فصل: تفسير الآيات رقم (48- 49)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

جاءت هذه الجملة على أسلوب أمثالها كما تقدم في قوله ‏{‏هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، وجاءت المناسبة هنا لذكر الاستدلال بإرسال الرياح في قوله ‏{‏ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 46‏]‏ استدلالاً على التفرّد بالتصرف وتصوير الصنع الحكيم الدال على سعة العلم، ثم أعقب بالاستدلال بإرسال الرياح توسلاً إلى ذكر إحياء الأرض بعد موتها المستدَلّ به على البعث، فقد أفادت صيغة الحصر بقوله ‏{‏الله الذي يرسل الرياح أنه هو المتصرف في هذا الشأن العجيب دون غيره، وكفى بهذا إبطالاً لإلهية الأصنام، لأنها لا تستطيع مثل هذا الصنع الذي هو أقرب التصرفات في شؤون نفع البشر‏.‏ والتعبير بصيغة المضارع في‏:‏ يُرسل، وتُثير، ويَبسطه، ويَجعله لاستحضار الصور العجيبة في تلك التصرفات حتى كأنَّ السامع يشاهد تكوينها مع الدلالة على تجدد ذلك‏.‏

‏{‏وجمع الرياح‏}‏ لِما شاع في استعمالهم من إطلاقها بصيغة الجمع على ريح البشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير السحاب هي الرياح المختلفة جهات هبوبها بين‏:‏ جَنوب وشَمَال وصَبا ودبور، بخلاف اسم الريح المفردة فإنه غلب في الاستعمال إطلاقه على ريح القوة والشدة لأنها تتصل واردةً من صوب واحد فلا تزال تشتد‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال‏:‏ «اللهم اجعلها رياحاً لا ريحاً» وقد تقدم قوله تعالى ‏{‏وتَصْرِيف الرِّيَاح‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

والإثارة‏:‏ تحريك القارّ تحريكاً يضطرب به عن موضعه‏.‏ وإثارة السحاب إنشاؤه بما تحدثه الرياح في الأجواء من رطوبة تحصل من تفاعل الحرارة والبرودة‏.‏

والبسط‏:‏ النشر‏.‏ والسماء‏:‏ الجو الأعلى وهو جو الأسحِبة‏.‏

و ‏{‏كيف‏}‏ هنا مجردة عن معنى الاستفهام، وموقعها المفعولية المطلقة من ‏{‏يبسطه‏}‏ لأنها نائبة عن المصدر، أي‏:‏ يَبسطه بسطاً كيفيته يشاؤها الله، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏6‏)‏‏.‏ وتقدم أن من زعم أنها شرط لم يصادف الصواب‏.‏

و ‏{‏كِسَفاً‏}‏ بكسر ففتح في قراءة الجمهور جمع كِسْف بكسر فسكون، ويُقال‏:‏ كِسْفة بهاء تأنيث وهو القطعة‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏أوْ تَسْقُط السَّماء كَما زَعمت علينَا كِسْفاً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏92‏)‏‏.‏ وتقدم الكِسْف في قوله ‏{‏فأسقط علينا كِسفاً من السَّماء إنْ كُنْت مِن الصَّادِقين‏}‏ في سورة الشعراء ‏(‏187‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يبسط السحاب في السماء تارة، أي يجعله ممتداً عاماً في جو السماء وهو المدجن الذي يظلم به الجو ويقال المغلق، ويجعله كسفاً أي تارة أخرى كما دلت عليه المقابلة، أي‏:‏ يجعله غمامات لأن حالة جعله كسفاً غير حالة بسطه في السماء، فتعين أن يكون الجمع بينهما في الذكر مراداً منه اختلاف أحوال السحاب‏.‏ والمقصود من هذا‏:‏ أن اختلاف الحال آية على سعة القدرة‏.‏

والخطاب في ‏{‏فترى الوَدْق‏}‏ خطاب لغير معيّن وهو كل من يتأتى منه سماع هذا وتتأتى منه رؤية الودق‏.‏ والودق‏:‏ المطر‏.‏ وضمير ‏{‏خلاله‏}‏ للسحاب بحالتيه المذكورتين وهما حالة بسطه في السماء وحالة جعله كسفاً فإن المطر ينزل من خلال السحاب المغلق والغمامات‏.‏ والخلال‏:‏ جمع خَلَل بفتحتين وهو الفرجة بين شيئين‏.‏ وتقدم نظير هذه الجملة في سورة النور ‏(‏43‏)‏‏.‏

وذكر اختلاف أحوال العباد في وقت نزول المطر وفي وقت انحباسه بين استبشار وإبلاس إدماج للتذكير برحمة الله إياهم وللاعتبار باختلاف تأثرات نفوسهم في السراء والضراء، وفي ذلك إيماء إلى عظيم تصرف الله في خِلقة الإنسان إذ جعله قابلاً لاختلاف الانفعال مع اتحاد العقل والقلب كما جعل السحاب مختلف الانفعال من بسط وتقطع مع اتحاد الفعل وهو خروج الودق من خلاله‏.‏

و ‏{‏إنْ‏}‏ في قوله ‏{‏وإن كانوا‏}‏ مخفَّفة مهملة عن العمل، واللام في قوله ‏{‏لَمُبْلِسِين‏}‏ اللام الفارقة بين ‏{‏إنْ‏}‏ المخففة و‏{‏إنْ‏}‏ الشرطية‏.‏

والإبلاس‏:‏ يأس مع انكسار‏.‏ وقوله ‏{‏مِنْ قَبْلِه‏}‏ تكرير لقوله ‏{‏من قبللِ أن ينزّل عليهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 49‏]‏ لتوكيد معنى قبلية نزول المطر وتقريره في نفوس السامعين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أفاد التأكيد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار اه‏.‏ يعني أن إعادة قوله ‏{‏مِنْ قَبْله‏}‏ زيادة تنبيه على الحالة التي كانت من قبل نزول المطر‏.‏ وقال في «الكشاف»‏:‏ «فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم» اه‏.‏ يعني أن فائدة إعادة ‏{‏من قبله‏}‏ أن مدة ما قبل نزول المطر مدة طويلة فأشير إلى قوتها بالتوكيد‏.‏

وضمير ‏{‏قبله‏}‏ عائد إلى المصدر المأخوذ من ‏{‏أن ينزل عليهم‏}‏ أي تنزيله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

