فصل: الجزء الحادي والعشرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الحادي والعشرون

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏اتل ما أوحي إليك من الكتاب‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ الآية، باعتبار ما تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعْقِلُها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏ كما تقدم آنفاً‏.‏ وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن مجادلة أهل الكتاب لا تَعرِض للنبيء صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين في مكة، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخِر هذه السورة على وشْك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلةً للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت، وقوله ‏{‏وما يعقِلُها إلى العالمون‏}‏ هَيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب‏.‏ فهذه الآية معترضة بين محاجّة المشركين والعود إليها في قوله تعالى ‏{‏وكذلك أنزلنا إليك الكتاب‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 47‏]‏ الآيات‏.‏

وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعمّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبل قدومه المدينة‏.‏

والمجادلة‏:‏ مفاعلة من الجَدل، وهو إقامة الدليل على رأي اختلَف فيه صاحبه مع غيره، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يَخْتانون أنفسهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏107‏)‏‏.‏ وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها‏.‏ والمجادلة تعرض في أوقات السلم وأوقات القتال‏.‏

وأهل الكتاب‏}‏‏:‏ اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن‏.‏ والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولَها‏.‏ ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران‏.‏

و ‏{‏بالتي هي أحسن‏}‏ مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى، تقديره‏:‏ لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن‏.‏ و‏{‏أحسن‏}‏ اسم تفضيل يجوز أن يكون على بابه فيقدر المفضّل عليه مما دلت عليه القرينة، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة‏.‏ ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن، أي إلا بالمجادلة الحُسنى كقوله تعالى ‏{‏وجادِلْهم بالتي هي أحسن‏}‏ في آخر سورة النحل ‏(‏125‏)‏‏.‏ فالله جعل الخيار للنبيء في مجادلة المشركين بين أن يُجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله‏:‏ ‏{‏يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏، فإن الإغلاظ شامل لجميع المعاملات ومنها المجادلات ولا يختص بخصوص الجهاد فإن الجهاد كله إغلاظ فلا يكون عطف الإغلاظ على الجهاد إلاّ إغلاظاً غير الجهاد‏.‏

ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهّلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ حذراً من تنفيرهم، بخلاف المشركين فقد ظهر من تصلبهم وصَلفهم وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية وعيَّن أن يعاملوا بالغلظة وأن يبالغ في تهجين دينهم وتفظيع طريقتهم لأن ذلك أقرب نجوعاً لهم‏.‏

وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين، فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين ظلموا منهم‏}‏‏.‏ و‏{‏الذين ظلموا منهم‏}‏ هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حسداً وبغضاً على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم، وجعلوا يكيدون للنبيء صلى الله عليه وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء‏.‏

وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون‏:‏ إن محمداً رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ أشهد أنك رسول الأميين ‏"‏ فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سَلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام‏.‏

وعطف ‏{‏وقولوا ءامنا‏}‏ إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة ‏{‏بالتي هي أحسن‏}‏‏.‏ وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتجّ على ما عدا ذلك، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيّز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عمّا يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بَعْده‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما كان مِنَ المُشْركين‏}‏ آل عمران‏:‏ ‏(‏65 67‏)‏‏.‏ ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيّز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما شملته المجادلة لكان ذلك مقتضياً فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال‏.‏

ومعنى ‏{‏بالذي أُنْزِلَ إلَيْنا‏}‏ القرآن‏.‏ والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتاباً على غير أنبيائهم، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏وأنزل إليكم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنزل إليكم‏}‏ عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله‏.‏ والتقدير‏:‏ والذي أنزل إليكم، أي الكتاب وهو «التوراة» بقرينة قوله ‏{‏إليكم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى‏:‏

‏{‏قُلْ يأهل الكِتَاب هل تَنْقِمون مِنَّا إلاّ أنْ ءامنّا بالله وما أُنْزِل إليْنَا ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 59‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وإلهَنا وإلهكُم واحِد‏}‏ تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد‏.‏ فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون‏}‏ مراد به كلاَ الفريقين، فريق المتكلمين وفريق المخاطبين‏.‏ فيشمل المسلمين وأهلَ الكتاب فيكون المراد بوصف ‏{‏مسلمون‏}‏ أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله، أي عدم الإشراك به، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره‏.‏ وتقديم المجرور على عامله في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُ مُسْلِمُون‏}‏ لإفادة الاختصاص تعريضاً بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن القرآن منزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم

فالمعنى‏:‏ ومثلَ ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك الكتاب، فهو بديع في فصاحته، وشرف معانيه، وعذوبة تراكيبه، وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء، وفي تنجيمه، وغير ذلك‏.‏ وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسَطاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبارُ بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزَّلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم‏.‏ وإنما قال‏:‏ فالذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ دون أن يقول‏:‏ فأهل الكتاب، لأن في ‏{‏آتيناهم الكتاب‏}‏ تذكيراً لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به، أي إيمان من آمن منهم مستمرّ يزداد عدد المؤمنين يوماً فيوماً‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم‏.‏ وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر ‏{‏هؤلاء‏}‏ بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه، وهذا قد ألهمني الله إليه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به، أي بأن القرآن منزل من الله، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك عناداً وكِبراً مثل الوليد بن المغيرة‏.‏

وقد أشار قوله تعالى‏:‏ وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون‏}‏ إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحوداً منهم لأجل تصلبهم في الكفر‏.‏ فالتعريف في ‏{‏الكافرون‏}‏ للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرّف، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه، ليظهر وجه الاختلاف بين ‏{‏ما يجحد‏}‏ وبين ‏{‏الكافرون‏}‏ إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام‏:‏ وما يجحد إلا الجاحدون‏.‏

وعبر عن ‏{‏الكتاب‏}‏ ب ‏(‏الآيات‏)‏ لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحدّيه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله‏.‏ وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين لأن جحودهم واقع، وفيه تهيئة لتوجهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتُها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع كقوله‏:‏ ‏{‏ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فقد لبثتُ فيكم عُمراً من قَبْلِه أفلا تَعْقِلون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ما كنت تتلو من قبله من كتاب‏}‏ أنك لم تكن تقرأ كتاباً حتى يقول أحد‏:‏ هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل‏.‏

و ‏{‏لا تَخُطُّهُ‏}‏ أي لا تكتب كتاباً ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما التعلم بالقراءة والتعلّم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية فإن الذي يحفظ كتاباً ولا يعرف يكتب لا يُعدّ أمياً كالعلماء العمي، والذي يستطيع أن يكتب ما يُلقى إليه ولا يحفظ علماً لا يُعدّ أمياً مثل النُسَّاخ فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية‏.‏

و ‏{‏إذن‏}‏ جواب وجزاء لشرط مقدّر ب ‏(‏لو‏)‏ لأنه مفروض دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما كنت تتلو‏}‏ ‏{‏ولا تُخطه‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ لو كنت تتلو قبله كتاباً أو تخطه لارتاب المبطلون‏.‏ ومجيء جواب ‏{‏إذن‏}‏ مقترناً باللام التي يغلب اقتران جواب ‏(‏لو‏)‏ بها دليل على أن المقدر شرط ب ‏(‏لو‏)‏ كما في قول قُريظ العنبري‏:‏

لو كُنتُ من مازن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا

إذَنْ لقام بنصري معشر خشن *** عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قال المرزوقي في «شرح الحماسة»‏:‏ ‏(‏إذن‏)‏ هو أنه أخرج البيت الثاني مُخرج جواب قائل قال له‏:‏ ولو استباحوا إبلك ماذا كان يفعل بنو مازن‏؟‏ فقال‏:‏

إذن لقام بنصري معشر خشن *** ويجوز أن يكون أيضاً‏:‏ إذن لقام، جواب ‏(‏لو‏)‏ كأنه أجيب بجوابين‏.‏ وهذا كما تقول‏:‏ لو كنتَ حراً لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار اه‏.‏ يعني يجوز أن تكون جملة‏:‏ إذن لقام، بدَلاً من جملة‏:‏ لم تستبح‏.‏ وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لَذَهَب كل إله بما خلق‏}‏ في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 91‏]‏‏.‏ والارتياب‏:‏ حصول الريب في النفس وهو الشك‏.‏

ووجه التلازم بين التلاوة والكتابة المتقدمين على نزول القرآن، وبين حصول الشك في نفوس المشركين أنه لو كان ذلك واقعاً لاحتمل عندهم أن يكون القرآن من جنس ما كان يتلوه من قبلُ من كتب سالفة وأن يكون مما خطَّه من قبل من كلام تلّقاه فقام اليوم بنشره ويدعو به‏.‏ وإنما جعل ذلك موجب ريب دون أن يكون موجب جَزم بالتكذيب لأن نظم القرآن وبلاغته وما احتوى عليه من المعاني يبطل أن يكون من نوع ما سبق من الكتب والقصص والخطب والشعر، ولكن ذلك لما كان مستدعياً تأملاً لم يمنع من خطور خاطر الارتياب على الإجمال قبل إتمام النظر والتأمل بحيث يكون دوام الارتياب بهتاناً ومكابرة‏.‏

