فصل: تفسير الآية رقم (47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

مناسبة الانتقال من الاستدلال باعتبار أحوال الظلّ والضَّحاء إلى الاعتبار بأحوال اللّيل والنهار ظاهرة، فالليل يشبه الظِلّ في أنه ظلمة تعقب نور الشمس‏.‏

ومورد الاستدلال المقصد المستفاد من تعريف جُزَأي الجملة وهو قصر إفراد، أي لا يشركه غيره في جعل الليل والنهار‏.‏ أما كون الجعل المذكور بخلق الله فهم يُقرون به؛ ولكنهم لما جعلوا له شركاء على الإجمال أُبطلت شركتهم بقصر التصرف في الأزمان على الله تعالى لأنه إذا بطل تصرفهم في بعض الموجودات اختلت حقيقة الإلهية عنهم إذ الإلهية لا تقبل التجزئة‏.‏

و ‏{‏لكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏جعل‏}‏ أي من جملة ما خُلق له الليل أنه يكون لباساً لكم‏.‏ وهذا لا يقتضي أن الليل خُلق لذلك فقط لأن الليل عَوْد الظلمة إلى جانب من الكرة الأرضية المحتجب عن شعاع الشمس باستداراته فتحصُل من ذلك فوائد جمة منها ما في قوله تعالى بعد هذا ‏{‏وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَة لمن أراد أن يذكّر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏ إلخ‏.‏

وقد رجع أسلوب الكلام من المتكلم إلى الغيبة على طريقة الإلتفات‏.‏

و ‏{‏لباساً‏}‏ مشبه به على طريقة التشبيه البليغ، أي ساتراً لكم يسْتر بعضَكم عن بعض‏.‏ وفي هذا الستر مِنَن كثيرة لقضاء الحوائج التي يجب إخفاؤها‏.‏

وتقديم الاعتبار بحالة ستر الليل على الاعتبار بحالة النوم لرعي مناسبة الليل بالظل كما تقدم، بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً‏}‏ في سورة النبأ ‏(‏8 10‏)‏، فإن نعمة النوم أهم من نعمة الستر، ولأن المناسبة بين نعمة خلق الأزواج وبين النوم أشد‏.‏

وقد جمعت الآية استدلالاً وامتناناً فهي دليل على عظم قدرة الخالق، وهي أيضاً تذكير بنعمة، فإن في اختلاف الليل والنهار آيات جمّةً لما يدل عليه حصول الظلمة من دِقة نظام دوران الأرض حول الشمس ومن دقة نظام خلق الشمس، ولِما يتوقف عليه وجود النهار من تغير دوران الأرض ومن فوائد نور الشمس، ثم ما في خلال ذلك من نظام النوم المناسب للظلمة حين ترتخي أعصاب الناس فيحصل لهم بالنوم تجدد نشاطهم، ومن الاستعانة على التستر بظلمة الليل ومن نظام النهار من تجدد النشاط وانبعاث الناس للعمل وسآمتهم من الدعة، مع ما هو ملائم لذلك من النور الذي به إبصار ما يقصده العاملون‏.‏

والسبات له معان متعددة في اللغة ناشئة عن التوسع في مادة السبت وهو القطع‏.‏ وأنسب المعاني بمقام الامتنان هو معنى الراحة وإن كان في كلا المعنيين اعتبار بدقيق صنع الله تعالى‏.‏ وفسر الزمخشري السبات بالموت على طريقة التشبيه البليغ ناظراً في ذلك إلى مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وجعل النهار نشوراً‏}‏‏.‏

وإعادة فعل ‏{‏جعل‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وجعل النهار نشوراً‏}‏ دون أن يعاد في قوله ‏{‏والنوم سباتاً‏}‏ مشعرة بأنه تنبيه إلى أنه جعلٌ مخالف لجَعْل الليل لباساً‏.‏

وذلك أنه أخبر عنه بقوله ‏{‏نشوراً‏}‏، والنشور‏:‏ بعث الأموات، وهو إدماج للتذكير بالبعث وتعريض بالاستدلال على من أحالوه، بتقريبه بالهبوب في النهار‏.‏ وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح «الحمد لله الذي أحيانا بعد إذ أماتنا وإليه النشور»

والنشور‏:‏ الحياة بعد الموت، وتقدم قريباً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل كانوا لا يرجون نشوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وهو هنا يحتمل معنيين أن يكون مراداً به البروز والانتشار فيكون ضد اللباس في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكم الليل لباساً‏}‏ فيكون الإخبار به عن النهار حقيقياً، والمنّة في أن النهار ينتشر فيه الناس لحوائجهم واكتسابهم‏.‏ ويحتمل أن يكون مراداً به بعث الأجساد بعد موتها فيكون الإخبار على طريقة التشبيه البليغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ‏(‏48‏)‏ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏(‏49‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

استدلال على الانفراد بالخلق وامتنان بتكوين الرياح والأسحِبة والمطر‏.‏ ومناسبة الانتقال من حيث ما في الاستدلال الذي قبله من ذكر حال النشور والامتنان به فانتقل إلى ما في الرّياح من النشور بذكر وصفها بأنها نُشرٌ على قراءة الجمهور، أو لكونها كذلك في الواقع على قراءة عاصم‏.‏ ومردود الاستدلال قصر إرسال الرياح وما عطف عليه على الله تعالى إبطالاً لادعاء الشركاء له في الإلهية بنفي الشركة في التصرف في هذه الكائنات وذلك ما لا ينكره المشركون كما تقدم مثله في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكم الليل لباساً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏ إلخ‏.‏‏.‏

وأطلق على تكوين الرياح فعل ‏{‏أرسل‏}‏ الذي هو حقيقة في بعث شيء وتوجيهه، لأن حركة الرياح تشبه السير‏.‏ وقد شاع استعمال الإرسال في إطلاق العنان لخيل السباق‏.‏

وهذا استدلال بدقيق صنع الله في تكوين الرياح، فالعامة يعتبرون بما هو داخل تحت مشاهدتهم من ذلك، والخاصة يدركون كيفية حدوث الرياح وهبوبها واختلافها، وذلك ناشئ عن التقاء حرارة جانب من الجو ببرودة جانب آخر‏.‏ ثم إن الرياح بهبوبها حارة مرة وباردة أخرى تكوّن الأسحبة وتؤذن بالمطر فلذلك وصفت بأنها نُشُر بين يدي المطر‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏أَرسل الرياح‏}‏ بصيغة الجمع وقرأ ابن كثير ‏{‏الريح‏}‏ بصيغة الإفراد على معنى الجنس‏.‏ والقراءتان متحدتان في المعنى، ولكن غلب جمع الريح في ريح الخير وإفرادُ الريح في ريح العذاب قاله ابن عطية‏.‏ وتقدم قوله تعالى ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور نُشُراً‏}‏ بنون في أوله وبضمتين جمع نَشُور كرسول ورُسل‏.‏ وقرأ ابن عامر بضم فسكون على تخفيف الحركة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف بفتح النون وسكون الشين على أنه من الوصف بالمصدر، وكلها من النشر وهو البسط كما ينشر الثوب المطوي لأن الرياح تنشر السحاب‏.‏ وقرأ عاصم بباء موحدة وسكون الشين جمع بَشُور من التبشير لأنها تبشر بالمطر‏.‏ وتقدم قوله ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏57‏)‏‏.‏

والإلتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله ‏{‏وأنزلنا لنحيي ونسقيه ولقد صرفناه‏}‏ للداعي الذي قدمناه في قوله آنفاً ‏{‏ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 45، 46‏]‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏رحمته‏}‏ المطر لأنه رحمة للناس والحيوان بما يُنْبِته من الشجر والمرعى‏.‏

