فصل: تفسير الآية رقم (184)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏184‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

أكد قوله في صدر خطابه ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 179‏]‏ بقوله هنا‏:‏ ‏{‏واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين‏}‏ وزاد فيه دليل استحقاقه التقوى بأن الله خلقهم وخلق الأمم من قبلهم، وباعتبار هذه الزيادة أُدخل حرف العطف على فعل ‏{‏اتقوا‏}‏ ولو كان مجرد تأكيدٍ لم يصح عطفه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقكم‏}‏ إيماء إلى نبذ اتقاء غيره من شركائهم‏.‏

و ‏{‏الجبلة‏}‏‏:‏ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام‏:‏ الخلقة، وأريد به المخلوقات لأن الجبلة اسم كالمصدر ولهذا وصف ب ‏{‏الأولين‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ أطلق الجبلة على أهلها، أي وذوي الجبلة الأولين‏.‏ والمعنى‏:‏ الذي خلقكم وخلق الأمم قبلكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 188‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏185‏)‏ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏186‏)‏ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏187‏)‏ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

نفوا رسالته عن الله كناية وتصريحاً فزعموه مسحوراً، أي مختل الإدراك والتصورات من جرّاء سحر سُلط عليه‏.‏ وذلك كناية عن بطلان أن يكون ما جاء به رسالة عن الله‏.‏ وفي صيغة ‏{‏من المسحّرين‏}‏ من المبالغة ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏من المرجومين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 116‏]‏ ‏{‏من المسحَّرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 153‏]‏ ‏{‏من المخرجين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 167‏]‏‏.‏

والإتيانُ بواو العطف في قوله‏:‏ ‏{‏وما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏ يجعل كونه بشراً إبطالاً ثانياً لرسالته‏.‏ وترك العطف في قصة ثمود يجعل كونه بشراً حجة على أن ما يصدر منه ليس وحياً على الله بل هو من تأثير كونه مسحوراً‏.‏ فمآل معنيي الآيتين متّحد ولكن طريق إفادته مختلف وذلك على حسب أسلوب الحكايتين‏.‏

وأطلق الظن على اليقين في ‏{‏وإن نظنك لمن الكاذبين‏}‏ وهو إطلاق شائع كقوله‏:‏ ‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 46‏]‏، وقرينته هنا دخول اللام على المفعول الثاني ل ‏(‏ظَنَّ‏)‏ لأن أصلها لام قسم‏.‏

و ‏{‏إنْ‏}‏ مخففة من الثقيلة، واللام في ‏{‏لَمِن الكاذبين‏}‏ اللامُ الفارقة، وحقها أن تدخل على ما أصله الخبر فيقال هنا مثلاً‏:‏ وإن أنت لَمن الكاذبين، لكن العرب توسعوا في المخففة فكثيراً ما يدخلونها على الفعل الناسخ لشدة اختصاصه بالمبتدأ والخبَر فيجتمع في الجملة حينئذ ناسخان مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كانت لكبيرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وكان أصل التركيب في مثله‏:‏ ونظنّ أنك لمن الكاذبين، فوقع تقديم وتأخير لأجل تصدير حرف التوكيد لأن ‏(‏إنّ‏)‏ وأخواتها لها صدر الكلام ما عدا ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة‏.‏ وأحسب أنهم ما يخفّفون ‏(‏إنّ‏)‏ إلا عند إرادة الجمع بينها وبين فعل من النواسخ على طريقة التنازع، فالذي يقول‏:‏ إنْ أظنك لخائفاً، أراد أن يقول‏:‏ أظن إنَّك لخائف، فقدم ‏(‏إنَّ‏)‏ وخففها وصيّر خبرها مفعولاً لفعل الظن، فصار‏:‏ إنْ أظنّك لخائفاً، والكوفيون يجعلون ‏{‏إنْ‏}‏ في مثل هذا الموقع حرف نفي ويجعلون اللام بمعنى ‏(‏إلاَّ‏)‏‏.‏

والآمر في ‏{‏فأسقط‏}‏ أمر تعجيز‏.‏

والكِسْف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة من عدا حفصاً‏:‏ القطعة من الشيء‏.‏ وقال في «الكشاف»‏:‏ هو جمع كِسْفة مثل قِطْع وسِدْر‏.‏ والأول أظهر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقرأ حفص ‏{‏كِسَفاً‏}‏ بكسر الكاف وفتح السين على أنه جمع كسف كما في قوله‏:‏ ‏{‏أو تُسْقِطَ السماء كما زعمت علينا كِسَفاً‏}‏، وقد تقدم في سورة الإسراء ‏(‏92‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ إن كنتَ من الصادقين‏}‏ كقول ثمود‏:‏ ‏{‏فأتتِ بآية إنْ كنتَ من الصادقين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 154‏]‏ إلا أنّ هؤلاء عينوا الآية فيحتمل أن تعيينها اقتراح منهم، ويحتمل أن شعيباً أنذرهم بكِسف يأتي فيه عذاب‏.‏ وذلك هو يوم الظّلّة المذكور في هذه الآية، فكان جواب شعيب بإسناد العلم إلى الله فهو العالم بما يستحقونه من العذاب ومقداره‏.‏ و‏{‏أعلم‏}‏ هنا مبالغة في العالم وليس هو بتفضيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏189‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏189‏)‏‏}‏

‏{‏الظُّلة‏}‏‏:‏ السحابة، كانت فيها صواعق متتابعة أصابتهم فأهلكتهم كما تقدم في سورة الأعراف‏.‏ وقد كان العذاب من جنس ما سألوه، ومن إسقاط شيء من السماء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فكذبوه‏}‏ الفاء فصيحة، أي فتبين من قولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت من المسحرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 185‏]‏ أنهم كذبوه، أي تبين التكذيب والثبات عليه بما دلّ عليه ما قصدوه من تعجيزه إذ قالوا‏:‏ ‏{‏فأسْقط علينا كِسْفاً من السماء إن كنت من الصادقين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 187‏]‏‏.‏ وفي إعادة فعل التكذيب إيقاظ للمشركين بأن حالهم كحال أصحاب شعيب فيوشك أن يكون عقابهم كذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 191‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏190‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏191‏)‏‏}‏

أي في ذلك آية لكفار قريش إذ كان حالهم كحال أصحاب لَيْكة فقد كانوا من المطففين مع الإشراك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ليوم عظيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1 5‏]‏‏.‏ وقد تقدم القول في نظائره‏.‏ وقد ذكرنا في طالعة هذه السورة ‏(‏8‏)‏ وجه تكرير آية ‏{‏إن في ذلك لآية‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 195‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏192‏)‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ‏(‏193‏)‏ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏194‏)‏ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ‏(‏195‏)‏‏}‏

عود إلى ما افتتحت به السورة من التنويه بالقرآن وكونه الآية العظمى بما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 2‏]‏ كما تقدم لتختتم السورة بإطناب التنويه بالقرآن كما ابتُدئت بإجمال التنويه به، والتنبيه على أنه أعظم آية اختارها الله أن تكون معجزةً أفضل المرسلين‏.‏ فضمير ‏{‏وإنه‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام بعد ذكر آيات الرسل الأولين‏.‏ فبواو العطف اتصلت الجملة بالجمل التي قبلها، وبضمير القرآن اتصل غرضها بغرض صدر السورة‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين‏}‏ معطوفة على الجمل التي قبلها المحكية فيها أخبار الرسل المماثلة أحوالُ أقوامهم لحال قوم محمد صلى الله عليه وسلم وما أيدهم الله به من الآيات ليعلم أن القرآن هو آية الله لهذه الأمة، فعطفها على الجمل التي مثلها عطف القصة على القصة لتلك المناسبة‏.‏ ولكن هذه الجملة متصلة في المعنى بجملة‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب المبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 2‏]‏ بحيث لولا ما فصل بينها وبين الأخرى من طول الكلام لكانت معطوفة عليها‏.‏ ووُجه الخطابُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن في التنويه بالقرآن تسلية له على ما يلاقيه من إعراض الكافرين عن قبوله وطاعتهم فيه‏.‏