وتقييد تخطه بقيد ‏{‏بيمينك‏}‏ للتأكيد لأن الخط لا يكون إلاّ باليمين فهو كقوله‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

ووصف المكذبين بالمبطلين منظور فيه لحالهم في الواقع لأنهم كذبوا مع انتفاء شبهة الكذب فكان تكذيبهم الآن باطلاً، فهم مبطلون متوغلون في الباطل، فالقول في وصفهم بالمبطلين كالقول في وصفهم بالكافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏بل‏}‏ إبطال لما اقتضاه الفرض من قوله‏:‏ ‏{‏إذن لارتاب المبطلون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏، أي بل القرآن لا ريب يتطرقه في أنه من عند الله، فهو كله آيات دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من عند الله لما اشتمل عليه من الإعجاز في لفظه ومعناه ولما أيَّد ذلك الإعجازَ من كون الآتي به أميّاً لم يكن يتلو من قبله كتاباً ولا يخطّ، أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم

فالمراد من‏:‏ ‏{‏صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ صدر للنبيء صلى الله عليه وسلم عبّر عنه بالجمع تعظيماً له‏.‏

و ‏{‏العلم‏}‏ الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوءة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داوود وسليمان علماً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ومعنى الآية أن كونه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم هو شأن كل ما ينزل من القرآن حين نزوله، فإذا أنزل فإنه يجوز أن يخطُّه الكاتبون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كُتَّاباً للوحي فكانوا ربما كتبوا الآية في حين نزولها كما دل عليه حديث زيد بن ثابت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ وكذلك يكون بعد نزوله متلوّاً، فالمنفي هو أن يكون متلواً قبل نزوله‏.‏ هذا الذي يقتضيه سياق الإضراب عن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتلو كتاباً قبل هذا القرآن بحيث يظن أن ما جاء به من القرآن مما كان يتلوه من قبل فلما انتفى ذلك ناسب أن يكشف عن حال تلقي القرآن، فذلك هو موقع قوله‏:‏ ‏{‏في صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ كما قال‏:‏ ‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كذلك لنُثَبِّت به فؤادك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وأما الإخبار بأنه آيات بيّنات فذلك تمهيد للغرض وإكمال لمقتضاه، ولهذا فالوجه أن يكون الجار والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏في صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ خبراً ثانياً عن الضمير‏.‏ ويلتئم التقدير هكذا‏:‏ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك بل هو ألقي في صدرك وهو آيات بيّنات‏.‏ ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحفّاظ المسلمين، وهذا يقتضي أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏في صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ تتميماً للثناء على القرآن وأن الغرض هو الإخبار عن القرآن بأنه آيات بيّنات فيكون المجرور صفة ل ‏{‏ءايات‏}‏ والإبطال مقتصر على قوله‏:‏ ‏{‏بل هو آيات بيّنات‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون‏}‏ تذييل يؤذن بأن المشركين جحدوا آيات القرآن على ما هي عليه من وضوح الدلالة على أنها من عند الله لأنهم ظالمون لا إنصاف لهم وشأن الظالمين جحد الحق، يحملهم على جحده هوى نفوسهم للظلم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلماً وعُلُوّاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏ فهم متوغلون في الظلم كما تقدم في وصفهم بالكافرين والمبطلين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم، وذلك طلبهم أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآيات مرئية خارقة للعادة تدل على أن الله خلقها تصديقاً للرسول كما خلق ناقة صالح وعصا موسى، وهذا من جلافتهم أن لا يتأثروا إلا للأمور المشاهدة وهم يحسبون أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينتصب للمعاندة معهم فهم يقترحون عليه ما يرغبونه ليجعلوا ما يسألونه من الخوارق حديث النوادي حتى يكون محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم كمحضر المشعوذين وأصحاب الخنقطرات‏.‏ وقد قدمتُ بيان هذا الوهم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل عليه آيات من ربّه‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏‏.‏

ومعنى عند الله‏}‏ أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه‏.‏

وأفادت ‏{‏إنما‏}‏ قصر النبي عليه الصلاة والسلام على صفة النذارة، أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربّه، فهو قصر إفراد ردّاً على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه لا يُسَلَّم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم‏.‏ وخُصّ بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضاً بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر‏.‏

والمبين‏:‏ الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به‏.‏

وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب‏:‏ ‏{‏ءايات‏}‏‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف‏:‏ ‏{‏ءاية‏}‏‏.‏ والجمع والإفراد في هذا سواء لأن القصد إلى الجنس، فالآية الواحدة كافية في التصديق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏قل إنما الآيات عند الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 50‏]‏ وهو ارتقاء في المجادلة‏.‏

والاستفهام تعجيبي إنكاري‏.‏ والمعنى‏:‏ وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية‏.‏ ومقدار كل ثلاث آيات مقدار مُعجز، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ القرآن، وعُدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يتلى عليهم‏}‏ مستأنفة أو حال، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع‏.‏ واختير المضارع دون الوصف بأن يقال‏:‏ متلواً عليهم، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار، فحصل من مادة ‏{‏يُتْلَى‏}‏ ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة‏.‏ وقد أشار قوله‏:‏ ‏{‏يُتْلى عليهم‏}‏ وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات‏.‏

المزية الأولى‏:‏ ما أشار إليه قوله ‏{‏يُتْلى عليهم‏}‏ من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدْراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة، فهو يتلى، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدّت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قَبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة‏.‏

المزية الثانية‏:‏ كونه مما يُتلى، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالاً مرئية لأن إدراك المتلوّ إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزةُ القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية‏.‏

المزية الثالثة‏:‏ ما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لرحمة‏}‏ فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب ‏{‏يتلى عليهم‏}‏، فالإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ‏{‏الكتاب‏}‏ ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم‏.‏ وتنكير ‏(‏رحمة‏)‏ للتعظيم، أي لا يقادَر قدرها‏.‏ فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم، فالقرآن مع كونه معجزة دالّةً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضاً وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضَل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها‏.‏

المزية الرابعة‏:‏ ما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏وذكرى‏}‏ فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال، وإعدادٍ إلى الحياة الثانية، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خيرُ الدارين، وبذلك فضَل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقاً‏.‏

المزية الخامسة‏:‏ أن كون القرآن كتاباً متلواً مستطاعاً إدراك خصائصه لكل عربي، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أيمة العربية، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى‏:‏ ‏{‏يأيها الساحر‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 49‏]‏ وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر‏:‏ ‏{‏وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 2‏]‏، فأشار قوله‏:‏ ‏{‏يعرضوا‏}‏ إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية‏.‏

وعُلق بالرحمة والذكرى قوله‏:‏ ‏{‏لِقَوم يؤمنون‏}‏ للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها‏.‏

واستحضار المؤمنين بعنوان‏:‏ ‏(‏قوم يؤمنون‏)‏ دون أن يقال‏:‏ للمؤمنين، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلماً وعلوّاً، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال‏.‏ وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والارض‏}‏

بعد أن ألقمهم حَجر الحجّة الدامغة أمر بأن يجعل الله حكَماً بينه وبينهم لما استمر تكذيبهم بعد الدلائل القاطعة‏.‏ وهذا من الكلام المنصف المقصود منه استدراج المخاطب‏.‏

و ‏{‏كفى بالله‏}‏ بمعنى هو كاف لي في إظهار الحق، والباء مزيدة للتوكيد وقد تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏

‏(‏والشهيد‏:‏ الشاهد، ولما ضُمن معنى الحاكم عدّي بظرف بيني وبينكم‏}‏‏.‏ قال الحارث بن حلزة في عمرو بن هند الملك‏:‏

وهو الرّب والشهيد على يو *** م الحِيَاريْن والبلاء بلاء

وجملة‏:‏ ‏{‏يعلم ما في السماوات والأرض‏}‏ مقررة لمعنى الاكتفاء به شهيداً فهي تتنزل منها منزلة التوكيد‏.‏

‏{‏السماوات والارض والذين ءامَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولئك‏}‏

بعد أن أنصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏كفى بالله بيني وبينكم شهيداً‏}‏ استمر في الانتصاف بما لا يستطيعون إنكاره وهو أن الذين اعتقدوا الباطل وكفروا بالله هم الخاسرون في الحكومة والقضية الموكولة إلى الله تعالى؛ فهم إن تأملوا في إيمانهم بالله حقَّ التأمّل وجدوا أنفسهم غير مؤمنين بإلهيته لأنهم أشركوا معه ما ليس حقيقاً بالإلهية فعلموا أنهم كفروا بالله فتعين أنهم آمنوا بالباطل فالكلام موجه كقوله‏:‏ ‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏، وقول حسان في أبي سفيان بن حرب أيام جاهليته‏:‏

