فصل: تفسير الآية رقم (19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يجري هذا الكلام على الوجهين المذكورين في قوله ‏{‏وإن تكذبوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ويترجح أن هذا مسوق من جانب الله تعالى إلى المشركين بأن الجمهور قرأوا ‏{‏أو لم يروا‏}‏ بياء الغيبة ولم يجر مثل قوله ‏{‏وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ومناسبة التعرض لهذا هو ما جرى من الإشارة إلى البعث في قوله ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏ تنظيراً لحال مشركي العرب بحال قوم إبراهيم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أو لم يروا‏}‏ بياء الغائب والضمير عائد إلى ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 12‏]‏ في قوله ‏{‏وقال الذين كفروا للذين ءامنوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 12‏]‏، أو إلى معلوم من سياق الكلام‏.‏ وعلى وجه أن يكون قوله ‏{‏وإن تكذبوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏ الخ خارجاً عن مقالة إبراهيم يكون ضمير الغائب في ‏{‏أو لم يروا‏}‏ التفاتاً‏.‏ والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مُكذبون‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف ‏{‏أو لم تروا‏}‏ بالفوقية على طريقة ‏{‏وإن تُكذبوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 18‏]‏ على الوجهين المذكورين‏.‏

والهمزة للاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية، نزلوا منزلة من لم ير فأنكر عليهم‏.‏

والرؤية يجوز أن تكون بصرية، والاستدلال بما هو مشاهد من تجدد المخلوقات في كل حين بالولادة وبروز النبات دليل واضح لكل ذي بصر‏.‏

وإبداء الخلق‏:‏ بَدْؤُه وإيجاده بعد أن لم يكن موجوداً‏.‏ يقال‏:‏ أبدأ بهمزة في أوله وبدأ بدونها وقد وردا معاً في هذه الآية إذ قال ‏{‏كيف يُبدئ الله الخلق‏}‏ ثم قال ‏{‏فانظروا كيف بدأ الخلق‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 20‏]‏ ولم يجئ في أسمائه تعالى إلا المُبْدِئ دون البادئ‏.‏

وأحسب أنه لا يقال ‏(‏أبدأ‏)‏ بهمز في أوله إلا إذا كان معطوفاً عليه ‏(‏يُعيد‏)‏ ولم أر من قيده بهذا‏.‏

و ‏{‏الخلق‏}‏‏:‏ مصدر بمعنى المفعول، أي المخلوق كقوله تعالى ‏{‏هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وجيء ‏{‏يبدئ‏}‏ بصيغة المضارع لإفادة تجدد بدء الخلق كلما وجه الناظر بصره في المخلوقات، والجملة انتهت بقوله ‏{‏يبدئ الله الخلق‏}‏‏.‏ وأما جملة ‏{‏ثم يعيده‏}‏ فهي مستأنفة ابتدائية فليست معمولة لفعل ‏{‏يروا‏}‏ لأن إعادة الخلق بعد انعدامه ليست مرئية لهم ولا هم يظنونها فتعين أن تكون جملة ‏{‏ثم يعيده‏}‏ مستقلة معترضة بين جملة ‏{‏أو لم يروا‏}‏ وجملة ‏{‏قل سيروا في الأرض‏}‏‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن أمر إعادة الخلق أهمّ وأرفع رتبة من بدئه لأنه غير مشاهد ولأنهم ينكرونه ولا ينكرون بدء الخلق قال في «الكشاف»‏:‏ هو كقولك‏:‏ ما زلت أوثر فلاناً وأستخلفه على من أخلِّفه» يعني فجملة‏:‏ وأستخلفه، ليست معطوفة على جملة‏:‏ أوثر، ولا داخلة في خبر‏:‏ ما زلت، لأنك تقوله قبل أن تستخلفه فضلاً عن تكرر الاستخلاف منك‏.‏ هذه طريقة «الكشاف» وهو يجعل موقع ‏{‏ثم يعيده‏}‏ كموقع التفريع على الاستفهام الإنكاري‏.‏

واعلم أن هذين الفعلين ‏(‏يبدئ ويعيد‏)‏ وما تصرف منهما مما جرى استعمالهما متزاوجين بمنزلة الاتباع كقوله تعالى ‏{‏وما يبدئ الباطل وما يُعيد‏}‏ في سورة ‏[‏سبأ‏:‏ 49‏]‏‏.‏ قال في «الكشاف» في سورة سبأ‏:‏ فجعلوا قولهم‏:‏ لا يبدئ ولا يعيد، مثلاً في الهلاك، ومنه قول عبيد‏:‏

فاليوم لا يبدي ولا يعيد ***

ويقال‏:‏ أبدأ وأعاد بمعنى تصرف تصرفاً واسعاً، قال بشار‏:‏

فهمومي مُظِلة *** بادِئاتتٍ وعودا

ويجوز أن تكون الرؤية علمية متعدية إلى مفعولين‏:‏ أنكر عليهم تركهم النظر والاستدلال الموصّل إلى علم كيف يُبدئ الله الخلق ثم يعيده لأن أدلة بدء الخلق تفضي بالناظر إلى العلم بأن الله يعيد الخلق فتكون ‏{‏ثم‏}‏ عاطفة فعل ‏{‏يعيده‏}‏ على فعل ‏{‏يبدئ‏}‏ والجميع داخل في حيز الإنكار‏.‏

و ‏{‏كيف‏}‏ اسم استفهام وهي معلِّقة فعل ‏{‏يروا‏}‏ عن العمل في معموله أو معموليه‏.‏ والمعنى‏:‏ ألم يتأملوا في هذا السؤال، أي في الجواب عنه‏.‏ والاستفهام ب ‏{‏كيف‏}‏ مستعمل في التنبيه ولفت النظر لا في طلب الإخبار‏.‏

وجملة ‏{‏إن ذلك على الله يسير‏}‏ مبينة لما تضمنه الاستفهام من إنكار عدم الرؤية المؤدية إلى العلم بوقوع الإعادة، إذ أحالوها مع أن إعادة الخلق إن لم تكن أيسر من الإعادة في العرف فلا أقل من كونها مساوية لها وهذا كقوله تعالى ‏{‏وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المصدر المفاد من ‏{‏يعيده‏}‏ مثل عود الضمير على نظيره في قوله ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ووجه توكيد الجملة ب ‏{‏إن‏}‏ ردُّ دعواهم أنه مستحيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

اعتراض انتقالي من الإنكار عليهم ترك الاستدلال بما هو بمرأى منهم، إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض، فإن تعوُّد الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها‏.‏

وإنما أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمّة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوِيَّاتها ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها فيرى كثيراً من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها، فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جَوَلاناً لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه، لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائباً عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال، فالسيرُ في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة‏.‏ وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن وأنه قادر على إيجاد أمثالها فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها‏.‏

والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن لأن للشيء المتقرر تحققاً محسوساً‏.‏

وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشئ النشأة الآخرة‏.‏

ولذلك أعقب بجملة ‏{‏ثم الله ينشئ النشأة الآخرة‏}‏ فهي جملة مستقلة‏.‏ ‏(‏وثم‏)‏ للترتيب الرتبي كما تقدم في قوله ‏{‏ثم يعيده‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وإظهار اسم الجلالة بعد تقدم ضميره في قوله ‏{‏كيف بدأ الخلق‏}‏ وكان مقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ ثم ينشئ‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ لأن الكلام كان واقعاً في الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فالذي لم يعجزه الإبداء فهو الذي وجب أن لا تُعجزه الإعادة‏.‏ فكأنه قال‏:‏ ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ اه‏.‏ يريد أن العدول عن الإضمار إلى الإسم الظاهر لتسجيل وقوع هذا الإنشاء الثاني، فتكون الجملة مستقلة حتى تكون عنوان اعتقاد بمنزلة المثل لأن في اسم الجلالة إحضاراً لجميع الصفات الذاتية التي بها التكوين، وليفيد وقوع المسند إليه مخبراً عنه بمسند فعلي معنى التقوي‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ تذييل، أي قدير على البعث وعلى كل شيء إذا أراده‏.‏ وإظهار اسم الجلالة لتكون جملة التذييل مستقلة بنفسها فتجري مجرى الأمثال‏.‏

و ‏{‏النشأة‏}‏ بوزن فعلة‏:‏ المرة من النّشء وهو الإيجاد، وكذلك قرأها الجمهور، عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النّشء الأول ويقال‏:‏ النّشاءة بمد بعد الشين بوزن الكآبة ومثلها الرأفة والرءافة‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏النشاءة‏}‏ بالمدّ‏.‏ ووصفها ب ‏{‏الآخرة‏}‏ إيماء بأنها مساوية للنشأة الأولى فلا شبهة لهم في إحالة وقوعها‏.‏ وأما قوله تعالى ‏{‏ولقد علمتم النشأة الأولى‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 62‏]‏ فذلك على سبيل المشاكلة التقديرية لأن قوله قبله ‏{‏ونُنشئكم فيما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 61‏]‏ يتضمن النشأة الآخرة فعبر عن مقابلتها بالنشأة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