والتأكيد ب ‏(‏إنَّ‏)‏ ولاَم الابتداء لرد إنكار المنكرين‏.‏

والتنزيل مصدر بمعنى المفعول للمبالغة في الوصف حتى كأنَّ المنزَّلَ نفسُ التنزيل‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين‏}‏ بيان ل ‏{‏تنزيل رب العالمين‏}‏، أي كان تنزيله على هذه الكيفية‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمَرو وحفص وأبو جعفر بتخفيف زاي ‏{‏نزل‏}‏ ورفع ‏{‏الروحُ‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف ‏{‏نَزَّل‏}‏ بتشديد الزاي ونصب ‏{‏الروح الأمينَ‏}‏، أي نزلّه الله به‏.‏

و ‏{‏الروح الأمين‏}‏ جبريل وهو لقبه في القرآن، سمّي رُوحاً لأن الملائكة من عالم الروحانيات وهي المجردات‏.‏ وتقدم الكلام على الروح في سورة الإسراء، وتقدم ‏{‏روح القدس‏}‏ في البقرة ‏(‏87‏)‏‏.‏ ونزول جبريل إذنُ الله تعالى، فنزولُه تنزيل من رب العالمين‏.‏

والأمين‏}‏ صفة جبريل لأن الله أمنه على وحيه‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏نزل به‏}‏ للمصاحبة‏.‏

والقلب‏:‏ يطلق على ما به قبول المعلومات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏ أي إدراك وعقل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على قلبك‏}‏ يتعلق بفعل ‏{‏نزل‏}‏، و‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي لأن النزول وصول من مكان عال فهو مقتض استقرار النازل على مكان‏.‏

ومعنى نزول جبريل على قلب النبي عليهما السلام‏:‏ اتصاله بقوة إدراك النبي لإلقاء الوحي الإلهي في قوَّته المتلقّية للكلام الموحى بألفاظه، ففعل ‏(‏نزل‏)‏ حقيقة‏.‏

وحرف ‏{‏على‏}‏ مستعار للدلالة على التمكن مما سمي بقلب النبي مثل استعارته في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقد وصَف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما في حديث «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله كيف يأتيك الوحي‏؟‏ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

«أحياناً يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيَفْصِمُ عني وقد وَعَيتُ عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملَك رجلاً فيكلمني فأعِي ما يقول»

وهذان الوصفان خاصّان بوحي نزول القرآن‏.‏ وثمة وحي من قبيل إبلاغ المعنى وسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر نفْثاً‏.‏ فقال‏:‏ «إن روح القدس نَفَث في رُوعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي أجلها» فهذا اللفظ ليس من القرآن فهو وحي بالمعنى ‏[‏والروع‏:‏ العقل‏]‏ وقد يكون الوحي في رؤيا النوم فإن النبي لا ينام قلبه، ويكون أيضاً بسماع كلام الله من وراء حجاب، وقد بيّنا في شرح الحديث النكتة في اختصاص إحدى الحالتين ببعض الأوقات‏.‏

وأشعر قوله‏:‏ ‏{‏على قلبك‏}‏ أن القرآن أُلقيَ في قلبه بألفاظه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنت تتْلُو مِن قبله من كتاب‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏لتكون من المنذرين‏}‏ لتكون من الرسل‏.‏ واختير من أفعاله النذارة لأنها أخص بغرض السورة فإنها افتتحت بذكر إعراضهم وبإنذارهم‏.‏

وفي‏:‏ ‏{‏من المنذرين‏}‏ من المبالغة في تمكن وصف الرسالة منه ما تقدم غيرَ مرة في مثل هذه الصيغة في هذه القصص وغيرها‏.‏ و‏{‏بلسان‏}‏ حال من الضمير المجرور في ‏{‏نزل به الروح الأمين‏}‏‏.‏

والباء للملابسة‏.‏ واللسان‏:‏ اللغة، أي نزل بالقرآن ملابساً للغة عربية مبينة أي كائناً القرآن بلغة عربية‏.‏

والمبين‏:‏ الموضِّح الدلالة على المعاني التي يعنيها المتكلم، فإن لغة العرب أفصح اللغات وأوسعها لاحتمال المعاني الدقيقة الشريفة مع الاختصار، فإن ما في أساليب نظم كلام العرب من علامات الإعراب، والتقديم والتأخير، وغير ذلك، والحقيقة والمجاز والكناية، وما في سعة اللغة من الترادف، وأسماء المعاني المقيّدة، وما فيها من المحسنات، ما يلج بالمعاني إلى العقول سهلةً متمكنة، فقدّر الله تعالى هذه اللغة أن تكون هي لغة كتابه الذي خاطب به كافة الناس، فأنزل بادئ ذي بدء بين العرب أهل ذلك اللسان ومقاويل البيان ثم جعل منهم حمَلتَه إلى الأمم تترجم معانيَه فصاحتُهم وبيانُهم، ويتلقى أساليبَه الشادون منهم وولدانُهم، حين أصبحوا أمة واحدة يقوم باتحاد الدين واللغة كيانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 197‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏196‏)‏ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏197‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192‏]‏، والضمير للقرآن كضمير ‏{‏وإنه لتنزيل رب العالمين‏}‏‏.‏ وهذا تنويه آخر بالقرآن بأنه تصدقه كتب الأنبياء الأولين بموافقتها لما فيه وخاصة في أخباره عن الأمم وأنبيائها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في زبر الأولين‏}‏ أي كتب الرسل السالفين، أي أن القرآن كائن في كتب الأنبياء السالفين مثل التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء التي نعلمها إجمالاً‏.‏ ومعلوم أن ضمير القرآن لا يراد به ذات القرآن، أي ألفاظه المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم إذ ليست سور القرآن وآياته مسطورة في زبر الأولين بلفظها كله فتعين أن يكون الضمير للقرآن باعتبار اسمه ووصفه الخاص أو باعتبار معانيه‏.‏ فأما الاعتبار الأوّل فالضمير مؤول بالعَود إلى اسم القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، أي يجدون اسمه ووصفه الذي يُعيِّنه‏.‏ فالمعنى أن ذكر القرآن وارد في كتب الأولين، أي جاءت بشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول يجيء بكتاب‏.‏ ففي سفر التثنية من كتب موسى عليه السلام في الإصحاح الثامن عشر قول موسى‏:‏ «قال لي الرب‏:‏ أقيم لهم نبيئاً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» إذ لا شك أن إخوة بني إسرائيل هم العرب كما ورد في سفر التكوين في الإصحاح السادس عشر عند ذكر الحمل بإسماعيل «وأمام جميع إخوته يسكن» أي لا يسكن معهم ولكن قُبالتهم‏.‏ ولم يأت نبيء بوحي مثل موسى بشرع كشرع موسى غير محمد صلى الله عليه وسلم وكلام الله المجعول في فمه هو القرآن الموحَى به إليه وهو يتلوه‏.‏

وفي إنجيل متَّى الإصحاح الرابع والعشرين قال عيسى عليه السلام‏:‏ «ويقومُ أنبياء كذَبةٌ كثيرون ويُضلون كثيراً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ولكن الذي يَصبر إلى المنتهَى ‏(‏أي يدوم إلى آخر الدهر أي دينه إذ لا خلود للأشخاص‏)‏ فهذا يخلص ويكْرَز ‏(‏أي يدعو‏)‏ ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة ‏(‏أي الأرض المأهولة‏)‏ شهادةً لجميع الأمم ‏(‏رسالة عامة‏)‏ ثم يأتي المنتهى ‏(‏أي نهاية العالم‏)‏»‏.‏

