فصل: تفسير الآية رقم (59)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

أعقب الاعتبار بالقرى المهلكة ببيان أشراط هلاكها وسببه، استقصاء للإعذار لمشركي العرب، فبين لهم أن ليس من عادة الله تعالى أن يهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولا في القرية الكبرى منها لأن القرية الكبرى هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها فلا تخفى دعوة الرسول فيها ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعداداً لإدراك الأمور على وجهها فهذا بيان أشراط الإهلاك‏.‏

و ‏{‏القرى‏}‏‏:‏ هي المنازل لجماعات من الناس ذوات البيوت المبنية، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وخصت بالذكر لأن العبرة بها أظهر لأنها إذا أهلكت بقيت آثارها وأطلالها ولم ينقطع خبرها من الأجيال الآتية بعدها ويعلم أن الحلل والخيام مثلها بحكم دلالة الفحوى‏.‏

وإفراغ النفي في صيغة ما كان فاعلاً ونحوه من صيغ الجحود يفيد رسوخ هذه العادة واطرادها كما تقدم في نظائره منها قوله تعالى ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏ وقوله ‏{‏وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله‏}‏ في سورة يونس ‏(‏37‏)‏‏.‏

وقرى بلاد العرب كثيرة مثل مكة وجدة ومنى والطائف ويثرب وما حولها من القرى وكذلك قرى اليمن وقرى البحرين‏.‏ وأم القرى هي القرية العظيمة منها وكانت مكة أعظم بلاد العرب شهرة وأذكرها بينهم وأكثرها مارة وزواراً لمكان الكعبة فيها والحج لها‏.‏

والمراد بإهلاك القرى إهلاك أهلها‏.‏ وإنما علق الإهلاك بالقرى للإشارة إلى أن شدة الإهلاك بحيث يأتي على الأمة وأهلها وهو الإهلاك بالحوادث التي لا تستقر معها الديار بخلاف إهلاك الأمة فقد يكون بطاعون ونحوه فلا يترك أثراً في القرى‏.‏

وإسناد الخبر إلى الله بعنوان ربوبيته للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود بهذا الإنذار هم أمة محمد الذين كذبوا فالخطاب للنبيء عليه السلام لهذا المقصد‏.‏ ولهذا وقع الالتفات عنه إلى ضمير المتكلم في قوله ‏{‏ءاياتنا‏}‏ للإشارة إلى أن الآيات من عند الله وأن الدين دين الله‏.‏

وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى المعلوم من القرى وهو أهلها كقوله ‏{‏واسأل القرية التي كنا فيها‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، ومنه قوله ‏{‏فليدع ناديه‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقد حصل في هذه الجملة تفنن في الأساليب إذ جمعت الاسم الظاهر وضمائر الغيبة والخطاب والتكلم‏.‏

ثم بين السبب بقوله ‏{‏وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون‏}‏ أي ما كان من عادتنا في عبادنا أن نهلك أهل القرى في حالة إلا في حالة ظلمهم أنفسهم بالإشراك، فالإشراك سبب الإهلاك وإرسال رسول شرطه، فيتم ظلمهم بتكذيبهم الرسول‏.‏

وجملة ‏{‏وأهلها ظالمون‏}‏ في موضع الحال، وهو حال مستثنى من أحوال محذوفة اقتضاها الاستثناء المفرغ، أي ما كنا مهلكي القرى في حال إلا في حال ظلم أهلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

لما ذكرهم الله بنعمه عليهم تذكيراً أدمج في خلال الرد على قولهم ‏{‏إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ بقوله ‏{‏تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ أعقبه بأن كل ما أوتوه من نعمة هو من متاع الحياة الدنيا كالأمن والرزق، ومن زينتها كاللباس والأنعام والمال، وأما ما عند الله من نعيم الآخرة من ذلك وأبقى لئلا يحسبوا أن ما هم فيه من الأمن والرزق هو الغاية المطلوبة فلا يتطلبوا ما به تحصيل النعيم العظيم الأبدي، وتحصيله بالإيمان‏.‏ ولا يجعلوا ذلك موازناً لاتباع الهدى وإن كان في اتباع الهدى تفويت ما هم فيه من أرضهم وخيراتها لو سلم ذلك‏.‏ هذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها‏.‏

و ‏{‏من شيء‏}‏ بيان ل ‏{‏ما أوتيتم‏}‏ والمراد من أشياء المنافع كما دل عليه المقام لأن الإيتاء شائع في إعطاء ما ينفع‏.‏

وقد التفت الكلام من الغيبة من قوله ‏{‏أوَ لم نُمكن لهم حرماً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ إلى الخطاب في قوله ‏{‏أوتيتم‏}‏ لأن ما تقدم من الكلام أوجب توجيه التوبيخ مواجهة اليهم‏.‏

والمتاع‏:‏ ما ينتفع به زمناً ثم يزول‏.‏

والزينة‏:‏ ما يحسن الأجسام‏.‏

والمراد بكون ما عند الله خيراً، أن أجناس الآخرة خير مما أوتوه في كمال أجناسها، وأما كونه أبقى فهو بمعنى الخلود‏.‏

وتفرع على هذا الخبر استفهام توبيخي وتقريري على عدم عقل المخاطبين لأنهم لما لم يستدلوا بعقولهم على طريق الخير نزّلوا منزلة من أفسد عقله فسئلوا‏:‏ أهم كذلك‏؟‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تعقلون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأ أبو عمرو ويعقوب ‏{‏يعقلون‏}‏ بياء الغيبة على الالتفات عن خطابهم لتعجب المؤمنين من حالهم، وقيل‏:‏ لأنهم لما كانوا لا يعقلون نزلوا منزلة الغائب لبعدهم عن مقام الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

أحسب أن موقع فاء التفريع هنا أن مما أومأ إليه قوله ‏{‏وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 60‏]‏ ما كان المشركون يتبجحون به على المسلمين من وفرة الأموال ونعيم الترف في حين كان معظم المسلمين فقراء ضعفاء قال تعالى ‏{‏وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 31‏]‏ أي منعمين، وقال ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ فيظهر من آيات القرآن أن المشركين كان من دأبهم التفاخر بما هم فيه من النعمة قال تعالى ‏{‏واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏ وقال ‏{‏وارجعوا إلى ما أترفتم فيه‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 13‏]‏ فلما أنبأهم الله بأن ما هم فيه من الترف إن هو إلا متاع قليل، قابل ذلك بالنعيم الفائق الخالد الذي أعد للمؤمنين، وهي تفيد مع ذلك تحقيق معنى الجملة التي قبلها لأن الثانية زادت الأولى بياناً بأن ما أوتوه زائل زوالاً معوضاً بضد المتاع والزينة وذلك قوله ‏{‏ثم هو يوم القيامة من المحضرين‏}‏‏.‏

فما صدق ‏{‏من‏}‏ الأولى هم الذين وعدهم الله الوعد الحسن وهم المؤمنون، وما صدق ‏{‏من‏}‏ الثانية جمع هم الكافرون‏.‏ والاستفهام مستعمل في إنكار المشابهة والمماثلة التي أفادها كاف التشبيه فالمعنى أن الفريقين ليسوا سواء إذ لا يستوي أهل نعيم عاجل زائل وأهل نعيم آجل خالد‏.‏

وجملة ‏{‏فهو لاقيه‏}‏ معترضة لبيان أنه وعد محقق، والفاء للتسبب‏.‏

وجملة ‏{‏ثم هو‏}‏ الخ عطف على جملة ‏{‏متعناه متاع الحياة الدنيا‏}‏ فهي من تمام صلة الموصول‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لبيان أن رتبة مضمونها في الخسارة أعظم من مضمون التي قبلها، أي لم تقتصر خسارتهم على حرمانهم من نعيم الآخرة بل تجاوزت إلى التعويض بالعذاب الأليم‏.‏

ومعنى ‏{‏من المحضرين‏}‏ أنه من المحضرين للجزاء على ما دل عليه التوبيخ في ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 60‏]‏‏.‏ والمقابلة في قوله ‏{‏أفمن وعدناه وعداً حسناً‏}‏ المقتضية أن الفريق المعين موعودون بضد الحسن، فحذف متعلق ‏{‏المحضرين‏}‏ اختصاراً كما حذف في قوله ‏{‏ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 57‏]‏ وقوله ‏{‏فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 127- 128‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

تخلص من إثبات بعثة الرسل وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشركاء لله، فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏أفمن وعدناه وعداً حسناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 61‏]‏ مفيدة سبب كونهم من المحضرين، أي لأنهم اتخذوا من دون الله شركاء، وزعموا أنهم يشفعون لهم فإذا هم لا يجدونهم يوم يحضرون للعذاب، فلك أن تجعل مبدأ الجملة قوله ‏{‏يناديهم‏}‏ فيكون عطفاً على جملة ‏{‏ثم هو يوم القيامة من المحضرين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 61‏]‏ أي يحضرون و‏{‏يناديهم فيقول‏:‏ أين شركائي‏}‏ الخ‏.‏ ولك أن تجعل مبدأ الجملة قوله ‏{‏يوم يناديهم‏}‏‏.‏ ولك أن تجعله عطف مفردات فيكون ‏{‏يوم يناديهم‏}‏ عطفاً على ‏{‏يوم القيامة من المحضرين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 61‏]‏ فيكون ‏{‏يوم يناديهم‏}‏ عين ‏{‏يوم القيامة‏}‏ وكان حقه أن يأتي بدلاً من ‏{‏يوم القيامة‏}‏ لكنه عدل عن الإبدال إلى العطف لاختلاف حال ذلك اليوم باختلاف العنوان، فنزل منزلة يوم مغاير زيادة في تهويل ذلك اليوم‏.‏