لما ذكر النشأة الآخرة أتبع ذكرها بذكر أهم ما تشتمل عليه وما أوجدت لأجله وهو الثواب والعقاب‏.‏

وابتدئ بذكر العقاب لأن الخطاب جار مع منكري البعث الذين حظهم فيه هو التعذيب‏.‏ ومفعولا فعلي المشيئة محذوفان جرياً على غالب الاستعمال فيهما‏.‏ والتقدير‏:‏ من يشاء تعذيبه ومن يشاء رحمته‏.‏ والفريقان معلومان من آيات الوعد والوعيد؛ فأصحاب الوعد شاء الله رحمتهم وأصحاب الوعيد شاء تعذيبهم، فمن الذين شاء تعذيبهم المشركون ومن الذين شاء رحمتهم المؤمنون، والمقصود هنا هم الفريقان معاً كما دل عليه الخطاب العام في قوله ‏{‏وإليه تقلبون‏}‏‏.‏

والقلب‏:‏ الرجوع، أي وإليه ترجعون‏.‏

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتأكيد إذ ليس المقام للحصر إذ ليس ثمة اعتقاد مردود‏.‏ وفي هذا إعادة إثبات وقوع البعث وتعريض بالوعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإليه تقلبون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 21‏]‏ باعتبار ما تضمنته من الوعيد‏.‏

والمعجز حقيقته‏:‏ هو الذي يجعل غيره عاجزاً عن فعل ما، وهو هنا مجاز في الغلبة والانفلات من المكنة، وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ وما أنتم بمُفْلَتين من العذاب‏.‏ ومفعول ‏(‏معجزين‏)‏ محذوف للعلم به، أي بمعجزين الله‏.‏

ويتعلق قوله ‏{‏في الأرض‏}‏ ‏{‏بمعجزين‏}‏، أي ليس لكم انفلات في الأرض، أي لا تجدون موئلاً ينجيكم من قدرتنا عليكم في مكان من الأرض سهلها وجبلها، وبدْوِها وحضرها‏.‏

وعطف ‏{‏ولا في السماء‏}‏ على ‏{‏في الأرض‏}‏ احتراس وتأييس من الطمع في النجاة وإن كانوا لا مطمع لهم في الالتحاق بالسماء‏.‏ وهذا كقول الأعشى‏:‏

فلو كنتَ في جبّ ثمانين قامة *** ورُقِّيت أسبابَ السماء بسلّم

ومنه قوله تعالى ‏{‏لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22‏]‏، ولم تقع مثل هذه الزيادة في آية سورة ‏[‏الشورى‏:‏ 30، 31‏]‏ ‏{‏ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏ لأن تلك الآية جمعت خطاباً للمسلمين والمشركين بقوله ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ إذ العفو عن المسلمين‏.‏ وما هنا من المبالغة المفروضة وهي من المبالغة المقبولة كما في قول أبي بن سُلْمي الضبي‏:‏

ولو طار ذو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر

وهي أظهر في قوله تعالى ‏{‏يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وفي هذه إشارة إلى إبطال اغترارهم بتأخير الوعيد الذي تُوعدوه في الدنيا‏.‏

ولما آيسهم من الانفلات بأنفسهم في جميع الأمكنة أعقبه بتأييسهم من الانفلات من الوعيد بسعي غيرهم لهم من أولياء يتوسطون في دفع العذاب عنهم بنحو السعاية أو الشفاعة، أو من نصراء يدافعون عنهم بالمغالبة والقوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

بيان لما في قوله ‏{‏يعذب من يشاء ويرحم من يشاء‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 21‏]‏ وإنما عطف لما فيه من زيادة الإخبار بأنهم لا ينالهم الله برحمة وأنه يصيبهم بعذاب أليم‏.‏

والكُفر بآيات الله‏:‏ هو كفرهم بالقرآن‏.‏ والكفر بلقائه‏:‏ إنكارُ البعث‏.‏

واسم الإشارة يفيد أن ما سيذكره بعده نالهم من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة من أوصاف، أي أنهم استحقوا اليأس من الرحمة وإصابتهم بالعذاب الأليم لأجل كفرهم بالقرآن وإنكارهم البعث على أسلوب ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وأخبر عن يأسهم من رحمة الله بالفعل المضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه‏.‏ والمعنى‏:‏ أولئك سييأسون من رحمة الله لا محالة‏.‏

والتعبير بالاسم الظاهر في قوله ‏{‏بآيات الله‏}‏ دون ضمير التكلم للتنويه بشأن الآيات حيث أضيفت إلى الاسم الجليل لما في الاسم الجليل من التذكير بأنه حقيق بأن لا يُكفر بآياته‏.‏ والعدول إلى التكلم في قوله ‏{‏رحمتي‏}‏ التفات عاد به أسلوب الكلام إلى مقتضى الظاهر، وإعادة اسم الإشارة لتأكيد التنبيه على استحقاقهم ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

لما تمّ الاعتراض الواقع في خلال قصة إبراهيم عاد الكلام إلى بقية القصة بذكر ما أجابه به قومه‏.‏

والفاء تفريع على جملة ‏{‏إذ قال لقومه اعبدوا الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وجيء بصيغة حصر الجواب في قولهم ‏{‏اقتلوه أو حرِّقوه‏}‏ للدلالة على أنهم لم يترددوا في جوابه وكانت كلمتهم واحدة في تكذيبه وإتلافه وهذا من تصلبهم في كفرهم‏.‏

ثم ترددوا في طريق إهلاكه بين القتل بالسيف والإتلاف بالإحراق ثم استقر أمرهم على إحراقه لما دل عليه قوله تعالى ‏{‏فأنجاه الله من النار‏}‏ و‏{‏جواب قومه‏}‏ خبر ‏{‏كان‏}‏ واسمها ‏{‏أن قالوا‏}‏‏.‏ وغالب الاستعمال أن يؤخر اسمها إذا كان ‏{‏أن‏}‏ المصدرية وصلتها كما تقدم في قوله تعالى ‏{‏إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا‏}‏ في آخر سورة ‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏، ولذلك لم يقرأ الاسم الموالي لفعل الكون في أمثالها في غير القراءات الشاذة إلا منصوباً‏.‏

وقد أجمل إنجاؤه من النار هنا وهو مفصل في سورة الأنبياء‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الإنجاء المأخوذ من ‏{‏فأنجاه الله من النار‏}‏ وجعل ذلك الإنجاء آيات ولم يجعل آية واحدة لأنه آية لكل من شهده من قومه ولأنه يدل على قدرة الله، وكرامة رسوله، وتصديق وعده، وإهانة عدوه، وأن المخلوقات كلها جليلها وحقيرها مسخرة لقدرة الله تعالى‏.‏

وجيء بلفظ ‏{‏قوم يؤمنون‏}‏ ليدل على أن إيمانهم متمكن منهم ومن مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ فذلك آيات على عظيم عناية الله تعالى برسله فصدَّق أهل الإيمان في مختلف العصور‏.‏ ففي قوله ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ تعريض بأن تلك الآيات لم يصدق بها قوم إبراهيم لشدة مكابرتهم وكون الإيمان لا يخالط عقولهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار‏.‏ والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار، أراد به إعلان مكابرتهم الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار‏.‏ وتقدم ذكر الأوثان قريباً‏.‏

ومحط القصر ب ‏{‏إنما‏}‏ هو المفعول لأجله؛ أما قصر المعبودات من دون الله على كونها أوثاناً فقد سبق في قوله ‏{‏إنما تعبدون من دون الله أوثاناً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏ أي ما اتخذتم أوثاناً إلا لأجل مودّة بعضكم بعضاً‏.‏ ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضاً الداعية لإباية المخالفة‏.‏ والمودة‏:‏ المحبة والإلف‏.‏ ويتعين أن يكون ضمير ‏{‏بينكم‏}‏ شاملاً للأوثان‏.‏

والمودة‏:‏ المحبة‏.‏ فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضاً فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعالى ‏{‏ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحب الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏

قال الفخر‏:‏ أي مودة بين الأوثان وعبدتها فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة بل يحصِّل ما فيه لذة جسمه‏.‏ فهم كانوا قليلي العقول فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ورأوا تلك الأصنام مُزينة بألوان وجواهر فأحبوها‏.‏

