فصل: تفسير الآيات رقم (83- 84)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 84‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

انتصب ‏{‏يوم‏}‏ على تقدير ‏(‏اذكر‏)‏ فهو مفعول به، أو على أنه ظرف متعلق بقوله ‏{‏قال أكذبتم‏}‏ مقدم عليه للاهتمام به‏.‏ وهذا حشر خاص بعد حشر جميع الخلق المذكور في قوله تعالى بعد هذا ‏{‏ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ وهو في معنى قوله تعالى ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 59‏]‏ فيحشر من كل أمة مكذبو رسولها‏.‏

والفوج‏:‏ الجماعة من الناس‏.‏ و‏{‏من‏}‏ الداخلة على ‏{‏كل أمة‏}‏ تبعيضية وأما ‏(‏من‏)‏ الداخلة على ‏{‏من يكذب‏}‏ فيجوز جعلها بيانية فيكون فوج كل أمة هو جماعة المكذبين منها، أي يحشر من الأمة كفارها ويبقى صالحوها‏.‏ ويجوز جعل ‏(‏من‏)‏ هذه تبعيضية أيضاً بأن يكون المعنى إخراج فوج من المكذبين من كل أمة‏.‏ وهذا الفوج هو زعماء المكذبين وأيمتهم فيكونون في الرعيل الأول إلى العذاب‏.‏

وهذا قول ابن عباس إذ قال‏:‏ مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يساق أمام كل طائفة زعماؤها‏.‏ وتقدم تفسير ‏{‏فهم يوزعون‏}‏ في قصة سليمان من هذه السورة ‏(‏17‏)‏‏.‏

والمعنى هنا‏:‏ أنهم يزجرون إغلاظاً عليهم كما يفعل بالأسرى‏.‏

والقول في ‏{‏حتى إذا جاءو‏}‏ كالقول في ‏{‏حتى إذا أتوا على واد النمل‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 18‏]‏ ولم يذكر الموضع الذي جاءوه لظهوره وهو مكان العذاب، أي جهنم كما قال في الآية ‏{‏حتى إذا ما جاءوها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 20‏]‏‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ في ‏{‏حتى إذا جاءو‏}‏ ابتدائية‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ الواقعة بعد ‏{‏حتى‏}‏ ظرفية والمعنى‏:‏ حتى حين جاءوا‏.‏

وفعل ‏{‏قال أكذبتم بآياتي‏}‏ هو صدر الجملة في التقدير وما قبله مقدم من تأخير للاهتمام‏.‏ والتقدير‏:‏ وقال أكذبتم بآياتي يوم نحشر من كل أمة فوجاً وحين جاءوا‏.‏ وفي ‏{‏قال‏}‏ التفات من التكلم إلى الغيبة‏.‏

وقوله ‏{‏أكذبتم بآياتي‏}‏ قول صادر من جانب الله تعالى يسمعونه أو يبلغهم إياه الملائكة‏.‏

والاستفهام يجوز أن يكون توبيخياً مستعملاً في لازمه وهو الإلجاء إلى الاعتراف بأن المستفهم عنه واقع منهم تبكيتاً لهم، ولهذا عطف عليه قوله ‏{‏أم ماذا كنتم تعملون‏}‏‏.‏ فحرف ‏{‏أم‏}‏ فيه بمعنى ‏(‏بل‏)‏ للانتقال ومعادل همزة الاستفهام المقدرة محذوف دل عليه قوله ‏{‏ماذا كنتم تعملون‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ أكذبتم بآياتي أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم توقنوا فماذا كنتم تعملون في مدة تكرير دعوتكم إلى الإسلام‏.‏ ومن هنا حصل الإلجاء إلى الاعتراف بأنهم كذبوا‏.‏

ومن لطائف البلاغة أنه جاء بالمعادل الأول مصرحاً به لأنه المحقق منهم فقال ‏{‏أكذبتم بآياتي‏}‏ وحذف معادله الآخر تنبيهاً على انتفائه كأنه قيل‏:‏ أهو ما عهد منكم من التكذيب أم حدث حادث آخر، فجعل هذا المعادل متردداً فيه، وانتقل الكلام إلى استفهام‏.‏ وهذا تبكيت لهم‏.‏

قال في الكشاف»‏:‏ «ومثاله أن تقول لراعيك وقد علمت أنه راعي سوء‏:‏ أتأكل نعمي أم ماذا تعمل بها، فتجعل ما ابتدأت به وجعلته أساس كلامك هو الذي صح عندك من أكله وفساده وترمي بقولك‏:‏ أم ماذا تعمل بها، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل لتبهته‏.‏ ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً وتكون ‏{‏أم‏}‏ متصلة وما بعدها هو معادل الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل‏:‏ أكذبتم أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم تتبعوا آياتي»‏.‏

وجملة ‏{‏ولم تحيطوا بها علماً‏}‏ في موضع الحال، أي كذبتم دون أن تحيطوا علماً بدلالة الآيات‏.‏ وانتصب ‏{‏علماً‏}‏ على أنه تمييز نسبة ‏{‏تحيطوا‏}‏، أي لم يحط علمكم بها، فعدل عن إسناد الإحاطة إلى العلم إلى إسنادها إلى ذوات المخاطبين ليقع تأكيد الكلام بالإجمال في الإسناد ثم التفصيل بالتمييز‏.‏

وإحاطة العلم بالآيات مستعملة في تمكن العلم حتى كأنه ظرف محيط بها وهذا تعيير لهم وتوبيخ بأنهم كذبوا بالآيات قبل التدبر فيها‏.‏

و ‏{‏ماذا‏}‏ استفهام واسم إشارة وهو بمعنى اسم الموصول إذا وقع بعد ‏(‏ما‏)‏‏.‏ والمشار إليه هو مضمون الجملة بعده في قوله ‏{‏كنتم تعملون‏}‏‏.‏ ولكون المشار إليه في مثل هذا هو الجملة صار اسم الإشارة بعد الاستفهام في قوة موصول فكأنه قيل‏:‏ ما الذي كنتم تعملون‏؟‏ فذلك معنى قول النحويين‏:‏ إن ‏(‏ذا‏)‏ بعد ‏(‏ما‏)‏ و‏(‏من‏)‏ الاستفهاميتين يكون بمعنى ‏(‏ما‏)‏ الموصولة فهو بيان معنىً لا بيان وضع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون الواو للحال، والمعنى‏:‏ يقال لهم أكذبتم بآياتي وقد وقع القول عليهم‏.‏ وهذا القول هو القول السابق في آية ‏{‏وإذا وقع القول عليهم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 82‏]‏ فإن ذلك القول مشتمل على حوادث كثيرة فكلما تحقق شيء منها فقد وقع القول‏.‏

والتعبير بالماضي في قوله ‏{‏وقع‏}‏ هنا على حقيقته، وأعيد ذكره تعظيماً لهوله ويجوز أن تكون الواو عاطفة والقول هو القول الأول وعطفت الجملة على الجملة المماثلة لها ليبنى عليها سبب وقوع القول وهو أنه بسبب ظلمهم وليفرع عليه قوله ‏{‏فهم لا ينطقون‏}‏‏.‏

والتعبير بفعل المضي على هذا الوجه لأنه محقق الحصول في المستقبل فجعل كأنه حصل ومضى‏.‏

و ‏{‏ما ظلموا‏}‏ بمعنى المصدر، والباء للسببية، أي بسبب ظلمهم، والظلم هنا الشرك وما يتبعه من الاعتداء على حقوق الله وحقوق المؤمنين فكان ظلمهم سبب حلول الوعيد بهم، وفي الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة» فكل من ظلم سيقع عليه القول الموعود به الظالمون لأن الظلم ينتسب إلى الشرك وينتسب هذا إليه كما تقدم عند قوله تعالى ‏{‏فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏}‏ في هذه السورة ‏(‏52‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏فهم لا ينطقون‏}‏ مفرعة على ‏{‏وقع القول‏}‏ أي وقع عليهم وقوعاً يمنعهم الكلام، أي كلام الاعتذار أو الإنكار، أي فوجموا لوقوع ما وعدوا به قال تعالى ‏{‏هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35، 36‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

هذا الكلام متصل بقوله ‏{‏ووقع القول عليهم بما ظلموا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 85‏]‏ أي بما أشركوا، فذكرهم بدلائل الوحدانية بذكر أظهر الآيات وأكثرها تكراراً على حواسهم وأجدرها بأن تكون مقنعة في ارعوائهم عن شركهم‏.‏ وهي آية ملازمة لهم طول حياتهم تخطر ببالهم مرتين كل يوم على الأقل‏.‏ وتلك هي آية اختلاف الليل والنهار الدالة على انفراده تعالى بالتصرف في هذا العالم؛ فأصنامهم تخضع لمفعولها فتظلم ذواتهم في الليل وتنير في النهار، وفيها تذكير بتمثيل الموت والحياة بعده بسكون الليل وانبثاق النهار عقبه‏.‏

والجملة معترضة بين جملة ‏{‏ووقع القول عليهم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 85‏]‏ وجملة ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ ليتخلل الوعيد بالاستدلال فتكون الدعوة إلى الحق بالإرهاب تارة واستدعاء النظر تارة أخرى‏.‏

والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حالهم لأنها لغرابتها تستلزم سؤال من يسأل عن عدم رؤيتهم فهذه علاقة أو مسوغ استعمال الاستفهام في التعجيب، وهي علاقة خفية أشار سعد الدين في «المطول» إلى عدم ظهورها وتصدى السيد الشريف إلى بيانها غاية البيان وأرجعها إلى المجاز المرسل فتأمله‏.‏

والرؤية يجوز أن تكون قلبية وجملة ‏{‏أنّا جعلنا‏}‏ سادة مسد المفعولين، أي كيف لم يعلموا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً مع أن ذلك واضح الدلالة على هذا الجعل‏.‏ واختير من أفعال العلم فعل الرؤية لشبه هذا العلم بالمعلومات المبصرة‏.‏

ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمصدر المنسبك من الجملة مفعول الرؤية والمعنى‏:‏ كيف لم يبصروا جعل الليل للسكون والنهار للإبصار مع أن ذلك بمرأى من أبصارهم‏.‏ والجعل مراد منه أثره وهو اضطرار الناس إلى السكون في الليل وإلى الانتشار في النهار‏.‏ فجعلت رؤية أثر الجعل بمنزلة رؤية ذلك الجعل وهذا واسع في العربية أن يجعل الأثر محل المؤثر، والدال محل المدلول‏.‏ قال النابغة‏:‏

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل‏.‏

والمبصر‏:‏ اسم فاعل أبصر بمعنى رأى‏.‏ ووصف النهار بأنه مبصر من قبيل المجاز العقلي لأن نور النهار سبب الإبصار‏.‏ ويجوز أن تكون الهمزة للتعدية من أبصره، إذا جعله باصراً‏.‏

وجملة ‏{‏إن في ذلك لآيات‏}‏ تعليل للتعجيب من حالهم إذ لم يستدلوا باختلاف الليل والنهار على الوحدانية ولا على البعث‏.‏

ووجه كون الآيات في ذلك كثيرة كما اقتضاه الجمع هو أن في نظام الليل آيات على الانفراد بخلق الشمس وخلق نورها الخارق للظلمات، وخلق الأرض، وخلق نظام دورانها اليومي تجاه أشعة الشمس وهي الدورة التي تكوّن الليل والنهار، وفي خلق طبع الإنسان بأن يتلقّى الظلمة بطلب السكون لما يعتري الأعصاب من الفتور دون بعض الدواب التي تنشط في الليل كالهوام والخفافيش وفي ذلك أيضاً دلالة على تعاقب الموت والحياة، فتلك آيات وفي كل آية منها دقائق ونظم عظيمة لو بسط القول فيها لأوعب مجلدات من العلوم‏.‏

وفي جعل النهار مبصراً آيات كثيرة على الوحدانية ودقة صنع تقابل ما تقدم في آيات جعل الليل سكناً‏.‏ وفيه دلالة على أن لا إحالة ولا استبعاد في البعث بعد الموت، وأنه نظير بعث اليقظة بعد النوم، وفي جليل تلك الآيات ودقيقها عدة آيات فهذا وجه جعل ذلك آيات ولم يجعل آيتين‏.‏

ومعنى ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ لناس شأنهم الإيمان والاعترف بالحجة ولذلك جعل الإيمان صفة جارية على ‏{‏قوم‏}‏ لما قلناه غير مرة من أن إناطة الحكم بلفظ ‏(‏قوم‏)‏ يومئ إلى أن ذلك الحكم متمكن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم ومنه قوله تعالى ‏{‏ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56‏]‏، أي الفرق من مقومات قوميتهم فكيف يكونون منكم وأنتم لا تفرقون، أي في ذلك آيات لمن من شعارهم التدبر والاتصاف، أي فهؤلاء ليسوا بتلك المثابة‏.‏

ولكون الإيمان مقصوداً به أنه مرجو منهم جيء فيه بصيغة المضارع إذ ليس المقصود أن في ذلك آيات للذين آمنوا لأن ذلك حاصل بالفحوى والأولوية، فصار المعنى‏:‏ أن في ذلك لآيات للمؤمنين ولمن يرجى منهم الإيمان عند النظر في الأدلة‏.‏ وقريب من هذا المعنى قوله تعالى ‏{‏إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27، 28‏]‏‏.‏ ولهذا خولف بين ما هنا وبين ما في سورة يونس ‏(‏67‏)‏ إذ قال ‏{‏هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏ لأن آية يونس مسوقة مساق الاستدلال والامتنان فخاطب بها جميع الناس من مؤمن وكافر فجاءت بصيغة الخطاب، وجعلت دلالتها لكل من يسمع أدلة القرآن فمنهم مهتد وضال ولذلك جيء فيها بفعل ‏{‏يسمعون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏ المؤذن بالامتثال والإقبال على طلب الهدى‏.‏

وأما هذه الآية فمسوقة مساق التعجيب والتوبيخ فجعل ما فيها آيات لمن الإيمان من شأنهم ليفيد بمفهومه أنه لا تحصل منه دلالة لمن ليس من شأنهم الانصاف والاعتراف ولذلك أوثر فيه فعل ‏{‏يؤمنون‏}‏‏.‏

وجاء ما في الليل من الخصوصية بصيغة التعليل باللام بقوله ‏{‏ليسكنوا فيه‏}‏، وما في النهار بصيغة مفعول الجعل بقوله ‏{‏مبصراً‏}‏ تفنناً، ولما يفيده ‏{‏مبصراً‏}‏ من المبالغة‏.‏ والمعنى على التعليل والمفعول واحد في المآل‏.‏ وبهذا قال في «الكشاف» «التقابل مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف» أي ففي الآية احتباك إذ المعنى‏:‏ جعلنا الليل مظلماً ليسكنوا فيه والنهار مبصراً لينتشروا فيه‏.‏

واعلم أن ما قرر هنا يأتي في آية سورة يونس عدا ما هو من وجوه الفروق البلاغية فارجع إليها هنالك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏ويوم نحشر من كل أمة فوجاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 83‏]‏، عاد به السياق إلى الموعظة والوعيد فإنهم لما ذكروا ب«يوم يحشرون إلى النار» ذكروا أيضاً بما قبل ذلك وهو يوم النفخ في الصور، تسجيلاً عليهم بإثبات وقوع البعث وإنذاراً بما يعقبه مما دل عليه قوله ‏{‏ءاتوه داخرين‏}‏ وقوله ‏{‏ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله‏}‏‏.‏

والنفخ في الصور تقدم في قوله ‏{‏وله الملك يوم ينفخ في الصور‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏73‏)‏ وهو تقريب لكيفية صدور الأمر التكويني لإحياء الأموات وهو النفخة الثانية المذكورة في قوله تعالى ‏{‏ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، وذلك هو يوم الحساب‏.‏ وأما النفخة الأولى فهي نفخة يعنى بها الإحياء، أي نفخ الأرواح في أجسامها وهي ساعة انقضاء الحياة الدنيا فهم يصعقون، ولهذا فرع عليه قوله ‏{‏ففزع من في السموات ومن في الأرض‏}‏، أي عقبه حصول الفزع وهو الخوف من عاقبة الحساب ومشاهدة معدات العذاب، فكل أحد يخشى أن يكون معذباً، فالفزع حاصل مما بعد النفخة وليس هو فزعاً من النفخة لأن الناس حين النفخة أموات‏.‏

والاستثناء مجمل يبينه قوله تعالى بعد ‏{‏من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏ وقوله ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى‏}‏ إلى قوله ‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101 103‏]‏ وذلك بأن يبادرهم الملائكة بالبشارة‏.‏ قال تعالى ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏ وقال ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وجيء بصيغة الماضي في قوله ‏{‏ففزع‏}‏ مع أن النفخ مستقبل، للإشعار بتحقق الفزع وأنه واقع لا محالة كقوله ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ لأن المضي يستلزم التحقق فصيغة الماضي كناية عن التحقق، وقرينة الاستقبال ظاهرة من المضارع في قوله ‏{‏ينفخ‏}‏‏.‏

والداخرون‏:‏ الصاغرون‏.‏ أي الأذلاء، يقال‏:‏ دَخِرَ بوزن منع وفرِح والمصدر الدخر بالتحريك والدخور‏.‏

وضمير الغيبة الظاهر في ‏{‏ءاتوه‏}‏ عائد إلى اسم الجلالة، والإتيان إلى الله الإحضار في مكان قضائه ويجوز أن يعود الضمير على ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏}‏ على تقدير‏:‏ ءاتون فيه والمضاف إليه ‏(‏كل‏)‏ المعوض عنه التنوين، تقديره‏:‏ من فزع ممن في السموات والأرض آتوه داخرين‏.‏ وأما من استثنى الله بأنه شاء أن لا يفزعوا فهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏آتوه‏}‏ بصيغة اسم الفاعل من أتى‏.‏ وقرأ حمزة وحفص ‏{‏أتوه‏}‏ بصيغة فعل الماضي فهو كقوله ‏{‏ففزع‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

الذي قاله جمهور المفسرين‏:‏ إن الآية حكت حادثاً يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله ‏{‏وترى الجبال تحسبها جامدة‏}‏ عطفاً على ‏{‏ينفخ في الصور‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ أي ويوم ترى الجبال تحسبها جامدة الخ‏.‏‏.‏ وجعلوا الرؤية بصرية، ومرّ السحاب تشبيهاً لتنقلها بمرّ السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصوداً منه إدماج تشبيه حال الجبال حين ذلك المرور بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها فيكون من معنى قوله ‏{‏وتكون الجبال كالعهن المنفوش‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 5‏]‏، وجعلوا الخطاب في قوله ‏{‏ترى‏}‏ لغير معين ليعم كل من يرى، وجعلوا معنى هذه الآية في معنى قوله تعالى ‏{‏ويوم نسير الجبال‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏‏.‏ فلما أشكل أن هذه الأحوال تكون قبل يوم الحشر لأن الآيات التي ورد فيها ذكر دك الجبال ونسفها تشير إلى أن ذلك في انتهاء الدنيا عند القارعة وهي النفخة الأولى أو قبيلها، فأجابوا بأنها تندك حينئذ ثم تسير يوم الحشر لقوله ‏{‏فقل ينسفها ربي نسفاً‏}‏ إلى أن قال ‏{‏يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105 108‏]‏ لأن الداعي هو إسرافيل ‏(‏وفيه أن للاتباع أحوالاً كثيرة، وللداعي معاني أيضاً‏)‏‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ هذا مما يكون عند النفخة الأولى وكذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها‏.‏ وكأنهم لم يجعلوا عطف ‏{‏وترى الجبال‏}‏ على ‏{‏ينفخ في الصور‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ حتى يتسلط عليه عمل لفظ ‏(‏يوم‏)‏ بل يجعلوه من عطف الجملة على الجملة، والواو لا تقتضي ترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه، فهو عطف عبرة على عبرة وإن كانت المذكورة أولى حاصلة ثانياً‏.‏

وجعل كلا الفريقين قوله ‏{‏صنع الله‏}‏ الخ مراداً به تهويل قدرة الله تعالى وأن النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى التركيب والإيجاد، فإن الإتقان إجادة، والهدم لا يحتاج إلى إتقان‏.‏