ولك أن تجعل ‏{‏يوم يناديهم‏}‏ منصوباً بفعل مقدر بعد واو العطف بتقدير‏:‏ اذكر، أو بتقدير فعل دل عليه معنى النداء‏.‏ واستفهام التوبيخ من حصول أمر فظيع، تقديره‏:‏ يوم يناديهم يكون ما لا يوصف من الرعب‏.‏

وضمير ‏{‏يناديهم‏}‏ المرفوع عائد إلى الله تعالى‏.‏ وضمير الجمع المنصوب عائد إلى المتحدث عنهم في الآيات السابقة ابتداء من قوله ‏{‏وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏ فالمنادون جميع المشركين كما اقتضاه قوله تعالى ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏‏.‏

والاستفهام بكلمة ‏{‏أين‏}‏ ظاهره استفهام عن المكان الذي يوجد فيه الشركاء ولكنه مستعمل كناية عن انتفاء وجود الشركاء المزعومين يومئذ، فالاستفهام مستعمل في الانتفاء‏.‏

ومفعولا ‏{‏تزعمون‏}‏ محذوفان دل عليهما ‏{‏شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ أي تزعمونهم شركائي، وهذا الحذف اختصار وهو جائز في مفعولي ‏(‏ظن‏)‏‏.‏

وجردت جملة ‏{‏قال الذين حق عليهم القول‏}‏ عن حرف العطف لأنها وقعت في موقع المحاورة فهي جواب عن قوله تعالى ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏‏.‏

والذين تصدوا للجواب هم بعض المنادين ب ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ علموا أنهم الأحرياء بالجواب‏.‏ وهؤلاء هم أيمة أهل الشرك من أهل مكة مثل أبي جهل وأمية بن خلف وسدنة أصنامهم كسادن العزى‏.‏ ولذلك عبّر عنهم ب ‏{‏الذين حقّ عليهم القول‏}‏ ولم يعبر عنهم ب ‏(‏قالوا‏)‏‏.‏

ومعنى ‏{‏حق عليهم القول‏}‏ يجوز أن يكون ‏{‏حق‏}‏ بمعنى تحقق وثبت ويكون القول قولا معهوداً وهو ما عهد للمسلمين من قوله تعالى ‏{‏وحقَّ القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ وقوله ‏{‏أفمن حق عليه كلمة العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ فالذين حق عليهم القول هم الذين حل الإبان الذي يحق عليهم فيه هذا القول‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله ألجأهم إلى الاعتراف بأنهم أضلوا الضالين وأغووهم‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏حق‏}‏ بمعنى وجب وتعين، أي حق عليهم الجواب لأنهم علموا أن قوله تعالى ‏{‏فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ موجه إليهم فلم يكن لهم بد من إجابة ذلك السؤال‏.‏

ويكون المراد بالقول جنس القول، أي الكلام الذي يقال في ذلك المقام وهو الجواب عن الاستفهام بقوله ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ وعلى كلا الاحتمالين فالذين حق عليهم القول هم أيمة الكفر كما يقتضيه قوله تعالى ‏{‏هؤلاء الذين أغوينا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

والتعريف في ‏{‏القول‏}‏ الأظهر أنه تعريف الجنس وهو ما دل عليه ‏{‏قال‏}‏، أي قال الذين حق عليهم أن يقولوا، أي الذين كانوا أحرى بأن يجيبوا لعلمهم بأن تبعة المسؤول عنه واقعة عليهم لأنه لما وجه التوبيخ إلى جملتهم تعين أن يتصدى للجواب الفريق الذين ثبتوا العامة على الشرك وأضلوا الدهماء‏.‏

وابتدأوا جوابهم بتوجيه النداء إلى الله بعنوان أنه ربهم، نداء أريد منه الاستعطاف بأنه الذي خلقهم اعترافاً منهم بالعبودية وتمهيداً للتنصل من أن يكونوا هم المخترعين لدين الشرك فإنهم إنما تلقوه عن غيرهم من سلفهم، والإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ إلى بقية المنادين معهم قصداً لأن يتميزوا عمن سواهم من أهل الموقف وذلك بإلهام من الله ليزدادوا رُعباً، وأن يكون لهم مطمع في التخليص‏.‏ و‏{‏الذين أغوينا‏}‏ خبر عن اسم الإشارة وهو اعتراف بأنهم أغووهم‏.‏

وجملة ‏{‏أغويناهم كما غوينا‏}‏ استئناف بياني لجملة ‏{‏الذين أغوينا‏}‏ لأن اعترافهم بأنهم أغووهم يثير سؤال سائل متعجب كيف يعترفون بمثل هذا الجرم فأرادوا بيان الباعث لهم على إغواء إخوانهم وهو أنهم بثوا في عامة أتباعهم الغواية المستقرة في نفوسهم وظنوا أن ذلك الاعتراف يخفف عنهم من العذاب بقرينة قولهم ‏{‏تبرّأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون‏}‏‏.‏

وإنما لم يقتصر على جملة ‏{‏أغويناهم‏}‏ بأن يقال‏:‏ هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا، لقصد الاهتمام بذكر هذا الإغواء بتأكيده اللفظي، وبإجماله في المرة الأولى وتفصيله في المرة الثانية، فليست إعادة فعل ‏{‏أغوينا‏}‏ لمجرد التأكيد‏.‏ قال ابن جني في كتاب «التنبيه» على إعراب الحماسة عند قول الأحوص‏:‏

فإذا تزول تزول عن متخمط *** تخشى بوادره على الأقران

إنما جاز أن يقول‏:‏ فإذا تزول تزول، لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة، ومثله قول الله تعالى ‏{‏هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا‏}‏ ولو قال‏:‏ هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يُفد القول شيئاً، لأنه كقولك‏:‏ الذي ضربته ضربته، والتي أكرمتها أكرمتها، ولكن لما اتصل ب ‏{‏أغويناهم‏}‏ الثانية قوله ‏{‏كما غوينا‏}‏ أفاد الكلام كقولك‏:‏ الذي ضربته ضربته لأنه جاهل‏.‏ وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما اخترناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك» اه‏.‏ وقد تقدم بيان كلامه عند قوله تعالى ‏{‏إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم‏}‏ في سورة الاسراء ‏(‏7‏)‏، وقوله ‏{‏وإذا بطشتم بطشتم جبارين‏}‏ في سورة الشعراء ‏(‏130‏)‏، وقوله

‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراماً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏72‏)‏، فإن تلك الآيات تطابق بيت الأحوص لاشتمالهن على ‏(‏إذا‏)‏‏.‏

و ‏{‏كما غوينا‏}‏ صفة لمصدر، أي إغواء يوقع في نفوسهم غيّاً مثل الغي الذي في قلوبنا‏.‏ ووجه الشبه في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مُغوون قبلهم، وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعة عنهم ويتوهمون أن السير على قدم الغاوين يبرر الغواية، وهذا كما حكى عنهم في سورة الشعراء ‏(‏96، 99‏)‏ ‏{‏قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون‏}‏ وحذف مفعول فعل ‏{‏أغوينا‏}‏ الأول وهو العائد من الصلة إلى الموصول لكثرة حذف أمثاله من كل عائد صلة هو ضمير نصب متصل وناصبه فعل أو وصف شبيه بالفعل، لأن اسم الموصول مغن عن ذكره ودال عليه فكان حذف العائد اختصاراً‏.‏ وذكر مفعول فعل ‏{‏أغويناهم‏}‏ الثاني اهتماماً بذكره لعدم الاستغناء عنه في الاستعمال‏.‏

وجملة ‏{‏تبرأنا إليك‏}‏ استئناف‏.‏ والتبرؤ‏:‏ تفعل من البراءة وهي انتفاء ما يصم، فالتبرؤ‏:‏ معالجة إثبات البراءة وتحقيقها‏.‏ وهو يتعدى إلى من يحاول إثبات البراءة لأجله بحرف ‏(‏إلى‏)‏ الدال على الانتهاء المجازي؛ يقال‏:‏ إني أبرأ إلى الله من كذا، أي أوجه براءتي إلى الله، كما يتعدى إلى الشيء الذي يَصِم بحرف ‏(‏من‏)‏ الاتصالية التي هي للابتداء المجازي قال تعالى ‏{‏فبراه الله مما قالوا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وقد تدخل ‏(‏من‏)‏ على اسم ذات باعتبار مضاف مقدر نحو قوله تعالى ‏{‏وقال إني بريء منكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏ أي من كفركم‏.‏ والتقدير‏:‏ من أعمالكم وشؤونكم إما من أعمال خاصة يدل عليها المقام أو من عدة أعمال‏.‏

فالمعنى هنا تحقق التبرؤ لديك والمتبرأ منه هو مضمون جملة ‏{‏ما كانوا إيانا يعبدون‏}‏ فهي بيان لإجمال التبرؤ‏.‏

والمقصود‏:‏ أنهم يتبرؤون من أن يكونوا هم المزعوم أنهم شركاء وإنما قصارى أمرهم أنهم مضلون وكان هذا المقصد إلجاء من الله إياهم ليعلنوا تنصلهم من ادعاء أنهم شركاء على رؤوس الملأ، أو حملهم على ذلك ما يشاهدون من فظاعة عذاب كل من ادعى المشركون له الإلهية باطلاً لما سمعوا قوله تعالى ‏{‏إنكم وما تعبدون عن دون الله حصب جهنم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏‏.‏ هذا ما انطوت عليه هذه الآية من المعاني‏.‏

