فصل: تفسير الآيات رقم (23- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لما لم يَرُجْ تهويله على موسى عليه السلام وعلم أنه غير مقلع عن دعوته تنفيذاً لما أمره الله ثنّى عنان جداله إلى تلك الدعوة فاستفهم عن حقيقة ربّ العالمين الذي ذكر موسى وهارون أنهما مُرسَلان منه إذ قالا‏:‏ ‏{‏إنا رسولُ ربّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16‏]‏ وإظهار اسم فرعون مع أن طريقة حكاية المقاولات والمحاورة يكتفى فيها بضمير القائلين بطريقة قال قال، أو قال فقال، فعدل عن تلك الطريقة إلى إظهار اسمه لإيضاح صاحب هذه المقالة لبعد ما بين قوله هذا وقوله الآخر‏.‏

والواو عاطفة هذا الاستفهام على الاستفهام الأول الذي وقع كلام موسى فاصلاً بينه وبين ما عطف عليه‏.‏

وحرف ‏{‏ما‏}‏ الغالب فيه أن يكون للسؤال عن حقيقة الاسم بعده التي تميزه عن غيره، ولذلك يسأل بها عن تعيين القبيلة، ففي حديث الوفود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ «مَا أنتم»، ففرعون سأل موسى عليه السلام تبيين حقيقة هذا الذي وصفه بأنه ‏{‏رب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16‏]‏، فقد كانت عقائد القبط تثبت آلهة متفرقة قد اقتسمت التصرف في عناصر هذا العالم وأجناس الموجودات، وتلك العناصر هي العالمون ولا يدينون بإله واحد، فإنّ تعدد الآلهة المتصرفة ينافي وحدانية التصرف، فلما سمع فرعون من كلام موسى إثبات ربّ العالمين قَرع سمعه بما لم يألفه من قبل لاقتضائه إثبات إله واحد وانتفاء الإلهية عن الآلهة المعروفة عندهم، على أنهم كانوا يزعمون أن فرعون هو المجتبَى من الآلهة ليكون مَلِكَ مصر‏.‏ فهو مظهر الآلهة الأخرى في تدبير المملكة ‏{‏قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وبهذا الانتساب إلى الآلهة وتمثيله إرادتهم في الأرض كان فرعون يُدعَى إلهاً‏.‏

وقد كانت الأمم يومئذ في غفلة عما عدا أنفسها فكانوا لا يفكرون في مختلف أحوال الأمم وعوائد البشر‏.‏ ولا تشعر كل أمة إلا بنفسها وخصائصها من آلهتها وملوكها فكان المَلِك لا يُشيع في أمته غيرَ قوته وانتصاره على الثائرين، ويخيل للناس أن العالم منحصر في تلك الرقعة من الأرض‏.‏ فلا تجد في آثار القبط صوراً للأمم غير صور القبائل الذين يغزوهم فرعون ويأتي بأسراهم في الأغلال والسلاسل خاضعين عابدين حتى يخيّل لقومه أنه لما غلب أولئك فقد كان قهارَ البشر كلهم، ويُخفي أخبار انكساره إلا إذا لحقه غلب عظيم من أمة كبرى بحيث لا يستطيع إخفاءه، فحينئذ ينتقل أسلوب التاريخ عندهم وتنتَحِل الدولةُ الجديدة أساليبَ الدولة الماضية وتنسى حوادث الماضي وتغلب على مخيلاتهم الحالة الحاضرة، وللدعاة والمروجين أثر كبير في ذلك‏.‏ وبهذا يتضح باعث فرعون على هذا السؤال الذي ألقاه على موسى، وهو استفهام مشوب بتعجب وإنكار على طريق الكناية‏.‏

ومن دقائق هذه المجادلة أن الاستفسار مقدَّم في المناظرات، ولذلك ابتدأ فرعون بالسؤال عن حقيقة الذي أرسلَ موسى عليه السلام‏.‏

وكان جواب موسى عليه السلام بياناً لحقيقة ربّ العالمين بما يصيِّر وصفَه بربّ العالمين نصاً لا يحتمل غير ما أراده من ظاهره، فأتى بشرح اللفظ بما هو تفصيل لمعناه، إذ قال‏:‏ ‏{‏رب السموات والأرض وما بينهما‏}‏، فبذكر السموات والأرض وبعموم ما بينهما حصل بيان حقيقة المسؤول عنه ب ‏{‏ما‏}‏ ومرجع هذا البيان إلى أنه تعريف لحقيقة الربّ بخصائصها لأن ذلك غاية ما تصل إليه العقول في معرفة الله أن يُعرَف بآثار خلقه، فهو تعريف رسمي في الاصطلاح المنطقي‏.‏

وانتظم السؤال والجواب على طريقة السؤال بكلمة ‏{‏ما‏}‏ عن الجنس‏.‏ وهو جار على الوجه الأول من وجوه ثلاثة في تقرير السؤال والجواب من كلام «الكشاف»، وهو أيضاً مختار السكاكي في قانون الطلب من كتاب «المفتاح»، وطابق الجوابُ السؤالَ تمام المطابقة‏.‏

وأشار صاحب «الكشاف» وصرَّح صاحب «المفتاح» بأن جواب موسى بما يبيِّن حقيقةَ ‏{‏رب العالمين‏}‏ تضمن تنبيهاً على أن الاستدلال على ثَبات الخالق الواحد يحصل بالنظر في السماوات والأرض وما بينهما نظراً يؤدي إلى العلم بحقيقة الربّ الواحد الممتازة عن حقائق المخلوقات‏.‏

ولهذا أتبع بيانه بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم موقنين‏}‏، أي إن كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين‏.‏ وسُمي العلم بذلك إيقاناً لأن شأن اليقين بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره‏.‏

وضمير الجمع في ‏{‏كُنتم موقنين‏}‏ مراد به جميعُ حاضري مجلس فرعون، أراد موسى تشريكهم في الدعوة تقصياً لكمال الدعوة وأن مؤاخذة القائل لا تقع إلا بعد اتضاح مراده من مقاله إذ لا يؤاخذ بالمجملات‏.‏ ومن هذا قال سحنون فيمن صدر منه قول أو فعل يستلزم كفراً‏:‏ إنه يحضر ويوقف على لازم قوله فإن فهمه والتزم ما يلزمه حينئذ يعتبر مرتدّاً ويستتاب ثلاثة أيام بعد ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

أعرض فرعون عن خطاب موسى واستثار نفوس الملأ من حوله وهم أهل مجلسه فاستفهمهم استفهام تعجب من حالهم كيف لم يستمعوا ما قاله موسى فنزلهم منزلة من لم يستمعه تهييجاً لنفوسهم كي لا تتمكن منهم حجة موسى، فسلط الاستفهام على نفي استماعهم كما تقدم‏.‏ وهذا التعجب من حال استماعهم وسكوتهم يقتضي التعجب من كلام موسى بطريق فحوى الخطاب فهو كناية عن تعجب آخر‏.‏ ومرجع التعجبين أن إثبات ربّ واحد لجميع المخلوقات منكر عند فرعون لأنه كان مشركاً فيرى توحيد الإله لا يصح السكوت عليه، ولكون خطاب فرعون لمن حوله يتضمن جواباً عن كلام موسى حكي كلام فرعون بالصيغة التي اعتيدت في القرآن حكايةُ المقاولات بها، كما تقدم غير مرة، كأنه يجيب موسى عن كلامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

كلام موسى هذا في معرض الجواب عن تعجب فرعون من سكوت من حوله فلذلك كانت حكايته قوله على الطريقة التي تحكى بها المقاولات‏.‏ ولما كان في كلام فرعون إعراض عن مخاطبة موسى إذ تجاوزه إلى مخاطبة من حوله، وجَّه موسى خطابه إلى جميعهم، وإذ رأى موسى أنهم جميعاً لم يهتدوا إلى الاقتناع بالاستدلال على خلق الله العوالم الذي ابتدأ به هو أوسع دلالةٍ على وجود الله تعالى ووحدانيته إذ في كل شيء مما في السموات والأرض وما بينهما آية تدل على أنه واحد، فنزل بهم إلى الاستدلال بأنفسهم وبآبائهم إذ أوجدهم الله بعد العدم ثم أعدم آباءهم بعد وجودهم؛ لأن أحوال أنفسهم وآبائهم أقرب إليهم وأيسر استدلالاً على خالقهم، فالاستدلال الأول يمتاز بالعموم، والاستدلال الثاني يمتاز بالقرب من الضرورة، فإن كثيراً من العقلاء توهموا السموات قديمة واجبة الوجود، فأما آباؤهم فكثير من السامعين شهدوا انعدام كثير من آبائهم بالموت، وكفى به دليلاً على انتفاء القِدم الدالِّ على انتفاء الإلهية‏.‏

وشمل عموم الآباء بإضافته إلى الضمير وبوصفه بالأوَّلِين بعضَ من يزعمونهم في مرتبة الآلهة مثل الفراعنة القدماء الملقّبين عندهم بأبناء الشَّمس، والشمس معدودة في الآلهة ويمثلها الصنم «آمون رع»‏.‏

والربّ‏:‏ الخالق والسيد بموجب الخالقية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

احتدّ فرعون لما ذكر موسى ما يشمل آباءَه المقدّسين بذكر يخرجهم من صفة الإلهية زاعماً أن هذا يخالف العقل بالضرورة فلا يصدر إلا من مختل الإدراك، وكأنه رأى أن الاستدلال بخالقيتهم وخالقية آبائهم عبث لأن فرعون وملأه يرون تكوين الآدمي بالتولد وهم لا يحسبون التكوين الدال على الخالقية إلا التكوينَ بالطفرة دون التدريج بناء على أن الأشياء المعتادة لا تتفطن إلى دقائقها العقول الساذجة، فهم يحسبون تكوين الفرخ من البيضة أقل من تكوين الرعْد، وأن تكوين دودة القز أدل على الخالق من تكوين الآدمي مع أنه ليس كذلك؛ فلذلك زعم أن ادعاء دلالة تكوين الآباء والأبناء ودلالة فناء الآباء على ثبوت الإله الواحد ربّ الآباء والأبناء ضرباً من الجنون إذ هو تكوين لم يشهدوا دقائقه، والمعروف المألوف ولادة الأجنة وموت الأمْوات‏.‏

وأكد كلامه بحرفي التأكيد لأن حالة موسى لا تؤذن بجنونه فكان وصفه بالمجنون معرَّضاً للشك فلذلك أكد فرعون أنه مجنون يعني أنه علم من حال موسى ما عسى أن لا يعلمه السامعون‏.‏

