه من صحبة بعضهم مع بعض وإغراء بعضهم بعضاً على مناوأة الإسلام‏.‏

ويجوز أن يكون للعهد المخصوص‏.‏ والمراد بالظلم الاعتداء الخاص المعهود من قصة معينة وهي قصة عقبة بن أبِي معيْط وما أغراه به أُبَيّ بن خلف‏.‏ قال الواحدي وغيره عن الشعبي وغيره‏:‏ كان عقبة بن أبي مَعيط خليلاً لأمية بن خلف، وكان عقبة لا يقدَم من سفر إلا صنع طعاماً ودعا إليه أشرافَ قومه، وكان يُكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدِم من بعض أسفاره فصنع طعاماً ودعا رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم فلما قرّبوا الطعام قال رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أنا بآكل من طعامك حتى تَشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال عقبة‏:‏ أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، فأكل رسول الله من طعامه‏.‏ وكان أُبَيّ بن خلف غائباً فلما قدم أُخبر بقضيته، فقال‏:‏ صَبَأتَ يا عقبةُ، قال‏:‏ والله ما صبأتُ ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يأكل من طعامي حتى أشهد له، فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يَطْعَم، فشهدتُ له فطَعِم، فقال أُبَيّ‏:‏ ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً إلاّ أن تأتيه فتبصق في وجهه، فكفَر عقبة وأخذ في امتثال ما أمره به أبيّ بن خلف، فيكون المراد ب ‏(‏فلان‏)‏ الكناية عن أبَيّ بن خلف فخصوصه يقتضي لحاق أمثاله من المشركين الذين أطاعوا أخلّتهم في الشرك ولم يتّبِعُوا سبيل الرسول، ولا يخلو أحد من المشركين عن خليل مشرك مثله يصدّه عن متابعة الإسلام إذا هَمّ به ويثْبِته على دين الشرك فيتندم يوم الجزاء على طاعته ويذكره باسمه‏.‏

والعَضّ‏:‏ الشدّ بالأسنان على الشيء ليُؤلمه أو ليُمسكه، وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كثرت تعديته ب ‏{‏على‏}‏ لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضّاً شديداً كما في هذه الآية‏.‏

والعضّ على اليد كناية عن الندامة لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التّشذر، وهو رفع اليد عند كلام الغضب قال، لبيد‏:‏

غُلْب تشذّر بالدخول كأنهم *** جن البدي رواسياً أقدامها

ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَدُّوا أيديهم في أفواههم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ومنه في الندم قرع السن بالأصبع، وعَضّ السبابة، وعَضّ اليد‏.‏

ويقال‏:‏ حَرَّق أسنانه وحرّق الأُرَّم ‏(‏بوزن رُكَّع‏)‏ الأضراس أو أطراف الأصابع، وفي الغيظ عضّ الأنامل قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏، وكانت كناياتتٍ بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف‏.‏

والرّسول‏:‏ هو المعهود وهو محمد صلى الله عليه وسلم

واتخاذ السبيل‏:‏ أخذه، وأصل الأخذ‏:‏ التناول باليد، فأطلق هنا على قصد السير فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتّخذ سبيله في البحر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏‏.‏

و ‏{‏مع الرسول‏}‏ أي متابعاً للرسول كما يتابع المسافر دليلاً يسلك به أحسن الطرق وأفضاها إلى المكان المقصود‏.‏ وإنما عُدل عن الإتيان بفعل الاتباع ونحوه بأن يقال‏:‏ يا ليتني اتبعتُ الرسول، إلى هذا التركيب المطنب لأن في هذا التركيب تمثيل هيئة الاقتداء بهيئة مُسايَرة الدليللِ تمثيلاً محتوياً على تشبيه دعوة الرسول بالسبيل، ومتضمناً تشبيه ما يحصل عن سلوك ذلك السبيل من النجاة ببلوغ السائر إلى الموضع المقصود، فكان حصول هذه المعاني صائراً بالإطناب إلى إيجاز، وأما لفظ المتابعة فقد شاع إطلاقه على الاقتداء فهو غير مشعر بهذا التمثيل‏.‏ وعُلِم أن هذا السبيل سبيلُ نجاح مَن تمناه لأن التمني طلب الأمر المحبوب العزيز المنال‏.‏

و ‏{‏يا ليتني‏}‏ نداء للكلام الدال على التمني بتنزيل الكلمة منزلة العاقل الذي يطلب حضوره لأن الحاجة تدعو إليه في حالة الندامة، كأنه يقول‏:‏ هذا مقامُك فاحضري، على نحو قوله‏:‏ ‏{‏يا حَسْرَتَنا على ما فرطنا فيها‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وهذا النداء يزيد المتمني استبعاداً للحصول‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏يا وَيْلَتَا‏}‏ هو تحسّر بطريق نداء الويل‏.‏ والويل‏:‏ سوء الحال، والألف عوض عن ياء المتكلم، وهو تعويض مشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم‏.‏

وقد تقدم الكلام على الويل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يَكْتُبون الكتاب‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏‏.‏ وعلى ‏{‏يا وَيْلَتنا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏يا ويْلَتَنا مَالِ هَذَا الكتاب‏}‏ في سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وأتبَع التحسّرَ بتمني أن لا يكون ‏{‏اتّخذ فلاناً خليلاً‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً‏}‏ بدل من جملة ‏{‏ليتني اتّخذتُ مع الرسول سبيلاً‏}‏ بدل اشتمال لأن اتباع سبيل الرسول يشتمل على نبذ خُلّة الذين يصدون عن سبيله فتمني وقوع أولهما يشتمل على تمني وقوع الثاني‏.‏

وجملة ‏{‏يا ويلتا‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً‏}‏ وجملة ‏{‏ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً‏}‏‏.‏

و ‏(‏فلان‏)‏‏:‏ اسم يكنّى عمّن لا يُذكر اسمه العلَمُ، كما يُكنّى ب ‏(‏فلانة‏)‏ عمّن لا يُراد ذكر اسمها العلم، سواء كان ذلك في الحكاية أم في غيرها‏.‏ قاله ابن السكيت وابن مالك خلافاً لابن السراج وابننِ الحاجب في اشتراط وقوعه في حكايةٍ بالقول، فيعامل ‏(‏فلانُ‏)‏ معاملةَ العَلَم المقرون بالنون الزائدة و‏(‏فلانة‏)‏ معاملة العَلَم المقترن بهاء التأنيث، وقد جمعهما قول الشاعر‏:‏

ألاَ قاتل اللَّه الوشَاةَ وقولَهم *** فُلانة أضحت خُلة لفلان

أراد نفسه وحبيبته‏.‏

وقال المَرار العبسي‏:‏

وإذا فلان مات عن أُكرومة *** دَفعوا معاوز فقده بفلان

أراد‏:‏ إذا مات مَن له اسم منهم أخلفوه بغيره في السؤدد، وكذلك قول معن بن أوس‏:‏

وحتى سألتُ القَرض من كل ذي *** الغنى ورَدّ فلان حاجتي وفلان

وقال أبو زيد في «نوادره»‏:‏ أنشدني المفضل لرجل من ضبة هلك منذ أكثر من مائة سنة، أي في أواسط القرن الأول للهجرة‏:‏

إن لسعد عندنا ديواناً *** يخزي فلاناً وابنَه فلاناً

والداعي إلى الكناية بفلان إما قصد إخفاء اسمه خيفة عليه أو خيفة من أهلهم أو للجهل به، أو لعدم الفائدة لذكره، أو لقصد نوع من له اسمٌ عَلَم‏.‏ وهذان الأخيران هما اللذان يجريان في هذه الآية إن حُمِلت على إرادة خصوص عُقبة وأُبَيَ أو حملت على إرادة كل مشرك له خليل صَدّه عن اتّباع الإسلام‏.‏

وإنّما تمنّى أن لا يكون اتّخذه خليلاً دون تمنِّي أن يكون عصاه فيما سوّل له قصداً للاشمئزاز من خلّته من أصلها إذ كان الإضلال من أحوالها‏.‏

وفيه إيماء إلى أن شأن الخُلّة الثقة بالخليل وحمل مشورته على النصح فلا ينبغي أن يضع المرءُ خلّته إلا حيث يوقن بالسلامة من إشارات السوء قال الله تعالى ‏{‏يأيّها الذين آمنوا لا تتَّخِذوا بطانةً من دُونِكم لا يألونكم خبالاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ فعلى من يريد اصطفاء خليل أن يسير سيرته في خُويصّته فإنه سيحمل من يخالّه على ما يسير به لنفسه، وقد قال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهُذلي‏:‏