وتقديم ‏{‏إيانا‏}‏ على ‏{‏يعبدون‏}‏ دون أن يقال يعبدوننا للاهتمام بهذا التبرؤ مع الرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

هذا موجه إلى جميع الذين نودوا بقوله ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏ فإن ذلك النداء كان توبيخاً لهم على اتخاذهم آلهة شركاء لله تعالى‏.‏ فلما شعروا بالمقصد من ندائهم وتصدى كبراؤهم للاعتذار عن اتخاذهم أتبع ذلك بهذا القول‏.‏

وأسند فعل القول إلى المجهول لأن الفاعل معلوم مما تقدم، أي وقال الله‏.‏ والأمر مستعمل في الإطماع لتعقب الإطماع باليأس‏.‏

وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين لأنهم الذين ادعوا لهم الشركة كما في آية الأنعام ‏(‏94‏)‏ ‏{‏الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏}‏ والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا‏.‏ وقوله فلم يستجيبوا لهم‏}‏ هو محل التأييس المقصود من الكلام‏.‏

وأما قوله تعالى ‏{‏ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون‏}‏ فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون‏:‏ وجماع أقوالهم فيها أخذاً ورداً أن نجمعها في أربعة وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏فلم يستجيبوا لهم‏}‏‏.‏ والرؤية بصرية، والعذاب عذاب الآخرة، أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئاً‏.‏ وعلى هذا تكون جملة ‏{‏لو أنهم كانوا يهتدون‏}‏ مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة ‏{‏ورأوا العذاب‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن تكون الواو للحال والرؤية أيضاً بصرية والعذاب عذاب الآخرة، أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم‏:‏ ادعوا شركاءكم لخلاصكم، وتكون جملة ‏{‏لو أنهم كانوا يهتدون‏}‏ كذلك مستأنفة ابتدائية‏.‏

الثالث‏:‏ أن تكون الرؤية علمية، وحذف المفعول الثاني اختصاراً، والعذاب عذاب الآخرة‏.‏ والمعنى‏:‏ وعلموا العذاب حائقاً بهم، والواو للعطف أو الحال‏.‏ وجملة ‏{‏لو أنهم كانوا يهتدون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل‏:‏ ماذا صنعوا حين تحققوا أنهم معذبون‏؟‏ فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلاً لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة‏.‏

وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون ‏{‏لو‏}‏ حرف شرط وجوابها محذوفاً دل عليه حذف مفعول ‏{‏يهتدون‏}‏ أي يهتدون خلاصاً أو سبيلاً‏.‏ والتقدير‏:‏ لتخلصوا منه‏.‏ وعلى الوجوه الثلاثة ففعل ‏{‏كانوا‏}‏ مزيد في الكلام لتوكيد خبر ‏(‏أنّ‏)‏ أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكناً من نفوسهم، وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم‏.‏ وصيغة المضارع في ‏{‏يهتدون‏}‏ دالة على التجدد فالاهتداء منقطع عنهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن تكون ‏{‏لو‏}‏ للتمني المستعمل في التحسر عليهم‏.‏ والمراد اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب، وفعل ‏{‏كانوا‏}‏ حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي، وصيغة المضارع في ‏{‏يهتدون‏}‏ لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته‏.‏

ووجه خامس عندي‏:‏ أن يكون المراد بالعذاب عذاب الدنيا، والكلام على حذف مضاف تقديره‏:‏ ورأوا آثار العذاب‏.‏

والرؤية بصرية، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم ‏(‏45‏)‏ ‏{‏وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم‏}‏؛ وجملة ‏{‏لو أنهم كانوا يهتدون‏}‏ شرط جوابه محذوف دل عليه ‏{‏لو أنهم كانوا يهتدون‏}‏ أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذاباً أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لأنه يفيد معنى زائداً على ما أفادته جملة ‏{‏فلم يستجيبوا لهم‏}‏‏.‏ فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية، وكلها مقصودة، فالآية من جوامع الكلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏65‏)‏ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

هو ‏{‏يوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏‏.‏ كرر الحديث عنه باعتبار تعدد ما يقع فيه لأن مقام الموعظة يقتضي الإطناب في تعداد ما يستحق به التوبيخ‏.‏ وكررت جملة ‏{‏يوم يناديهم‏}‏ لأن التكرار من مقتضيات مقام الموعظة‏.‏ وهذا توبيخ لهم على تكذيبهم الرسل بعد انقضاء توبيخهم على الإشراك بالله‏.‏

والمراد‏:‏ ماذا أجبتم المرسلين في الدعوة إلى توحيد الله وإبطال الشركاء‏.‏ والمراد ب ‏{‏المرسلين‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى في سورة ‏[‏سبأ‏:‏ 45‏]‏ ‏{‏فكذبوا رسلي‏}‏ وله نظائر في القرآن منها قوله ‏{‏ثم ننجي رسلنا والذين ءامنوا‏}‏ يريد محمداً صلى الله عليه وسلم في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 103‏]‏ وقوله ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ الآيات في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏، وإنما كذب كل فريق من أولئك رسولاً واحداً‏.‏ والذي اقتضى صيغة الجمع أن جميع المكذبين إنما كذبوا رسلهم بعلة استحالة رسالة البشر إلى البشر فهم إنما كذبوا بجنس المرسلين، ولام الجنس إذا دخلت على ‏(‏جميع‏)‏ أبطلت منه معنى الجمعية‏.‏

والاستفهام ب ‏{‏ماذا‏}‏ صوري مقصود منه إظهار بلبلتهم‏.‏ و‏(‏ذا‏)‏ بعد ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية تعامل معاملة الموصول، أي ما الذي أجبتم المرسلين، أي ما جوابكم‏.‏ و‏{‏الأنباء‏}‏‏:‏ جمع نبأ، وهو الخبر عن أمر مهم، والمراد به هنا الجواب عن سؤال ‏{‏ماذا أجبتم المرسلين‏}‏ لأن ذلك الجواب إخبار عما وقع منهم مع رسلهم في الدنيا‏.‏

والمعنى‏:‏ عميت الأنباء على جميع المسؤولين فسكتوا كلهم ولم ينتدب زعماؤهم للجواب كفعلهم في تلقي السؤال السابق‏:‏ ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏عميت‏}‏ خفيت عليهم وهو مأخوذ من عمى البصر لأنه يجعل صاحبه لا يتبين الأشياء، فتصرفت من العمى معان كثيرة متشابهة يبينها تعدية الفعل كما عدي هنا بحرف ‏(‏على‏)‏ المناسب للخفاء‏.‏ ويقال‏:‏ عمي عليه الطريق‏.‏ إذا لم يعرف ما يوصل منه، قال عبد الله بن رواحة‏:‏

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنات أن ما قال واقع

والمعنى‏:‏ خفيت عليهم الأنباء ولم يهتدوا إلى جواب وذلك من الحيرة والوهل فإنهم لما نودوا ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏ انبرى رؤساؤهم فلفقوا جواباً عدلوا به عن جادة الاستفهام إلى إنكار أن يكونوا هم الذين سنوا لقومهم عبادة الأصنام، فلما سئلوا عن جواب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عيوا عن الجواب فلم يجدوا مغالطة لأنهم لم يكونوا مسبوقين من سلفهم بتكذيب الرسول فإن الرسول بعث إليهم أنفسهم‏.‏

ولهذا تفرع على ‏(‏عميت عليهم الأنباء‏)‏ قوله ‏{‏فهم لا يتساءلون‏}‏ أي لا يسأل بعضهم بعضاً لاستخراج الآراء وذلك من شدة البهت والبغت على الجميع أنهم لا متنصل لهم من هذا السؤال فوجموا‏.‏

وإذ كان الاستفهام لتمهيد أنهم محقوقون بالعذاب علم من عجزهم عن الجواب عنه أنهم قد حق عليهم العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

تخلل بين حال المشركين ذكر حال الفريق المقابل وهو فريق المؤمنين على طريقة الاعتراض لأن الأحوال تزداد تميزاً بذكر أضدادها، والفاء للتفريع على ما أفاده قوله ‏{‏فعميت عليهم الأنباء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 66‏]‏ من أنهم حق عليهم العذاب‏.‏

ولما كانت ‏(‏أما‏)‏ تفيد التفصيل وهو التفكيك والفصل بين شيئين أو أشياء في حكم فهي مفيدة هنا أن غير المؤمنين خاسرون في الآخرة وذلك ما وقع الإيماء إليه بقوله ‏{‏فهم لا يتساءلون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 66‏]‏ فإنه يكتفى بتفصيل أحد الشيئين عن ذكر مقابله ومنه قوله تعالى ‏{‏فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضلء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 175‏]‏ أي وأما الذين كفروا بالله فبضد ذلك‏.‏

والتوبة هنا‏:‏ الإقلاع عن الشرك والندم على تقلده‏.‏ وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها ولذلك عطف عليه ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي فتنوا بها‏.‏

و ‏(‏عسى‏)‏ ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح‏.‏ و‏{‏أن يكون من المفلحين‏}‏ أشد في إثبات الفلاح من‏:‏ أن يفلح، كما تقدم غير مرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة سبحان‏}‏

هذا من تمام الاعتراض وهي جملة ‏{‏فأما من تاب وءامن وعمل صالحاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 67‏]‏ وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب منفتحة للاهتداء ولو بمراحل، وقلوب غير منفتحة له فهي قاسية صماء، وأنه الذي اختار فريقاً على فريق‏.‏ وفي «أسباب النزول» للواحدي «قال أهل التفسير نزلت جواباً للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه ‏{‏وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ اه‏.‏ يعنون بذلك الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف‏.‏ وهما المراد بالقريتين‏.‏ وتبعه الزمخشري وابن عطية‏.‏ فإذا كان كذلك كان اتصال معناها بقوله ‏{‏ماذا أجبتم المرسلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏، فإن قولهم ‏{‏لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ هو من جملة ما أجابوا به دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى‏:‏ أن الله يخلق ما يشاء من خلقه من البشر وغيرهم ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله، وهذا في معنى قوله ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم؛ والوجهان لا يتزاحمان‏.‏