فالبشارة هي الوحي وهو القرآن وهو الكتاب الذي دعا جميع الأمم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أنزلناه إليك لتُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وفي إنجيل يوحنا قول المسيح الإصحاح الرابع عشر‏:‏ «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزياً ‏(‏أي رسولاً‏)‏ آخرَ ليمكث معكم إلى الأبد ‏(‏هذا هو دوام الشريعة‏)‏ روحُ الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله ‏(‏إشارة إلى تكذيب المكذبين‏)‏ لأنه لا يراه ولا يعرفه»‏.‏ ثم قال‏:‏ «وأما المعزي الروحُ القدس الذي سيُرسله الأبُ باسمي ‏(‏أي بوصف الرسالة‏)‏ فهو يُعلمكم كلَّ شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم ‏(‏وهذا التعليم لكل شيء هو القرآن ما فرطنا في الكتاب من شيء‏)‏»‏.‏

وأما الاعتبار الثاني فالضمير مؤوّل بمعنى مسماه كقولهم‏:‏ عندي درهم ونصفه، أي نصف مسمى درهم فكما يطلق اسم الشيء على معناه نحو ‏{‏إليه يصعد الكلم الطيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واذكر في الكتاب إبراهيم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 41‏]‏ أي أحواله، كذلك يطلق ضمير الاسم على معناه، فالمعنَى‏:‏ أن ما جاء به القرآن موجود في كتب الأولين‏.‏ وهذا كقول الإنجيل آنفاً «ويذكّركم بكل ما قلته لكم»، ولا تجد شيئاً من كلام المسيح عليه السلام المسطور في الأناجيل غير المحرف عنه إلا وهو مذكور في القرآن، فيكون الضمير باعتبار بعضه كقوله‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ الآية‏.‏

والمقصود‏:‏ أن ذلك آية على صدق أنه من عند الله‏.‏ وهذا معنى كون القرآن مصدِّقاً لما بين يديه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل‏}‏ تنويه ثالث بالقرآن وحجة على التنويه الثاني به الذي هو شهادة كتب الأنبياء له بالصدق، بأن علماء بني إسرائيل يعلمون ما في القرآن مما يختص بعلمهم، فباعتبار كون هذه الجملة تنويهاً آخر بالقرآن عطفت على الجملة التي قبلها ولولا ذلك لكان مقتضى كونها حجة على صدق القرآن أن لا تعطف‏.‏

وفعل‏:‏ ‏{‏يعلمه‏}‏ شامل للعلم بصفة القرآن، أي تحقق صدق الصفات الموصوف بها من جاء به، وشامل للعلم بما يتضمنه ما في كتبهم‏.‏

وضمير ‏{‏أن يعلمه‏}‏ عائد إلى القرآن على تقدير‏:‏ أن يعلم ذكره‏.‏ ويجوز أن يعود على الحكم المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وإنه لفي زبر الأولين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏198- 199‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ‏(‏198‏)‏ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏199‏)‏‏}‏

كان من جملة مطاعن المشركين في القرآن أنه ليس من عند الله، ويقولون‏:‏ تقوله محمد من عند نفسه، وقالوا ‏{‏أساطير الأولين اكتتبها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ فدمغهم الله بأن تحدّاهم بالإتيان بمثله فعجزوا‏.‏

وقد أظهر الله بهتانهم في هذه الآية بأنهم إنما قالوا ذلك حيث جاءهم بالقرآن رسول عربي، وأنه لو جاءهم بهذا القرآن رسول أعجمي لا يعرف العربية بأن أوحى الله بهذه الألفاظ إلى رسول لا يفهمها ولا يحسن تأليفها فقرأه عليهم، وفي قراءته وهو لا يحسن اللغة أيضاً خارق عادة؛ لو كان ذلك لما آمنوا بأنه رسول مع أن ذلك خارق للعادة فزيادة قوله‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ زيادة بيان في خرق العادة‏.‏ يعني أن المشركين لا يريدون مما يلقونه من المطاعن البحث عن الحق ولكنهم أصروا على التكذيب وطفقوا يتحملون أعذاراً لتكذيبهم جحوداً للحق وتستراً من اللائمين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولو نزلناه على بعض الأعجمين‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك إلى قوله‏:‏ ‏{‏بلسان عربي مبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193 195‏]‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏على قلبك‏}‏ أفاد أنه أوتيه من عند الله وأنه ليس من قول النبي لا كما يقول المشركون‏:‏ تَقَوَّله، كما أشرنا إليه آنفاً‏.‏

فلما فرغ من الاستدلال بتعجيزهم فضح نياتهم بأنهم لا يؤمنون به في كل حال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏‏.‏

و ‏{‏الأعجمين‏}‏ جمع أعجم‏.‏ والأعجم‏:‏ الشديد العُجمة، أي لا يحسن كلمة بالعربية، وهو هنا مرادف أعجمي بياء النسب فيصح في جمعه على أعجمين اعتبارُ أنه لا حذف فيه باعتبار جمع أعجم كما قال حميد بن ثور يصف حمامة‏:‏

ولم أر مثلي شاقه لفظ مثلها *** ولا عربياً شاقه لفظُ أعجما

ويصح اعتبار حذف ياء النسب للتخفيف‏.‏ وأصله‏:‏ الأعجميين كما في الشعر المنسوب إلى أبي طالب‏:‏

وحيثُ ينيخ الأشْعَرُون رِحالهم *** بملقَى السيول بين سَاففٍ ونائل

أي الأشعريون، وعلى هذين الاعتبارين يحمل قول النابغة‏:‏

فعودا له غسان يرجون أَوْبَهُ *** وترك ورهط الأعْجمين وكابُل

تفسير الآيات رقم ‏[‏200- 203‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏200‏)‏ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏201‏)‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏202‏)‏ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

تقدم نظير أول هذه الآية في سورة الحجر ‏(‏12‏)‏، إلاّ أن آية الحجر قيل فيها‏:‏ ‏{‏كذلك نسلكه‏}‏ وفي هذه الآية قيل سلكناه‏}‏، والمعنى في الآيتين واحد، والمقصود منهما واحد، فوجه اختيار المضارع في آية الحِجر أنه دال على التجدد لئلا يتوهم أن المقصود إبلاغٌ مضى وهو الذي أبلغ لشيع الأولين لتقدم ذكرهم فيتوَهَّم أنهم المراد بالمجرمين مع أن المراد كفار قريش‏.‏ وأما هذه الآية فلم يتقدم فيها ذكر لغير كفار قريش فناسبها حكاية وقوع هذا الإبلاغ منذ زمن مضَى‏.‏ وهم مستمرون على عدم الإيمان‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كذلك سلكناه‏}‏ إلخ مستأنفة بيانيَّة، أي إن سألت عن استمرار تكذيبهم بالقرآن في حين أنه نزل بلسان عربي مبين فلا تعجَب فكذلك السلوككِ سلكناه في قلوب المشركين؛ فهو تشبيه للسلوك المأخوذ من ‏{‏سلكناه‏}‏ بنفسه لغرابته‏.‏ وهذا نظير ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏، أي هو سلوك لا يشبهه سلوك وهو أنه دخل قلوبهم بإبانته وعَرفوا دلائل صدقه من أخبار علماء بني إسرائيل ومع ذلك لم يؤمنوا به‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏سلكناه‏}‏ أدخلناه، قال الأعشى‏:‏

كما سَلَكَ السَّكِّيَّ في الباب فَيْتَقُ *** وعبّر عن المشركين ب ‏{‏المجرمين‏}‏ لأن كفرهم بعد نزول القرآن إجرام‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون به‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏المجرمين‏}‏‏.‏

والغاية في ‏{‏حتى يروا العذاب‏}‏ تهديد بعذاب سيحلّ بهم، وحث على المبادرة بالإيمان قبل أن يحل بهم العذاب‏.‏ والعذاب صادق بعذاب الآخرة لمن هلكوا قبل حلول عذاب الدنيا، وصادق بعذاب السيف يومَ بدر، ومعلوم أنه ‏{‏لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فيأتيهم بغتة‏}‏ صالح للعذابين‏:‏ عذاب الآخرة يأتي عقب الموت والموت يحصل بغتة، وعذاببِ الدنيا بالسيف يحصل بغتة حين الضرب بالسيف‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فيأتيهم‏}‏ عاطفة لفعل ‏{‏يأتيهم‏}‏ على فعل ‏{‏يروا‏}‏ كما دل عليه نصب ‏{‏يأتيهَم‏}‏ وذلك ما يستلزمه معنى العطف من إفادة التعقيب فيثير إشكالاً بأن إتيان العذاب لا يكون بعد رؤيتهم إياه بل هما حاصلان مقترنين فتعيّن تأويل معنى الآية‏.‏ وقد حاول صاحب «الكشاف» والكاتبون عليه تأويلها بما لا تطمئن له النفس‏.‏