وقال الماوردي‏:‏ قيل هذا مثل ضربه الله، أي وليس بخبر‏.‏ وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مثل للدنيا يظن الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب، قاله سهل بن عبد الله التستري‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتاً في القلب، وعمله صاعد إلى السماء‏.‏

الثالث‏:‏ إنه مثل للنفس عند خروج الروح، والروح تسير إلى العرش‏.‏

وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة‏.‏

ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان ‏{‏الجبال‏}‏ مشبهاً بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ ‏{‏الجبال‏}‏ مستعاراً لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنياً‏.‏

وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب، ولا توجيه التذليل بقوله تعالى ‏{‏صنع الله الذي أتقن كل شيء‏}‏ فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله ‏{‏ففزع من في السموات ومن في الأرض‏}‏ إلى قوله

‏{‏من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87 89‏]‏ بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجاً وجمعاً بين استدعاء للنظر، وبين الزواجر والنذر، كما صنع في جملة ‏{‏ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 86‏]‏ الآية‏.‏

أو هي معطوفة على جملة ‏{‏ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 86‏]‏ الآية، وجملة ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة‏.‏ وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء من جانبه النظمي كما قدمناه في الجهة الثانية من المقدمة العاشرة‏.‏

فإن الناس كانوا يحسبون أن الشمس تدور حول الأرض فينشأ من دورانها نظام الليل والنهار، ويحسبون الأرض ساكنة‏.‏ واهتدى بعض علماء اليونان إلى أن الأرض هي التي تدور حول الشمس في كل يوم وليلة دورة تتكون منها ظلمة نصف الكرة الأرضي تقريباً وضياء النصف الآخر وذلك ما يعبر عنه بالليل والنهار، ولكنها كانت نظرية مرموقة بالنقد وإنما كان الدال عليها قاعدة أن الجرم الأصغر أولى بالتحرك حول الجرم الأكبر المرتبط بسيره وهي علة إقناعية لأن الحركة مختلفة المدارات فلا مانع من أن يكون المتحرك الأصغر حول الأكبر في رأي العين وضبط الحساب وما تحققت هذه النظرية إلا في القرن السابع عشر بواسطة الرياضي ‏(‏غاليلي‏)‏ الإيطالي‏.‏

والقرآن يدمج في ضمن دلائله الجمة وعقب دليل تكوين النور والظملة دليلاً رمز إليه رمزاً، فلم يتناوله المفسرون أو تسمع لهم ركزاً‏.‏

وإنما ناط دلالة تحرك الأرض بتحرك الجبال منها لأن الجبال هي الأجزاء الناتئة من الكرة الأرضية فظهور تحرك ظلالها متناقصة قبل الزوال إلى منتهى نقصها، ثم آخذة في الزيادة بعد الزوال‏.‏ ومشاهدة تحرك تلك الظلال تحركاً يحاكي دبيب النمل أشد وضوحاً للراصد، وكذلك ظهور تحرك قممها أمام قرص الشمس في الصباح والماء أظهر مع كون الشمس ثابتة في مقرها بحسب أرصاد البروج والأنواء‏.‏

ولهذا الاعتبار غير أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى ‏{‏ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 86‏]‏ فجعل هنا بطريق الخطاب ‏{‏وترى الجبال‏}‏‏.‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له لمعنى يدرك هو كنهه ولذلك خص الخطاب به ولم يعمم كما عمم قوله

‏{‏ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 86‏]‏ في هذا الخطاب، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة‏.‏ فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على هذا السر العجيب في نظام الأرض كما أطلع إبراهيم عليه السلام على كيفية إحياء الموتى، اختص الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك في وقته وائتمنه على علمه بهذا السر العجيب في قرآنه ولم يأمره بتبليغه إذ لا يتعلق بعلمه للناس مصلحة حنيئذ حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه وجد أهل القرآن ذلك حقاً في كتابه فاستلوا سيف الحجة به وكان في قرابة‏.‏

وهذا التأويل للآية هو الذي يساعد قوله ‏{‏وترى الجبال‏}‏ المقتضي أن الرائي يراها في هيئة الساكنة، وقوله ‏{‏تحسبها جامدة‏}‏ إذ هذا التأويل بمعنى الجامدة هو الذي يناسب حالة الجبال إذ لا تكون الجبال ذائبة‏.‏

وقوله ‏{‏وهي تمرّ‏}‏ الذي هو بمعنى السير ‏{‏مرّ السحاب‏}‏ أي مرا واضحاً لكنه لا يبين من أول وهلة‏.‏ وقوله بعد ذلك كله ‏{‏صنع الله الذي أتقن كل شيء‏}‏ المقتضي أنه اعتبار بحالة نظامها المألوف لا بحالة انخرام النظام لأن خرم النظام لا يناسب وصفه بالصنع المتقن ولكنه يوصف بالأمر العظيم أو نحو ذلك من أحوال الآخرة التي لا تدخل تحت التصور‏.‏

و ‏{‏مر السحاب‏}‏ مصدر مبين لنوع مرور الجبال، أي مروراً تنتقل به من جهة إلى جهة مع أن الرائي يخالها ثابتة في مكانها كما يخال ناظر السحاب الذي يعم الأفق أنه مستقر وهو ينتقل من صوب إلى صوب ويمطر من مكان إلى آخر فلا يشعر به الناظر إلا وقد غاب عنه‏.‏ وبهذا تعلم أن المر غير السير الذي في قوله تعالى ‏{‏ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ فإن ذلك في وقت اختلال نظام العالم الأرضي‏.‏

وانتصب قوله ‏{‏صنع الله‏}‏ على المصدرية مؤكداً لمضمون جملة ‏{‏تمر مر السحاب‏}‏ بتقدير‏:‏ صنع الله ذلك صنعاً‏.‏ وهذا تمجيد لهذا النظام العجيب إذ تتحرك الأجسام العظيمة مسافات شاسعة والناس يحسبونها قارة ثابتة وهي تتحرك بهم ولا يشعرون‏.‏‏:‏

والجامدة‏:‏ الساكنة، قاله ابن عباس‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ الجامدة من جمد في مكانه إذا لم يبرح، يعني أنه جمود مجازي، كثر استعمال هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة والصنع‏.‏ قال الراغب‏:‏ إجادة الفعل فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعاً قال تعالى ‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وعلمناه صنعة لبوس لكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 80‏]‏ يقال للحاذق المجيد‏:‏ صنع، وللحاذقة المجيدة‏:‏ صنّاع‏.‏ اه‏.‏ وقصر في تفسير الصنع الجوهري وصاحب «اللسان» وصاحب «القاموس» واستدركه في «تاج العروس»‏.‏

قلت‏:‏ وأما قولهم‏:‏ بئس ما صنعت، فهو على معنى التخطئة لمن ظن أنه فعل فعلاً‏.‏

حسناً ولم يتفطن لقبحه‏.‏ فالصنع إذا أطلق انصرف للعمل الجيد النافع وإذا أريد غير ذلك وجب تقييده على أنه قليل أو تهكم أو مشاكلة‏.‏

واعلم أن الصنع يطلق على العمل المتقن في الخير أو الشر قال تعالى ‏{‏تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏، ووصف الله ب ‏{‏الذي أتقن كل شيء‏}‏ تعميم قصد به التذييل، أي ما هذا الصنع العجيب إلا مماثلاً لأمثاله من الصنائع الإلهية الدقيقة الصنع‏.‏ وهذا يقتضي أن تسيير الجبال نظام متقن، وأنه من نوع التكوين والخلق واستدامة النظام وليس من نوع الخرم والتفكيك‏.‏

وجملة ‏{‏إنه خبير بما تفعلون‏}‏ تذييل أو اعتراض في آخر الكلام للتذكير والوعظ والتحذير، عقب قوله ‏{‏الذي أتقن كل شيء‏}‏ لأن إتقان الصنع أثر من آثار سعة العلم فالذي بعلمه أتقن كل شيء هو خبير بما يفعل الخلق فليحذروا أن يخالفوا عن أمره‏.‏

ثم جيء لتفصيل هذا بقوله ‏{‏من جاء بالحسنة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏ الآية فكان من التخلص والعود إلى ما يحصل يوم ينفخ في الصور، ومن جعلوا أمر الجبال من أحداث يوم الحشر جعلوا جملة ‏{‏إنه خبير بما تفعلون‏}‏ استئنافاً بيانياً لجواب سائل‏:‏ فماذا يكون بعد النفخ والفزع والحضور بين يدي الله وتسيير الجبال، فأجيب جواباً إجمالياً بأن الله عليم بأفعال الناس ثم فصل بقوله ‏{‏من جاء بالحسنة فله خير منها‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏ الآية‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏بما تفعلون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏يفعلون‏}‏ بياء الغائبين عائداً ضميره على ‏{‏من في السماوات ومن في الأرض‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏بِمَا تَفْعَلُونَ * مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ * وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

هذه الجملة بيان ناشئ عن قوله ‏{‏ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ لأن الفزع مقتضضٍ الحشر والحضور للحساب‏.‏ و‏(‏من‏)‏ في كلتا الجملتين شرطية‏.‏

والمجيء مستعمل في حقيقته‏.‏ والباء في ‏{‏بالحسنة‏}‏ و‏{‏بالسيئة‏}‏ للمصاحبة المجازية، ومعناها‏:‏ أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة‏.‏ وليس هذا كقوله ‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها‏}‏ في آخر الأنعام ‏(‏160‏)‏‏.‏ فالمعنى هنا‏:‏ من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة، فالمجيء ناظر إلى قوله ‏{‏وكل أتوه داخرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي، أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله ‏{‏وهم من فزع يومئذ ءامنون‏}‏، وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه، كما اقتضاه قوله ‏{‏فكبت وجوههم في النار‏}‏‏.‏

و ‏{‏خير منها‏}‏ اسم تفضيل اتصلت به ‏(‏من‏)‏ التفضيلية، أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى ‏{‏فله عشر أمثالها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ أو خير منها شرفاً لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله‏.‏