وجملة ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهوراً‏}‏ عطف على جملة ‏{‏أرسل الرياح‏}‏ إلخ، فهي داخلة في حيز القصر، أي وهو الذي أنزل من السماء ماء طهوراً‏.‏ وضمير ‏{‏أنزلنا‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلم لأن التكلم أليق بمقام الامتنان‏.‏ وتقدم معنى إنزال الماء من السماء عند قوله‏:‏ ‏{‏أو كصيّب من السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏19‏)‏‏.‏

والطَّهور بفتح الطاء من أمثلة المبالغة في الوصف بالمصدر كما يقال‏:‏ رجل صَبور‏.‏

وماء المطر بالغ منتهى الطهارة إذ لم يختلط به شيء يكدره أو يقذره وهو في علم الكيمياء أنقى المياه لخلوه عن جميع الجراثيم فهو الصافي حقاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الماء النازل من السماء هو بالغ نهاية الطهارة في جنسه من المياه ووصف الماء بالطهور يقتضي أنه مُطهّر لغيره إذ العدول عن صيغة فاعل إلى صيغة فَعول لزيادة معنى في الوصف، فاقتضاؤه في هذه الآية أنه مطهّر لغيره اقتضاء التزامي ليكون مستكملاً وصف الطهارة القاصرة والمتعدية، فيكون ذكر هذا الوصف إدماجاً لمنة في أثناء المنن المقصودة، ويكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينزل عليكم من السماء ماء لِيُطَهِّركم به‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 11‏]‏ وصف الطهارة الذاتية وتطهيره، فيكون هذا الوصف إدماجاً ولولا ذلك لكان الأحقّ بمقام الامتنان وصف الماء بالصفاء أو نحو ذلك‏.‏

والبلدة‏:‏ الأرض‏.‏ ووصفها بالحياة والموت مجازان للري والجفاف لأن ري الأرض ينشأ عنه النبات وهو يشبه الحي، وجفاف الأرض يجفّ به النبات فيشبه الميّت‏.‏

ولماء المطر خاصية الإحياء لكل أرض لأنه لخلّوه من الجراثيم ومن بعض الأجزاء المعدنية والترابية التي تشتمل عليها مياه العيون ومياه الأنهار والأودية كان صالحاً بكل أرض وبكل نبات على اختلاف طباع الأرضين والمنابت‏.‏

والبلدة‏:‏ البلد‏.‏ والبلد يذكر ويؤنث مثل كثير من أسماء أجناس البقاع كما قالوا‏:‏ دار ودَارة‏.‏‏:‏ ووصفت البلدة بميت، وهو وصف مذكر لتأويل ‏{‏بلدة‏}‏ بمعنى مكان لقصد التخفيف‏.‏ وقال في «الكشاف» ما معناه‏:‏ إنه لما دل على المبالغة في الاتصاف بالموت ولم يكن جارياً على أمثلة المبالغة نزّل منزلة الاسم الجامد ‏(‏أي فلم يغير‏)‏‏.‏ وأحسن من هذا أنه أريد به اسم الميت، ووصف البلدة به وصف على معنى التشبيه البليغ‏.‏

وفي قوله ‏{‏لنحي به بلدة ميتاً‏}‏ إيماء إلى تقريب إمكان البعث‏.‏

و ‏{‏نُسقيه‏}‏ بضم النون مضارع أسقى مثل الذي بفتح النون فقيل هما لغتان يقال‏:‏ أسقى وسَقى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالتا لا نَسقي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏ بفتح النون‏.‏ وقيل‏:‏ سقى‏:‏ أعطى الشراب، وأسقى‏:‏ هيَّأ الماء للشرب‏.‏ وهذا القول أسدّ لأن الفروق بين معاني الألفاظ من محاسن اللغة فيكون المعنى هيَّأناه لشرب الأنعام والأناسي فكل من احتاج للشرب شرب منه سواء من شرب ومن لم يشرب‏.‏

و ‏{‏أنعاماً‏}‏ مفعول ثان ل ‏{‏نسقيه‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مما خلقنا‏}‏ حال من ‏{‏أنعاماً وأناسي‏}‏‏.‏ و‏(‏مِن‏)‏ تبعيضية‏.‏ و‏(‏مَا‏)‏ موصولة، أي بعض ما خلقناه، والموصول للإيماء إلى علة الخبر، أي نسقيهم لأنهم مخلوقات‏.‏ ففائدة هذا الحال الإشارة إلى رحمة الله بها لأنها خلقه‏.‏ وفيه إشارة إلى أن أنواعاً أخرى من الخلائق تُسقى بماء السماء، ولكن الاقتصار على ذكر الأنعام والأناسي لأنهما موقع المنة، فالأنعام بها صلاح حال البَادين بألبانها وأصوافها وأشعارها ولُحومها، وهي تشرب من مياه المطر من الأحواض والغدران‏.‏

والأناسيّ‏:‏ جمع إنسيّ، وهو مرادف إنسان‏.‏ فالياء فيه ليست للنسب‏.‏ وجُمع على فَعالِيّ مثل كُرسي وكَراسِي‏.‏

ولو كانت ياؤه نَسب لَجُمع على أنَاسِيَةٍ كما قالوا‏:‏ صيرفي وصيارفة‏.‏ ووصف الأناسيّ ب ‏{‏كثيراً‏}‏ لأن بعض الأناسيّ لا يشربون من ماء السماء وهم الذين يشربون من مياه الأنهار كالنيل والفرات، والآبار والصهاريج، ولذلك وصف العرب بأنهم بنو ماء السماء‏.‏ فالمنة أخص بهم، قال زيادة الحارثي‏:‏

ونحن بنو ماء السماء فلا نرى *** لأنفسنا من دون مملكةٍ قصراً

وفي أحاديث ذكر هاجر زوج إبراهيم عليه السلام قال أبو هريرة «فتلك أمّكم يا بني ماءِ السماء» يعني العرب‏.‏ وماء المطر لنقاوته التي ذكرناها صالح بأمعاء كل الناس وكل الأنعام دون بعض مياه العيون والأنهار‏.‏

ووصف أناسي وهو جمع بكثير وهو مفرد لأن فعيلاً قد يراد به المتعدد مثل رفيق وكذلك قليل قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وتقديم ذكر الأنعام على الأناسيّ اقتضاه نسج الكلام على طريقة الأحكام في تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفناه بينهم ليذكروا‏}‏، ولو قدم ذكر ‏{‏أناسيَّ‏}‏ لتفكك النظم‏.‏ ولم يقدم ذكر الناس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ في سورة النازعات ‏(‏33‏)‏ لانتفاء الداعي للتقديم فجاء على أصل الترتيب‏.‏

وضمير صرفناه‏}‏ عائد إلى ‏{‏ماء طهوراً‏}‏‏.‏ والتصريف‏:‏ التغيير‏.‏ والمراد هنا تغيير أحوال الماء، أي مقاديره ومواقعه‏.‏

وتوكيد الجملة بلام القسم و‏(‏قد‏)‏ لتحقيق التعليل لأن تصرف المطر محقق لا يحتاج إلى التأكيد وإنما الشيء الذي لم يكن لهم علم به هو أن من حكمة تصريفه بين الناس أن يذكُروا نعمة الله تعالى عليهم مع نزوله عليهم وفي حالة إمساكه عنهم، لأن كثيراً من الناس لا يقدُر قدرَ النعمة إلا عند فقدها فيعلموا أن الله هو الربّ الواحد المختار في خلق الأسباب والمسببات وقد كانوا لا يتدبرون حكمة الخالق ويسندون الآثار إلى مؤثرات وهمية أو صورية‏.‏