والوجه عندي في تأويلها أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏فيأتيهم بغتة‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏يروا العذاب الأليم‏}‏ وأدخلت الفاء فيها لبيان صورة الاشتمال، أي أن رؤية العذاب مشتملة على حصوله بغتة، أي يرونه دفعة دون سبق أشراطٍ له‏.‏

أما الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فيقولوا‏}‏ فهي لإفادة التعقيب في الوجود وهو صادق بأسرع تعذيب فتكون خطرة في نفوسهم قبل أن يهلكوا في الدنيا، أو يقولون ذلك ويرددونه يوم القيامة حين يرون العذاب وحين يُلقون فيه‏.‏

و ‏{‏هل‏}‏ مستعملة في استفهام مراد به التمني مجازاً‏.‏ وجيء بعدها بالجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي تمنوا إنظاراً طويلاً يتمكنون فيه من الإيمان والعمل الصالح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 207‏]‏

‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏204‏)‏ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ‏(‏205‏)‏ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏206‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ‏(‏207‏)‏‏}‏

‏(‏204 207‏)‏ ‏{‏لله لله لله للهمُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا‏}‏‏.‏

نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏فيَأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 202‏]‏ تقدير جواب عن تكرر سؤالهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏، حيث جعلوا تأخر حصول العذاب دليلاً على انتفاء وقوعه، فأُعقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏‏.‏ فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏ تفيد تعقيب الاستفهام عقب تكرر قولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ ونحوِه‏.‏ والاستفهام مستعمل في التعجيب من غرورهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أيستعجلون بعذابنا فما تأخيره إلا تمتيع لهم‏.‏ وكانوا يستهزئون فيقولون‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏، ويستعجلون بالعذاب ‏{‏وقالوا ربنا عجّل لنا قطنا قبل يوم الحساب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ قال المشركون للنبيء صلى الله عليه وسلم يا محمد إلى متى تعِدُنا بالعذاب ولا تأتي به، فنزلت ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏‏.‏

وتقديم «بعذابنا» للرعاية على الفاصلة وللاهتمام به في مقام الإنذار، أي ليس شأن مثله أن يستعجل لفظاعته‏.‏

ولما كان استعجالهم بالعذاب مقتضياً أنهم في مُهلة منه ومتعة بالسلامة وأن ذلك يغرهم بأنهم في منجاة من الوعيد الذي جاءهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جابههم بجملة‏:‏ ‏{‏أفرأيت إن متعناهم سنين‏}‏‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أفرأيت إن متعناهم‏}‏ للتقرير‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما أغنى عنهم‏}‏ استفهامية وهو استفهام مستعمل في الإنكار، أي لم يغن عنهم شيئاً‏.‏ والرؤية في ‏{‏أفرأيت‏}‏ قلبية، أي أفعلمت‏.‏ والخطاب لغير معين يعمّ كل مخاطب حتى المجرمين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن متّعناهم سنين‏}‏ معترضة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سدّ مسدّ مفعولي ‏(‏رأيت‏)‏‏.‏ و‏{‏ثم جاءهم‏}‏ معطوف على جملة الشرط المعترضة، و‏{‏ثم‏}‏ فيه للترتيب والمهلة، أي جاءهم بعد سنين‏.‏ وفيه رمز إلى أن العذاب جائيهم وحالّ بهم لا محالة‏.‏ و‏{‏ما كانوا يوعدون‏}‏ موصول وصلته‏.‏ والعائد محذوف تقديره‏:‏ يوعدونه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ما أغنى عنهم‏}‏ سادة مسدّ مفعولي ‏(‏رأيتَ‏)‏ لأنه معلَّق عن العمل بسبب الاستفهام بعده‏.‏ و‏{‏ما كانوا يمتعون‏}‏ موصول وصلتُه‏.‏ والعائد محذوف تقديره‏:‏ يمتعونه‏.‏

والمعنى‏:‏ أعلمتَ أن تمتيعهم بالسلامة وتأخير العذاب إن فرض امتدادُه سنين عديدة غير مغن عنهم شيئاً إن جاءهم العذاب بعد ذلك‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أخَّرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولُنّ ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 8‏]‏، وذلك أن الأمور بالخواتيم‏.‏ في «تفسير القرطبي»‏:‏ روى ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يُمَتّعون‏}‏ ثم يبكي ويقول‏:‏

نهارك يا مغرور سهو وغفلة *** وليلك نوم والردى لك لازم

فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم *** ولا أنت في النّوّام ناج فسالم

تُسرّ بما يفنى وتفرح بالمنى *** كما سُرّ باللذات في النوم حالم

وتسعى إلى ما سوف تكره غبّه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم

ولم أقف على صاحب هذه الأبيات قال ابن عطية‏:‏ ولأبي جعفر المنصور قصة في هذه الآية‏.‏ ولعل ما روُي عن عمر بن عبد العزيز رُوي مثيله عن المنصور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏208‏]‏

‏{‏وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ‏(‏208‏)‏‏}‏

تذكير لقريش بأن القرى التي أهلكها الله والتي تقدم ذكرها في هذه السورة قد كان لها رسل ينذرونها عذاب الله ليقيسوا حالتهم على أحوال الأمم التي قبلهم‏.‏

والاستثناء من أحوال محذوفة‏.‏ والتقدير‏:‏ وما أهلكنا من قرية في حال من الأحوال إلا في حال لها منذرون‏.‏ وعُرّيت جملة الحال عن الواو استغناء عن الواو بحرف الاستثناء، ولو ذكرت الواو لجاز كقوله في سورة الحجر ‏(‏4‏)‏ ‏{‏إلا ولها كتاب معلوم‏}‏ وعبّر عن الرسل بصفة الإنذار لأنه المناسب للتهديد بالإهلاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏209‏]‏

‏{‏ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏209‏)‏‏}‏

أي هذه ذكرى، فذكرى في موضع رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف دلت عليه قرينة السياق كقوله تعالى في سورة الأحقاف ‏(‏35‏)‏ ‏{‏بَلاَغ‏}‏ أي هذا بلاغ، وفي سورة إبراهيم ‏(‏52‏)‏ ‏{‏هذا بلاغ للناس‏}‏ وفي سورة ص ‏(‏49‏)‏ ‏{‏هَذا ذِكْر‏}‏ والمعنى‏:‏ هذه ذكرى لكم يا معشر قريش‏.‏ وهذا المعنى هو أحسن الوجوه في موقع قوله‏:‏ ‏{‏ذكرى‏}‏ وهو قول أبي إسحاق الزجاج والفراء وإن اختلفا في تقدير المحذوف قال ابن الأنباري‏:‏ قال بعض المفسرين‏:‏ ليس في الشعراء وقف تام إلاّ قوله‏:‏ ‏{‏إلا لها منذرون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 208‏]‏‏.‏

وقد تردد الزمخشري في موقع قوله‏:‏ ‏{‏ذكرى‏}‏ بوجوه جعلها جميعاً على اعتبار قوله‏:‏ ‏{‏ذكرى‏}‏ تكملة للكلام السابق وهي غير خلية عن تكلف‏.‏ والذكرى‏:‏ اسم مصدر ذَكَّر‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما كنا ظالمين‏}‏ يجوز أن تكون معطوفة على ‏{‏ذكرى‏}‏ أي نذكّركم ولا نظلم، وأن تكون حالاً من الضمير المستتر في ‏{‏ذكرى‏}‏ لأنه كالمصدر يقتضي مسنداً إليه، وعلى الوجهين فمفاد ‏{‏وما كنا ظالمين‏}‏ الإعذار لكفار قريش والإنذار بأنهم سيحلّ بهم هلاك‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏ظالمين‏}‏ لقصد تعميمه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يظلم ربك أحداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏210- 212‏]‏

‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ‏(‏210‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏211‏)‏ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ‏(‏212‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وإنه لتنزيل ربّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192‏]‏ وما بينهما اعتراض استدعاه تناسب المعاني وأخذُ بعضها بحُجز بعض تفنناً في الغرض‏.‏ وهذا رد على قولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو كاهن قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذكّر فما أنت بنعمت ربّك بكاهن ولا مجنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏، وزعمهم أن الذي يأتيه شيطان؛ فقد قالت العوراء بنت حرب امرأةُ أبي لهب لما تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل ليلتين لِمرض‏:‏ أرجو أن يكون شيطانك قد تركك‏.‏ ولذلك كان من جملة ما راجعهم به الوليد بن المغيرة حين شاوره المشركون فيما يصفون النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ نقول‏:‏ كلامه كلام كاهن، فقال‏:‏ والله ما هو بزمزمته‏.‏ وكلام الكهان في مزاعمهم من إلقاء الجن إليهم وإنما هي خواطر نفوسهم ينسبونها إلى شياطينهم المزعومة‏.‏ نُفي عن القرآن أن يكون من ذلك القبيل، أي الكهان لا يجيش في نفوسهم كلام مثل القرآن فما كان لشياطين الكهان أن يفيضوا على نفوس أوليائهم مثلَ هذا القرآن‏.‏ فالكهانة من كذب الكهان وتمويههم، وأخبار الكهان كلها أقاصيص وسَّعها الناقلون‏.‏

فالتعريف في ‏{‏السمع‏}‏ للعهد وهو ما يعتقده العرب من أن الشياطين تسترق السمع، أي تتحيّل على الاتصال بعلم ما يجري في الملإ الأعلى‏.‏ ذلك أن الكهان كانوا يزعمون أن الجن تأتيهم بأخبار ما يقدّر في الملأ الأعلى مما سيظهر حدوثه في العالم الأرضي، فلذلك نُفي هنا تنزُّلُ الشياطين بكلام القرآن بناء على أن المشركين يزعمون أن الشياطين تنزل من السماء بأخبار ما سيكون‏.‏ وبيان ذلك تقدم في سورة الحجر ويأتي في سورة الصافات‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏وما ينبغي لهم‏}‏ ما يستقيم وما يصح، أي لا يستقيم لهم تلقي كلام الله تعالى الذي الشأن أن يتلقاه الروح الأمين، وما يستطيعون تلقيه لأن النفوس الشيطانية ظلمانية خبيثة بالذات فلا تقبل الانتقاش بصورِ ما يجري في عالم الغيب، فإن قبول فيضان الحق مشروط بالمناسبة بين المبدأ والقابل‏.‏

فضمير ‏{‏ينبغي‏}‏ عائد إلى ما عاد عليه ضمير ‏{‏به‏}‏، أي ما ينبغي القرآن لهم، أي ما ينبغي أن ينزلوا به كما زعم المشركون‏.‏ ومفعول ‏{‏يستطيعون‏}‏ محذوف، أي ما يستطيعونه‏.‏ وأعيدت الضمائر بصيغة العقلاء بعد أن أضمر لهم بضمير غير العقلاء في قوله‏:‏ ‏{‏وما تنزلت‏}‏ اعتباراً بملابسة ذلك للكهان‏.‏ وقد تقدم في سورة الحجر أن صنفاً من الشياطين يتهيّأ للتلقي بما يسمَّى استراق السمع وأنه يصرف عنه بالشُّهب‏.‏ واستؤنف ب ‏{‏إنهم عن السمع لمعزولون‏}‏ فكان ذلك كالفذلكة لما قبله وهو بعمومه يتنزل منزلة التذييل‏.‏

والمعزول‏:‏ المبعد عن أمر فهو في عُزلة عنه‏.‏ وفي هذا إبطال للكهانة من أصلها وهي وإن كانت فيها شيء من الاتصال بالقوى الروحية في سالف الزمان فقد زال ذلك منذ ظهور الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ‏(‏213‏)‏‏}‏

لما وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏{‏نَزَل به الروح الأمين على قلبك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏ إلى هنا، في آيات أشادت بنزول القرآن من عند الله تعالى وحققت صدقه بأنه مذكور في كتب الأنبياء السالفين وشهد به علماء بني إسرائيل، وأنحى على المشركين بإبطال ما ألصقوه بالقرآن من بهتانهم، لا جرم اقتضى ذلك ثبوت ما جاء به القرآن‏.‏ وأصل ذلك هو إبطال دين الشرك الذي تقلدته قريش وغيرها وناضلت عليه بالأكاذيب؛ فناسب أن يتفرع عليه النهي عن الإشراك بالله والتحذير منه‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏فلا تدع مع الله إلها آخر‏}‏ خطاب لغير معيّن فيعمّ كل من يسمع هذا الكلام، ويجوز أن يكون الخطاب موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله تعالى فللاهتمام بهذا النهي وقع توجيهه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع تحقق أنه منته عن ذلك، فتعين أن يكون النهي للذين هم متلبسون بالإشراك، ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت لَيَحْبَطَنَّ عملُك ولتكونَنّ من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ والمقصود من مثل ذلك الخطاب غيره ممن يبلغه الخطاب‏.‏

فالمعنى‏:‏ فلا تدعوا مع الله إلهاً آخر فتكونوا من المعذبين‏.‏ وفي هذا تعريض بالمشركين أنهم سيعذبون للعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير مشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏(‏214‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193- 194‏]‏، فهو تخصيص بعد تعميم للاهتمام بهذا الخاص‏.‏ ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته‏.‏ ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ندائه لهم‏:‏ ‏"‏ لا أغني عنكم من الله شيئاً ‏"‏، وأن فيه تعريضاً بقلة رعي كثير منهم حق القرابة إذ آذاه كثير منهم وعصَوْه مثل أبي لهب فلا يحسبوا أنهم ناجون في الحالتين وأن يعلموا أنهم لا يكتفَى من مؤمنهم بإيمانه حتى يضم إليه العمل الصالح؛ فهذا مما يدخل في النذارة، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قرابتَه مؤمنين وكافرين‏.‏

ففي حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في «صحيحي البخاري ومسلم» يجمعها قولهم‏:‏ «لمّا نزلت ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ قام رسول الله على الصَّفا فدعا قريشاً فجعل ينادي‏:‏ يا بني فهر يا بني عديّ، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فقال‏:‏ يا معشر قريش، فعَمَّ وخص، يا بني كعب بننِ لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرَّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، اشتروا أنفسكم من الله لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أغني عنككِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئتتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً، غيرَ أنَّ لكم رَحِماً سأبُلُّها ببلاَلها» وكانت صفية وفاطمة من المؤمنين وكان إنذارهما إعمالاً لفعل الأمر في معانيه كلها من الدعوة إلى الإيمان وإلى صالح الأعمال؛ فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإنذار من الشرك والإنذار من المعاصي لأنه أنذر صفية وفاطمة وكانتا مسلمتين‏.‏

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ صعد النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي‏:‏ يا بني فهر يا بني عديّ، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال‏:‏ أرأيتكُم لو أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدّقِيَّ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً‏.‏

قال‏:‏ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏.‏ فقال أبو لهب‏:‏ تبّاً لك سائرَ اليوم ألهذا جمعتنا‏؟‏ فنزلت ‏{‏تبت يَدا أبي لهب وتبَّ ما أغنى عنه ماله وما كسب‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1- 2‏]‏‏.‏

وهذا الحديث يقتضي أن سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب مع أن سورة أبي لهب عُدّت السادسة في عداد نزول السور، وسورة الشعراء عُدّت السابعة والأربعين‏.‏ فالظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ نزل قبل سورة الشعراء مفرداً، فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عباس في «صحيح مسلم»‏:‏ لمّا نزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطَك منهم المخلصين» وأن ذلك نسخ‏.‏ فلعل الآية نزلت أول مرة ثم نسخت تلاوتها ثم أعيد نزول بعضها في جملة بسورة الشعراء‏.‏