أتهجوهُ ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء

وفي الجمع بين ‏{‏ءامنوا‏}‏ و‏{‏كَفروا‏}‏ محسّن المضادة وهو الطِّبَاق‏.‏

والباطل‏:‏ ضد الحق، أي ما ليس بحقيق أن يؤمن به، أي ما ليس بإله حق ولكنهم يدَّعون له الإلهية وذلك إيمانهم بإلهية الأصنام‏.‏ وأما كفرهم بالله فلأنهم أشركوا معه في الإلهية فكفروا بأعظم صفاته وهي الوحدانية‏.‏ واسم الإشارة يفيد التنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف التي ذكرت لهم قبل اسم الإشارة مثل‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والقصر المستفاد من تعريف جزأي جملة ‏{‏هم الخاسرون‏}‏ قصر ادعائيّ للمبالغة في اتصافهم بالخسران العظيم بحيث إن كل خسران في جانب خسرانهم كالعدم؛ فكأنهم انفردوا بالخسران فأطلق عليهم المركب المفيد قصر الخسران عليهم وذلك لأنهم حقت عليهم الشقاوة العظمى الأبدية‏.‏ واستعير الخسران لانعكاس المأمول من العمل المُكِدّ تشبيهاً بحال من كد في التجارة لينال مالاً فأفنى رأس ماله، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربِحَتْ تِجارتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏53‏)‏ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏54‏)‏ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربّه‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 50‏]‏ استقصاء في الرد على شبهاتهم وإبطالاً لتَعِلاَّت إعراضهم الناشئ عن المكابرة، وهم يخيلون أنهم إنما أعرضوا لعدم اقتناعهم بآية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم

ومناسبة وقوعه هذا أنه لما ذكر كفرهم بالله وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينذرهم على ذلك بالعذاب وكانوا يستعجلونه به ذكر توركهم عليه عقب ذكر الكفر‏.‏ واستعجال العذاب‏:‏ طلب تعجيله وهو العذاب الذي تُوعدوا به‏.‏ وقصدهم من ذلك الاستخفاف بالوعيد‏.‏ وتقدم الكلام على تركيب‏:‏ ‏{‏يستعجلونك بالعذاب‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير في سورة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة في سورة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏‏.‏ والتعريف في ‏(‏العذاب‏)‏ تعريف الجنس‏.‏ وحُكي استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجيب منها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏‏.‏

وقد أبطل ما قصدوه بقوله‏:‏ ‏{‏ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب‏}‏ وذلك أن حلول العذاب ليس بيد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا جارياً على طلبهم واستبطائهم فإن الله هو المقدر لوقت حلوله بهم في أجل قدره بعلمه‏.‏

والمسمَّى أريد به المعيّن المحدود أي في علم الله تعالى‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى‏}‏ في سورة ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ لولا الأجل المعين لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلاً لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ولكن أراد الله تأخيره لحِكَم عَلِمَها، منها إمهالهم ليؤمن منهم من آمن بعد الوعيد، وليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم العذاب لأنه حكيم لا يخالف ما قدره بحكمته، حليم يمهل عباده‏.‏ فالمعنى‏:‏ لولا أجل مسمى لجاءهم العذاب في وقت طلبهم تعجيله، ثم أنذرهم بأنه آتيهم بغتة وأن إتيانه محقق لما دل عليه لام القسم ونون التوكيد وذلك عند حلول الأجل المقدّر له‏.‏ وقد حل بهم عذاب يوم بدر بغتة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تَوَاعَدْتم لاختلفتم في الميعاد‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏ فاستأصل صناديدهم يومئذ وسُقط في أيديهم‏.‏

وإذ قد كان الله أعد لهم عذاباً أعظم من عذاب يوم بدر وهو عذاب جهنم الذي يعم جميعهم أعقب إنذارهم بعذاب يوم بدر بإنذارهم بالعذاب الأعظم‏.‏ وأعيد لأجله ذكر استعجالهم بالعذاب معترضاً بين المتعاطفين إيماء إلى أن ذلك جواب استعجالهم فإنهم استعجلوا العذاب فأُنذروا بعذابين، أحدهما أعجل من الآخر‏.‏ وفي إعادة‏:‏ ‏{‏يستعجلونك بالعذاب‏}‏ تهديد وإنذار بأخذهم، فجملة‏:‏ ‏{‏وإن جهنم‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وليأتينهم بغتة‏}‏ فهما عذابان كما هو مقتضى ظاهر العطف‏.‏

والإحاطة كناية عن عدم إفلاتهم منها‏.‏

والمراد ‏{‏بالكافرين‏}‏ المستعجلون، واستُحضروا بوصف الكافرين للدلالة على أنه موجب إحاطة العذاب بهم‏.‏ واستعمل اسم الفاعل في الإحاطة المستقبلة مع أن شأن اسم الفاعل أن يفيد الاتصاف في زمن الحال، تنزيلاً للمستقبل منزلة زمان الحال تنبيهاً على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في إخباره‏.‏

ويتعلق‏:‏ ‏{‏يوم يغشاهم العذاب‏}‏ ب ‏(‏محيطة‏)‏، أي تحيط بهم يوم يغشاهم العذاب‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ تصوير للإحاطة‏.‏ والغشيان‏:‏ التغطية والحجب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من فوقهم‏}‏ بيان للغشيان لتصويره تفظيعاً لحاله كقوله‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وتأكيداً لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز، فهو في موضع الحال من ‏{‏العذاب‏}‏ وهي حال مؤكدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومِن تحت أرجلهم‏}‏ احتراس عما قد يُوهمه الغشيان من الفوقية خاصة، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها، ولما كان معطوفاً على الحال بالواو وكان غير صالح لأن يكون قيداً ل ‏{‏يغشاهم‏}‏ لأن الغشيان هو التغطية فتقتضي العلو تعين تقدير فعل يتعلق به ‏{‏من تحت أرجلهم‏}‏، وهو أن يقدر عامل محذوف‏.‏ وقد عدّ هذا العمل من خصائص الواو في العطف أن تعطف عاملاً محذوفاً دل عليه معموله كقول عبد الله بن الزبعرى‏:‏

يَا ليتَ زَوجككِ قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحا

يريد‏:‏ ومُمسكاً رمحاً لأن الرمح لا يتقلد يصلح أن يكون مفعولاً معه وأبو عبيدة والأصمعي والجرمي واليزيدي، ومن وافقهم يجعلون هذا من قبيل تضمين الفعل معنى فعل صالح للتعلق بالمذكور فيقدر في هذه الآية تضمين فعل ‏{‏يغشاهم‏}‏ معنى ‏(‏يصيبهم‏)‏ و‏(‏يأخذهم‏)‏‏.‏ والمقصود من هذا الكناية عن أن العذاب محيط بهم، فلذلك لم يذكر الجانبان الأيمن والأيسر لأن الغرض من الكناية قد حصل‏.‏ والمقام مقام إيجاز لأنه مقام غضب وتهديد بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لآتِيَنَّهم من بين أيديهم ومن خلفِهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ لأنه حكاية لإلحاح الشيطان في الوسوسة‏.‏

وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏ويقول‏}‏ بالياء التحتية والضمير عائد إلى معلوم من المقام‏.‏ فالتقدير‏:‏ ويقول الله‏.‏ وعدل عن ضمير التكلم على خلاف مقتضى الظاهر على طريقة الالتفات على رأي كثير من أيمة البلاغة، أو يقدر‏:‏ ويقول الملك الموكل بجهنم، أو التقدير‏:‏ ويقول العذاب، بأن يجعل الله للنار أصواتاً كأنها قول القائل‏:‏ ‏{‏ذوقوا‏}‏‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالنون وهي نون العظمة‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ما كنتم تعملون‏}‏ جزاؤه لأن الجزاء لما كان بقدر المجزي أطلق عليه اسمه مجازاً مرسلاً أو مجازاً بالحذف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي وقع اعتراضاً بين الجملتين المتعاطفتين‏:‏ جملة‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏، وجملة‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهم من الجنة غُرفاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 58‏]‏ الآية‏.‏ وهذا أمر بالهجرة من دار الكفر‏.‏ ومناسبته لما قبله أن الله لما ذكر عناد المشركين في تصديق القرآن وذكر إيمان أهل الكتاب به آذن المؤمنين من أهل مكة أن يخرجوا من دار المكذبين إلى دار الذين يصدقون بالقرآن وهم أهل المدينة فإنهم يومئذ ما بين مسلمين وبين يهود فيكون المؤمنون في جوارهم آمنين من الفتن يعبدون ربهم غير مفتونين‏.‏ وقد كان فريق من أهل مكة مستضعفين قد آمنوا بقلوبهم ولم يستطيعوا إظهار إيمانهم خوفاً من المشركين مثل الحارث بن ربيعة بن الأسود كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول ءامنا بالله‏}‏ في أول هذه السورة ‏[‏العنكبوت‏:‏ 10‏]‏، وكان لهم العذر حين كانوا لا يجدون ملجأ سالماً من أهل الشرك، وكان فريق من المسلمين استطاعوا الهجرة إلى الحبشة من قبل، فلما أسلم أهل المدينة زال عذر المؤمنين المستضعفين إذ أصبح في استطاعتهم أن يهاجروا إلى المدينة فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إن أرضي واسعة‏}‏ كلام مستعمل مجازاً مركباً في التذكير بأن في الأرض بلاداً يستطيع المسلم أن يقطنها آمناً، فهو كقول إياس بن قبيصة الطائي‏:‏