ولما كان التذكر شاملاً لشكر المنعم عليهم بإصابة المطر ولتفطن المحرومين إلى سبب حرمانهم إياه لعلهم يستغفرون، جيء في التعليل بفعل ‏{‏ليذكروا‏}‏ ليكون علة لحالتي التصريف بينهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأبى أكثر الناس إلا كفوراً‏}‏ تركيب جرى بمادّته وهيئته مجرى المَثَل في الإخبار عن تصميم المخبر عنه على ما بعد حرف الاستثناء، وذلك يقتضي وجود الصارف عن المستثنى، أي فصمموا على الكفور لا يرجعون عنه لأن الاستثناء من عموم أشياء مبهمة جعلت كلها مما تعلق به الإباء كأنّ الآبين قد عرضت عليهم من الناس أو من خواطرهم أمورٌ وراجعوا فلم يقبلوا منها إلا الكُفور، وإن لم يكن هنالك عَرض ولا إباء، ومنه قوله تعالى في سورة براءة‏:‏ ‏(‏32‏)‏ ‏{‏ويأبى الله إلاّ أن يُتِمّ نورَه‏}‏؛ ألاَ ترى أن ذلك استعمل هنا في مقام معارضة المشركين للتوحيد وفي سورة براءة في مقام معارضة أهل الكتاب للإسلام‏.‏ وشدّةُ الفريقين في كفرهم معلومة مكشوفة ولم يُستعمل في قوله تعالى في سورة الصّفّ‏:‏ ‏(‏8‏)‏‏:‏

‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره‏}‏

والكُفور‏:‏ مصدر بمعنى الكفر‏.‏ وتقدم نظيره في سورة الإسراء، أي أبوا إلاّ الإشراك بالله وعدم التذكر‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ليذّكّروا‏}‏ بتشديد الذال وتشديد الكاف مدغمة فيها التاءُ وأصله ليتذكروا‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف بسكون الذال وتخفيف الكاف مضمومة، أي ليذْكُروا ما هم عنه غافلون‏.‏

ويؤخذ من الآية أن الماء المنزّل من السماء لا يختلف مقداره وإنما تختلف مقادير توزيعه على مواقع القَطر، فعن ابن عباس‏:‏ ما عامٌ أقل مطراً من عام ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما شاء‏.‏ وتلا هذه الآية‏.‏ وذكر القرطبي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ما من سنة بأمطرَ من أخرى ولكن إذا عمل قوم المعاصي صَرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» اه‏.‏ فحصل من هذا أن المقدار الذي تفضل الله به من المطر على هذه الأرض لا تختلف كميته وإنما يختلف توزيعه‏.‏ وهذه حقيقة قررها علماء حوادث الجو في القرن الحاضر، فهو من معجزات القرآن العلمية الراجعة إلى الجهة الثالثة من المقدمة العاشرة لهذا التفسير‏.‏

وجوز فريق أن يكون ضمير ‏{‏صرفناه‏}‏ عائداً إلى غير مذكور معلوم في المقام مرادٍ به القرآن؛ قالوا لأنه المقصود في هذه السورة فإنها افتتحت بذكره، وتكرر في قوله‏:‏ ‏{‏إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وأصل هذا التأويل مروي عن عطاء، ولقوله بعده ‏{‏وجاهدهم به جهاداً كبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقيل الضمير عائد إلى الكلام المذكور، أي ولقد صرفنا هذا الكلام وكررناه على ألسنة الرسل ليذّكروا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ‏(‏51‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

جُملة اعتراض بين ذكر دلائل تفرد الله بالخَلق وذكر منّته على الخَلق‏.‏ ومناسبة موقع هذه الجملة وتفريعِها بموقع الآية التي قبلها خفيَّة‏.‏ وقال ابن عطية في قوله ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً‏}‏‏:‏ اقتضاب يدل عليه ما ذكر‏.‏ تقديره‏:‏ ولكنّا أفردناك بالنذارة وحمَّلْناك ‏{‏فلا تطع الكافرين‏}‏ اه‏.‏

فإن كان عنى بقوله‏:‏ اقتضابٌ، معنى الاقتضاب الاصطلاحي بين علماء الأدب والبيان، وهو عدم مراعاة المناسبة بين الكلام المنتقَل منه والكلام المنتقَل إليه، كان عدولاً عن التزام تطلب المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها، وليس الخلوّ عن المناسبة ببِدْع فقد قال صاحب «تلخيص المفتاح» «وقد يُنقل منه ‏(‏أي مما شبِّب به الكلام‏)‏ إلى ما لا يلائمه ‏(‏أي لا يناسب المنتقل منه‏)‏ ويسمى الاقتضابَ وهو مذهب العرب ومن يليهم من المُخَضْرمين» الخ‏.‏ وإذا كان ابن عطية عنى بالاقتضاب معنى القطع ‏(‏أي الحذف من الكلام‏)‏ أي إيجاز الحذف كما يشعر به قوله «يدل عليه ما ذُكر تقديره إلخ»، كأن لم يعرج على اتصال هذه الآية بالتي قبلها‏.‏

وفي «الكشاف»‏:‏ «ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نِذارة جميع القرى ولبعثنا في كل قرية نبيئاً يُنذرها، وإنما قصرْنا الأمر عليك وعظَّمناك على سائر الرسل ‏(‏أي بعموم الدعوة‏)‏ فقابِل ذلك بالتصبر» اه‏.‏ وقد قال الطِّيبي‏:‏ «ومدار السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة ولذلك افتتحت بما يُثبت عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيكونَ للعالمين نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وليس في كلام «الكشاف» والطيبي إلاّ بيانُ مناسبة الآية لِمهمّ أغراض السورة دون بيان مناسبتها للتي قبلها‏.‏

والذي أختاره أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ الآية، فبعد أن بيّن إبطال طعنهم فقال‏:‏ ‏{‏كذلك لِنُثَبِّتَ به فؤادك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ انتقل إلى تنظير القرآن بالكتاب الذي أوتيه موسى عليه السلام وكيف استأصل الله من كذبوه، ثم استطرد بذكر أمم كذبوا رسلهم، ثم انتقل إلى استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأشار إلى تحَرج النبي صلى الله عليه وسلم من إعراض قومه عن دعوته بقوله‏:‏ ‏{‏أرأيت مَن اتخذ إلههُ هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وتسلسل الكلام بضرب المَثَل بمَدّ الظل وقبضِه، وبحال اللّيل والنّهار، وبإرسال الرياح، أمارة على رحمة غيثه الذي تحيا به الموات حتى انتهى إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً‏}‏ ويؤيد ما ذكرنا اشتمال التفريع على ضمير القرآن في قوله ‏{‏وجاهدهم به‏}‏‏.‏

ومما يزيد هذه الآية اتصالاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ أن في بعث نذير إلى كل قرية ما هو أشدّ من تنزيل القرآن مُجَزَّأً؛ فلو بعَث الله في كل قرية نذيراً لقال الذين كفروا‏:‏ لولا أرسل رسولٌ واحد إلى الناس جميعاً فإن مطاعنهم لا تقف عند حد كما قال تعالى‏:‏

‏{‏ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياتُه أأعجمي وعَربي‏}‏ في سورة حم فصلت ‏(‏44‏)‏‏.‏