والعشيرة‏:‏ الأدْنَوْن من القبيلة، فوصف ‏{‏الأقربين‏}‏ تأكيد لمعنى العشيرة واجتلاب لقلوبهم إلى إجابة ما دعاهم إليه وتعريض بأهل الإدانة منهم‏.‏

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنّد‏.‏

وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في آخر الدعوة المتقدمة «غير أن لكم رحماً سأبُلُّها ببلالها» أي ذلك منتهى ما أملك لكم حين لا أملك لكم من الله شيئاً، فيحق عليكم أن تبُلُّوا لي رحمي مما تملكون، فإنكم تملكون أن تستجيبوا لي‏.‏

وتقدم ذكر العشيرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏215‏)‏‏}‏

معترض بين الجملتين ابتداراً لكرامة المؤمنين قبل الأمر بالتبرؤ من الذين لا يؤمنون، وبعد الأمر بالإنذار الذي لا يخلو من وقع أليم في النفوس‏.‏

وخفض الجناح‏:‏ مثَل للمعاملة باللِّين والتواضع‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واخفض جناحك للمؤمنين‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏88‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏24‏)‏‏.‏ والجَناح للطائر بمنزلة اليدين للدواب، وبالجناحين يكون الطيران‏.‏

و ‏{‏من المؤمنين‏}‏ بيان ‏{‏لمن اتبعك‏}‏ فإن المراد المتابعة في الدين وهي الإيمان‏.‏ والغرض من هذا البيان التنويه بشأن الإيمان كأنه قيل‏:‏ واخفض جناحك لهم لأجل إيمانهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا طائرٍ يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وجبر لخاطر المؤمنين من قرابته‏.‏ ولذلك لما نادى في دعائه صفيةَ قال‏:‏ «عمة رسول الله» ولما نادى فاطمة قال‏:‏ «بنت رسول الله» تأنيساً لهما، فهذا من خفض الجناح، ولم يقل مثل ذلك للعباس لأنه كان يومئذ مشركاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏216‏]‏

‏{‏فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ أي فإن عصوا أمرك المستفاد من الأمر بالإنذار، أي فإن عصاك عشيرتك فما عليك إلا أن تتبرأ من عملهم، وهذا هو مثار قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في دعوته‏:‏ «غيرَ أن لكم رحماً سأبُلّها ببلالها» فالتبرؤ إنما هو من كفرهم وذلك لا يمنع من صلتهم لأجل الرحم وإعادة النصح لهم كما قال‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وإنما أمر بأن يقول لهم ذلك لإظهار أنهم أهل للتبرؤ من أعمالهم فلا يقتصر على إضمار ذلك في نفسه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏217- 220‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏217‏)‏ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏218‏)‏ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ‏(‏219‏)‏ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏220‏)‏‏}‏

وعطف الأمر بالتوكل بفاء التفريع في قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر فيكون تفريعاً على‏:‏ ‏{‏فقل إني بريء مما تعملون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 216‏]‏ تنبيهاً على المبادرة بالعوذ من شر أولئك الأعداء وتنصيصاً على اتصال التوكل بقوله‏:‏ ‏{‏إني بريء‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وتَوكل‏}‏ بالواو وهو عطف على جواب الشرط، أي قل‏:‏ إني بريء وتوكل، وعطفه على الجواب يقتضي تسببه على الشرط كتسبب الجواب وهو يستلزم البدار به، فمآل القراءتين واحد وإن اختلف طريق انتزاعه‏.‏

والمعنى‏:‏ فإن عصاك أهل عشيرتك فتبرأ منهم‏.‏ ولما كان التبرؤ يؤذن بحدوث مجافاة وعداوة بينه وبينهم ثبَّت الله جأش رسوله بأن لا يعبأ بهم وأن يتوكل على ربه فهو كافيه كما قال‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وعلق التوكل بالاسمين ‏{‏العزيز الرحيم‏}‏ وما تبعهما من الوصف بالموصول وما ذيل به من الإيماء إلى أنه يُلاحظ قوله ويعلم نيتَه، إشارة إلى أن التوكل على الله يأتي بما أومأت إليه هذه الصفات ومستتبعاتها بوصف ‏{‏العزيز الرحيم‏}‏ للإشارة إلى أنه بعزته قادر على تغلبه على عدوّه الذي هو أقوى منه، وأنه برحمته يعصمه منهم‏.‏ وقد لوحظ هذان الاسمان غير مرة في هذه السورة لهذا الاعتبار كما تقدم‏.‏

والتوكل‏:‏ تفويض المرء أمره إلى من يكفيه مهمه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكّل على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏159‏)‏‏.‏

ووصفه تعالى‏:‏ ب ‏{‏الذي يراك حين تقوم‏}‏ مقصود به لازم معناه‏.‏ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بمحل العناية منه لأنه يعلم توجهه إلى الله ويقبل ذلك منه، فالمراد من قوله‏:‏ ‏{‏يَراك‏}‏ رؤيةٌ خاصة وهي رؤية الإقبال والتقبل كقوله‏:‏ ‏{‏فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏

والقيام‏:‏ الصلاة في جوف الليل، غلب هذا الاسم عليه في اصطلاح القرآن، والتقلب في الساجدين هو صلاته في جماعات المسلمين في مسجده‏.‏ وهذا يجمع معنى العناية بالمسلمين تبعاً للعناية برسولهم، فهذا من بركته صلى الله عليه وسلم وقد جمعها هذا التركيب العجيب الإيجاز‏.‏

وفي هذه الآية ذكر صلاة الجماعة‏.‏ قال مقاتل لأبي حنيفة‏:‏ هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن‏؟‏ فقال أبو حنيفة‏:‏ لا يحضرني فتلاَ مقاتل هذه الآية‏.‏

وموقع ‏{‏إنه هو السميع العليم‏}‏ موقع التعليل للأمر ب ‏{‏فقل إني بريء مما تعملون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 216‏]‏، وللأمر ب ‏{‏توكل على العزيز الرحيم‏}‏، فصفة ‏{‏السميع‏}‏ مناسبة للقول، وصفة ‏{‏العليم‏}‏ مناسبة للتوكل، أي أنه يسمع قولك ويعلم عزمك‏.‏

وضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هو السميع العليم‏}‏ للتقوية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏221- 223‏]‏

‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ‏(‏221‏)‏ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏222‏)‏ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

لما سفَّه قولهم في القرآن‏:‏ إنه قول كاهن، فرد عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به الشياطين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210‏]‏ وأنه لا ينبغي للشياطين ولا يستطيعون مثله، وأنهم حيل بينهم وبين أخبار أوليائهم، عاد الكلام إلى وصف حال كهانهم ليعلم أن الذي رَمَوا به القرآن لا ينبغي أن يلتبس بحال أوليائهم‏.‏ فالجملة متصلة في المعنى بجملة‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به الشياطين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210‏]‏، أي ما تنزّلت الشياطين بالقرآن على محمد ‏{‏هل أنبئكم على من تنزل الشياطين‏}‏‏.‏

وألقي الكلام إليهم في صورة استفهامهم عن أن يُعرِّفهم بمن تتنزل عليه الشياطين، استفهاماً فيه تعريض بأن المستفهم عنه مما يسوءهم لذلك ويحتاج فيه إلى إذنهم بكشفه‏.‏

وهذا الاستفهام صوري مستعمل كناية عن كون الخبر مما يستأذن في الإخبار به‏.‏ واختير له حرف الاستفهام الدال على التحقيق وهو ‏{‏هل‏}‏ لأن هل في الاستفهام بمعنى ‏(‏قد‏)‏ والاستفهام مقدّر فيها بهمزة الاستفهام، فالمعنى‏:‏ أنبئكم إنباءً ثابتاً محققاً وهو استفهام لا يترقب منه جواب المستفهَم لأنه ليس بحقيقي فلذلك يعقبه الإفضاء بما استفهم عنه قبل الإذن من السامع‏.‏ ونظيره في الجواب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمّ يتساءلون عن النبإ العظيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1، 2‏]‏ وإن كان بين الاستفهامين فرق‏.‏