فأول راضضٍ سُنة مَن يسيرها *** وهذا عندي هو محمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو كنتُ متّخِذاً خليلاً غيرَ ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلاً ‏"‏ فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة‏:‏ كان خُلُقُه القرآن‏.‏ وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارمَ أخلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي جعَلَه المخيَّرَ لخلته لو كان مُتّخذاً خليلاً غيرَ الله‏.‏

وجملة ‏{‏لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني‏}‏ تعليلية لتمنِّيه أن لا يكون اتخذ فلاناً خليلاً بأنه قد صدر عن خُلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أضلني عن الذكر‏}‏ معناه سوّل لي الانصراف عن الحق‏.‏ والضلال‏:‏ إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقاً غيرَ المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده، وإنما وقع في أرض العدوّ أو في مَسبَعة‏.‏ ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهُدى ‏(‏الذي هو إصابة الطريق‏)‏ لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقيان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال، ولذلك سموا الدليل الذي يَسلك بالركب الطريقَ المقصود هَادياً‏.‏

والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعارة السبيل لهدى الرسول وليس مستعملاً هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف ‏{‏عن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏عن الذكر‏}‏ فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏أضلني‏}‏ مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصل إلى المنجَى، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية، فهذه نكت من بلاغة نظْم الآية‏.‏

و ‏{‏الذكر‏}‏‏:‏ هو القرآن، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه‏.‏

والمجيء في قوله‏:‏ ‏{‏إذ جاءني‏}‏ مستعمل في إسماعه القرآن فكأنَّ القرآن جاءٍ حلَّ عنده‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ أتاني نبأ كذا، قال النابغة‏:‏

أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتَني *** فإذا حُمل الظالم في قوله‏:‏ ‏{‏ويوم يعضّ الظالم على يديه‏}‏ على معيّن وهو عقبة بن أبي مُعيْط فمعنى مَجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أُبيُّ بن خلف وحمله على عداوته وأذاته، وإذا حُمِل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم، وإمكان استماعهم إياه‏.‏ وإضلال خِلاّنهم إياهم صرفُ كل واحد خليلَه عن ذلك، وتعاوُن بعضهم على بعض في ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏الذكر‏}‏‏:‏ كلمة الشهادة، بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم، وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة، فإن كلمة الشهادة لما كانت سببَ النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي، ومُثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف للزمن الماضي، أي بعد وقتتٍ جاءني فيه الذكر، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال‏:‏ بعد ما جاءني، أو بعد أن جاءني، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله لِيُضِلّ قوماً بعد إذْ هداهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏]‏ أي تمكن هديه منهم‏.‏

وجملة ‏{‏وكان الشيطان للإنسان خَذولاً‏}‏ تذييل من كلام الله تعالى لا من كلام الظالم تنبيها للناس على أن كل هذا الإضلال من عمل الشيطان فهو الذي يسوّل لخليل الظالم إضلال خليله لأن الشيطان خذول الإنسان، أي مجبول على شدة خذله‏.‏

والخذل‏:‏ ترك نصر المستنجِد مع القدرة على نصره، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يَخْذُلْكم فَمَنْ ذَا الذي يَنصرُكُم مِن بَعده‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏‏.‏

فإذا أعان على الهزيمة فهو أشد الخذل، وهو المقصود من صيغة المبالغة في وصف الشيطان بخذل الإنسان لأن الشيطان يكيد الإنسان فيورطه في الضر فهو خذول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

عطف على أقوال المشركين ومناسبته لقوله‏:‏ ‏{‏لقد أضلّني عن الذكر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 29‏]‏ أن الذكر هو القرآن فحكيت شكاية الرسول إلى ربّه قومَه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر، وهذا القول واقع في الدنيا والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في الشكاية‏.‏

والمقصود من حكاية قول الرسول إنذار قريش بأن الرسول توجه إلى ربّه في هذا الشأن فهو يستنصر به ويوشك أن ينصره، وتأكيده ب ‏{‏إنّ‏}‏ للاهتمام به ليكون التشكّي أقوى‏.‏ والتعبير عن قريش ب ‏{‏قومي‏}‏ لزيادة التذمر من فعلهم معه لأن شأن قوم الرجل أن يوافقوه‏.‏

وفعل الاتخاذ إذا قيّد بحالة يفيد شدة اعتناء المتَّخذ بتلك الحالة بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصداً‏.‏ فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال‏:‏ إن قومي هجروا القرآن‏.‏

واسم الإشارة في ‏{‏هذا القرآن‏}‏ لِتَعظيمه وأن مثله لا يُتّخَذ مهجوراً بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به‏.‏

والمهجور‏:‏ المتروك والمفارَق‏.‏ والمراد هنا ترك الاعتناء به وسماعِه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن ما لقِيَه من بعض قومه هو سنة من سنن الأمم مع أنبيائهم‏.‏ وفيه تنبيه للمشركين ليَعْرِضوا أحوالهم على هذا الحكم التاريخي فيعلموا أن حالهم كحال مَن كذّبوا من قوم نوح وعاد وثمود‏.‏

والقول في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏ والعدوّ‏:‏ اسم يقع على المفرد والجمع والمراد هنا الجمع‏.‏

ووصف أعداء الأنبياء بأنهم من المجرمين، أي من جملة المجرمين، فإن الإجرام أعمّ من عداوة الأنبياء وهو أعظمها‏.‏ وإنما أريد هنا تحقيق انضواء أعداء الأنبياء في زمرة المجرمين، لأن ذلك أبلغ في الوصف من أن يقال‏:‏ عدوًّا مجرمين كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏‏.‏

وأعقب التسلية بالوعد بهداية كثير ممّن هم يومئذ مُعرِضون عنه كما قال النبي‏:‏ لعلّ الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يعبدُه وبأنه ينصره على الذين يُصرّون على عداوته لأن قوله‏:‏ وكفى بربك هادياً ونصيراً‏}‏ تعريض بأن يفوض الأمر إليه فإنه كاف في الهداية والنصر‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بربك‏}‏ تأكيد لاتصال الفاعل بالفعل‏.‏ وأصله‏:‏ كفى ربُّك في هذه الحالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

عود إلى معاذيرهم وتعلّلاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نُزّل منجّماً وقالوا‏:‏ لو كان من عند الله لنَزل كتاباً جملةً واحدة‏.‏ وضمير ‏{‏وقال‏}‏ ظاهر في أنه عائد إلى المشركين، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملةً واحدة وإنما كانت وحياً مفرّقاً؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن، وما كان الإنجيل إلا أقوالاً ينطق بها عيسى عليه السلام في الملإ، وكذلك الزبور نَزل قطعاً كثيرة، فالمشركون نسُوا ذلك أو جهلوا فقالوا‏:‏ هلاّ نزل القرآن على محمد جملةً واحدة فنعلم أنه رسول الله‏.‏ وقيل‏:‏ إن قائل هذا اليهودُ أو النصارى، فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة‏.‏ فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأُمية وحالة الرسل الذين أُنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفاراً تامة قط‏.‏

و ‏{‏نُزّل‏}‏ هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم‏:‏ ‏{‏جملة واحدة‏}‏‏.‏

وقد جاء قوله‏:‏ ‏{‏كذلك لنثبت به فؤادك‏}‏ ردّاً على طعنهم، فهو كلام مستأنف فيه ردّ لما أرادوه من قولهم‏:‏ ‏{‏لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدة‏}‏ وعُدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاماً له بحكمة تنزيله مفرّقاً، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسيرُ عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏لولا نُزّل عليه القرآن جملةً واحدةً‏}‏ إشارة إلى الإنزال المفهوم من «لو نُزّل عليه القرآن» وهو حالة إنزال القرآن منجَّماً، أي أنزلناه كذلك الإنزال، أي المنجّم، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته، فاسم الإشارة في محلّ نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلاً عن الفعل‏.‏ فالتقدير‏:‏ أنزلناه إنزالاً كذلك الإنزال المنجَّم‏.‏ فموقع جملة ‏{‏كذلك‏}‏ موقع الاستئناف في المحاورة‏.‏ واللام في ‏{‏لنثبت‏}‏ متعلقة بالفعل المقدّر الذي دلّ عليه ‏{‏كذَلك‏}‏‏.‏ والتثبيت‏:‏ جعل الشيء ثابتاً‏.‏ والثبات‏:‏ استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى‏:‏ ‏{‏كشجرة طيّبة أصلها ثابت‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى‏:‏ ‏{‏لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس‏.‏ والفؤاد‏:‏ هنا العقل‏.‏ وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتاً في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه‏.‏

وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجّماً بكلمةٍ جامعة وهي ‏{‏لنثبت به فؤادك‏}‏ لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل مَا به خير للنفس، فمنه ما قاله الزمخشري‏:‏ الحكمة في تفريقه أن نُقوي بتفريقه فؤادك حتى تَعِيَه وتحفظه، لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم يُلقى إليه إذ ألقي إليه شيئاً بعد شيء وجُزءاً عقبَ جزء، وما قاله أيضاً‏:‏ «أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين» اه، أي فيكونون أوعى لما ينزل فيه لأنهم بحاجة إلى علمه، فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبّت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ويشرح صدره‏.‏

وما قاله بعد ذلك‏:‏ «إن تنزيله مفرّقاً وتحدّيَهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلَّما نزل شيء منها، أدخلُ في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كلّه جملة» اه‏.‏

ومنه ما قاله الجدّ الوزير رحمه الله‏:‏ إن القرآن لو لم ينزل منجّماً على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتُها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام وذلك من تمام إعجازها‏.‏ وقلت‏:‏ إن نزوله منجّماً أعون لحفَّاظه على فهمه وتدبره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ورتلناه ترتيلاً‏}‏ عطف على قوله ‏{‏كذلك‏}‏، أي أنزلناه منجّماً ورتَّلناه، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بيّن الدلالة‏.‏ واتفقت أقوال أيمة اللّغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم‏:‏ ثَغر مرتَّل ورَتِل، إذا كانت أسنانه مفلّجة تشبه نَور الأقحوان‏.‏ ولم يوردوا شاهداً عليه من كلام العرب‏.‏

والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن، أي نزّلناه مفرّقاً منسّقاً في ألفاظه ومعانيه غير متراكم فهو مفرّق في الزمان فإذا كمُل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أُنزلت جملة واحدة، ومفرّقٌ في التأليف بأنه مفصّل واضح‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله لأن شأن كلام الناس إذا فُرّق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل‏.‏

ويجوز أن يراد ب ‏{‏رتّلناه‏}‏ أمرنا بترتيله، أي بقراءته مرتَّلاً، أي بتمهُّل بأن لا يعجِّل في قراءته بأن تُبيّن جميع الحروف والحركات بمهل، وهو المذكور في سورة المزّمّل ‏(‏4‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورتِّل القرآن ترتيلاً‏}‏

و ‏{‏ترتيلاً‏}‏ مصدر منصوب على المفعول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبيّناً لنوع الترتيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

لما استقصَى أكثرَ معاذيرهم وتعلّلاتهم وألقَمهم أحجارَ الردّ إلى لَهَوَاتهم عطف على ذلك فذلكة جامعة تعمّ ما تقدم وما عسى أن يأتوا به من الشكوك والتمويه بأن كل ذلك مدحوض بالحجة الواضحة الكاشفة لتَرّهاتهم‏.‏

والمَثَل‏:‏ المشابه‏.‏ وفعل الإتيان مجازٌ في أقوالهم والمحاجّةِ به، وتنكير ‏(‏مَثَل‏)‏ في سياق النفي للتعميم، أي بكل مَثَل‏.‏ والمقصود‏:‏ مثَل من نوع ما تقدم من أمثالهم المتقدمة ابتداء من قوله ‏(‏تعالى‏)‏‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا إنْ هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏، و‏{‏قالوا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 24‏]‏ بقرينة سَوْق هذه الجملة عقب استقصاء شبهتهم، و‏{‏قالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏وقال الظالمون إن تَتَّبِعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ودل على إرادة هذا المعنى من قوله‏:‏ ‏{‏بمثل‏}‏ قوله آنفاً ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 9‏]‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وتعدية فعل ‏{‏يأتونك‏}‏ إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لإفادة أن إتيانهم بالأمثال يقصدون به أن يفحموه‏.‏

والإتيان مستعمل مجازاً في الإظهار‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يأتونك بشُبه يشبِّهون به حالاً من أحوالك يبتغون إظهار أن حالك لا يُشبه حال رسول من الله إلا أبطلنا تشبيههم وأريناهم أن حالة الرسالة عن الله لا تلازم ما زعموه سواء كان ما أتوا به تشبيهاً صريحاً بأحوال غير الرسل كقولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين اكتتبها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ وقولهم ‏{‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏، أم كان نفي مشابَهة حاله بأحوال الرسل في زعمهم فإن نفي مشابهة الشيء يقتضي إثبات ضده كقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أُنزِل علينا الملائكةُ أو نَرى ربَّنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ وكذلك قولهم‏:‏ ‏{‏لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ إذا كانوا قالوه على معنى أنه مخالف لحاللِ نزول التوراة والإنجيل‏.‏ فهذا نفي تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال الرُّسُل الأسبقين في زعمهم‏.‏ ويدخل في هذا النوع ما يزعمون أنه تقتضيه النبوءة من المكانة عند الله أن يسأله، فيجابَ إليه كقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل إليه ملَكٌ فيكونَ معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكونُ له جنة يأكل منها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏

وصيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏لا يأتونك‏}‏ تشمل ما عسى أن يأتوا به من هذا النوع كقولهم‏:‏ ‏{‏أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا جئناك بالحق‏}‏ استثناء من أحوال عامة يقتضيها عموم الأمثال لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال‏.‏

وجملة ‏{‏جئناك‏}‏ حالية كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليَأكلون الطعام‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏جئناك بالحق‏}‏ مقابل قوله‏:‏ ‏{‏لا يأتونك بمثل‏}‏ وهو مجيء مجازي‏.‏

ومقابلة ‏{‏جئناك بالحق‏}‏ لقوله‏:‏ ‏{‏ولا يأتونك بمثل‏}‏ إشارة إلى أن ما يأتون به باطل‏.‏ مثال ذلك أن قولهم‏:‏ ‏{‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، أبطله قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏‏.‏

والتعبير في جانب ما يؤيده الله من الحُجة ب ‏{‏جِئْنَاك‏}‏ دون‏:‏ أتيناك، كما عُبر عمّا يجيئون به ب ‏{‏يأتونك‏}‏ إما لمجرد التفنن، وإما لأن فعل الإتيان إذا استعمل مجازاً كثر فيما يسوء وما يُكره، كالوعيد والهجاء، قال شقيق بن شَريك الأسدي‏:‏

أتاني من أبي أنس وعيدٌ *** فَسُلّ لِغيظَةِ الضَّحَّاك جسمي

وقول النابغة‏:‏

أتاني أبيت اللعن أنك لُمتَني *** وقوله‏:‏

فليأتينك قصائد وليَدفعن *** جيشاً إليك قوادمُ الأكوار

يريد قصائد الهجاء‏.‏ وقول الملائكة لِلُوط ‏{‏وآتيناك بالحق‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 64‏]‏ أي عذاب قومه، ولذلك قالوا له في المجيء الحقيقي ‏{‏بل جئناك بما كانوا فيه يمترون‏}‏ وتقدم في سورة الحجر ‏(‏63‏)‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، بخلاف فعل المجيء إذا استعمل في مجازه فأكثر ما يستعمل في وصول الخير والوعد والنصر والشيء العظيم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد جاءكم بُرهان من ربكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 174‏]‏ ‏{‏وجاء ربك والملك صفّاً صفّاً‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏، وفي حديث الإسراء‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ مرحَباً به ونعم المجيء جاء»، ‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏، وقد يكون متعلق الفعل ذا وجهين باختلاف الاعتبار فيطلق كلا الفعلين نحو ‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفَار التنور‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏، فإن الأمر هنا منظور فيه إلى كونه تأييداً نافعاً لنوح‏.‏

والتفسير‏:‏ البيان والكشف عن المعنى، وقد تقدم ما يتعلق به مفصَّلاً في المقدمة الأولى من مقدمات هذا الكتاب، والمراد هنا كشف الحجة والدليل‏.‏

ومعنى كونه ‏{‏أحسَن‏}‏، أنه أحق في الاستدلال، فالتفضيل للمبالغة إذ ليس في حجتهم حُسن أو يراد بالحسن ما يبدو من بَهرجة سفسطتهم وشبههم فيجيء الكشف عن الحق أحسن وقعاً في نفوس السامعين من مغالطاتهم، فيكون التفضيل بهذا الوجه على حقيقته، فهذه نكتة من دقائق الاستعمال ودقائق التنزيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ولوعيد المشركين وذمهم‏.‏