وقصد بإطلاق وصف الرسول على موسى التهكمَ به بقرينة رميه بالجنون المحقق عنده‏.‏

وأضاف الرسول إلى المخاطبين رَبْئاً بنفسه عن أن يكون مقصوداً بالخطاب، وأكد التهكّم والربء بوصفه بالموصول ‏{‏الذي أرسل إليكم‏}‏ فإن مضمون الموصول وصلته هو مضمون ‏{‏رسولكم‏}‏ فكان ذكره كالتأكيد، وتنصيصاً على المقصود لزيادة تهييج السامعين كيلا يتأثروا أو يتأثر بعضهم بصدق موسى لأن فرعون يتهيأ لإعداد العُدة لمقاومَة موسى لعلمه بأن له قوماً في مصر ربّما يستنصر بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

لما رأى موسى سوء فهمهم وعدم اقتناعهم بالاستدلال على الوحدانية بالتكوين المعتاد إذ التبس عليهم الأمر المعتاد بالأمر الذي لا صانع له انتقل موسى إلى ما لا قبل لهم بجحده ولا التباسِه وهو التصرف العجيب المشاهد كل يوم مرتين، كما انتقل إبراهيم عليه السلام من الاستدلال على وجود الله بالإحياء والإماتة لما تَمَوَّه على النمرود حقيقة معنى الإحياء والإماتة فانتقل إبراهيم إلى الاستدلال بطلوع الشمس فيما حكى الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربّي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتتِ بها من المغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ فكانت حجة موسى حجة خليلية‏.‏

والمشرق والمغرب يجوز أن يراد بهما مكان شروق الشمس ومكان غروبها في الأفق، فيكون تحريكاً للاستدلال بما يقع في ذلك المكان من الأُفق من شروق الشمس وغروبها، فيكون المراد بربّ المشرق والمغرب خالقَ ذلك النظام اليومي على طريقة الإيجاز‏.‏

ويجوز أن يراد بالمشرق والمغرب المصدر الميمي، أي ربّ الشروق والغروب، فيكون المراد بالربّ الخالق، أي مكوِّن الشروق والغروب ويكون المراد بما بينهما على هاذين الوجهين ما بين الحالين وضمير ‏(‏بينهما‏)‏ للمشرق والمغرب فكأنه قيل وما بين المشرق والمغرب وما بين المغرب والمشرق، أي ما يقع في خلال ذلك من الأحوال، فأما ما بين الشروق والغروب فالضحى والزوال والعصر والاصفرار، وأما ما بين الغروب والشروق فالشفق والفجر والإسفار كلها دلائل على تكوين ذلك النظام العجيب المتقن‏.‏

وقيل المراد برب المشرق والمغرب مالك الجهتين‏.‏ وهذا التفسير يفيت مناسبة الكلام لمقام الاستدلال بعظيم ولا يلاقي التذييل الواقع بعده في قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعقلون‏}‏‏.‏

وتانك الجهتان هما منتهى الأرض المعروفة للناس يومئذ فكأنه قيل‏:‏ ربّ طرَفي الأرض، وهو كناية عن كون جميع الأرض ملكاً لله‏.‏ وهذا استدلال عرفي إذ لم يكونوا يعرفون يومئذ مَلِكاً يملك ما بين المشرق والمغرب، وما كان مُلك فرعون المؤلّه عندهم إلا لبلاد مصر والسودان‏.‏

والتذييل بجملة‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعقلون‏}‏ تنبيه لنظرهم العقلي ليعاودوا النظر فيدركوا وجه الاستدلال، أي إن كنتم تُعملون عقولكم، ومن اللطائف جعل ذلك مقابل قول فرعون‏:‏ إن رسولكم لمجنون، لأن الجنون يقابله العقل فكان موسى يقول لهم قولاً ليناً ابتداء، فلما رأى منهم المكابرة ووصفوه بالجنون خاشنهم في القول وعارض قول فرعون ‏{‏إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعقلون‏}‏ أي إن كنتم أنتم العقلاء، أي فلا تكونوا أنتم المجانين، وهذا كقول أبي تمام للذَيْن قالا له‏:‏ «لِم تقول ما لا يُفهم» قال‏:‏ «لم لا تفهمان ما يقال»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

لمّا لم يجد فرعون لحجاجه نجاحاً ورأى شدة شكيمة موسى في الحق عدل عن الحجاج إلى التخويف ليقطع دعوة موسى من أصلها‏.‏ وهذا شأن من قهرته الحجة، وفيه كبرياء أن ينصرف عن الجدل إلى التهديد‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لئن اتخذت إلها‏}‏ موطئة للقسم‏.‏ والمعنى أن فرعون أكد وعيده بما يساوي اليمين المجملة التي تؤذن بها اللام الموطئة في اللغة العربية كأن يكون فرعون قال‏:‏ عليَّ يمين، أو بالأيمان، أو أقسم‏.‏ وفعل ‏{‏اتخذت‏}‏ للاستمرار، أي أصررت على أن لك إلهاً أرسلك وأن تبقى جاحداً للإله فرعون، وكان فرعون معدوداً إلهاً للأمة لأنه يمثل الآلهة وهو القائم بإبلاغ مرادها في الأمة، فهو الواسطة بينها وبين الأمة‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏لأجعلنك من المسجونين‏}‏ لأسجننك، فسلك فيه طريقة الإطناب لأنه أنسب بمقام التهديد لأنه يفيد معنى لأجعلنك واحداً ممن عرفتَ أنهم في سِجني، فالمقصود تذكير موسى بهول السجن‏.‏ وقد تقدم أن مثل هذا التركيب يفيد تمكن الخبر من المخبَر عنه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏‏.‏ وقد كان السجن عندهم قطعاً للمسجون عن التصرف بلا نهاية، فكان لا يدري متى يخرج منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنساه الشيطان ذكرَ ربه فلبِث في السجن بضعَ سنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏32‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

لما رأى موسى من مكابرة فرعون عن الاعتراف بدلالة النظر مَا لا مطمع معه إلى الاسترسال في الاستدلال لأنه متعاممٍ عن الحق عدل موسى إلى إظهار آية من خوارق العادة دلالة على صدقه، وعرض عليه ذلك قبل وقوعه ليسد عليه منافذ ادعاء عدم الرضى بها‏.‏

واستفهمه استفهاماً مشوباً بإنكار واستغراب على تقدير عدم اجتزاء فرعون بالشيء المُبين، وأنه ساجنُه لا محالة إن لم يعترف بإلهية فرعون، قطعاً لمعذرته من قبل الوقوع‏.‏ وهذا التقدير دلت عليه ‏{‏لو‏}‏ الوصلية التي هي لفرض حالة خاصة‏.‏ فالواو في قوله‏:‏ ‏{‏أولو جئتك‏}‏ واو الحال، والمستفهم عنه بالهمزة محذوف دل عليه أن الكلام جواب قول فرعون ‏{‏لأجعلنك من المسجونين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏ والتقدير‏:‏ أتجعلني من المسجونين والحال لو جئتك بشيء مبين، إذ القصد الاستفهام عن الحالة التي تضمنها شرط ‏{‏لو‏}‏ بأنها أولى الحالات بأن لا يثبت معها الغرض المستفهم عنه على فرض وقوعها وهو غرض الاستمرار على التكذيب، وهو استفهام حقيقي‏.‏

وليست الواو مؤخرة عن همزة الاستفهام لأن لحرف الاستفهام الصدارة بل هي لعطف الاستفهام‏.‏

والعامل في الحال وصاحِب الحال مقدّران دل عليهما قوله‏:‏ ‏{‏لأجعلنَّك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، أي أتجعلني من المسجونين‏.‏

ووصفُ «شيء» ب ‏{‏مبين‏}‏ اسم فاعل من أبان المتعدي، أي مُظهرٍ أني رسول من الله‏.‏

وأعرض فرعون عن التصريح بالتزام الاعتراف بما سيجئ به موسى فجاء بكلام محتمل إذ قال ‏{‏فأت به إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ إيماء إلى أن في كلام فرعون ما يقتضي أن فرض صدق موسى فرض ضعيف كما هو الغالب في شرط ‏{‏إن‏}‏ مع إيهام أنه جاء بشيء مبين يعتبر صادقاً فيما دعا إليه، فبقي تحقيق أن ما سيجيء به موسى مبين أو غير مبين‏.‏ وهذا قد استبقاه كلام فرعون إلى ما بعد الوقوع والنزول ليتأتى إنكاره إن احتاج إليه‏.‏

والثعبان‏:‏ الحية الضخمة الطويلة‏.‏

ووصف ‏{‏ثعبان‏}‏ بأنه ‏{‏مبين‏}‏ الذي هو اسم فاعل من أبان القاصر الذي بمعنى بَان بمعنى ظهر، ف ‏{‏مبين‏}‏ دال على شدة الظهور من أجل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا لبس فيه ولا تخييل‏.‏

وبالاختلاف بين ‏{‏مُبينٍ‏}‏ الأول و‏{‏مُبينٌ‏}‏ الثاني اختلفت الفاصلتان معنى فكانتا من قبيل الجِناس ولم تكونا مما يسمى مثله إيطاءً‏.‏

والإلقاء‏:‏ الرمي من اليد إلى الأرض، وتقدم في سورة الأعراف‏.‏

والنزع‏:‏ سلّ شيء مما يحيط به، ومنه نزع اللباس، ونزع الدلو من البئر‏.‏ ونزع اليد‏:‏ إخراجها من القميص، فلذلك استغنى عن ذكر المنزوع منه لظهوره، أي أخرج يده من جيب قميصه‏.‏

ودلت ‏(‏إذا‏)‏ المفاجِئة على سرعة انقلاب لون يده بياضاً‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للناظرين‏}‏‏.‏ يجوز أن تكون اللامَ التي يسميها ابن مالك وابن هشام لام التعدية، أي اتصال متعلقها بمجرورها‏.‏ والأظهر أن تكون اللام بمعنى ‏(‏عند‏)‏ ويكون الجار والمجرور حالاً‏.‏ وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة الأعراف ‏(‏108‏)‏ ‏{‏ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين‏}‏

ومعنى‏:‏ للناظرين أن بياضها مما يقصده الناظرون لأعجوبته، وكانَ لون جلد موسى السمرة‏.‏ والتعريف في ‏{‏للناظرين‏}‏ للاستغراق العرفي، أي لجميع الناظرين في ذلك المجلس‏.‏ وهذا يفيد أن بياضها كان واضحاً بيّناً مخالفاً لون جِلده بصورة بعيدة عن لون البرص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

تقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأعراف، سوى أن في هذه الآية زيادة ‏{‏بسحره‏}‏ وهو واضح، وفي هذه الآية أن هذا قول فرعون للملإ، وفي آية الأعراف ‏(‏109‏)‏ ‏{‏قال الملأ من قوم فرعون‏}‏ والجمع بينهما أن فرعون قاله لمن حَوله فأعادوه بلفظه للموافقة التامة بحيث لم يكتفوا بقول‏:‏ نعم، بل أعادوا كلام فرعون ليكون قولهم على تمام قوله‏.‏