وفعل ‏{‏أنبئكم‏}‏ معلق عن العمل بالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏على من تنزل الشياطين‏}‏‏.‏ وهو أيضاً استفهام صوري معناه الخبر كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يستفهم عنه المتحسِّسون ويتطلبونه، فالاستفهام من لوازم الاهتمام‏.‏

والمجرور مقدم على عامله للاهتمام بالمتنزَّل عليه، وأصل التركيب‏:‏ من تنزَّل عليه الشياطين، فلما قدم المجرور دخل حرف ‏{‏على‏}‏ على اسم الاستفهام وهو ‏{‏مَن‏}‏ لأن ما صْدَقَها هو المتنزّل عليه، ولا يعكر عليه أن المتعارف أن يكون الاستفهام في صدر الكلام، لأن أسماء الاستفهام تضمنت معنى الإسمية وهو أصلها، وتضمنت معنى همزة الاستفهام كما تضمنته ‏{‏هل‏}‏، فإذا لزم مجيء حرف الجر مع أسماء الاستفهام ترجح فيها جانب الإسمية فدخل الحرف عليها ولم تُقدّم هي عليه، فلذلك تقول‏:‏ أعلى زيد مررتَ‏؟‏ ولا تقول‏:‏ مَن عَلى مررت‏؟‏ وإنما تقول‏:‏ على من مررت‏؟‏ وكذا في بقية أسماء الاستفهام نحو ‏{‏عمّ يتساءلون‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏مِنْ أي شيء خلقه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 18‏]‏، وقولهم‏:‏ عَلاَم، وإلام، وحتّام، و‏{‏فيمَ أنت من ذكراها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وأجيب الاستفهام هنا بقوله‏:‏ ‏{‏تنزل على كل أفاككٍ أثيم‏}‏‏.‏

و ‏{‏كل‏}‏ هنا مستعملة في معنى التكثير، أي على كثير من الأفّاكين وهم الكهان، قال النابغة‏:‏

وكُلِّ صَموت نثلة تُبَّعيَّةٍ *** ونَسج سُلَيْم كُلَّ قمصاءَ ذائِل

والأفاك كثير الإفك، أي الكذب، والأثيم كثير الإثم‏.‏ وإنما كان الكاهن أثيماً لأنه يضم إلى كذبه تضليل الناس بتمويه أنه لا يقول إلا صدقاً، وأنه يتلقى الخبر من الشياطين التي تأتيه بخبر السماء‏.‏

وجُعل للشياطين ‏{‏تنزّل‏}‏ لأن اتصالها بنفوس الكهان يكون بتسلسل تموجات في الأجواء العليا كما تقدم في سُورة الحجر‏.‏

و ‏{‏يُلقون السمع‏}‏ صفة ل ‏{‏كلِّ أفاك أثيم‏}‏، أي يظهرون أنهم يُلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر، وذلك من إفكهم وإثمهم‏.‏

وإلقاء السمع‏:‏ هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاءٌ للسمع من موضعه، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو ألقَى السمع وهو شهيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏، أي أبلغ في الإصغاء لِيَعِيَ ما يُقال له‏.‏

وهذا كما أطلق عليه إصغاء، أي إمالة السمع إلى المسموع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأكثرهم كاذبون‏}‏ أي أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئاً، أي وبعضهم يتلقى شيئاً قليلاً من الشياطين فيكذب عليه أضعافه‏.‏

ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الكهان فقال‏:‏ «ليسوُا بشيء» قيل‏:‏ يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً‏.‏ فقال‏:‏ «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجِنيّ فَيَقَرُّها في أذُن وليه قَرَّ الدَّجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة» فهم أفّاكون وهم متفاوتون في الكذب فمنهم أفاكون فيما يزيدونه على خبر الجن، ومنهم أفّاكون في أصل تلقي شيء من الجن، ولما كان حال الكهان قد يلتبس على ضعفاء العقول ببعض أحوال النبوءة في الإخبار عن غيب، وأسجاعهم قد تلتبس بآيات القرآن في بادئ النظر‏.‏ أطنَبت الآية في بيان ماهية الكهانة وبينت أن قصاراها الإخبارُ عن أشياء قليلة قد تصدق فأينَ هذا من هدي النبي والقرآن وما فيه من الآداب والإرشاد والتعليم والبلاغة والفصاحة والصراحة والإعجاز ولا تصدي منه للإخبار بالمغيبات‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏ في آيات كثيرة من هذا المعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏224- 227‏]‏

‏{‏وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ‏(‏224‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ‏(‏225‏)‏ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ‏(‏226‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ‏(‏227‏)‏‏}‏

كان مما حوته كِنانةُ بهتان المشركين أن قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، فلما نَثلَتْ الآيات السابقة سِهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم‏:‏ هو كاهن، لم يبق إلا إبطالُ قولهم‏:‏ هو شاعر، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطاناً يملي عليه الشعر وربما سموه الرَّئِيّ، فناسب أن يقارَن بين تزييف قولهم في القرآن‏:‏ هو شعر، وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر، وبين قولهم‏:‏ هو قول كاهن، كما قرن بينهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو بقول شاعِر قليلاً ما تُؤمنون ولا بقوللِ كاهن قليلاً ما تذّكّرون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 41، 42‏]‏؛ فعُطف هنا قوله‏:‏ ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاون‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏تنزل على كل أفّاك أثيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 222‏]‏‏.‏

ولمّا كان حال الشعراء في نفس الأمر مخالفاً لحال الكهان إذ لم يكن لملكة الشعر اتصال مّا بالنفوس الشيطانية وإنما كان ادعاء ذلك من اختلاق بعض الشعراء أشاعوه بين عامة العرب، اقتصرت الآية على نفي أن يكون الرسول شاعراً، وأن يكون القرآنُ شعراً‏.‏ دون تعرض إلى أنه تنزيل الشياطين كما جاء في ذكر الكهانة‏.‏

وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وكان المشركون يُعْنَون بمجالسهم وسماععِ أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيَهم، أدمجت الآية حال من يتَّبع الشعراء بحالهم تشويهاً للفريقين وتنفيراً منهما‏.‏ ومن هؤلاء‏:‏ النضْر بن الحارث، وهبيرة بن أبي وهب ومُسافع بن عبد مناف، وأبو عَزة الجمحِي، وابن الزِّبَعْرَى، وأميةُ بن أبي الصَّلْت، وأبو سفيان ابن الحارث، وأمُّ جميل العوراء بنت حرب زوُج أبي لهب التي لَقبها القرآن‏:‏ ‏{‏حمَّالة الحطب‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 4‏]‏ وكانت شاعرة وهي التي قالت‏:‏

مُذَمَّماً عَصَيْنا *** وأمرَه أبينا ودينَه قَلَيْنَا

فكانت هذه الآية نفياً للشعر أن يكون من خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم وذماً للشعراء الذين تصدوا لهجائه‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏يتبعهم الغاوون‏}‏ ذمّ لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى‏.‏ والغاوي‏:‏ المتصف بالغي والغواية، وهي الضلالة الشديدة، أي يتبعهم أهل الضلالة والبطالة الراغبون في الفسق والأذى‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏يتبعهم الغاوون‏}‏ خبر، وفيه كناية عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فإن أتباعه خيرة قومهم وليس فيهم أحد من الغاوين، فقد اشتملت هذه الجملة على تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه أصحابه وعلى ذم الشعراء وذمّ أتباعهم وتنزيه القرآن عن أن يكون شعراً‏.‏

وتقديمُ المسند إليه على المسند الفعلي هنا يظهر أنه لمجرد التقوّي والاهتمام بالمسند إليه للفت السمع إليه والمقام مستغن عن الحصر لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل‏:‏

