فصل: تفسير الآية رقم (10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏أصبح‏}‏ مستعمل في معنى ‏(‏صار‏)‏ فاقتضى تحولاً من حالة إلى حالة أخرى، أي كان فؤادها غير فارغ فأصبح فارغاً‏.‏

والفؤاد مستعمل في معنى العقل واللب‏.‏

والفراغ مجازي‏.‏ ومعنى فراغ العقل من أمر أنه مجاز عن عدم احتواء العقل على ذلك الأمر احتواء مجازياً، أي عدم جولان معنى ذلك الأمر في العقل، أي ترك التفكير فيه‏.‏

وإذ لم يذكر أن فؤاد أم موسى لماذا أصبح فارغاً احتملت الآية معاني ترجع إلى محتملات متعلق الفراغ ما هو‏.‏ فاختلف المفسرون في ذلك قديماً، ومرجع أقوالهم إلى ناحيتين‏:‏ ناحية تؤذن بثبات أم موسى ورباطة جاشها، وناحية تؤذن بتطرق الضعف والشك إلى نفسها‏.‏

فأما ما يرجع إلى الناحية الأولى فهو أنه فارغ من الخوف والحزن فأصبحت واثقة بحسن عاقبته تبعاً لما ألهمها من أن لا تخاف ولا تحزن فيرجع إلى الثناء عليها‏.‏ وهذا أسعد بقوله تعالى بعد ‏{‏لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين‏}‏ لأن ذلك الربط من توابع ما ألهمها الله من أن لا تخاف ولا تحزن‏.‏

فالمعنى‏:‏ أنها لما ألقته في اليم كما ألهمها الله زال عنها ما كانت تخافه عليه من الظهور عليه عندها وقتله لأنها لما تمكنت من إلقائه في اليم ولم يشعر بها أحد قد علمت أنه نجا‏.‏ وهذا المحمل يساعده أيضاً ما شاع من قولهم‏:‏ فلان خلي البال‏:‏ إذا كان لا هم بقلبه‏.‏ وهو تفسير أبي عبيدة والأخفش والكسائي وهذا أحسن ما فسرت به وهو من معنى الثناء عليها بثباتها‏.‏ وعن ابن عباس من طرق شتى أنه قال‏:‏ فارغاً من كل شيء إلا ذكر موسى‏.‏ وفي هذا شيء من رباطة جاشها إذ فرغ لبها من كل خاطر يخطر في شأن موسى‏.‏

وأما زيادة ما أداه الاستثناء بقوله‏:‏ إلا ذكر موسى، فلعله انتزعه من قوله ‏{‏إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها‏}‏ وإلا فليس في الآية ما يؤذن بذلك الاستثناء‏.‏ وهذا التفسير يقتضي الجمع بين الثناء عليها بحسن ثقتها بالله والإشارة إلى ضعف الأمومة بالتشوق إلى ولدها وإن كانت عالمة بأنه يتقلب في أحوال صالحة به وبها‏.‏

وأما الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فقال ابن عطية والقرطبي عن ابن القاسم عن مالك‏:‏ الفراغ هو ذهاب العقل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هو كقوله تعالى ‏{‏وأفئدتهم هواء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 43‏]‏ أي لا عقول فيها‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ أي لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع‏.‏ وقال ابن زيد والحسن وابن إسحاق‏:‏ أصبح فارغاً من تذكر الوعد الذي وعدها الله إذ خامرها خاطر شيطاني فقالت في نفسها‏:‏ إني خفت عليه من القتل فألقيته بيدي في يد العدو الذي أمر بقتله‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وقالت فرقة‏:‏ فارغاً من الصبر‏.‏ ولعله يعني من الصبر على فقده‏.‏ وكل الأقوال الراجعة إلى هذه الناحية ترمي إلى أن أم موسى لم تكن جلدة على تنفيذ ما أمرها الله تعالى وأن الله تداركها بوضع اليقين في نفسها‏.‏

وجملة ‏{‏إن كادت لتُبدي به لولا أن ربطنا على قلبها‏}‏ تكون بالنسبة للتفسير الأول استئنافاً بيانياً لما اقتضاه فعل ‏{‏أصبح‏}‏ من أنها كانت على حالة غير حالة فراغ فبينت بأنها كانت تقارب أن تظهر أمر ابنها من شدة الاضطراب فإن الاضطراب ينم بها‏.‏

فالمعنى‏:‏ أصبح فؤادها فارغاً، وكادت قبل ذلك أن تبدي خبر موسى في مدة إرضاعه من شدة الهلع والإشفاق عليه أن يقتل‏.‏ وعلى تفسير ابن عباس تكون جملة ‏{‏إن كادت‏}‏ بمنزلة عطف البيان على معنى ‏{‏فارغاً‏}‏‏.‏ وهي دليل على الاستثناء المحذوف‏.‏ فالتقدير‏:‏ فارغاً إلا من ذكر موسى فكادت تظهر ذكر موسى وتنطق باسمه من كثرة تردد ذكره في نفسها‏.‏

وأما على الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فجملة ‏{‏إن كادت لتبدي به‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً‏}‏، أي كادت لتُبْدي أمر موسى من قلة ثبات فؤادها‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ لما رأت الأمواج حملت التابوت كادت أن تصيح‏.‏

والباء في ‏{‏به‏}‏ إما لتأكيد لصوق المفعول بفعله والأصل‏:‏ لتبديه، وإما لتضمين ‏(‏تبدي‏)‏ معنى ‏(‏تبوح‏)‏ وهو أحسن و‏{‏إن‏}‏ مخففة من الثقيلة‏.‏ واللام في ‏{‏لتبدي‏}‏ فارقة بين ‏{‏إن‏}‏ المخففة و‏(‏إن‏)‏ النافية‏.‏

والربط على القلب‏:‏ توثيقه عن أن يضعف كما يشد العضو الوهن، أي ربطنا على قلبها بخلق الصبر فيه‏.‏ وجواب ‏{‏لولا‏}‏ هو جملة ‏{‏إن كادت لتبدي به‏}‏‏.‏

والمراد بالمؤمنين المصدقون بوعد الله، أي لولا أن ذكّرناها ما وعدناها فاطمأن فؤادها‏.‏ فالإيمان هنا مستعمل في معناه اللغوي دون الشرعي لأنها كانت من المؤمنين من قبل، أو أريد من كاملات المؤمنين‏.‏

واللام للتعليل، أي لتُحرز رتبة المؤمنين بأمر الله الذين لا يتطرقهم الشك فيما يأتيهم من الواردات الإلهية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ظاهر ترتيب الأخبار أنها على وفق ترتيب مضامينها في الحصول، وهذا يرجح أن يكون حصول مضمون ‏{‏وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 10‏]‏ سابقاً على حصول مضمون ‏{‏وقالت لأخته قصيه‏}‏، أي قالت لأخته ذلك بعد أن اطمأن قلبها لما ألهمته من إلقائه في اليم، أي لما ألقته في اليم قالت لأخته‏:‏ انظري أين يلقيه اليم ومتى يستخرج منه، وقد علمت أن اليم لا يلقيه بعيداً عنها لأن ذلك مقتضى وعد الله برده إليها‏.‏

وأخت موسى اسمها مريم، وقد مضى ذكر القصة في سورة طه‏.‏

والقصّ‏:‏ اتباع الأثر، استعمل في تتبع الذات بالنظر فلذلك عُدي إلى ضمير موسى دون ذكر الأثر‏.‏ وقد تقدم في سورة الكهف ‏(‏64‏)‏ عند قوله ‏{‏فارتدا على ءاثارهما قصصاً‏}‏

وبصُر بالشيء صار ذا بصر به، أي باصراً له فهو يفيد قوة الإبصار، أي قوة استعمال حاسة البصر وهو التحديق إلى المبصر، ف ‏(‏بصر‏)‏ أشد من ‏(‏أبصر‏)‏‏.‏ فالباء الداخلة على مفعوله باء السببية للدلالة على شدة العناية برؤية المرئي حتى كأنه صار باصراً بسببه‏.‏ ولك أن تجعل الباء زائدة لتأكيد الفعل فتفيد زيادة مبالغة في معنى الفعل‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏قال بصُرتُ بما لم يبصروا به‏}‏ في سورة طه ‏(‏96‏)‏‏.‏

والجُنُب‏:‏ بضمتين البعيد‏.‏ وهو صفة لموصوف يعرف من المقام، أي عن مكان جنب‏.‏

و ‏{‏عن‏}‏ للمجاوزة والمجرور في موضع حال من ضمير ‏(‏بصرت‏)‏ لأن المجاوزة هنا من أحوال أخته لا من صفات المكان‏.‏

و ‏{‏هم‏}‏ أي آل فرعون حين التقطوه لا يشعرون بأن أخته تراقب أحواله وذلك من حذق أخته في كيفية مراقبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

الواو للحال من ضمير ‏{‏لأخته‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 11‏]‏‏.‏ والتحريم‏:‏ المنع، وهو تحريم تكويني، أي قدّرنا في نفس الطفل الامتناع من التقام أثداء المراضع وكراهتها ليضطر آل فرعون إلى البحث عن مرضع يتقبّل ثديها؛ لأن فرعون وامرأته حريصان على حياة الطفل، ومن مقدمات ذلك أن جعل الله إرضاعه من أمه مدة تعود فيها بثديها‏.‏

ومعنى ‏{‏من قبل‏}‏ من قبل التقاطه وهو إيذان بأن ذلك التحريم مما تعلق به علم الله وإرادته في الأزل‏.‏

والفاء في قوله ‏{‏فقالت‏}‏ فاء فصيحة تؤذن بجملة مقدرة، أي فأظهرت أخته نفسها كأنها مرت بهم عن غير قصد‏.‏ وإنما قالت ذلك بعد أن فشا في الناس طلب المراضع له وتبديل مرضعة عقب أخرى حتى عُرض على عدد كثير في حصة قصيرة، وذلك بسرعة مقدرة آل فرعون وكثرة تفتيشهم على المراضع حتى ألفوا عدداً كثيراً في زمن يسير، وأيضاً لعرض المراضع أنفسهن على آل فرعون لما شاع أنهم يتطلبون مرضعاً‏.‏

وعرضت سعيها في ذلك بطريق الاستفهام المستعمل في العرض تلطّفاً مع آل فرعون وإبعاداً للظنة عن نفسها‏.‏