وفعل ‏{‏اتخذتم‏}‏ مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف ‏{‏مودة‏}‏ منصوباً منوناً بدون إضافة، و‏{‏بينكم‏}‏ منصوباً على الظرفية‏.‏ وقرأ حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب ‏{‏مودة‏}‏ منصوباً غير منون بل مضافاً إلى ‏{‏بينكم‏}‏، و‏{‏بينكم‏}‏ مجرور أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعاً مضافاً على أن تكون ‏(‏ما‏)‏ في ‏{‏إنما‏}‏ موصولة وحقها أن تكتب مفصولة، و‏{‏مودة‏}‏ خبر ‏(‏إن‏)‏ تكون كتابة ‏{‏إنما‏}‏ متصلة من قبيل الرسم غير القياسي فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخباراً مجازياً عقلياً باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة‏.‏ ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده ب ‏(‏إن‏)‏ فيقوم التأكيدان مقام الحصر إذ ليس الحصر إلا تأكيداً على تأكيد كما قال السكاكي، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يُثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه‏.‏

والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه ‏{‏ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏‏.‏ ونظيره جملة صلة الموصول في قول عبدة بن الطبيب‏:‏

إن الذين تَروْنهم إخوانَكم

يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا

ولما كان في قوله ‏{‏مودة بينكم‏}‏ شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم قرنه بقوله ‏{‏في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض‏}‏ الخ تنبيهاً لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عِبرة بها إن كانت تَعقِب ندامة آجلة‏.‏

ومعنى ‏{‏يكفر بعضكم ببعض‏}‏ أن المخاطبين يكفرون بالأصنام التي كانوا يعبدونها إذ يجحدون يوم القيامة أنهم كانوا يعبدونها‏.‏

ومعنى ‏{‏ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏ أن المخاطبين يلعن كل واحد منهم الآخرين؛ إما لأن الملعونين غرّوا اللاعنين فسوّلوا لهم اتخاذ الأصنام، وإما لأنهم وافقوهم على ذلك‏.‏

وهذه مخاز تلحق بعضهم من بعض، ثم ذكر ما يعمهم من عذاب الخزي بقوله ‏{‏ومأواكم النار‏}‏‏.‏

ثم ذكر ما يعمهم جميعاً من انعدام النصير فقال ‏{‏وما لكم من ناصرين‏}‏ فنفى عنهم جنس الناصر‏.‏ وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي‏.‏ وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافاً لقوله آنفاً ‏{‏وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 22‏]‏ لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنصرة أصنامهم كان جزاؤهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها‏.‏ على أن المفرد والجمع في حيّز النفي سواء في إفادة نفي كل فرد من الجنس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏فَھَامَنَ لَهُ لُوطٌ‏}‏ جملة معترضة بين الإخبار عن إبراهيم اعتراض التفريع، وأفادت الفاء مبادرة لوط بتصديق إبراهيم، والاقتصار على ذكر لوط يدل على أنه لم يؤمن به إلا لوط لأنه الرجل الفرد الذي آمن به وأما امرأة إبراهيم وامرأة لوط فلا يشملهما اسم القوم في قوله تعالى ‏{‏وإبراهيم إذ قال لقومه‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 16‏]‏ الآية لأن القوم خاص برجال القبيلة قال زهير‏:‏

أقَوْمٌ آل حصن أم نساء ***

وفي التوراة أنه كانت معه زوجُهُ ‏(‏سارة‏)‏ وزوج لوط واسمها ‏(‏ملكة‏)‏‏.‏ ولوط هو ابن ‏(‏هاران‏)‏ أخي إبراهيم، فلوط يومئذ من أمة إبراهيم عليهما السلام‏.‏

‏{‏وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إلى ربى إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏فأنجاه الله من النار‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 24‏]‏‏.‏

فضمير ‏{‏قال‏}‏ عائد إلى إبراهيم، أي أعلن أنه مهاجر ديار قومه وذلك لأن الله أمره بمفارقة ديار أهل الكفر‏.‏

وهذه أول هجرة لأجل الدين ولذلك جعلها هجرة إلى ربه‏.‏ والمهاجرة مفاعلة من الهجر‏:‏ وهو ترك شيء كان ملازماً له، والمفاعلة للمبالغة أو لأن الذي يهجر قومه يكونون هم قد هجروه أيضاً‏.‏

وحرف ‏{‏إلى‏}‏ في قوله ‏{‏إلى ربي‏}‏ للانتهاء المجازي إذ جعل هجرته إلى الأرض التي أمره الله بأن يهاجر إليها كأنها هجرة إلى ذات الله تعالى فتكون ‏{‏إلى‏}‏ تخييلاً لاستعارة مكنية؛ أو جعل هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله لطلب مكان ليس فيه مشركون بالله كأنه هجرة إلى الله، فتكون ‏{‏إلى‏}‏ على هذا الوجه مستعارة لمعنى لام التعليل استعارة تبعية‏.‏

ورُشحت هذه الاستعارة على كلا الوجهين بقوله ‏{‏إنه هو العزيز الحكيم‏}‏‏.‏ وهي جملة واقعة موقع التعليل لمضمون ‏{‏إني مهاجر إلى ربي‏}‏، لأن من كان عزيزاً يعتز به جاره ونزيله‏.‏

وإتباع وصف ‏{‏العزيز‏}‏ ب ‏{‏الحكيم‏}‏ لإفادة أن عزته محكمة واقعة موقعها المحمود عند العقلاء مثل نصر المظلوم، ونصر الداعي إلى الحق، ويجوز أن يكون ‏{‏الحكيم‏}‏ بمعنى الحاكم فيكون زيادة تأكيد معنى ‏{‏العزيز‏}‏‏.‏

وقد مضت قصة إبراهيم وقومه وبلادهم مفصلة في سورة الأنبياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

هذا الكلام عُقبت به قصة إبراهيم تبياناً لفضلة إذ لا علاقة له بالقصة‏.‏ والظاهر أن يكون المراد ب ‏{‏وهبنالعزيز الحكيم * وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ‏}‏، و‏{‏جعلنا‏}‏ الإعلام بذلك فيكون من تمام القصة كما في سورة هود‏.‏ وتقدم نظير هذه الآية في الأنعام في ذكر فضائل إبراهيم‏.‏ و‏{‏الكتاب‏}‏ مراد به الجنس فالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن كتب نزلت في ذرية إبراهيم‏.‏

‏{‏النبوة والكتاب وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدنيا وَإِنَّهُ فِى لاَْخِرَةِ‏.‏

جمع الله له أجرين‏:‏ أجراً في الدنيا بنصره على أعدائه وبحسن السمعة وبث التوحيد ووفرة النسل، وأجراً في الآخرة وهو كونه في زمرة الصالحين، والتعريف للكمال، أي من كُمل الصالحين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر‏}‏

الانتقال من رسالة إبراهيم إلى قومه إلى رسالة لوط لمناسبة أنه شابه إبراهيم في أن أنجاه الله من عذاب الرجز‏.‏ والقول في صدر هذه الآية كالقول في آية ‏{‏وإبراهيم إذ قال لقومه‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 16‏]‏ المتقدم آنفاً‏.‏ وتقدم نظيرها في سورة النمل وفي سورة الشعراء‏.‏

وما بين الآيات من تفاوت هو تفنن في حكاية القصة للغرض الذي ذكرته في المقدمة السابعة، إلا قوله هنا ‏{‏إنكم لتأتون الفاحشة‏}‏ فإنه لم يقع له نظير فيما مضى‏.‏

وقوم لوط من الكنعانيين وتقدم ذكرهم في سورة الأعراف‏.‏

وتوكيد الجملة ب ‏(‏إن‏)‏ واللام توكيد لتعلق النسبة بالمفعول لا تأكيد للنسبة، فالمقصود تحقيق أن الذي يفعلونه فاحشة، أي عمل قبيح بالغ الغاية في القبح، لأن الفحش بلوغ الغاية في شيء قبيح لأنهم كانوا غير شاعرين بشناعة عملهم وقبحه‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ‏{‏إنكم لتأتون الفاحشة‏}‏ بهمزة واحدة على الإخبار المستعمل في التوبيخ‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزتين‏:‏ همزة الاستفهام وهمزة ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏ وقرأ الجميع ‏{‏أإنكم لتأتون الرجال‏}‏ بهمزتين‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ وجدت الأول أي ‏{‏إنكم لتأتون الفاحشة‏}‏ في الإمام بحرف واحد بغير ياء، أي بغير الياء التي تكتب الهمزة المكسورة على صورتها ورأيت الثاني ‏(‏أي ‏{‏أينكم لتأتون الرجال‏}‏‏)‏ بحرفي الياء والنون اه‏.‏ ‏(‏يعني الياء بعد همزة الاستفهام والنون نون إن‏)‏‏.‏ ولعله يعني بالإمام مصحف البصرة أو الكوفة فتكون قراءة قرائهما رواية مخالفة لصورة الرسم‏.‏