وتفريع فلا تطع الكافرين‏}‏ على جملة ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً‏}‏ لأنها تتضمن أنه مرسل إلى المشركين من أهل مكة وهم يطلبون منه الكف عن دعوتهم وعن تنقُّص أصنامهم‏.‏

والنهي مستعمل في التحذير والتذكير، وفعل ‏{‏تطع‏}‏ في سياق النهي يفيد عموم التحذير من أدنى طاعة‏.‏

والطاعة‏:‏ عمل المرء بما يُطلب منه، أي فلا تَهِن في الدعوة رعياً لرغبتهم أن تلين لهم‏.‏

وبعد أن حذره من الوهن في الدعوة أمره بالحرص والمبالغة فيها‏.‏ وعبر عن ذلك بالجهاد وهو الاسم الجامع لمنتهى الطاقة‏.‏ وصيغة المفاعلة فيه ليفيد مقابلة مجهودهم بمجهوده فلا يهن ولا يضعف ولذلك وصف بالجهاد الكبير، أي الجامع لكل مجاهدة‏.‏

وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى غير مذكور‏:‏ فإما أن يعود إلى القرآن لأنه مفهوم من مقام النِّذارة، وإما أن يعود إلى المفهوم من «لا تطع» وهو الثبات على دعوَته بأن يعصيهم، فإن النهي عن الشيء أمرٌ بضده كما دل عليه قول أبي حيّة النميري‏:‏

فقُلن لها سِرّاً فدينَاككِ لا يرحْ *** صحيحاً وإنْ لم تقتلِيه فألمم

فقابل قوله‏:‏ «لا يرح صحيحاً» بقوله‏:‏ «وإن لم تقتليه فألمم» كأنه قال‏:‏ فديناك فاقتليه‏.‏

والمعنى‏:‏ قاومهم بصبرك‏.‏ وكِبر الجهاد تكريره والعزم فيه وشدّة ما يلقاه في ذلك من المشقة‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند قفوله من بعض غزواته ‏"‏ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ‏"‏ قالوا‏:‏ «وما الجهاد الأكبر»‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ مُجاهدة العبد هَواه ‏"‏ رواه البيهقي بسند ضعيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق‏.‏ جمعت هذه الآية استدلالاً وتمثيلاً وتثبيتاً ووعداً؛ فصريحُها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين‏:‏ أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج‏.‏ وتمثيلُ الإيمان بالعذْب الفرات والشرك بالملْح الأُجاج، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخاً يحفظ العَذْب من أن يكدره الأُجاج، كذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسّوا كفرهم بين المسلمين‏.‏ وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله‏:‏ ‏{‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك‏.‏

ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عَقِب جملة ‏{‏فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 52‏]‏ أكملُ حسن‏.‏ وهي معطوفة على جملة ‏{‏وهو الذي أرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة‏.‏ ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين‏.‏

والمرج‏:‏ الخلط‏.‏ واستعير هنا لشدة المجاورة، والقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً‏}‏‏.‏ والبحر‏:‏ الماء المستبحر، أي الكثير العظيم‏.‏ والعذب‏:‏ الحلو‏.‏ والفرات‏:‏ شديد الحلاوة‏.‏ والمِلح بكسر الميم وصف به بمعنى المالح، ولا يقال في الفصيح إلا مِلح وأما مَالح فقليل‏.‏ وأريد هنا ملتقى ماء نهرَي الفرات والدجلة مع ماء بَحر خليج العجم‏.‏

والبرزخ‏:‏ الحائل بين شيئين‏.‏ والمراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء العذْب فيه بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر ويبقى كلاهما حافظاً لطعمه عند المصبّ‏.‏

و ‏{‏حِجْرا‏}‏ مصدر منصوب على المفعولية به لأنه معطوف على مفعول ‏{‏جعل‏}‏‏.‏ وليس هنا مستعملاً في التعوذ كالذي تقدم آنفاً في قوله تعالى ‏{‏ويقولون حِجْراً محجوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 22‏]‏‏.‏ و‏{‏محجوراً‏}‏ وصف ل ‏{‏حجراً‏}‏ مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا‏:‏ ليل ألْيَل‏.‏ وقد تقدم في هذه السورة‏.‏ ووقع في «الكشاف» تكلف بجعل ‏{‏حجراً محجوراً‏}‏ هنا بمعنى التعوّذ كالذي في قوله ‏{‏ويقولون حجراً محجوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 22‏]‏ ولا داعي إلى ذلك لأن ما ذكروه من استعمال ‏{‏حجراً محجوراً‏}‏ في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع‏.‏ ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر فإنه يكون أول أمره ماء ثم يتخلّق منه البشر العظيم، فالتنوين في قوله ‏{‏بشراً‏}‏ للتعظيم‏.‏

والقصر المستفاد من تعريف الجزءين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية‏.‏

والبشر‏:‏ الإنسان‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتمثّل لها بشراً سويًّا‏}‏ في سورة مريم ‏(‏17‏)‏‏.‏ والضمير المنصوب في ‏{‏فجعله‏}‏ عائد إلى البشر، أي فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسباً وصهراً، أي قَسَّم الله البشر قسمين‏:‏ نسببٍ، وصهرٍ‏.‏ فالواو للتقسيم بمعنى ‏(‏أو‏)‏ والواو أجود من ‏(‏أو‏)‏ في التقسيم‏.‏

و ‏{‏نسباً وصهراً‏}‏ مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير‏:‏ ذا نسب وصهر وشاع ذلك في الكلام‏.‏

والنسب لا يخلو من أُبوّة وبُنوّة وأُخُوة لأولئك وبنوةٍ لتلك الأُخوة‏.‏

وأما الصهر فهو‏:‏ اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة، ويسمى أيضاً مصاهرة لأنه يكون من جهتين، وهو آصرة اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه، فصهر الرجل قرابة امرأته، وصهر المرأة قرابة زوجها، ولذلك يقال‏:‏ صاهر فلان فلاناً إذا تزوج من قرابته ولو قرابةً بعيدة كقرابة القبيلة‏.‏ وهذا لا يخلو عنه البشر المتزوج وغير المتزوج‏.‏

ويطلق الصهر على مع له من الآخر علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في موضع الوصف فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل، وأما قريب زوج المرأة فهو خَتَن لها أو حَمٌ‏.‏ ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيداً‏.‏ وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله‏:‏ ‏{‏وكان ربك قديراً‏}‏، أي عظيم القدرة إذْ أوجد من هذا الماء خَلْقاً عظيماً صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وفي تركيب ‏{‏وكان ربك قديراً‏}‏ من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له مُتصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل ‏{‏كَان‏}‏، وما في صيغة «قدير» من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

الواو للحال، وهذا مستعمل في التعجيب من استمرارهم في الشرك، أُعقب ذكر ما نفع الله به الناس من إلطافه بهم في تصاريف الكائنات إذ جعل لهم الليل والنهار، وخلق لهم الماء فأنبت به الزرع وسقى به الناس والأنعام، مع ما قارنه من دلائل القدرة بذكر عبادتهم ما لا ينفع الناس عَوْداً إلى حكاية شيء من أحوال مشركي مكة‏.‏

ونفي الضرّ بعد نفي النفع للتنبيه على انتفاء شبهة عَبَدة الأصنام في شركهم لأن موجب العبادة إما رجاء النفع وإما اتقاء ضر المعبود وكلاهما منتف عن الأصنام بالمشاهَدة‏.‏

والتعبير بالفعل المضارع للدلالة على تجدد عبادتهم الأصنام وعدم إجداء الدلائل المقلعة عنها في جانبهم‏.‏