وقوله ‏{‏وهم من فزع يومئذ ءامنون‏}‏ تبيين قوله آنفاً ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات، أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم‏.‏ وكذلك قوله ‏{‏ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار‏}‏، أي غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء‏.‏ وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودركات العقاب‏.‏ وجماع أمرها أن الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلاً أو بالآخارة، وأن السيئة لها أثرها السيء بمقدارها ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها ‏{‏فلا تظلم نفس شيئاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏من فزع يومئذ‏}‏ بإضافة ‏{‏فزع‏}‏ إلى ‏(‏يوم‏)‏ من ‏{‏يومئذ‏}‏ وإضافة ‏(‏يوم‏)‏ إلى ‏{‏إذ‏}‏ ففتحة ‏(‏يوم‏)‏ فتحة بناء، لأنه اسم زمان أضيف إلى اسم غير متمكن ف ‏{‏فزع‏}‏ معرف بالإضافة إلى ‏(‏يوم‏)‏ و‏(‏يوم‏)‏ معرف بالإضافة إلى ‏(‏إذ‏)‏ و‏(‏إذ‏)‏ مضافة إلى جملتها المعوض عنها تنوين العوض‏.‏ والتقدير‏:‏ من فزع يوم إذ يأتون ربهم‏.‏

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين ‏{‏فزع‏}‏، و‏{‏يومئذ‏}‏ منصوباً على المفعول فيه فيه متعلقاً ب ‏{‏آمنون‏}‏‏.‏ والمعنى واحد على القراءتين إذ المراد الفزع المذكور في قوله

‏{‏ففزع من في السماوات ومن في الأرض‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ فلما كان معيناً استوى تعريفه وتنكيره‏.‏ فاتحدت القراءتان معنى لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد‏.‏

والكب‏:‏ جعل ظاهر الشيء إلى الأرض‏.‏ وعدي الكب في هذه الآية إلى الوجوه دون بقية الجسد وإن كان الكب لجميع الجسم لأن الوجوه أول ما يقلب إلى الأرض عند الكب كقول امرئ القيس‏:‏

يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل *** وهذا من قبيل قوله تعالى ‏{‏سحروا أعين الناس‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 116‏]‏ وقوله ‏{‏ولما سقط في أيديهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏ وقول الأعشى‏:‏

وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تفرق

‏{‏فِى النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا‏}‏‏.‏

تذييل للزواجر المتقدمة، فالخطاب للمشركين الذين يسمعون القرآن على طريقة الالتفات من الغيبة بذكر الأسماء الظاهرة وهي من قبيل الغائب‏.‏ وذكر ضمائرها ابتداء من قوله ‏{‏إنك لا تسمع الموتى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏ وما بعده من الآيات إلى هنا‏.‏ ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون فكانت هذه الجملة كالتلخيص لما تقدم وهو أن الجزاء على حسب عقائدهم وأعمالهم وما العقيدة إلا عمل القلب فلذلك وجه الخطاب إليهم بالمواجهة‏.‏

ويجوز أن تكون مقولاً لقول محذوف يوجه إلى الناس يومئذ، أي لا يقال لكل فريق‏:‏ ‏{‏هل تجزون إلا ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏

والاستفهام في معنى النفي بقرينة الاستثناء‏.‏ وورود ‏{‏هل‏}‏ لمعنى النفي أثبته في «مغني اللبيب» استعمالاً تاسعاً قال‏:‏ «أن يراد بالاستفهام بها النفي ولذلك دخلت على الخبر بعدها ‏(‏إلا‏)‏ نحو ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏‏.‏ والباء في قوله‏:‏

ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم *** وقال في آخر كلامه‏:‏ إن من معاني الإنكار الذي يستعمل فيه الاستفهام إنكار وقوع الشيء وهو معنى النفي‏.‏ وهذا تنفرد به ‏{‏هل‏}‏ دون الهمزة‏.‏ قال الدماميني في «الحواشي الهندية» قوله‏:‏ يراد بالاستفهام ب ‏{‏هل النفي يشعر بأن ثمة استفهاماً لكنه مجازي لا حقيقي اه‏.‏

وأقول‏:‏ هذا استعمال كثير ومنه قول لبيد‏:‏

وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر *** وقول النابغة‏:‏

وهل عليّ بأن أخشاك من عار *** حيث جاء ب ‏(‏من‏)‏ التي تدخل على النكرة في سياق النفي لقصد التنصيص على العموم وشواهده كثيرة‏.‏ ولعل أصل ذلك أنه استفهام عن النفي لقصد التقرير بالنفي‏.‏ والتقدير‏:‏ هل لا تجزون إلا ما كنتم تعملون، فلما اقترن به الاستثناء غالباً والحرف الزائد في النفي في بعض المواضع حذفوا النافي وأشربوا حرف الاستفهام معنى النفي اعتماداً على القرينة فصار مفاد الكلام نفياً وانسلخت ‏(‏هل‏)‏ عن الاستفهام فصارت مفيدة النفي‏.‏ وقد أشرنا إلى هذه الآية عند قوله تعالى ‏{‏هل يجزون إلا ما كانوا يعملون‏}‏ في الأعراف ‏(‏147‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

أتت هذه السورة على كثير من مطاعن المشركين في القرآن وفيما جاء به من أصول الإسلام من التوحيد والبعث والوعيد بأفانين من التصريح والتضمن والتعريض بأحوال المكذبين السالفين مفصلاً ذلك تفصيلاً ابتداء من قوله ‏{‏تلك ءايات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 1، 2‏]‏ إلى هنا، فلما كان في خلال ذلك إلحافهم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بما وعدهم أو أن يعين لهم أجل ذلك ويقولون ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وأتت على دحض مطاعنهم وتعللاتهم وتوركهم بمختلف الأدلة قياساً وتمثيلاً، وثبت الله رسوله بضروب من التثبيت ابتداء من قوله ‏{‏إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 7‏]‏ وقوله ‏{‏فتوكل على الله إنك على الحق المبين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 79‏]‏، وما صاحب ذلك من ذكر ما لقيه الرسل السابقون‏.‏ بعد ذلك كله استؤنف الكلام استئنافاً يكون فذلكة الحساب، وختاماً للسورة وفصل الخطاب، أفسد به على المشركين ازدهاءهم بما يحسبون أنهم أفحموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما ألقوه عليه ويطير غراب غرورهم بما نظموه من سفسطة، وجاءوا به من خلبطة، ويزيد الرسول تثبيتاً وتطميناً بأنه أرضى ربه بأداء أمانة التبليغ وذلك بأن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم ‏{‏إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها‏}‏ فهذا تلقين للرسول صلى الله عليه وسلم والجملة مقول قول محذوف دل عليه ما عطف عليه في هذه الآية مرتين وهو ‏{‏فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 92، 93‏]‏ فإن الأول‏:‏ مفرّع عليه فهو متصل به‏.‏

والثاني‏:‏ معطوف على أول الكلام‏.‏

وافتتاح الكلام بأداة الحصر لإفادة حصر إضافي باعتبار ما تضمنته محاوراتهم السابقة من طلب تعجيب الوعيد، وما تطاولوا به من إنكار الحشر‏.‏

والمعنى‏:‏ ما أمرت بشيء مما تبتغون من تعيين أجل الوعيد ولا من اقتلاع إحالة البعث من نفوسكم ولا بما سوى ذلك إلا بأن أثبت على عبادة رب واحد وأن أكون مسلماً وأن أتلو القرآن عليكم، ففيه البراهين الساطعة والدلالات القاطعة فمن اهتدى فلا يمن علي اهتداءه وإنما نفع به نفسه؛ ومن ضل فما أنا بقادر على اهتدائه، ولكني منذره كما أنذرت الرسل أقوامها فلم يملكوا لهم هدياً حتى أهلك الله الضالين‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى ‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقد أدمج في خلال هذا تنويهاً بشأن مكة وتعريضاً بهم بكفرهم بالذي أسكنهم بها وحرمها فانتفعوا بتحريمها، وأشعرهم بأنهم لا يملكون تلك البلدة فكاشفهم الله بما تكنه صدورهم من خواطر إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة وذلك من جملة ما اقتضاه قوله

‏{‏وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 74‏]‏‏.‏

فلهذه النكت أجرى على الله صلة حرم تلك البلدة، دون أن يكون الموصول للبلدة فلذا لم يقل‏:‏ التي حرمها الله، لما تتضمنه الصلة من التذكير بالنعمة عليهم ومن التعريض بضلالهم إذ عبدوا أصناماً لا تملك من البلدة شيئاً ولا أكسبتها فضلاً ومزية، وهذا كقوله ‏{‏فليعبدوا رب هذا البيت‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والإشارة إلى البلدة التي هم بها لأنها حاضرة لديهم بحضور ما هو باد منها للأنظار‏.‏ والإشارة إلى البقاع بهذا الاعتبار فاشية قال تعالى ‏{‏وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 60‏]‏ وقال ‏{‏إنا مهلكوا أهل هذه القرية‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏‏.‏

والعدول عن ذكر مكة باسمها العلم إلى طريقة الإشارة لما تقتضيه الإشارة من التعظيم‏.‏

وتبيين اسم الإشارة بالبلدة لأن البلدة بهاء التأنيث اسم لطائفة من الأرض معينة معروفة محوزة فيشمل مكة وما حولها إلى نهاية حدود الحرم‏.‏ ومعنى ‏{‏حرمها‏}‏ جعلها حراماً، والحرام الممنوع، والتحريم المنع‏.‏ ويعلم متعلق المنع بسياق ما يناسب الشيء الممنوع‏.‏ فالمراد من تحريم البلدة تحريم أن يدخل فيها ما يضاد صلاحها وصلاح ما بها من ساكن ودابة وشجر‏.‏ فيدخل في ذلك منع غزو أهلها والاعتداء عليهم وظلمهم وإخافتهم ومنع صيدها وقطع شجرها على حدود معلومة‏.‏ وهذا التحريم مما أوحى الله به إلى إبراهيم عليه السلام إذ أمره بأن يبني بيتاً لتوحيده وباستجابته لدعوة إبراهيم إذ قال ‏{‏رب اجعل هذا بلداً ءامناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏‏.‏

فالتحريم يكون كمالاً للمحرم ويكون نقصاً على اختلاف اعتبار سبب التحريم وصفته، فتحريم المكان والزمان مزية وتفضيل، وتحريم الفواحش والميتة والدم والخمر تحقير لها، والمحرمات للنسل والرضاع والصهر زيادة في الحرمة‏.‏