رتب على ما تقرر من استحضار صورة تكوين أسباب المطر واستبشار الناس بنزوله بعد الإبلاس، أن اعتُرض بذكر الأمر بالنظر إلى أثر الرحمة وإغاثة الله عباده حين يحيي لهم الأرض بعد موتها بالجفاف‏.‏ والأمر بالنظر للاعتبار والاستدلال‏.‏ والنظر‏:‏ رؤية العين‏.‏ وعبر عن الجفاف بالموت لأن قوام الحياة الرطوبة، وعبر عن ضده بالإحياء‏.‏ والخطاب ب ‏{‏انظر‏}‏ لغير معين ليعم كل من يتأتى منه النظر مثل قوله ‏{‏فترى الودق‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏‏.‏

و ‏{‏رحمة الله‏:‏ هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام‏.‏

وأثر الشيء‏:‏ ما ينشأ عنه مما يدل عليه‏.‏ فرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق‏.‏ وكيف‏}‏ بَدل من ‏{‏أثر‏}‏ أو مفعول ل ‏{‏انْظُرْ‏}‏ أي‏:‏ انظر هيئة إحياء الله الأرض بعد موتها، تلك الحالة التي هي أثر من آثار رحمته الناس على حدّ قوله ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيفَ خُلِقت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17‏]‏ إذ جعلوا ‏{‏كيف‏}‏ بدلاً من الإبل بدل اشتمال وإن أباه ابن هشام في «مغني اللبيب»‏.‏ وقد مضى عند قوله ‏{‏ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏45‏)‏، وتقدم آنفاً في قوله ‏{‏فيبسطه في السماء كيف يشاء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وأطلق على إنبات الأرض إحياء وعلى قحولتها الموتُ على سبيل الاستعارة‏.‏

وجملة ‏{‏إن ذلك لمحيي الموتى‏}‏ استئناف وهو إدماج؛ أدمج دليل البعث عقب الاعتبار بإحياء الأرض بعد موتها‏.‏ وحرف التوكيد يفيد مع تقرير الخبر زيادة معنى فاء التسبب كقول بشار‏:‏

بَكِّرَا صاحِبَيَّ قبل الهجير *** إن ذاك النجاح في التبكير

إذ التقدير‏:‏ فالنجاح في التبكير، كما تقرر غير مرة‏.‏ واسم الإشارة عائد إلى اسم الله تعالى بما أُجري عليه من الإخبار بإحياء الأرض بعد موتها ليفيد اسم الإشارة معنى أنه جدير بما يرد بعده من الخبر عن المشار إليه‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن الله الذي يحيي الأرض بعد موتها لمحيي الموتى، تقريباً لتصور البعث‏.‏ وعدل عن الموصول إلى الإشارة للإيجاز، ولما في الإشارة من التعظيم‏.‏ وذُيل ذلك بقوله ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ فإنه يعم جميع الأشياء والبعثُ من جملتها إذ ليس هو إلا إيجادَ خَلق وهو مقدور لله تعالى كما أنشأ الخلق أول مرة‏.‏ والشبه تام، لأن إحياء الأرض إيجاد أمثال ما كان عليها من النبات فكذلك إحياء الموتى إيجاد أمثالهم‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ‏{‏إلى أثَر‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏إلى ءَاثار‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإن كانوا من قبل أن يُنزل عليهم من قبلِه لمُبْلسين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 49‏]‏ وما بينهما اعتراض واستطراد لغرض قد علمته آنفاً‏.‏ وهذه الجملة سيقت للتنبيه على أن الكُفران مطبوع في نفوسهم بحيث يعاودهم بأدنى سبب فهم إذا أصابتهم النعمة استبشروا ولم يشكروا وإذا أصابتهم البأساء أسرعوا إلى الكفران فصُوّر لكفرهم أعجبُ صورة وهي إظهارهم إياه بحدثان ما كانوا مستبشرين منه إذ يكون الزرع أخضر والأمل في الارتزاق منه قريباً فيصيبه إعصار فيحترق فيضجّون من ذلك وتكون حالهم حالة من يكفر بالله وتجري على أقوالهم عبارات السخط والقنوط، كما قال بعض رجّاز الأعراب إذ أصاب قومَه قحط‏:‏

ربَّ العباد ما لنا وما لكْ *** قد كنتَ تسقينا فما بدا لكْ

أنزِل علينا الغيثَ لاَ أبا لكْ ***

فالضمير المنصوب في ‏{‏رأوه‏}‏ عائد إلى ‏{‏أثر رحمة الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏ وهو الزرع والكلأ والشجر‏.‏ والاصفرار في الزرع ونحوه مؤذن بيبسه، وسموا صُفَاراً بضم الصاد وتخفيف الفاء‏:‏ داء يصيب الزرع‏.‏

والمُصْفَر‏:‏ اسم فاعل مقتضٍ الوصف بمعناه في الحال، أي فرأوه يَصير أصفر، فالتعبير ب ‏{‏مصفراً‏}‏ لتصوير حدثان الاصفرار عليه دون أن يقال‏:‏ فرأوه أصفر‏.‏

وظل‏:‏ بمعنى صار، والإتيان بفعل التصيير مع الإخبار عنه بالمضارع لتصوير مبادرتهم إلى الكفر ثم استمرارهم عليه‏.‏ والحاصل أن المعنى أنه يغلب الكفر على أحوالهم‏.‏ واعلم أن الإتيان بالأفعال الثلاثة ماضية لأن وقوعها في سياق الشرط يمحضها للاستقبال، فأوثرت صيغة المضي لأنها أخف والمتكلم مخيَّر في اجتلاب أيّ الصيغتين مع الشرط، مثل قوله ‏{‏قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏ بصيغة المضارع لأن المقام للنفي ب ‏{‏لا وهي لا تدخل على الماضي المسند إلى مفرد إلا في الدعاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