وجملة ‏{‏وكان الكافر على ربه ظهيراً‏}‏ تذييل لما قبله، فاللام في تعريف ‏{‏الكافر‏}‏ للاستغراق، أي كل كافر على ربّه ظهير‏.‏

وجعل الخبر عن الكافر خبراً ل ‏{‏كان‏}‏ للدلالة على أن اتصافه بالخبر أمر متقرر معتاد من كل كافر‏.‏

والظهير‏:‏ المظاهر، أي المعين، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كان بعضُهم لبعض ظهيراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏88‏)‏ وهو فعيل بمعنى مُفاعل، أي مظاهر مثل حكيم بمعنى مُحكم، وعَوين بمعنى معاون‏.‏ وقول عمر بن معد يكرب‏:‏

أمن ريحانة الداعي السّميع *** أي المُسمع‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «ومجيء فعيل بمعنى مُفاعل غير عزيز»‏.‏ وهو مشتق من‏:‏ ظاهر عليه، إذا أعان من يُغالبه على غلَبه، وأصله الأصيل مشتق من اسم جامد وهو اسم الظهر من الإنسان أو الدابة لأن المُعاون أحداً على غلب غيره كأنه يحمل الغالب على المغلوب كما يَحمل على ظهر الحامل، جعل المشرك في إشراكه مع وضوح دلالة عدم استئهال الأصنام للإلهية كأنه ينصر الأصنام على ربه الحق‏.‏ وفي ذكر الربّ تعريض بأن الكافر عاقّ لمولاه‏.‏ وعن أبي عبيدة‏:‏ ظَهير بمعنى مَظهور، أي كُفر الكافر هَيّن على الله، يعني أي فعيلاً فيه بمعنى مفعول، أي مظهور عليه وعلى هذا يكون ‏{‏على‏}‏ متعلقاً بفعل ‏{‏كان‏}‏ أي كان على الله هيّناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏56‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

لما أفضى الكلامُ بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم أُعقب بما يومئ إلى استمرارهم على تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك، وأنه أساطير الأولين، وأنه سِحر، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبي بأنه مرسل من الله، وقصره على صفتي التبشير والنذارة‏.‏ وهذا الكلام الوارد في الردّ عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بمضلّ ولكنه مُبشّر ونذير‏.‏ وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه‏.‏

ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم في أن يعتز باتِّباعهم إياه حتى يحسبوا أنهم إن أعرضوا عنه فقد بلغوا من النكاية به أملهم، بل ما عليه إلا التبليغ بالتبشير والنذارة لفائدتهم لا يريد منهم الجزاء على عمله ذلك‏.‏

والأجر‏:‏ العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء‏.‏

والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجراً لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم، والاستثناء معيار العموم فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعللِ في صورة الاستثناء، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وبعبارة أتقن تأكيدَ الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان‏:‏ منه ما هو تأكيد محض وهو ما كان المستثنى فيه منقطعاً عن المستثنى منه أصلاً كقول النابغة‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

فإن فلول سيوفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏، ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجراً على الإطلاق في قوله تعالى ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 86‏]‏‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً‏}‏ من قبيل المرتبة الثانية لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجراً إذ التقدير‏:‏ إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، وذلك هو اتباع دين الإسلام‏.‏ ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقد يسمون مثل هذا الاستثناءِ الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك‏.‏

والسبيل‏:‏ الطريق‏.‏ واتخاذ السبيل تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وجعل السبيل هنا إلى الله لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربه مئاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وذكر وصف الرب دون الاسم العلَم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلاّ كان آبقاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 57‏]‏ أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم‏.‏

والتوكل‏:‏ الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل، أي المتولّي مهمّات غيره، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله‏}‏ في آل عمران ‏(‏159‏)‏‏.‏

و ‏{‏الحي الذي لا يموت‏}‏ هو الله تعالى‏.‏ وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصْر التوكل في الكون عليه، فالتعريف في ‏{‏الحي‏}‏ للكامل، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام‏.‏ وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء‏.‏

وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحياناً لكنه لا يدوم‏.‏

وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية، أي إذا أهمّك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله‏.‏

والباء في ‏{‏بحمده‏}‏ للمصاحبة، أي سبحه تسبيحاً مصاحباً للثناء عليه بما هو أهله‏.‏ فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدِّماً التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص‏.‏

وأمْر النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة ما لم يكن دليل على الخصوصية‏.‏

وجملة ‏{‏وكفى به بذنوب عباده خبيراً‏}‏ اعتراض في آخر الكلام، فيفيد معنى التذييل لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام‏.‏ ففي ‏(‏ذنوب عباده‏)‏ عُمومان‏:‏ عمومُ ذنوبهم كلّها لإفادة الجمع المضاف عمومَ إفراد المضاف، وعمومُ الناس لإضافة ‏(‏عباد‏)‏ إلى ضمير الجلالة، أي جميِع عباده، مع ما في صيغة ‏(‏خبير‏)‏ من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث‏.‏ والكفاية‏:‏ الإجزاء، وفي فعل ‏{‏كفى‏}‏ إفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه‏.‏

والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل‏.‏ وقد كثر دخول باء التأكيد بعدَ فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏14‏)‏‏.‏ و‏{‏خبيراً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏به‏}‏ أي كفى به من حيث الخبرة‏.‏

والعلمُ بالذنوب كناية عن لازمه وهو أنه يجازيهم على ذنوبهم، والشرك جامع الذنوب‏.‏ وفي الكلام أيضاً تعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذاهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

أجريت هذه الصلة وصفاً ثانياً ل ‏{‏الحي الذي لا يموت‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏ لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد، فصاحبها حقيق بأن يُتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه‏.‏ وهذا تخلّص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق‏.‏

وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيّام في سورة البقرة، وعلى الاستواء في سورة الأعراف‏.‏

و ‏{‏الرحمان‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمان‏.‏ وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عندما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها، ثم يُراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه، فإن وصف الرحمن أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف‏.‏

وفرع على وصفه ب ‏{‏الرحمان‏}‏ قوله ‏{‏فسئل به خبيراً‏}‏ للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على عليم بتصاريف رحمته مُجرب لها مُتلقّ أحاديثها ممن عَلِمها وجرّبها‏.‏

وتنكير ‏{‏خبيراً‏}‏ للدلالة على العُموم، فلا يظن خبيراً معيناً، لأن النكرة إذا تعلق بها فعل الأمر اقتضت عموماً بدليل أيّ خبير سألته أعلمك‏.‏

وهذا يجري مجرى المثل ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب‏:‏ «على الخبير سقطتَ» يقولها العارف بالشيء إذا سُئِل عنه‏.‏ والمَثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثَل القرآني أفصحُ لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في ‏(‏سقطت‏)‏‏.‏ وهو أيضاً أشرف لسلامته من معنى السقوط، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير، بخلاف قولهم‏:‏ على الخبير سقطتَ، لأنها إنما يقولها الواحد المعيَّن‏.‏ وقريب من معنى ‏{‏فسئل به خبيراً‏}‏ قول النابغة‏:‏

هلا سألت بني ذبيان ما حسبي *** إذا الدخان تغشى الأشمط البرما

إلى قوله‏:‏

يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم *** وليس جاهلُ شيء مثلَ مَن علما