ألم ترَ أن الأرض رحب فسيحة *** فهل تعجزني بقعة من بقاعها

ألا تراه كيف فرعَ على كونها رحباً قولَه‏:‏ فهل تعجزني بقعة‏.‏ وكذلك في الآية فرع على كونها واسعة الأمر بعبادة الله وحده للخروج مما كان يفتن به المستضعفون من المؤمنين إذ يُكرهون على عبادة الأصنام كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبُه مطمئن بالإيمان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن أرضي التي تأمنون فيها من أهل الشرك واسعة، وهي المدينة والقرى المجاورة لها مثل خيبر والنضير وقريظة وقينقاع، وما صارت كلها مأمناً إلا بعد أن أسلم أهل المدينة لأن تلك القرى أحلاف لأهل المدينة من الأوس والخزرج‏.‏

وأشعر قوله‏:‏ ‏{‏فإياي فاعبدون‏}‏ أن علة الأمر لهم بالهجرة هي تمكينهم من إظهار التوحيد وإقامة الدين‏.‏ وهذا هو المعيار في وجوب الهجرة من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه وتجري عليه فيه أحكام غير إسلامية‏.‏ والنداء بعنوان التعريف بالإضافة لتشريف المضاف‏.‏ ومصطلح القرآن أن ‏(‏عباد‏)‏ إذا أضيف إلى ضمير الجلالة فالمراد بهم المؤمنون غالباً إلا إذا قامت قرينة كقوله‏:‏ ‏{‏أأنتم أضْلَلْتم عبادي هؤلاء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏، وعليه فالوصف ب ‏{‏الذين ءامنوا‏}‏ لما في الموصول من الدلالة على أنهم آمنوا بالله حقاً ولكنهم فتنوا إلى حد الإكراه على إظهار الكفر‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإياي‏}‏ فاء التفريع والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فاعبدون‏}‏ إما مؤكدة للفاء الأولى للدلالة على تحقيق التفريع في الفعل وفي معموله، أي فلا تعبدوا غيري فاعبدون؛ وإما مؤذنة بمحذوف هو ناصب ضمير المتكلم تأكيداً للعبادة‏.‏ والتقدير‏:‏ وإياي اعبدوا فاعبدون، وهو أنسب بدلالة التقديم على الاختصاص لأنه لما أفاد الأمر بتخصيصه بالعبادة كان ذكر الفاء علامة تقدير على تقدير فعل محذوف قصد من تقديره التأكيد، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإياي فارهبون‏}‏ في أوائل سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفاً، وللرعاية على الفاصلة‏.‏ ونظائره كثيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

اعتراض ثان بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها تأكيد الوعيد الذي تضمنته جملة‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا بالباطل‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏ إلى آخرها، والوعد الذي تضمنته جملة‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنُبَوِّئَنَّهُم من الجنة غُرفاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 58‏]‏ أي الموت مُدرك جميع الأنفس ثم يرجعون إلى الله‏.‏ وقصد منها أيضاً تهوين ما يلاقيه المؤمنون من الأذى في الله ولو بلغ إلى الموت بالنسبة لما يترقبهم من فضل الله وثوابه الخالد، وفيه إيذان بأنهم يترقبهم جهاد في سبيل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏58‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا بالباطل‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وجيء بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر، أي نُبَوِّئَنهم غرفاً لأجل إيمانهم وعملهم الصالح‏.‏

والتبوئة‏:‏ الإِنزال والإِسكان، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ‏}‏ في سورة يونس ‏[‏93‏]‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏[‏لَنُبَوِّئَنَّهُم‏]‏ بموحدة بعد نون العظمة وهمزة بعد الواو‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف‏:‏ ‏{‏لَنُثَوِّيَنَّهم‏}‏ بمثلثة بعد النون وتحتية بعد الواو من اثواه بهمزة التعدية إذا جعله ثاوياً، اي مقيماً في مكان‏.‏

والغُرَف‏:‏ جمع غُرفة، وهو البيت المعتلَى على غيره‏.‏ وتقدم عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك يُجْزون الغرفة‏}‏ في آخر سورة الفرقان ‏[‏75‏]‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏نَعْمَ أجر العَامِلِين‏}‏ الخ‏.‏‏.‏ إنشاء ثناء وتعجيب على الأجر الذي أعطُوه، فلذلك قطعت عن العطف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذِينَ صَبَرُوا‏}‏ خبر مبتدأ محذوف اتباعاً للاستعمال والتقدير‏:‏ هم الذين صبروا‏.‏ والمراد‏:‏ صبرهم على إقامة الدين وتحمل أذى المشركين، وقد علموا أ، هم لاقوه فتوكلوا على ربّهم ولم يعبأوا بقطيعة قومهم ولا بحرمانهم من أموالهم ثم فارقوا أوطانهم فراراً بدينهم منالفتن‏.‏

ومن اللطائف مقابلة غشيان العذاب للكفار من فوقهم ومن تحت أرجلهم بغشيان النعيم للمؤمن من فوقهم بالغرف ومن تحتهم بالأنهار‏.‏ وتقديم المجرور على متعلّقة من قوله‏:‏ ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ للاهتمام‏.‏ وتقدم

معنى التوكل عند قوله‏:‏ ‏{‏فإِذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏[‏159‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 57‏]‏ فإن الله لما هوَّن بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أ، هم يقولون في أنفسهم‏:‏ إنّا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة‏.‏ واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرّة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ فأعقب ذلك بأن ذكَّرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم‏.‏ وضرب لهم

المثل برزق الدواب، وللمناسبة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أرضي واسعة‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 56‏]‏ من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقاً في البلاد التي يهاجرون إليها، وهو أيضاً مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله‏:‏ ‏{‏وعلى رَبِّهِم يَتَوكلون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 59‏]‏، وفي الحديث‏:‏ «لو توكلتم على الله حق توكُّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خِماصاً وتروح بِطَاناً» ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون، ضمِن الله

لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله‏.‏ وتوكلهم هو حق التوكل، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم‏.‏

وتقدم الكلام على ‏{‏كأيّن‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأيّن من نبيء قُتِل معه ربيون كثير‏}‏ في سورة آل عمران ‏[‏146‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكأيّن من دابة لا تَحْمل رِزْقها‏}‏ خبر غير مقصود منه إفادة الحكم، بل هو مستعمل مجازاً مركباً في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين‏.‏ وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدوابّ الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها، وهي السوائم الوحشية، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله‏:‏ ‏{‏الله يرزقها وإياكم‏}‏ الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله‏:‏ ‏{‏وكأين من دَابةٍ لا تَحْمِل رِزْقها‏}‏ ولذلك عطف ‏{‏وإياكم‏}‏ على ضمير ‏{‏دابة‏}‏ والمقصود‏:‏ التمثيل في التيسير والإلهام للاسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرق مختلفة‏.‏

والجمل في قوله‏:‏ ‏{‏لا تحمل رزقها‏}‏ يجوز أن يكون مستعملاً في حقيته، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض‏.‏ ويجوز أن يستعمل مجازاً في التكلف له، مثل قول جرير‏:‏

حُمِّلت أمراً عظيماً فاصطبرت له ***

أي لا تتكلف لرزقها‏.‏ وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفأرة، قيل وبعض الطيركالعقعق‏.‏ وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏الله يرزقها‏}‏ دون أن يقول‏:‏ يرزقها الله، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص، أي الله يرزقها لا يغره، فلماذا تعبدون أصناماً ليس بيدها رزق‏.‏ وجملة ‏{‏وهو السميع العليم‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏الله يرزقها وإياكم‏}‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

هذا الكلام عائد إلى قوله ‏{‏والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏ تعجيباً من نقائض كفرهم، أي هم كفروا بالله وإن سألهم سائل عمن خلق السماوات والأرض يعترفوا بأن الله هو خالق ذلك ولا يثبتون لأصنامهم شيئاً من الخلق فكيف يلتقي هذا مع ادعائهم الإِلهية لأصنامهم‏.‏ ولذلك قال الله ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏ أي كيف يصرفون عن توحيد الله وعن إبطال إشراكهم به مالا يخلق شيئاً‏.‏