فتحريم المكان‏:‏ منع ما يضرّ بالحال فيه‏.‏ وتحريم الزمان، كتحريم الأشهر الحرم‏:‏ منع ما فيه ضر للموجودين فيه‏.‏

وتعقيب هذا بجملة ‏{‏وله كل شيء‏}‏ احتراس لئلا يتوهم من إضافة ربوبيته إلى البلدة اقتصار ملكه عليها ليعلم أن تلك الإضافة لتشريف المضاف إليه لا لتعريف المضاف بتعيين مظهر ملكه‏.‏

وتكرير ‏(‏أمرت‏)‏ في قوله ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏ للإشارة إلى الاختلاف بين الأمرين فإن الأول أمر يعمله في خاصة نفسه وهو أمر إلهام إذ عصمه الله من عبادة الأصنام من قبل الرسالة‏.‏ والأمر الثاني أمر يقتضي الرسالة وقد شمل دعوة الخلق إلى التوحيد‏.‏ ولهذه النكتة لم يكرر ‏(‏أمرت‏)‏ في قوله ‏{‏وأن أتلوا القرءان‏}‏ لأن كلاً من الإسلام والتلاوة من شؤون الرسالة‏.‏

وفي قوله ‏{‏أن أكون من المسلمين‏}‏ تنويه بهذه الأمة إذ جعل الله رسوله من آحادها، وذلك نكتة عن العدول عن أن يقول‏:‏ أن أكون مسلماً‏.‏

والتلاوة‏:‏ قراءة كلام معين على الناس، وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 121‏]‏، وقوله ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏

وحذف متعلق التلاوة لظهوره، أي أن أتلوا القرآن على الناس‏.‏ وفرع على التلاوة ما يقتضي انقسام الناس إلى مهتد وضال، أي منتفع بتلاوة القرآن عليه وغير منتفع مبيناً أن من اهتدى فإنما كان اهتداؤه لفائدة نفسه‏.‏ وهذا زيادة في تحريض السامعين على الاهتداء بهدي القرآن لأن فيه نفعه كما آذنت به اللام‏.‏

وإظهار فعل القول هنا لتأكيد أن حظ النبي صلى الله عليه وسلم ن دعوة المعرضين الضالين أن يبلغهم الإنذار فلا يطمعوا أن يحمله إعراضهم على أن يلح عليهم قبول دعوته‏.‏ والمراد بالمنذرين‏:‏ الرسل، أي إنما أنا واحد من الرسل ما كنت بدعاً من الرسل وسنتي سنة من أرسل من الرسل قبلي وهي التبليغ ‏{‏فهل على الرسل إلا البلاغ المبين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

كان ما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمعاندين مشتملاً على أن الله هداه للدين الحق من التوحيد وشرائع الإسلام وأن الله هدى به الناس بما أنزل الله عليه من القرآن المتلو، وأنه جعله في عداد الرسل المنذرين، فكان ذلك من أعظم النعم عليه في الدنيا وأبشرها بأعظم درجة في الآخرة من أجل ذلك أمر بأن يحمد الله بالكلمة التي حمد الله بها نفسه وهي كلمة ‏{‏الحمد لله‏}‏ الجامعة لمعان من المحامد تقدم بيانها في أول سورة الفاتحة‏.‏ وقد تقدم الكلام على قوله ‏{‏قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى‏}‏ في هذه السورة ‏(‏59‏)‏‏.‏

ثم استأنف بالاحتراس مما يتوهمه المعاندون حين يسمعون آيات التبرؤ من معرفة الغيب، وقصر مقام الرسالة على الدعوة إلى الحق من أن يكون في ذلك نقض للوعيد بالعذاب فختم الكلام بتحقيق أن الوعيد قريب لا محالة وأن الله لا يخلف وعده فتظهر لهم دلائل صدق الله في وعده‏.‏ ولذلك عبر عن الوعيد بالآيات إشارة إلى أنهم سيحل بهم ما فيه تصديق لما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يوقنون أن ما كان يقول لهم هو الحق، فمعنى ‏{‏فتعرفونها‏}‏ تعرفون دلالتها على ما بلغكم الرسول من النذارة لأن المعرفة لما علقت بها بعنوان أنها آيات الله كان متعلق المعرفة هو ما في عنوان الآيات من معنى الدلالة والعلامة‏.‏

والسين تؤذن بأنها إراءة قريبة، فالآيات حاصلة في الدنيا مثل الدخان، وانشقاق القمر، واستئصال صناديدهم يوم بدر، ومعرفتهم إياها تحصل عقب حصولها ولو في وقت النزع والغرغرة‏.‏ وقد قال أبو سفيان ليلة الفتح‏:‏ لقد علمت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً‏.‏ وقال تعالى ‏{‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏ فمن الآيات في أنفسهم إعمال سيوف المؤمنين الذين كانوا يستضعفونهم في أعناق سادتهم وكبرائهم يوم بدر‏.‏ قال أبو جهل وروحه في الغلصمة يوم بدر «وهل أعمد من رجل قتله قومه» يعني نفسه وهو ما لم يكن يخطر له على بال‏.‏

وقوله ‏{‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏ قرأه نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏تعملون‏}‏ بتاء الخطاب فيكون ذلك من تمام ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله للمشركين‏.‏ وفيه زيادة إنذار بأن أعمالهم تستوجب ما سيرونه من الآيات‏.‏ والمراد‏:‏ ما يعملونه في جانب تلقي دعوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه لأن نفي الغفلة عن الله مستعمل في التعريض بأنه منهم بالمرصاد لا يغادر لهم من عملهم شيئاً‏.‏

وقرأ الباقون ‏{‏يعملون‏}‏ بياء الغيبة فهو عطف على ‏{‏قل‏}‏، والمقصود تسلية الرسول عليه السلام بعدما أمر به من القول بأن الله أحصى أعمالهم وأنه مجازيهم عنها فلا ييأس من نصر الله‏.‏

سورة القصص

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏‏}‏

تقدم القول في نظيره في فاتحة سورة الشعراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الإشارة في قوله ‏{‏تلك ءايات الكتاب المبين‏}‏ على نحو الإشارة في نظيره في سورة الشعراء ‏[‏2‏]‏‏.‏ فالمشار إليه ما هو مقروء يوم نزول هذه الآية من القرآن تنويهاً بشأن القرآن وأنه شأن عظيم‏.‏

وجملة ‏{‏نتلو عليك من نبأ موسى‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

ومهد لنبأ موسى وفرعون بقوله ‏{‏نتلو عليك‏}‏ للتشويق لهذا النبأ لما فيه من شتى العبر بعظيم تصرف الله في خلقه‏.‏

والتلاوة‏:‏ القراءة لكلام مكتوب أو محفوظ كما قال تعالى ‏{‏وأن أتلو القرآن‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 92‏]‏، وهو يتعدى إلى من تبلغ إليه التلاوة بحرف ‏(‏على‏)‏ وتقدمت عند قوله ‏{‏واتبعوا ما تتلو الشياطين‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏، وقوله ‏{‏وإذا تليت عليهم ءاياته‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وإسناد التلاوة إلى الله إسناد مجازي لأنه الذي يأمر بتلاوة ما يوحى إليه من الكلام والذي يتلو حقيقة هو جبريل بأمر من الله، وهذا كقوله تعالى ‏{‏تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 252‏]‏‏.‏

وجلعت التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي يتلقى ذلك المتلو‏.‏ وعبر عن هذا الخبر بالنبإ لإفادة أنه خبر ذو شأن وأهمية‏.‏

واللام في ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ لام التعليل، أي نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون فكانت الغاية من تلاوة النبأ على النبي صلى الله عليه وسلم هي أن ينتفع بذلك قوم يؤمنون فالنبي يبلغ ذلك للمؤمنين؛ فإن كان فريق من المؤمنين سألوا أو تشوّفوا إلى تفصيل ما جاء من قصة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسورة النمل وهو الظاهر، فتخصيصهم بالتعليل واضح وانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك معهم أجدر وأقوى، فلذلك لم يتعرض له بالذكر اجتزاء بدلالة الفحوى لأن المقام لإفادة من سأل وغيرهم غير ملتفت إليه في هذا المقام‏.‏

وإن لم يكن نزول هذه القصة عن تشوف من المسلمين فتخصيص المؤمنين بالتلاوة لأجلهم تنويه بأنهم الذين ينتفعون بالعِبَر والمواعظ لأنهم بإيمانهم أصبحوا متطلّبين للعلم والحكمة متشوفين لأمثال هذه القصص النافعة ليزدادوا بذلك يقيناً‏.‏

وحصول ازدياد العلم للنبيء صلى الله عليه وسلم بذلك معلوم من كونه هو المتلقي والمبلغ ليتذكر من ذلك ما علمه من قبل ويزداد علماً بما عسى أن لا يكون قد علمه، وفي ذلك تثبيت فؤاده كما قال تعالى ‏{‏وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 120‏]‏‏.‏

فالمراد بقوم يؤمنون قوم الإيمان شأنهم وسجيتهم‏.‏ وللإشارة إلى معنى تمكن الإيمان من نفوسهم أجري وصف الإيمان على كلمة ‏(‏قوم‏)‏ ليفيد أن كونهم مؤمنين هو من مقومات قوميتهم كما قدمناه غير مرة‏.‏ فالمراد‏:‏ المتلبسون بالإيمان‏.‏ وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أن إيمانهم موجود في الحال ومستمر متجدد‏.‏

وفي هذا إعراض عن العبء بالمشركين في سوق هذه القصة بما يقصد فيها من العبرة والموعظة فإنهم لم ينتفعوا بذلك وإنما انتفع بها من آمن ومن سيؤمن بعد سماعها‏.‏

والباء في قوله ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة، وهو حال من ضمير ‏{‏نتلو‏}‏، أو صفة للتلاوة المستفادة من ‏{‏نتلو‏}‏‏.‏

والحق‏:‏ الصدق لأن الصدق حق إذ الحق هو ما يحق له أن يثبت عند أهل العقول السليمة والأديان القويمة‏.‏