الفاء للترتيب على قوله ‏{‏لظلوا من بعده يكفرون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 51‏]‏ المفيد أن الكفر غالب أحوالهم لأنهم بين كفر بالله وبين إعراض عن شكره، أو الفاء فصيحة تدل على كلام مقدر، أي إن كبر عليك إعراضهم وساءك استرسالهم على الكفر فإنهم كالموتى وإنك لا تسمع الموتى‏.‏ وهذا معذرة للنبيء صلى الله عليه وسلم ونداء على أنه بذل الجهد في التبليغ‏.‏ وفيما عدا الفاء فالآية نظير التي في آخر سورة النمل ونزيد هنا فنقول‏:‏ إن تعداد التشابيه منظور فيه إلى اختلاف أحوال طوائف المشركين فكان لكل فريق تشبيه‏:‏ فمنهم من غلب عليهم التوغل في الشرك فلا يصدقون بما يخالفه ولا يتأثرون بالقرآن والدعوة إلى الحق؛ فهؤلاء بمنزلة الأموات أشباح بلا إدراك، وهؤلاء هم دهماؤهم وأغلبهم ولذلك ابتدئ بهم‏.‏ ومنهم من يُعرض عن استماع القرآن وهم الذين يقولون‏:‏ ‏{‏في ءاذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ ويقولون‏:‏ ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وهؤلاء هم ساداتهم ومدبّرو أمرهم يخافون إن أصْغوا إلى القرآن أن يملك مشاعرهم فلذلك يتباعدون عن سماعه، ولهذا قُيِّد الذي شبهوا به بوقت توليهم مدبرين إعراضاً عن الدعوة، فهو تشبيه تمثيل‏.‏ ومنهم من سلكوا مسلك ساداتهم واقتفوا خُطاهم فانحَرفت أفهامهم عن الصواب فهم يسمعون القرآن ولا يستطيعون العمل به، وهؤلاء هم الذين اعتادوا متابعة أهوائهم وهم الذين قالوا‏:‏ ‏{‏إنّا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏ ويحصل من جميع ذلك تشبيه جماعتهم بجماعة تجمع أمواتاً وصماً وعمياً فليس هذا من تعدد التشبه لمشبهٍ واحد كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا تسمع الصمّ‏}‏ بتاء فوقية مضمومة وكسر ميم ‏{‏تُسمِع‏}‏ ونصب ‏{‏الصمَّ‏}‏، على أنه خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وقرأه ابن كثير ‏{‏ولا يَسمع الصمُّ‏}‏ بتحتية مفتوحة وبفتح ميم ‏{‏يسْمَع‏}‏ ورفع ‏{‏الصمّ‏}‏ على الفاعلية ل ‏{‏يَسمع‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏بهادي‏}‏ بموحدة وبألف بعد الهاء وبإضافة ‏{‏هادي‏}‏ إلى ‏{‏العُمْي‏}‏، وقرأه حمزة وحْده ‏{‏تهدي‏}‏ بمثناة فوقية وبدون ألف بعد الهاء على الخطاب وبنصب ‏{‏العُمْي‏}‏ على المفعولية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

هذا رابع استئناف من الأربعة المتقدمة رجوع إلى الاستدلال على عظيم القدرة في مختلف المصنوعات من العوالم لتقرير إمكانية البعث وتقريب حصوله إلى عقول منكريه لأن تعدد صور إيجاد المخلوقات وكيفياته من ابتدائها عن عدم أو من إعادتها بعد انعدامها وبتطور وبدونه مما يزيد إمكان البعث وضوحاً عند منكريه، فموقع هذه الآية كموقع قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ ونظائرها كما تقدم؛ ولذلك جاءت فاتحتها على أسلوب فواتح نظائرها وهذا ما يؤذن به تعقيبها بقوله ‏{‏ويَوم تقوم الساعة يقسم المجرمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55‏]‏ الآية‏.‏

ثم قوله ‏{‏الله الذي خلقكم‏}‏ مبتدأ وصفة، وقوله ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ هو الخبر، أي يخلق ما يشاء مما أخبر به وأنتم تنكرون‏.‏ والضعف بضم الضاد في الآية وهو أفصح وهو لغة قريش‏.‏ ويجوز في ضاده الفتح وهو لغة تميم‏.‏ وروى أبو داود والترمذي عن عبد الله ابن عمر قال‏:‏ قرأتها على رسول الله ‏{‏الذي خلقكم من ضَعف‏}‏ يعني بفتح الضاد فأقرأني‏:‏ ‏{‏من ضُعف‏}‏ يعني بضم الضاد‏.‏ وقرأ الجمهور ألفاظ ‏{‏ضعف‏}‏ الثلاثة بضم الضاد في الثلاثة‏.‏ وقرأها عاصم وحمزة بفتح الضاد، فلهما سند لا محالة يعارض حديثَ ابن عمر‏.‏ والجمع بين هذه القراءة وبين حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بلغة الضم لأنها لغة قومه، وأن الفتح رخصة لمن يقرأ بلغة قبيلة أخرى، ومن لم يكن له لغة تخصه فهو مخيَّر بين القراءتين‏.‏ والضعف‏:‏ الوهن واللين‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية، أي‏:‏ مبتدَأ خلقه من ضعف، أي‏:‏ من حالة ضعف، وهي حالة كونه جنيناً ثم صبياً إلى أن يبلغ أشده، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان من عجل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏ يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وخلق الإنسان ضعيفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه كما أنشأكم أطواراً تبتدئ من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار، ولهذا أخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏‏.‏

وذكر وصف العلم والقدرة لأن التطور هو مقتضى الحكمة وهي من شؤون العلم، وإبرازُه على أحكم وجه هو من أثر القدرة‏.‏ وتنكير ‏{‏ضعف وقوة‏}‏ للنوعية؛ ف ‏{‏ضُعف‏}‏ المذكور ثانياً هو عين ‏{‏ضُعف‏}‏ المذكور أولاً، و‏{‏قوة‏}‏ المذكورة ثانياً عين ‏{‏قوة‏}‏ المذكورة أولاً‏.‏ وقولهم‏:‏ النكرة إذا أُعيدت نكرة كانت غير الأولى، يريدون به التنكير المقصود منه الفرد الشائع لا التنكير المراد به النوعية‏.‏ وعطف ‏{‏وشيبة‏}‏ للإيماء إلى أن هذا الضعف لا قوة بعده وأن بعده العدم بما شاع من أن الشيب نذير الموت‏.‏

والشيبة‏:‏ اسم مصدر الشيب‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واشتعل الرأس شيباً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏4‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