وجملة ‏{‏أينكم لتأتون الرجال‏}‏ الخ بدل اشتمال من مضمون جملة ‏{‏لتأتون الفاحشة‏}‏، باعتبار ما عطف على جملة ‏{‏أئنكم لتأتون الرجال‏}‏ من قوله ‏{‏وتقطعون السبيل‏}‏ الخ لأن قطع السبيل وإتيان المنكر في ناديهم مما يشتمل عليه إتيان الفاحشة‏.‏

وأدخل استفهام الإنكار على جميع التفصيل وأعيد حرف التأكيد لتتطابق جملة البدل مع الجملة المبدل منها لأنها الجزء الأول من هذه الجملة المبدلة عند قطع النظر عما عطف عليها تكون من الجملة المبدل منها بمنزلة البدل المطابق‏.‏

وقطع السبيل‏:‏ قطع الطريق، أي التصدي للمارين فيه بأخذ أموالهم أو قتل أنفسهم أو إكراههم على الفاحشة‏.‏ وكان قوم لوط يقعدون بالطرق ليأخذوا من المارة من يختارونه‏.‏

فقطع السبيل فساد في ذاته وهو أفسد في هذا المقصد‏.‏ وأما إتيان المنكر في ناديهم فإنهم جعلوا ناديهم للحديث في ذكر هذه الفاحشة والاستعداد لها ومقدماتها كالتغازل برمي الحصى اقتراعاً بينهم على من يرومونه، والتظاهر بتزيين الفاحشة زيادة في فسادها وقبحها لأنه معين على نبذ التستر منها ومعين على شيوعها في الناس‏.‏

وفي قوله ‏{‏ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏}‏ تشديد في الإنكار عليهم في أنهم الذين سنوا هذه الفاحشة السيئة للناس وكانت لا تخطر لأحد ببال، وإن كثيراً من المفاسد تكون الناس في غفلة عن ارتكابها لعدم الاعتياد بها حتى إذا أقدم أحد على فعلها وشوهد ذلك منه تنبهت الأذهان إليها وتعلقت الشهوات بها‏.‏

والنادي‏:‏ المكان الذي ينتدي فيه الناس، أي يجتمعون نهاراً للمحادثة والمشاورة وهو مشتق من النَدْو بوزن العفو وهو الاجتماع نهاراً‏.‏ وأما مكان الاجتماع ليلاً فهو السامر، ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسم نادياً‏.‏

‏{‏نَادِيكُمُ المنكر فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ‏}‏ ‏{‏مِنَ الصادقين * قَالَ رَبِّ انصرنى عَلَى القوم المفسدين‏}‏‏.‏

الكلام فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفاً في قوله ‏{‏فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 24‏]‏ الآية، والأمر في ‏{‏ائتنا بعذاب الله‏}‏ للتعجيز وهو يقتضي أنه أنذرهم العذاب في أثناء دعوته‏.‏ ولم يتقدم ذكر ذلك في قصة لوط فيما مضى لكن الإنذار من شؤون دعوة الرسل‏.‏

وأراد بالنصر عقاب المكذبين ليريهم صدق ما أبلغهم من رسالة الله‏.‏

ووصفهم ب ‏{‏المفسدين‏}‏ لأنهم يفسدون أنفسهم بشناعات أعمالهم ويفسدون الناس بحملهم على الفواحش وتدريبهم بها، وفي هذا الوصف تمهيد للإجابة بالنصر لأن الله لا يحب المفسدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏لما‏}‏ أداة تدل على التوقيت، والأصل أنها ظرفٌ ملازم الإضافة إلى جملة‏.‏ ومدلولها وجود لوجود، أي وجود مضمون الجملة التي تضاف إليها عند وجود الجملة التي تتعلق بها فهي تستلزم جملتين‏:‏ أولاهما فعلية ماضوية وتضاف إليها ‏{‏لما‏}‏، والثانية فعلية أو اسمية مشتملة على ما يصلح لأن يتعلق به الظرف من فعل أو اسم مشتق، ويطلق على الجملة الثانية الواقعة بعد ‏{‏لما‏}‏ اسم الجزاء تسامحاً‏.‏

ولما كانت ‏{‏لما‏}‏ ظرفاً مبهماً تعين أن يكون مضمون الجملة التي تضاف إليها ‏{‏لما‏}‏ معلوماً للسامع، إذ التوقيت الإعلام بمقارنة زمن مجهول بزمن معلوم‏.‏ فوجود ‏{‏لما‏}‏ هنا يقتضي أن مجيء الملائكة بالبشرى أمر معلوم للسامع مع أنه لم يتقدم ذكر للبشرى، فتعين أن يكون التعريف في البشرى تعريف العهد لاقتضاء ‏{‏لما‏}‏ أن تكون معلومة، فالبشرى هي ما دل عليه قوله تعالى آنفاً ‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوءة والكتاب‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 27‏]‏ كما تقدم بيانه‏.‏

والبشرى‏:‏ اسم للبشارة وهي الإخبار بما فيه مسرة للمخبر بفتح الباء وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى ‏{‏إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏119‏)‏‏.‏

ومن لطف الله بإبراهيم أن قدّم له البشرى قبل إعلامه بإهلاك قوم لوط لعلمه تعالى بحلم إبراهيم‏.‏ والمعنى‏:‏ قالوا لإبراهيم إنا مهلكوا أهل هذه القرية الخ‏.‏

والقرية هي ‏(‏سدوم‏)‏ قرية قوم لوط‏.‏ وقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف‏.‏

وجملة ‏{‏إن أهلها كانوا ظالمين‏}‏ تعليل للإهلاك وقصد به استئناس إبراهيم لقبول هذا الخبر المحزن، وأيضاً لأن العدل يقتضي أن لا يكون العقاب إلا على ذنب يقتضيه‏.‏

والظلم‏:‏ ظلمهم أنفسهم بالكفر والفواحش، وظلمهم الناس بالغصب على الفواحش والتدرب بها‏.‏

وقوله ‏{‏إن فيها لوطاً‏}‏ خبر مستعمل في التذكير بسنة الله مع رسله من الإنجاء من العذاب الذي يحل بأقوامهم‏.‏ فهو من التعريض للملائكة بتخصيص لوط ممن شملتهم القرية في حكم الإهلاك، ولوط وإن لم يكن من أهل القرية بالأصالة إلا أن كونه بينهم يقتضي الخشية عليه من أن يشمله الإهلاك‏.‏ ولهذا قال ‏{‏إن فيها لوطاً‏}‏ بحرف الظرفية ولم يقل‏:‏ إن منها‏.‏

وجواب الملائكة إبراهيم بأنهم أعلم بمن فيها يريدون أنهم أعلم منه بأحوال من في القرية، فهو جواب عما اقتضاه تعريضه بالتذكير بإنجاء لوط، أي نحن أعلم منك باستحقاق لوط النجاة عند الله، واستحقاق غيره العذاب فإن الملائكة لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون وكان جوابهم مُطَمْئِناً إبراهيم‏.‏ فالمراد من علمهم بمن في القرية علمهم باختلاف أحوال أهلها المرتب عليها استحقاق العذاب، أو الكرامة بالنجاة‏.‏

وإنما كان الملائكة أعلم من إبراهيم بذلك لأن علمهم سابق على علمه ولأنه علم يقين مُلقى من وحي الله فيما سخر له أولئك الملائكة إذ كان إبراهيم لم يوح الله إليه بشيء في ذلك، ولأنه علم تفصيلي لا إجمالي، وعمومي لا خصوصي‏.‏

فلأجل هذا الأخير أجابوا ب ‏{‏نحن أعلم بمن فيها‏}‏‏.‏ ولم يقولوا‏:‏ نحن أعلم بلوط، وكونهم أعلم من إبراهيم في هذا الشأن لا يقتضي أنهم أعلم من إبراهيم في غيره فإن لإبراهيم علم النبوءة والشريعة وسياسة الأمة، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يشتغلون بغير ذلك إلا متى سخرهم الله لعمل‏.‏ وبالأولى لا يقتضي كونهم أعلم بهذا منه أن يكونوا أفضل من إبراهيم، فإن قول أهل الحق إن الرسل أفضل من الملائكة، والمزية لا تقتضي الأفضلية، ولكل فريق علم أطلعه الله عليه وخصه به كما خص الخضر بما لم يعلمه موسى، وخص موسى بما لا يعلمه الخضر، ولذلك عتب الله على موسى لما سئل‏:‏ هل يوجد أعلم منك‏؟‏ فقال‏:‏ لا، لأنه كان حق الجواب أن يفكر في أنواع العلم‏.‏