والباء في ‏{‏به‏}‏ بمعنى ‏(‏عن‏)‏ أي فاسأل عنه كقول علقمة‏:‏

فإن تسأُلوني بالنساء فإنني *** خبير بأدواء النساء طبيب

ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب ‏{‏خبيراً‏}‏ وتقديم المجرور للرعي على الفاصلة وللاهتمام، فله سببان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

لما جرى وصف الله تعالى بالرحمان مع صفات أخر استطرد ذكر كُفر المشركين بهذا الوصف‏.‏ وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم ‏(‏الرحمان‏)‏ هو من وضع القرآن ولم يكن معهوداً للعرب، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مُسيلمة‏:‏

سموْتَ بالمجد يابن الأكرمين أباً *** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصداً بالتورّك على النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جارياً على مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء؛ فكانوا يقولون‏:‏ انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن‏.‏ وفي ذلك نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيّاً مَّا تدعوا فله الأسماء الحسنى‏}‏ وقد تقدم في آخر سورة الإسراء ‏(‏110‏)‏ وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء‏.‏

والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عِنادهم وبهتانهم، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم‏.‏

والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مراداً هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يُسلِموا‏.‏ ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبيءُ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قال‏:‏ فإن هم أطاعوا لِذلك فأعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة الخ‏.‏ ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها‏.‏

وواو العطف في قولهم ‏{‏وما الرحمن‏}‏ لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وُجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمان، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إني جاعلُك للناس إماماً قال ومِن ذرّيّتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ من قوله ‏{‏وما الرحمن‏}‏ استفهامية‏.‏

والاستفهام مستعمل في الاستغراب، يعنون تجاهل هذا الاسم، ولذلك استفهموا عنه بما دون ‏(‏مَن‏)‏ باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أنسجد لما تأمرنا‏}‏ إنكار وامتناع، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن ‏{‏ما‏}‏ نكرة موصوفة، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت ‏{‏ما‏}‏ موصولة، وحُذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنيّة انفراد الله به دون غيره، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى‏:‏

‏{‏وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 43‏]‏، أي فيأبَون، وقال‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 48‏]‏‏.‏ ويدل على ذلك قوله ‏{‏وزادهم نفوراً‏}‏ فالنفور من السجود سابق قبل سماع اسم الرحمن‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تأمرنا‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافِهون به النبي صلى الله عليه وسلم

والضمير المستتر في ‏{‏زادهم‏}‏ عائد إلى القول المأخوذ من ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏‏.‏ والنفور‏:‏ الفرار من الشيء‏.‏ وأطلق هنا على لازمه وهو البعد‏.‏ وإسناد زيادة لنفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بُعداً من الإيمان، وهذا كقوله في سورة نوح ‏(‏6‏)‏ ‏{‏فلم يَزدْهم دُعائي إلا فراراً‏}‏

وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق‏.‏ ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمان، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عُزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي هنا مخالفاً لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله‏:‏ ‏{‏وتوكل على الحي الذي لا يموت‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏ الآيات الثلاث‏.‏ وسنّ الرسول عليه السلام السجود في هذا المَوضع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي جعل تمهيداً لقوله ‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْناً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ الآيات التي هي محصول الدعامة الثالثة من الدعائم الثلاث التي أقيم عليها بناء هذه السورة، وافتتحت كل دعامة منها ب ‏{‏تبارك الذي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ كما تقدم في صدر السورة‏.‏ وافتتح ذلك بإنشاء الثناء على الله بالبركة والخير لما جعله للخلق من المنافع‏.‏ وتقدم ‏{‏تبارك‏}‏ أول السورة ‏(‏1‏)‏ وفي قوله ‏{‏تبارك الله رب العالمين‏}‏ في الأعراف ‏(‏54‏)‏‏.‏

والبروج‏:‏ منازل مرور الشمس فيما يرى الراصدون‏.‏ وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً‏}‏ في أول سورة الحجر ‏(‏16‏)‏‏.‏

والامتنان بها لأن الناس يُوقّتون بها أزمانهم‏.‏

وقرأ الجمهور سراجاً‏}‏ بصيغة المفرد‏.‏ والسراج‏:‏ الشمس كقوله‏:‏ ‏{‏وجعل الشمس سراجاً‏}‏ في سورة نوح ‏(‏16‏)‏‏.‏ ومناسبة ذلك لما يرد بعده من قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏سُرُجاً‏}‏ بضم السين والراء جمع سراج فيشمل مع الشمس النجوم، فيكون امتناناً بحسن منظرها للناس كقوله ‏{‏ولقد زيّنَّا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والامتنان بمحاسن المخلوقات وارد في القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج‏:‏ المصباح الزاهر الضياء‏.‏ والمقصود‏:‏ أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج، أو خلق النجوم كالسراج في التلألؤ وحسن المنظر‏.‏

ودلالة خلق البروج وخلق الشمس والقمر على عظيم القدرة دلالة بينة للعاقل، وكذلك دلالته على دقيق الصنع ونظامه بحيث لا يختل ولا يختلف حتى تسنى للناس رصد أحوالها وإناطة حسابهم بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

الاستدلال هذا بما في الليل والنّهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور، وبرد وحر، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله ‏{‏وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏، فهذه دلالة أخرى ونعمة أخرى والحِكَم في المخلوقات كثيرة‏.‏

والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافياً فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله ‏{‏وهو الذي جعل لكم الليل لباساً إلى قوله وكان ربك قديراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47 54‏]‏‏.‏

والخِلفة بكسر الخاء وسكون اللام‏:‏ اسم لما يَخلف غيره في بعض ما يصلح له‏.‏ صيغ هذا الاسم على زنة فِعْلة لأنه في الأصل ذو خلفة، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسماً، قال زهير‏:‏

بها العين والآرام يَمشِينَ خِلفَةً *** وأطلاؤها ينهَضْن من كل مُجْثَم

أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا‏.‏ فالمعنى‏:‏ جعل الليل خلفة والنهارَ خلفة‏:‏ أي كلَّ واحد منهما خِلفة عن الآخر، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر‏.‏

واللام في ‏{‏لمن أراد أن يذكر‏}‏ لام التعليل وهي متعلقة ب ‏{‏جعل‏}‏، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً‏.‏

والتذكر‏:‏ تفعّل من الذِكر، أي تكلف الذكر‏.‏ والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين، وجاء بمعنى‏:‏ تذكر فائت أو منسي، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر‏.‏

والشكور‏:‏ بضم الشين مصدر مرادف الشكر، والشكر‏:‏ عرفانُ إحسان المحسن‏.‏ والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى‏.‏

فتفيد الآية معنى‏:‏ لينظرَ في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 47‏]‏ فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم، وتفيد معنى‏:‏ ليتداركَ الناسِي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيَه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله‏.‏ روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوماً فقيل له‏:‏ صنعت شيئاً لم تكن تصنعه‏؟‏ فقال‏:‏ إنه بَقي عليَّ من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة‏}‏ الآية‏.‏ ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكراً له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع‏.‏

وجيء في جانب المتذكرين بقوله ‏{‏أن يذكر‏}‏ لدلالة المضارع على التجدد‏.‏ واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله ‏{‏أو أراد شكوراً‏}‏ لأن الشكر يحصل دفعة‏.‏ ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل ‏{‏أراد‏}‏ إذ لا يلتئم عطف ‏{‏شكوراً‏}‏ على ‏{‏أن يذكر‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أن يذَّكر‏}‏ بتشديد الذال مفتوحة، وأصله‏:‏ يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما‏.‏ وقرأ حمزة وخلف ‏{‏أن يَذْكُر‏}‏ بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى المشدّد إلاّ أن المشدّد أشدّ عملاً، وكِلا العملين يستدركان في الليل والنهار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