ومعنى ‏{‏يكفلونه‏}‏ يتعهدون بحفظه وإرضاعه‏.‏ فيدل هذا على أن عادتهم في الإرضاع أن يسلم الطفل الرضيع إلى المرأة التي ترضعه يكون عندها كما كانت عادة العرب لأن النساء الحرائر لم يكن يرضين بترك بيوتهن والانتقال إلى بيوت آل الأطفال الرضعاء‏.‏ كما جاء في خبر إرضاع محمد صلى الله عليه وسلم عند حليمة بنت وهب في حي بني سعد بن بكر‏.‏ قال صاحب «الكشاف»‏:‏ فدفعه فرعون إليها وأجرى لها وذهبت به إلى بيتها‏.‏

والعدول عن الجملة الفعلية إلى الإسمية في قوله ‏{‏وهم له ناصحون‏}‏ لقصد تأكيد أن النصح من سجاياهم ومما ثبت لهم فلذلك لم يقل‏:‏ وينصحون له كما قيل ‏{‏يكفلونه لكم‏}‏ لأن الكفالة أمر سهل بخلاف النصح والعناية‏.‏

وتعليق ‏{‏له‏}‏ ب ‏{‏ناصحون‏}‏ ليس على معنى التقييد بل لأنه حكاية الواقع‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن النصح من صفاتهم فهو حاصل له كما يحصل لأمثاله حسب سجيتهم‏.‏ والنصح‏:‏ العمل الخالص الخلي من التقصير والفساد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

تقدم نظير قوله ‏{‏فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن‏}‏ في سورة ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقوله ‏{‏ولتعلم أن وعد الله حق‏}‏ فإنما تأكيد حرف ‏{‏كي‏}‏ بمرادفه وهو لام التعليل للتنصيص من أول وهلة على أنه معطوف على الفعل المثبت لا على الفعل المنفي‏.‏

وضمير ‏{‏أكثرهم لا يعلمون‏}‏ عائد إلى الناس المفهوم من المقام أو إلى رعية فرعون، ومن الناس بنو إسرائيل‏.‏

والاستدراك ناشئ عن نصب الدليل لها على أن وعد الله حق، أي فعلمت ذلك وحدها وأكثر القوم لا يعلمون ذلك لأنهم بين مشركين وبين مؤمنين تقادم العهد على إيمانهم وخلت أقوامهم من علماء يلقنونهم معاني الدين فأصبح إيمانهم قريباً من الكفر‏.‏

وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أموراً ذات شأن فيها ذكرى للمؤمنين وموعظة للمشركين‏.‏

فأول ذلك وأعظمه‏:‏ إظهار أن ما علمه الله وقدَّره هو كائن لا محالة كما دل عليه قوله ‏{‏ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض‏}‏ إلى قوله ‏{‏يحذرون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5- 6‏]‏ وأن الحذر لا ينجي من القدر‏.‏

وثانيه‏:‏ إظهار أن العلو الحق لله تعالى وللمؤمنين وأن علو فرعون لم يغننِ عنه شيئاً في دفع عواقب الجبروت والفساد ليكون ذلك عبرة لجبابرة المشركين من أهل مكة‏.‏

وثالثه‏:‏ أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشير إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه والأخذ بناصر المستضعفين ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم وليرجو الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم‏.‏

ورابعه‏:‏ الإشارة إلى حكمة ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏ في جانب بني إسرائيل ‏{‏وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏ في جانب فرعون إذ كانوا فرحين باستخدام بني إسرائيل وتدبير قطع نسلهم‏.‏

وخامسه‏:‏ أن إصابة قوم فرعون بغتة من قِبَل من أملوا منه النفع أشد عبرة للمعتبر وأوقع حسرة على المستبصر، وأدل على أن انتقام الله يكون أعظم من انتقام العدو كما قال ‏{‏فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ مع قوله ‏{‏عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وسادسه‏:‏ أنه لا يجوز بحكم التعقل أن تستأصل أمة كاملة لتوقع مفسد فيها لعدم التوازن بين المفسدتين، ولأن الإحاطة بأفراد أمة كاملة متعذرة فلا يكون المتوقع فساده إلا في الجانب المغفول عنه من الأفراد فتحصل مفسدتان هما أخذ البريء وانفلات المجرم‏.‏

وسابعه‏:‏ تعليم أن الله بالغٌ أمره بتهيئة الأسباب المفضية إليه ولو شاء الله لأهلك فرعون ومن معه بحادث سماوي ولمَا قدّر لإهلاكهم هذه الصورة المرتبة ولأنجى موسى وبني إسرائيل إنجاء أسرع ولكنه أراد أن يحصل ذلك بمشاهدة تنقلات الأحوال ابتداء من إلقاء موسى في اليمّ إلى أن رَدّه إلى أمه فتكون في ذلك عبرة للمشركين الذين

‏{‏قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ وليتوسموا من بوارق ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانتقال أحوال دعوته في مدارج القوة أن ما وعدهم به واقع بأخَرَة‏.‏

وثامنه‏:‏ العبرة بأن وجود الصالحين من بين المفسدين يخفف من لأواء فساد المفسدين فإن وجود امرأة فرعون كان سبباً في صد فرعون عن قتل الطفل مع أنه تحقق أنه إسرائيلي فقالت امرأته ‏{‏لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 9‏]‏ كما قدمنا تفسيره‏.‏

وتاسعه‏:‏ ما في قوله ‏{‏ولتعلم أن وعد الله حق‏}‏ من الإيماء إلى تذكير المؤمنين بأن نصرهم حاصل بعد حين، ووعيد المشركين بأن وعيدهم لا مفرّ لهم منه‏.‏

وعاشره‏:‏ ما في قوله ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ من الإشارة إلى أن المرء يُؤتى من جهله النظر في أدلة العقل‏.‏

ولما في هذه القصة من العبر اكتفى مصعب بن الزبير بطالعها عن الخطبة التي حقه أن يخطب بها في الناس حين حلوله بالعراق من قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير مكتفياً بالإشارة مع التلاوة فقال ‏{‏طسم تلك ءايات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وأشار إلى جهة الشام يريد عبد الملك بن مروان وجعل أهلها شِيَعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وأشار بيده نحو الحجاز، يعني أخاه عبد الله بن الزبير وأنصاره ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما ‏{‏وأشار إلى العراق يعني الحجاج منهم ما كانوا يحذرون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 1- 6‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج‏.‏ وهذا الاعتراض نشأ عن جملة ‏{‏ولتعلم أن وعد الله حق‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 13‏]‏ فإن وعد الله لها قد حكي في قوله تعالى ‏{‏إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله ‏{‏فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينُها‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 13‏]‏ إلى آخره كمّل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله ‏{‏ولما بلغ أشدّه واستوى ءاتيناه حكماً وعلماً‏}‏ وإنما أوتي الحكم أعني النبوءة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى ‏{‏فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وتقدم نظير هذه الآية في سورة يوسف، إلا قوله ‏{‏واستوى‏}‏ فقيل‏:‏ إن ‏{‏استوى‏}‏ بمعنى بلغ أشده، فيكون تأكيداً، والحق أن الأشد كمال القوة لأن أصله جمع شدة بكسر الشين بوزن نعمة وأنعم وهي اسم هيئة بمعنى القوة ثم عومل معاملة المفرد‏.‏ وأن الاستواء‏:‏ كمال البنية كقوله تعالى في وصف الزرع ‏{‏فاستغلظ فاستوى على سوقه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، ولهذا أريد لموسى الوصف بالاستواء ولم يوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد خاصة لأن موسى كان رجلاً طوالاً كما في الحديث «كأنه من رجال شنُؤة» فكان كامل الأعضاء ولذلك كان وكزه القبطي قاضياً على الموكوز‏.‏ والحكم‏:‏ الحكمة، والعلم‏:‏ المعرفة بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

طويت أخبار كثيرة تنبئ عنها القصة وذلك أن موسى يفع وشب في قصر فرعون فكان معدوداً من أهل بيت فرعون، وقيل‏:‏ كان يدعى موسى ابن فرعون‏.‏

وجملة ‏{‏ودخل المدينة‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضيعه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏ عطف جزء القصة على جزء آخر منها، وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل، لعله بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون وكانت تقص عليه نبأه كله‏.‏ والمدينة هي ‏(‏منفيس‏)‏ قاعدة مصر الشمالية‏.‏

ويتعلق ‏{‏على حين غفلة‏}‏ ب ‏{‏دخل‏}‏‏.‏ و‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى ‏{‏على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏، أي متمكناً من حين غفلة‏.‏

وحين الغفلة‏:‏ هو الوقت الذي يغفل فيه أهل المدينة عما يجري فيها وهو وقت استراحة الناس وتفرقهم وخُلوّ الطريق منهم‏.‏ قيل‏:‏ كان ذلك في وقت القيلولة وكان موسى مجتازاً بالمدينة وحده، قيل ليلحق بفرعون إذ كان فرعون قد مر بتلك المدينة‏.‏ والمقصود من ذكر هذا الوقت الإشارة إلى أن قتله القبطي لم يشعر به أحد تمهيداً لقوله بعد ‏{‏قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 19‏]‏ الآيات ومقدمة لذكر خروجه من أرض مصر‏.‏

والإشارتان في قوله ‏{‏هذا من شيعته وهذا من عدوه‏}‏ تفصيل لما أجمل في قوله ‏{‏رجلين يقتتلان‏}‏‏.‏

واسم الإشارة في مثل هذا لا يراعى فيه بُعدٌ ولا قُرب، فلذلك قد تكون الإشارتان متماثلتين كما هنا وكما في قوله تعالى ‏{‏لا إلى هؤلاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏‏.‏ ويجوز اختلافهما كقول المتلمس‏:‏

ولا يقيم على ضيم يراد به *** إلا الأذلان غير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد

والشيعة‏:‏ الجماعة المنتمية إلى أحد، وتقدم آنفاً في قوله ‏{‏وجعل أهلها شيعاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والعدو‏:‏ الجماعة التي يعاديها موسى، أي يُبغضها‏.‏ فالمراد بالذي من شيعته أنه رجل من بني إسرائيل، وبالذي من عدوه رجل من القبط قوم فرعون‏.‏ والعدو وصف يستوي فيه الواحد والجمع كما تقدم عند قوله تعالى ‏{‏فإنهم عدو لي‏}‏ في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏‏.‏

ومعنى كون ‏{‏هذا من شيعته وهذا من عدوه‏}‏ يجوز أن يكون المراد بهذين الوصفين أن موسى كان يعلم أنه من بني إسرائيل بإخبار قصة التقاطه من اليمّ وأن تكون أمه قد أفضت إليه بخبرها وخبره كما تقدم، فنشأ موسى على عداوة القبط وعلى إضمار المحبة لبني إسرائيل‏.‏