وهذا الإِلزام مبني على أنهم لا يستطيعون إذا سئلوا إلا الاعتراف لأنه كذلك في الواقع ولأن القرآن يتلى عليهم كلهما نزل منه شيء يتعلق بهم ويتلوه المسلمون على مسامعهم فلو استطاعوا إنكار ما نُسب إليهم لصدعوا به‏.‏ وضمير جمع جمع الغائبين عائد إلى الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله واستعجلوا بالعذاب بقرينة قوله ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏‏.‏ والاستفهام في قوله ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏ إنكار وتعجيب‏.‏ وتخصيص تسخير الشمس والقمر بالذكر من بين مظاهر خلق السماوات والأرض لما في حركتهما من دلالة على عظيم القدرة، مع ما في ذلك من المنة على الناس إذ ناط بحركتهما أوقات الليل والنهار وضبط الشهور والفصول‏.‏ وتسخير الشيء‏:‏ إلجاؤه لعمل شديد‏.‏ وأحسب أنه حقيقة سواء كان المسخّر-بالفتح- ذا إرادة كان جماداً‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏}‏ في سورة الأعراف ‏[‏54‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

هذا إلزام آخر لهم بإبطال شركهم وافتضاح تناقضهم فإنهم كانوا معترفين بأن الرازق هو الله تعالى ‏{‏قل مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار‏}‏ إلى قوله ‏{‏فسيقولون الله فقل أفلا تتقون‏}‏ في سورة يونس ‏[‏31‏]‏‏.‏ وإنما جاء أسلوب هذا الاستدلال مخالفاً لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيب ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 61‏]‏ تفنناً

في الأساليب لتجديد نشاط السامع‏.‏

وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالة يرزق عباده على حسب مشيئته دليلاً على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يُرزقونه‏.‏ وبسط الرزق‏:‏ إكثاره، وقَدْره‏:‏ تقليله وتقتيره‏.‏ والمقصود‏:‏ أنه الرازق لأحوال الرزق، وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ في سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فجاءت هذه الاية على وزان قوله في سورة ‏{‏أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها‏.‏ وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله ‏{‏الله يبسط الرزق‏}‏ لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر‏.‏ والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر‏.‏ وزيادة ‏{‏له‏}‏ بعد ‏{‏ويقدر‏}‏ في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية الققصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار غليه قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏وكأين من دابة لا تحمل رزقها‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 60‏]‏ بأن ذلك القَدْر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات، فغُلّب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يُعدّ ‏{‏يقدر‏}‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ كما مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قُدِر عليه رزقُه فلينفقْ مما ءتاه الله‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ إن المشركين عيروا المسلمين بالففقر، وقيل‏:‏ إن بعض المسلمين قالوا‏:‏ إن هاجرنا لم نجد ما ننفق‏.‏ والضمير المجرور باللام عائد إلى ‏(‏من يشاء من عباده‏)‏ باعتبار أن ‏(‏من يشاء‏)‏ عام ليس بشخص معين لا سيما وقد بيّن عمومه بقوله ‏{‏من عباده‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق‏.‏ والتذييل بقوله ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏ لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس، وأن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورة‏:‏ ‏{‏فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 3‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَتُبلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تَصْبِروا وتتقوا فإِنَّ ذلك من عزم الأمور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فأَحيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ‏}‏ أعيد أسلوب السؤال والجواب ليتصل ربط الأدلة بعضها ببعض على قرب‏.‏ فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم‏.‏

وأدمج ف الاستدلال عليهم بانفراده تعالى بإِنزال المطر أن الله أحيا به الأرض بعد موتها وإن كان أكثر المشركين ينسبون المسببات غلى أسبابها العادية كما تبين في بحث الحقيقة والمجاز العقليين في قولهم‏:‏ أنبت الربيع البق، أنه حقيقة عقلية في كلام أهل الشرك لأنهم مع ذلك لا ينسبون الإنبات إلى اصنامهم، وقد اعترفوا بأن سبب الإنبات وهو المطر منزل من عند الله فيلزمهم أن الإنبات من الله على كل تقدير‏.‏ وفي هذا الإدماج استدلال تقريبي لإِثبات البعث كما قال‏:‏ ‏{‏فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 19‏]‏‏.‏

ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة ‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من بعد موتها‏}‏ إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم فلذلك لم يكن مقتضى لزيادة ‏(‏مِن‏)‏ في آية البقرة، وفي الجاثية ‏[‏5‏]‏ ‏{‏فأحيا به الأرض بعد موتها‏}‏ وقد أشار قوله ‏{‏من بعد موتها‏}‏ إلى موت الأرض، أي موت نباتها يكون بإمساك المطر عنها في فصول الجفاف أو في سنين الجدب لأنه قابله بكون إنزال المطر لإرادته إحياء الأرض بقوله ‏{‏فأحيا به الأرض‏}‏، فلا جرم أن يكون موتها بتقدير الله للعلم بأن موت الأرض كان بعد حياة سبقت من نوع هذه الحياة، فصارت الآية دالة على أنه المتصرف بإحياء الأرض وإماتتها، ويعلم منه أن محيي الحيوان ومميته بطريقة لحن الخطاب‏.‏ فانتظم من هذه الآيات المفتتحة بقوله ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 61‏]‏ إلى هنا أصول صفات أفعال الله تعالى وهي‏:‏ الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، من أجل ذلك عقيب بأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده بكلام يدل على تخصيصه بالحمد‏.‏‏.‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَعْقِلُونَ‏}‏ لما اتضحت الحجة على المشركين بأن الله منفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ولزم من ذلك أن ليس لأصنامهم شرك في هذه الأفعال التي هي اصول نظام ما على الأرض من الموجودات فكان ذلك موجباً لإِبطال شركهم بما لا يستطيعون إِنكاره ولا تأويله بعد أن قرعت أسماعهم دلائله وهم واجمون لا يبدون تكذيباً فلزم من ذلك صدقُ الرسول عليه الصلاة والسلام فيما دعاهم إليه‏.‏ وكَذِبثهم فيما تطاولوا به عليه في أمر الله ورسوله بأن يحمده على أن نصرهُ بالحجة نصراً يؤذن بأنه سينصره بالقوة‏.‏

وتلك نعمة عظيمة تستحق أن يحمد الله عليها إذ هو الذي لقنها رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابه وما كان يدري ما الكتاب ولا الإِيمان‏.‏

فهذا الحمد المأمور به متعلِّقه محذوف تقديره‏:‏ الحمد لله على ذلك‏.‏ وهو الحجج المتقدمة، وليس خاصاً بحجة إنزال الماء من السماء، وكذلك شأن القيود الواردة بعد جعل متعددة أن ترجع غلى جميعها، وكذلك ترجع معها متعلِّقاتها-بكسر اللام- وقرينة المقام كنار على علَم، ألا ترى أن كل حجة من تلك الحجج تستأهل أن يحمد الله على إقامتها فلا تختص بالحمد حجة إنزال المطر فقد قال تعالى في سورة لقمان ‏[‏25‏]‏ ‏{‏ولَئِن سألتَهُم مَن خَلَقَ السَّماوات والأرضَ ليقولُنَّ الله قُلْ الحمدُ لله بَلْ أكثَرهُم لا يَعْلَمون‏}‏ فلذلك لا يجعل قوله ‏{‏قل الحمد لله‏}‏ اعتراضاً‏.‏

و ‏{‏بل أكثرهم لا يعقلون‏}‏ إضراب انتقال من حمد الله على وضوح الحجج إلى ذم المشركين بأن أكثرهم لا يتفطنون لنهوض تلك الحجج الواضحة فكأنهم لا عقل لهم لأن وضوح الحجج يقتضي أن يفطن لنتائجها كلُّ ذي مُسكة من عقل فنزلوا منزلة من لا عقول لهم‏.‏ وإنما أسند عدم العقل إلى أكثرهم دون جميعهم لأن من عقلائهم وأهل الفطن منهم من وضحت له تلك الحجج فمنهم من آمنوا، ومنهم من أصرّوا على الكفر عناداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

هذا الكلام مبلَّغ إلى الفريقين اللذين تضمنهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعقلون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 63‏]‏ فإن عقلاءهم آثروا باطل الدنيا على الحق الذي وضح لهم، ودهماءهم لم يشعروا بغير أمور الدنيا، وجميعهم أنكروا البعث فأعقب الله ما أوضحه لهم من الدلائل

بأن نبههم على أن الحياة الدنيا كالخيال وأن الحياة الثانية هي الحياة الحق‏.‏ والمراد بالحياة ما تشتمل عليه من الأحوال وذلك يسري غلى الحياة نفسها‏.‏

واللهو‏:‏ ما يلهو به الناس، أي يشتغلون به عن الأمور المكدرة أو يعْمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال‏.‏