وانتصب ‏{‏حوله‏}‏ على الظرفية‏.‏ والظرف هنا مستقر لأنه متعلق بكون محذوف هو حال من الملأ‏.‏ وتقدم وجه التعبير عن إشارتهم عليه بقوله‏:‏ ‏{‏تأمرون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏110‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏36‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف سوى أن في هذه الآية ‏{‏وابعث‏}‏ بدل ‏{‏وأرسل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 111‏]‏ وهما مترادفان، وفي هذه الآية ‏{‏سحّار‏}‏ وهنالك ‏{‏ساحر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 112‏]‏ والسحار مرادف للساحر في الاستعمال لأن صيغة فَعَّال هنا للنسب دلالة على الصناعة مثل النجَّار والقصّار ولذلك أتبع هنا وهناك بوصف ‏{‏عليم‏}‏، أي قوي العلم بالسحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏38‏)‏ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ‏(‏39‏)‏ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

دلت الفاء على أنّ جمع السحرة وقع في أسرع وقت عقب بعث الحاشرين حرصاً من الحَاشرين والمحشورين على تنفيذ أمر فرعون‏.‏

وبني «جُمع وقيل» للنائب لعدم تعين جامعِين وقائلين، أي جَمَعَ من يجمع، وقال القائلون‏.‏

واللام في ‏{‏لميقات‏}‏ بمعنى ‏(‏عند‏)‏ كاللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ واليوم‏:‏ هو يوم الزينة وهو يوم وفاء النيل‏.‏ والوقت هو الضحى كما في سورة طه‏.‏

والميقات‏:‏ الوقت، وأصله اسم آلة التوقيت‏.‏ سمي به الوقت المعين تشبيهاً له بالآلة‏.‏

والتعريف في ‏{‏للناس‏}‏ للاستغراق العرفي، وهم ناس بلدة فرعون ‏(‏منفيس‏)‏ أو ‏(‏طيبة‏)‏‏.‏

و ‏{‏هل أنتم مجتمعون‏}‏ استحثاث للناس على الاجتماع، فالاستفهام مستعمل في طلب الإسراع بالاجتماع بحيث نزلوا منزلة من يسأل سؤال تحقيق عن عزمه على الاجتماع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ في سورة العقود ‏(‏91‏)‏، وقول تأبط شراً‏:‏

هل أنت باعثُ دينار لحاجتنا *** أو عبدِ ربَ أخا عون بن مخراق

يريد ابعث إلينا ديناراً أو عبد رب سريعاً لأجل حاجتنا بأحدهما‏.‏ ورجَوا اتّباع السحرة، أي اتباع ما يؤيده سحر السحرة وهو إبطال دين ما جاء به موسى، فكان قولهم ‏{‏لعلنا نتّبع السحرة‏}‏ كناية عن رجاء تأييدهم في إنكار رسالة موسى فلا يتبعونه‏.‏ وليس المقصود أن يصير السحرة أيمة لهم لأن فرعون هو المتّبع‏.‏ وقد جيء في شرط ‏{‏إن كانوا هم الغالبين‏}‏ بحرف ‏{‏إن‏}‏ لأنها أصل أدوَات الشرط ولم يكن لهم شك في أن السحرة غالبون‏.‏ وهذا شأن المغرورين بهواهم، العُمي عن النظر في تقلبات الأحوال أنهم لا يفرضون من الاحتمالات إلا ما يوافق هواهم ولا يأخذون العُدة لاحتمال نقيضه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏41‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

تقدم نظيرها في سورة الأعراف بقوله‏:‏ ‏{‏وجاء السحرة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 113‏]‏ وبطرح همزة الاستفهام إذ قال هناك ‏{‏إنَّ لنا لأجراً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 113‏]‏، وهو تفنن في حكاية مقالتهم عند إعادتها لئلا تعاد كما هي، وبدون كلمة ‏{‏إذاً‏}‏، فحكى هنا ما في كلام فرعون من دلالة على جزاءِ مضموننِ قولهم‏:‏ ‏{‏إنَّ لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 113‏]‏ زيادة على ما اقتضاه حرف ‏(‏نعم‏)‏ من تقرير استفهامهم عن الأجر‏.‏ فتقدير الكلام‏:‏ إن كنتم غالبين إذاً إنكم لمن المقربين‏.‏ وهذا وقع الاستغناء عنه في سورة الأعراف فهو زيادة في حكاية القصة هنا‏.‏ وكذلك شأن القرآن في قصصه أن لا يخلو المُعاد منها عن فائدة غير مذكورة في موضع آخر منه تجديداً لنشاط السامع كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير‏.‏ وسؤالهم عن استحقاق الأجر إدلال بخِبرتهم وبالحاجة إليهم إذ علموا أن فرعون شديد الحرص على أن يكونوا غالبين وخافوا أن يُسَخِّرهم فرعون بدون أجر فشرطوا أجرهم من قبل الشروع في العمل ليقيدوه بوعده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏43‏)‏ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

حُكي كلام موسى في ذلك الجمع بإعادة فعل ‏{‏قال‏}‏ مفصولاً بطريقة حكاية المحاورات لأنه كان المقصود بالمحاورة إذ هم حضروا لأجله‏.‏

ووقع في سورة الأعراف ‏(‏115‏)‏ ‏{‏قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن المُلْقين قال ألقُوا، واختصر هنا تخييرهم موسى في الابتداء بالأعمال، وقد تقدم بيانه هناك، فقول موسى لهم ألقوا‏}‏ المحكي هنا هو أمر لمجرد كونهم المبتدئين بالإلقاء لتعقبه إبطال سِحرهم بما سيلقيه موسى، كما يقول صاحب الجدل في علم الكلام للملحد‏:‏ قرر شبهتك، وهو يريد أن يدحضها له‏.‏ وهذا عضد الدين في كتاب «المواقف» يذكر شُبه أهل الزيغ والضلال قبل ذكر الأدلة الناقضة لها‏.‏ وتقدم الإلقاء آنفاً‏.‏ وذكر هنا مفعول ‏{‏ألقوا‏}‏ واختصر في سورة الأعراف‏.‏

وفي كلام موسى عليه السلام استخفاف بما سيلقونه لأنه عبر عنه بصيغة العموم، أي ما تستطيعون إلقاءه‏.‏ وتقدم الكلام على الحِبال والعِصيّ في السحر عند الكلام على مثل هذه القصة في سورة طه‏.‏

وقرنت حكاية قَول السحرة بالواو خلافاً للحكايات التي سبقتها لأن هذا قول لم يقصد به المحاورة وإنما هو قول ابتدؤا به عند الشروع في السحر استعانة وتيمّناً بعزة فرعون‏.‏ فالباء في قولهم ‏{‏بعزة فرعون‏}‏ كالباء في «بسم الله» أرادوا التيمن بقدرة فرعون، قاله ابن عطية‏.‏

وقيل الباء للقسم‏:‏ أقسموا بعزة فرعون على أنهم يغلبون ثقة منهم باعتقاد ضلالهم أن إرادة فرعون لا يغلبها أحد لأنها إرادة آلهتهم‏.‏ وهذا الذي نحاه المفسرون، والوجه الأول أحسن لأن الجملتين على مقتضاه تفيدان فائدتين‏.‏

والعزّة‏:‏ القدرة، وتقدم في قوله ‏{‏أخذته العزّة بالإثم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏206‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ إنا لنحن الغالبون‏}‏ استئناف إنشاء عن قولهم‏:‏ ‏{‏بعزة فرعون‏}‏‏:‏ كأن السامع وهو موسى أو غيره يقول في نفسه‏:‏ ماذا يُؤثر قولهم ‏{‏بعزة فرعون‏}‏‏؟‏ فيقولون‏:‏ ‏{‏إنا لنحن الغالبون‏}‏، وأرادوا بذلك إلقاء الخوف في نفس موسى ليكون ما سيلقيه في نوبته عن خور نفس لأنهم يعلمون أن العزيمة من أكبر أسباب نجاح السحر وتأثيره على الناظرين‏.‏ وقد أفادت جملة‏:‏ ‏{‏إنا لنحن الغالبون‏}‏ بما فيها من المؤكدات مُفاد القسم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

تقدم قريب منه في سورة الأعراف وفي سورة طه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قصد فرعون إرهابهم بهذا الوعيد لعلهم يرجعون عن الإيمان بالله‏.‏ ونظير أول هذه الآية تقدم في سورة الأعراف، ونظير آخرها تقدم فيها وفي سورة طه‏.‏ وهنالك ذكرنا عدد السحرة وكيف آمنوا‏.‏ واللام في ‏{‏فلسوف‏}‏ لام القسم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

الضّير‏:‏ مرادف الضرّ، يقال‏:‏ ضَاره بتخفيف الراء يضِيره، ومعنى ‏{‏لا ضير‏}‏ لا يضرنا وعيدك‏.‏ ومعنى نفي ضره هنا‏:‏ أنه ضر لحظة يحصل عقبه النعيم الدائم فهو بالنسبة لما تعقبه بمنزلة العدم‏.‏ وهذه طريقة في النفي إذا قامت عليها قرينة‏.‏ ومنها قولهم‏:‏ هذا ليسَ بشيء، أي ليس بموجود، وإنما المقصود أن وجوده كالعدم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ تعليل لنفي الضير، وهي القرينة على المراد من النفي‏.‏

والانقلاب‏:‏ الرجوع، وتقدم في سورة الأعراف‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطيانا‏}‏ بيان للمقصود من جملة‏:‏ ‏{‏إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏‏.‏ والطمع‏:‏ يطلق على الظن الضعيف، وعُرِّف بطلب ما فيه عسر‏.‏ ويطلق ويراد به الظن كما في قول إبراهيم ‏{‏والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 82‏]‏، فهذا الإطلاق تأدّب مع الله لأنه يفعل ما يريد‏.‏ وعلّلوا ذلك الطمع بأنهم كانوا أول المؤمنين بالله بتصديق موسى عليه السلام، وفي هذا دلالة على رسوخ إيمانهم بالله ووعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