والموصول واقعٌ موقع الضمير كأنه قيل‏:‏ هُم يحشرون على وجوههم، فيكون الضمير عائداً إلى الذين كفروا من قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ إظهاراً في مقام الإضمار لتحصيل فائدة أن أصحاب الضمير ثبتَ لهم مضمون الصلة، وليبنى على الصلة موقع اسم الإشارة، ومقتضى ظاهر النظم أن يقال‏:‏ ولا يأتونك بِمَثَل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً، هُم شرّ مكاناً وأضل سبيلاً، ونحشرهم على وجوههم إلى جهنم، كما قال في سورة الإسراء ‏(‏97‏)‏ ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم‏}‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏وما منَع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ أن قالوا أبعَث اللَّه بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94‏]‏ ويعلم من السياق بطريق التعريض أن الذين يحشرون على وجوههم هم الذين يأتون بالأمثال تكذيباً للنبيء صلى الله عليه وسلم وإذ كان قصدهم مما يأتون به من الأمثال تنقيص شأن النبي ذكروا بأنهم أهل شر المكان وضلاللِ السبيل دون النبي صلى الله عليه وسلم فالموصول مبتدأ واسم الإشارة خبر عنه‏.‏

وقد تقدم معنى ‏{‏يحشرون على وجوههم‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏97‏)‏ عند قوله ‏{‏ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم‏.‏ وتقدم ذكر الحديث في السُّؤَال عن كيفَ يمشون على وجوههم‏.‏

وشّر‏:‏ اسم تفضيل‏.‏ وأصله أشرّ وصيغتا التفضيل في قوله شَرّ، وأضلّ‏}‏ مستعملتان للمبالغة في الاتصاف بالشر والضلال كقوله ‏{‏قال أنتم شَرّ مكاناً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏ في جواب قول إخوة يوسف ‏{‏إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر وهو قصر للمبالغة بتنزيلهم منزلة من انحصر الشر والضلال فيهم‏.‏ وروي عن مقاتل أن الكفار قالوا للمسلمين‏:‏ هم شر الخلق، فنزلت هذه الآية فيكون القصر قصر قلب، أي هم شر مكاناً وأضل سبيلاً لا المسلمون، وصيغتا التفضيل مسلوبتا المفاضلة على كلا الوجهين‏.‏

والمكان‏:‏ المقَر‏.‏ والسبيل‏:‏ الطريق، مكانهم جهنم، وطريقهم الطريق الموصل إليها وهو الذي يحشرون فيه على وجوههم‏.‏

والإتيان باسم الإشارة عقب ما تقدم للتنبيه على أن المشار إليهم أحرِياء بالمكان الأشرّ والسبيل الأضل، لأجل ما سَبق من أحوالهم التي منها قولهم ‏{‏لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏‏.‏

و ‏{‏سبيلاً‏}‏ تمييز محوَّل عن الفاعل، فأصله‏:‏ وضل سبيلُهم‏.‏ وإسناد الضلال إلى السبيل في التركيب المحول عنه مجازٌ عقلي لأن السبيل سبب ضلالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ‏(‏35‏)‏ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

لما جرى الوعيد والتسلية بذكر حال المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام عطف على ذلك تمثيلهم بالأمم المكذبين رسلهم ليحصل من ذلك موعظة هؤلاء وزيادة تسلية الرسول والتعريض بوعده بالانتصار له‏.‏

وابتدئ بذكر موسى وقومه لأنه أقرب زمناً من الذين ذكروا بعدَه ولأن بقايا شرعه وأمته لم تزل معروفة عند العرب، فإن صح ما روي أن الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لولا نُزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ اليهود، فوجه الابتداء بذكر ما أوتي موسى أظهر‏.‏

وحرف التحقيق ولام القسم لتأكيد الخبر باعتبار ما يشتمل عليه من الوعيد بتدميرهم‏.‏ وأريد بالكتاب الوحي الذي يكتب ويحفظ وذلك من أول ما ابتدئ بوحْيه إليه، وليس المراد بالكتاب الألواحَ لأن إيتاءه الألواح كان بعد زمن قوله ‏{‏اذهبا إلى القوم‏}‏، فقوله ‏{‏فقلنا اذهبا‏}‏ مفرع عن إيتاء الكتاب، فالإيتاء متقدم عليه‏.‏

وفي وصف الوحي بالكتاب تعريض بجهالة المشركين القائلين ‏{‏لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏، فإن الكُتب التي أوتيها الرسل ما كانت إلا وَحياً نزل منجّماً فجمعه الرسل وكتبه أتباعهم‏.‏

والتعرض هنا إلى تأييد موسى بهارون تعريض بالرد على المشركين إذ قالوا ‏{‏لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ فإن موسى لما اقتضت الحكمة تأييده لم يؤيد بملك ولكنه أيّد برسول مثله‏.‏

والوزير‏:‏ المؤازر وهو المعاون المظاهر، مشتق من الأزْر وهو القوة‏.‏ وأصل الأزر‏:‏ شدّ الظهر بإزارٍ عند الإقبال على عمل ذي تعب، وقد تقدم في سورة طَه‏.‏ وكان هارون رسولاً ثانياً ومُوسى هو الأصل‏.‏ والقوم هم قبط مصر قوم فرعون‏.‏

و ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ وصف للقوم وليس هو من المقول لموسى وهارون لأن التكذيب حينئذ لمّا يقع منهم، ولكنه وصف لإفادة قُراء القرآن أن موسى وهارون بلَّغا الرسالة وأظهر الله منهما الآيات فكذب بها قوم فرعون فاستحقوا التدمير تعريضاً بالمشركين في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم وتمهيداً للتفريع ب ‏{‏دمرناهم تدميراً‏}‏ الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية‏.‏

والموصول في قوله‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير‏.‏

وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها‏:‏ أولُها وآخرها لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير بتكذيبهم رسلهم‏.‏

والتدمير‏:‏ الإهلاك، والهَلاك‏:‏ دُمور‏.‏

وإتباع الفعل بالمفعول المطلق لما في تنكير المصدر من تعظيم التدمير وهو الإغراق في اليَمّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 35‏]‏ باعتبار أن المقصود وصف قومه بالتكذيب والإخبار عنهم بالتدمير‏.‏

وانتصب ‏{‏قوم نوح‏}‏ بفعل محذوف يفسره ‏{‏أغرقناهم‏}‏ على طريقة الاشتغال، ولا يضر الفصل بكلمة ‏{‏لمّا‏}‏ لأنها كالظرف، وجوابها محذوف دل عليه مفسر الفعل المحذوف، وفي هذا النظم اهتمام بقوم نوح لأن حالهم هو محل العبرة فقدم ذكرهم ثم أُكّد بضميرهم‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏وقوم نوح‏}‏ عطفاً على ضمير النصب في قوله ‏{‏فدمرناهم‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 36‏]‏ أي ودمرنا قوم نوح، وتكون جملة ‏{‏لما كذبوا الرسل أغرقناهم‏}‏ مبيِّنة لجملة ‏{‏دمَّرناهم‏}‏‏.‏

والآية‏:‏ الدليل، أي جعلناهم دليلاً على مصير الذين يكذبون رسلهم‏.‏ وجعلهم آية‏:‏ هو تواتر خبرهم بالغرق آية‏.‏

وجعل قوم نوح مكذِّبين الرسل مع أنهم كذّبوا رسولاً واحداً لأنهم استندوا في تكذيبهم رسولهم إلى إحالة أن يرسل الله بشراً لأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ فكان تكذيبهم مستلزماً تكذيب عموم الرسل، ولأنهم أول من كذَّب رسولهم، فكانوا قدوة للمكذبين من بعدهم‏.‏ وقصة قوم نوح تقدمت في سورة الأعراف وسورة هود‏.‏

وجملة ‏{‏وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً‏}‏ عطف على ‏{‏أغرقناهم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ عذبناهم في الدنيا بالغرق وأعتدنا لهم عذاباً أليماً في الآخرة‏.‏ ووقع الإظهار في مقام الإضمار فقيل ‏{‏للظالمين‏}‏ عوضاً عن‏:‏ أعتدنا لهم، لإفادة أن عذابهم جزاء على ظلمهم بالشرك وتكذيب الرسول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ‏(‏38‏)‏ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه ‏{‏تبرنا‏}‏‏.‏ وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها‏.‏ ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله‏:‏ ‏{‏فدمرناهم تدميراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وتنوين ‏{‏عاداً وثموداً‏}‏ مع أن المراد الامتان‏.‏ فأما تنوين ‏{‏عاداً‏}‏ فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغيرُ زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف‏.‏ وأما صَرْف ‏{‏ثموداً‏}‏ في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب، والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع ‏{‏عَاداً‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَلاَسِلاً وأَغْلاَلاً وسعيراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي‏.‏ وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف‏.‏

وأما ‏{‏أصحاب الرسّ‏}‏ فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرسّ بئر عظيمة أو حفير كبير‏.‏ ولما كان اسماً لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب‏.‏