وأما وكزه القبطي فلم يكن إلا انتصاراً للحق على جميع التقادير، ولذلك لما تكررت الخصومة بين ذلك الإسرائيلي وبين قبطي آخر وأراد موسى أن يبطش بالقبطي لم يقل له القبطي‏:‏ إن تريد إلا أن تنصر قومك وإنما قال ‏{‏إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 19‏]‏‏.‏

قيل‏:‏ كان القبطي من عملة مخبز فرعون فأراد أن يحمل حطباً إلى الفرن فدعا إسرائيلياً ليحمله فأبى فأراد أن يجبره على حمله وأن يضعه على ظهره فاختصما وتضاربا ضرباً شديداً وهو المعبر عنه بالتقاتل على طريق الاستعارة‏.‏

والاستغاثة‏:‏ طلب الغوث وهو التخليص من شدة أو العون على دفع مشقة‏.‏ وإنما يكون هذا الطلب بالنداء فذكر الاستغاثة يؤذن بأن الإسرائيلي كان مغلوباً وأن القبطي اشتد عليه وكان ظالماً إذ لا يجبر أحد على عمل يعمله‏.‏

والوكز‏:‏ الضرب باليد بجمع أصابعها كصورة عقد ثلاثة وسبعين، ويسمى الجمع بضم الجيم وسكون الميم‏.‏

و ‏{‏فقضى عليه‏}‏ جملة تقال بمعنى مات لا تغيّر‏.‏ ففاعل ‏(‏قضى‏)‏ محذوف أبداً على معنى قضى عليه قاض وهو الموت‏.‏ ويجوز أن يكون عائداً إلى الله تعالى المفهوم من المقام إذ لا يقضي بالموت غيره كقوله ‏{‏فلما قضينا عليه الموت‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقيل ضمير ‏{‏فقضى‏}‏ عائد إلى موسى وليس هذا بالبيّن‏.‏ فالمعنى‏:‏ فوكزه موسى فمات القبطي‏.‏ وكان هذا قتل خطأ صادف الوكز مقاتل القبطي ولم يرد موسى قتله‏.‏ ووقع في سفر الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني أن موسى لما رأى المصري يضرب العبراني التفت هنا وهناك ورأى أن ليس أحد فقتل المصري وطمره في الرمل‏.‏

وجملة ‏{‏قال هذا من عمل الشيطان‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل‏:‏ ماذا كان من أمر موسى حين فوجئ بموت القبطي‏.‏ وحكاية ذلك للتنبيه على أن موسى لم يخطر بباله حينئذ إلا النظر في العاقبة الدينية‏.‏ وقوله هو كلامه في نفسه‏.‏

والإشارة بهذا إلى الضربة الشديدة التي تسبب عليها الموت أو إلى الموت المشاهد من ضربته، أو إلى الغضب الذي تسبب عليه موت القبطي‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الشيطان أوقد غضبه حتى بالغ في شدة الوكز‏.‏ وإنما قال موسى ذلك لأن قتل النفس مستقبح في الشرائع البشرية فإن حفظ النفس المعصومة من أصول الأديان كلها‏.‏ وكان موسى يعلم دين آبائه لعله بما تلقّاه من أمه المرأة الصالحة في مدة رضاعه وفي مدة زيارته إياها‏.‏

وجملة ‏{‏إنه عدو مضل مبين‏}‏ تعليل لكون شدة غضبه من عمل الشيطان إذ لولا الخاطر الشيطاني لاقتصر على زجر القبطي أو كفه عن الذي من شيعته، فلما كان الشيطان عدواً للإنسان وكانت له مسالك إلى النفوس استدل موسى بفعله المؤدي إلى قتل نفس أنه فعل ناشئ عن وسوسة الشيطان ولولاها لكان عمله جارياً على الأحوال المأذونة‏.‏

وفي هذا دليل على أن الأصل في النفس الإنسانية هو الخير وأنه الفطرة وأن الانحراف عنها يحتاج إلى سبب غير فطري وهو تخلل نزغ الشيطان في النفس‏.‏

ومتعلق ‏{‏عدو‏}‏ محذوف لدلالة المقام أي عدو لآدم وذرية آدم‏.‏

ورتب على الإخبار عنه بالعداوة وصفه بالإضلال لأن العدو يعمل لإلحاق الضر بعدوه و‏{‏مبين‏}‏ وصف ل ‏{‏مضل‏}‏ لا خبر ثان ولا ثالث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

بدل اشتمال من جملة ‏{‏قال هذا من عمل الشيطان‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ لأن الجزم بكون ما صدر منه عملاً من عمل الشيطان وتغريره يشتمل على أن ذلك ظلم لنفسه، وأن يتوجه إلى الله بالاعتراف بخطئه ويفرّع عليه طلب غفرانه‏.‏ وسمى فعله ظلماً لنفسه لأنه كان من أثر فرط الغضب لأجل رجل من شيعته، وكان يستطيع أن يملك من غضبه فكان تعجيله بوكز القبطي وكزة قاتلة ظلماً جرّه لنفسه‏.‏ وسمّاه في سورة الشعراء ‏(‏20‏)‏ ضلالاً ‏{‏قال فعلتها إذن وأنا من الضالين‏}‏

وأراد بظلمه نفسه أنه تسبب لنفسه في مضرة إضمار القبط قتله، وأنه تجاوز الحد في عقاب القبطي على مضاربته الإسرائيلي‏.‏ ولعله لم يستقص الظالم منهما وذلك انتصار جاهلي كما قال وداك بن ثميل المازني يمدح قومه‏:‏

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم *** لأية حرب أم بأي مكان

وقد اهتدى موسى إلى هذا كله بالإلهام إذ لم تكن يومئذ شريعة إلهية في القبط‏.‏ ويجوز أن يكون علمه بذلك مما تلقاه من أمه وقومها من تدين ببقايا دين إسحاق ويعقوب‏.‏

ولا التفات في هذا إلى جواز صدور الذنب من النبي لأنه لم يكن يومئذ نبيئاً، ولا مسألة صدور الذنب من النبي قبل النبوءة، لأن تلك مفروضة فيما تقرر حكمه من الذنوب بحسب شرع ذلك النبي أو شرع نبيء هو متبعه مثل عيسى عليه السلام قبل نبوءته لوجود شريعة التوراة وهو من أتباعها‏.‏

والفاء في قوله ‏{‏فغفر له‏}‏ للتعقيب، أي استجاب استغفاره فعجل له بالمغفرة‏.‏

وجملة ‏{‏فغفر له‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏قال رب إني ظلمت نفسي‏}‏ وجملة ‏{‏قال رب بما أنعمت علي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 17‏]‏ كان اعتراضها إعلاماً لأهل القرآن بكرامة موسى عليه السلام عند ربه‏.‏

وجملة ‏{‏إنه هو الغفور الرحيم‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏فغفر له‏}‏؛ علل المغفرة له بأنه شديد الغفران ورحيم بعباده، مع تأكيد ذلك بصيغة القصر إيماء إلى أن ما جاء به هو من ظلم نفسه وما حفه من الأمور التي ذكرناها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

إعادة ‏{‏قال‏}‏ أفاد تأكيداً لفعل ‏{‏قال رب إني ظلمت نفسي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏‏.‏ أعيد القول للتنبيه على اتصال كلام موسى حيث وقع الفصل بينه بجملتي ‏{‏فغفر له إنه هو الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ونظم الكلام‏:‏ قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، رب بما أنعمت فلن أكون ظهيراً للمجرمين، وليس قوله ‏{‏قال رب بما أنعمت علي‏}‏ مستأنفاً عن قوله ‏{‏فغفر له‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏ لأن موسى لم يعلم أن الله غفر له إذ لم يكن يوحى إليه يومئذ‏.‏

والباء للسببية في ‏{‏بما أنعمت علي‏}‏ و‏(‏ما‏)‏ موصولة وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير مجرور بمثل ما جرّ به الموصول، والحذف في مثله كثير‏.‏ والتقدير‏:‏ بالذي أنعمت به عليّ‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏ما‏)‏ مصدرية وما صدق الإنعام عليه، هو ما أوتيه من الحكمة والعلم فتميزت عنده الحقائق ولم يبق للعوائد والتقاليد تأثير على شعوره‏.‏ فأصبح لا ينظر الأشياء إلا بعين الحقيقة، ومن ذلك أن لا يكون ظهيراً وعوناً للمجرمين‏.‏

وأراد بالمجرمين من يتوسم منهم الإجرام، وأراد بهم الذين يستذلون الناس ويظلمونهم لأن القبطي أذل الإسرائيلي بغصبه على تحميله الحطب دون رضاه‏.‏

ولعل هذا الكلام ساقه مساق الاعتبار عن قتله القبطي وثوقاً بأنه قتله خطأ‏.‏

واقتران جملة ‏{‏فلن أكون ظهيراً للمجرمين‏}‏ بالفاء لأن الموصول كثيراً ما يعامل معاملة اسم الشرط فيقترن خبره ومتعلقه بالفاء تشبيهاً له بجزاء الشرط وخاصة إذا كان الموصول مجروراً مقدّماً فإن المجرور المقدّم قد يقصد به معنى الشرطية فيعامل معاملة الشرط كقوله في الحديث ‏(‏كما تكونوا يول عليكم‏)‏ بجزم ‏(‏تكونوا‏)‏ وإعطائه جواباً مجزوماً‏.‏ والظهير‏:‏ النصير‏.‏

وقد دل هذا النظم على أن موسى أراد أن يجعل عدم مظاهرته للمجرمين جزاء على نعمة الحكمة والعلم بأن جعل شكر تلك النعمة الانتصار للحق وتغيير الباطل لأنه إذا لم يغير الباطل والمنكر وأقرهما فقد صانع فاعلهما، والمصانعة مظاهرة‏.‏ ومما يؤيد هذا التفسير أن موسى لما أصبح من الغد فوجد الرجل الذي استصرخه في أمسه يستصرخه على قبطي آخر أراد أن يبطش بالقبطي وفاء بوعده ربه إذ قال ‏{‏فلن أكون ظهيراً للمجرمين‏}‏ لأن القبطي مشرك بالله والإسرائيلي موحِّد‏.‏

وقد جعل جمهور من السلف هذه الآية حجة على منع إعانة أهل الجور في شيء من أمورهم‏.‏ ولعل وجه الاحتجاج بها أن الله حكاها عن موسى في معرض التنويه به فاقتضى ذلك أنه من القول الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