لما ذكر عدم انتفاع المشركين بآيات القرآن وشبهوا بالأموات والصم والعمي فظهرت فظاعة حالهم في العاجلة أتبع ذلك بوصف حالهم حين تقوم الساعة في استصحاب مكابرتهم التي عاشوا عليها في الدنيا، بأن الله حين يعيد خلقهم وينشئ لهم أجساماً كأجسامهم ويعيد إليهم عقولهم يكون تفكيرهم يومئذ على وفاق ما كانوا عليه في الدنيا من السفسطة والمغالطة والغرور، فإذا نُشروا من القبور وشعروا بصحة أجسامهم وعقولهم وكانوا قد علموا في آخر أوقات حياتهم أنهم ميتون خامرتهم حينئذ عقيدة إنكار البعث وحجتُهم السفسطائية من قولهم ‏{‏هل نَدُلُّكم عَلى رَجُل يُنْبِئكُم إذَا مُزِقْتم كُلَّ مُمزق إنكُّم لَفِي خَلْقٍ جَدِيد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7‏]‏، هنالك يريدون أن يقنعوا أنفسهم بصحة دليلهم القديم ويلتمسون اعتلالاً لتخلف المدلول بعلة أن بعثهم ما كان إلا بعد ساعة قليلة من وقت الدفن قبل أن تنعدم أجزاء أجسامهم فيخيل إليهم أنهم مُحِقُّون في إنكاره في الدنيا إذ كانوا قد أخبروا أن البعث يكون بعد فناء الأجسام، فهم أرادوا الاعتذار عن إنكارهم البعث حين تحققوه بما حاصله‏:‏ أنهم لو علموا أن البعث يكون بعد ساعة من الحُلول في القبر لأقروا به‏.‏ وقد أنبأ عن هذا تسمية كلامهم هذا معذرة بقوله عقبه‏:‏ ‏{‏فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 57‏]‏‏.‏ وهذه فتنة أصيبوا بها حين البعث جعلها الله لهم ليكونوا هُزأة لأهل النشور‏.‏ ويتضح غلطهم وسوء فهمهم كما دل عليه قوله تعالى بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وقال الذين أوتوا العلم والإيمان‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏ 56‏]‏ وقد أومأ إلى أن هذا هو المراد من الآية أنه قال عقب ذلك‏:‏ ‏{‏كذلك كانوا يؤفكون‏}‏ أي كهذا الخطأ كانوا في الدنيا يُصرفون عن الحق بمثل هذه الترهات‏.‏ وتقدم شيء من هذا في المعنى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتَخافتون بَيْنهُم إنْ لَبِثْتُم إلاَّ عَشراً نَحْنُ أعْلَم بِمَا يَقُولون إذْ يَقُول أمْثَلهم طَرِيقَة إنْ لَبِثْتُم إلاَّ يوماً‏}‏ في سورة طه ‏(‏103، 104‏)‏‏.‏ وبلغ من ضلالهم في ذلك أنهم يُقسمون عليه، وهذا بعدَ ما يجري بينهم من الجدال من قول بعضهم‏:‏ ‏{‏إنْ لَبِثْتُم إلاَّ عَشْراً‏}‏ وقول بعضهم‏:‏ ‏{‏إنْ لَبِثْتُم إلاَّ يَوْماً‏}‏، وقول آخرين‏:‏ ‏{‏لَبِثْنَا يَوْماً أوْ بَعْض يَوْم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ وبعض اليوم يصدق بالساعة، كما حكي عنهم في هذه الآية‏.‏ والظاهر أن هذا القسم يتخاطبون به فيما بينهم كما اقتضته آية سورة طه، أو هو حديث آخر أعلنوا به حين اشتد الخلاف بينهم لأن المصير إلى الحلف يؤذن بمشادة ولجاج في الخلاف‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏السَّاعَة‏}‏ و‏{‏ساعة‏}‏ الجناس التام‏.‏

وجملة ‏{‏كذلك كانوا يؤفكون‏}‏ استئناف بياني لأن غرابة حالهم من فساد تقدير المدة والقسم عليه مع كونه توهماً يثير سؤال سائل عن مثار هذا الوهَم في نفوسهم فكان قوله ‏{‏كذلك كَانُوا يُؤْفَكُون‏}‏ بياناً لذلك‏.‏

ومعناه‏:‏ أنهم لا عجب في صدور ذلك منهم فإنهم كانوا يجيئون بمثل تلك الأوهام مدة كونهم في الدنيا، فتصرفهم أوهامهم عن اليقين، وكانوا يقسمون على عقائدهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏وأقْسَموا بالله جَهْدَ أيْمَانِهم لاَ يَبْعَث الله مَنْ يَمُوت‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏ استخفافاً بالأيمان، وكذلك إشارة إلى انصرافهم عن الحق يوم البعث‏.‏ والمشار إليه هو المشبه به والمشبه محذوف دل عليه كاف التشبيه، والتقدير‏:‏ إفكاً مثل إفكهم هذا كانوا يُؤفكون به في حياتهم الدنيا‏.‏ والمقصود من التشبيه المماثلة والمساواة‏.‏

والإفك بفتح الهمزة‏:‏ الصرف وهو من باب ضرب، ويُعدى إلى الشيء المصروف عنه بحرف ‏(‏عن‏)‏، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليقولُنّ الله فأنَّى يُؤْفَكون‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏60‏)‏‏.‏ ولم يسند إفكهم إلى آفك معين لأن بعض صرفهم يكون من أوليائهم وأيمة دينهم، وبعضَه من طبع الله على قلوبهم‏.‏

وإقحام فعل ‏{‏كانُوا‏}‏ للدلالة على أن المراد في زمان قبلَ ذلك الزمن، أي في زمن الحياة الدنيا‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ذلك خلُق تخلقوا به وصار لهم كالسجية في حياتهم الدنيا حتى إذا أعاد الله إليهم أرواحهم صدر عنهم ما كانوا تخلقوا به وقال تعالى ‏{‏قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أعماى وقَد كُنْت بَصِيراً قَال كذلك أتَتْكَ آياتُنا فنسِيْتَها وكذلك اليَوْم تُنْسى وكذلك نَجْزِي مَنْ أسْرَف‏}‏ الآية ‏[‏طه‏:‏ 125 127‏]‏ وفي هذا الخبر أدب عظيم للمسلمين أن يتَحامَوْا الرذائل والكبائر في الحياة الدنيا خشية أن تصير لهم خلقاً فيحشروا عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

جعل الله منكري البعث هدفاً لسهام التغليظ والافتضاح في وقت النشور، فلما سمع المؤمنون الذين أوتوا علم القرآن وأشرقت عقولهم في الحياة الدنيا بالعقائد الصحيحة وآثار الحكمة لم يتمالكوا أن لا يردوا عليهم غلطهم رداً يكون عليهم حسرات أن لا يكونوا قبلوا دعوة الحق كما قبلها المؤمنون‏.‏ وهذه الجملة معترضة‏.‏ وعطف الإيمان على العلم للاهتمام به لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها الفوز في الحياة الآخرة‏.‏ والمعنى‏:‏ وقال لهم المؤمنون إنكاراً عليهم وتحسيراً لهم‏.‏