والمقصود من الكلام هو قوله ‏{‏ويختار‏}‏ فذكر ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ إيماء إلى أنه أعلم بمخلوقاته‏.‏

وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي يفيد القصر في هذا المقام إن لوحظ سبب النزول أي ربك وحده لا أنتم تختارون من يرسل إليكم‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏ما‏}‏ من قوله ‏{‏ما كان لهم الخيرة‏}‏ موصولة مفعولاً لفعل ‏{‏يختار‏}‏ وأن عائد الموصول مجرور ب ‏(‏في‏)‏ محذوفين‏.‏ والتقدير‏:‏ ويختار ما لهم فيه الخير، أي يختار لهم من الرسل ما يعلم أنه صالح بهم لا ما يشتهونه من رجالهم‏.‏

وجملة ‏{‏ما كان لهم الخيرة‏}‏ استئناف مؤكد لمعنى القصر لئلا يتوهم أن الجملة قبله مفيدة مجرد التقوي‏.‏ وصيغة ‏{‏ما كان‏}‏ تدل على نفي للكون يفيد أشد مما يفيد لو قيل‏:‏ ما لهم الخيرة، كما تقدم في قوله تعالى ‏{‏وما كان ربك نسيَّاً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏64‏)‏‏.‏

والابتداء بقوله ‏{‏وربك يخلق ما يشاء‏}‏ تمهيد للمقصود وهو قوله ‏{‏ويختار ما كان لهم الخيرة‏}‏ أي كما أن الخلق من خصائصه فكذلك الاختيار‏.‏

و ‏{‏الخيرة‏}‏ بكسر الخاء وفتح التحتية‏:‏ اسم لمصدر الاختيار مثل الطيرة اسم لمصدر التطير‏.‏ قال ابن الأثير‏:‏ ولا نظير لهما‏.‏ وفي «اللسان» ما يوهم أن نظيرهما‏:‏ سبي طيبة، إذا لم يكن فيه غدر ولا نقض عهد‏.‏ ويحتمل أنه أراد التنظير في الزنة لا في المعنى، لأنها زنة نادرة‏.‏

واللام في ‏{‏لهم‏}‏ للملك، أي ما كانوا يملكون اختياراً في المخلوقات حتى يقولوا ‏{‏لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏ ونفي الملك عنهم مقابل لقوله ‏{‏ما يشاء‏}‏ لأن ‏{‏ما يشاء‏}‏ يفيد معنى ملك الاختيار‏.‏

وفي ذكر الله تعالى بعنوان كونه رباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه اختاره لأنه ربه وخالقه فهو قد علم استعداده لقبول رسالته‏.‏

‏{‏لَهُمُ الخيرة سبحان الله وتعالى‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي لإنشاء تنزيه الله وعلوه على طريقة الثناء عليه بتنزهه عن كل نقص وهي معترضة بين المتعاطفين‏.‏ و‏{‏سبحان‏}‏ مصدر نائب مناب فعله كما تقدم في قوله ‏{‏قالوا سبحانك لا علم لنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏32‏)‏‏.‏ وأضيف ‏{‏سبحان‏}‏ إلى اسمه العلم دون أن يقال‏:‏ وسبحانه، بعد أن قال ‏{‏وربك يعلم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 69‏]‏ لأن اسم الجلالة مختص به تعالى وهو مستحق للتنزيه بذاته لأن استحقاق جميع المحامد مما تضمنه اسم الجلالة في أصل معناه قبل نقله إلى العلمية‏.‏

والمجرور يتنازعه كلا الفعلين‏.‏ ووجه تقييد التنزيه والترفيع ب ‏(‏ما يشركون‏)‏ أنه لم يجترئ أحد أن يصف الله تعالى بما لا يليق به ويستحيل عليه إلا أهل الشرك بزعمهم أن ما نسبوه إلى الله إنما هو كمال مثل اتخاذ الولد أو هو مما أنبأهم الله به، و‏{‏إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وزعموا أن الآلهة شفعاؤهم عند الله‏.‏ وقالوا في التلبية‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك‏.‏ وأما ما عدا ذلك فهم معترفون بالكمال لله، قال تعالى ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ مصدرية أي سبحانه وتعالى عن إشراكهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 70‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏69‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وربك يخلق ما يشاء ويختار‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏ أي هو خالقهم ومركبهم على النظام الذي تصدر عنه الأفعال والاعتقادات فيكونون مستعدين لقبول الخير والشر وتغليب أحدهما على الآخر اعتقاداً وعملاً، وهو يعلم ما تخفيه صدورهم، أي نفوسهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم‏.‏ فضمير ‏{‏صدورهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما‏}‏ من قوله ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏ باعتبار معناها، أي ما تكنّ صدور المخلوقات وما يعلنون‏.‏ وحيث أجريت عليهم ضمائر العقلاء فقد تعين أن المقصود البشر من المخلوقات وهم المقصود من العموم في ‏{‏ما يشاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏ فبحسب ما يعلم منهم يختارهم ويجازيهم فحصل بهذا إيماء إلى علة الاختيار وإلى الوعد والوعيد‏.‏ وهذا منتهى الإيجاز‏.‏

وفي إحضار الجلالة بعنوان ‏{‏وربك‏}‏ إيماء إلى أن مما تكنه صدورهم بغض محمد صلى الله عليه وسلم وتقدم ‏{‏ما تُكِنُّ صدورهم وما يعلنون‏}‏ آخر ‏[‏النمل‏:‏ 74‏]‏‏.‏

‏{‏وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏وربك يخلق ما يشاء ويختار‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏ الآية‏.‏ والمقصود هو قوله ‏{‏وله الحكم‏}‏ وإنما قدم عليه ما هو دليل على أنه المنفرد بالحكم مع إدماج صفات عظمته الذاتية المقتضية افتقار الكل إليه‏.‏

ولذلك ابتدئت الجملة بضمير الغائب ليعود إلى المتحدث عنه بجميع ما تقدم من قوله ‏{‏وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 58‏]‏ إلى هنا، أي الموصوف بتلك الصفات العظيمة والفاعل لتلك الأفعال الجليلة‏.‏ والمذكور بعنوان ‏{‏ربك‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 69‏]‏ هو المسمى الله اسماً جامعاً لجميع معاني الكمال‏.‏ فضمير الغيبة مبتدأ واسم الجلالة خبره، أي فلا تلتبسوا فيه ولا تخطئوا بادعاء ما لا يليق باسمه‏.‏ وقريب منه قوله ‏{‏فذلكم الله ربكم الحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ خبر ثان عن ضمير الجلالة، وفي هذا الخبر الثاني زيادة تقرير لمدلول الخبر الأول فإن اسم الجلالة اختص بالدلالة على الإله الحق إلا أن المشركين حرفوا أو أثبتوا الإلهية للأصنام مع اعترافهم بأنها إلهية دون إلهية الله تعالى فكان من حق النظر أن يعلم أن لا إله إلا هو، فكان هذا إبطالاً للشرك بعد إبطاله بحكاية تلاشيه عن أهل ملته يوم القيامة بقوله ‏{‏وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وأخبر عن اسم الجلالة خبراً ثانياً بقوله ‏{‏له الحمد في الأولى والآخرة‏}‏ وهو استدلال على انتفاء إلهية غيره بحجة أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يحمدون في الدنيا إلا الله فلا تسمع أحداً من المشركين يقول‏:‏ الحمد للعزى، مثلاً‏.‏

فاللام في ‏{‏له‏}‏ للملك، أي لا يملك الحمد غيره، وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص وهو اختصاص حقيقي‏.‏

وتعريف ‏{‏الحمد‏}‏ تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي له كل حمد‏.‏

و ‏{‏الأولى‏}‏ هي الدنيا وتخصيص الحمد به في الدنيا اختصاص لجنس الحمد به لأن حمد غيره مجاز كما تقدم في أول الفاتحة‏.‏

وأما الحمد في الآخرة فهو ما في قوله ‏{‏يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 52‏]‏‏.‏ واختصاص الجنس به في الآخرة حقيقة‏.‏

وقوله ‏{‏وله الحكم‏}‏ اللام فيه أيضاً للملك‏.‏ والتقديم للاختصاص أيضاً‏.‏ و‏{‏الحكم‏}‏‏:‏ القضاء وهو تعيين نفع أو ضر للغير‏.‏ وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله ‏{‏في الأولى والآخرة‏}‏ عليه، أي له الحكم في الدارين‏.‏ والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصور على الله‏.‏ وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها في قولهم ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ أي في الآخرة إن كان ما زعمتم من البعث‏.‏

وأما جملة ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ فمسوقة مساق التخصيص بعد التعميم، فبعد أن أثبت لله كل حمد وكل حكم، أي أنكم ترجعون إليه في الآخرة فتمجدونه ويُجري عليكم حكمه‏.‏ والمقصود بهذا إلزامهم بإثبات البعث‏.‏

وتقديم المجرور في ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بالانتهاء إليه أي إلى حكمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعريض بكفر المشركين جلائل نعمه‏.‏

ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين، والذي يستوي في إدراكه كل مميز، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم حتى الأصنام فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائماً، لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما، ولأن النعمة بتعاقبهما دوماً أشد من الأنعام بأفضلهما وأنفعهما لأنه لو كان دائماً لكان مسؤوماً ولحصلت منه طائفة من المنافع، وفقدت منافع ضده‏.‏ فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلاً إلى ما هو دون‏.‏ وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم اهتماماً بهذا التذكير لهذا الاستدلال ولاشتماله على ضدين متعاقبين، حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر تنبيه لهم، ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال‏.‏

وجيء في الشرطين بحرف ‏{‏إن‏}‏ لأن الشرط مفروض فرضاً مخالفاً للواقع‏.‏ وعلم أنه قصد الاستدلال بعبرة خلق النور، فلذلك فرض استمرار الليل، والمقصود ما بعده وهو قوله ‏{‏من إله غير الله يأتيكم بضياء‏}‏‏.‏

والسرمد‏:‏ الدائم الذي لا ينقطع‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحُرم‏:‏ ثلاثة سرد وواحد فرد‏.‏ والميم مزيدة ووزنه فعمل، ونظيره دُلامص من الدلاص اه‏.‏ دُلامص ‏(‏بضم الدال وكسر الميم‏)‏ من صفات الدرع وأصلها دِلاص ‏(‏بدال مكسورة‏)‏ أي براقة‏.‏ ونسب إلى صاحب «القاموس» وبعض النحاة أن ميم سرمد أصلية وأن وزنه فعلل‏.‏ والمراد بجعل الليل سرمداً أن لا يكون الله خلق الشمس ويكون خلق الأرض فكانت الأرض مظلمة‏.‏

والرؤية قلبية‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أرأيتم‏}‏ تقريري، والاستفهام في ‏{‏من إله غير الله يأتيكم بضياء‏}‏ إنكاري وهم معترفون بهذا الانتفاء وأن خالق الليل والنهار هو الله تعالى لا غيره‏.‏

والمراد بالغاية في قوله ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ إحاطة أزمنة الدنيا وليس المراد انتهاء جعله سرمداً‏.‏

والإتيان بالضياء وبالليل مستعار للإيجاد؛ شبه إيجاد الشيء الذي لم يكن موجوداً بالإجاءة بشيء من مكان إلى مكان، ووجه الشبه المثول والظهور‏.‏

والضياء‏:‏ النور‏.‏ وهو في هذا العالم من شعاع الشمس قال تعالى

‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء‏}‏ وتقدم في سورة يونس ‏(‏5‏)‏‏.‏ وعُبر بالضياء دون النهار لأن ظلمة الليل قد تخف قليلاً بنور القمر فكان ذكر الضياء إيماء إلى ذلك‏.‏

وفي تعدية فعل ‏{‏يأتيكم‏}‏ في الموضعين إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى أن إيجاد الضياء وإيجاد الليل نعمة على الناس‏.‏ وهذا إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال على الانفراد بالإلهية‏.‏ وإذ قد استمر المشركون على عبادة الأصنام بعد سطوع هذا الدليل وقد علموا أن الأصنام لا تقدر على إيجاد الضياء جعلوا كأنهم لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم، ففرع على تلك الحجة الاستفهام الإنكاري عن انتفاء سماعهم بقوله ‏{‏أفلا تسمعون‏}‏ أي أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ومنه هذه الآية‏.‏ وليس قوله ‏{‏أفلا تسمعون‏}‏ تذييلاً‏.‏

وكرر الأمر بالقول في مقام التقرير لأن التقرير يناسبه التكرير مثل مقام التوبيخ ومقام التهويل‏.‏

وعُكس الاستدلال الثاني بفرض أن يكون النهار وهو انتشار نور الشمس، سرمداً بأن خلق الله الأرض غير كروية الشكل بحيث يكون شعاع الشمس منتشراً على جميع سطح الأرض دوماً‏.‏

ووصف الليل ب ‏{‏تسكنون فيه‏}‏ إدماج للمنة في أثناء الاستدلال للتذكير بالنعمة المشتملة على نعم كثيرة وتلك هي نعمة السكون فيه فإنها تشمل لذة الراحة، ولذة الخلاص من الحر، ولذة استعادة نشاط المجموع العصبي الذي به التفكير والعمل، ولذة الأمن من العدوّ‏.‏

ولم يوصف الضياء بشيء لكثرة منافعه واختلاف أنواعها‏.‏

وتفرع على هذا الاستدلال أيضاً تنزيلهم منزلة من لا يبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده بصنعها وهي منهم بمرأى الأعين‏.‏

وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل لأن الليل لو كان دائماً لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي، فالظلمة الخالصة لا تُرى فيها المرئيات‏.‏ ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم، وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم‏.‏

وليس قوله ‏{‏أفلا تبصرون‏}‏ تذييلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

تصريح بنعمة تعاقب الليل والنهار على الناس بقوله ‏{‏لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله‏}‏، وذلك مما دلت عليه الآية السابقة بطريق الإدماج بقوله ‏{‏يأتيكم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ وبقوله ‏{‏تسكنون فيه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 72‏]‏ كما تقدم آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏جعل لكم الليل والنهار‏}‏ الخ معطوفة على جملة ‏{‏أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ تبعيضية فإن رحمة الله بالناس حقيقة كلية لها تحقق في وجود أنواعها وآحادها العديدة، والمجرور ب ‏{‏من‏}‏ يتعلق بفعل ‏{‏جعل لكم الليل‏}‏، وكذلك يتعلق به ‏{‏لكم‏}‏، والمقصود إظهار أن هذا رحمة من الله وأنه بعض من رحمته التي وسعت كل شيء ليتذكروا بهما نعماً أخرى‏.‏

وقدم المجرور ب ‏{‏من رحمته‏}‏ على عامله للاهتمام بمنة الرحمة‏.‏

وقد سلك في قوله ‏{‏لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله‏}‏ طريقة اللف والنشر المعكوس فيعود ‏{‏لتسكنوا فيه‏}‏ إلى الليل، ويعود ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ إلى النهار، والتقدير‏:‏ ولتبتغوا من فضله فيه، فحذف الضمير وجاره إيجازاً اعتماداً على المقابلة‏.‏

والابتغاء من فضل الله‏:‏ كناية عن العمل والطلب لتحصيل الرزق قال تعالى ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏‏.‏ والرزق‏:‏ فضل من الله‏.‏

وتقدم في قوله تعالى ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏198‏)‏‏.‏ ولام ‏{‏لتسكنوا‏}‏ ولام ‏{‏ولتبتغوا‏}‏ للتعليل، ومدخولاهما علتان للجعل المستفاد من فعل ‏{‏جعل‏}‏‏.‏

وعُطف على العلتين رجاء شكرهم على هاتين النعمتين اللتين هما من جملة رحمته بالناس فالشأن أن يتذكروا بذلك مظاهر الرحمة الربانية وجلائل النعم فيشكروه بإفراده بالعبادة‏.‏ وهذا تعريض بأنهم كفروا فلم يشكروا‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أرأيتم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ بألف بعد الراء تخفيفاً لهمزة رأى‏.‏ وقرأ الكسائي بحذف الهمزة زيادة في التخفيف وهي لغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏74‏)‏ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

كررت جملة ‏{‏يوم يناديهم‏}‏ مرة ثانية لأن التكرير من مقتضيات مقام التوبيخ فلذلك لم يقل‏:‏ ويوم ننزع من كل أمة شهيداً، فأعيد ذكر أن الله يناديهم بهذا الاستفهام التقريعي وينزع من كل أمة شهيداً، فظاهر الآية أن ذلك النداء يكرر يوم القيامة‏.‏ ويحتمل أنه إنما كررت حكايته وأنه نداء واحد يقع عقبه جواب الذين حق عليهم القول من مشركي العرب ويقع نزع شهيد من كل أمة عليهم فهو شامل لمشركي العرب وغيرهم من الأمم‏.‏ وجيء بفعل المضي في ‏{‏نزعنا‏}‏‏:‏ إما للدلالة على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، وإما لأن الواو للحال وهي يعقبها الماضي ب ‏(‏قد‏)‏ وبدون ‏(‏قد‏)‏ أي يوم يكون ذلك النداء وقد أخرجنا من كل أمة شهيداً عليهم وأخرجنا من هؤلاء شهيداً وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى ‏{‏ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏ وشهيد كل أمة رسولها‏.‏

والنزع‏:‏ جذب شيء من بين ما هو مختلط به واستعير هنا لإخراج بعض من جماعة كما في قوله تعالى ‏{‏ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتياً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏69‏)‏‏.‏ وذلك أن الأمم تأتي إلى المحشر تتبع أنبياءها، وهذا المجيء الأول، ثم تأتي الأنبياء مع كل واحد منهم من آمنوا به كما ورد في الحديث ‏"‏ يأتي النبي معه الرهط والنبي وحده ما معه أحد»‏.‏ ‏"‏

والتُفت من الغيبة إلى التكلم في ‏{‏ونزعنا‏}‏ لإظهار عظمة التكلم، وعطف ‏{‏فقلنا‏}‏ على ‏{‏ونزعنا‏}‏ لأنه المقصود‏.‏ والمخاطب ب ‏{‏هاتوا‏}‏ هم المشركون، أي هاتوا برهانكم على إلهية أصنامكم‏.‏

و ‏{‏هاتوا‏}‏ اسم فعل معناه ناولوا، وهات مبني على الكسر‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏111‏)‏، واستعيرت المناولة للإظهار‏.‏