أي أصبح خائفاً من أن يطالب بدم القبطي الذي قتله وهو يترقب، أي يراقب ما يقال في شأنه ليكون متحفزاً للاختفاء أو الخروج من المدينة لأن خبر قتل القبطي لم يفش أمره لأنه كان في وقت تخلو فيه أزقة المدينة كما تقدم، فلذلك كان موسى يترقب أن يظهر أمر القبطي المقتول‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ للمفاجأة، أي ففاجأه أن الذي استنصره بالأمس يستنصره اليوم‏.‏

والتعريف في ‏(‏الأمس‏)‏ عوض عن المضاف إليه، أي بأمسه إذ ليس هو أمساً لوقت نزول الآية‏.‏

والاستصراخ‏:‏ المبالغة في الصراخ، أي النداء، وهو المعبر عنه في القصة الماضية بالاستغاثة فخولف بين العبارتين للتفنن‏.‏ وقول موسى له ‏{‏إنك لغوي مبين‏}‏ تذمر من الإسرائيلي إذ كان استصراخه السالف سبباً في قتل نفس، وهذا لا يقتضي عدم إجابة استصراخه وإنما هو بمنزلة التشاؤم واللوم عليه في كثرة خصوماته‏.‏

والغوي‏:‏ الشديد الغواية وهي الضلال وسوء النظر، أي أنك تشاد من لا تطيقه ثم تروم الغوث مني يوماً بعد يوم، وليس المراد أنه ظالم أو مفسد لأنه لو كان كذلك لما أراد أن يبطش بعدوه‏.‏

والبطش‏:‏ الأخذ بالعنف، والمراد به الضرب‏.‏ وظاهر قوله ‏{‏عدو لهما‏}‏ أنه قبطي‏.‏ وربما جعل عدواً لهما لأن عداوته للإسرائيلي معروفة فاشية بين القبط وأما عداوته لموسى فلأنه أراد أن يظلم رجلاً والظلم عدو لنفس موسى لأنه نشأ على زكاء نفس هيأها الله للرسالة‏.‏، والاستفهام مستعمل في الإنكار‏.‏

والجبار‏:‏ الذي يفعل ما يريد مما يضر بالناس ويؤاخذ الناس بالشدة دون الرفق‏.‏ وتقدم في سورة إبراهيم ‏(‏15‏)‏ قوله ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏، وفي سورة مريم ‏(‏32‏)‏ قوله ‏{‏ولم يجعلني جباراً شقياً‏}‏

والمعنى‏:‏ إنك تحاول أن تكون متصرفاً بالانتقام وبالشدة ولا تحاول أن تكون من المصلحين بين الخصمين بأن تسعى في التراضي بينهما‏.‏ ويظهر أن كلام القبطي زجر لموسى عن البطش به وصار بينهما حواراً أعقبه مجيء رجل من أقصى المدينة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

ظاهر النظم أن الرجل جاء على حين محاورة القبطي مع موسى فلذلك انطوى أمر محاورتهما إذ حدث في خلاله ما هو أهم منه وأجدى في القصة‏.‏

والظاهر أن أقصى المدينة هو ناحية قصور فرعون وقومه فإن عادة الملوك السكنى في أطراف المدن توقياً من الثورات والغارات لتكون مساكنهم أسعد بخروجهم عند الخوف‏.‏ وقد قيل‏:‏ الأطراف منازل الأشراف‏.‏ وأما قول أبي تمام‏:‏

كانت هي الوسط المحمي فاتصلت *** بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

فذلك معنى آخر راجع إلى انتقاص العمران كقوله تعالى ‏{‏يقولون إن بيوتنا عورة‏}‏ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 13‏.‏

‏(‏وبهذا يظهر وجه ذكر المكان الذي جاء منه الرجل وأن الرجل كان يعرف موسى‏.‏

و ‏{‏الملأ‏}‏‏:‏ الجماعة أولو الشأن، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏قال الملأ من قومه‏}‏ أي نوح في ‏[‏الأعراف‏:‏ 60‏]‏، وأراد بهم أهل دولة فرعون‏:‏ فالمعنى‏:‏ أن أولي الأمر يأتمرون بك، أي يتشاورون في قتلك‏.‏ وهذا يقتضي أن القضية رفعت إلى فرعون وفي سفر الخروج في الإصحاح الثاني‏:‏ «فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يُقتل موسى»‏.‏ ولما علم هذا الرجل بذلك أسرع بالخبر لموسى لأنه كان معجباً بموسى واستقامته‏.‏ وقد قيل‏:‏ كان هذا الرجل من بني إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ كان من القبط ولكنه كان مؤمناً يكتم إيمانه، لعل الله ألهمه معرفة فساد الشرك بسلامة فطرته وهيأه لإنقاذ موسى من يد فرعون‏.‏

والسعي‏:‏ السير السريع، وقد تقدم عند قوله ‏{‏فإذا هي حية تسعى‏}‏ في سورة ‏[‏طه‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وتقدم بيان حقيقته ومجازه في قوله ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها‏}‏ في سورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏يسعى‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏رجل‏}‏ الموصوف بأنه من ‏{‏أقصى المدينة‏}‏‏.‏ و‏{‏يأتمرون بك‏}‏ يتشاورون‏.‏ وضمن معنى ‏(‏يهمون‏)‏ فعدي بالباء فكأنه قيل‏:‏ يأتمرون ويهمّون بقتلك‏.‏

وأصل الائتمار‏:‏ قبول أمر الآمر فهو مطاوع أمره، قال امرؤ القيس‏:‏

ويعدو على المرء ما يأتمر ***

أي يضره ما يطيع فيه أمر نفسه‏.‏ ثم شاع إطلاق الائتمار على التشاور لأن المتشاورين يأخذ بعضهم أمر بعض فيأتمر به الجميع، قال تعالى ‏{‏وائتمروا بينكم بمعروف‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏قال يا موسى‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏جاء رجل‏}‏ لأن مجيئه يشتمل على قوله ذلك‏.‏

ومتعلق الخروج محذوف لدلالة المقام، أي فاخرج من المدينة‏.‏

وجملة ‏{‏إني لك من الناصحين‏}‏ تعليل لأمره بالخروج‏.‏ واللام في قوله ‏{‏لك من الناصحين‏}‏ صلة، لأن أكثر ما يستعمل فعل النصح معدى باللام‏.‏ يقال‏:‏ نصحت لك قال تعالى ‏{‏إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏ في سورة ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ ووهماً قالوا‏:‏ نصحتك‏.‏ وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة‏.‏

والترقب‏:‏ حقيقته الانتظار، وهو مشتق من رقب إذا نظر أحوال شيء‏.‏ ومنه سمي المكان المرتفع‏:‏ مرقبة ومرتقباً، وهو هنا مستعار للحذر‏.‏

وجملة ‏{‏قال رب نجني‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏يترقب‏}‏ لأن ترقبه يشتمل على الدعاء إلى الله بأن ينجيه‏.‏

والقوم الظالمون هم قوم فرعون‏.‏ ووصفهم بالظلم لأنهم مشركون ولأنهم راموا قتله قصاصاً عن قتل خطإ وذلك ظلم لأن الخطأ في القتل لا يقتضي الجزاء بالقتل في نظر العقل والشرع‏.‏

ومحل العبرة من قصة موسى مع القبطي وخروجه من المدينة من قوله ‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 14‏]‏ إلى هنا هو أن الله يصطفي من يشاء من عباده، وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء هيأ له أسبابه بقدرته فأبرزه على أتقن تدبير، وأن الناظر البصير في آثار ذلك التدبير يقتبس منها دلالة على صدق الرسول في دعوته كما أشار إليه قوله تعالى ‏{‏فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وإن أوضح تلك المظاهر هو مظهر استقامة السيرة ومحبة الحق، وأن دليل عناية الله بمن اصطفاه لذلك هو نصره على أعدائه ونجاته مما له من المكائد‏.‏ وفي ذلك كله مثل للمشركين لو نظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي حالهم معه‏.‏ ثم ‏{‏إن‏}‏ في قوله تعالى ‏{‏إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك‏}‏ الآية إيماء إلى أن رسوله صلى الله عليه وسلم سيخرج من مكة وأن الله منجيه من ظالميه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

هذه هجرة نبوية تشبه هجرة إبراهيم عليه السلام إذ قال ‏{‏إني مهاجر إلى ربي‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقد ألهم الله موسى عليه السلام أن يقصد بلاد مدين إذ يجد فيها نبيئاً يبصره بآداب النبوءة ولم يكن موسى يعلم إلى أين يتوجه ولا من سيجد في وجهته كما دل عليه قوله ‏{‏عسى ربي أن يهديني سواء السبيل‏}‏‏.‏

فقوله تعالى ‏{‏ولما توجه تلقاء مدين‏}‏ عطف على جمل محذوفة إذ التقدير‏:‏ ولما خرج من المدينة هائماً على وجهه فاتفق أن كان مسيره في طريق يؤدي إلى أرض مدين حينئذ قال ‏{‏عسى ربي أن يهديني سواء السبيل‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خرج موسى ولا علم له بالطريق إلا حسن ظن بربه‏.‏

و ‏{‏توجه‏}‏‏:‏ ولى وجهه، أي استقبل بسيره تلقاء مدين‏.‏

و ‏{‏تلقاء‏}‏‏:‏ أصله مصدر على وزن التفعال بكسر التاء، وليس له نظير في كسر التاء إلا تمثال، وهو بمعنى اللقاء والمقاربة‏.‏ وشاع إطلاق هذا المصدر على جهته فصار من ظروف المكان التي تنصب على الظرفية‏.‏ والتقدير‏:‏ لما توجه جهة تلاقي مدْيَن، أي جهة تلاقي بلاد مدين، وقد تقدم قوله تعالى ‏{‏وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار‏}‏ في سورة الأعراف‏.‏

‏(‏47‏)‏ و‏{‏مدْيَن‏}‏‏:‏ قوم من ذرية مدين بن إبراهيم‏.‏ وقد مضى الكلام عليهم عند قوله تعالى ‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيباً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏85‏)‏‏.‏

وأرض مدين واقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر وكان موسى قد سلك إليها عند خروجه من بلد ‏(‏رعمسيس‏)‏ أو ‏(‏منفيس‏)‏ طريقاً غربية جنوبية فسلك برية تمر به على أرض العمالقة وأرض الأدوميين ثم بلاد النبط إلى أرض مدين‏.‏ تلك مسافة ثمانمائة وخمسين ميلاً تقريباً‏.‏ وإذ قد كان موسى في سيره ذلك راجلاً فتلك المسافة تستدعي من المدة نحواً من خمسة وأربعين يوماً‏.‏ وكان يبيت في البرية لا محالة‏.‏ وكان رجلاً جلداً وقد ألهمه الله سواء السبيل فلم يضل في سيره‏.‏