عطف جملة على جملة، فالجملة المعطوفة هي ‏{‏عباد الرحمن‏}‏ إلخ، فهو مبتدأ وخبره ‏{‏الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ إلخ‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر ‏{‏أولئك يجزون الغرفة بما صبروا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏‏.‏ والجملةُ المعطوف عليها جملة ‏{‏وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏ إلخ‏.‏ فبمناسبة ذكر من أراد أن يذَّكَّر تُخلّص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها‏.‏ وهذا من أبدع التخلص إذْ كان مفاجئاً للسامع مطمِعاً أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يُفاجئه ما يؤذن بالختام وهو ‏{‏قل ما يَعْؤا بكم ربّي‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 77‏]‏ الآية‏.‏

والمراد ب ‏{‏عباد الرحمن‏}‏ بادئ ذي بدء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها‏.‏

وإذ قد أُجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة عُلم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاءِ وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عبادَه، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسمَ الرحمن لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم‏:‏ ‏{‏اسجُدوا للرحمان‏.‏ قالوا‏:‏ وما الرحمن‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏‏.‏ فإذا جعل المراد من ‏{‏عباد الرحمن‏}‏ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الخبرُ في قوله ‏{‏الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي ‏{‏أولئك يُجْزَوْن الغرفة بما صبروا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏ استئنافاً لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة‏.‏

وإذا كان المراد من ‏{‏عباد الرحمن‏}‏ جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتاً ل ‏{‏عباد الرحمن‏}‏ وكان الخبر اسمَ الإشارة في قوله ‏{‏أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏ إلخ‏.‏

وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمان وزادهم نفوراً هم على الضد من تلك المحامد، تعريضاً تشعر به إضافةُ ‏{‏عباد‏}‏ إلى ‏{‏الرحمن‏}‏‏.‏

واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على ‏{‏عباد الرحمن‏}‏ جاءت على أربعة أقسام‏:‏

قسم هو من التحلّي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدئ بها من قوله تعالى ‏{‏الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ إلى قوله ‏{‏سلاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وقسم هو من التخلّي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله‏:‏ ‏{‏والذين لا يَدْعُون مع الله إلهاً آخر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله‏:‏ ‏{‏والذين يَبِيتُون لربهم سُجَّداً وقياماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 64‏]‏، وقولُه ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يقتلون النفس‏}‏ إلى قوله ‏{‏لا يشهدون الزور‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68 72‏]‏ إلخ‏.‏

وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله‏:‏ ‏{‏والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا إلى قوله‏:‏ ‏{‏للمتقين إماماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وظاهر قوله ‏{‏يمشون على الأرض هوناً‏}‏ أنه مدح لمِشيةٍ بالأرْجُل وهو الذي حمل عليه جمهورُ المفسرين‏.‏

وجوز الزجاج أن يكون قوله ‏{‏يمشون‏}‏ عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعُبّر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد ابن أسلم كما سيأتي‏.‏ فعلى الوجه الأول يكون تقييدُ المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهَوْن ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختياراً وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل‏.‏

والهَوْن‏:‏ اللين والرفق‏.‏ ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره ‏(‏مَشْياً‏)‏ فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق‏.‏

والمشي الهَوْن‏:‏ هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفقُ النعال فهو مخالف لمشْي المتجبرين المعجَبين بنفوسهم وقوتهم‏.‏ وهذا الهَوْن ناشئ عن التواضع لله تعالى والتخلُّق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية‏.‏ وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاماً يتبختر في مِشيته فقال له «إن البخترة مِشية تُكْره إلا في سبيل الله»‏.‏ وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله سبحانه ‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ فاقْصِدْ في مِشيتِك، وحكى الله تعالى عن لقمان قولَه لابنه ‏{‏ولا تَمْششِ في الأرض مرَحاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والتخلّق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة، فالهوْن يناسب ماهيتَها وفيه سلامة من صدم المارين‏.‏

وعن زيد بن أسلم قال‏:‏ كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي‏:‏ «هُم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض»‏.‏ فهذا رأي لزيد بن أسلم أُلهمه يجعل معنى ‏{‏يمشون على الأرض‏}‏ أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى ‏{‏وإذا تولّى سعى في الأرض لِيُفْسِد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ وأن الهوْن مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف‏.‏

وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هوْناً بوصف آخر يناسب التواضع وكراهيةَ التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء، فالجهل هنا ضد الحلم، وذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر‏.‏

وانتصب ‏{‏سلاماً‏}‏ على المفعولية المطلقة‏.‏ وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمّةً مثل الكافرين لأن هذا الوصف يُشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة‏.‏

و ‏(‏السلام‏)‏ يجوز أن يكون مصدراً بمعنى السلامة، أي لا خير بيننا ولا شرّ فنحن مُسلمون منكم‏.‏ ويجوز أن يكون مراداً به لفظ التحية فيكون مستعملاً في لازمه وهو المتارَكة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحيةِ أنه يؤذن بالتأمين، أي عدم لإهاجة، والتأمين‏:‏ أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامَه، فتكون الآية في معنى قوله

‏{‏وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوماً بحضرة المأمون وعنده جماعة‏:‏ كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له‏:‏ من أنت‏؟‏ فكان يقول‏:‏ عليٌّ بن أبي طالب، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عُبورها فكنت أقول‏:‏ إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأةٍ ونحن أحق به منك، فما رأيت له في الجواب بلاغةً كما يُذكر عنه، قال المأمون‏:‏ وبماذا جاوبك‏؟‏ قال‏:‏ فكان يقول لي‏:‏ سَلاماً‏.‏ قال الراوي‏:‏ فكأنَّ إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبتْ عنه في ذلك الوقت، فنبه المأمونُ على الآية من حضره وقال‏:‏ هو والله يا عمّ عليّ بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب، فخُزي إبراهيم واستحيا‏.‏ ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى‏.‏ ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

عطف صفة أخرى على صفتيهم السابقتين على حدّ قول الشاعر‏:‏

إلى الملِك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المُزدحم

وإعادة الموصول لتأكيد أنهم يُعرفون بهذه الصلة، والظاهر أن هذه الموصولات وصلاتها كلها أخبار أو أوصاف لعباد الرحمان‏.‏ روي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ ‏{‏الذين يمشون على الأرض هَوْناً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ قال‏:‏ هذا وصف نهارهم، ثم إذا قرأ ‏{‏والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً‏}‏ قال‏:‏ هذا وصف ليلهم‏.‏

والقِيام‏:‏ جمع قَائم كالصِحاب، والسجود والقيام ركنا الصلاة، فالمعنى‏:‏ يبيتون يصلّون، فوقع إطناب في التعبير عن الصلاة بركنيها تنويهاً بكليهما‏.‏ وتقديم ‏{‏سجداً‏}‏ على ‏{‏قياماً‏}‏ للرعي على الفاصلة مع الإشارة إلى الاهتمام بالسجود وهو ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «أقرب ما يكونُ العبد من ربه وهو ساجد» وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيري التهجد كما أثنى الله عليهم بذلك بقوله ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ‏(‏65‏)‏ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

دعاؤهم هذا أمارة على شدة مخافتهم الذنوب فهم يسعون في مرضاة ربّهم لينجوا من العذاب، فالمراد بصرف العذاب‏:‏ إنجاؤهم منه بتيسير العمل الصالح وتوفيره واجتناب السيئات‏.‏