ومفعول ‏{‏نتلو‏}‏ محذوف دل عليه صفته وهي ‏{‏من نبإ موسى وفرعون‏}‏ فالتقدير‏:‏ نتلو عليك كلاماً من نبأ موسى وفرعون‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ تبعيضية فإن المتلو في هذه السورة بعض قصة موسى وفرعون في الواقع ألا ترى أنه قد ذكرت في القرآن أشياء من قصة موسى لم تذكر هنا مثل ذكر آية الطوفان والجراد‏.‏

وجعل الزمخشري ‏{‏من‏}‏ اسماً بمعنى ‏(‏بعض‏)‏ فجعلها مفعول ‏{‏نتلو‏}‏‏.‏ وجعل الأخفش ‏{‏من‏}‏ زائدة لأنه يرى أن ‏{‏من‏}‏ تزاد في الإثبات، فجعل ‏{‏نبإ موسى‏}‏ هو المفعول جُرّ بحرف الجر الزائدة‏.‏

والنبأ‏:‏ الخبر المهم العظيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

وهذه الجملة وما عطف عليها بيان لجملة ‏{‏نتلو‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 3‏]‏ أو بيان ل ‏{‏نبأ موسى وفرعون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 3‏]‏ فقدم له الإجمال للدلالة على أنه نبأ له شأن عظيم وخطر بما فيه من شتى العبر‏.‏ وافتتاحها بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر‏.‏

وابتدئت القصة بذكر أسبابها لتكون عبرة للمؤمنين يتخذون منها سنناً يعلمون بها علل الأشياء ومعلولاتها، ويسيرون في شؤونهم على طرائقها، فلولا تجبر فرعون وهو من قبيح الخلال من حلّ به وبقومه الاستئصال، ولما خرج بنو إسرائيل من ذل العبودية‏.‏ وهذا مصداق المثل‏:‏ مصائب قوم عند قوم فوائد، وقوله تعالى ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏

وصورت عظمة فرعون في الدنيا بقوله ‏{‏علا في الأرض‏}‏ لتكون العبرة بهلاكه بعد ذلك العلو أكبر العبر‏.‏

ومعنى العلوّ هنا الكِبْر، وهو المذموم من العلو المعنوي كالذي في قوله تعالى ‏{‏نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏‏.‏ ومعناه‏:‏ أن يستشعر نفسه عالياً على موضع غيره ليس يساويه أحد، فالعلو مستعار لمعنى التفوّق على غيره، غير محقوق لحق من دين أو شريعة أو رعي حقوق المخلوقات معه فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح وتجنب فساد وضر وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته وإرضاء هواه، وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلهاً وأنه ابن الشمس‏.‏

فليس من العلو المذموم رجحان أحد في أمر من الأمور لأنه جدير بالرجحان فيه جرياً على سبب رجحان عقلي كرجحان العالم على الجاهل والصالح على الطالح والذكي على الغبي، أو سبب رجحان عادي ويشمل القانوني وهو كل رجحان لا يستقيم نظام الجماعات إلا بمراعاته كرجحان أمير الجيش على جنوده ورجحان القاضي على المتخاصمين‏.‏

وأعدل الرجحان ما كان من قبل الدين والشريعة كرجحان المؤمن على الكافر، والتقي على الفاسق، قال تعالى ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏ ويترجح في كل عمل أهل الخبرة به والإجادة فيه وفيما وراء ذلك فالأصل المساواة‏.‏

وفرعون هذا هو ‏(‏رعمسيس‏)‏ الثاني وهو الملك الثالث من ملوك العائلة التاسعة عشرة في اصطلاح المؤرخين للفراعنة، وكان فاتحاً كبيراً شديد السطوة وهو الذي ولد موسى عليه السلام في زمانه على التحقيق‏.‏

و ‏{‏الأرض‏}‏‏:‏ هي أرض مصر، فالتعريف فيها للعهد لأن ذكر فرعون يجعلها معهودة عند السامع لأن فرعون اسم ملك مصر‏.‏ ويجوز أن تجعل المراد بالأرض جميع الأرض يعني المشهور المعروف منها، فإطلاق الأرض كإطلاق الاستغراق العرفي فقد كان ملك فرعون ‏(‏رعمسيس‏)‏ الثاني ممتداً من بلاد الهند من حدود نهر ‏(‏الكنك‏)‏ في الهند إلى نهر ‏(‏الطونة‏)‏ في أوروبا، فالمعنى أرض مملكته، وكان علوه أقوى من علو ملوك الأرض وسادة الأقوام‏.‏

والشيع‏:‏ جمع شيعة‏.‏ والشيعة‏:‏ الجماعة التي تشايع غيرها على ما يريد، أي تتابعه وتطيعه وتنصره كما قال تعالى ‏{‏هذا من شيعته وهذا من عدوه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏، وأطلق على الفرقة من الناس على سبيل التوسع بعلاقة الإطلاق عن التقييد قال تعالى ‏{‏من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏‏.‏

ومن البلاغة اختياره هنا ليدل على أنه جعل أهل بلاد القبط فرقاً ذات نزعات تتشيع كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال «فرّق تحكم» وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة‏.‏

وكان ‏(‏رعمسيس‏)‏ الثاني قسم بلاد مصر إلى ست وثلاثين إيالة وأقام على كل إيالة أمراء نواباً عنه ليتسنى له ما حكي عنه في هذه الآية بقوله تعالى ‏{‏يستضعف طائفة منهم‏}‏ الواقع موقع الحال من ضمير ‏{‏جعل‏}‏ وأبدلت منها بدل اشتمال جملة ‏{‏يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم‏}‏ لأنه ما فعل ذلك بهم إلا لأنه عدّهم ضعفاء، أي أذلة فكان يسومهم العذاب ويسخّرهم لضرب اللبن وللأعمال الشاقة‏.‏ والطائفة المستضعفة هي طائفة بني إسرائيل، وضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏أهلها‏}‏ لا إلى ‏{‏شيعاً‏}‏‏.‏ وتقدم الكلام على ذبح أبناء بني إسرائيل في سورة البقرة‏.‏

وجملة ‏{‏إنه كان من المفسدين‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏‏.‏ وقد علمت مما مضى عند قوله ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ أن الخبر بتلك الصيغة أدل على تمكن الوصف مما لو قيل‏:‏ أن أكون جاهلاً، فكذلك قوله ‏{‏إنه كان من المفسدين‏}‏ دال على شدة تمكن الإفساد من خلقه ولفعل الكون إفادة تمكن خبر الفعل من اسمه‏.‏

فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة‏.‏

المفسدة الأولى‏:‏ التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم، وسوء ظنه بهم وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل سوى ما يرضي شهوته وغضبه، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضية سوء رعايته لهم والاجتراء على دحض حقوقهم، وأن يرمقهم بعين الاحتقار فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم، وأن يبتز منافعهم لنفسه ويسخر من استطاع منهم لخدمة أغراضه وأن لا يلين لهم في سياسة فيعاملهم بالغلظة وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أمّ المفاسد وجماعها ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها ثم أعقبت بأنه ‏{‏كان من المفسدين‏}‏‏.‏

المفسدة الثانية‏:‏ أنه جعل أهل المملكة شيعاً وفرّقهم أقساماً وجعل منهم شيعاً مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينها التحاسد والتباغض، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين‏.‏

وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فيكون بعضهم لبعض فتنة، وشأن الملك الصالح أن يجعل الرعية منه كلها بمنزلة واحدة بمنزلة الأبناء من الأب يحب لهم الخير ويقومهم بالعدل واللين، لا ميزة لفرقة على فرقة، ويكون اقتراب أفراد الأمة منه بمقدار المزايا النفسية والعقلية‏.‏

المفسدة الثالثة‏:‏ أنه يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشأوا فيها‏.‏

والمراد بالطائفة‏:‏ بنو إسرائيل وقد كانوا قطنوا في أرض مصر برضى ملكها في زمن يوسف وأعطوا أرض ‏(‏جاسان‏)‏ وعمروها وتكاثروا فيها ومضى عليهم فيها أربعمائة سنة، فكان لهم من الحق في أرض المملكة ما لسائر سكانها فلم يكن من العدل جعلهم بمنزلة دون منازل غيرهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى ‏{‏طائفة منهم‏}‏ إذ جعلها من أهل الأرض الذين جعلهم فرعون شيعاً‏.‏

وأشار بقوله ‏{‏طائفة‏}‏ إلى أنه استضعف فريقاً كاملاً، فأفاد ذلك أن الاستضعاف ليس جارياً على أشخاص معيّنين لأسباب تقتضي استضعافهم ككونهم ساعين بالفساد أو ليسوا أهلاً للاعتداد بهم لانحطاط في أخلاقهم وأعمالهم بل جرى استضعافه على اعتبار العنصرية والقبلية وذلك فساد لأنه يقرن الفاضل بالمفضول‏.‏

من أجل ذلك الاستضعاف المنوط بالعنصرية أجرى شدته على أفراد تلك الطائفة دون تمييز بين مستحق وغيره ولم يراع غير النوعية من ذكورة وأنوثة وهي‏:‏

المفسدة الرابعة‏:‏ أنه ‏{‏يذبح أبناءهم‏}‏ أي يأمر بذبحهم، فإسناد الذبح إليه مجاز عقلي‏.‏ والمراد بالأبناء‏:‏ الذكور من الأطفال‏.‏ وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة‏.‏ وقصده من ذلك أن لا تكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم حتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة‏.‏

المفسدة الخامسة‏:‏ أنه يستحيي النساء، أي يستبقي حياة الإناث من الأطفال، فأطلق عليهم اسم النساء باعتبار المآل إيماء إلى أنه يستحييهن ليصرن نساء فتصلحن لما تصلح له النساء وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج‏.‏ وإذ كان احتقارهن بصد قومه عن التزوج بهن فلم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء إذ كل ذلك اعتداء على الحق‏.‏ وقد تقدم آنفاً موقع جملة ‏{‏إنه كان من المفسدين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

عطفت جملة ‏{‏ونريد‏}‏ على جملة ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ لمناسبة ما في تلك الجملة من نبأ تذبيح الأبناء واستحياء النساء، فذلك من علو فرعون في الأرض وهو بيان لنبإ موسى وفرعون فإن إرادة الله الخير بالذين استضعفهم فرعون من تمام نبإ موسى وفرعون، وهو موقع عبرة عظيمة من عِبَر هذه القصة‏.‏