والسواء‏:‏ المستقيم النهج الذي لا التواء فيه‏.‏ وقد ألهمه الله هذه الدعوة التي في طيها توفيقه إلى الدين الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ‏(‏23‏)‏ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يدل قوله ‏{‏لما ورد ماء مدين‏}‏ أنه بلغ أرض مدين، وذلك حين ورد ماءهم‏.‏ والورود هنا معناه الوصول والبلوغ كقوله تعالى ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏‏.‏ والمراد بالماء موضع الماء‏.‏ وماء القوم هو الذي تعرف به ديارهم لأن القبائل كانت تقطن عند المياه وكانوا يكنون عن أرض القبيلة بماء بني فلان، فالمعنى‏:‏ ولما ورد، أي عندما بلغ بلاد مدين‏.‏ ويناسب الغريب إذا جاء ديار قوم أن يقصد الماء لأنه مجتمع الناس فهنالك يتعرف لمن يصاحبه ويضيفه‏.‏

و ‏{‏لما‏}‏ حرف توقيت وجود شيء بوجود غيره، أي عندما حل بأرض مدين وجد أمة‏.‏

والأمة‏:‏ الجماعة الكثيرة العدد، وتقدم في قوله تعالى ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏يسقون‏}‏ لتعميم ما شأنه أن يسقى وهو الماشية والناس، ولأن الغرض لا يتعلق بمعرفة المسقي ولكن بما بعده من انزواء المرأتين عن السقي كما في «الكشاف» تبعاً «لدلائل الإعجاز»، فيكون من تنزيل الفعل المتعدّي منزلة اللازم، أو الحذف هنا للاختصار كما اختاره السكاكي وأيده شارحاه السعد والسيد‏.‏ وأما حذف مفاعيل ‏{‏تَذُودان لا نسقي فسقى لهما‏}‏ فيتعين فيها ما ذهب إليه الشيخان‏.‏ وأما ما ذهب إليه صاحب «المفتاح» وشارحاه فشيء لا دليل عليه في القرآن حتى يقدر محذوف وإنما استفادة كونهما تذودان غنماً مرجعها إلى كتب الإسرائيليين‏.‏

ومعنى ‏{‏من دونهم‏}‏ في مكان غير المكان الذي حول الماء، أي في جانب مباعد للأمة من الناس لأن حقيقة كلمة ‏(‏دون‏)‏ أنها وصف للشيء الأسفل من غيره‏.‏ وتتفرع من ذلك معان مجازية مختلفة العلاقات، ومنها ما وقع في هذه الآية‏.‏ ف ‏(‏دون‏)‏ بمعنى جهة يصل إليها المرء بعد المكان الذي فيه الساقون‏.‏ شُبّه المكان الذي يبلغ إليه الماشي بعد مكان آخر بالمكان الأسفل من الآخر كأنه ينزل إليه الماشي لأن المشي يشبه بالصعود وبالهبوط باختلاف الاعتبار‏.‏

ويحذف الموصوف ب ‏(‏دون‏)‏ لكثرة الاستعمال فيصير ‏(‏دون‏)‏ بمنزلة ذلك الاسم المحذوف‏.‏

وحرف ‏{‏من‏}‏ مع ‏(‏دون‏)‏ يجوز أن يكون للظرفية مثل ‏{‏إذا نُودِي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون بمعنى ‏(‏عند‏)‏ وهو معنى أثبته أبو عبيدة في قوله تعالى ‏{‏لن تُغْنِيَ عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ووجد امرأتين في جهة مبتعدة عن جهة الساقين‏.‏

و ‏{‏تذودان‏}‏ تطرُدان‏.‏ وحقيقة الذود طرد الأنعام عن الماء ولذلك سموا القطيع من الإبل الذود فلا يقال‏:‏ ذدت الناس، إلا مجازاً مرسلاً، ومنه قوله في الحديث ‏"‏ فَلَيذادن أقوام عن حوضي ‏"‏ الحديث‏.‏

والمعنى في الآية‏:‏ تمنعان إبلاً عن الماء‏.‏ وفي التوراة‏:‏ أن شعيباً كان صاحب غنم وأن موسى رعى غنمه‏.‏ فيكون إطلاق ‏{‏تذودان‏}‏ هنا مجازاً مرسلاً، أو تكون حقيقة الذود طرد الأنعام كلها عن حوض الماء‏.‏

وكلام أيمة اللغة غير صريح في تبيين حقيقة هذا‏.‏ وفي سفر الخروج‏:‏ أنها كانت لهما غنم، والذود لا يكون إلا للماشية‏.‏ والمقصود من حضور الماء بالأنعام سقيها‏.‏ فلما رأى موسى المرأتين تمنعان أنعامهما من الشرب سألهما‏:‏ ما خطبكما‏؟‏ وهو سؤال عن قصتهما وشأنهما إذ حضرا الماء ولم يقتحما عليه لسقي غنمهما‏.‏

وجملة ‏{‏قال ما خطبكما‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏ووجد من دونهم امرأتين تذودان‏}‏‏.‏

والخطب‏:‏ الشأن والحدث المهم، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏، فأجابتا بأنهما كرهتا أن تسقيا في حين اكتظاظ المكان بالرعاء وأنهما تستمران على عدم السقي كما اقتضاه التعبير بالمضارع إلى أن ينصرف الرعاء‏.‏

و ‏{‏الرعاء‏}‏‏:‏ جمع راع‏.‏

والإصدار‏:‏ الإرجاع عن السقي، أي حتى يسقي الرعاء ويصدروا مواشيهم، فالإصدار جعل الغير صادراً، أي حتى يذهب رعاء الإبل بأنعامهم فلا يبقى الزحام‏.‏ وصدهما عن المزاحمة عادتهما لأنهما كانتا ذواتي مروءة وتربية زكية‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يصدر‏}‏ بضم الياء وكسر الدال‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ‏{‏يصدر‏}‏ بفتح حرف المضارعة وضم الدال على إسناد الصدر إلى الرعاء، أي حتى يرجعوا عن الماء، أي بمواشيهم لأن وصف الرعاء يقتضي أن لهم مواشي‏.‏ وهذا يقتضي أن تلك عادتهما كل يوم سقي، وليس في اللفظ دلالة على أنه عادة‏.‏

وكان قولهما ‏{‏وأبونا شيخ كبير‏}‏ اعتذاراً عن حضورهما للسقي مع الرجال لعدم وجدانهما رجلاً يستقي لهما لأن الرجل الوحيد لهما هو أبوهما وهو شيخ كبير لا يستطيع ورود الماء لضعفه عن المزاحمة‏.‏

واسم المرأتين ‏(‏لَيَّا‏)‏ و‏(‏صَفُّورة‏)‏‏.‏ وفي سفر الخروج‏:‏ أن أباهما كاهن مدْين‏.‏ وسمّاه في ذلك السفر أول مرة رعْويل ثم أعاد الكلام عليه فسماه يثرون ووصفه بحمي موسى، فالمسمى واحد‏.‏ وقال ابن العِبري في «تاريخه»‏:‏ يثرون بن رعويل له سبع بنات خرج للسقي منهما اثنتان، فيكون شُعيب هو المسمى عند اليهود يثرون‏.‏ والتعبير عن النبي بالكاهن اصطلاح‏.‏ لأن الكاهن يخبر عن الغيب ولأنه يطلق على القائم بأمور الدين عند اليهود‏.‏ وللجزم بأنه شعيب الرسول جعل علماؤنا ما صدر منه في هذه القصة شرعاً سابقاً ففرعوا عليه مسائل مبنية على أصل‏:‏ أن شرع من قبلنا من الرسل الإلهيين شرع لنا ما لم يرد ناسخ‏.‏

ومنها مباشرة المرأة الأعمال والسعي في طرق المعيشة، ووجوب استحيائها، وولاية الأب في النكاح، وجعل العمل البدني مهراً، وجمع النكاح والإجارة في عقد واحد، ومشروعية الإجارة‏.‏ وقد استوفى الكلام عليها القرطبي‏.‏ وفي أدلة الشريعة الإسلامية غنية عن الاستنباط مما في هذه الآية إلا أن بعض هذه الأحكام لا يوجد دليله في القرآن ففي هذه الآية دليل لها من الكتاب عند القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا‏.‏

وفي إذنه لابنتيه بالسقي دليل على جواز معالجة المرأة أمور مالها وظهورها في مجامع الناس إذا كانت تستر ما يجب ستره فإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه شرعنا ولم يأت من شرعنا ما ينسخه‏.‏ وأما تحاشي الناس من نحو ذلك فهو من المروءة والناس مختلفون فيما تقتضيه المروءة والعادات متباينة فيه وأحوال الأمم فيه مختلفة وخاصة ما بين أخلاق البدو والحضر من الاختلاف‏.‏

ودخول ‏{‏لما‏}‏ التوقيتية يؤذن باقتران وصوله بوجود الساقين‏.‏ واقتران فعل ‏(‏سقى‏)‏ بالفاء يؤذن بأنه بادر فسقى لهن، وذلك بفور وروده‏.‏

ومعنى ‏{‏فسقى لهما‏}‏ أنه سقى ما جئن ليسقينه لأجلهما، فاللام للأجل، أي لا يدفعه لذلك إلا هما، أي رأفة بهما وغوثاً لهما‏.‏ وذلك من قوة مروءته أن اقتحم ذلك العمل الشاق على ما هو عليه من الإعياء عند الوصول‏.‏

والتولي‏:‏ الرجوع على طريقه، وذلك يفيد أنه كان جالساً من قبل في ظل فرجع إليه‏.‏ ويظهر أن ‏{‏تولى‏}‏ مرادف ‏(‏ولى‏)‏ ولكن زيادة المبنى من شأنها أن تقتضي زيادة المعنى فكيون ‏{‏تولى‏}‏ أشد من ‏(‏ولى‏)‏، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏ولى مدبراً‏}‏ في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقد أعقب إيواءه إلى الظل بمناجاته ربه إذ قال ‏{‏رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير‏}‏‏.‏ لما استراح من مشقة المتح والسقي لماشية المرأتين والاقتحام بها في عدد الرعاء العديد، ووجد برد الظل تذكر بهذه النعمة نعماً سابقة أسداها الله إليه من نجاته من القتل وإيتائه الحكمة والعلم، وتخليصه من تبعة قتل القبطي، وإيصاله إلى أرض معمورة بأمة عظيمة بعد أن قطع فيافي ومفازات، تذكر جميع ذلك وهو في نعمة برد الظل والراحة من التعب فجاء بجملة جامعة للشكر والثناء والدعاء وهي ‏{‏إني لما أنزلت إلي من خير فقير‏}‏‏.‏ والفقير‏:‏ المحتاج فقوله ‏{‏إني لما أنزلت إلي من خير‏}‏ شكر على نعم سلفت‏.‏