قال زهير‏:‏

بكَرْنَ بُكُوراً واستحرْنَ بسَحرة *** فهنّ ووادِي الرسّ كاليد للفم

وسمّوا بالرّسّ ما عرفوه من بلاد فارس، وإضافة ‏{‏أصحاب‏}‏ إلى ‏{‏الرس‏}‏ إما لأنهم أصابهم الخسف في رسّ، وإما لأنهم نازلون على رسّ، وإما لأنهم احتفروا رسّاً، كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدّوه وأضرموه‏.‏ والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى «فَلَجا»‏.‏

واختلف في المعنيّ من ‏{‏أصحاب الرس‏}‏ في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ هم قوم كانوا في عَدن أُرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولاً‏.‏ وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير ‏(‏سميت العنقاء لطول عنقها‏)‏ وكانت تسكن في جبل يقال له «فتح»، وكانت تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق‏.‏ وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله‏.‏ قال وهب بن منبه‏:‏ خسف بهم وبديارهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم شعيب‏.‏ وقيل‏:‏ قوم كانوا مع قوم شعيب، وقال مقاتل والسدّي‏:‏ الرسّ بئر بأنطاكية، وأصحاب الرسّ أهل أنطاكية بُعث إليهم حبيب النجّار فقتلوه ورسُّوه في بئر وهو المذكور في سورة يس ‏(‏20‏)‏ ‏{‏وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين‏}‏ الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ الرس وادٍ في أذربيجان في أرَّان يخرج من قاليقَلا ويصب في بحيرة جُرجان ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية‏.‏ ولعله من تشابه الأسماء يقال‏:‏ كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف، وقيل غير ذلك مما هو أبعد‏.‏

والقرون‏:‏ الأمم فإن القرن يطلق على الأمة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ في أول الأنعام ‏(‏6‏)‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ بين ذلك‏}‏ إلى المذكور من الأمم‏.‏

ومعنى ‏{‏بين ذلك‏}‏ أن أُمَماً تخللت تلك الأقوام ابتداءً من قوم نوح‏.‏

وفي هذه الآية إيذان بطوللِ مُدَد هذه القرون وكثرتها‏.‏

والتنوين في ‏{‏كُلاًّ‏}‏ تنوين عوض عن المضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ وكلَّهم ضربنا له الأمثال وانتصب ‏{‏كُلاّ‏}‏ الأول بإضمار فعل يدل عليه ‏{‏ضربنا له‏}‏ تقديره‏:‏ خاطبنا أو حذَّرنا كُلاًّ وضربنا له الأمثال، وانتصب ‏{‏كُلاًّ‏}‏ الثاني بإضمار فعل يدل عليه ‏{‏تبرنا‏}‏ وكلاهما من قبيل الاشتغال‏.‏

والتتبير‏:‏ التفتيت للأجسام الصلبة كالزجَاج والحديد‏.‏ أطلق التتبير على الإهلاك على طريقة الاستعارة تبعيةً في ‏{‏تبرنا‏}‏ وأصلية في ‏{‏تتبيراً‏}‏، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء متبّر ما هم فيه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏139‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وليُتَبِّروا ما علَوْا تتبيراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏7‏)‏‏.‏ وانتصب ‏{‏تتبيراً‏}‏ على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة هذا الإهلاك‏.‏

ومعنى ضرب الأمثال‏:‏ قولها وتبيينها وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏

والمَثَل‏:‏ النظير والمشابه، أي بيّنا لهم الأشباه والنظائر في الخير والشر ليعرضوا حال أنفسهم عليها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وسَكَنْتُم في مَساكِن الذين ظَلَموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعَلْنا بهم وضربنا لكم الأمثال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 45‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

لما كان سَوْق خبر قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرسّ وما بينهما من القرون مقصوداً لاعتبار قريش بمصائرهم نُقِل نَظْم الكلام هنا إلى إضاعتهم الاعتبار بذلك وبما هو أظهر منه لأنظارهم، وهو آثار العذاب الذي نَزل بقرية قوم لوط‏.‏

واقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجيب من عدم اعتبارهم كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لقد استكبروا في أنفسهم‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وكانت قريش يمرّون بديار قوم لوط في أسفارهم للتجارة إلى الشام فكانت ديارهم يمرّ بها طريقهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحِين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137، 138‏]‏‏.‏ وكان طريق تجارتهم من مكة على المدينة ويدخلون أرض فلسطين فيمرّون حذو بحيرة لوط التي على شافتها بقايا مدينة «سدوم» ومعظمها غمرها الماء‏.‏ وتقدم ذكر ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنهما لبإماممٍ مُبين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏79‏)‏‏.‏

والإتيان‏:‏ المجيء‏.‏ وتعديته ب ‏{‏على‏}‏ لتضمينه معنى‏:‏ مرّوا، لأن المقصود من التذكير بمجيء القرية التذكير بمصير أهلها فكأنّ مجيئهم إياها مرور بأهلها، فضمّن المجيء معنى المرور لأنه يشبه المرور، فإن المرور يتعلق بالسكان والمجيءَ يتعلق بالمكان فيقال‏:‏ جئنا خراسان، ولا يقال‏:‏ مررنا بخراسان‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنكم لَتَمُرُّون عليهم مُصبِحِين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137، 138‏]‏‏.‏

ووصف القرية ب ‏{‏التي أمطرت مطر السوء‏}‏ لأنها اشتهرت بمضمون الصلة بين العرب وأهل الكتاب‏.‏ وهذه القرية هي المسماة «سَدُوم» بفتح السين وتخفيف الدال وكانت لقوم لوط قرى خمس أعظمها «سَدوم»‏.‏ وتقدم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولوطاً إذ قال لقومه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏80‏)‏‏.‏

و ‏{‏مطر السوْء‏}‏ هو عذاب نزل عليهم من السماء وهو حجارة من كبريت ورماد، وتسميته مطراً على طريقة التشبيه لأن حقيقة المطر ماء السماء‏.‏

والسَّوْء بفتح السين‏:‏ الضرّ والعذاب، وأما بضم السين فهو ما يسوء‏.‏ والفتح هو الأصل في مصدر ساءه، وأما السُّوء بالضم فهو اسم مصدر، فغلب استعمال المصدر في الذي يسوء بضر، واستعمال اسم المصدر في ضد الإحسان‏.‏

وتفرع على تحقيق إتيانهم على القرية مع عدم انتفاعهم به استفهام صوري عن انتفاء رؤيتهم إياها حينما يأتون عليها، لأنهم لمّا لم يتّعظوا بها كانوا بحال من يُسأل عنهم‏:‏ هل رأوها، فكان الاستفهام لإيقاظ العقول للبحث عن حالهم‏.‏ وهو استفهام إما مستعمل في الإنكار والتهديد، وإما مستعمل في الإيقاظ لمعرفة سبب عدم اتعاظهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بل كانوا لا يرجون نشوراً‏}‏ يجوز أن يكون ‏{‏بل‏}‏ للإضراب الانتقالي انتقالاً من وصف تكذيبهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدم اتعاظهم بما حل بالمكذبين من الأمم إلى ذكر تكذيبهم بالبعث، فيكون انتهاء الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏أفلم يكونوا يرونها‏}‏ وهو الذي يجري على الوجه الأول في الاستفهام‏.‏ وعبر عن إنكارهم البعث بعَدم رجائه لأن منكر البعث لا يَرجو منه نفعاً ولا يخشى منه ضراً، فعبر عن إنكار البعث بأحد شقّي الإنكار تعريضاً بأنهم ليسوا مثل المؤمنين يرجون رحمة الله‏.‏

والنشور‏:‏ مصدر نشر الميت أحْياه، فنشَر، أي حيي‏.‏ وهو من الألفاظ التي جرت في كلام العرب على معنى التخيّل لأنهم لا يعتقدونه، ويروى للمُهَلْهِل في قتاله لبني بكر ابن وائل الذين قتلوا أخاه كليباً قولُه‏:‏

يا لبَكر انشروا لي كُليباً *** يا لبكر أين أينَ الفِرارُ

فإذا صحّت نسبة البيت إليه كان مراده من ذلك تعجيزهم ليتوسل إلى قتالهم‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فلم يكن لهم استعداد للاعتبار، لأن الاعتبار ينشأ عن المراقبة ومحاسبةِ النفس لطلب النجاة، وهؤلاء المشركون لما نشأوا على إهمال الاستعداد لِمَا بعد الموت قُصرت أفهامهم على هذا العالم العاجل فلم يُعنَوا إلا بأسباب وسائل العاجلة، فهم مع زكانتهم في تفرس الذوات والشيات ومراقبة سير النجوم وأنواء المطر والريح ورائحة أتربة منازل الأحياء، هم مع ذلك كله معرضون بأنظارهم عن توسم الإلهيات وحياة الأنفس ونحو ذلك‏.‏ وأصل ذلك الضلاللِ كلّه انجرّ لهم من إنكار البعث فلذلك جعل هنا علة لانتفاء اعتبارهم بمصير أمة كذبت رسولها وعصت ربها‏.‏ وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات للمتوسمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 75‏]‏ أي دون مَن لا يتوسمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ‏(‏41‏)‏ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