واللعب‏:‏ ما يقصد به الهزل والانبساط‏.‏ وتقدم تفسير اللعب واللهو ووجه حصر الحياة الدنيا فيهما عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏ في سورة الأنعام ‏[‏32‏]‏‏.‏ والحصر‏:‏ ادعائي كما تقدم‏.‏ وقد زادت هذه الآية بتوجيه اسم الإشارة إلى الحياة وعهي إشارة تحقير وقلة اكتراث، كقول قيس بن الخطيم مشيراً إلى الموت‏:‏

متى يأت هذا الموتُ لا يُلف حَاجة *** لنفسيَ إلا قَد قضيتُ قضاءها

ولم توجه الإِشارة إلى الحياة في سورة الأنعام‏.‏ ووجه ذلك أن هذه الآية لم يتقدم فيها ما يقتضي تحقير الحياة فجيء باسم الإِشارة لإفادة تحقيرها، وأما آية سورة الأنعام فتقدم قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما قرطنا فيها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏ فذُكر لهم في تلك الآية ما سيظهر لهم إذا جاءتهم الساعة من ذهاب حياتهم الدنيا سُدى‏.‏ وأمر تقديم ذكر اللهو هنا وذكر اللعب في سورة الأنعام فلأن آية سورة الأنعام لم تشتمل على اسم إشارة يقصد منه تحقير الحياة الدنيا فكان الابتداء بأنها لعب مشيراً إلى تحقيرها لأن اللعب أعرق في قلة الجدوى من اللهو‏.‏

ولما أشير في هذه الآية إلى الحياة الآخرة في قوله ‏{‏فأحيا به الأرض من بعد موتها‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 63‏]‏ زاده تصريحاً بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحق فصيغ لها وزن الفعلان الذي هو صيغة تنبئ عن معنى التحرك توضيحاً لمعنى كمال الحياة بقدر المتعارف، فإن التحرك والاضطراب أمارة على قوة الحيوية في الشيء مثل الغليان واللهبان‏.‏ وهم قد جهلوا الحياة الآخرة من أصلها فلذلك قالوا ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏‏.‏ وجواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف دليله ما تقدم، أو هو الجواب مقدّماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏65‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها، والمفرع عليه محذوف ليس هو واحد من الأخبار المتقدمة بخصوصه ولكنه مجموع ما تدل عليه قوة الحديث عنهم وما تقتضيه الفاء‏.‏ والتقدير‏:‏ هم أي المشركون على ما وُصفوا به من الغفلة عن دلائل الوحداينة وإلغائهم ما في أحوالهم من دلائل الاعتراف لله بها لا يضرعون غلا إلى الله فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله، فضمائر جمع الغائبين عَائدة إلى المشركين‏.‏ وهذا انتقال إلى إلزامهم بما يقتضيه دعاؤهم حين لا يشركون فيه إلهاً آخر مع الله بعد إلزامهم بموجبات اعترافاتهم فإنهم يدعون أصنامهم في شؤون من أحوالهم ويستنصرونهم ولكنهم إذا أصابهم هول توجهوا بتضرعهم إلى الله‏.‏ وإنما خصّ بالذكر حال خوفهم من هول ابحر في هذه الآية وفي آيات كثيرة مثل ما في سورة يونس وما في سورة الإسراء لأن أسفارهم في البر كانوا لا يعتريهم فيها خوفٌ يعم جميع السفر لأنهم كانوا يسافرون قوافلَ، معهم سلاحهم، ويمرون بسبل يالفونها فلا يعترضهم خوف عام، فأما سفرهم في البحر فإنهم يَفْرَقون من هوْله ولا يدفعه عنهم وفرة عدد ولا قوة عُدد، فهم يضرعون إلى الله بطلب النجاة ولعلهم لا يدعون أصنامهم حينئذ‏.‏

فأما تسخير المخلوقات فما كانوا يطمعون به غلا من الله تعالى، وأيضاً كان يخامرهم الخوف عند ركوبهم في البحر لقلة إلفهم بركوبه إذ كان معظم أسفارهم في البراري‏.‏ وقد تقدم تعدية الركوب بحرف ‏(‏في‏)‏ عند قوله ‏{‏وقال اركبوا فيها‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏‏.‏ والإخلاص‏:‏ التمحيص والإفراد‏.‏ و‏{‏الدين‏}‏‏:‏ المعاملة‏.‏ والمراد به هنا الدعاء، أي ادعوا الله غير مشركين معه أصنامهم‏.‏ ويفسر ذلك قوله ‏{‏فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏}‏‏.‏ فجيء بحرف المفاجأة للدلالة على أنهم ابتدروا إلى الإشراك في حين حصولهم في البر، أي أسرعوا إلى ما اعتادوه من زيارة أصنامهم والذبح لها‏.‏ والمفاجأة عرفية بحسب ما يقتضيه الإرساء في البر والوصول إلى مواطنهم فكانوا يبادرون بإطعام الطعام عند الرجوع من السفر‏.‏

واللام في ‏{‏لِيَكْفُرُوا‏}‏ لام التعليل وهي لام كي وهي متعلقة بفعل ‏{‏يشْرِكُون‏}‏‏.‏ والكفر هنا ليس هو الشرك ولكنه كفران النعمة بقرينة قوله ‏{‏بما آتَيْنَاهُم‏}‏ فإِن الإِيتاء بمعنى الإنعام وبقرينة تفريعه على ‏{‏يشْرِكُون‏}‏ فالعلة مغايرة للمعلول وكفران النعمة مسبب عن الإشراك لأنهم لما بادروا إلى شؤون الإشراك فقد أخذوا يكفرون النعمة، فاللام استعارة تبعية، شبه المسبَّب بالعلة الباعثة فاستعير له حرف التعليل عوضاً عن فاء التفريع‏.‏

وأما اللام في قوله ‏{‏ولِيَتَمَتَّعُوا‏}‏ بكسر اللام على أنها لام التعليل في قراءة ورش عن نافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب‏.‏ وقرأه قالون عن نافع وابنُ كثير، وحمزة والمكسائي وخلف بسكونها فهي لام امر، وهي بعد حرف العطف تسكَّن وتكْسر، وعليه فالأمر مستعمل في التهديد نظير قوله ‏{‏اعْمَلُوا ما شِئْتُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وهو عطف جملة التهديد على جملة ‏{‏فَلَمَّا نَجاهُمْ إِلى البَرِّ‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ نظير قوله في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 34‏]‏ ‏{‏لِيكفُروا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ والتمتع‏:‏ الانتفاع القصير زمنُه‏.‏ وجملة ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ تفريع على التهديد بالوعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

هذا تذكير خاص لأهل مكة وإنما خُصُّوا من بين المشركين من العرب لأن أهل مكة قدوة لجميع القبائل؛ ألا ترى أن أكثر قبائل العرب كانوا ينتظرون ماذا يكون من أهل مكة فلما اسلم أهل مكة يومَ الفتح أقبلت وفود القبائل معلنة إسلامهم‏.‏ والجملة معطوفة على جملة ‏{‏فإِذَا رَكبوا فِي الفُلك دَعُوا الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ باعتبار ما اشتملت عليه تلك الجملة من تقريعهم على كفران نعم الله تعهالى، ولذلك عقبت هذه الجملة بقولة ‏{‏وبنعمة الله يكفرون‏}‏ والاستفهام إِ، كاري، وجعلت نعمة أمن بلدهم كالشيء المشاهد فأنكر عليهم عدم رؤيته، فقوله ‏{‏أنا جعلنا حرماً آمناً‏}‏ مفعول ‏{‏يَرُوا‏}‏ ومعنى هذه الآية يعلم مما تقدم عند الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا إنْ نَتَّبِعْ الهُدَى معَكَ نُتخَطَّفْ من أرْضِنَا أوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حرَماً آمِناً‏}‏ في سورة ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏، وقد كان أهل مكة في بحبوحة من الأمن وكان غيرهم من القبائل حول مكة وما بعدُ منها يغزو بعضهم بعضاً ويتغاورون ويتناهون، وأهل مكة آمنون لا يعدو عليهم أحد مع قتلهم، فذكرهم الله هذه النعمة عليهم والباطل‏:‏ هو الشرك كما تقدم عند قوله تعالى ‏{‏والذين آمنوا بالباطل‏}‏ في هذه السورة العنكبوت ‏[‏52‏]‏‏.‏ و‏(‏نِعْمَةَ الله‏)‏ المراد بها الجنس الذي منه إنجاؤهم من الغرق وما عداه من النِعم المحسوسة المعروفة، ومن النِعم الخفية التي لو تأملوا لأدركوا عظمها، ومنها نعمة الرسالة المحمدية‏.‏ والمضارع في المواضع الثلاثة دال على تجدّد الفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