وجملة ‏{‏لَنُنْجِيَنَّهُ وأهله إلا امرأته‏}‏ بيان لجملة ‏{‏نحن أعلم بمن فيها‏}‏ فلذلك لم تعطف عليها وفُصِلت، فقد علموا بإذن الله أن لا ينجو إلا لوط وأهله، أي بنتاه لا غير ويهلك الباقون حتى امرأة لوط‏.‏

وفعل ‏{‏كانت‏}‏ مستعمل في معنى تكون، فعبر بصيغة الماضي تشبيهاً للفعل المحقق وقوعه بالفعل الذي مضى مثل قوله ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، ويجوز أن يكون مراداً به الكون في علم الله وتقديره، كما في آية النمل ‏(‏57‏)‏ ‏{‏قدَّرناها من الغابرين‏}‏ فتكون صيغة الماضي حقيقة‏.‏

وتقدم الكلام على نظير قوله ‏{‏إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏ في سورة النمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قد أشعر قوله ‏{‏إنا مهلكوا أهل هذه القرية‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏ أن الملائكة يحلون بالقرية واقتضى ذلك أن يخبروا لوطاً بحلولهم بالقرية، وأنهم مرسلون من عند الله استجابة لطلب لوط النصر على قومه، فكان هذا المجيء مقدراً حصوله، فمن ثم جعل شرطاً لحرف ‏{‏لما‏}‏ كما تقدم آنفاً في قوله ‏{‏ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد ‏{‏لما‏}‏ وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد ‏{‏لما‏}‏، فهي هنا لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم‏.‏ ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيهاً على أن الإساءة عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم فلم يكون لوط عالماً بأنهم ملائكة لأنهم جاءوا في صورة رجال فأريد هنا التنبيه على أن ما حدث به من المساءة وضيق الذرع كان قبل أن يعلم بأنهم ملائكة جاءوا لإهلاك أهل القرية وقبل أن يقولوا ‏{‏لا تخف ولا تحزن‏}‏‏.‏

ولم تقع ‏{‏أن‏}‏ المؤكدة في آية سورة هود لأن في تلك السورة تفصيلاً لسبب إساءته وضيق ذرعه فكان ذلك مغنياً عن التنبيه عليه في هذه الآية فكان التأكيد هنا ضرباً من الإطناب‏.‏ وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود وتفسيرها هناك‏.‏

وبناء فعل ‏{‏سيء‏}‏ للمجهول لأن المقصود حصول المفعول دون فاعله‏.‏

وعطف عليه جملة ‏{‏وقالوا لا تخف‏}‏ لأنها من جملة ما وقع عقب مجيء الرسل لوطاً‏.‏ وقد طويت جمل دل عليها قوله ‏{‏إنا مُنَجُّوك وأهلك‏}‏ وهي الجمل التي ذكرت معانيها في قوله ‏{‏وجاءه قومه يهرعون إليه‏}‏ إلى قوله ‏{‏قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يَصِلُوا إليك‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 78 81‏]‏‏.‏ وقدّموا تأمينه قبل إعلامه بأنهم منزلون العذاب على أهل القرية تعجيلاً بتطمينه‏.‏

وعطفُ ‏{‏ولا تحزن‏}‏ على ‏{‏لا تخف‏}‏ جمع بين تأمينه من ضرّ العذاب وبين إعلامه بأن الذين سيهلكون ليسوا أهلاً لأن يحزن عليهم، ومن أولئك امرأته لأنه لا يحزن على من ليس بمؤمن به‏.‏

وجملة ‏{‏إنا منجوك‏}‏ تعليل للنهي عن الأمرين‏.‏

واستثناء امرأته من عموم أهله استثناء من التعليل لا من النهي، ففي ذلك معذرة له بما عسى أن يحصل له من الحزن على هلاك امرأته مع أنه كان يحسبها مخلصة له، وقد بيّنا وجه ذلك في تفسير سورة هود‏.‏

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏مُنْجوك‏}‏ بسكون النون‏.‏ وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة وقعت بياناً لما في جملة ‏{‏لا تخَفْ ولا تحزن‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 33‏]‏ من الإيذان بأن ثمة حادثاً يخاف منه ويحزن له‏.‏

والرجز‏:‏ العذاب المؤلم‏.‏ ومعنى كونه من السماء أنه أنزل عليهم من الأفق وقد مضى بيانه في سورة هود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولوطاً إذ قال لقومه‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 28‏]‏ الخ عطف آية على آية لأن قصة لوط آية بما تضمنته من الخبر، وآثار قرية قومه آية أخرى بما يمكن مشاهدته لأهل البصر‏.‏ ويجوز أن تكون جملة معترضة في آخر القصة‏.‏ وعلى كلا الوجهين فهو من كلام الله‏.‏ ونون المتكلم المعظم ضمير الجلالة وليست ضمير الملائكة‏.‏ والآية‏:‏ العلامة الدالة على أمر‏.‏

ومفعول ‏{‏تركنا‏}‏ يجوز أن يكون ‏{‏آية‏}‏ فيجعل ‏(‏من‏)‏ حرف جر وهو مجرور وصفاً ل ‏{‏آية‏}‏ قدّم على موصوفه للاهتمام فيجعل حالاً من ‏{‏آية‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون ‏(‏من‏)‏ للابتداء، أي تركنا آية صادرة من آثارها ومعرفة خبرها، وهي آية واضحة دائمة على طول الزمان إلى الآن ولذلك وصفت ب ‏{‏بينة‏}‏، ولم توصف آية السفينة ب ‏{‏بينة‏}‏ في قوله ‏{‏وجعلناها ءاية للعالمين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 15‏]‏، لأن السفينة قد بليت ألواحها وحديدها أو بقي منها ما لا يظهر إلا بعد تفتيش إن كان‏.‏

ويجوز جعل ‏(‏من‏)‏ اسماً بمعنى بعض على رأي من رأى ذلك من المحققين، فتكون ‏(‏من‏)‏ مفعولاً مضافاً إلى ضمير ‏(‏قرية‏)‏‏.‏ وتقدم بيان ذلك عند قوله تعالى ‏{‏ومن الناس من يقول ءامنا بالله‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏8‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ولقد تركنا من القرية آثاراً دالة لقوم يستعملون عقولهم في الاستدلال بالآثار على أحوال أهلها‏.‏ وهذه العلامة هي بقايا قريتهم مغمورة بماء بحيرة لوط تلوح من تحت المياه شواهد القرية، وبقايا لون الكبريت والمعادن التي رجمت بها قريتهم وفي ذلك عدة أدلة باختلاف مدارك المستدلين‏.‏

ويتعلق قوله ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ بقوله ‏{‏تركنا‏}‏، أو يجعل ظرفاً مستقراً صفة ل ‏{‏آية‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏ولوطاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 28‏]‏ المعطوف على ‏{‏نوحاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏ المعمول ل ‏{‏أرسلنا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 14‏]‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً‏.‏

والمناسبة في الانتقال من قصة لوط وقومه إلى قصة مدين ورسولهم أن مدين كان من أبناء إبراهيم وأن الله أنجاه من العذاب كما أنجى لوطاً‏.‏

وتقديم المجرور في قوله ‏{‏إلى مدين‏}‏ ليتأتى الإيجاز في وصف شعيب بأنه أخوهم لأن هذا الوصف غير موجود في نوح وإبراهيم ولوط‏.‏ وتقدم معنى كونه أخاً لهم في سورة هود‏.‏

وقوله ‏{‏فقال‏}‏ عطف على الفعل المقدر، أي أرسلناه فعقب إرساله بأن قال‏.‏

والرجاء‏:‏ الترقب واعتقاد الوقوع في المستقبل‏.‏ وأمره إياهم بترقب اليوم الآخر دل على أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث وتقدم الكلام على نظير قوله ‏{‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ عند قوله تعالى ‏{‏كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏60‏)‏‏.‏ وتقدمت قصة شعيب في سورة هود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

الأخذ‏:‏ الإعدام والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع الإزالة‏.‏

و ‏{‏الرجفة‏}‏‏:‏ الزلزال الشديد الذي ترتجف منه الأرض، وفي سورة هود سُميت بالصيحة لأن لتلك الرجفة صوتاً شديداً كالصيحة‏.‏ وتقدم تفسير ذلك‏.‏

وقد أشير في قصة إبراهيم ولوط إلى ما له تعلق بالغرض المسوق فيه، وهو المصابرة على إبلاغ الرسالة، والصبر على أذى الكافرين، ونصر الله إياهما، وتعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

لما جرى ذكر أهل مدين وقوم لوط أكملت القصص بالإشارة إلى عاد وثمود إذ قد عرف في القرآن اقتران هذه الأمم في نسق القصص‏.‏ والواو عاطفة قصة على قصة‏.‏