هذه قصة أخرى من أحوال موسى في دعوة فرعون، فالواو لعطف القصة ولا تفيد قرب القصة من القصة، فقد لبث موسى زمناً يطالب فرعون بإطلاق بني إسرائيل ليخرجُوا من مصر، وفرعون يماطل في ذلك حتى رأى الآياتتِ التسعَ كما تقدم في سورة الأعراف‏.‏ ونظير بعض هذه الآية تقدم في سورة طه‏.‏ وزادت هذه بقوله‏:‏ ‏{‏إنكم متبعون‏}‏، أي أعلم الله موسى أن فرعون سيتبعهم بجنده كما في آية سورة طه‏.‏ والقصد من إعلامه بذلك تشجيعه‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر ‏{‏اِسْرِ‏}‏ بهمزة وصل فعلَ أمر من ‏(‏سَرى‏)‏ وبكسر نون ‏{‏أن‏}‏‏.‏ لأجل التقاء الساكنين‏.‏ وقرأ الباقون بهمزة قطع وسكون نون ‏(‏أنْ‏)‏ وفعلا سرى وأسرى متحدان كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ‏(‏54‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ‏(‏55‏)‏ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ظاهر ترتيب الجمل يقتضي أن الفاء للتعقيب على جملة‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى موسى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 52‏]‏ وأن بين الجملتين محذوفاً تقديره‏:‏ فأسرى موسى وخرج بهم فأرسل فرعون حَاشرين، أي لما خرج بنو إسرائيل خشي فرعون أن ينتشروا في مدائن مصر فأرسل فرعون في المدائن شُرَطاً يحشرون الناس ليلْحقوا بني إسرائيل فيردُّوهم إلى المدينة قاعدة الملك‏.‏

و ‏{‏المدائن‏}‏‏:‏ جمع مدينة، أي البلد العظيم‏.‏ ومدائن القطر المصري يومئذ كثيرة‏.‏ منها ‏(‏مانوفرى أو منفيس‏)‏ هي اليوم ميت رهينة بالجيزة و‏(‏تيبة أو طيبة‏)‏ هي بالأقصر و‏(‏أبودو‏)‏ وتسمى اليوم العَرابة المدفونة، و‏(‏ابو‏)‏ وهي ‏(‏بو‏)‏ وهي ادنو، و‏(‏اون رميسي‏)‏، و‏(‏أرمنت‏)‏ و‏(‏سنَى‏)‏ وهي أسناء و‏(‏ساورت‏)‏ وهي السيوط، و‏(‏خمونو‏)‏ وهي الاشمونيين، و‏(‏بامازيت‏)‏ وهي البهنسا، و‏(‏خسوُو‏)‏ وهي سخا، و‏(‏كاريينا‏)‏ وهي سد أبي قيرة، و‏(‏سودو‏)‏ وهي الفيوم، و‏(‏كويتي‏)‏ وهي قفط‏.‏

والتعريف في ‏{‏المدائن‏}‏ للاستغراق، أي في مدائن القطر المصري، وهو استغراق عرفي، أي المدائن التي لحكم فرعون أو المظنون وقوعها قرب طريقهم‏.‏ وكان فرعون وقومه لا يعلمون أين اتجه بنو إسرائيل فأراد أن يتعرض لهم في كل طريق يظن مرورهم به‏.‏ وكان لا يدري لعلهم توجهوا صوبَ الشام، أو صوبَ الصحراء الغربية، وما كان يظن أنهم يقصدون شاطئ البحر الأحمر بحر «القلزم» وكان يومئذ يسمى بحر «سُوف»‏.‏

وجملة ‏{‏إن هؤلاء لشرذمة قليلون‏}‏ مقول لقول محذوف لأن ‏{‏حاشرين‏}‏ يتضمن معنى النداء، أي يقولون إن هؤلاء لَشِرْذِمة قليلون‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ إلى حاضر في أذهان الناس لأن أمر بني إسرائيل قد شاع في أقطار مصر في تلك المدة التي بين جمع السحرة وبين خروج بني إسرائيل، وليست الإشارة للسحرة خاصة إذ لا يلتئم ذلك مع القصة‏.‏

وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير لشأنهم أكده التصريح بأنهم شرذمة قليلون‏.‏

والشرذمة‏:‏ الطائفة القليلة من الناس، هكذا فسره المحققون من أئمة اللغة، فإتْباعه بوصف ‏{‏قليلون‏}‏ للتأكيد لدفع احتمال استعمالها في تحقير الشأن أو بالنسبة إلى جنود فرعون، فقد كان عدد بني إسرائيل الذين خرجوا ستمائة ألف، هكذا قال المفسرون، وهو موافق لما في سفر العدد من التوراة في الإصحاح السادس والعشرين‏.‏

و ‏{‏قليلون‏}‏ خبر ثان عن اسم الإشارة، فهو وصف في المعنى لمدلول ‏{‏هؤلاء‏}‏ وليس وصفاً لشرذمة ولكنه مؤكد لمعناها، ولهذا جيء به بصيغة جمع السلامة الذي هو ليس من جموع الكثرة‏.‏

و ‏(‏قليل‏)‏ إذا وصف به يجوز مطابقته لموصوفه كما هنا، ويجوز ملازمته الإفرادَ والتذكير كما قال السموأل أو الحارثي‏:‏

وما ضرّنا أنا قَليل‏.‏‏.‏‏.‏ البيت *** ونظيره في ذلك لفظ ‏(‏كثير‏)‏ وقد جمعهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يُريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لَفَشِلْتم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 43‏]‏‏.‏

و«غائظون» اسم فاعل من غاظه الذي هو بمعنى أغاظه، أي جعله ذا غيظ‏.‏

والغيظ‏:‏ أشد الغضب‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ في آل عمران ‏(‏119‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ويذهب غيظ قلوبهم‏}‏ في سورة براءة ‏(‏15‏)‏، أي وأنهم فاعلون ما يغضبنا‏.‏

واللام في قوله‏:‏ لنا‏}‏ لام التقوية واللام في ‏{‏لغائظون‏}‏ لام الابتداء، وتقديم ‏{‏لنا‏}‏ على ‏{‏لغائظون‏}‏ للرعاية على الفاصلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإنا لجميع حاذرون‏}‏ حثّ لأهل المدائن على أن يكونوا حَذِرين على أبلغ وجه إذ جعل نفسه معهم في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لجميع‏}‏ وذلك كناية عن وجوب الاقتداء به في سياسة المملكة، أي إنا كلَّنا حَذرُون، ف ‏{‏جميع‏}‏ وقع مبتدأ وخبرُه ‏{‏حاذرون‏}‏، والجملة خبر ‏{‏إنَّ‏}‏، و‏(‏جميع‏)‏ بمعنى‏:‏ ‏(‏كل‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إليه مرجعكم جميعاً‏}‏ في سورة يونس ‏(‏4‏)‏‏.‏

و ‏{‏حَاذِرون‏}‏ قرأه الجمهور بدون ألف بعد الحاء فهو جمع حَذِر وهو من أمثلة المبالغة عند سيبويه والمحققين‏.‏ وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر وخلف بألف بعد الحاء جمع ‏(‏حَاذر‏)‏ بصيغة اسم الفاعل‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الحَذَر من شيمته وعادته فكذلك يجب أن تكون الأمة معه في ذلك، أي إنا من عادتنا التيقظ للحوادث والحَذرُ مما عسى أن يكون لها من سيّئ العواقب‏.‏

وهذا أصل عظيم من أصول السياسة وهو سدّ ذرائع الفساد ولو كان احتمالُ إفضائها إلى الفساد ضعيفاً، فالذرائع الملغاة في التشريع في حقوق الخصوص غير ملغاة في سياسة العموم، ولذلك يقول علماء الشريعة‏:‏ إن نظر ولاة الأمور في مصالح الأمة أوسع من نظر القضاة، فالحذر أوسع من حفظ الحقوق وهو الخوف من وقوع شيء ضار يمكن وقوعه، والترصدُ لِمنع وقوعه، وتقدم في قوله ‏{‏يَحْذَر المنافقون‏}‏ في براءة ‏(‏64‏)‏‏.‏ والمحمود منه هو الخوف من الضارّ عند احتمال حدوثه دون الأمر الذي لا يمكن حدوثه فالحذرُ منه ضرب من الهوس‏.‏

وهذا يرجح أن يكون المحذور هو الاغترار بإيمان السحرة بالله وتصديق موسى ويبعِّد أن يكون المراد خروج بني إسرائيل من مصر لأنه حينئذ قد وقع فلا يحذر منه وإنما يكون السعي في الانتقام منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏57‏)‏ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

إن جريت على ما فسّر به المفسرون قولَه‏:‏ ‏{‏فأرسل فرعون في المدائن حاشرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 53‏]‏ لزمك أن تجعل الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأخرجناهم‏}‏ لتفريع الخروج على إرسال الحاشرين، أي ابتدأ بإرسال الحاشرين وأعقب ذلك بخروجه، فالتعقيب الذي دلت عليه الفاء بحسب ما يناسب المدة التي بين إرسال الحاشرين وبين وصول الأنباء من أطراف المملكة بتعيين طريق بني إسرائيل إذ لا يخرج فرعون بجنده على وجهه، غير عالم بطريقهم‏.‏ وضمير النصب عائد إلى فرعون ومن معه مفهوماً من قوله‏:‏ ‏{‏إنكم متَّبَعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وإنْ جريت على ما فسرنا به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسل فرعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 53‏]‏ ولا إخالك إلا منشرح الصدر لاختيار ذلك، فلْتَجعَلْ الفاءَ في ‏{‏فأخرجناهم‏}‏ تفريعاً على جملة‏:‏ ‏{‏إنكم متَّبَعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 52‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ فأسرى موسى ببني إسرائيل فأخرجنا فرعون وجنده من بلادهم في طلب بني إسرائيل فاتَّبعوا بني إسرائيل‏.‏

وضمير‏:‏ ‏{‏أخرجناهم‏}‏ على كل تقدير عائد إلى ما يفهم من المقام، أي أخرجنا فرعون وجنده‏.‏ والجنات‏:‏ جنات النخيل التي كانت على ضفاف النيل‏.‏ والعيون‏:‏ منابع تحفر على خِلجان النيل‏.‏ والكنوز‏:‏ الأموال المدخرة‏.‏

والمقام‏:‏ أصله محل القيام أو مصدر قَام‏.‏ والمعنى على الأول‏:‏ مساكن كريمة، وعلى الثاني‏:‏ قيامهم في مجتمعهم، والكريم‏:‏ النفيس في نوعه‏.‏ وذلك ما كانوا عليه من الأمن والثروة والرفاهية، كل ذلك تركه فرعون وجنوده الذين خرجوا منه لمطاردة بني إسرائيل لأنهم هلكوا فلم يرجعوا إلى شيء مما تركوا‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبْراً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏91‏)‏‏.‏ فهو بمنزلة الاعتراض‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأورثناها بني إسرائيل‏}‏ معترضة أيضاً والواو اعتراضية وليست عطفاً لأجزاء القصة لما ستعلمه‏.‏ والإيراث‏:‏ جعل أحد وارثاً‏.‏ وأصله إعطاء مال الميت ويطلق على إعطاء ما كان ملكاً لغير المعطَى ‏(‏بفتح الطاء‏)‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرض ومغاربها التي باركنا فيها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، أي أورثنا بني إسرائيل أرض الشام، وقال‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز، لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها كما يدل عليه قوله في سورة الدخان ‏(‏28‏)‏ ‏{‏كذلك وأورثناها قوماً آخرين‏}‏ ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك، فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدَّهر فلا محيص من صرف الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان‏.‏