والأمر مستعمل في التعجيز فهو يقتضي أنهم على الباطل فيما زعموه من الشركاء، ولما علموا عجزهم من إظهار برهان لهم في جعل الشركاء لله أيقنوا أن الحق مستحق لله تعالى، أي علموا علم اليقين أنهم لا حق لهم في إثبات الشركاء وأن الحق لله إذ كان ينهاهم عن الشرك على لسان الرسول في الدنيا، وأن الحق لله إذ ناداهم بأمر التعجيز في قوله ‏{‏هاتوا برهانكم‏}‏‏.‏

و ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ يشمل ما كانوا يكذبونه من المزاعم في إلهية الأصنام وما كانوا يفترون له الإلهية من الأصنام، كل ذلك كانوا يفترونه‏.‏

والضلال‏:‏ أصله عدم الاهتداء إلى الطريق‏.‏ واستعير هنا لعدم خطور الشيء في البال ولعدم حضوره في المحضر من استعمال اللفظ في مجازيه‏.‏

و ‏{‏عنهم‏}‏ متعلق بفعل ‏{‏ضل‏}‏‏.‏ والمراد‏:‏ ضل عن عقولهم وعن مقامهم؛ مثلوا بالمقصود للسائر في طريق حين يخطئ الطريق فلا يبلغ المكان المقصود‏.‏ وعلق بالضلال ضمير ذواتهم ليشمل ضلال الأمرين فيفيد أنهم لم يجدوا حجة يروجون بها زعمهم إلهية الأصنام، ولم يجدوا الأصنام حاضرة للشفاعة فيهم فوجموا عن الجواب وأيقنوا بالمؤاخذة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ‏(‏76‏)‏ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بالعصبة أُوْلِى القُوَّةِ‏}‏

كان من صنوف أذى أيمة الكفر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومن دواعي تصلبهم في إعراضهم عن دعوته اعتزازهم بأموالهم وقالوا ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ أي على رجل من أهل الثروة فهي عندهم سبب العظمة ونبزهم المسلمين بأنهم ضعفاء القوم، وقد تكرر في القرآن توبيخهم على ذلك كقوله ‏{‏وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 35‏]‏ وقوله ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ الآية‏.‏ روى الواحدي عن ابن مسعود وغيره بأسانيد‏:‏ إن الملأ من قريش وسادتهم منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والمطعم بن عدي والحارث بن نوفل‏.‏ قالوا‏:‏ «أيريد محمد أن نكون تبعاً لهؤلاء ‏(‏يعنون خباباً، وبلالاً، وعماراً، وصهيباً‏)‏ فلو طرد محمد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم له في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأنزل الله تعالى ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ إلى قوله ‏{‏بالشاكرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52- 53‏]‏‏.‏ وكان فيما تقدم من الآيات قريباً قوله تعالى ‏{‏وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها‏}‏ إلى قوله ‏{‏من المحضرين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 60- 61‏]‏ كما تقدم‏.‏

وقد ضرب الله الأمثال للمشركين في جميع أحوالهم بأمثال نظرائهم من الأمم السالفة فضرب في هذه السورة لحال تعاظمهم بأموالهم مثلاً بحال قارون مع موسى وأن مثل قارون صالح لأن يكون مثلاً لأبي لهب ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه في قرابتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأذاهما إياه، وللعاصي بن وائل السهمي في أذاه لخباب بن الأرتّ وغيره، وللوليد بن المغيرة من التعاظم بماله وذويه‏.‏ قال تعالى ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالا ممدوداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11- 12‏]‏ فإن المراد به الوليد بن المغيرة‏.‏

فقوله ‏{‏إن قارون كان من قوم موسى‏}‏ اسئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلاً لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام ولها مزيد تعلق بجملة ‏{‏وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها‏}‏ إلى قوله ‏{‏ثم هو يوم القيامة من المحضرين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 60، 61‏]‏‏.‏

ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله تعالى ‏{‏وما كنت بجانب الطور إذ نادينا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 46‏]‏ الآية‏.‏

و ‏{‏قارون‏}‏ اسم معرب أصله في العبرانية ‏(‏قورح‏)‏ بضم القاف مشبعة وفتح الراء، وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت، وجالوت، فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن‏.‏

و ‏(‏قورح هذا ابن عم موسى عليه السلام دنيا‏)‏، فهو قورح بن يصهار بن قهات بن لاوى بن يعقوب‏.‏

وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت فيكون يصاهر أخا عمرم، وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن ‏(‏قُورَح‏)‏ هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلاً منهم على موسى وهارون عليهما السلام حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط ‏(‏لاوى‏)‏ فحسدهم قورح إذ كان ابن عمهم وقال لموسى وهارون‏:‏ ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب إن الجماعة مقدسة والرب معها فغضب الله على قورح وأتباعه وخسف بهم الأرض وذهبت أموال ‏(‏قورح‏)‏ كلها، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب ‏(‏أريحا‏)‏ قبل فتحها‏.‏ وذكر المفسرون أن فرعون كان جعل ‏(‏قورح‏)‏ رئيساً على بني إسرائيل في مصر وأنه جمع ثروة عظيمة‏.‏

وما حكاه القرآن يبين سبب نُشُوء الحسد في نفسه لموسى لأن موسى لما جاء بالرسالة وخرج ببني إسرائيل زال تأمّر ‏{‏قارون‏}‏ على قومه فحقد على موسى‏.‏ وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن‏.‏ وما لهم به من برهان‏.‏ وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية‏.‏

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر ‏{‏إن‏}‏ وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين، ويكفرون بشرائع الله لظهور أن الإخبار عن قارون بأنه من قوم موسى ليس من شأنه أن يتردد فيه السامع حتى يؤكد له، فمصب التأكيد هو ما بعد قوله ‏{‏إذ قال له قومه لا تفرح‏}‏ إلى آخر القصة المنتهية بالخسف‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏إن‏}‏ لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط الاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدواً له ولأتباعه، فأمره أغرب من أمر فرعون‏.‏

وعدل عن أن يقال‏:‏ كان من بني إسرائيل، لما في إضافة ‏{‏قوم‏}‏ إلى ‏{‏موسى‏}‏ من الإيماء إلى أن لقارون اتصالاً خاصاً بموسى فهو اتصال القرابة‏.‏

وجملة ‏{‏فبغى عليهم‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏إن قارون كان من قوم موسى‏}‏ وجملة ‏{‏وءاتيناه من الكنوز‏}‏، والفاء فيها للترتيب والتعقيب، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قال طرفة‏:‏

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد

والبغي‏:‏ الاعتداء، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها، وأول ذلك خرق شريعتها‏.‏ وفي الإخبار عنه بأنه ‏{‏من قوم موسى‏}‏ تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه‏.‏

وفي قوله ‏{‏إن قارون كان من قوم موسى‏}‏ محسّن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن، أي النثر الذي يجيء بميزان بعض بحور الشعر، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر‏.‏

وجملة ‏{‏إن مفاتحه لتنوء بالعصبة‏}‏ صلة ‏{‏ما‏}‏ الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع ‏{‏إن‏}‏ في افتتاح صلة الموصول‏.‏ ومنع الكوفيون من ذلك واعتُذر عنهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا ‏{‏ما‏}‏ هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة‏.‏

والمفاتح‏:‏ جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقيية وهو آلة الفتح، ويسمى المفتاح أيضاً‏.‏ وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏

و ‏{‏الكنوز‏}‏‏:‏ جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة، وتقدم في قوله تعالى ‏{‏لولا أنزل عليه كنز‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون‏:‏ بدرة مال، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه‏.‏ وعن أبي رزين لقيط بن عامر العُقيلي أحد الصحابة أنه قال «يكفي الكوفة مفتاح» أي مفتاح واحد، أي كنز واحد من المال له مفتاح، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل‏:‏

جبان الكلب مهزول الفصيل ***

‏{‏وتنوء‏)‏‏:‏ تثقل‏.‏ ويظهر أن الباء في قوله ‏{‏بالعصبة‏}‏ باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قول امرئ القيس‏:‏

وأردف إعجازاً وناء بكلكل ***

ولا كمثال صاحب «الكشاف»‏:‏ ناء به الحمل، إذا أثقله الحمل حتى أماله‏.‏

وأما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب، فلا يقبله من كان له قلب‏.‏

والعُصبة‏:‏ الجماعة، وتقدم في سورة يوسف‏.‏ وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر‏.‏ وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ‏}‏ ‏{‏يُحِبُّ الفرحين * وابتغ فِيمَآ ءَاتَاكَ الله الدار الاخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الارض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين‏}‏ ‏{‏إذ‏}‏ ظرف منصوب بفعل ‏(‏بغى عليهم‏)‏ والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقاً ب ‏(‏أذكر‏)‏ محذوفاً وهو المعني في نظائره من القصص‏.‏

والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله‏.‏

والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى ‏{‏وفرحوا بها‏}‏ في ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ويطلق على البطر والازدهاء، وهو الفرح المفرط المذموم، وتقدم في قوله تعالى

‏{‏وفرحوا بالحياة الدنيا‏}‏ في سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ وهو التمحض للفرح‏.‏ والفرح المنهيّ عنه هو المفرط منه، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع الدنيا ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضاً عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله ‏{‏وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة‏}‏‏.‏ وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مراداً به العجب والبطر‏.‏ وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيداً لدلالة المقام بقوله ‏{‏إن الله لا يحب الفرحين‏}‏، أي المفرطين في الفرح فإن صيغة ‏(‏فعل‏)‏ صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي، فالجملة علة للتي قبلها، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزاً إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك‏.‏