وانتصاب ‏{‏عاداً‏}‏ يجوز أن يكون بفعل مقدَّر يدل عليه السياق، تقديره‏:‏ وأهلكنا عاداً، لأن قوله تعالى آنفاً ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 37‏]‏ يدل على معنى الإهلاك، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري‏.‏ ومعلوم أنه إهلاك خاص من بطش الله تعالى، فظهر تقدير‏:‏ وأهلكنا عاداً‏.‏

ويجوز أن يقدر فعل ‏(‏واذكر‏)‏ كما هو ظاهر ومقدر في كثير من قصص القرآن‏.‏

ويجوز أن يكون معطوفاً على ضمير ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 37‏]‏ والتقدير‏:‏ وأخذت عاداً وثمودا‏.‏ وعن الكسائي أنه منصوب بالعطف على ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ من قوله تعالى ‏{‏ولقد فتنا الذين من قبلهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهذا بعيد لطول بعد المعطوف عليه‏.‏ والأظهر أن نجعله منصوباً بفعل تقديره ‏(‏وأخذنا‏)‏ يفسره قوله ‏{‏فكلاًّ أخذنا بذنبه‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 40‏]‏ لأن ‏(‏كلاً‏)‏ اسم يعم المذكورين فلما جاء منتصباً ب ‏{‏أخذنا‏}‏ تعين أن ما قبله منصوب بمثله وتنوين العوض الذي لحق ‏(‏كلاً‏)‏ هو الرابط وأصل نسج الكلام‏:‏ وعاداً وثموداً وقارون وفرعون الخ‏.‏‏.‏‏.‏ كلهم أخذنا بذنبه‏.‏

وجملة ‏{‏وقد تبين لكم من مساكنهم‏}‏ في موضع الحال أو هي معترضة‏.‏ والمعنى‏:‏ تبين لكم من مشاهدة مساكنهم أنهم كانوا فيها فأهلكوا عن بكرة أبيهم‏.‏

ومساكن عاد وثمود معروفة عند العرب ومنقولة بينهم أخبارها وأحوالها ويمرون علهيا في أسفارهم إلى اليمن وإلى الشام‏.‏

والضمير المستتر في ‏{‏تبيّن‏}‏ عائد إلى المصدر المأخوذ من الفعل المقدر، أي يتبين لكم إهلاكهم أو أخذنا إياهم‏.‏

وجملة ‏{‏وزين لهم الشيطان أعمالهم‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وعاداً وثموداً‏}‏‏.‏

والتزيين‏:‏ التحسين‏.‏ والمراد‏:‏ زين لهم أعمالهم الشنيعة فأوهمهم بوسوسته أنها حسنة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏كذلك زينا لكل أمة عملهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏108‏)‏‏.‏

والصد‏:‏ المنع عن عمل‏.‏ و‏{‏السبيل‏}‏ هنا‏:‏ ما يوصل إلى المطلوب الحق وهو السعادة الدائمة، فإن الشيطان بتسويله لهم كفرهم قد حرمهم من السعادة الأخروية فكأنه منعهم من سلوك طريق يبلغهم إلى المقر النافع‏.‏

والاستبصار‏:‏ البصارة بالأمور، والسين والتاء للتأكيد مثل‏:‏ استجاب واستمسك واستبكر‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم كانوا أهل بصائر، أي عقول فلا عذر لهم في صدهم عن السبيل‏.‏ وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالاً ناشئاً عن فساد اعتقادهم وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم وأنهم لم ينجوا من عذاب الله لأنهم كانوا يستطيعون النظر في دلائل الوحدانية وصدق رسلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

كما ضرب الله المثل لقريش بالأمم التي كذبت رسلها فانتقم الله منها، كذلك ضرب المثل لصناديد قريش مثل أبي جهل، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وأبي لهب، بصناديد بعض الأمم السالفة كانوا سبب مصاب أنفسهم ومصاب قومهم الذين اتبعوهم، إنذاراً لقريش بما عسى أن يصيبهم من جراء تغرير قادتهم بهم وإلقائهم في خطر سوء العاقبة‏.‏ وهؤلاء الثلاثة جاءهم موسى بالبينات‏.‏ وتقدمت قصصهم وقصة قارون في سورة القصص‏.‏

فأما ما جاء به موسى من البينات لفرعون وهامان فهي المعجزات التي تحداهم بها على صدقه فأعرض فرعون عنها واتبعه هامان وقومه‏.‏ وأما ما جاء به موسى لقارون فنهيه عن البطر‏.‏

وأومأ قوله تعالى ‏{‏فاستكبروا في الأرض‏}‏ إلى أنهم كفروا عن عناد وكبرياء لا عن جهل وغلواء كما قال تعالى ‏{‏وأضله الله على علم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ فكان حالهم كحال صناديد قريش الذين لا يُظن أن فطنتهم لم تبلغ بهم إلى تحقق أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صدق وأن ما جاء به القرآن حقّ ولكن غلبت الأنفة‏.‏ وموقع جملة ‏{‏ولقد جاءهم موسى‏}‏ كموقع جملة ‏{‏وقد تبيّن لكم من مساكنهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والاستكبار‏:‏ شدة الكبر، فالسين والتاء للتأكيد كقوله ‏{‏وكانوا مستبصرين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 38‏]‏‏.‏

‏(‏وتعليق قوله ‏{‏في الأرض‏}‏ ب ‏{‏استكبروا‏}‏ للإشعار بأن استكبار كل منهم كان في جميع البلاد التي هو منها، فيومئ ذلك أن كل واحد من هؤلاء كان سيداً مطاعاً في الأرض‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الأرض‏}‏ للعهد، فيصح أن يكون المعهود هو أرض كل منهم، أو أن يكون المعهود الكرة الأرضية مبالغة في انتشار استكبار كل منهم في البلاد حتى كأنه يعم الدنيا كلها‏.‏

ومعنى السبق في قوله ‏{‏وما كانوا سابقين‏}‏ الانفلات من تصريف الحكم فيهم‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏ولا تحسبنّ الذين كفروا سبقوا‏}‏ في سورة ‏[‏الأنفال‏:‏ 59‏]‏، فالواو للحال، أي استكبروا في حال أنهم لم يفدهم استكبارهم‏.‏

وإقحام فعل الكون بعد النفي لأن المنفي هو ما حسبوه نتيجة استكبارهم، أي أنهم لا ينالهم أحد لعظمتهم‏.‏ ومثل هذا الحال مثل أبي جهل حين قتله ابنا عفراء يوم بدر فقال له عبد الله بن مسعود حين وجده محتضراً‏:‏ أنت أبو جهل‏؟‏ فقال‏:‏ وهل أعْمَدُ من رجل قتلتموه لو غيرُ أكَّارٍ قتلني ‏(‏أي زراع يعني رجلاً من الأنصار لأن الأنصار أهل حرث وزرع‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

أفادت الفاء التفريع على الكلام السابق لما اشتمل عليه من أن الشيطان زين لهم أعمالهم ومن استكبار الآخرين، أي فكان من عاقبة ذلك أن أخذهم الله بذنوبهم العظيمة الناشئة عن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وعن استكبارهم في الأرض، وليس المفرّع هو أخذ الله إياهم بذنوبهم لأن ذلك قد أشعر به ما قبل التفريع، ولكنه ذكر ليفضى بذكره إلى تفصيل أنواع أخذهم وهو قوله ‏{‏فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً‏}‏ إلى آخره، فالفاء في قوله ‏{‏فمنهم من أرسلنا عليه‏}‏ الخ لتفريع ذلك التفصيل على الإجمال الذي تقدمه فتحصل خصوصية الإجمال ثم التفصيل، وللدلالة على عظيم تصرف الله‏.‏

فأما الذين أرسل عليهم حاصب فهم عاد‏.‏ والحاصب‏:‏ الريح الشديدة، سميت حاصباً لأنها تقلع الحصباء من الأرض‏.‏ قال أبو وجرة السعدي‏:‏

صببتُ عليكم حاصبي فتركتكم *** كأصرام عادٍ حين جلّلها الرَّمْدُ

فجعل الحاصب مما أصاب عاداً‏.‏ وليس المراد بهم قوم لوط كالذي في قوله تعالى ‏{‏إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا ءال لوط‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 34‏]‏ لأن قوم لوط مر آنفاً الكلام على عذابهم مفصلاً فلا يدخلون في هذا الإجمال‏.‏

والذين أخذتهم الصيحة هم ثمود‏.‏ والذين خسفت بهم الأرض هو قارون وأهله‏.‏ وقد تقدم ذكر الخسف في سورة القصص ‏(‏81، 82‏.‏‏)‏ والذين أغرقهم‏:‏ فرعون وهامان ومن معهما من قومهما‏.‏ وقد جاء هذا على طريقة النشر على ترتيب اللف‏.‏