لما أوفاهم ما يستأهلونه من تشنيع أحوالهم وسوء انتظام شؤونهم جاء في عقبه بتذييل يجمعها في أنها افتراء على الله وتكذيب بالحق، ثم جزاهم الجزاء الأوفى اللائق بحالهم وهو أن النار مثواهم‏.‏ وافتتح تشخيص حالهم بالاستفهام عن وجود فريق هم أظلم من هؤلاء الذين افتروا على الله وكذبوا بالحق توجيهاً لأذهان السامعين نحو البحث هل يجدون أظلم منهم حتى إذا أجادوا التأمل واستَقْروا مظانّ الظلمة واستعرضوا أصنافهم تيقنُوا أن ليس ثمة ظلم أشدُّ

من ظلم هؤلاء‏.‏

وإنما كانوا أشد الظالمين ظُلماً لأن الظلم الاعتداء على أحد بمنعه من حقه وأشدّ من المنع أن يمنعه مستحقَّه ويعطيه من لا يستحقه، وأن يلصق باحد ما هو بريء منه‏.‏ ث إن الاستحقاق وعدمه قد يثبتان بحكم العوائد وقد يثبتان بأحكام الشرائع وقد يثبتان بقضايا العقول السليمة وهو أعلى مراتب الثبوت ومَدار أمور أهل الشرك على الافتراء على الله بأن سَلبوا عنه ما هو متصف به من صفات الإلهية الثابتة بدلالة العقول، وأثبتوا له ما هو منزه عنه من الصفات والأفعال بدلالة العقول، وعلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونكران دلالة المعجزة التي يقتضيها العقل، وعلى رمي الرسول عليه الصلاة والسلام بما هو بريء منه بشهادة العقل والعادة التي عرفوها منه بهتاناً وكذباً؛ فكانوا بمجموع الأمرين وضعوا اشياء في مواضع لا يمكن أن تكون مواضعها فكانوا أظلم الناس لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول‏.‏

وتقييد الافتراء بالحال الموكِّدة في قوله ‏{‏كَذِباً‏}‏ لزيادة تفظيع الافتراء لأن اسم الكذب مشتهر القبح في عرف الناس، وإنما اختير الافتراء للدلالة على أنهم يتعمدون الاختلاق تعمداً لا تخالطه شبهة‏.‏ وتقييد تكذيبهم بالحق بقوله ‏{‏لَمَّا جَاءَهُ‏}‏ لإِدماج ذم المكذبين بنكران نعمة إرسال الحق إليهم التي لم يقدروها قدرها، وكان شأن العقلاء أن يتطلبوا الحق ويرحلوا في طلبه، وهؤلاء جاءهم الحق بين أيديهم فكذبوا به‏.‏ وأيضاً فإن ‏{‏لَمَّا‏}‏ التوقيتية تؤذن بأن تكذيبهم حصل بداراً عند مجيء الحق، أي دون أن يتركوا لأنفسهم مهلة النظر‏.‏

وجملة ‏{‏أليس في جهنم مثوى للكافرين‏}‏ بيان لجملة ‏{‏ومَنْ أظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى على الله‏}‏ وتقرير لها لأن في جملة ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله‏}‏ إلى آخرها إيذاناً إجمالياً بجزاء فظيع يترقبهم، فكان بيانه بمضمون جملة ‏{‏أليس في جهنم مثوى لكافرين‏}‏ وهو بالفاظه ونظمه يفيد تمكنهم من عذاب جهنم إذ جعلت مثواهم‏.‏ فالمثوى‏:‏ مكان الثواء‏.‏ والثواء‏:‏ الإقامة الطويلة والسكنى‏.‏ وعلق ذلك بعنوان الكافرين للتنبيه على استحقاقهم ذلك لأجل كفرهم‏.‏ والتعريف في ‏(‏الكَافِرِين‏)‏ تعريف العهد، أي لهؤلاء الكافرين وهم الذين ذكروا من قبلُ بأنهم افتروا على الله كذباً وكذبوا بالحق، فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لإحضارهم بوصف الكفر‏.‏

والهمزة في ‏{‏أليس في جهنم مثوى‏}‏ للاستفهام التقريري، واصلها‏:‏ إما الإنكار بتنزيل المُقِرّ منزلة المنكر ليكون إقراره أشد لزوماً له، وإما أن تكون للاستفهام فلما دخلت على النفي أفادت التقرير لأن إنكار النفي إثبات للمنفي وهو إثبات مستعمل في التقرير على وجه الكناية‏.‏ وهذا التقرير بالهمزة هو غالب استعمال الاستفهام مع النفي، ومنه قول جرير‏:‏

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راحِ

فإنه لا يحتمل غير معنى التقرير بشهادة الذوق ولياقة مقام مدح الخليفة‏.‏ وهذا تقرير لمن يسمع هذا الكلام‏.‏ جُعل كون جهنم مثواهم أمراً مسلماً معروفاً بحيث يُقرّ به كل من يُسأل عنه كناية عن تحقيق المغبة على طريقة إيماء الكناية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

خُتم توبيخ المشركين وذمُّهم بالتنويه بالمؤمنين إظهاراً لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظاً وتحقيراً‏.‏ و‏{‏الذين جاهدوا‏}‏ في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرّف بلام العهد‏.‏ وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة ‏[‏العنكبوت‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه‏}‏ إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل‏.‏ وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة سبب الخبر‏.‏ ومعنى ‏{‏جاهدوا فينا‏}‏ جاهدوا في مرضاتنا، والدِّين الذي اخترناه لهم‏.‏ والظرفية مجازية، يقال‏:‏ هي ظرفية تعليل تفيد

مبالغة في التعليل‏.‏ والهداية‏:‏ الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، أي لنزيدنهم هُدى‏.‏ وسُبُل الله‏:‏ الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف‏.‏

والمراد ب ‏{‏المحسنين‏}‏ جميع الذين كانوا محسنين، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عامّ‏.‏ وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين‏.‏ وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل‏:‏ فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريراً للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ «كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم»‏.‏ والمعية‏:‏ هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم‏.‏ والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم‏.‏ وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سَوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها‏.‏

وفي قوله ‏{‏لنهدينهم سبلنا‏}‏ إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة‏.‏

سورة الروم

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

تقدم القول على نظيره في سور كثيرة وخاصة في سورة العنكبوت، وأن هذه السورة إحدى ثلاث سور مما افتتح بحروف التهجي المقطعة غير معقبة بما يشير إلى القرآن، وتقدم في أول سورة مريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏غلبت الروم‏}‏ خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية، أي نحن نعلم بأن الروم غُلبت، فلا يَهْنِكْم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنّا نعلم أنهم سيَغلبون مَنْ غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلَباً‏.‏

فالمقصود من الكلام هو جملة ‏{‏وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين‏}‏ وكان ما قبله تمهيداً له‏.‏ وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث على المغلوب لا على الغالب ولأنه قد عرف أن الذين غَلَبوا الروم هم الفرس‏.‏

و ‏{‏الروم‏:‏ اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوروبا‏.‏ تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوروبا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول‏.‏ وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين، وسمَّوا الروم أيضاً ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبي المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة إنه يخافه مَلِك بني الأصفر‏.‏

وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكوُّن أمة الروم من الخليطين، هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجاً بسبب الفتوحات وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات يوليوس قيصر لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق، ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقالبة الذين على نهر الطونة ولحق بها البيزنطيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور‏.‏ وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين‏.‏ وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألّفوا اتحاداً بينهم وبين أهل رودس وساقس وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني‏.‏ وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة وانضوت تحت سلطة رومة فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصراً لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 مسيحية، وجمع شتات المملكة فجعل للمملكة عاصمتين عاصمة غربية هي رومة وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق رومة‏.‏ وبعد موته سنة 337 قُسمت المملكة بين أولاده، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه قسطنطينيوس، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان‏.‏

وزاد انفصال المملكتين في سنة 395 حين قسم طيودسيوس بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها القسطنطينية‏.‏ ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطيين نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطئ البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفاً‏.‏ وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسُمِّي ميناءها بالقرن الذهبي‏.‏ وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا‏.‏ وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جُعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية‏.‏

وهذا الغلَب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية‏.‏ وذلك أن خسرو بن هرمز ملكَ الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيْصر الروم، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بُصرى وأذرعات‏.‏ وذلك هو المراد في هذه الآية في أدْنَى الأرْض‏}‏ أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الأرْض‏}‏ للعهد، أي أرض الروم المتحدث عنهم، أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي في أدنى أرضهم، أو أدنى أرض الله‏.‏ وحذف متعلق ‏{‏أدنى‏}‏ لظهور أن تقديره‏:‏ من أرضكم، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب‏.‏ وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم‏.‏

وقوله ‏{‏وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين‏}‏ إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم‏.‏