والظاهر أن المؤمنين يسمعون تَحَاجَّ المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم لأن تغيير المنكر سجيتهم التي كانوا عليها‏.‏ وفي هذا أدب إسلامي وهو أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقره ولو لم يكن هو المخاطَب به‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث‏}‏ صرف لهم عن تلك المعذرة كأنهم يقولون‏:‏ دَعُوا عنكم هذا فلا جدوى فيه واشتغِلوا بالمقصود وما وُعدتم به من العذاب يوم البعث‏.‏ وفعل ‏{‏لَبِثْتُم‏}‏ مستعمل في حقيقته، أي مكثْتم، أي استقررتم في القبور، والخبر مستعمل في التحزين والترويع باعتبار ما يرد بعده من الإفصاح عن حضور وقت عذابهم‏.‏ و‏{‏في‏}‏ من قوله ‏{‏فِي كِتَاب الله‏}‏ للتعليل، أي لبثتم إلى هذا اليوم ولم يعذبوا من قبل لأجل ما جاء في كتاب الله من تهديدهم بهذا اليوم مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومِنْ وَرَائهم بَرْزَخ إلاى يَوْم يُبْعَثُون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏، أي‏:‏ لقد بلغكم ذلك وسمعتموه فكان الشأن أن تؤمنوا به ولا تعتذروا بقولكم مَا لَبِثْنا غيرَ سَاعة‏.‏

والفاء في ‏{‏فهذا يوم البعث‏}‏ فاء الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، وتفيد معنى المفاجأة كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُّوكم بِمَا تَقُولون‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏19‏)‏، أي إذا كان كذلك فهذا يوم البعث كالفاء في قول عباس بن الأحنف‏:‏

قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وهذا توبيخ لهم وتهديد وتعجيل لإساءتهم بما يترقبهم من العذاب‏.‏ والاقتصار على ‏{‏فهذا يوم البعث‏}‏ ليتوقعوا كل سوء وعذاب‏.‏

والاستدراك في ‏{‏ولكنكم كنتم لا تعلمون‏}‏ استدراك على ما تضمنته جملة ‏{‏لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث‏}‏ أي لقد بلغكم ذلك وكان الشأن أن تستعدوا له ولكنكم كنتم لا تعلمون، أي‏:‏ لا تتصدون للعلم بما فيه النفع بل كان دأبكم الإعراض عن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم

وفي التعبير بنفي العلم وقصدِ نفي الاهتمام به والعناية بتلقيه إشارة إلى أن التصدي للتعلّم وسيلة لحصوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏كذلك كانوا يؤفكون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55‏]‏‏.‏ والذين ظلموا هم المشركون الذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة، فالتعبير عنهم بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار لغرض التسجيل عليهم بوصف الظلم وهو الإشراك بالله لأنه جامع لفنون الظلم، ففيه الاعتداء على حق الله، وظلم المشرك نفسه بتعريضها للعذاب، وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، وظلمهم المؤمنين بالاعتداء على أموالهم وأبشارهم‏.‏

والمعذرة‏:‏ اسم مصدر اعتذر، إذا أبدى علة أو حجة ليدفع عن نفسه مؤاخذة على ذنب أو تقصير‏.‏ وهو مشتق من فعل عذره، إذا لم يؤاخذه على ذنب أو تقصير لأجل ظهور سبب يدفع عنه المؤاخذة بما فعله‏.‏ وإضافة ‏(‏مَعْذِرَة‏)‏ إلى ضمير ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ تقتضي أن المعذرة واقعة منهم‏.‏ ثم يجوز أن تكون الإضافة للتعريف بمعذرة معهودة فتكون هي قولهم ‏{‏ما لبثوا غير ساعة‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55‏]‏ كما تقدم، ويجوز أن يكون التعريف للعموم كما هو شأن المصدر المضاف، أي‏:‏ لا تنفعهم معذرة يعتذرون بها مثل قولهم ‏{‏غَلبتْ علينا شقوتنا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏ وقولهم ‏{‏هؤلاء أضلونا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

واعلم أن هذا لا ينافي قوله تعالى ‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏ المقتضي نفي وقوع الاعتذار منهم لأن الاعتذار المنفي هو الاعتذار المأذون فيه، أي‏:‏ المقبول، لأن الله لو أذن لهم في الاعتذار لكان ذلك توطئة لقبوله اعتذارهم نظير قوله ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ والمثبت هنا معذرة من تلقاء أنفسهم لم يؤذن لهم بها فهي غير نافعة لهم كما قال تعالى ‏{‏قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106 108‏]‏ وقوله ‏{‏لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تنفع‏}‏ بالمثناة الفوقية‏.‏ وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وخلف بالتحتية وهو وجه جائز لأن ‏(‏معذرة‏)‏ مجازيُّ التأنيث، ولوقوع الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول‏.‏

و ‏{‏يُستعتبون‏}‏ مبني للمجهول والمبني منه للفاعل استعتب، إذا سأل العُتبَى بضم العين وبالقصر وهي اسم للإعتاب، أي إزالة العَتب، فهمزة الإعتاب للإزالة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يَستعتبوا فما هُمْ من المُعتَبين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 24‏]‏، فصار استُعتب المبني للمجهول جارياً على استَعتب المبني للمعلوم فلما قيل‏:‏ استعتب بمعنى طلب العُتبى صار استُعتب المبني للمجهول بمعنى أُعْتِب، فمعنى ‏{‏ولا هم يستعتبون‏}‏‏:‏ ولا هم بمزال عنهم المؤاخذة نظير قوله ‏{‏فما هم من المعتبين‏}‏‏.‏ وهذا استعمال عجيب جار على تصاريف متعددة في الفصيح من الكلام، وبعض اشتقاقها غير قياسي ومن حاولوا إجراءه على القياس اضطروا إلى تكلفات في المعنى لا يرضى بها الذوق السليم، والعجب وقوعها في «الكشاف»‏.‏ وقال في «القاموس»‏:‏ واستعتبه‏:‏ أعطاه العتبى كأعتبه، وطلب إليه العتبى ضدٌّ‏.‏ والمعنى‏:‏ لا ينفعهم اعتذار بعذر ولا إقرار بالذنب وطلب العفو‏.‏ وتقدم قوله ‏{‏ولا هم يستعْتبون‏}‏ في سورة النحل ‏(‏84‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