فضمير أورثناها‏}‏ هنا عائد للأشياء المعدودة باعتبار أنها أسماء أجناس، أي أورثنا بني إسرائيل جناتتٍ وعيوناً وكنوزاً، فعَود الضمير هنا إلى لفظ مستعمل في الجنس وهو قريب من الاستخدام وأقوى منه، أي أعطيناهم أشياء ما كانت لهم من قبل وكانت للكنعانيين فسلط الله عليهم بني إسرائيل فغلبوهم على أرض فلسطين والشام‏.‏ وقد يعود الضمير على اللفظ دون المعنى كما في قولهم‏:‏ عندي درهم ونصفُه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثُها إن لم يكن لها ولد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏، إذ ليس المراد أن المرء الذي هلك يرث أخته التي لها نصف ما ترك بل المراد‏:‏ والمرء يرث أختاً له إن لم يكن لها ولد، ويجوز أن يكون نصب الضمير لفعل «أورثنا» على معنى التشبيه البليغ، أي أورثنا أمثَالها‏.‏ وقيل ضمير‏:‏ ‏{‏أورثناها‏}‏ عائد إلى خصوص الكنوز لأن بني إسرائيل استعاروا ليلة خروجهم من جيرانهم المصريين مصوغهم من ذهب وفضة وخرجوا به كما تقدم في سورة طه‏.‏

ويجوز عندي وجه آخر وهو أن تكون جملة ‏{‏فأخرجناهم من جنات‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأورثناها‏}‏ حكاية لكلام من الله معترض بين كلام فرعون‏.‏ وضمير ‏{‏فأخرجناهم‏}‏ عائد إلى قوم فرعون المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏في المدائن‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 53‏]‏، أي فأخرجنا أهل المدائن‏.‏ وحذف المفعول الثاني لفعل ‏{‏أورثناها‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وأورثناها غيرهم، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ بياناً لاسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 54‏]‏ سلك به طريق الإجمال ثم البيان ليقع في أنفس السامعين أمكن وقْع‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏}‏ مفرعة على جملة‏:‏ ‏{‏فأخرجناهم‏}‏ وما بينهما اعتراض‏.‏ والتقدير‏:‏ فأخرجناهم فأتبعوهم‏.‏ والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله‏:‏ ‏{‏فأخرجناهم‏}‏، وضمير النصب عائد إلى ‏{‏عبادي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 52‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏أن اسْرِ بعبادي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 52‏]‏‏.‏

و ‏{‏أتْبعوهم‏}‏ بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تَبع، أي فلحقوهم‏.‏

و ‏{‏مشرقين‏}‏ حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال‏:‏ أشرق، إذا دخل في أرض الشرق، كما يقال‏:‏ أنجد وأتهم وأعرق وأشأم، ويعلم من هذا أن بني إسرائيل توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر ‏(‏القلزم‏)‏ وهو البحر الأحمر وسمي يومئذ بحر سُوف وهو شرقي مصر‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق، أي أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشياً فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 66‏]‏

‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏62‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ‏(‏63‏)‏ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏65‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

أي لما بلغ فرعون وجنوده قريباً من مكان جموع بني إسرائيل بحيث يرى كل فريق منهما الفريق الآخر‏.‏ فالترائي تَفاعل لأنه حصول الفعل من الجانبين‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إنا لمُدْرَكون‏}‏ بالتأكيد لشدة الاهتمام بهذا الخبر وهو مستعمل في معنى الجزع‏.‏ و‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع‏.‏ وتقدم في سورة مريم ‏(‏79‏)‏ ‏{‏كلا سنكتب ما يقول‏}‏ ردع به موسى ظنهم أنهم يدركهم فرعون، وعلَّل رَدْعهم عن ذلك بجملة‏:‏ ‏{‏إن معي ربي سيهدين‏}‏‏.‏

وإسناد المعية إلى الرب في ‏{‏إن معي ربي‏}‏ على معنى مصاحبة لطف الله به وعنايته بتقدير أسباب نجاته من عدوه‏.‏ وذلك أن موسى واثق بأن الله منجيه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا معكم مستَمعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اسْرِ بعبادي إنكم مُتَّبعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 52‏]‏ كما تقدم آنفاً أنه وعد بضمان النجاة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏سيهدين‏}‏ مستأنفة أو حال من ‏{‏ربّي‏}‏‏.‏ ولا يضر وجود حرف الاستقبال لأن الحال مقدرة كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ‏{‏قال إني ذاهب إلى ربّي سَيَهْدِين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه سيبيّن لي سبيل سلامتنا من فرعون وجنده‏.‏ واقتصر موسى على نفسه في قوله‏:‏ ‏{‏إن معي ربي سيهدين‏}‏ لأنهم لم يكونوا عالمين بما ضَمن الله له من معيّة العناية فإذا علموا ذلك علموا أن هدايته تنفعهم لأنه قائدهم والمرسل لفائدتهم‏.‏ ووجه اقتصاره على نفسه أيضاً أن طريق نجاتهم بعد أن أدركهم فرعون وجنده لا يحصل إلا بفعل يقطع دابر العدوّ، وهذا الفعل خارق للعادة فلا يقع إلا على يد الرسول‏.‏ وهذا وجه اختلاف المعية بين ما في هذه الآية وبين ما في قوله تعالى في قصة الغار ‏{‏إذ يقول لصاحبه لا تحزَنْ إن الله معنا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ لأن تلك معية حفظهما كليهما بصرف أعين الأعداء عنهما، وقد أمره الله أن يضرب بعصاه البحر وانفلق البحر طُرقاً مرّت منها أسباط بني إسرائيل، واقتحم فرعون البحر فمدّ البحرُ عليهم حين توسطوه فغرق جميعهم‏.‏

والفِرْق بكسر الفاء وسكون الراء‏:‏ الجزء المفروق منه، وهو بمعنى مفعول مثل الفِلق‏.‏ والطود‏:‏ الجبل‏.‏

و ‏{‏أزلفنا‏}‏ قربنا وأدنينا، مشتق من الزلف بالتحريك وهو القرب‏.‏ والظاهر أن فعله كفرح‏.‏ ويقال‏:‏ ازدلف‏:‏ اقترب، وتزلف‏:‏ تقرب، فهمزة ‏{‏أزلفنا‏}‏ للتعدية‏.‏

والمعنى أن الله جرأهم حتى أرادوا اقتحام طرق البحر كما رأوا فعل بني إسرائيل يظنون أنه ماء غير عميق‏.‏

والآخرون‏:‏ هم قوم فرعون لوقوعه في مقابلة فريق بني إسرائيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏67‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

تقدم القول في نظيره آنفاً قبل قصة موسى‏.‏ وكانت هذه القصة آية لأنها دالة على أن ذلك الانقلاب العظيم في أحوال الفريقين الخارج عن معتاد تقلبات الدول والأمم دليل على أنه تصرف إلهي خاص أيد به رسوله وأمته وخضّد به شوكة أعدائهم ومن كفروا به، فهو آية على عواقب تكذيب رسل الله مع ما تتضمنه القصة من دلائل التوحيد‏.‏

ووجه تذييل كل استدلال من دلائل الوحدانية وصدق الرسل في هذه السورة بجملة‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ إلى آخرها تقدم في طالعة هذه السورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 77‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏69‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ‏(‏71‏)‏ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ‏(‏72‏)‏ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏75‏)‏ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏(‏76‏)‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

عقبت قصة موسى مع فرعون وقومه بقصة رسالة إبراهيم‏.‏ وقدمت هنا على قصة نوح على خلاف المعتاد في ترتيب قصصهم في القرآن لشدة الشبه بين قوم إبراهيم وبين مشركي العرب في عبادة الأصنام التي لا تَسمع ولا تبصر‏.‏ وفي تمسكهم بضلال آبائهم وأن إبراهيم دعاهم إلى الاستدلال على انحطاط الأصنام عن مرتبة استحقاق العبادة ليكون إيمان الناس مستنداً لدليل الفطرة، وفي أن قوم إبراهيم لم يسلّط عليهم من عذاب الدنيا مثل ما سلط على قوم نوح وعلى عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين فأشبهوا قريشاً في إمهالهم‏.‏

فرسالة محمد وإبراهيم صلى الله عليهما قائمتان على دعامة الفطرة في العقل والعمل، أي في الاعتقاد والتشريع، فإن الله ما جعل في خلق الإنسان هذه الفطرة ليضيعها ويهملها بل ليقيمها ويعملها‏.‏ فلما ضرب الله المثل للمشركين لإبطال زعمهم أنهم لا يؤمنون حتى تأتيهم الآيات كما أوتي موسى، فإن آيات موسى وهي أكثر آيات الرسل السابقين لم تقض شيئاً في إيمان فرعون وقومه لما كان خلقهم المكابرة والعناد أعقب ذلك بضرب المثل بدعوة إبراهيم المماثلة لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم في النداء على إعمال دليل النظر‏.‏ وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى معلوم من السياق كما تقدم في قوله أول السورة ‏{‏ألا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ما تتلوا الشياطين‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

و ‏{‏نبأ إبراهيم‏}‏‏:‏ قصته المذكورة هنا، أي اقرأ عليهم ما ينزل عليك الآن من نبأ إبراهيم‏.‏ وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتلاوته للإشارة إلى أن الكلام المتضمن نبأ إبراهيم هو آية معجزة، وما تضمنته من دليل العقل على انتفاء إلهية الأصنام التي هي كأصنام العرب آية أيضاً‏.‏ فحصل من مجموع ذلك آيتان دالّتان على صدق الرسول‏.‏ وتقدم ذكر إبراهيم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيمَ‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وإذ قال‏}‏ ظرف، أي حين قال‏.‏ والجملة بيان للنبأ، لأن الخبر عن قصة مضت فناسب أن تبيّن باسم زمان مضاف إلى ما يفيد القصة‏.‏ وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتْلُ عليهم نَبَأ نوح إذ قال لقومه يا قوم‏}‏ الآية في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ اسم استفهام يسأل به عن تعيين الجنس كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وما ربّ العالمين‏}‏ في هذه السورة ‏[‏23‏]‏‏.‏ والاستفهام صوري فإن إبراهيم يعلم أنهم يعبدون أصناماً ولكنه إراد بالاستفهام افتتاح المجادلة معهم فألقى عليهم هذا السؤال ليكونوا هم المبتدئين بشرح حقيقة عبادتهم ومعبوداتهم، فتلوح لهم من خلال شرح ذلك لوائح ما فيه من فساد، لأن الذي يتصدّى لشرح الباطل يشعر بما فيه من بطلان عند نظم معانيه أكثر مما يشعر بذلك من يسمعه، ولأنه يعلم أن جوابهم ينشأ عنه ما يريده من الاحتجاج على فساد دينهم وقد أجابوا استفهامه بتعيين نوع معبوداتهم‏.‏