عن المرء لا تَسْألْ وسَلْ عن قرينه *** وجعله في «الكشاف» للحصر، أي لا يتبعهم إلاّ الغاوون، لأنه أصرح في نفي اتِّباع الشعراء عن المسلمين‏.‏ وهذه طريقتُهُ باطراد في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي أنه يفيد تخصيصه بالخبر، أي قصْر مضمون الخبر عليه، أي فهو قصر إضافي كما تقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏15‏)‏‏.‏

والرؤية في ‏{‏ألم تر‏}‏ قلبية لأن الهُيام والوادي مستعاران لمعاني اضطراب القول في أغراض الشعر وذلك مما يُعلم لا مما يُرى‏.‏

والاستفهام تقريري، وأجري التقرير على نفي الرؤية لإظهار أن الإقرار لا محيد عنه كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قال ألم نُربِّك فينا وليداً‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 18‏]‏، والخطاب لغير معين‏.‏ وضمائر ‏{‏إنهم ويهيمون ويقولون ويفعلون عائدة إلى الشعراء‏.‏

فجملة‏:‏ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون‏}‏ وما عطف عليها مؤكدة لما اقتضته جملة‏:‏ ‏{‏يتبعهم الغاوون‏}‏ من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب‏.‏

ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس، ومن نسيب وتشبيب بالنساء، ومدح من يمدحُونه رغبة في عطائه وإن كان لا يستحق المدح، وذمِّ من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل، وربما ذمّوا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سَبق لهم ذمه‏.‏

والهيام‏:‏ هو الحيرة والتردد في المرعى‏.‏ والوادُ‏:‏ المنخفض بين عُدوتين‏.‏ وإنما ترعى الإبل الأودية إذا أقحلت الرُبى، والربى أجود كلأ، فمُثّل حال الشعراء بحال الإبل الراعية في الأودية متحيرة، لأن الشعراء في حرص على القول لاختلاب النفوس‏.‏

و ‏{‏كل‏}‏ مستعمل في الكثرة‏.‏ رُوي أنه اندسّ بعض المزَّاحين في زمرة الشعراء عند بعض الخلفاء فعرف الحَاجب الشعراء، وأنكر هذا الذي اندسّ فيهم، فقال له‏:‏ هؤلاء الشعراء وأنتَ من الشعراء‏؟‏ قال‏:‏ بل أنا من الغاوين، فاستطرفها‏.‏

وشفَّع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال‏:‏ ‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏، والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب، والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل‏:‏ أحسن الشعر أكذبه، والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذباً لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح، وإن كان عليه قرينة كان كذباً معتذَراً عنه فكان غير محمود‏.‏

وفي هذا إبداء للبَون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يقول إلا حقاً ولا يصانع ولا يأتي بما يضلّل الأفهام‏.‏

ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله‏:‏

فبِتْن بجانبيَّ مصرَّعاتٍ *** وبتُّ أفضّ أغلاق الختام

فقال سليمان‏:‏ قد وجب عليك الحد‏.‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد دَرَأ الله عَني الحد بقوله‏:‏ ‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏‏.‏ وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب فقال شعراً‏:‏

مَن مُبلِغُ الحسناءِ أن حليلها *** بميسان يُسقى في زُجاج وحنتم

إلى أن قال‏:‏

لعل أميرَ المؤمنين يسوءه *** تنادُمُنا بالجَوْسَققِ المتهدم

فبلغ ذلك عمرَ فأرسل إليه بالقُدوم عليه وقال له‏:‏ أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحدّ، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما فعلتُ شيئاً مما قلتُ وإنما كان فضلةً من القول، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنهم يقولون ما لا يفعلون‏}‏ فقال له عمر‏:‏ أمّا عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلتَ ما قلت‏.‏

وقد كُني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه، واستثناء ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ من عموم الشعراء، أي من حكم ذمّهم‏.‏ وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏وذكروا الله كثيراً‏}‏ إي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر‏.‏ ‏{‏وانتصروا من بعد ما ظلموا‏}‏ وهم مَن أسلموا من الشعراء وقالوا الشعر في هجاء المشركين والانتصارِ للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة، فقد قالوا شعراً كثيراً في ذم المشركين‏.‏ وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رَواحة، وحسانَ بن ثابت ومن أسلم بعدُ من العرب مثل لَبيد، وكعب بن زهير، وسُحيم عبد بني الحسحاس، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السُّورة مدنيّاً كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة‏.‏

وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين‏:‏ حالة مذمومة، وحالة مأذونة، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر بابُ قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه‏.‏ وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله‏:‏ ‏{‏وانتصروا من بعد ما ظلموا‏}‏، وإلى الحالة المأذونة قوله‏:‏ ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏‏.‏ وكيف وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصتَ أصحابُه لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة، على أنه أذِن لحسان في مهاجاة المشركين وقال له‏:‏ «كلامك أشد عليهم من وقع النبل‏.‏‏.‏» وقال له‏:‏ «قل ومعك روح القدس»‏.‏ وسيأتي شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمناه الشعر وما ينبغي له‏}‏ في سورة يس ‏(‏69‏)‏‏.‏ وأجاز عليه كما أجاز كعبَ بن زهير فخلع عليه بردته، فتلك حالة مقبولة لأنه جاء مؤمناً‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ سمعت رسول الله يقول على المنبر‏:‏ أصدَقُ كلمةٍ، أو أشْعَر كلمة قالتها العرب كلمةُ لبيد‏:‏

ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطل *** وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال‏:‏ كاد أميةُ أن يُسلم، وأمر حسّاناً بهجاء المشركين وقال له‏:‏ قُل ومعك رُوح القدس‏.‏ وقال لكعببِ بن مالك‏:‏ لكلامُك أشد عليهم من وقْع النبْل‏.‏

روى أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن بسنده إلى خُريم بن أوس بن حارثة أنه قال‏:‏ هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرَفَه من تبوك فسمعت العباس قال‏:‏ يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك‏.‏ فقال‏:‏ قُل لا يفضُض الله فاك‏.‏ فقال العباس‏:‏

من قبلِها طبتَ في الظلال وفي *** مُستَوْدَع حيثُ يخصف الوَرق

الأبيات السبعة‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يفضض الله فاك ‏"‏

وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدُ الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول‏:‏

خَلُّوا بني الكفار عن سبيله *** اليومَ نضربكم على تنزيله

ضَرباً يُزيل الهامَ عن مقيله *** ويُذهل الخليلَ عن خليله

فقال له عُمر‏:‏ يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خَلِّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نَضْح النبْل ‏"‏

وعن الزهري أن كعب بن مالك قال‏:‏ يا رسول الله ما تقول في الشعر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل ‏"‏

ولعلي بن أبي طالب شعر كثير، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه‏.‏

وقد بين القرطبي في «تفسيره» في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر‏.‏ وكذلك الشيخ عبد القاهر الجرجاني في أول كتاب «دلائل الإعجاز»‏.‏

ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر، ولم يزل العلماء يعنَون بشعر العَرب ومَن بعدهم، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏من بعد ما ظلموا‏}‏ أي من بعد ما ظلمهم المشركون بالشتم والهجاء‏.‏

‏{‏ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏‏.‏

ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم‏.‏ وجُعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك، وللاعتداء على حقوق الناس‏.‏ وقد تلاها أبو بكر في عهده إلى عمر بالخلافة بعده، والواو اعتراضية للاستئناف‏.‏

وهذه الآية تحذير عن غمص الحقوق وحثّ عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم، ومن الإبهام في قوله‏:‏ ‏{‏أي منقلب ينقلبون‏}‏ إذ ترك تبيينه بعقاب معيّن لتذهل نفوس المُوعَدِين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلَب سوء‏.‏

والمنقلب‏:‏ مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآلُ، لأن الانقلاب هو الرجوع‏.‏ وفعل العلم معلق عن العمل بوجود اسم الاستفهام بعده‏.‏ واسم الاستفهام في موضع نصب بالنيابة عن المفعول المطلق الذي أضيف هو إليه‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها‏.‏