وقوله ‏{‏إني لما أنزلت إلي من خير‏}‏ ثناء على الله بأنه معطي الخير‏.‏

والخير‏:‏ ما فيه نفع وملاءمة لمن يتعلق هو به فمنه خير الدنيا ومنه خير الآخرة الذي قد يرى في صورة مشقة فإن العبرة بالعواقب، قال تعالى ‏{‏ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وقد أراد النوعين كما يرمز إلى ذلك التعبير عن إيتائه الخير بفعل ‏{‏أنزلت‏}‏ المشعر برفعة المعطَى‏.‏ فأول ذلك إيتاء الحكمة والعلم‏.‏

ومن الخير إنجاؤه من القتل، وتربيته الكاملة في بذخة الملك وعزته، وحفظه من أن تتسرب إليه عقائد العائلة التي ربي فيها فكان منتفعاً بمنافعها مجنباً رذائلها وأضرارها‏.‏ ومن الخير أن جعل نصر قومه على يده، وأن أنجاه من القتل الثاني ظلماً، وأن هداه إلى منجى من الأرض، ويسر له التعرف ببيت نبوءة، وأن آواه إلى ظل‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ من قوله ‏{‏لما أنزلت إلي‏}‏ موصولة كما يقتضيه فعل المضي في قوله ‏{‏أنزلت‏}‏ لأن الشيء الذي أنزل فيما مضى صار معروفاً غير نكرة، فقوله ‏(‏ما أنزلت إلي‏)‏ بمنزلة المعرف بلام الجنس لتلائم قوله ‏{‏فقير‏}‏ أي فقير لذلك النوع من الخير، أي لأمثاله‏.‏

وأحسن خير للغريب وجود مأوى له يطعم فيه ويبيت وزوجة يأنس إليها ويسكن‏.‏

فكان استجابة الله له بأن ألهم شعيباً أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه بنته، كما أشعرت بذلك فاء التعقيب في قوله ‏{‏فجاءته إحداهما‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 25‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا‏}‏‏.‏

عرفت أن الفاء تؤذن بأن الله استجاب له فقيّض شعيباً أن يرسل وراء موسى ليضيفه ويزوجه بنته، فذلك يضمن له أنساً في دار غربة ومأوى وعشيراً صالحاً‏.‏ وتؤذن الفاء أيضاً بأن شعيباً لم يتريث في الإرسال وراءه فأرسل إحدى البنتين اللتين سقى لهما وهي ‏(‏صفورة‏)‏ فجاءته وهو لم يزل عن مكانه في الظل‏.‏

وذكر ‏{‏تمشي‏}‏ ليبني عليه قوله ‏{‏على استحياء‏}‏ وإلا فإن فعل ‏(‏جاءته‏)‏ مغن عن ذكر ‏{‏تمشي‏}‏‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها مستحيية في مشيها، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة‏.‏ وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء‏.‏ والاستحياء مبالغة في الحياء مثل الاستجابة قال تعالى ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن إلى قوله ليعلم ما يخفين من زينتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏قالت‏}‏ بدل من ‏(‏جاءته‏)‏‏.‏ وإنما بيّنت له الغرض من دعوته مبادرة بالإكرام‏.‏

والجزاء‏:‏ المكافأة على عمل حسن أو سيّئ بشيء مثله في الحسن أو الإساءة، قال تعالى ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏ وقال تعالى ‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وتأكيد الجملة في قوله ‏{‏إن أبي يدعوك‏}‏ حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به‏.‏

والأجر‏:‏ التعويض على عمل نافع للمعوض، ومنه سمي ثواب الطاعات أجراً، قال تعالى ‏{‏وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وانتصب ‏{‏أجر ما سقيت لنا‏}‏ على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير، وهو أن أراد ضيافته، وليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة‏.‏

والجزاء‏:‏ إكرام، والإجارة‏:‏ تعاقد‏.‏ ويدل لذلك قوله عقبه ‏{‏قالت إحداهما يا أبت استأجره‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏ فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى‏.‏ وكان فعل موسى معروفاً محضاً لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما، وكان فعل شعيب كرماً محضاً ومحبة لقري كل غريب، وتضييف الغريب من سُنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه السلام‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في قوله ‏{‏ما سقيت لنا‏}‏ مصدرية، أي سقيك، ولام ‏{‏لنا‏}‏ لام العلة سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ‏.‏

كانت العوائد أن يفاتح الضيف بالسؤال عن حاله ومقدمه فلذلك قصّ موسى قصة خروجه ومجيئه على شعيب‏.‏ وذلك يقتضي أن شعيباً سأله عن سبب قدومه، و‏{‏القصص‏}‏‏:‏ الخبر‏.‏ و‏{‏قص عليه‏}‏ أخبره‏.‏

والتعريف في ‏{‏القصص‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي قصصه، أو للعهد، أي القصص المذكور آنفاً‏.‏ وتقدم نظيره في أول سورة يوسف‏.‏

فطمأنه شعيب بأنه يزيل عن نفسه الخوف لأنه أصبح في مأمن من أن يناله حكم فرعون لأن بلاد مدْين تابعة لملك الكنعانيين وهم أهل بأس ونجدة‏.‏ ومعنى نهيه عن الخوف نهيه عن ظن أن تناله يد فرعون‏.‏

وجملة ‏{‏نجوت من القوم الظالمين‏}‏ تعليل للنهي عن الخوف‏.‏ ووصف قوم فرعون بالظالمين تصديقاً لما أخبره به موسى من رومهم قتله قصاصاً عن قتل خطأ‏.‏ وما سبق ذلك من خبر عداوتهم على بني إسرائيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏28‏)‏ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه، وانتقل منه إلى عَرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم ببيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته‏.‏

والتاء في ‏{‏أبت‏}‏ عوض عن ياء المتكلم في النداء خاصة وهي يجوز كسرها وبه قرأ الجمهور‏.‏ ويجوز فتحها وبه قرأ ابن عامر وأبو جعفر‏.‏

وجملة ‏{‏إن خير من استأجرت القوي الأمين‏}‏ علة للإشارة عليه باستئجاره، أي لأن مثله من يستأجر‏.‏ وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف، فالتعريف باللام في ‏{‏القوي الأمين‏}‏ للجنس مراد به العموم‏.‏ والخطاب في ‏{‏من استأجرت‏}‏ موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً‏.‏ فالتقدير‏:‏ من استأجر المستأجر‏.‏ و‏{‏من‏}‏ موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين‏.‏

وجعل ‏{‏خير من استأجرت‏}‏ مسنداً إليه بجعله اسماً لأن جعل ‏{‏القوي الأمين‏}‏ خبراً مع صحة جعل ‏{‏القوي الأمين‏}‏ هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه ‏{‏خير‏}‏، وفي المعرّف باللام هنا العموم في كليهما، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة ‏{‏استأجره‏}‏ فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفسُ السامع أشد ترقباً لحاله‏.‏

ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه ممن يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفاً المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتاً للحكم بدليل‏.‏ فتقدير معنى الكلام‏:‏ استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجر مستأجر القوي الأمين‏.‏ فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز‏.‏

وعن عمر بن الخطاب أنه قال «أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي»‏.‏ يريد‏:‏ أسأله أن يؤيدني بقوي أمين أستعين به‏.‏

والإشارة في قوله ‏{‏هاتين‏}‏ إلى المرأتين اللتين سقى لهما أن كانتا حاضرتين معاً دون غيرهما من بنات شعيب لتعلق القضية بشأنهما، أو تكون الإشارة إليهما لحضورهما في ذهن موسى باعتبار قرب عهده بالسقي لهما إن كانت الأخرى غائبة حينئذ‏.‏

وفيه جواز عرض الرجل مولاته على من يتزوجها رغبة في صلاحه‏.‏ وجعل لموسى اختيار إحداهما لأنه قد عرفها وكانت التي اختارها موسى ‏(‏صفورة‏)‏ وهي الصغرى كما جاء في رواية أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اختارها دون أختها لأنها التي عرف أخلاقها باستحيائها وكلامها فكان ذلك ترجيحاً لها عنده‏.‏

وكان هذا التخيير قبل انعقاد النكاح، فليس فيه جهل المعقود عليها‏.‏

وقوله ‏{‏على أن تأجرني ثماني حجج‏}‏ حرف ‏{‏على‏}‏ من صيغ الشرط في العقود‏.‏ و‏{‏تأجرني‏}‏ مضارع آجره مثل نصره إذا كان أجيراً له‏.‏ والحجج‏:‏ اسم جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة، مشتقة من اسم الحج لأن الحج يقع كل سنة وموسم الحج يقع في آخر شهر من السنة العربية‏.‏

والتزام جعل تزويجه مشروطاً بعقد الإجارة بينهما عرض منه على موسى وليس بعقد نكاح ولا إجارة حتى يرضى موسى‏.‏ وفي هذا العرض دليل لمسألة جمع عقد النكاح مع عقد الإجارة‏.‏ والمسألة أصلها من السنة حديث المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتزوجها وزوّجها من رجل كان حاضراً مجلسه ولم يكن عنده ما يصدقها فزوجه إياها بما معه من القرآن، أي على أن يعلمها إياه‏.‏

والمشهور من مذهب مالك أن الشرط المقارن لعقد النكاح إن كان مما ينافي عقد النكاح فهو باطل ويفسخ النكاح قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل‏.‏ وأما غير المنافي لعقد النكاح فلا يفسخ النكاح لأجله ولكن يلغى الشرط‏.‏ وعن مالك أيضاً‏:‏ تكره الشروط كلها ابتداء فإن وقع مضى‏.‏ وقال أشهب وأصبغ‏:‏ الشرط جائز واختاره أبو بكر بن العربي وهو الحق للآية، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم عليه الفروج»