وأدخلَ أباه في إلقاء السؤال عليهم‏:‏ إمّا لأنه كان حاضراً في مجلس قومه إذ كان سادن بيت الأصنام كما روي، وإمّا لأنه سأله على انفراد وسأل قومه مرة أخرى فجمعت الآية حكاية ذلك‏.‏

والأظهر أن إبراهيم ابتدأ بمحاجّة أبيه في خاصتهما ثم انتقل إلى محاجّة قومه، وأن هذه هي المحاجّة الأولى في ملإ أبيه وقومه؛ ألقى فيها دعوته في صورة سؤال استفسار غير إنكار استنزالاً لطائر نفورهم، وأما قوله في الآية الأخرى ‏{‏إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكاً آلهة دون الله تريدون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 85- 86‏]‏ فذلك مقام آخر له في قومه كان بعد الدعوة الأولى المحكية في سورة الصافات‏.‏ ولأجل ذلك كان الاستفهام مقترناً بما يقتضي التعجب من حالهم بزيادة كلمة ‏(‏ذا‏)‏ بعد ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية في سورة الأنبياء‏.‏ وكلمة ‏(‏ذا‏)‏ إذا وقعت بعد ‏(‏مَا‏)‏ تؤول إلى معنى اسم الموصول فصار المعنى في سورة الأنبياء‏:‏ ما هذا الذي تعبدونه، فصار الإنكار مسلطاً إلى كون تلك الأصنام تُعبد‏.‏

والظاهر أنه ألقى عليهم السؤال حين تلبُّسهم بعبادة الأصنام كما هو مناسب الإتيان بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تعبدون‏}‏ وما فهم قومه من كلامه إلا الاستفسار فأجابوا‏:‏ بأنهم يعبدون أصناماً يعكفون على عبادتها‏.‏

والتنوين في ‏{‏أصناماً‏}‏ للتعظيم، ولذا عدل عن تعريفها وهم يعلمون أن إبراهيم يعرفها ويعلم أنهم يعبدونها‏.‏ واسم الأصنام عندهم اسم عظيم فهم يفتخرون به على عكس أهل التوحيد‏.‏ ولهذا قال إبراهيم لهم في مقام آخر ‏{‏إنما تَعبدون من دون الله أوثاناً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏ على وجه التحقير لمعبوداتهم والتحميق لهم‏.‏ وأتوا في جوابهم بفعل ‏{‏نعبد‏}‏ مع أن الشأن الاستغناء عن التصريح إذ كان جوابهم عن سؤال فيه ‏{‏تعبدون‏}‏‏.‏ فلا حاجة إلى تعيين جنس المعبودات فيقولوا أصناماً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، ‏{‏ماذا قال ربكم قالوا الحق‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ فعدلوا عن سُنَّة الجواب إلى تكرير الفعل الواقع في السؤال ابتهاجاً بهذا الفعل وافتخاراً به، ولذلك عطفوا على قولهم‏:‏ ‏{‏نعبد‏}‏ ما يزيد فعل العبادة تأكيداً بقولهم‏:‏ ‏{‏فنظَلُّ لها عاكفين‏}‏‏.‏ وفي فعل «نظَلّ» دلالة الاستمرار جميع النهار‏.‏ وأيضاً فهم كانوا صابئة يعبدون الكواكب وجعلوا الأصنام رموزاً على الكواكب تكون خلَفاً عنها في النهار، فإذا جاء الليل عبدوا الكواكب الطالعة‏.‏

وضمّن ‏{‏عاكفين‏}‏ معنى ‏(‏عابدين‏)‏ فعدي إليه الفعل باللام دون ‏(‏على‏)‏‏.‏ ولما كان شأن الرب أن يُلجأ إليه في الحاجة وأن ينفع أو يضر ألقى إبراهيم عليهم استفهاماً عن حال هذه الأصنام هل تسمع دعاء الداعين وهل تنفع أو تضر تنبيهاً على دليل انتفاء الإلهية عنها‏.‏

وكانت الأمم الوثنية تعبد الوثن لرجاء نفعه أو لدفع ضره ولذلك عبد بعضهم الشياطين‏.‏

وجعل مفعول ‏{‏يسمعونكم‏}‏ ضمير المخاطبين توسعاً بحذف مضاف تقديره‏:‏ هل يسمعون دعاءكم كما دل عليه الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إذ تدعون‏}‏‏.‏ وأراد إبراهيم فتح المجادلة ليعجزوا عن إثبات أنها تسمع وتنفع‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ في حكاية جواب القوم لإضراب الانتقال من مقام إثبات صفاتهم إلى مقام قاطع للمجادلة في نظرهم وهو أنهم ورثوا عبادة هذه الأصنام، فلما طوَوا بساط المجادلة في صفات آلهتهم وانتقلوا إلى دليل التقليد تفادياً من كلفة النظر والاستدلال بالمصير إلى الاستدلال بالاقتداء بالسلف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يفعلون‏}‏ تشبيه فعل الآباء بفعلهم وهو نعت لمصدر محذوف، والتقدير‏:‏ يفعلون فعلاً كذلك الفعللِ‏.‏ وقدم الجار والمجرور على ‏{‏يفعلون‏}‏ للاهتمام بمدلول اسم الإشارة‏.‏

واقتصرَ إبراهيم في هذا المقام ‏(‏الذي رجحنا أنه أول مقام قام فيه للدعوة‏)‏ على أنْ أظهر قلة اكتراثه بهذه الأصنام فقال‏:‏ ‏{‏فإنهم عدوٌّ لي‏}‏ لأنه أيقن بأن سلامته بعد ذلك تدل على أن الأصنام لا تضرّ وإلاّ لضَرَّته لأنه عدُوّها‏.‏

وضمير ‏{‏فإنهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما كنتم تعبدون‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وآباءكم‏}‏ عطف على اسم ‏{‏كنتم‏}‏‏.‏ والعدوّ‏:‏ مشتق من العُدوان، وهو الإضرار بالفعل أو القول‏.‏ والعدوّ‏:‏ المُبغض، فعدوّ‏:‏ فعول بمعنى فاعل يُلازم الإفراد والتذكير فلا تلحقه علامات التأنيث ‏(‏إلا نادراً كقول عمر لنساء من الأنصار‏:‏ يا عدوات أنفسهن‏)‏‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ حملاً على المصدر الذي على وزن فَعول كالقبول والولوع‏.‏

والأصنام لا إدراك لها فلا توصف بالعداوة‏.‏ ولذلك فقوله ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏ من قبيل التشبيه البليغ، أي هم كالعدوّ لي في أني أُبغِضهم وأُضرهم‏.‏ وهذا قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدواً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏ أي عاملوه معاملة العدوِّ عدوَّه‏.‏ وبهذا الاعتبار جُمع بني قوله ‏{‏لكم عدوّ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاتخذوه عدوّاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والتعبير عن الأصنام بضمير جمع العقلاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإنهم‏}‏ دون ‏(‏فإنَّها‏)‏ جرْي على غالب العبارات الجارية بينهم عن الأصنام لأنهم يعتقدونها مدركة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما كنتم تعبدون‏}‏ مفرّعة على جمل كلام القوم المتضمنة عبادتهم الأصنام وأنهم مقتدون في ذلك بآبائهم‏.‏ فالفاء في ‏{‏أفرأيتم‏}‏ للتفريع وقدم عليها همزة الاستفهام اتّباعاً للاستعمال المعروف وهو صدارة أدوات الاستفهام‏.‏ وفعل الرؤية قلبي‏.‏

ومثل هذا التركيب يستعمل في التنبيه على ما يجب أن يعلم على إرادة التعجيب مما يُعلم من شأنه‏.‏ ولذلك كثر إردافه بكلام يشير إلى شيء من عجائب أحوال مفعول الرؤية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتَ الذي تولّى وأعطى قليلاً‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 33- 34‏]‏ الآية، ومنه تعقيب قوله هنا ‏{‏أفرأيتم ما كنتم تعبدون‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏‏.‏

وعطف ‏{‏آباؤكم‏}‏ على ‏{‏أنتم‏}‏ لزيادة إظهار قلة اكتراثه بتلك الأصنام مع العلم بأن الأقدمين عبدوها فتضمن ذلك إبطالَ شبهتهم في استحقاقها العبادة‏.‏

ووصف الآباء بالأقدمية إيغال في قلة الاكتراث بتقليدهم لأن عرف الأمم أن الآباء كلما تقادم عهدهم كان تقليدهم آكد‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏ للتفريع على ما اقتضته جملة‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما كنتم تعبدون‏}‏ من التعجيب من شأن عبادتهم إياها‏.‏ ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجَعْل الاستفهام تقريرياً والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي، أو فاء فصيحة بتقدير‏:‏ إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدُوّ لي‏.‏ وهذا الوجه أظهر‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا رب العالمين‏}‏ منقطع‏.‏ و‏{‏إلا‏}‏ بمعنى ‏(‏لكن‏)‏ إذا كان ربّ العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال بل فعله كبيرهم هذا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏ فهو الصنم الأعظم عندهم، وإلى قوله‏:‏ ‏{‏قال أتحاجّوني في الله وقد هدان‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏‏.‏ ويظهر أن الكلدانيين ‏(‏قوم إبراهيم‏)‏ لم يكونوا يؤمنون بالخالق الذي لا تدركه الأبصار‏.‏ وكان أعظم الآلهة عندهم هو كوكبَ الشمس والصنم الذي يمثل الشمس هو ‏(‏بعل‏)‏، فوظيفة الأصنام عندهم تدبير شؤون الناس في حياتهم‏.‏ وأما الإيجاد والإعدام فكانوا من الذين يقولون ‏{‏وما يُهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ وأن الإيجاد من أعمال التناسل وهم في غفلة عن سر تكوين تلك النظم الحيوانية وإيداعها فيها‏.‏ وقد يكونون معترفين برب عظيم خالق للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلاً لأنَّ الله من جملة معبودِيهم، أي إلا الرب الذي خلق العوالم‏.‏ وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء‏.‏ وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 82‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ‏(‏78‏)‏ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ‏(‏79‏)‏ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ‏(‏80‏)‏ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏82‏)‏‏}‏