لما انتهى ما أقيمت عليه السُورة من دلائل الوحدانية وإثبات البعث عقب ذلك بالتنويه بالقرآن وبلوغه الغاية القصوى في البيان والهدى‏.‏

والضرب حقيقته‏:‏ الوضع والإلصاق، واستعير في مثل هذه الآية للذكر والتبيين لأنه كوضع الدالِّ بلصق المدلول، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ وتقدم أيضاً آنفاً عند قوله ‏{‏ضرَب لكم مثلاً من أنفسكم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏، وهذا كقوله تعالى ‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرءان من كل مثل‏}‏ المتقدم في سورة الإسراء ‏(‏89‏)‏، و‏(‏الناس‏)‏ أُريد به المشركون لأنهم المقصود من تكرير هذه الأمثال، وعطف عليه قوله ‏{‏ولئن جئتهم بآية‏}‏ الخ فهو وصف لتلقي المشركين أمثال القرآن فإذا جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن فيها إرشادهم تلقوها بالاعتباط والإنكار البحت فقالوا ‏{‏إن أنتم إلا مبطلون‏}‏‏.‏

وضمير جمع المخاطب للنبي لقصد تعظيمه من جانب الله تعالى، وإنما يقول الذين كفروا‏:‏ إن أنت إلا مبطل، فحكي كلامهم بالمعنى للتنويه بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للرسول والمؤمنين فهو حكاية باللفظ‏.‏ وهذا تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام من إيمان معانديه، أي أيمة الكفر منهم، ولذلك اعتُرض بعده بجملة كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون‏}‏ بين الجملتين المتعاطفتين تمهيداً للأمر بالصبر على غلوائهم، أي تلك سنة أمثالهم، أي مثل ذلك الطبع الذي علمتَه يَطبع الله على قلوبهم، وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏ وفي مواضع كثيرة من القرآن‏.‏

والطبع على القلب‏:‏ تصييره غير قابل لفهم الأمور الدينية وهو الختم، وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏)‏‏.‏

‏{‏والذين لا يعلمون‏}‏ مراد بهم الذين كفروا أنفسهم، فعدل عن الإضمار لزيادة وصفهم بانتفاء العلم عنهم بعد أن وصفوا‏:‏ بالمجرمين، والذين ظلموا، والذين كفروا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

الأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم بالصبر تفرع على جملة ‏{‏ولئن جِئْتَهم بآية‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 58‏]‏ لتضمنها تأييسه من إيمانهم‏.‏ وحذف متعلق الأمر بالصبر لدلالة المقام عليه، أي اصبر على تعنتهم‏.‏ وجملة ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ تعليل للأمر بالصبر وهو تأنيس للنبيء صلى الله عليه وسلم بتحقيق وعد الله من الانتقام من المكذبين ومن نصر الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

والحق‏:‏ مصدر حَقّ يحِقّ بمعنى ثبت، فالحق‏:‏ الثابت الذي لا ريب فيه ولا مبالغة‏.‏

والاستخفاف‏:‏ مبالغة في جعله خفيفاً فالسين والتاء للتقوية مثلها في نحو‏:‏ استجاب واستمسك، وهو ضد الصبر‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يحملُنّك على ترك الصبر‏.‏ والخفة مستعارة لحالة الجزع وظهور آثار الغضب‏.‏ وهي مثل القلق المستعار من اضطراب الشيء لأن آثار الجزع والغضب تشبه تقلقل الشيء الخفيف، فالشيء الخفيف يتقلقل بأدنى تحريك، وفي ضده يستعار الرسوخ والتثاقل‏.‏ وشاعت هذه الاستعارات حتى ساوت الحقيقة في الاستعمال‏.‏

ونهي الرسول عن أن يستخفه الذين لا يوقنون نهي عن الخفة التي من شأنها أن تحدث للعاقل إذا رأى عناد من هو يرشده إلى الصلاح، وذلك مما يستفز غضب الحليم، فالاستخفاف هنا هو أن يؤثروا في نفسه ضد الصبر، ويأتي قوله تعالى ‏{‏فاستَخَفّ قومَه فأطاعوه‏}‏ في سورة الزخرف ‏(‏54‏)‏، فانظره إكمالاً لما هنا‏.‏ وأسند الاستخفاف إليهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم سببه بما يصدر من عنادهم‏.‏

والذين لا يوقنون‏:‏ هم المشركون الذين أجريت عليهم الصفات المتقدمة من الإجرام، والظلم، والكفر، وعدم العلم؛ فهو إظهار في مقام الإضمار للتصريح بمساويهم‏.‏ قيل‏:‏ كان منهم النضر بن الحارث‏.‏ ومعنى لا يوقنون‏}‏ أنهم لا يوقنون بالأمور اليقينية، أي التي دلت عليها الدلائل القطعية فهم مكابرون‏.‏

سورة لقمان

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

تقدم الكلام على نظائرها في أول سورة البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

إذا كانت هذه السورة نزلت بسبب سؤال قريش عن لقمان وابنه فهذه الآيات إلى قوله ‏{‏ولقد ءاتينا لقمان الحكمة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 12‏]‏ بمنزلة مقدمة لبيان أن مرمى القرآن من قصّ القصة ما فيها من علم وحكمة وهدى وأنها مسوقة للمؤمنين لا للذين سألوا عنها فكان سؤالهم نفعاً للمؤمنين‏.‏

والإشارة ب ‏{‏تِلْكَ‏}‏ إلى ما سيذكر في هذه السورة، فالمشار إليه مقدر في الذهن مترقب الذكر على ما تقدم في قوله ‏{‏ذلك الكِتَاب‏}‏ في أول البقرة ‏(‏2‏)‏ وفي أول سورة الشعراء ‏(‏2‏)‏ والنمل ‏(‏1‏)‏ والقصص ‏(‏2‏)‏‏.‏

‏{‏وآيات الكتاب‏}‏ خبر عن اسم الإشارة‏.‏ وفي الإشارة تنبيه على تعظيم قدر تلك الآيات بما دل عليه اسم الإشارة من البعد المستعمل في رفعة القدر، وبما دلت عليه إضافة الآيات إلى الكتاب الموصوف بأنه الحكيم وأنه هدى ورحمة وسبب فلاح‏.‏