والأخذ‏:‏ الإتلاف والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع إزالة الشيء من مكانه فاستعير له فعل ‏{‏أخذنا‏}‏‏.‏ وقد نُفي عن الله تعالى ظلم هؤلاء لأن إيلامهم كان جزاء على أعمالهم وكل ما كان من نوع الجزاء يوصف بالعدل وقد نفى الله عن نفسه الوصف بالظلم فوجب الإيمان به سمعاً لا عقلاً في مقام الجزاء، وأما في مقام التكوين فلا‏.‏ وظلمهم أنفسهم هو تسببهم في عذاب أنفسهم فجرُّوا إليها العقاب لأن النفس أولى الأشياء برأفة صاحبها بها وتفكيره في أسباب خيرها‏.‏

والاستدراك ناشئ عن نفي الظلم عن الله في عقابهم لأنه يتوهم منه انتفاء موجب العقاب فالاستدراك لرفع هذا التوهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

لما بينت لهم الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركي قريش في اتخاذهم ما يحسبونه دافعاً عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه، بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتاً تحسب أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق‏.‏ والمقصود بهذا الكلام مشركو قريش، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة لحن الخطاب، والقرينة قوله بعده ‏{‏إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 42‏]‏ فضمير ‏{‏اتخذوا‏}‏ عائد إلى معلوم من سياق الكلام وهم مشركو قريش‏.‏

وجملة ‏{‏اتخذت بيتاً‏}‏ حال من ‏{‏العنكبوت‏}‏ وهي قيد في التشبيه‏.‏ وهذه الهيئة المشبه بها مع الهيئة المشبهة قابلة لتفريق التشبيه على أجزائها فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها وتزول بأقل تحريك، وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف وهو السكنى فيها وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم‏.‏ وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن كما سيأتي قريباً عند قوله ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس‏}‏ في هذه السورة‏.‏

‏(‏43‏)‏ و‏{‏العنكبوت‏}‏‏:‏ صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف، منها صنف يسمى ليث العناكب وهو الذي يفترس الذباب، وكلها تتخذ لأنفسها نسيجاً تنسجه من لُعابها يكون خيوطاً مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانباً أغلظ وأكثر اتصال خيوط تحتجب فيه وتفرّخ فيه‏.‏ وسمي بيتاً لشبهه بالخيمة في أنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر‏.‏

وجملة ‏{‏وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت‏}‏ معترضة مبينة وجه الشبه‏.‏ وهذه الجملة تجري مجرى المثل فيضرب لقلة جدوى شيء فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف‏.‏

وجملة ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ متصلة بجملة ‏{‏كمثل العنكبوت‏}‏ لا بجملة ‏{‏وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت‏}‏‏.‏ فتقدير جواب ‏{‏لو‏}‏ هكذا‏:‏ لو كانوا يعلمون أن ذلك مثَلُهم، أي ولكنهم لا يعلمون انعدام غناء ما اتخذوه عنهم‏.‏ وأما أوهنية بيت العنكبوت فلا يجهلها أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 41‏]‏ المفيد أنهم لا يعلمون، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضاً دفعاً بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر من حقائق الأشياء تعريضاً بقصور علمهم كقوله تعالى ‏{‏والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي عَلِمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ من قوله ‏{‏ما تدعون‏}‏ يجوز أن تكون نافية معلِّقة فعل ‏{‏يعلم‏}‏ عن العمل، وتكون ‏{‏من‏}‏ زائدة لتوكيد النفي، ومجرورها مفعول في المعنى ل ‏{‏تدعون‏}‏ ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجوداً ولكنكم تدعون أموراً عدمية، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية‏.‏ فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية‏.‏ ولا يتوهم السامع أن المراد نفيُ أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالى ‏{‏ليست النصارى على شيء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏113‏)‏، و‏{‏لستم على شيء‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏68‏)‏، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الكهان‏:‏ إنهم ليسوا بشيء، أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب‏.‏

وحاصل المعنى‏:‏ أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرَبَ لها مثلاً ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلاً بالعنكبوت الذي اتخذها، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ استفهامية معلِّقة فعل ‏{‏يعلم‏}‏ عن العمل من باب قولهم‏:‏ علمت هل زيد قائم، أي علمت جوابه‏.‏ و‏{‏من‏}‏ بيانية لما في ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية من الإبهام، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم‏.‏ ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل «ما تدعون من دون الله»، أي قد علم الله ذلك، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتاً، وللمعبودات مثلاً ببيت العنكبوت، وأنتم لو سئلتم‏:‏ ما تدعون من دون الله، لتلعثمتم ولم تحيروا جواباً؛ فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلاً حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه‏.‏

وجعل بعض المفسرين ‏{‏يعلم‏}‏ هنا متعدياً إلى مفعول واحد وأنه بمعنى ‏(‏يعرف‏)‏ وجعل ‏{‏ما‏}‏ موصولة مفعول ‏{‏يدعون‏}‏ والعائذ محذوفاً، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يؤول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل ‏(‏علم‏)‏ وفعل ‏(‏عرف‏)‏ عند من فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة، وأنها أضعف من العلم لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها‏.‏

وعن الخليل بن أحمد «العلم معرفتان مجتمعان، ففي قولك‏:‏ عرفت زيداً قائماً، يكون ‏(‏قائماً‏)‏ حالاً من ‏(‏زيداً‏)‏، وفي قولك‏:‏ علمت زيداً قائماً، يكون ‏(‏قائماً‏)‏ مفعولاً ثانياً ل ‏(‏علمت‏)‏ اه‏.‏ يريد أن فعل ‏(‏عرف‏)‏ يدل على إدراك واحد وهو إدراك الذات، وفعل ‏(‏علم‏)‏ يدل على إدراكين هما إدراك الذات وإدراك ثبوت حكم لها، على نحو ما قاله أهل المنطق في التصور والتصديق، فلذلك لم يرد في الكتاب والسنة إسناد فعل المعرفة إلى الله فكيف يسند إليه ما يؤوَّل بمعناها‏.‏

وجملة ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏إن الله يعلم‏}‏ لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني ‏{‏ما‏}‏ تدل على أن الذي بيَّن حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها مع وفرة أتباعها ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألْباً عليه؛ فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلم من ضرّها من يُحقرها كقوله تعالى ‏{‏قل لو كان معه ءالهة كما تقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏ كما تقدم، وأنه لما فضح عقول عُبادها لم يخشهم على أوليائه بَلْهَ ذاته، فهو عزيز لا يُغلب، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تدعون‏}‏ بالفوقية على طريقة الالتفات‏.‏ وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتحتية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

بعد أن بين الله لهم فساد معتقدهم في الأصنام، وأعقبه بتوقيفهم على جهلهم بذلك، نعى عليهم هنا أنهم ليسوا بأهل لتفهم تلك الدلائل التي قُربت إليهم بطريقة التمثيل، فاسم الإشارة يبيّنه الاسم المبدل منه وهو ‏{‏الأمثال‏}‏‏.‏

والإشارة إلى حاضر في الأذهان فإن كل من سمع القرآن حصل في ذهنه بعض تلك الأمثال‏.‏ واسم الإشارة للتنويه بالأمثال المضروبة في القرآن التي منها هذا المثل بالعنكبوت‏.‏

وجملة ‏{‏نضربها للناس‏}‏ خبر عن اسم الإشارة‏.‏ وهذه الجملة الخبرية مستعملة في الامتنان والطول لأن في ضرب الأمثال تقريباً لفهم الأمور الدقيقة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ «ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المُثل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والغائب كالمشاهد»‏.‏ وقد تقدم بيان مزية ضرب الأمثال عند قوله تعالى ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها‏}‏ في سورة البقرة

‏(‏26‏)‏‏.‏ ولهذا اتبعت هذه الجملة بجملة ‏{‏وما يعقلها إلا العالمون‏}‏‏.‏ والعقل هنا بمعنى الفهم، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كمُلت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام‏.‏ وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هُزءاً وسخرية، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى ‏{‏إن الذين تَدْعُون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏، وقوله ‏{‏كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 41‏]‏ قالوا‏:‏ ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض‏.‏ وهذا من بهتانهم، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالاً، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