الأظهر أن الموصول في موضع نعت ل ‏{‏ربّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏ وأنّ ‏{‏فهو يهدين‏}‏ عطف على الصلة مفرع عليه لأنه إذا كان هو الخالق فهو الأولى بتدبير مخلوقاته دون أن يتولاّها غيره‏.‏ ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ مستأنفاً به ويكون ‏{‏فهو يهدين‏}‏ خبراً عن ‏{‏الذي‏}‏‏.‏ وزيدت الفاء في الخبر لمشابهة الموصول للشرط‏.‏ وعلى الاحتمالين ففي الموصولية إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو الاستدراك بالاستثناء الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إلا رب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏، أي ذلك هو الذي أُخلصُ له لأنه خلقني كقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏فهو يهدين‏}‏ دون أن يقول‏:‏ فيهدين، لتخصيصه بأنه متولي الهداية دون غيره لأن المقام لإبطال اعتقادهم تصرف أصنامهم بالقصر الإضافي، وهو قصر قلب‏.‏ وليس الضمير ضمير فصل لأن ضمير الفصل لا يقع بعد العاطف‏.‏

والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يهدين‏}‏ لأن الهداية متجددة له‏.‏ وجعل فعل الهداية مفرّعاً بالفاء على فعل الخلق لأنه معاقب له لأن الهداية بهذا المعنى من مقتضى الخلق لأنها ناشئة عن خلق العقل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثم هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏ والمراد بالهداية الدلالة على طرق العلم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ فيكون المعنى‏:‏ الذي خلقني جسداً وعقلاً‏.‏ ومن الهداية المذكورة دفع وساوس الباطل عن العقل حتى يكون إعمال النظر معصوماً من الخطأ‏.‏

والقول في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏والذي هو يطعمني ويسقين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فهو يشفين‏}‏ كالقول في سابقهما للرد على زعمهم أن الأصنام تقدر لهم تيسير ما يأكلون وما يشربون وبها برؤهم إذا مرضوا، وليسا بضميري فصل أيضاً‏.‏

وعطف ‏{‏إذا مَرضت‏}‏ على ‏{‏يطعمني ويسقينِ‏}‏ لأنه لم يكن حين قال ذلك مريضاً فإن ‏{‏إذا‏}‏ تخلص الفعل بعدها للمستقبل، أي إذا طرأ عليّ مرض‏.‏

وفي إسناده فعل المرض إلى نفسه تأدب مع الله راعى فيه الإسناد إلى الأسباب الظاهرة في مقام الأدب، فأسند إحداث المرض إلى ذاته ولأنه المتسبب فيه، فأما قوله‏:‏ ‏{‏والذي يميتني ثم يحيين‏}‏ فلم يأت فيه بما يقتضي الحصر لأنهم لم يكونوا يزعمون أن الأصنام تميت بل عمل الأصنام قاصر على الإعانة أو الإعاقة في أعمال الناس في حياتهم‏.‏ فأما الموت فهو من فعل الدهر والطبيعة إن كانوا دهريين وإن كانوا يعلمون أن الخلق والإحياء والإماتة ليست من شؤون الأصنام وأنها من فعل الله تعالى كما يعتقد المشركون من العرب فظاهر‏.‏

وتكرير اسم المَوصول في المواضع الثلاثة مع أن مقتضى الظاهر أن تعطف الصلتان على الصلة الأولى للاهتمام بصاحب تلك الصلات الثلاث لأنها نعت عظيم لله تعالى فحقيق أن يجعل مستقلاً بدلالته‏.‏

وأطلق على رجاء المغفرة لفظ الطمع تواضعاً لله تعالى ومباعدة لنفسه عن هاجس استحقاقه المغفرة وإنما طمع في ذلك لوعد الله بذلك‏.‏

والخطيئة‏:‏ الذنب‏.‏ يقال‏:‏ خَطِئ إذا أذنب‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نغفر لكم خطاياكم‏}‏ في البقرة ‏(‏58‏)‏‏.‏ والمقصود في لسان الشرائع‏:‏ مخالفة ما أمر به الشرع‏.‏ وإذ قد كان إبراهيم حينئذ نبيئاً والأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها فالخطيئة منهم هي مخالفة مقتضى المقام النبوي‏.‏

والمغفرة‏:‏ العفو عن الخطايا، وإنما قيده بيوم الدين‏}‏ لأنه اليوم الذي يظهر فيه أثر العفو، فأما صدور العفو من الله لِمثل إبراهيم عليه السلام ففي الدنيا، وقد يغفر خطايا بعض الخاطئين يوم القيامة بعد الشفاعة‏.‏

ويوم الدين‏:‏ هو يوم الجزاء، وهذا الكلام خبر يتضمن تعريضاً بالدعاء‏.‏ وقد أشار في هذه النعوت إلى ما هو من تصرفات الله في العالم الحِسي بحيث لا يخفى عن أحد قصداً لاقتصاص إيمان المشركين إن راموا الاهتداء‏.‏

وفي تلك النعوت إشارة إلى أنها مهيئات للكمال النفساني فقد جمعت كلمات إبراهيم عليه السلام مع دلالتها على انفراد الله بالتصرف في تلك الأفعال التي هي أصل أطوار الخَلْق الجسماني دلالة أخرى على جميع أصول النعم من أول الخَلْق إلى الخَلْق الثاني وهو البعث، فذكر خَلق الجسد وخَلق العقل وإعطاءَ ما به بقاء المخلوق وهو الغذاء والماء، وما يعتري المرء من اختلال المزاج وشفائه، وذكر الموت الذي هو خاتمة الحياة الأولى، وأعقبه بذكر الحياة الثانية للإشارة إلى أن الموت حالة لا يظهر كونها نعمة إلا بغوص فكر ولكن وراءه حياة هي نعمة لا محالة لمن شاء أن تكون له نعمةً‏.‏

وحذفت ياآت المتكلم من ‏{‏يهدين، ويسقين، ويشفين، ويحيين‏}‏ لأجل التخفيف ورعاية الفاصلة لأنها يوقف عليها، وفواصل هذه السورة أكثرها بالنون الساكنة، وقد تقدم ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فأخاف أن يقتلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏ في قصة موسى المتقدمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 89‏]‏

‏{‏رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏83‏)‏ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏84‏)‏ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ‏(‏85‏)‏ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏86‏)‏ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ‏(‏87‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

لما كان آخر مقاله في الدعوة إلى الدين الحق متضمناً دعَاء بطلب المغفرة تخلص منه إلى الدعاء بما فيه جمع الكمال النفساني بالرسالة وتبليغ دعوة الخلق إلى الله فإن الحجة التي قام بها في قومه بوحي من الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏ فكان حينئذ في حال قرب من الله‏.‏ وجهر بذلك في ذلك الجمع لأنه عقب الانتهاء من أقدس واجب وهو الدعوة إلى الدين، فهو ابتهال أرجى للقبول كالدعاء عقب الصلوات وعند إفطار الصائم ودعاء يوم عرفة والدعاء عند الزحف، وكلها فراغ من عبادات‏.‏ ونظير ذلك دعاؤه عند الانتهاء من بناء أساس الكعبة المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يَرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل إلى قوله‏:‏ ‏{‏ربّنا واجعلنا مسلمين لك إلى إنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127 129‏]‏ وابتدأ بنفسه في أعمال هذا الدين كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وأنا أول المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، وكما أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏{‏وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وللأوليات في الفضائل مرتبة مرغوبة، قال سعد بن أبي وقاص «أنا أول من رمَى بسهم في سبيل الله»‏.‏ وبضد ذلك أوليات المساوئ ففي الحديث‏:‏ ‏"‏ ما من نفس تُقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها ذلك لأنه أول من سَنّ القتل ‏"‏

وقد قابل إبراهيم في دعائه النعم الخمس التي أنعم الله بها عليه المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقني فهو يهدين إلى قوله‏:‏ ‏{‏يوم الدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78 82‏]‏ الراجعة إلى مواهب حسية بسؤال خمس نعم راجعة إلى الكمال النفساني كما أومأ إليه قوله‏:‏ ‏{‏إلا من أتى الله بقلب سليم‏}‏ وأقحم بين طِلْباته سؤاله المغفرة لأبيه لأن ذلك داخل في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تخزني يوم يبعثون‏}‏‏.‏

فابتداء دعائه بأن يعطى حُكْماً‏.‏ والحكم‏:‏ هو الحكمة والنبوءة، قال تعالى عن يوسف‏:‏ ‏{‏آتيناه حكماً وعلماً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 14‏]‏ أي النبوءة، وقد كان إبراهيم حين دعا نبيئاً فلذلك كان السؤال طلباً للازدياد لأن مراتب الكمال لا حدّ لها بأن يُعطى الرسالة مع النبوءة أو يعطى شريعة مع الرسالة، أو سأل الدوام على ذلك‏.‏

ثم ارتقى فطلب إلحاقه بالصالحين‏.‏ ولفظ الصالحين يعم جميع الصالحين من الأنبياء والمرسلين، فيكون قد سأل بلوغ درجات الرسل أولي العزم نوح وهود وصالح والشهداء والصالحين فجعل الصالحين آخراً لأنه يعم، فكان تذييلاً‏.‏

ثم سأل بقاء ذكر له حسن في الأمم والأجيال الآتية من بعده‏.‏ وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته لأن الثناء عليه يستعدي دعاء الناس له والصلاة عليه والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه‏.‏

وقد جعل الله في ذريته أنبياء ورسلاً يذكرونه وتذكره الأمم التابعة لهم ويُخلد ذكره في الكُتب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ «قال مالك‏:‏ لا بأس أن يحب الرجل أن يُثنى عليه صالحاً ويُرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح»، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله‏.‏ وقد تقدم الكلام على هذا مشبعاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏74‏)‏‏.‏

واللسان مراد به الكلام من إطلاق اسم الآلة على ما يتقوم بها‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لي‏}‏ تقتضي أن الذكر الحسن لأجله فهو ذكره بخير‏.‏ وإضافة ‏{‏لسان‏}‏ إلى ‏{‏صدق‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة، ففيه مبالغة الوصف بالمصدر، أي لساناً صادقاً‏.‏

والصدق هنا كناية عن المحبوب المرغوب فيه لأنه يرغب في تحققه ووقوعه في نفس الأمر‏.‏ وسأل أن يكون من المستحقين الجنة خالداً فاستعير اسم الورثة إلى أهل الاستحقاق لأن الوارث ينتقل إليه ملك الشيء الموروث بمجرد موت المالك السابق‏.‏ ولما لم يكن للجنة مالكون تعين أن يكون الوارثون المستحقين من وقت تبَوُّؤ أهل الجنة الجنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏

وسأل المغفرة لأبيه قبل سؤال أن لا يخزيه الله يوم القيامة لأنه أراد أن لا يلحقه يومئذ شيء ينكسر منه خاطره وقد اجتهد في العمل المبلّغ لذلك واستعان الله على ذلك وما بقيت له حزازة إلا حزازة كفر أبيه فسأل المغفرة له لأنه إذا جيء بأبيه مع الضالّين لحقه انكسار ولو كان قد استجيب له بقية دعواته، فكان هذا آخر شيء تخوف منه لحاق مهانة نفسية من جهة أصله لا من جهة ذاته‏.‏ وفي الحديث أنه يؤتى بأبي إبراهيم يوم القيامة في صورة ذيح ‏(‏أي ضبَع ذكر‏)‏ فيلقَى في النار فلا يشعر به أهل الموقف فذلك إجابة قوله‏:‏ ‏{‏ولا تخزني يوم يبعثون‏}‏ أي قطعاً لما فيه شائبة الخزي‏.‏

وتقدم الكلام على معنى الخزي عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ خِزي في الحياة الدنيا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏85‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنك من تُدخل النار فقد أخزيتَه‏}‏ في آل عمران ‏(‏192‏)‏‏.‏

وضمير يبعثون‏}‏ راجع إلى العباد المعلوم من المقام‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنه كان من الضالين‏}‏ تعليل لطلب المغفرة لأبيه فيه إيماء إلى أنه سأل له مغفرة خاصة وهي مغفرة أكبر الذنوب أعني الإشراك بالله، وهو سؤال اقتضاه مقام الخُلّة وقد كان أبوه حياً حينئذ لقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حَفيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏‏.‏ ولعلّ إبراهيم علم من حال أبيه أنه لا يرجى إيمانه بما جاء به ابنه؛ أو أن الله أوحى إليه بذلك ما ترشد إليه آية

‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏ ويجوز أنه لم يتقرر في شرع إبراهيم حينئذ حرمان المشركين من المغفرة فيكون ذلك من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما تبيّن له أنه عدوّ لله تبرأ منه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون طلبُ الغفران له كناية عن سبب الغفران وهو هدايته إلى الإيمان‏.‏

و ‏{‏يوم لا ينفع مال‏}‏ الخ يظهر أنه من كلام إبراهيم عليه السلام فيكون ‏{‏يوم لا ينفع‏}‏ بدلاً من ‏{‏يوم يبعثون‏}‏ قصد به إظهار أن الالتجاء في ذلك اليوم إلى الله وحده ولا عون فيه بما اعتاده الناس في الدنيا من أسباب الدفع عن أنفسهم‏.‏

واستظهر ابن عطية‏:‏ أن الآيات التي أولها ‏{‏يوم لا ينفع مال ولا بنون‏}‏ يريد إلى قوله‏:‏ ‏{‏فنكون من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 102‏]‏ منقطعة عن كلام إبراهيم عليه السلام وهي إخبار من الله تعالى صفة لليوم الذي وقف إبراهيم عنده في دعائه أن لا يُخْزى فيه اه‏.‏ وهو استظهار رشيق فيكون‏:‏ ‏{‏يوم لا ينفع مال‏}‏ استئنافاً خبراً لمبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هو يوم لا ينفع مال ولا بنون‏.‏ وفتحة ‏{‏يومَ‏}‏ فتحة بناء لأن ‏(‏يوم‏)‏ ظرف أضيف إلى فعل معرب فيجوز إعرابه ويجوز بناؤه على الفتح، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يومَ ينفع الصادقين صدقُهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏‏.‏ ويظهر على هذا الوجه أن يكون المراد ب ‏{‏من أتى الله بقلب سليم‏}‏ الإشارةُ إلى إبراهيم عليه السلام لأن الله تعالى وصفه بمثل هذا في آية سورة الصافات ‏(‏83، 84‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإن من شِيعَتِه‏}‏ ‏(‏أي شيعة نوح‏)‏ لإبراهيمَ إذ جاء ربَّه بقلب سليم‏.‏

وفيه أيضاً تذكير قومه بأن أصنامهم لا تغني عنهم شيئاً، ونفي نفع المال صادق بنفي وجود المال يومئذ من باب «على لاحب لا يهتدى بمناره»، أي لا منارَ له فيهتَدى به، وهو استعمال عربي إذا قامت عليه القرينة‏.‏ ومن عبارات عِلم المنطق «السَّالبةُ تصدُق بنفي الموضوع»‏.‏

والاقتصار على المال والبنين في نفي النافعين جرى على غالب أحوال القبائل في دفاع أحد عن نفسه بأن يدافع إما بفدية وإما بنجدة ‏(‏وهي النصر‏)‏، فالمال وسيلة الفدية، والبنون أحق من ينصرون أباهم، ويعتبر ذلك النصر عندهم عهداً يجب الوفاء به‏.‏ قال قيس ابن الخَطِيم‏:‏

ثأَرتُ عَدِيًّا والخطيمَ ولم أُضِع *** وَلاية أشياخ جُعلت إزاءَها

واقتضى ذلك أن انتفاء نفع ما عدا المال والبنين من وسائل الدفاع حاصل بالأوْلى بحكم دلالة الاقتضاء المستندة إلى العُرف‏.‏ فالكلام من قبيل الاكتفاء، كأنه قيل‏:‏ يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا شيء آخر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من أتى الله بقلب سليم‏}‏ استثناء من مفعول ‏{‏ينفع‏}‏، أي إلاّ منفوعاً أتى الله بقلب سليم‏.‏

هذا معنى الآية وهو مفهوم للسامعين فلذلك لم يؤثَر عن أحد من سلف المفسرين عدّ هذه الآية من متشابه المعنى وإنما أعضل على خلفهم طريق استخلاص هذا المعنى المجمل من تفاصيل أجزاء تركيب الكلام‏.‏

وذكر صاحب «الكشاف» احتمالات لا يسلم شيء منها من تقدير حذففٍ، فَبِنَا أن نفصِّل وجه استفادة هذا المعنى من نظم الآية بوجه يكون أليق بتركيبها دون تكلف‏.‏

فاعلم أن فعل ‏{‏ينفع‏}‏ رافع لفاعل ومتعدّ إلى مفعول، فهو بحقِّ تعدِّيه إلى المفعول يقتضي مفعولاً، كما يصلح لأنْ تعلّقَ به متعلقات بحروف تعدية، أي حروف جر، وإن أول متعلقاته خطوراً بالذهن متعلق سبب الفعل، فيعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم‏}‏ يشير إلى فاعِل ‏{‏ينفع‏}‏ ومفعولِه وسببِه الذي يحصل به، فقوله‏:‏ ‏{‏بقلب سليم‏}‏ هو المتعلق بفعل ‏{‏أتى الله‏}‏ لأن فاعل الإتيان إلى الله هو المنفوع فهو في المعنى مفعول فعل ‏{‏ينفع‏}‏ والمتعلِّق بأحد فعلَيْه وهو فعل ‏{‏أتى‏}‏ الذي هو فاعلُه متعلِّق في المعنى بفعله الآخر وهو ‏{‏ينفع‏}‏ الذي ‏{‏من أتى الله‏}‏ مفعولُه‏.‏ فعلم أن تقدير الكلام‏:‏ يوم لا ينفع نافعٌ أو شيءٌ، أو نحو ذلك مما يفيد عموم نفي النافع، حسبما دل عليه ‏{‏مَال وبنون‏}‏ من عموم الأشياء كما قررنا‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏ينفع‏}‏ لقصد العموم كحذفه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يدعوا إلى دار السلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏ أي يدعو كل أحد، فتحصل أن التقدير‏:‏ يوم لا ينفع أحداً شيء يأتي به للدفع عن نفسه‏.‏

والمستثنى وهو ‏{‏من أتى الله بقلب سليم‏}‏ متعيّن لأن يكون استثناء من مفعول ‏{‏ينفع‏}‏ وليس مستثنى من فاعل ‏{‏ينفع‏}‏ لأن من أتى الله بقلب سليم يومئذ هو منفوع لا نافع فليس مستثنى من صريح أحدِ الاسمين السابقين قبلَه، ولا مما دلّ عليه الاسمان من المعنى الأعمّ الذي قدرناه بمعنى‏:‏ «ولا غيرهما»، فتمحض أن يكون هذا المستثنى مخرَجاً من عموم مفعول ‏{‏ينفع‏}‏‏.‏ وتقديره‏:‏ إلا أحداً أتى الله بقلب سليم، أي فهو منفوع، واستثناؤه من مفعول فعل ‏{‏ينفع‏}‏ يضطرنا إلى وجوب تقدير نافعه فاعلَ فعل ‏{‏ينفع‏}‏، أي فإنه نفعه شيء نافع‏.‏ ويُبيِّن إجماله متعلق فعل ‏{‏ينفع‏}‏ وهو ‏{‏بقلب سليم‏}‏ إذ كان القلب السليم سبب النفع فهو أحد أفراد الفاعل العام المقدر بلفظ «شيء» كما تقدم آنفاً‏.‏

فالخلاصة أن الذي يأتي الله يومئذ بقلب سليم هو منفوع بدلالة الاستثناء وهو نافع ‏(‏أي نافع نفسه‏)‏ بدلالة المجرور المتعلِّق بفعل ‏{‏أتى‏}‏، فإن القلب السليم قلبُ ذلك الشخص المنفوع فصار ذلك الشخص نافعاً ومنفوعاً باختلاف الاعتبار، وهو ضرب من التجريد‏.‏ وقريب من وقوع الفاعل مفعولاً في باب ظن في قولهم‏:‏ خلتُني ورأيْتُني، فجُعل القلب السليم سبباً يحصل به النفع، ولهذا فالاستثناء متصل مفرَّغ عن المفعول‏.‏ وقد حصل من نسج الكلام على هذا المنوال إيجازٌ مغننٍ أضعاف من الجمل المطوية‏.‏ وجَعْلُ الاستثناء منقطعاً لا يدفع الإشكال‏.‏

والقلب‏:‏ الإدراك الباطني‏.‏

والسليم‏:‏ الموصوف بقوة السلامة، والمراد بها هنا السلامة المعنوية المجازية، أي الخلوص من عقائد الشرك مما يرجع إلى معنى الزكاء النفسي‏.‏ وضدُّه المريض مرضاً مجازياً قال تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مَرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والاقتصار على السليم هنا لأن السلامة باعث الأعمال الصالحة الظاهرية وإنما تثبت للقلوب هذه السلامة في الدنيا باعتبار الخاتمة فيأتون بها سالمة يوم القيامة بين يدي ربّهم‏.‏