وجيء بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد في ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة، ولذلك جاز أن تكون جملة ‏{‏ونريد‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يستضعف‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏ باعتبار أن تلك الإرادة مقارنة لوقت استضعاف فرعون إياهم‏.‏ فالمعنى على الاحتمالين‏:‏ ونحن حينئذ مُريدون أن ننعم في زمن مستقبل على الذين استضعفوا‏.‏

والمنّ‏:‏ الإنعام، وجاء مضارعه مضموم العين على خلاف القياس‏.‏

و ‏{‏الذين استضعفوا في الأرض‏}‏ هم الطائفة التي استضعفها فرعون‏.‏ و‏{‏الأرض‏}‏ هي الأرض في قوله ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ونكتة إظهار ‏{‏الذين استضعفوا‏}‏ دون إيراد ضمير الطائفة للتنبيه على ما في الصلة من التعليل فإن الله رحيم لعباده، وينصر المستضعفين المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏.‏

وخص بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل ‏{‏نمنّ‏}‏ عطف الخاص على العام وهي‏:‏ جعلهم أيمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة، ذكر كثير منها في سورة البقرة‏.‏

فأما جعلهم أيمة فذلك بأن أخرجهم من ذلّ العبودية وجعلهم أمة حرة مالكة أمر نفسها لها شريعة عادلة وقانون معاملاتها وقوة تدفع بها أعداءها ومملكة خالصة لها وحضارة كاملة تفوق حضارة جيرتها بحيث تصير قدوة للأمم في شؤون الكمال وطلب الهناء، فهذا معنى جعلهم أيمة، أي يقتدي بهم غيرهم ويدعون الناس إلى الخير وناهيك بما بلغه ملك إسرائيل في عهد سليمان عليه السلام‏.‏

وأما جعلهم الوارثين فهو أن يعطيهم الله ديار قوم آخرين ويحكّمهم فيهم، فالإرث مستعمل مجازاً في خلافة أمم أخرى‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الوارثين‏}‏ تعريف الجنس المفيد أنهم أهل الإرث الخاص وهو إرث السلطة في الأرض بعد من كان قبلهم من أهل السلطان، فإن الله أورثهم أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والأراميين، وأحلهم محلهم على ما كانوا عليه من العظمة حتى كانوا يعرفون بالجبابرة قال تعالى ‏{‏قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والتمكين لهم في الأرض تثبيت سلطانهم فيما ملكوه منها وهي أرض الشام إن كانت اللام عوضاً عن المضاف إليه‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى تقويتهم بين أمم الأرض إن حمل التعريف على جنس الأرض المنحصر في فرد، أو على العهد، أي الأرض المعهودة للناس‏.‏

وأصل التمكين‏:‏ الجعل في المكان، وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏إنا مكّنّا له في الأرض‏}‏ في سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 84‏]‏، وتقدم الكلام على اشتقاق التمكين وتصاريفه عند قوله تعالى ‏{‏مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما كانوا يحذرون‏}‏ هو زوال ملكهم بسبب رجل من بني إسرائيل حسبما أنذره بذلك الكهان‏.‏

ومعنى إراءتهم ذلك إراءتهم مقدماته وأسبابه‏.‏

وفرعون الذي أُرِي ذلك هو ملك مصر ‏(‏منفتاح‏)‏ الثالث وهو الذي حكم مصر بعد ‏(‏رعمسيس‏)‏ الثاني الذي كانت ولادة موسى في زمانه وهو الذي كان يحذر ظهور رجل من إسرائيل يكون له شأن‏.‏ و‏{‏هامان‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هو وزير فرعون‏.‏ وظاهر آيات هذه السورة يقتضي أنه وزير فرعون وأحسب أن هامان ليس باسم علم ولكنه لقب خطة مثل فرعون وكسرى وقيصر ونجاشي‏.‏ فالظاهر أن هامان لقب وزير الملك في مصر في ذلك العصر‏.‏ وجاء في كتاب «أستير» من كتب اليهود الملحقة بالتوراة تسمية وزير ‏(‏أحشويروش‏)‏ ملك الفرس ‏(‏هامان‏)‏ فظنوه علماً فزعموا أنه لم يكن لفرعون وزير اسمه هامان واتخذوا هذا الظن مطعناً في هذه الآية‏.‏ وهذا اشتباه منهم فإن الأعلام لا تنحصر وكذلك ألقاب الولايات قد تشترك بين أمم وخاصة الأمم المتجاورة، فيجوز أن يكون ‏{‏هامان‏}‏ علماً من الأمان فإن الأعلام تتكرر في الأمم والعصور، ويجوز أن يكون لقب خطة في مصر فنقل اليهود هذا اللقب إلى بلاد الفرس في مدة أسرهم‏.‏

ويشبه هذا الطعن طعن بعض المستشرقين من نصارى العصر في قوله تعالى في شأن مريم حين حكى قول أهلها لها ‏{‏يا أخت هارون‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 28‏]‏ فقالوا‏:‏ هذا وهم انجرّ من كون أبي مريم اسمه عمران فتوهم أن عمران هو أبو موسى الرسول عليه السلام، وتبع ذلك توهم أن مريم أخت موسى وهارون وهو مجازفة فإن النصارى لا يعرفون اسم أبي مريم وهل يمتنع أن يكون مسمى على اسم أبي موسى وهارون وهل يمتنع أن يكون لمريم أخ اسمه هارون‏.‏ وقد تكلمنا على ذلك في سورة مريم‏.‏

والجنود جمع الجند‏.‏ ويطلق الجند على الأمة قال تعالى ‏{‏هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 17- 18‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ونُرِيَ‏}‏ بنون العظمة ونصب الفعل ونصب ‏{‏فرعونَ‏}‏ وما عطف عليه‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف ‏{‏ويرى‏}‏ بياء الغائب مفتوحة وفتح الراء على أنه مضارع رأى ورفع ‏{‏فرعونُ‏}‏ وما عطف عليه‏.‏ ومآل معنى القراءتين واحد‏.‏

والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه‏:‏ هو الجماعة من الناس التي تجتمع على أمر تتبعه، فلذلك يطلق على العسكر لأن عملهم واحد وهو خدمة أميرهم وطاعته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏، إذ الكل من أجزاء النبأ‏.‏ وتتضمن هذه الجملة تفصيلاً لمجمل قوله ‏{‏ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا‏}‏، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم‏.‏

والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية‏.‏ فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقيناً ينبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه‏.‏ وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها‏.‏ وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها‏.‏

وقوله ‏{‏أن أرضعيه‏}‏ تفسير ل ‏{‏أوحينا‏}‏‏.‏ والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدّر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى‏.‏

والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن‏:‏ أخفيه مدة ترضعه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليمّ‏.‏

وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بُنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليمّ قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أُحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم‏.‏ وحكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقيَّر وقذفته في النهر‏.‏ وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه ‏{‏من المرسلين‏}‏‏.‏

والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عندما ترى دلائل المخافة من جواسيس فرعون وذلك ليكون إلقاؤه في اليم عند الضرورة دفعاً للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه‏.‏

و ‏{‏اليم‏}‏‏:‏ البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل‏.‏ واليم في كلام العرب مرادف البحر، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر، فالنهر العظيم يسمى بحراً قال تعالى ‏{‏وما يستوي البحران هذا عذاب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 12‏]‏، فإن اليم من الأنهار‏.‏

وقد كانت هذه الآية مثالاً من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في «الشفاء» والقرطبي في «التفسير» يزيد أحدهما على الآخر عن الأصمعي‏:‏ أنه سمع جارية أعرابية تنشد‏:‏

أستغفر الله لأمري كله *** قتلت إنساناً بغير حله

مثل غزال ناعماً في دله *** انتصف الليل ولم أُصَلِّه

وهي تريد التورية بالقرآن‏.‏ فقال لها‏:‏ قاتلك الله ما أفصحك يريد ما أبلغك ‏(‏وكانوا يسمون البلاغة فصاحة‏)‏ فقالت له‏:‏ أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين‏}‏ فجمع في آية واحدة خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين‏.‏

فالخبران هما ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى‏}‏ وقوله ‏{‏فإذا خفت عليه‏}‏ لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه‏.‏

والأمران هما‏:‏ ‏{‏أرضعيه‏}‏ و‏(‏ألقيه‏)‏‏.‏

والنهيان‏:‏ ‏{‏ولا تخافي‏}‏ و‏{‏لا تحزني‏}‏‏.‏

والبشارتان‏:‏ ‏{‏إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين‏}‏‏.‏

والخوف‏:‏ توقع أمر مكروه، والحزن‏:‏ حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب، أو فقد حبيب، أو بعده، أو نحو ذلك‏.‏

والمعنى‏:‏ لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم، ولا تحزني على فراقه‏.‏

والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق‏.‏

وجملة ‏{‏إنا رادوه إليك‏}‏ في موقع العلة للنهيين لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب‏.‏ وأما قوله ‏{‏وجاعلوه من المرسلين‏}‏ فإدخال للمسرة عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الالتقاط افتعال من اللقط، وهو تناول الشيء الملقى في الأرض ونحوها بقصد أو ذهول‏.‏ أسند الالتقاط إلى آل فرعون لأن استخراج تابوت موسى من النهر كان من إحدى النساء الحافات بابنة فرعون حين كانت مع أترابها وداياتها على ساحل النيل كما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الخروج‏.‏

واللام في ‏{‏ليكون لهم عدواً‏}‏ لام التعليل وهي المعروفة عند النحاة بلام كي وهي لام جارة مثل كي، وهي هنا متعلقة ب ‏(‏التقطه‏)‏‏.‏ وحق لام كي أن تكون جارة لمصدر منسبك من ‏(‏أن‏)‏ المقدرة بعد اللام ومن الفعل المنصوب بها فذلك المصدر هو العلة الباعثة على صدور ذلك الفعل من فاعله‏.‏ وقد استعملت في الآية استعمالاً وارداً على طريقة الاستعارة دون الحقيقة لظهور أنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدوّاً وحزناً ولكنهم التقطوه رأفة به وحباً له لما أُلقي في نفوسهم من شفقة عليه ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدوّاً في الله ومُوجب حزن لهم، شبهت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل كشأن العلة غالباً فاستعير لترتب العاقبة المشبهة الحرف الذي يدل على ترتيب العلة تبعاً لاستعارة معنى الحرف إلى معنى آخر استعارة تبعية، أي استعير الحرف تبعاً لاستعارة معناه لأن الحروف بمعزل عن الاستعارة لأن الحرف لا يقع موصوفاً، فالاستعارة تكون في معناه ثم تسري من المعنى إلى الحرف فلذلك سميت استعارة تبعية عند جمهور علماء المعاني خلافاً للسكاكي‏.‏