بعد أن بيّن الله تعالى عدم انتفاع المشركين بالحجة ومقدماتها ونتائجها الموصلة إلى بطلان إلهية الأصنام مستوفاة مغنية لمن يريد التأمل والتدبر في صحة مقدماتها بإنصاف نُقل الكلام إلى مخاطبة المؤمنين لإفادة التنويه بشأن المؤمنين إذ انتفعوا بما هو أدق من ذلك وهو حالة النظر والفكر في دلالة الكائنات على أن خالقها هو الله، وأن لا شيء غيره حقيقاً بمشاركته في إلهيته، فأفاد أن المؤمنين قد اهتدوا إلى العلم ببطلان إلهية الأصنام خلافاً للمشركين الذين لم يهتدوا بذلك‏.‏ فأفهم ذلك أن من لم يعقلوها ليسوا بعالمين أخذاً من مفهوم الصفة في قوله ‏{‏للمؤمنين‏}‏ إذا اعتبر المعنى الوصفي من قوله ‏{‏للمؤمنين‏}‏، أو أخذاً من الاقتصار على ذكر المؤمنين في قوله ‏{‏إن في ذلك لآية للمؤمنين‏}‏ إذا اعتبر عنوان المؤمنين لقباً‏.‏

والاقتصار عند ذكر دليل الوحدانية على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة المفيد بأن المشركين لم ينتفعوا بذلك يشبه الاحتباك بين الآيتين‏.‏

والباء في ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة، أي خلقهما على أحوالهما كلها بما ليس بباطل‏.‏ والباطل في كل شيء لا وفاء فيه بما جُعل هو له‏.‏ وضد الباطل الحق، فالحق في كل عمل هو إتقانه وحصول المراد منه، قال تعالى ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والمراد بالسماوات والأرض ما يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما‏.‏ وهذا الخلق المتقن الذي لا تقصير فيه عما أريد منه هو آية على وحدانية الخالق وعلى صفات ذاته وأفعاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

بعد أن ضرب الله للناس المثل بالأمم السالفة جاء بالحجة المبيّنة فساد معتقد المشركين، ونوه بصحة عقائد المؤمنين بمنتهى البيان الذي ليس وراءه مطلب أقبل على رسوله بالخطاب الذي يزيد تثبيته على نشر الدعوة وملازمة الشرائع وإعلان كلمة الله بذلك، وما فيه زيادة صلاح المؤمنين الذين انتفعوا بدلائل الوحدانية‏.‏ وما الرسول عليه الصلاة والسلام إلا قدوة للمؤمنين وسيّدهم فأمره أمر لهم كما دل عليه التذييل بقوله ‏{‏والله يعلم ما تصنعونلآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ * اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ‏}‏ بصيغة جمع المخاطبين كقوله ‏{‏فاستقم كما أُمِرتَ ومن تاب معك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ قرآن إذ ما فرط فيه من شيء من الإرشاد‏.‏

وحذف متعلق فعل ‏{‏اتْلُ‏}‏ ليعم التلاوة على المسلمين وعلى المشركين‏.‏ وهذا كقوله تعالى ‏{‏إنما أُمرتُ أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها‏}‏ إلى قوله ‏{‏وأن أتلو القرءان فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91، 92‏]‏‏.‏

وأمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة عمل عظيم، وهذا الأمر يشمل الأمة فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة‏.‏

وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏، فموقع ‏{‏إن‏}‏ هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجّه إلى الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الفحشاء والمنكر فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سِرّ إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى؛ فأخبر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمقصود أنها تنهى المصلي‏.‏

وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تعيّن أن فعل ‏{‏تنهى‏}‏ مستعمل في معنى مجازي بعلاقة أو مشابهة‏.‏ والمقصود‏:‏ أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر‏.‏ وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر فإن المشاهد يخالفه إذ كم من مصلّ يقيم صلاته ويقترف بعض الفحشاء والمنكر‏.‏

كما أنه ليس يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبساً بأداء الصلاة لقلة جدوى هذا المعنى‏.‏ فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره‏.‏

وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تعين أن يكون المراد أن الصلاة تُحذر من الفحشاء والمنكر تحذيراً هو من خصائصها‏.‏

وللمفسرين طرائق في تعليل ذلك منها ما قاله بعضهم‏:‏ إن المراد به ما للصلاة من ثواب عند الله، فإن ذلك غرض آخر وليس منصباً إلى ترك الفحشاء والمنكر ولكنه من وسائل توفير الحسنات لعلها أن تغمر السيئات، فيتعين لتفسير هذه الآية تفسيراً مقبولاً أن نعتبر حكمها عاماً في كل صلاة فلا يختص بصلوات الأبرار، وبذلك تسقط عدة وجوه مما فسروا به الآية‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ «وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات صلحت بذلك نفسه وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر» اه‏.‏ وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام‏.‏

والوجه عندي في معنى الآية‏:‏ أن يُحمل فعل ‏{‏تنهى‏}‏ على المجاز الأقرب إلى الحقيقة وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكِّرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله‏.‏ وهذا كما يقال‏:‏ صديقك مرآة ترى فيها عيوبك‏.‏ ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجيه إليه بالدعاء والاستغفار وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه فذلك صدّ عن الفحشاء والمنكر‏.‏

وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه‏.‏ وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر‏.‏

وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتُجتنب نواهيه‏.‏

فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال ‏{‏تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ ولم يقل تَصُدّ وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر‏.‏

ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها‏.‏ ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر‏.‏

روى أحمد وابن حِبّان والبيهقي عن أبي هريرة قال‏:‏ «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال‏:‏ سينهاه ما تقول» أي صلاته بالليل‏.‏

واعلم أن التعريف في قوله ‏{‏الفحشاء والمنكر‏}‏ تعريف الجنس فكلما تذكر المصلي عند صلاته عظمة ربه ووجوب طاعته وذكر ما قد يفعله من الفحشاء والمنكر كانت صلاته حينئذ قد نهته عن بعض أفراد الفحشاء والمنكر‏.‏

و ‏{‏الفحشاء‏}‏‏:‏ اسم للفاحشة، والفُحش‏:‏ تجاوز الحد المقبول‏.‏ فالمراد من الفاحشة‏:‏ الفعلة المتجاوزة ما يُقبل بين الناس‏.‏ وتقدم في قوله تعالى ‏{‏إنما يأمركم بالسوء والفحشاء‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 169‏]‏‏.‏ والمقصود هنا من الفاحشة‏:‏ تجاوز الحد المأذون فيه شرعاً من القول والفعل، وبالمنكر‏:‏ ما ينكره الشرع ولا يرضى بوقوعه‏.‏

وكأنّ الجمع بين الفاحشة والمنكر منظور فيه إلى اختلاف جهة ذمه والنهي عنه‏.‏

وقوله ‏{‏وَلَذِكْرُ الله أكبر‏}‏ يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ فيكون عطف علة على علة، ويكون المراد بذكر الله هو الصلاة كما في قوله تعالى ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ أي صلاة الجمعة‏.‏ ويكون العدول عن لفظ الصلاة الذي هو كالاسم لها إلى التعبير عنها بطريق الإضافة للإيماء إلى تعليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أي إنما كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر لأنها ذكر الله وذكر الله أمرٌ كبير، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة مقصود به قوة الوصف كما في قولنا‏:‏ الله أكبر، لا تريد أنه أكبر من كبير آخر‏.‏

ويجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ واذكر الله فإن ذكر الله أمر عظيم، فيصح أن يكون المراد من الذكر تذكُّر عظمة الله تعالى‏.‏ ويجوز أن يكون المراد ذكر الله باللسان ليعمّ ذكر الله في الصلاة وغيرها‏.‏ واسم التفضيل أيضاً مسلوب المفاضلة ويكون في معنى قول معاذ بن جبل «ما عَمِل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله»‏.‏

ويجوز أن يكون المراد بالذكر تذكر ما أمر الله به ونهى عنه، أي مراقبة الله تعالى وحذر غضبه، فالتفضيل على بابه، أي ولذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة في ذلك النهي، وذلك لإمكان تكرار هذا الذكر أكثر من تكرر الصلاة فيكون قريباً من قول عمر رضي الله عنه‏:‏ أفضل من شكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه‏.‏

ولك أن تقول‏:‏ ذكر الله هو الإيمان بوجوده وبأنه واحد‏.‏ فلما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أمر المؤمنين بعملين عظيمين من البر أردفه بأن الإيمان بالله هو أعظم من ذلك إذ هو الأصل كقوله تعالى ‏{‏فكُّ رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين ءامنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13 17‏]‏‏.‏ وذلك من ردّ العجز على الصدر عاد به إلى تعظيم أمر التوحيد وتفظيع الشرك من قوله ‏{‏إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 42‏]‏ إلى هنا‏.‏

وقوله ‏{‏والله يعلم ما تصنعون‏}‏ تذييل لما قبله، وهو وعد ووعيد باعتبار ما اشتمل عليه قوله ‏{‏اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة‏}‏ وقوله ‏{‏تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏‏.‏

والصنع‏:‏ العمل‏.‏