وجملة ‏{‏إن عذابها كان غراماً‏}‏ يجوز أن تكون حكاية من كلام القائلين‏.‏ ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى معترضة بين اسمي الموصول، وعلى كل فهي تعليل لسؤال صرف عذابها عنهم‏.‏

والغرام‏:‏ الهلاك المُلِحّ الدائِم، وغلب إطلاقه على الشر المستمر‏.‏

وجملة ‏{‏إنها ساءت مستقراً ومقاماً‏}‏ يجوز أن تكون حكاية لكلام القائلين فتكون تعليلاً ثانياً مؤكّداً لتعليلهم الأول، وأن تكون من جانب الله تعالى دون التي قبلها فتكون تأييداً لتعليل القائلين‏.‏ وأن تكون من كلام الله مع التي قبلها فتكون تكريراً للاعتراض‏.‏

والمستقَرّ‏:‏ مكان الاستقرار‏.‏ والاستقرار‏:‏ قوة القرار‏.‏ والمقام‏:‏ اسم مكان الإقامة، أي ساءت موضعاً لمن يستقر فيها بدون إقامة مثل عصاة أهل الأديان ولمن يقيم فيها من المكذبين للرسل المبعوثين إليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

أفاد قوله ‏{‏إذا أنفقوا‏}‏ أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال‏:‏ والذين ينفقون وإذا أنفقوا إلخ‏.‏ وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذمّ الإسراف فيه، والإنفاق الحرام لا يُحمد مطلقاً بَلْهَ أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله ‏{‏إذا أنفقوا‏}‏ إشعاراً بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجباً عليهم‏.‏

والإسراف‏:‏ تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفَق عليه‏.‏ وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏6‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏141‏)‏‏.‏

والإقتار عكسه، وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويُغْلُون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر‏.‏ وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في معلّقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك، قال الشاعر مادحاً‏:‏

مفيد ومتلاف إذا ما أتيتُه *** تهلَّل واهتز اهتزاز المهند

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ولا يُقتِروا‏}‏ بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقْتار وهو مرادف التقتير‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر من باب ضَرَب وهو لغة‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصَر‏.‏

والإقتار والقَتْر‏:‏ الإجحاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفَق عليه‏.‏ وكان أهل الجاهلية يُقْتِرون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك‏.‏ وقد تقدم ذلك عند قوله‏:‏ ‏{‏كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدَيْن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏بين ذلك‏}‏ إلى ما تقدم بتأويل المذكور، أي الإسراف والإِقتار‏.‏

والقَوام بفتح القاف‏:‏ العدل والقصد بين الطرفين‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق، وأما الإقتار فمن شأنه إمساكُ المال فيُحرم من يستأهله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بين ذلك‏}‏ خبرُ ‏{‏كَان‏}‏ و‏{‏قَواماً‏}‏ حال موكِّدة لمعنى ‏{‏بين ذلك‏}‏‏.‏ وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عِوَج فيه‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏قَواما‏}‏ خبر ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏بين ذلك‏}‏ ظرفا متعلقاً به‏.‏ وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والقَوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ‏(‏68‏)‏ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمان، وهو قسم التخلّي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين‏.‏

ووَصْفُ النفس ب ‏{‏التي حرم الله‏}‏ بيانٌ لحُرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما حكى الله من محاورة ولدَيْ آدم بقوله ‏{‏قال لأقتلنّك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 27‏]‏ الآيات، فتقرر تحريم قتل النفس من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله ‏{‏التي حرم الله‏}‏‏.‏ وكان قتل النفس متفشياً في العرب بالعداوات، والغارات، وبالوأْد في كثير من القبائل بناتهم، وبالقتل لفرط الغَيرة، كما قال امرؤ القيس‏:‏

تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً *** عليَّ حراصاً لو يُسِرُّون مقتلي

وقال عنترة‏:‏

عُلّقْتُها عَرضاً وأقتُلُ قومها *** زعماً لعمرُ أبيك ليس بمزعم

وقوله ‏{‏إلا بالحق‏}‏ المراد به يومئذ‏:‏ قتل قاتل أحدهم، وهو تهيئة لمشروعية الجهاد عقب مدة نزول هذه السورة‏.‏ ولم يكن بيد المسلمين يومئذ سلطان لإقامة القصاص والحدود‏.‏ ومضى الكلام على الزنا في سورة سبحان‏.‏

وقد جُمع التخلّي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرّر في ذكر خصال تحلّيهم، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يَدْعُوا مع الله إلهاً آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقاً بالشرك وذلك قتل النفس والزِنا‏.‏ فجعل ذلك شَبيهَ خصلةٍ واحدة، وجُعل في صلة موصول واحد‏.‏

وقد يكون تكرير ‏{‏لا‏}‏ مجزئاً عن إعادة اسم الموصول وكافياً في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب، ويؤيدّه ما في «صحيح مسلم» من حديث عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قلت يا رسول الله أيُّ الذنب أكبر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أن تدعوَ لله نِدًّا وهو خَلَقَك‏.‏ قلتُ‏:‏ ثم أيُّ‏؟‏ قال‏:‏ أن تقتل ولدك خِيفةَ أن يطْعَم معَك‏.‏ قلت‏:‏ ثم أيّ‏:‏ قال‏:‏ أن تُزانيَ حليلةَ جارك ‏"‏ فأنزل الله تعالى تصديقها ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخراً‏}‏ إلى ‏{‏أثاماً‏}‏، وفي رواية ابن عطية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏.‏

وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله ‏{‏غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68 70‏]‏ قيل نزلت بالمدينة‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور، كما تقدم في نظيره آنفاً‏.‏ والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع، أي من يفعل مجموع الثلاث‏.‏ ويُعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضاً عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها، وأنَّ البعض أيضاً مراتب، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلقَ آثاماً لأن لُقِيَّ الآثام بُيّن هنا بمضاعفة العذاب والخلودِ فيه‏.‏

وقد نهضتْ أدلةٌ متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود، مما يقتضي تأويلَ ظواهر الآية‏.‏

ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته، أي يعذب عذاباً شديداً وليست لتكرير عذاب مقدر‏.‏

والآثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوَبال والنَكال، وهو أشد من الإثم، أي يجازى على ذلك سُوءاً لأنها آثام‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يضاعف له العذاب‏}‏ بدلُ اشتمال من ‏{‏يلق أثاماً‏}‏، وإبدال الفعل من الفعل إبدال جملة فإن كان في الجملة فعل قابلٌ للإعراب ظهر إعراب المحل في ذلك الفعل لأنه عِماد الجملة‏.‏ وجُعل الجزاء مضاعفة العذاب والخلود‏.‏

فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذّب على كل جُرم مما ذكر عذاباً مناسباً ولا يكتفَى بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك، تنبيهاً على أن الشرك لا ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد، وذلك لأن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها‏.‏ وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يَعنون خطاب المؤاخذة على ما نُهوا عن ارتكابه، وليس المراد أنهم يُطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصالحات بدون الإيمان، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الاتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله‏.‏

وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مهاناً‏}‏ حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة، أي يعذّب ويُهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يضاعفْ‏}‏ بألف بعد الضاد وبجزم الفعل‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقُوب ‏{‏يضعَّف‏}‏ بتشديد العين وبالجزم‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ‏{‏يضاعفُ‏}‏ بألف بعد الضاد وبرفع الفعل على أنه استئناف بياني‏.‏