وضمير ‏{‏لهم‏}‏ يعود إلى آل فرعون باعتبار الوصف العنواني لأن موسى كان عدواً لفرعون آخر بعد هذا، أي ليكون لدولتهم وأمتهم عدواً وحزناً فقد كانت بعثة موسى في مدة ابن فرعون هذا‏.‏

ووصفه بالحزن وهو مصدر على تقدير متعلق محذوف، أي حزناً لهم لدلالة قوله لهم السابق‏.‏ وليس هذا من الوصف بالمصدر للمبالغة مثل قولك‏:‏ فلان عدل، لأن ذلك إذا كان المصدر واقعاً موقع اسم الفاعل فكان معنى المصدر قائماً بالموصوف‏.‏ والمعنى هنا‏:‏ ليكون لهم حزناً‏.‏ والإسناد مجاز عقلي لأنه سبب الحزن وليس هو حزناً‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وحزناً‏}‏ بفتح الحاء والزاي‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضم الحاء وسكون الزاي وهما لغتان كالعَدَم والعُدْم‏.‏

وجملة ‏{‏إن فرعون وهامان‏}‏ إلى آخرها في موضع العلة لجملة ‏{‏ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ أي قدّر الله نجاة موسى ليكون لهم عدوّاً وحزناً، لأنهم كانوا مجرمين فجعل الله ذلك عقاباً لهم على ظلمهم بني إسرائيل وعلى عبادة الأصنام‏.‏

والخاطئ‏:‏ اسم فاعل من خَطِئ كفرح إذا فعل الخطيئة وهي الإثم والذنب، قال تعالى ‏{‏ناصية كاذبة خاطئة‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ومصدره الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏إن قتلهم كان خطئاً كبيراً‏}‏

في ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وأما الخطأ وهو ضد العمد ففعله أخطأ فهو مخطئ، قال تعالى ‏{‏ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، فعلى هذا يتعين أن الفصحاء فرقوا الاستعمال بين مرتكب الخطيئة ومرتكب الخطأ، وعلى التفرقة بين أخطأ وخطِئ درج نفطويه وتبعه الجوهري والحريري‏.‏

وذهب أبو عبيد وابن قتيبة إلى أن اللفظين مترادفان وأنهما لغتان، وظاهر كلام الزمخشري هنا أنه جار على قول أبي عبيد وابن قتيبة فقد فسر هذه الآية بالمعنيين وقال في «الأساس»‏:‏ «أخطأ في الرأي وخطئ إذا تعمد الذنب‏.‏ وقيل‏:‏ هما واحد»‏.‏

ويظهر أن أصلهما لغتان في معنى مخالفة الصواب عن غير عمد أو عن عمد، ثم غلب الاستعمال الفصيح على تخصيص أخطأ بفعل على غير عمد وخطِئ بالإجرام والذنب وهذا الذي استقر عليه استعمال اللغة‏.‏ وإن الفروق بين الألفاظ من أحسن تهذيب اللغة‏.‏

فأما محمل الآية هنا فلا يناسبه إلا أن يكون ‏{‏خاطئين‏}‏ من الخطيئة ليكون الكلام تعليلاً لتكوين حزنهم منه بالأخارة‏.‏ وتقدم ذكر هامان آنفاً القصص ‏[‏6‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يدل الكلام على أن الذين انتشلوه جعلوه بين أيدي فرعون وامرأته فرقت له امرأة فرعون وصرفت فرعون عن قتله بعد أن هم به لأنه علم أن الطفل ليس من أبناء القبط بلون جلوته وملامح وجهه، وعلم أنه لم يكن حمله النيل من مكان بعيد لظهوره أنه لم يطل مكث تابوته في الماء ولا اضطرابه بكثرة التنقل، فعلم أن وقعه في التابوت لقصد إنجائه من الذبح‏.‏ وكان ذلك وقت انتشاله من الماء وإخراجه من التابوت‏.‏ وكانت امرأة فرعون امرأة ملهمة للخير وقدّر الله نجاة موسى بسببها‏.‏ وقد قال الله تعالى في شأنها ‏{‏وضرب الله مثلاً للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 11‏]‏، وهي لم تر عداوة موسى لآل فرعون ولا حزنت منه لأنها انقرضت قبل بعثة موسى‏.‏

و ‏{‏امرأة فرعون‏}‏ سميت آسية كما في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون» ويفيد قولها ذلك أن فرعون حين رآه استحسنه ثم خالجه الخوف من عاقبة أمره فلذلك أنذرته امرأته بقولها ‏{‏قرة عين لي ولك لا تقتلوه‏}‏‏.‏

وارتفع ‏{‏قرة عين‏}‏ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هذا الطفل‏.‏ وحذفه لأنه دل عليه حضوره بين أيديهم وهو على حذف مضاف، أي هو سبب قرة عين لي ولك‏.‏

و ‏(‏قرة العين‏)‏ كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سُخْنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن، فلما كُني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء‏:‏ أسخن الله عينه‏.‏ وقول الراجز‏:‏

أوه أديم عرضه وأسخن *** بعينه بعد هجوع الأعين

أتبعوا ذلك بأن كنّوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا‏:‏ قرة عين، وأقر الله عينه، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرّة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنّى به العرب عن ذلك وهو ‏{‏قرة عين‏}‏، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى ‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون قوله ‏{‏قرة عين‏}‏ قسماً كما يقال‏:‏ أيمن الله‏.‏ فإن العرب يقسمون بذلك، أي أقسم بما تقرّ به عيني‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ أن أبا بكر الصديق استضاف نفراً وتأخر عن وقت عشائهم ثم حضر، وفيه قصة إلى أن قال الراوي‏:‏ فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها‏.‏ فقال أبو بكر لامرأته‏:‏ يا أخت بني فراس ما هذا‏؟‏ فقالت‏:‏ وقُرّة عيني إنها الآن أكثر من قبل‏.‏

فتكون امرأة فرعون أقسمت على فرعون بما فيه قرة عينها، وقرة عينه أن لا يقتل موسى، ويكون رفع ‏{‏قرة عينٍ‏}‏ على الابتداء وخبره محذوفاً، وهو حذف كثير في نص اليمين مثل‏:‏ لعمرك‏.‏ وابتدأت بنفسها في ‏{‏قرة عين لي‏}‏ قبل ذكر فرعون إدلالاً عليه لمكانتها عنده أرادت أن تبتدره بذلك حتى لا يصدر عنه الأمر بقتل الطفل‏.‏

وضمير الجمع في قولها ‏{‏لا تقتلوه‏}‏ يجوز أن يراد به فرعون نزّلته منزلة الجماعة على وجه التعظيم كما في قوله ‏{‏قال رب ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏.‏ ويجوز أن يراد به خطاب فرعون داخلاً فيه أهل دولته هامان والكهنة الذين ألقوا في نفس فرعون أن فتى من إسرائيل يفسد عليه مملكته‏.‏ وهذا أحسن لأن فيه تمهيداً لإجابة سُؤْلها حين أسندت معظم القتل لأهل الدولة وجعلت لفرعون منه حظ الواحد من الجماعة فكأنها تعرّض بأن ذلك ينبغي أن لا يكون عن رأيه فتهوِّن عليه عدوله في هذا الطفل عما تقرر من قتل الأطفال‏.‏ وقيل ‏{‏لا تقتلوه‏}‏ التفات عن خطاب فرعون إلى خطاب الموكّلين بقتل أطفال إسرائيل كقوله ‏{‏يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

فموقع جملة ‏{‏قرة عين لي ولك‏}‏ موقع التمهيد والمقدمة للعرض‏.‏ وموقع جملة ‏{‏لا تقتلوه‏}‏ موقع التفريع عن المقدمة ولذلك فصلت عنها‏.‏

وأما جملة ‏{‏عسى أن ينفعنا‏}‏ فهي في موقع العلة لمضمون جملة ‏{‏لا تقتلوه‏}‏ فاتصالها بها كاتصال جملة ‏{‏قرة عين لي ولك‏}‏ بها، ولكن نظم الكلام قضى بهذا الترتيب البليغ بأن جعل الوازع الطبيعي عن القتل وهو وازع المحبة هو المقدِّمة لأنه أشدّ تعلقاً بالنفس فهو يشبه المعلوم البديهي‏.‏ وجعل الوازع العقلي بعد النهي علةً لاحتياجه إلى الفكر، فتكون مهلة التفكير بعد سماع النهي الممهد بالوازع الطبيعي فلا يخشى جماح السامع من النهي ورفضه إياه‏.‏

ويتضمن قولها ‏{‏عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً‏}‏ إزالة ما خامر نفس فرعون من خشية فساد ملكه على يد فتى إسرائيلي بأن هذا الطفل لا يكون هو المخوف منه لأنه لما انضم في أهلهم وسيكون ربيَّهم فإنه يرجى منه نفعهم وأن يكون لهم كالولد‏.‏ فأقنعت فرعون بقياس على الأحوال المجربة في علاقة التربية والمعاشرة والتبني والإحسان، وإن الخير لا يأتي بالشر‏.‏ ولذلك وقع بعده الاعتراض بقوله تعالى ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ أي وفرعون وقومه لا يعلمون خفي إرادة الله من الانتقام من أمة القبط بسبب موسى‏.‏ ولعل الله حقق لامرأة فرعون رجاءها فكان موسى قرة عين لها ولزوجها، فلما هلكا وجاء فرعون آخر بعدهما كان ما قدّره الله من نصر بني إسرائيل‏.‏

واختير ‏{‏يشعرون‏}‏ هنا لأنه من العلم الخفي، أي لا يعلمون هذا الأمر الخفي‏.‏