وابتغاء الدار الآخرة طلبها، أي طلب نعيمها وثوابها‏.‏ وعلق بفعل الابتغاء قوله ‏{‏فيما ءاتاك الله‏}‏ بحرف الظرفية، أي اطلب بمعظمه وأكثره‏.‏ والظرفية مجازية للدلالة على تغلغل ابتغاء الدار الآخرة في ما آتاه الله وما آتاه هو كنوز المال، فالظرفية هنا كالتي في قوله تعالى ‏{‏وارزقوهم فيها واكسوهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏ أي منها ومعظمها، وقول سبرة بن عمرو الفقعسي‏:‏

نحابي بها أكفاءنا ونهينها *** ونشرب في أثمانها ونقامر

أي اطلب بكنوزك أسباب حصول الثواب بالإنفاق منها في سبيل الله وما أوجبه ورغب فيه من القربان ووجوه البر‏.‏

‏{‏الدار الاخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ‏}‏‏.‏

جملة معترضة بين الجملتين الحافتين بها، والواو اعتراضية‏.‏

والنهي في ‏{‏ولا تنس نصيبك‏}‏ مستعمل في الإباحة‏.‏ والنسيان كناية عن الترك كقوله في حديث الخيل «ولم ينس حق الله في رقابها»، أي لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة‏.‏ وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ لأنهم لما قالوا لقارون ‏{‏وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة‏}‏ أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات، فأفيد أن له استعمال بعضه في ما هو متمحض لنعيم الدنيا إذا آتى حق الله في أمواله‏.‏ فقيل‏:‏ أرادوا أن لك أن تأخذ ما أحلّ الله لك‏.‏

والنصيب‏:‏ الحظ والقسط، وهو فعيل من النصب لأن ما يعطى لأحد ينصب له ويميز، وإضافة النصيب إلى ضميره دالة على أنه حقه وأن للمرء الانتفاع بماله في ما يلائمه في الدنيا خاصة مما ليس من القربات ولم يكن حراماً‏.‏ قال مالك‏:‏ في رأيي معنى ‏{‏ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك‏.‏

وقال قتادة‏:‏ نصيب الدنيا هو الحلال كلّه‏.‏ وبذلك تكون هذه الآية مثالاً لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة‏.‏ و‏{‏من‏}‏ للتبعيض‏.‏ والمراد بالدنيا نعيمها‏.‏ فالمعنى‏:‏ نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا‏.‏

‏{‏مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الارض إِنَّ الله لاَ‏}‏‏.‏

الإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبنى عليه الاحتجاج بقوله ‏{‏كما أحسن الله إليك‏}‏‏.‏

والكاف للتشبيه، و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي كإحسان الله إليك، والمشبه هو الإحسان المأخوذ من ‏{‏أحسن‏}‏ أي إحساناً شبيهاً بإحسان الله إليك‏.‏ ومعنى الشبه‏:‏ أن يكون الشكر على كل نعمة من جنسها‏.‏ وقد شاع بين النحاة تسمية هذه الكاف كاف التعليل، ومثلها قوله تعالى ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏ والتحقيق أن التعليل حاصل من معنى التشبيه وليس معنى مستقلاً من معاني الكاف‏.‏

وحذف متعلق الإحسان لتعميم ما يُحسن إليه فيشمل نفسه وقومه ودوابه ومخلوقات الله الداخلة في دائرة التمكن من الإحسان إليها‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» فالإحسان في كل شيء بحسبه، والإحسان لكل شيء بما يناسبه حتى الأذى المأذون فيه فبقدره ويكون بحسن القول وطلاقة الوجه وحسن اللقاء‏.‏

وعطف ‏{‏لا تبغ الفساد في الأرض‏}‏ للتحذير من خلط الإحسان بالفساد فإن الفساد ضد الإحسان، فالأمر بالإحسان يقتضي النهي عن الفساد وإنما نص عليه لأنه لما تعددت موارد الإحسان والإساءة فقد يغيب عن الذهن أن الإساءة إلى شيء مع الإحسان إلى أشياء يعتبر غير إحسان‏.‏

والمراد بالأرض أرضهم التي هم حالّون بها، وإذ قد كانت جزءاً من الكرة الأرضية فالإفساد فيها إفساد مظروف في عموم الأرض‏.‏ وقد تقدمت نظائره منها في قوله تعالى ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لا يحب المفسدين‏}‏ علة للنهي عن الإفساد، لأن العمل الذي لا يحبه الله لا يجوز لعباده عمله، وقد كان ‏{‏قارون‏}‏ موحّداً على دين إسرائيل ولكنه كان شاكّاً في صدق مواعيد موسى وفي تشريعاته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

جواب عن موعظة واعظيه من قومه‏.‏ وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرَّت بطره وازدهاءه‏.‏

و ‏{‏إنما‏}‏ هذه هي أداة الحصر المركبة من ‏(‏إنّ‏)‏ و‏(‏ما‏)‏ الكافة مصيّرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم ‏(‏ما‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته‏.‏

وضمير ‏{‏أوتيته‏}‏ عائد إلى ‏(‏ما‏)‏ الموصولة في قولهم ‏{‏وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وبني الفعل للنائب للعلم بالفاعل من كلام واعظيه‏.‏

و ‏{‏على علم‏}‏ في موضع الحال من الضمير المرفوع‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به، يعني بذلك قولهم له ‏{‏لا تفرح وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76، 77‏]‏‏.‏ وقد كان قارون مشهوراً بالعلم بالتوراة ولكنه أضلّه الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميراً من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد، فقال أبو شريح له‏:‏ ائذن لي أيها الأمير أحدِّثك قولاً قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلِّغ الشاهد الغائب» فقال عمرو بن سعيد‏:‏ أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فارّاً بخربة‏.‏

ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها، فأراد بجوابه إنكار قولهم‏:‏ آتاك الله صلفاً منه وطغياناً‏.‏

وقوله ‏{‏عندي‏}‏ صفة ل ‏{‏علم‏}‏ تأكيداً لتمكنه من العلم وشهرته به‏.‏ هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه ‏{‏أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون‏}‏ الآية، كما ستعرفه‏.‏ وذكر المفسرون وجوهاً تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى ‏{‏على‏}‏ ومحمل المراد من ‏(‏العلم‏)‏ ومحمل ‏{‏عندي‏}‏ فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وآتيناه من الكنوز‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ إلى آخرها مع ما عطف عليها وتعلق بها، فدلت الفاء على أن خروجه بين قومه في زينته بعد ذلك كله كان من أجل أنه لم يقصر عن شيء من سيرته ولم يتعظ بتلك المواعظ ولا زمناً قصيراً بل أعقبها بخروجه هذه الخرجة المليئة صلفاً وازدهاء‏.‏ فالتقدير‏:‏ قال إنما أوتيته على علم عندي فخرج، أي رفض الموعظة بقوله وفعله‏.‏ وتعدية ‏(‏خرج‏)‏ بحرف ‏{‏على‏}‏ لتضمينه معنى النزول إشارة إلى أنه خروج متعال مترفِّع، و‏{‏في زينته‏}‏ حال من ضمير ‏(‏خرج‏.‏

‏(‏والزينة‏:‏ ما به جمال الشيء والتباهي به من الثياب والطيب والمراكب والسلاح والخدم، وتقدم قوله تعالى ‏{‏ولا يُبْدين زينتهن‏}‏ في سورة ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وإنما فصلت جملة ‏{‏قال الذين يريدون الحياة الدنيا‏}‏ ولم تعطف لأنها تتنزل منزلة بدل الاشتمال لما اشتملت عليه الزينة من أنها مما يتمناه الراغبون في الدنيا‏.‏ وذلك جامع لأحوال الرفاهية وعلى أخصر وجه لأن الذين يريدون الحياة الدنيا لهم أميال مختلفة ورغبات متفاوتة فكل يتمنى أمنية مما تلبس به قارون من الزينة، فحصل هذا المعنى مع حصول الأخبار عن انقسام قومه إلى مغترين بالزخارف العاجلة عن غير علم، وإلى علماء يؤثرون الآجل على العاجل، ولو عطفت جملة ‏{‏قال الذين يريدون‏}‏ بالواو وبالفاء لفاتت هذه الخصوصية البليغة فصارت الجملة إما خبراً من جملة الأخبار عن حال قومه، أو جزء خبر من قصته‏.‏

و ‏{‏الذين يريدون الحياة الدنيا‏}‏ لما قوبلوا ب ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 80‏]‏ كان المعنيُّ بهم عامة الناس وضعفاء اليقين الذين تلهيهم زخارف الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب فتقصر بصائرهم عن التدبر إذا رأوا زينة الدنيا فيتلهفون عليها ولا يتمنون غير حصولها فهؤلاء وإن كانوا مؤمنين إلا أن إيمانهم ضعيف فلذلك عظم في عيونهم ما عليه قارون من البذخ فقالوا ‏{‏إنه لذو حظ عظيم‏}‏ أي إنه لذو بخت وسعادة‏.‏

وأصل الحظ‏:‏ القِسم الذي يعطاه المقسوم له عند العطاء، وأريد به هنا ما قسم له من نعيم الدنيا‏.‏

والتوكيد في قوله ‏{‏إنه لذو حظ عظيم‏}‏ كناية عن التعجب حتى كأن السامع ينكر حظه فيؤكده المتكلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ عطف على جملة ‏{‏قال الذين يريدون الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 79‏]‏ فهي مشاركة لها في معناها لأن ما تشتمل عليه خرجة قارون ما تدل عليه ملامحه من فتنة ببهرجته وبزته دالة على قلة اعتداده بثواب الله وعلى تمحضه للإقبال على لذائذ الدنيا ومفاخرها الباطلة ففي كلام ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ تنبيه على ذلك وإزالة لما تستجلبه حالة قارون من نفوس المبتلين بزخارف الدنيا‏.‏