كان ما تقدمت حكايته من صنوف أذاهُم الرسولَ عليه الصلاة والسلام أقوالاً في مغيبه، فعُطف عليها في هذه الآية أذى خاص وهو الأذى حين يرونه‏.‏ وهذا صنف من الأذى تبعثهم إليه مشاهدة الرسول في غير زيّ الكبراء والمترَفين لا يجرّ المطارف ولا يركب النجائب ولا يمشي مرحاً ولا ينظر خُيلاء ويجالس الصالحين ويُعرض عن المشركين، ويرفق بالضعفاء ويواصل الفقراء، وأولئك يستخفون بالخلُق الحسن، لما غلب على آرائهم من أفَن، لذلك لم يخل حاله عندهم من الاستهزاء به إذا رَأوه بأن حاله ليست حال من يختاره الله لرسالته دونَهم، ولا هو أهل لقيادتهم وسياستهم‏.‏ وهذا الكلام صدر من أبي جهل وأهل ناديه‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف زمان مضمَّن معنى الشرط فلذلك يجعل متعلَّقه جواباً له‏.‏ فجملة ‏{‏إن يتخذونك إلا هزؤاً‏}‏ جوابُ ‏{‏إذا‏}‏‏.‏ والهُزُؤ بضمتين‏:‏ مصدر هزأ به‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏(‏تعالى‏)‏ ‏{‏قالوا أتَتّخِذُنا هُزوءاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏‏.‏ والوصف للمبالغة في استهزائهم به حتى كأنه نفس الهُزؤ لأنهم محَّضوه لذلك، وإسناد ‏{‏يتخذونك‏}‏ إلى ضمير الجمع للدلالة على أن جماعاتهم يستهزئون به إذا رأوه وهم في مجالسهم ومنتدياتهم‏.‏ وصيغة الحصر للتشنيع عليهم بأنهم انحصر اتخاذُهم إياه في الاستهزاء به يلازمونه ويدْأبون عليه ولا يخلطون معه شيئاً من تذكر أقواله ودعوته، فالاستثناء من عموم الأحوال المنفية، أي لا يتخذونك في حالة إلا في حالة الاستهزاء‏.‏

وجملة ‏{‏أهذا الذي بعث الله رسولاً‏}‏ بيان لجملة ‏{‏إن يتخذونك إلا هزؤاً‏}‏ لأن الاستهزاء من قبيل القول فكان بيانه بما هو من أقوالهم ومجاذَبتهم الأحاديث بينهم‏.‏

والاستفهام إنكار لأن يكون بعثَه الله رسولاً‏.‏

واسم الإشارة مستعمل في الاستصغار كما علمت في أول تفسير هذه الآية‏.‏

والمعنى‏:‏ إنكار أن يكون المشار إليه رسولاً لأن في الإشارة إليه ما يكفي للقطع بانتفاء أنه رسول الله في زعمهم، وقد تقدم قريب من هذه الجملة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هُزؤاً أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏36‏)‏، سوى أن الاستفهام هنالك تعجبي فانظره‏.‏

أما قولهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏ فالمقصود منه تفاخرهم بتصلبهم في دينهم وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح فكان تَأثر أسماعِهم بأقواله يُوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام لولا أنهم تريَّثوا، فكان في الريث أن أفاقوا من غِشاوة أقواله وخلابة استدلاله واستبصروا مرآة فانجلى لهم أنه لا يستأهل أن يكون مبعوثاً من عند الله، فقد جمعوا من كلامهم بين تزييف حجته وتنويه ثباتهم في مقام يَستفز غير الراسخين في الكفر‏.‏ وهذا الكلام مشوب بفَسادِ الوضع ومؤلف على طرائق الدهماء إذ يتكلمون كما يشتهون ويستبلهون السامعين‏.‏

ومن خلابة المغالطة إسنادهم مقاربة الإضلال إلى الرسول دون أنفسهم ترفعاً على أن يكونوا قاربوا الضلال عن آلهتهم مع أن مقاربته إضلالَهم تستلزم اقترابهم من الضلال‏.‏

و ‏{‏إنْ‏}‏ مخفَّفَة من ‏(‏إنّ‏)‏ المشددة، والأكثر في الكلام إهمالها، أي ترك عملها نصبَ الاسم ورفعَ الخبر، والجملة التي تليها يلزم أن تكون مفتتحة بفعل من أخوات كان أو من أخوات ظنّ وهذا من غرائب الاستعمال‏.‏ ولو ذهبنا إلى أن اسمها ضمير شأن وأن الجملة التي بعدها خبر عن ضمير الشأن كما ذهبوا إليه في ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة الهمزة إذا خففت لما كان ذلك بعيداً‏.‏ وفي كلام صاحب «الكشاف» ما يشهد له في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏164‏)‏، والجملة بعدها مستأنفة، واللاّم في قوله لَيُضِلّنا‏}‏ هي الفارقة بين ‏(‏إنْ‏)‏ المحققة وبين ‏(‏إنْ‏)‏ النافية‏.‏

والصبر‏:‏ الاستمرار على ما يشق عمله على النفس‏.‏ ويعدّى فعله بحرف ‏(‏على‏)‏ لما يقتضيه من التمكن من الشيء المستمر عليه‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ حرف امتناع لوجود، أي امتناع وقوع جوابها لأجل وجود شرطها فتقتضي جواباً لشرطها، والجواب هنا محذوف لدلالة ما قبل ‏{‏لولا‏}‏ عليه، وهو ‏{‏إن كاد ليضلنا‏}‏‏.‏ وفائدة نسج الكلام على هذا المنوال دون أن يؤتى بأداة الشرط ابتداء متلوة بجوابها قصد العناية بالخبر ابتداء بأنه حاصل ثم يؤتى بالشرط بعده تقييداً لإطلاق الخبر فالصناعة النحوية تعتبر المقدَّم دليلَ الجواب، والجواب محذوفاً لأن نظر النحوي لإقامة أصل التركيب، فأما أهل البلاغة فيعتبرون ذلك للاهتمام وتقييد الخبر بعد إطلاقه، ولذا قال في «الكشاف»‏:‏ «‏{‏لولا‏}‏ في مثل هذا الكلام جار مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى لا من حيث الصنعة» فهذا شأن الشروط الواقعة بعد كلام مقصود لذاته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ قيد في المعنى للنهي عن موالاة أعداءِ الله‏.‏ وتأخير الشرط ليَظهر أنه قيد للفعل الذي هو دليل الجواب‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ ‏{‏إن كنتم خرجتم‏}‏ متعلق ب ‏{‏لا تتخذوا‏}‏ يعني‏:‏ لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي‏.‏ وقولُ النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه» اه‏.‏ وكذلك ما قدم فيه على الشرط ما حقه أن يكون جواباً للشرط تقديماً لقصد الاهتمام بالجواب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏‏.‏

هذا جواب قولهم ‏{‏إن كاد لَيُضِلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏ المتضمن أنهم على هدى في دينهم، وكان الجواب بقطع مُجادلتهم وإحالتهم على حين رؤيتهم العذاب ينزل بهم، فتضمن ذلك وعيداً بعذاب‏.‏ والأظهر أن المراد عذاب السيف النازل بهم يوم بدر، وممن رآه أبو جهل سيّد أهل الوادي، وزعيم القالة في ذلك النادي‏.‏

ولما كان الجواب بالإعراض عن المحاجّة ارتكب فيه أسلوب التهكم بجعل ما ينكشف عنه المستقبل هو معرفة من هو أشد ضلالاً من الفريقين على طريقة المجاراة وإرخاء العنان للمخطئ إلى أن يقف على خطئه وقد قال أبو جهل يوم بدر وهو مثخَّن بالجراح في حالة النزع لما قال له عبد الله بن مسعود‏:‏ أنتَ أبو جهل‏؟‏ فقال‏:‏ «وهَل أعمد من رجل قتله قومه»‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ الاستفهامية أوجبت تعليق فعل ‏{‏يعلمون‏}‏ عن العمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

استئناف خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته إذ كان حريصاً على هداهم والإلحاح في دعوتهم، فأعلمه بأن مثلهم لا يرجى اهتداؤه لأنهم جعلوا هواهم إلههم، فالخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم

وفعل ‏{‏اتخذ‏}‏ يتعدى إلى مفعولين وهو من أفعال التصيير الملحقة بأفعال الظن في العمل، وهو إلى باب كَسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظنّ، فإن ‏{‏اتخذ‏}‏ معناه صيّر شيئاً إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى‏.‏ والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساوياً للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مراداً للمتكلم‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته، أي ما يُحب أن يكون إلهاً له، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية، فالمعنى‏:‏ من اتخذ رباً له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة‏.‏ فإطلاق ‏{‏إلهه‏}‏ على هذا الوجه إطلاق حقيقي‏.‏ وهذا يناسب قوله قبله ‏{‏إن كاد لَيُضِلُّنا عن آلهتنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير‏.‏ واختاره ابن عرفة في «تفسيره» وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته‏.‏

وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى‏:‏ من اتخذ هواه قُدوة له في أعماله لا يأتي عملاً إلا إذا كان وفاقاً لشهوته فكأنَّ هواهُ إلهه‏.‏ وعلى هذا يكون معنى ‏{‏إلهه‏}‏ شبيهاً بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ‏.‏

وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم‏.‏ ونحا إليه ابن عباس، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب «الكشاف» وابن عطية‏.‏ وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملاً للآية‏.‏

واعلم أنه إن كان مجموع جملتي ‏{‏أرأيتَ من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً‏}‏ كلاماً واحداً متصلاً ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله، تعين فعل «رأيت» لأن يكون فعلاً قلبياً بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله‏:‏ ‏{‏أرأيت‏}‏ إنكارياً كالثاني في قوله‏:‏ ‏{‏أفأنت تكون عليه وكيلاً‏}‏ وكان مجموع الجملتين كلاماً على طريقة الإجمال ثم التفصيل‏.‏ والمعنى‏:‏ أرأيتَك تكون وكيلاً على من اتخذ إلهه هواه، وتكون الفاء في قوله ‏{‏أفأنت‏}‏ فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله

‏{‏أئذا كنا عظاماً ورفاتاً إنَّا لمبعوثون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏ على قراءة إعادة همزة الاستفهام، وتكون جملة ‏{‏أفأنت تكون عليه وكيلاً‏}‏ عوضاً عن المفعول الثاني لفعل ‏{‏أرأيت‏}‏، والفعل معلق عن العمل فيه بسبب الاستفهام على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن حَقّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت تُنقذ من في النار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ وعليه لا يوقف على قوله ‏{‏هواه‏}‏ بل يوصل الكلام‏.‏ وهذا النظم هو الذي مشى عليه كلام «الكشاف»‏.‏

وإن كانت كل جملة من الجملتين مستقلةً عن الأخرى في نظْم الكلام كان الاستفهام الذي في الجملة الأولى مستعملاً في التعجيب من حال الذين اتخذوا إلههم هواهم تعجيباً مشوباً بالإنكار، وكانت الفاء في الجملة الثانية للتفريع على ذلك التعجيب والإنكار، وكان الاستفهام الذي في الجملة الثانية من قوله ‏{‏أفأنت تكون عليه وكيلاً‏}‏ إنكارياً بمعنى‏:‏ إنك لا تستطيع قلعه عن ضلاله كما أشار إليه قوله قبله ‏{‏من أضل سبيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ صادقة على الجمع المتحدث عنه في قوله ‏{‏وسوف يعلمون حين يَرون العذاب‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏ وروعي في ضمائر الصلة لفظ ‏{‏مَن‏}‏ فأُفردت الضمائر‏.‏ والمعنى‏:‏ من اتخذوا هواهم إلهاً لهم أو من اتخذوا آلهة لأجل هواهم‏.‏

و«إله» جنس يصدق بعدة آلهة إن أريد معنى اتخذوا آلهة لأجل هواهم‏.‏ وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله ‏{‏أنت تكون عليه وكيلاً‏}‏ للتقوِّي إشارة إلى إنكار ما حَمَّل الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه من الحرص والحزن في طلب إقلاعهم عن الهوى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ تكون وكيلاً عليه في حال إيمانه بحيث لا تفارق إعادة دعوته إلى الإيمان حتى تلجئه إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذاب مَن أضلّ سبيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏، ف ‏{‏أم‏}‏ منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها‏.‏ والتقدير‏:‏ أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون‏.‏

والمراد من نفي ‏{‏أن أكثرهم يسمعون‏}‏ نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يَرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه‏.‏ وهذا كقوله تعالى ‏{‏ولا تُسمع الصُّمَّ الدعاء إذا ولَّوْا مدبرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وعطف ‏{‏أو يعقلون‏}‏ على ‏{‏يسمعون‏}‏ لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وإنما نُفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم، لأن هذا حال دهمائهم ومقلِّديهم، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حبّ الرئاسة وأَنِفوا من أن يعودوا أتباعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مِثل عمار، وبلال‏.‏

وجملة ‏{‏إن هم إلا كالأنعام‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالاً عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم، فكان تشبيههم بالأنعام تبييناً للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوة آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب‏:‏

فإن تَفُق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال

وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير ‏{‏يسمعون‏}‏‏.‏

وانتُقل في صفة حالهم إلى ما هو أشدّ من حال الأنعام بأنهم أضلّ سبيلاً من الأنعام‏.‏ وضَلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رُعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئاً من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ وهذا كقوله تعالى ‏{‏فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإن من الحجارة لَمَا يتفجر منه الأنهار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي فيه انتقال من إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن من عند الله أنزله على رسوله، وصفات الرسل وما تخلل ذلك من الوعيد وهو من هذا الاعتبار متصل بقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏

وفيه انتقال إلى الاستدلال على بطلان شركهم وإثبات الوحدانية لله وهو من هذه الجهة متصل بقوله في أول السورة ‏{‏واتخَذَوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 3‏]‏ الآية‏.‏

وتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن الكلام متصل بنظيره من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وما عطف عليه ‏{‏قل أذلك خير‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلَك من المرسلين‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏وكفى بربك هادياً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 31‏]‏ فكلها مخاطبات للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جُعل مَدُّ الظل وقبْضُه تمثيلاً لحكمة التدريج في التكوينات الإلهية والعدول بها عن الطَفْرَة في الإيجاد ليكون هذا التمثيل بمنزلة كبرَى القياسسِ للتدليل على أن تنزيل القرآن منجَّماً جارٍ على حكمة التدرج لأنه أمكن في حصول المقصود، وذلك ما دل عليه قوله سابقاً ‏{‏كذلك لنُثَبّت به فؤادك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏‏.‏ فكان في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظّل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية زيادةٌ في التعليل على ما في قوله ‏{‏كذلك لِنُثبّت به فؤادك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏‏.‏

ويستتبع هذا إيماءً إلى تمثيل نزول القرآن بظهور شمس في المواضع التي كانت مظلَّلة إذ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً‏}‏ فإن حال الناس في الضلالة قبل نزول القرآن تشبَّه بحال امتداد ظلمة الظل، وصار ما كان مظلّلاً ضاحياً بالشمس وكان زوال ذلك الظل تدريجاً حتى ينعدم الفيء‏.‏

فنظم الآية بما اشتمل عليه من التمثيل أفاد تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجَّماً بهيئة مدّ الظل مدرّجاً ولو شاء لجعله ساكناً‏.‏

وكان نظْمُها بحمله على حقيقة تركيبه مفيداً العبرة بمد الظل وقبضِه في إثبات دقائق قدرة الله تعالى، وهذان المُفادان من قبيل استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الذي ذكرناه في المقدمة التاسعة‏.‏ وكان نظم الكلام بمعنى ما فيه من الاستعارة التصريحية من تشبيه الهداية بنور الشمس، وتقلّص ضلال الكفر بانقباض الظل بعد أن كان مديداً قبل طلوع الشمس‏.‏ وبهذه النكتة عُطف قوله ‏{‏ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً‏}‏ إلى قوله ‏{‏وجعل النهار نشوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏‏.‏

والاستفهام تقريري فهو صالح لطبقات السامعين‏:‏ مِن غافل يُسأل عن غفلته ليُقِرَّ بها تحريضاً على النظر، ومِن جَاحد يُنكَر عليه إهماله النظر، ومن موفق يُحَثّ على زيادة النظر‏.‏

والرؤية بصرية، وقد ضمن الفعل معنى النظر فعدّي إلى المرْئي بحرف ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ والمدّ‏:‏ بسط الشيء المنقبض المتداخل يقال‏:‏ مد الحبل ومد يده، ويطلق المد على الزيادة في الشيء وهو استعارة شائعة، وهو هنا الزيادة في مقدار الظل‏.‏

ثم إذا كان المقصود بفعل الرؤية حالةً من أحوال الذات تصحّ رؤيتها فلك تعدية الفعل إلى الحالة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم ترَ كيفَ فَعَل ربّك بأصحاب الفيل‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 15‏]‏، وصحّ تعديته إلى اسم الذات مقيّدة بالحالة المقصودة بحال أو ظرف أو صلة نحو ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ ‏{‏ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيء لهم ابعث لنا ملكاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 246‏]‏‏.‏