وظاهر الآية أيضاً أن الإجارة المذكورة جعلت مهراً للبنت‏.‏ ويحتمل أن المشروط التزام الإجارة لا غير، وأما المهر فتابع لما يعتبر في شرعهم ركناً في النكاح، والشرائع قد تختلف في معاني الماهيات الشرعية‏.‏ وإذا أخذنا بظاهر الآية كانت دالة على أنهما جعلا المهر منافع إجارة الزوج لشعيب فيحتمل أن يكون ذلك برضاها لأنها سمعت وسكتت بناء على عوائد مرعية عندهم بأن ينتفع بتلك المنافع أبوها‏.‏

ويحتمل أن يكون لولي المرأة بالأصالة إن كان هو المستحق للمهر في تلك الشريعة، فإن عوائد الأمم مختلفة في تزويج ولاياهم‏.‏ وإذ قد كان في الآية إجمال لم تكن كافية في الاحتجاج على جواز جعل مهر المرأة منافع من إجارة زوجها فيرجع النظر في صحة جعل المهر إجارة إلى التخريج على قواعد الشريعة والدخول تحت عموم معنى المهر، فإن منافع الإجارة ذات قيمة فلا مانع من أن تجعل مهراً‏.‏

والتحقيق من مذهب مالك أنه مكروه ويمضي‏.‏ وأجازه الشافعي وعبد الملك بن حبيب من المالكية‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز جعل المهر منافع حر ويجوز كونه منافع عبد‏.‏ ولم ير في الآية دليلاً لأنها تحتمل عنده أن يكون النكاح مستوفياً شروطه فوقع الإجمال فيها‏.‏

ووافقه ابن القاسم من أصحاب مالك‏.‏

وإذ قد كان حكم شرع من قبلنا مختلفاً في جعله شرعاً لنا كان حجة مختلفاً فيها بين علماء أصول الفقه فزادها ضعفاً في هذه الآية الإجمال الذي تطرقها فوجب الرجوع إلى أدلة أخرى من شريعة الإسلام‏.‏ ودليل الجواز داخل تحت عموم معنى المهر‏.‏ فإن كانت المنافع المجعولة مهراً حاصلة قبل البناء فالأمر ظاهر، وإن كان بعضها أو جميعها لا يتحقق إلا بعد البناء كما في هذه الآية رجعت المسألة إلى النكاح بمهر مؤجل وهو مكروه غير باطل‏.‏ وإلى الإجارة بعوض غير قابل للتبعيض بتبعيض العمل فإذا لم يتم الأجير العمل في هذه رجعت إلى مسألة عجز العامل عن العمل بعد أن قبض الأجر‏.‏

وقد ورد في الصحيح وفي حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم فظهر عليه أنه لم يقبلها وأن رجلاً من أصحابه قال له‏:‏ إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها‏.‏ قال‏:‏ هل عندك ما تصدقها‏؟‏ إلى أن قال له صلى الله عليه وسلم «التمس ولو خاتماً من حديد» قال‏:‏ ما عندي ولا خاتم من حديد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ما معك من القرآن‏؟‏ قال‏:‏ معى سورة كذا وسورة كذا لسور سماها‏.‏ قال له‏:‏ قد ملكتكها بما معك من القرآن‏.‏ وفي رواية أن النبي أمره أن يعلمها عشرين آية مما معه من القرآن وتكون امرأته‏.‏ فإن صحت هذه الزيادة كان الحديث جارياً على وفق ما في هذه الآية وكان حجة لصحة جعل الصداق إجارة على عمل، وإن لم تصح كما هو المشهور في كتب الصحيح فالقصة خصوصية يقتصر على موردها‏.‏

ولم يقع التعرض في الآية للعمل المستأجر عليه‏.‏ وورد في سفر الخروج أنه رعى غنم يثرون ‏(‏وهو شعيب‏)‏، ولا غرض للقرآن في بيان ذلك‏.‏ ولم يقع التعرض إلى الأجر وقد علمت أن الظاهر أنه إنكاحه البنت فإذا لم نأخذ بهذا الظاهر كانت الآية غير متعرضة للأجر إذ لا غرض فيه من سوق القصة فيكون جارياً على ما هو متعارف عندهم في أجور الأعمال وكانت للقبائل عوائد في ذلك‏.‏

وقد أدركت منذ أول هذا القرن الرابع عشر أن راعي الغنم له في كل عام قميص وحذاء يسمى ‏(‏بلغة‏)‏ ونحو ذلك لا أضبطه الآن‏.‏

وقوله ‏{‏فإن أتممت عشراً فمن عندك‏}‏ جعل ذلك إلى موسى تفضلا منه أن اختاره ووكله إلى ما تكون عليه حاله في منتهى الحجج الثمان من رغبة في الزيادة‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ ابتدائية‏.‏ و‏(‏عند‏)‏ مستعملة في الذات والنفس مجازاً، والمجرور خبر مبتدأ محذوف، والتقدير‏:‏ فإتمام العشر من نفسك، أي لا مني، يعني‏:‏ أن الإتمام ليس داخلاً في العقدة التي هي من الجانبين فكان مفهوم الظرف معتبراً هنا‏.‏

واحتج مالك بقوله ‏{‏إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين‏}‏ على أن للأب إنكاح ابنته البكر بدون إذنها وهو أخذ بظاهرها إذ لم يتعرض لاستئذانها‏.‏ ولمن يمنع ذلك أن يقول‏:‏ إن عدم التعرض له لا يقتضي عدم وقوعه‏.‏

وقوله ‏{‏ستجدني إن شاء الله من الصالحين‏}‏ يريد الصالحين بالناس في حسن المعاملة ولين الجانب‏.‏ قصد بذلك تعريف خلقه لصاحبه، وليس هذا من تزكية النفس المنهي عنه لأن المنهي عنه ما قصد به قائله الفخر والتمدح، فأما ما كان لغرض في الدين أو المعاملة فذلك حاصل لداع حسن كما قال يوسف ‏{‏اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

و ‏{‏أشق عليك‏}‏ معناه‏:‏ أكون شاقاً عليك، أي مكلفك مشقة، والمشقة‏:‏ العسر والتعب والصعوبة في العمل‏.‏ والأصل أن يوصف بالشاق العمل المتعب فإسناد ‏{‏أشق‏}‏ إلى ذاته إسناد مجازي لأنه سبب المشقة، أي ما أريد أن أشترط عليك ما فيه مشقتك‏.‏ وهذا من السماحة الوارد فيها حديث‏:‏ «رحم الله امرأ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى»

وجملة ‏{‏قال ذلك بيني وبينك‏}‏ حكاية لجواب موسى عن كلام شعيب‏.‏ واسم الإشارة إلى المذكور وهو ‏{‏أن تأجرني ثماني حجج‏}‏ إلى آخره‏.‏ وهذا قبول موسى لما أوجبه شعيب وبه تم التعاقد على النكاح وعلى الإجارة، أي الأمر على ما شرطت علي وعليك‏.‏ وأطلق ‏{‏بيني وبينك‏}‏ مجازاً في معنى الثبوت واللزوم والارتباط، أي كل فيما هو من عمله‏.‏

و ‏{‏أيما‏}‏ منصوب ب ‏{‏قضيت‏}‏‏.‏ و‏(‏أي‏)‏ اسم موصول مبهم مثل ‏(‏ما‏)‏‏.‏ وزيدت بعدها ‏(‏ما‏)‏ للتأكيد ليصير الموصول شبيهاً بأسماء الشرط لأن تأكيد ما في اسم الموصول من الإبهام يكسبه عموماً فيشبه الشرط فلذلك جعل له جواب كجواب الشرط‏.‏ والجملة كلها بدل اشتمال من جملة ‏{‏ذلك بيني وبينك‏}‏ لأن التخيير في منتهى الأجل مما اشتمل عليه التعاقد المفاد بجملة ‏{‏ذلك بيني وبينك‏}‏‏.‏

والعدوان بضم العين‏:‏ الاعتداء على الحق، أي فلا تعتدي علي‏.‏ فنفى جنس العدوان الذي منه عدوان مستأجره‏.‏ واستشهد موسى على نفسه وعلى شعيب بشهادة الله‏.‏

وأصل الوكيل‏:‏ الذي وكل إليه الأمر، وأراد هنا أنه وكل على الوفاء بما تعاقدا عليه حتى إذا أخل أحدهما بشيء كان الله مؤاخذه‏.‏ ولما ضمن الوكيل معنى الشاهد عدي بحرف ‏{‏على‏}‏ وكان حقه أن يعدى ب ‏(‏إلى‏)‏‏.‏

والعبرة من سياقة هذا الجزء من القصة المفتتح بقوله تعالى ‏{‏ولما توجه تلقاء مدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 22‏]‏ إلى قوله ‏{‏والله على ما نقول وكيل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 28‏]‏ هو ما تضمنته من فضائل الأعمال ومناقب أهل الكمال وكيف هيأ الله تعالى موسى لتلقي الرسالة بأن قلّبه في أطوار الفضائل، وأعظمها معاشرة رسول من رسل الله ومصاهرته، وما تتضمنه من خصال المروءة والفتوة التي استكنت في نفسه من فعل المعروف، وإغاثة الملهوف، والرأفة بالضعيف، والزهد، والقناعة، وشكر ربه على ما أسدى إليه، ومن العفاف والرغبة في عشرة الصالحين، والعمل لهم، والوفاء بالعقد، والثبات على العهد حتى كان خاتمة ذلك تشريفه بالرسالة وما تضمنته من خصال النبوءة التي أبداها شعيب من حب القرى، وتأمين الخائف، والرفق في المعاملة، ليعتبر المشركون بذلك إن كان لهم اعتبار في مقايسة تلك الأحوال بأجناسها من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فيهتدوا إلى أن ما عرفوه به من زكي الخصال قبل رسالته وتقويم سيرته، وزكاء سريرته، وإعانته على نوائب الحق، وتزوجه بأفضل امرأة من نساء قومه، إن هي إلا خصال فاذة فيه بين قومه وإن هي إلا بوارق لانهطال سحاب الوحي عليه‏.‏

والله أعلم حيث يجعل رسالاته وليأتسي المسلمون بالأسوة الحسنة من أخلاق أهل النبوءة والصلاح‏.‏

‏{‏نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قضى مُوسَى الاجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لاَِهْلِهِ امكثوا‏}‏‏.‏

لم يذكر القرآن أي الأجلين قضى موسى إذ لا يتعلق بتعيينه غرض في سياق القصة‏.‏ وعن ابن عباس «قضى أوفاهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل» أي أن رسول الله المستقبل لا يصدر من مثله إلا الوفاء التام، وورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ضعيفة الأسانيد أنه سئل عن ذلك فأجاب بمثل ما قال ابن عباس‏.‏ والأهل من إطلاقه الزوجة كما في الحديث‏:‏ ‏"‏ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً ‏"‏