و ‏{‏غَلَبِهم‏}‏ مصدر مضاف إلى مفعوله‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏سيغلبون‏}‏ للعلم بأن تقديره‏:‏ سيغلبون الذين غلبوهم، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوماً آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرسَ الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم‏.‏

وفائدة ذكر ‏{‏من بعد غلبهم‏}‏ التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يُظن نصر لهم بعدَها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدَ تحدَّى به القرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيئه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين‏.‏

ولفظ ‏{‏بضع‏}‏ بكسر الموحدة كناية عن عدد قليل لا يتجاوز العشرة، وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏فلبث في السجن بضع سنين‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏42‏)‏‏.‏ وهذا أجل لرد الكَرَّة لهم على الفرس‏.‏

وحكمة إبهام عدد السنين أنه مقتضى حال كلام العظيم الحكيم أن يقتصر على المقصود إجمالاً وأن لا يتنازل إلى التفصيل لأن ذلك التفصيل يتنزل منزلة الحشو عند أهل العقول الراجحة وليكون للمسلمين رجاء في مدة أقرب مما ظهر ففي ذلك تفريج عليهم‏.‏ وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الجهة الرابعة في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

روى الترمذي بأسانيد حسنة وصحيحة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب مثلهم فكانت فارس يوم نزلت ألم غلَبت الروم قاهرين للروم فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله فقال رسول الله ‏"‏ أما أنهم سيَغلبون ‏"‏ ونزلت هذه الآية فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة ‏{‏ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 13‏]‏ فقال ناس من قريش لأبي بكر‏:‏ فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلِب فارسَ في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك قال‏:‏ بلى وذلك قبل تحريم الرهان وقالوا لأبي بكر‏:‏ كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسمِّ بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه‏.‏ فسمّى أبو بكر لهم سِت سنين فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان فمضت ست السنين قبل أن يظهر الروم فأخذ المشركون رهن أبي بكر‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ ‏"‏ ألا أخفضت يا أبا بكر، ألا جعلته إلى دون العشر فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع ‏"‏‏.‏ وعَاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير‏.‏ وذكر المفسرون أن الذي راهن أبا بكر هو أُبَيّ بنُ خلف، وأنهم جعلوا الرهان خمسَ قلائص، وفي رواية أنهم بعد أن جعلوا الأجَل ستة أعوام غيروه فجعلوه تسعة أعوام وازدادوا في عدد القلائص، وأن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به أُبي بن خلف وقال له‏:‏ أعطني كفيلاً بالخَطَر إن غُلِبْتَ، فكفل به ابنه عبد الرحمان، وكان عبد الرحمان أيامئذ مشركاً باقياً بمكة‏.‏ وأنه لما أراد أُبي بن خلف الخروج إلى أُحُد طلبه عبد الرحمان بكفيل فأعطاه كفيلاً‏.‏ ثم مات أُبي بمكة من جرح جَرحَه النبي صلى الله عليه وسلم فلما غلَب الروم بعد سبع سنين أخذ أبو بكر الخطَر من ورثة أبي بن خلف‏.‏ وقد كان تغلب الروم على الفرس في سنة ست وورد الخبر إلى المسلمين‏.‏ وفي حديث الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ «لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين»‏.‏ والمعروف أن ذلك كان يوم الحديبية‏.‏

وقد تقدم في أول السورة أن المدة بين انهزام الروم وانهزام الفرس سبع سنين بتقديم السّين وأن ما وقع في بعض الروايات أنها تسع هو تصحيف‏.‏ وقد كان غلب الروم على الفرس في سلطنة هرقل قيصر الروم، وبإثره جاء هرقل إلى بلاد الشام ونزل حِمص ولقي أبا سفيان بن حرب في رهط من أهل مكة جاءوا تجاراً إلى الشام‏.‏

واعلمْ أن هذه الرواية في مخاطرة أبي بكر وأُبي بن خلف وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياها احتج بها أبو حنيفة على جواز العقود الربوية مع أهل الحرب‏.‏ وأما الجمهور فهذا يرونه منسوخاً بما ورد من النهي عن القمار نهياً مطلقاً لم يقيد بغير أهل الحرب‏.‏ وتحقيق المسألة أن المراهنة التي جرت بين أبي بكر وأُبَيّ بن خلف جرت على الإباحة الأصلية إذ لم يكن شرع بمكة أيامئذ فلا دليل فيها على إباحة المراهنة وأن تحريم المراهنة بعد ذلك تشريع أنفٌ وليس من النسخ في شيء‏.‏ ‏{‏لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ‏}‏

جملة معترضة بين المتعاطفات‏.‏ والمراد بالأمر أمر التقدير والتكوين، أي أن الله قدر الغلب الأول والثاني قبل أن يقعا، أي مِن قبللِ غَلب الروم على الفرس وهو المدة التي من يوم غلب الفرس عليهم ومن بعد غلب الروم على الفرس‏.‏ فهنالك مضافان إليهما محذوفان‏.‏ فبنيت ‏{‏قبلُ وبعدُ‏}‏ على الضم لِحذف المضاف إليه لافتقار معناهما إلى تقدير مضافين إليهما فأشبهتا الحَرْف في افتقار معناه إلى الاتصال بغيره‏.‏ وهذا البناء هو الأفصح في الاستعمال إذا حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وقُدِّر لوجود دليل عليه في الكلام، وأما إذا لم تقصد إضافتهما بل أُريد بهما الزمن السابق والزمن اللاحق فإنهما يعربان كسائر الأسماء النكرات، كما قال عبد الله بن يَعرب بن معاوية أو يزيد بن الصعق‏:‏

فساغ لي الشراب وكنت قبلاً *** أكاد أغَصُّ بالماء الحميم

أي وكنت في زمن سبق لا يقصد تعيينه، وجوز الفراء فيهما مع حذف المضاف إليه أن تبقى فيهما حركة الإعراب بدون تنوين، ودرج عليه ابن هشام وأنكره الزجاج وجعل من الخطأ رواية قول الشاعر الذي لا يعرف اسمه‏:‏

ومن قبللِ نادَى كلّ مولى قرابة *** فما عطفت مولًى عليه العواطف

بكسر لام ‏{‏قبلِ‏}‏ رادّاً قول الفراء أنه روي بكسرٍ دون تنوين يريد الزجاج، أي الواجب أن يروى بالضم‏.‏

وتقديم المجرور في قوله ‏{‏لله الأمْرُ‏}‏ لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عُبادَها، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفاً كما دل عليه التذييل بقوله ‏{‏ينصر من يشاء‏}‏‏.‏

فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعلّلوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عِللاً توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم‏.‏

وهذا المعنى كان النبي يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي فقال الناس‏:‏ كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي فقال في خطبته‏:‏ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته‏.‏ وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادثَ المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواماً وتضر بآخرين، ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعوداً به من قبلُ ليعلم الناس كلهم أنه متحدّىً به قبل وقوعه لا مدَّعى به بعد وقوعه، ولهذا قال تعالى بعد الوعود‏:‏ ‏{‏ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وهُمْ مِن بعد غلبهم الخ أي‏:‏ ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل، وكان غلبهم السابق أيضاً بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديْهم، وقد أومأ إلى هذا قوله لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ‏}‏‏.‏

والجملة المضافة إلى ‏{‏إذ‏}‏ في قوله ‏{‏ويَوْمَئِذٍ‏}‏ محذوفة عوض عنها التنوين‏.‏ والتقدير‏:‏ ويوم إذ يغلبون يفرحُ المؤمنون، ف ‏{‏يومَ‏}‏ منصوب على الظرفية وعامله ‏{‏يَفْرَحُ المُؤْمِنُون‏.‏ وأضيف النصر إلى اسم الجلالة للتنويه بذلك النصر وأنه عناية لأجل المسلمين‏.‏

وجملة ينصر من يشاء‏}‏ تذييل لأن النصر المذكور فيها عامّ بعموم مفعوله وهو ‏{‏من يشاء‏}‏ فكل منصور داخل في هذا العموم، أي من يشاء نصره لحِكَم يعلمها، فالمشيئة هي الإرادة، أي‏:‏ ينصر من يريد نصره، وإرادته تعالى لا يُسأل عنها، ولذلك عُقب بقوله ‏{‏وَهُوَ العَزِيزُ‏}‏ فإن العزيز المطلق هو الذي يغلب كل مغالب له، وعقبه ب ‏{‏الرَّحِيم‏}‏ للإشارة إلى أن عزّته تعالى لا تخلو من رحمة بعباده ولولا رحمته لما أدال للمغلوب دولة على غالبه مع أنه تعالى هو الذي أراد غلبة الغالب الأول، فكان الأمر الأول بعزته والأمر الثاني برحمته للمغلوب المنكوب وترتيب الصفتين العليتين منظور فيه لمقابلة كل صفة منهما بالذي يناسب ذكره من الغلبين، فالمراد رحمته في الدنيا‏.‏