والفرق بين التعديتين أن الأولى يقصد منها العناية بالحالة لا بصاحبها، فالمقصود من آية سورة الفيل‏:‏ الامتنان على أهل مكة بما حلّ بالذين انتهكوا حرمتَها من الاستئصال، والمقصود من آية سورة الغاشية العبرة بكيفية خلقه الإبل لِما تشتمل عليه من عجيب المنافع، وكذلك الآيتان الأخِيرتان‏.‏ وإذ قد كان المقام هنا مقام إثبات الوحدانية والإلهية الحقّ لله تعالى، أوثرَ تعلق فعل الرؤية باسم الذات ابتداء ثم مجيء الحال بعد ذلك مجيئاً كمجيء بدل الاشتمال بعد ذكر المبدَل منه‏.‏

وأما قوله في سورة نوح ‏(‏15‏)‏ ‏{‏ألم تَروا كيف خلق الله‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ألم تروا رَبَّكم كيف خلق، لأن قومه كانوا متصلبين في الكفر وكان قد جادلهم في الله غيرَ مرة فعَلِم أنه إن ابتدأهم بالدعوة إلى النظر في الوحدانية جعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يسمعوا إليه فبادأهم باستدعاء النظر إلى كيفية الخلق‏.‏

وعلى كل فإن ‏{‏كيف‏}‏ هنا مجردة عن الاستفهام وهي اسم دال على الكيفية فهي في محلّ بدل الاشتمال من ‏{‏ربك‏}‏، والتقدير‏:‏ ألم ترَ إلى ربك إلى هيئة مده الظل‏.‏ وقد تقدم ذكر خروج ‏(‏كيف‏)‏ عن الاستفهام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏6‏)‏، فإنه لا يخلو النهار من وجود الظل‏.‏

وفي وجود الظل دقائقُ من أحواللِ النظام الشمسي فإن الظل مقدار محدد من الظلمة يحصل من حيلولة جسم بين شعاع الشمس وبين المكان الذي يقع عليه الشعاعُ فينطبع على المكان مقدار من الظل مقدَّر بمقدار كيفية الجسم الحائل بين الشعاع وبين موقع الشعاع على حسب اتجاه ذلك الجسم الحائل من جهته الدقيقة أو الضخمة، ويكون امتداد تلك الظلمة المكيَّفية بكيفية ذلك الجسم متفاوتاً على حسب تفاوت بُعد اتجاه الأشعة من موقعها ومن الجسم الحائل ومختلفاً باستواء المكان وتحدُّبه، فذلك التفاوت في مقادير ظل الشيء الواحد هو المعبر عنه بالمَدّ في هذه الآية لأنه كلما زاد مقدار الظلمة المكيّفية لكيفية الحائل زاد امتداد الظل‏.‏ فتلك كلها دلائل كثيرة من دقائق التكوين الإلهي والقدرة العظيمة‏.‏

وقد أفاد هذا المعنى كاملاً فعلُ مَدّ‏}‏‏.‏

وهذا الامتداد يكثر على حسب مقابلة الأشعة للحائل فكلّما اتجهت الأشعة إلى الجسم من أخفض جهةٍ كان الظل أوسع، وإذا اتجهت إليه مرتفعةً عنه تقلّص ظلّه رويداً رويداً إلى أن تصير الأشعة مُسامتة أعلى الجسم ساقطة عليه فيزول ظِله تماماً أو يكاد يزول، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء لجعله ساكناً‏}‏ أي غير متزايد لأنه لما كان مدّ الظل يشبه صورة التحرك أطلق على انتفاء الامتدادِ اسم السكون بأن يلازم مقداراً واحداً لا ينقص ولا يزيد، أي لو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في سَمت واحد تُجاه أشعة الشمس فلا يختلف مقدار ظل الأجسام التي على الأرض وتلزم ظلالُها حالة واحدة فتنعدم فوائد عظيمة‏.‏

ودلت مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏مد الظل‏}‏ بقوله ‏{‏لجعله ساكناً‏}‏ على حالة مطوية من الكلام، وهي حالة عموم الظل جميع وجه الأرض، أي حالة الظلمة الأصلية التي سبقت اتجاه أشعة الشمس إلى وجه الأرض كما أشار إليه قول التوراة «وكانت الأرض خالية، وعلى وجه القمر ظلمة» ثم قال «وقال الله ليكن نور فكان نور‏.‏‏.‏‏.‏» وفصل الله بين النور والظلمة ‏(‏إصحاح واحد من سفر الخروج‏)‏، فاستدلال القرآن بالظل أجدى من الاستدلال بالظلمة لأن الظلمة عدم لا يكاد يحصل الشعور بجمالها بخلاف الظل فهو جامع بين الظلمة والنور فكلا دلالتيه واضحة‏.‏

وجملة ‏{‏ولو شاء لجعله ساكناً‏}‏ معترضة للتذكير بأن في الظل منّة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً‏}‏ عطف على جملة ‏{‏مد الظل‏}‏ وأفادت ‏{‏ثُمّ‏}‏ أن مدلول المعطوف بها متراخ في الرتبة عن مدلول المعطوف عليه شأن ‏{‏ثُم‏}‏ إذا عطفت الجملة‏.‏ ومعنى تراخي الرتبة أنها أبعد اعتباراً، أي أنها أرفع في التأثير أو في الوجود فإن وجود الشمس هو علة وجود الظّل للأجسام التي على الأرض والسبب أرفع رتبة من المسبّب، أي أن الله مد الظل بأن جعل الشمس دليلاً على مقادير امتداده‏.‏ ولم يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحاً شافياً‏.‏

والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله‏:‏ ‏{‏ثم جعلنا‏}‏ لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله ‏(‏تعالى‏)‏‏:‏ ‏{‏ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً‏}‏ ارتقاء في المنّة‏.‏

والدليل‏:‏ المرشد إلى الطريق والهادي إليه، فجُعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثلَ صُوى الطريق، وجعلت الشمس من حيث كانت سبباً في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مَراحلَ، بطريقة التشبيه البليغ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها‏.‏

وتعدية ‏{‏دليلاً‏}‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر‏:‏

«إلا عليّ دليل» *** وشمل هذا حالتي المد والقبض‏.‏

وجملة ‏{‏ثم قبضناه إلينا‏}‏ إلخ عطف على جملة ‏{‏مد الظل‏}‏، أو على جملة ‏{‏جعلنا الشمس عليه دليلاً‏}‏ لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلاً على الظل‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي، لأن مضمون جملة ‏{‏قبضناه إلينا قبضاً يسيراً‏}‏ أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون ‏{‏جعلنا الشمس عليه دليلاً‏}‏ إذ في قبض الظل دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عملٌ ضدٌّ للعمل الأول، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر‏.‏

والقبض‏:‏ ضد المدّ فهو مستعمل في معنى النقص، أي نقصنا امتداده، والقبض هنا استعارة للنقص‏.‏ وتعديته بقوله‏:‏ ‏{‏إلينا‏}‏ تخييل، شُبِّه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية، وحرف ‏(‏إلى‏)‏ ومجروره تخييل‏.‏

وموقع وصف القبض بيسير هنا أنه أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة، فإن في التريث تسهيلاً لقبضه لأن العمل المجزّأ أيسر على النفوس من المجتمع غالباً، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفاً، وهو التدريج ببطء، على طريقة الكناية، ليكون صالحاً لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا‏.‏

وتعدية القبض ب ‏{‏إلينا‏}‏ لأنه ضد المدّ الذي أسند إلى الله في قوله‏:‏ ‏{‏مد الظل‏}‏‏.‏ وقد علم من معنى ‏{‏قبضناه‏}‏ أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه‏.‏

وفي مَدِّ الظل وقبضِه نعمةُ معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس، ونعمةُ التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظلّ، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه‏.‏

هذا محل العبرة والمنّة اللتين تتناولهما عقول النّاس على اختلاف مداركهم‏.‏ ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركةُ الأرض حول الشمس وظهورُ الظلمة والضياء، فليس الظل إلا أثر الظلمة فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة‏.‏

ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدماً، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجاً في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم، فذلك مما يشير إليه ‏{‏ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً‏}‏ فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظلّ في هذه الآية مع المنّة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربّهم يوم البعث مصيراً لا إحالة فيه ولا بعد، كما يزعمون، فلما صار قبض الظل مثلاً لمصير الناس إلى الله بالبعث وُصف القبض بيسير تلميحاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك حَشْر علينا يسير‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل‏.‏

فهذان المَحملان في الآية من معجزات القرآن العلمية‏.‏