و ‏(‏ويل‏)‏ اسم للهلاك وسوء الحال، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏‏.‏ ويستعمل لفظ ‏(‏ويل‏)‏ في التعجب المشوب بالزجر، فليس ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ داعين بالويل على الذين يريدون الحياة الدنيا لأن المناسب لمقام الموعظة لين الخطاب ليكون أعون على الاتعاظ، ولكنهم يتعجبون من تعلق نفوس أولئك بزينة الحياة الدنيا واغتباطهم بحال قارون دون اهتمام بثواب الله الذي يستطيعون تحصيله بالإقبال على العمل بالدين والعمل النافع وهم يعلمون أن قارون غير متخلق بالفضائل الدينية‏.‏

وتقديم المسند إليه في قوله ‏{‏ثواب الله خير‏}‏ ليتمكن الخبر في ذهن السامعين لأن الابتداء بما يدل على الثواب المضاف إلى أوسع الكرماء كرماً مما تستشرف إليه النفس‏.‏

وعدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله ‏{‏لمن آمن وعمل صالحاً‏}‏ دون‏:‏ خير لكم، لما في الإظهار من الإشارة إلى أن ثواب الله إنما يناله المؤمنون الذين يعملون الصالحات وأنه على حسب صحة الإيمان ووفرة العمل، مع ما في الموصول من الشمول لمن كان منهم كذلك ولغيرهم ممن لم يحضر ذلك المقاموَعَمِلَ صالحا وَلاَ يُلَقَّاهَآ‏.‏

يجوز أن تكون الواو للعطف فهي من كلام ‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏، أمروا الذين فتنهم حال قارون بأن يصبروا على حرمانهم مما فيه قارون‏.‏

ويجوز أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة من جانب الله تعالى علّم بها عباده فضيلة الصبر‏.‏

وضمير ‏{‏يلقاها‏}‏ عائد إلى مفهوم من الكلام يجري على التأنيث، أي الخصلة وهي ثواب الله أو السيرة القويمة، وهي سيرة الإيمان والعمل الصالح‏.‏

والتلقية‏:‏ جعل الشيء لاقياً، أي مجتمعاً مع شيء آخر‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏ويلقون فيها تحية وسلاماً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏75‏)‏‏.‏ وهو مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة، أي لا يعطى تلك الخصلة أو السيرة إلا الصابرون؛ لأن الصبر وسيلة لنوال الأمور العظيمة لاحتياج السعي لها إلى تجلد لما يعرض في خلاله من مصاعب وعقبات كأداء فإن لم يكن المرء متخلقاً بالصبر خارت عزيمته فترك ذاك لذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلتهم عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله‏.‏

والخسف‏:‏ انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها، وعكسه‏.‏ يقال‏:‏ خسفت الأرض وخسف الله الأرض فانخسفت، فهو يستعمل قاصراً ومتعدياً، وإنما يكون الخسف بقوة الزلزال‏.‏ وأما قولهم‏:‏ خسفت الشمس فذلك على التشبيه‏.‏ والباء في قوله ‏{‏فخسفنا به‏}‏ باء المصاحبة، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها، وتقدم قوله تعالى ‏{‏أن يخسف الله بهم الأرض‏}‏ في سورة النحل‏.‏

‏(‏45‏)‏ وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومن ظاهره، وهما رجلان من سبط ‏(‏روبين‏)‏ وغير دار قارون، فهو معجزة لموسى عليه السلام‏.‏

جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن قورح ‏(‏وهو قارون‏)‏ ومن معه لما آذوا موسى كما تقدم، وذكرهم موسى بأن الله أعطاهم مزية خدمة خيمته ولكنه أعطى الكهانة بني هارون ولم تجد فيهم الموعظة غضب موسى عليهم ودعا عليهم ثم أمر الناس بأن يبتعدوا من حوالي دار قورح ‏(‏قارون‏)‏ وخيام جماعته‏.‏ وقال موسى‏:‏ إن مات هؤلاء كموت عامة الناس فاعلموا أن الله لم يرسلني إليكم وان ابتدع الله بدعة ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل مالهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء قد ازدروا بالرب‏.‏ فلما فرغ موسى من كلامه انشقت الأرض التي هم عليها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل أمواله وخرجت نار من الأرض أهلكت المائتين والخمسين رجلاً‏.‏ وقد كان قارون معتزاً على موسى بالطائفة التي كانت شايعته على موسى وهم كثير من رؤساء جماعة اللاويين وغيرهم، فلذلك قال الله تعالى ‏{‏فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله‏}‏، إذ كان قد أعدهم للنصر على موسى رسول الله فخسف بهم معه وهو يراهم، ‏{‏وما كان من المنتصرين‏}‏ كما كان يحسب‏.‏ يقال‏:‏ انتصر فلان، إذا حصل له النصر، أي فما نصره أنصاره ولا حصل له النصر بنفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏أصبح‏}‏ هنا بمعنى صار‏.‏

و ‏(‏الأمس‏)‏ مستعمل في مطلق زمن مضى قريباً على طريقة المجاز المرسل‏.‏ و‏(‏مكان‏)‏ مستعمل مجازاً في الحالة المستقر فيها صاحبها، وقد يعبر عن الحالة أيضاً بالمنزلة‏.‏

ومعنى ‏{‏يقولون‏}‏ أنهم يجهرون بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعاً إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده‏.‏ وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى ‏{‏ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏ الآية‏.‏

وكلمة ‏{‏ويكأن‏}‏ عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاث كلمات‏:‏ ‏(‏وي‏)‏ وكاف الخطاب و‏(‏أن‏)‏‏.‏ فأما ‏(‏وي‏)‏ فهي اسم فعل بمعنى‏:‏ أعجب، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيهاً عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة، وأما ‏(‏أن‏)‏ فهي ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة الهمزة أخت ‏(‏إن‏)‏ المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه فيقدر لها حرف جرّ ملتزم حذفه لكثرة استعماله وكان حذفه مع ‏(‏أن‏)‏ جائزاً فصار في هذا التركيب واجباً وهذا الحرف هو اللام أو ‏(‏من‏)‏ فالتقدير‏:‏ أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء‏.‏

وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال‏:‏ وي بمعنى أعجب، ويقال ‏(‏ويك‏)‏ بمعناه أيضاً قال عنترة‏:‏

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها *** قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

ويقال‏:‏ ‏{‏ويكأن‏}‏، كما في هذه الآية وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي‏:‏

ويكأن من يكن له نشبٌ يُح *** بَبْ ومن يفتقر يعش عيش ضرّ

فخفّف ‏(‏أن‏)‏ وكتبوها متصلة لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام فلم يتحققوا أصل تركيبها وكان القياس أن تكتب ‏(‏ويك‏)‏ مفصولة عن ‏(‏أن‏)‏ وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد‏.‏ وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين ‏(‏وي‏)‏ و‏(‏كأن‏)‏ التي للتشبيه‏.‏

والمعنى‏:‏ التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا والتشبيه مستعمل في الظن واليقين‏.‏ والمعنى‏:‏ أما تعجب كأن الله يبسط الرزق‏.‏

وذهب أبو عمرو بن العلاء والكسائي والليث وثعلب ونسبه في «الكشاف» إلى الكوفيين ‏(‏وأبو عمرو بصري‏)‏ أنها مركبة من أربع كلمات كلمة ‏(‏ويل‏)‏ وكاف الخطاب وفعل ‏(‏اعلم‏)‏ و‏(‏أن‏)‏‏.‏ وأصله‏:‏ ويلك أعلم أنه كذا، فحذف لام الويل وحذف فعل ‏(‏اعلم‏)‏ فصار ‏(‏وَيْكَأنّه‏)‏‏.‏ وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة لأنها صارت رمزاً لمجموع كلماته فكانت مثل النحت‏.‏

ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على ‏{‏ويكأنه‏}‏ بتمامه والبعض يقف على ‏(‏وي‏)‏ والبعض يقف على ‏(‏ويك‏)‏‏.‏

ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضاً بذلك وأعلنوه‏.‏

والبسط‏:‏ مستعمل مجازاً في السعة والكثرة‏.‏

و ‏{‏يقدر‏}‏ مضارع قدر المتعدي، وهو بمعنى‏:‏ أعدى بمقدار، وهو مجاز في القلة لأن التقدير يستلزم قلة المقدر لعسر تقدير الشيء الكثير قال تعالى ‏{‏ومن قدر عليه رزقه فَليُنْفِق مما آتاه الله لا يكلِّف الله نفساً إلا ما ءاتاها‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وفائدة البيان بقوله ‏{‏من عباده‏}‏ الإيماء إلى أنه في بسطة الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيده فحقهم الرضى بما قسم لهم مولاهم‏.‏

ومعنى ‏{‏لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا‏}‏‏:‏ لولا أن منَّ الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به، أو لولا أن منّ الله علينا بأن لم نكن من شيعة قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه، أو لولا أن منّ الله علينا بثبات الإيمان‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لَخُسِف بنا‏}‏ على بناء فعل «خُسِف» للمجهول للعلم بالفاعل من قولهم‏:‏ لولا أن منّ الله علينا‏.‏ وقرأه يعقوب بفتح الخاء والسين، أي لخسف الله الأرض بنا‏.‏

وجملة ‏{‏ويكأنه لا يفلح الكافرون‏}‏ تكرير للتعجيب، أي قد تبين أن سبب هلاك قارون هو كفره برسول الله‏.‏