و ‏{‏الحكيم‏:‏ وصف للكتاب بمعنى ذي الحكمة، أي لاشتماله على الحكمة‏.‏ فوصف الكِتَاب‏}‏ ب ‏{‏الحَكِيم‏}‏ كوصف الرجل بالحكيم، ولذلك قيل‏:‏ إن الحكيم استعارة مكنية، أو بعبارة أرشق تشبيه بليغ بالرجل الحكيم‏.‏ ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المُحْكَم بصيغة اسم المفعول وصفاً على غير قياس كقولهم‏:‏ عَسل عقيد، لأنه أُحكم وأتقن فليس فيه فضول ولا مالا يفيد كمالاً نفسانياً‏.‏ وفي وصف ‏{‏الكِتَاب‏}‏ بهذا الوصف براعة استهلال للغرض من ذكر حكمة لقمان‏.‏ وتقدم وصف الكتاب ب ‏{‏الحَكِيم‏}‏ في أول سورة يونس ‏(‏1‏)‏‏.‏

وانتصب ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ على الحال من ‏{‏الكِتَاب‏}‏ وهي قراءة الجمهور‏.‏ وإذ كان ‏{‏الكِتَاب‏}‏ مضافاً إليه فمسوغ مجيء الحال من المضاف إليه أن ‏{‏الكِتَاب‏}‏ أضيف إليه ما هو اسم جزئه، أو على أنه حال من آيات‏.‏ والعامل في الحال ما في اسم الإشارة من معنى الفعل‏.‏ وقرأه حمزة وحده برفع ‏{‏رحمةٌ‏}‏ على جعل ‏{‏هدىً‏}‏ خبراً ثانياً عن اسم الإشارة‏.‏

ومعنى المحسنين‏:‏ الفاعلون للحسنات، وأعلاها الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك خصت هذه الثلاث بالذكر بعد إطلاق المحسنين لأنها أفضل الحسنات، وإن كان المحسنون يأتون بها وبغيرها‏.‏

وزيادة وصف الكتاب ب ‏{‏رحمة‏}‏ بعد ‏{‏هدى‏}‏ لأنه لما كان المقصد من هذه السورة قصة لقمان نبَّه على أن ذكر القصة رحمة لما تتضمنه من الآداب والحكمة لأن في ذلك زيادة على الهدى أنه تخلق بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، والخير الكثير‏:‏ رحمة من الله تعالى‏.‏

و ‏{‏الزكاة‏}‏ هنا الصدقة وكانت موكولة إلى همم المسلمين غير مضبوطة بوقت ولا بمقدار‏.‏ وتقدم الكلام على ‏{‏بالآخرة هم يوقنون‏}‏ إلى ‏{‏هم المفلحون‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏4 5‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏تلك ءايات الكتاب الحكيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 2‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلّوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب‏.‏ وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس، وهذا تخلّص من المقدمة إلى مَدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعو إليه النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالاً ولا حكمة‏.‏

وتقديم المُسند في قوله ‏{‏من الناس‏}‏ للتشويق إلى تلقي خبره العجيب‏.‏ والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏16‏)‏؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته‏:‏ فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قِصص رستم وإسفنديار وبهرام، والكناية تقبيح للذين التّفوا حوله وتلقّوا أخباره، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم‏.‏

واللهو‏:‏ ما يُقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة‏.‏ ولهو الحديث‏}‏ ما كان من الحديث مراداً للهو فإضافة ‏{‏لهو‏}‏ إلى ‏{‏الحديث‏}‏ على معنى ‏{‏مِن‏}‏ التبعيضية على رأي بعض النحاة، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى ‏{‏من‏}‏ التبعيضية فيردها إلى معنى اللام‏.‏

وتقدم اللهو في قوله ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏32‏)‏‏.‏ والأصح في المراد بقوله ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث‏}‏ أنه النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصّها على قريش في أسمارهم ويقول‏:‏ إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وإسفنديار وبهرام‏.‏ ومن المفرسين من قال‏:‏ إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كُتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشاً، أي بواسطة من يترجمها لهم‏.‏ ويشمل لفظ ‏{‏النَّاس‏}‏ أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره ‏{‏أولئك لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏

وقيل المراد ب ‏{‏من يشتري لهو الحديث‏}‏ من يقتني القينات المغنيات‏.‏ روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمان عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارةٍ فيهن وثمنُهن حرام» في مثل ذلك أُنزلت هذه الآية ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمداً يعني البخاري يقول علي بن يزيد يضعف اه‏.‏

وقال ابن العربي في «العارضة»‏:‏ في سبب نزولها قولان‏:‏ أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث‏.‏ الثاني أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم اه‏.‏ وألفاظ الآية أنسب انطباقاً على قصة النضر بن الحارث‏.‏

ومعنى ‏{‏ليضل عن سبيل الله‏}‏ أنه يفعل ذلك ليلهي قريشاً عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى، أي إلى الدين الذي أراده، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله، وهذا زيادة في تفظيع عمله‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ليُضل‏}‏ بضم الياء‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليزداد ضلالاً على ضلاله إذ لم يكتف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس، وبذلك يكون مآل القراءتين متحدّ المعنى‏.‏

ويتعلق ‏{‏ليضل عن سبيل الله‏}‏ بفعل ‏{‏يشتري‏}‏ ويتعلق به أيضاً قوله ‏{‏بغير علم‏}‏ لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلَّق المبني عليه الكلام، فالمعنى‏:‏ يشتري لهو الحديث بغير علم، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق‏.‏ والضمير المنصوب في ‏{‏يتخذها‏}‏ عائد إلى ‏{‏سبيل الله،‏}‏ فإن السبيل تؤنث‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ويتخذُها‏}‏ بالرفع عطفاً على ‏{‏يشتري،‏}‏ أي يشْغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤاً‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفاً على ‏{‏ليضل،‏}‏ أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءاً‏.‏ ومآل المعنى متّحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه‏.‏ وأما الإضلال فقد رُجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل‏.‏

والهزؤ‏:‏ مصدر هَزأ به إذا سخر به كقوله ‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ ولما كان ‏{‏من يشتري لهو الحديث‏}‏ صادقاً على النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع ‏{‏أولئك لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏

واختير اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه لأجل ما سبق اسمَ الإشارة من الوصف‏.‏

وجملة أولئك لهم عذاب مهين‏}‏ معترضة بين الجملتين جملة ‏{‏من يشتري‏}‏ وجملة ‏{‏وإذا تتلى عليه آياتنا‏}‏ فهذا عطف على جملة ‏{‏يشتري‏}‏ الخ‏.‏ والتقدير‏:‏ ومن الناس من يشتري الخ و‏{‏إذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبراً‏}‏؛ فالموصول واحد وله صلتان‏:‏ اشتراء لهو الحديث للضلال، والاستكبار عندما تتلى عليه آيات القرآن‏.‏