وفي سفر الخروج‏:‏ أنه استأذن صهره في الذهاب إلى مصر لافتقاد أخته وآله‏.‏ وبقية القصة تقدمت في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 7‏]‏ إلا زيادة قوله‏:‏ ‏{‏آنس من جانب الطور ناراً‏}‏ وذلك مساوٍ لقوله هنا ‏(‏إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً‏.‏

والجذوة مثلث الجيم، وقرئ بالوجوه الثلاثة، فالجمهور بكسر الجيم، وعاصم بفتح الجيم وحمزة وخلف بضمها، وهي العود الغليظ‏.‏ قيل مطلقاً وقيل المشتعل وهو الذي في «القاموس»‏.‏ فإن كان الأول فوصف الجذوة بأنها من النار وصف مخصص، وإن كان الثاني فهو وصف كاشف، و‏{‏من‏}‏ على الأول بيانية وعلى الثاني تبعيضية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏30‏)‏ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّآ أتاها نُودِىَ مِن شَاطِئ الوادى الأيمن فِى البقعة المباركة مِنَ الشجرة أَن ياموسى إنى أَنَا الله رَبُّ العالمين * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين * اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ‏}‏ ‏{‏مِنَ الامنين * اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب‏}‏‏.‏

تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل ‏{‏أتاها‏}‏ هنا و‏{‏جاءها هناك‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 8‏]‏ و‏{‏إني أنا الله‏}‏ هنا، و‏{‏إنه أنا الله هناك‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 9‏]‏ بضمير عائد إلى الجلالة هنالك، وضمير الشأن هنا وهما متساويان في الموقع لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم‏.‏ وقوله هنا ‏{‏رب العالمين‏}‏ وقوله هنالك ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ‏.‏

والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل لأن وصف ‏{‏رب العالمين‏}‏ يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة‏.‏

و ‏{‏أن ألق‏}‏ هنا و‏{‏ألق هناك‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏، و‏{‏اسلك‏}‏ هنا ‏{‏وأدخل هناك‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وتلك المخالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها، وإلا زيادة ‏{‏من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة‏}‏ وهذا واد في سفح الطور‏.‏ وشاطئه‏:‏ جانبه وضفته‏.‏

ووصف الشاطئ بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار يريدون هذا المعنى قال امرؤ القيس‏:‏

على قطن بالشيم أيمن صوبه *** وأيسره على الستار فيذبل

وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل، أي جهة مغرب الشمس من الطور‏.‏ ألا ترى أنهم سموا اليمن يمناً لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة وسموا الشام شاماً لأنه على شآم المستقبل لبابها، أي على شماله، فاعتبروا استقبال الكعبة، وهذا هو الملائم لقوله الآتي ‏{‏وما كنت بجانب الغربي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى ‏{‏وواعدناكم جانب الطور الأيمن‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 80‏]‏ فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك‏.‏

وإن حمل على أنه تفضيل من اليُمن وهو البركة فهو كوصفه ب ‏{‏المقدس‏}‏ في سورة ‏[‏النازعات‏:‏ 16‏]‏ ‏{‏إذ ناداه ربه بالوادِي المقدس طُوى‏}‏

و ‏{‏البقعة‏}‏ بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها‏.‏ و‏{‏المباركة‏}‏ لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى‏.‏

وقوله ‏{‏من الشجرة‏}‏ يجوز أن يتعلق بفعل ‏{‏نُودِي‏}‏ فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون ‏{‏من‏}‏ للابتداء، أي سمع كلاماً خارجاً من الشجرة‏.‏ ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً نعتاً ثانياً للواد أو حالاً فتكون ‏{‏من‏}‏ اتصالية، أي متصلاً بالشجرة، أي عندها، أي البقعة التي تتصل بالشجرة‏.‏

والعريف في ‏{‏الشجرة‏}‏ تعريف الجنس وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة وليس التعريف للعهد إذ لم يتقدم ذكر الشجرة، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العُلَّيق ‏(‏وهو من شجر العضاه‏)‏ وقيل‏:‏ هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضاً‏.‏ وزيادة ‏{‏أقبل‏}‏ وهي تصريح بمضمون قوله ‏{‏لا تخف‏}‏ في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏ لأنه لما أدبر خوفاً من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله فكان الكلام هنالك إيجازاً وكان هنا مساواة تفنناً في حكاية القصتين، وكذلك زيادة ‏{‏إنك من الآمنين‏}‏ هنا ولم يحك في سورة النمل وهو تأكيد لمفاد ‏{‏ولا تخف‏}‏‏.‏ وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد ب ‏(‏إن‏)‏ وجعله من جملة الآمنين فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال‏:‏ إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى ‏{‏أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏واضمم إليك جناحك من الرهب‏}‏ خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى‏.‏ وهي ألفاظ‏:‏ جناح، ورهب، وحرف ‏{‏من‏}‏‏.‏ فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر‏.‏ وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري‏.‏ قال بعضهم‏:‏ إن في الكلام تقديماً وتأخيراً وإن قوله ‏{‏من الرهب‏}‏ متعلق بقوله ‏{‏ولى مدبراً‏}‏ على أن ‏{‏من‏}‏ حرف للتعليل، أي أدبر لسبب الخوف، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل ‏{‏ولى‏}‏ وبين ‏{‏من الرهب‏}‏‏.‏

وقيل الجناح‏:‏ اليد، ولا يحسن أن يكون مجازاً عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله ‏{‏اسلُك يدك في جيبك‏}‏ وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد‏.‏ وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في «الكشاف» بعيد، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عُزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد‏.‏ وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان‏.‏ وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن‏.‏ ولذا فالوجه أن قوله ‏{‏واضمم إليك جناحك‏}‏ تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطيران أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف‏.‏ ويكون ‏{‏من‏}‏ هنا للبدلية، أي اسكن سكون الطائر بدلاً من أن تطير خوفاً‏.‏

وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل‏:‏ وأصله لأبي علي الفارسي‏.‏ و‏{‏الرهب‏}‏ معروف أنه الخوف كقوله تعالى ‏{‏يدعوننا رغباً ورهباً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 90‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ انكفف عن التخوف من أمر الرسالة‏.‏ وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده ‏{‏قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 33‏]‏ فقوله ‏{‏واضمم إليك جناحك من الرهب‏}‏ في معنى قوله تعالى ‏{‏فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏الرهب‏}‏ بفتح الراء والهاء، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة‏.‏

‏{‏مِنَ الرهب فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ‏}‏‏.‏

تفريع على قوله ‏{‏واضمم إليك جناحك من الرهب‏}‏ والإشارة إلى العصا وبياض اليد‏.‏ والبرهان‏:‏ الحجة القاطعة‏.‏ و‏{‏من‏}‏ للابتداء، و‏{‏إلى‏}‏ للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم‏.‏

وجملة ‏{‏إنهم كانوا قوماً فاسقين‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه‏}‏ لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله ‏{‏كانوا‏}‏‏.‏ وقوله ‏{‏قوماً‏}‏ كما تقدم في قوله تعالى ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ والفسق‏:‏ الإشراك بالله‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فذانك‏}‏ بتخفيف النون من ‏(‏ذانك‏)‏ على الأصل في التثنية‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون ‏{‏فذانك‏}‏ وهي لغة تميم وقيس‏.‏ وعلّلها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من ‏(‏ذا‏)‏ و‏(‏تا‏)‏ المحذوفة لأجل صيغة التثنية‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال «فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك»‏.‏ وهذا أحسن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

جرى التأكيد على الغالب في استعمال أمثاله من الأخبار الغريبة ليتحقق السامع وقوعها وإلا فإن الله قد علم ذلك لما قال له ‏{‏اضمم إليك جناحك من الرهب‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 32‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فأخاف أن يذكروا قتلي القبطي فيقتلوني‏.‏ فهذا كالاعتذار وهو يعلم أن رسالة الله لا يتخلص منها بعذر، ولكنه أراد أن يكون في أمن إلهي من أعدائه‏.‏ فهذا تعريض بالدعاء، ومقدمة لطلب تأييده بهارون أخيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏34‏)‏‏}‏

هذا سؤال صريح يدل على أن موسى لا يريد بالأول التنصل من التبليغ ولكنه أراد تأييده بأخيه‏.‏ وإنما عيّنه ولم يسأل مؤيداً ما لعلمه بأمانته وإخلاصه لله ولأخيه وعلمه بفصاحة لسانه‏.‏

و ‏{‏ردى‏}‏ بالتخفيف مثل ‏(‏ردء‏)‏ بالهمز في آخره‏:‏ العون‏.‏ قرأه نافع وأبو جعفر ‏{‏ردى‏}‏ مخففاً‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏ردءاً‏}‏ بالهمز على الأصل‏.‏

و ‏{‏يصدقني‏}‏ قرأه الجمهور مجزوماً في جواب الطلب بقوله ‏{‏فأرسله معي‏}‏‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أن الجملة حال من الهاء من ‏{‏أرسله‏}‏‏.‏

ومعنى تصديقه إياه أن يكون سبباً في تصديق فرعون وملئه إياه بإبانته عن الأدلة التي يلقيها موسى في مقام مجادلة فرعون كما يقتضيه قوله ‏{‏هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردى يصدقني‏}‏‏.‏ فإنه فرع طلب إرساله معه على كونه أفصح لساناً وجعل تصديقه جواب ذلك الطلب أو حالاً من المطلوب فهو تفريع على تفريع، فلا جرم أن يكون معناه مناسباً لمعنى المفرع عنه وهو أنه أفصح لساناً‏.‏ وليس للفصاحة أثر في التصديق إلا بهذا المعنى‏.‏

وليس التصديق أن يقول لهم‏:‏ صدق موسى، لأن ذلك يستوي فيه الفصيح وذو الفهاهة‏.‏ فإسناد التصديق إلى هارون مجاز عقلي لأنه سببه، والمصدقون حقيقة هم الذين يحصل لهم العلم بأن موسى صادق فيما جاء به‏.‏

وجملة ‏{‏إني أخاف أن يكذبون‏}‏ تعليل لسؤال تأييده بهارون، فهذه مخافة ثانية من التكذيب، والأولى مخافة من القتل‏.‏