ودل قوله ‏{‏تتلى عليه‏}‏ أنه يواجه بتبليغ القرآن وإسماعه‏.‏ وقوله ‏{‏ولى‏}‏ تمثيل للإعراض عن آيات الله كقوله تعالى ‏{‏ثم أدبر يسعى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 22‏]‏ و‏{‏مُسْتَكْبِراً‏}‏ حال، أي هو إعراض استكبار لا إعراض تفريط في الخير فحسب‏.‏

وشُبه في ذلك بالذي لا يسمع الآيات التي تتلى عليه، ووجه الشبه هو عدم التأثر ولو تأثراً يعقبه إعراضٌ كتأثر الوليد بن المغيرة‏.‏

و ‏{‏كأنْ‏}‏ مخففة من ‏(‏كأنَّ‏)‏ وهي في موضع الحال من ضمير ‏{‏مستكبراً‏.‏‏}‏ وكرر التشبيه لتقويته مع اختلاف الكيفية في أن عدم السمع مرة مع تمكن آلة السمع ومرة مع انعدام قوة آلته فشبه ثانياً بمن في أذنيه وقر وهو أخص من معنى ‏{‏كأن لم يسمعها‏.‏‏}‏ ومثل هذا التشبيه الثاني قول لبيد‏:‏

فتنازعا سَبِطاً يَطير ظلاله *** كدخان مُشْعَلَةٍ يشِبّ ضِرامها

مشموله غُلِثتْ بنابت عَرْفَج *** كدُخان نارٍ سَاطِع أسنامُها

والوقر‏:‏ أصله الثقل، وشاع في الصمم مجازاً مشهوراً ساوى الحقيقة، وقد تقدم في قوله ‏{‏وفي آذانهم وقراً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏25‏)‏‏.‏ وقرأ نافع في أذْنيه‏}‏ بسكون الذال للتخفيف لأجل ثقل المثنى، وقرأه الباقون بضم الذال على الأصل‏.‏ وقد ترتب على هذه الأعمال التي وصف بها أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوعِده بعذاب أليم‏.‏ وإطلاق البشارة هنا استعارة تهكمية، كقول عمرو بن كلثوم‏:‏

فعجَّلْنا القِرى أنْ تشتمونا ***

وقد عذب النضر بالسيف إذ قتل صبراً يوم بدر، فذلك عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة أشد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

لما ذكر عذاب من يُضل عن سبيل الله اتبع ببشارة المحسنين الذين وصفوا بأنهم يقيمون الصلاة إلى قوله ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏وعدَ الله‏}‏ على المفعول المطلق النائب عن فعله، وانتصب ‏{‏حقاً‏}‏ على الحال المؤكدة لمعنى عاملها كما تقدم في صدر سورة يونس‏.‏ وإجراء الاسمين الجليلين على ضمير الجلالة لتحقيق وعده لأنه لعزته لا يعجزه الوفاء بما وعَد، ولحكمته لا يخطئ ولا يذهل عما وعد، فموقع جملة ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ موقع التذييل بالأعم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

استئناف للاستدلال على الذين دأبهم الإعراض عن آيات الله بأن الله هو خالق المخلوقات فلا يستحق غيرهُ أن تثبت له الإلهية فكان ادعاء الإلهية لغير الله هو العلة للإعْراض عن آيات الكتاب الحكيم، فهم لما أثبتوا الإلهية لما لا يخلق شيئاً كانوا كمن يزعم أن الأصنام مماثلة لله تعالى في أوصافه فذلك يقتضي انتفاء وصف الحكمة عنه كما هو منتف عنها‏.‏ ولذا فإن موقع هذه الآيات موقع دليل الدليل، وهو المقام المعبر عنه في علم الاستدلال بالتدقيق، وهو ذكر الشيء بدليله ودليل دليله، فالخطاب في قوله ‏{‏ترونها‏}‏ و‏{‏بكم‏}‏ للمشركين، وقد تقدم في سورة الرعد ‏(‏2‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها‏}‏ وتقدم في أول سورة النحل ‏(‏15‏)‏ قوله ‏{‏وألقى في الأرض رواسيَ أن تَميدَ بكم‏}‏ والمعنى خوفَ أن تميد بكم أو لئلا تُميدكم كما بين هنالك‏.‏ وتقدم في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏وبثّ فيها من كل دابّة وتصريف الرياح‏}‏ وقوله ‏{‏أنزلنا من السماء ماء‏}‏ وهو نظير قوله في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ ‏{‏وما أنزل الله من السماء من ماء‏}‏ وقوله في سورة الرعد ‏(‏17‏)‏ ‏{‏أنزل من السماء ماء فسالتْ أوْديَةٌ‏}‏ والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله وأنزلنا‏}‏ للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دوراناً عند الناس‏.‏ وضمير ‏{‏فيها‏}‏ عائد إلى الأرض‏.‏

والزوج‏:‏ الصنف، وتقدم في قوله تعالى ‏{‏فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى‏}‏ في طه ‏(‏53‏)‏ وقوله ‏{‏وأنبتت من كل زوج بَهيج‏}‏ في سورة الحج ‏(‏5‏)‏‏.‏

والكريم‏:‏ النفيس في نوعه، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏إنِّي ألقِيَ إليَّ كتابٌ كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏

وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله أن تميد بكم وبَث فيها من كل دابة‏}‏ فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوّها ورواحها، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمَر والكلأ والكمأة‏.‏ وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شملَ الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة‏.‏

وجملة ‏{‏هذا خلق الله‏}‏ إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر‏.‏ واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله ‏{‏خلق السماوات‏}‏ إلى قوله ‏{‏من كل زوج كريم‏.‏‏}‏ والإتيان به مفرداً بتأويل المذكور‏.‏ والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله ‏{‏خلق الله‏}‏ التفاتاً لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله ‏{‏هذا خلق الله‏}‏ وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله ‏{‏ماذا خلق الذين من دونه‏}‏ التفاتاً لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله ‏{‏خَلق الله‏.‏‏}‏ ويجوز أن تكون الرؤية من قوله ‏{‏فأروني‏}‏ علمية، أي فأنْبِئُوني، والفعل معلقاً عن العمل بالاستفهام ب ‏{‏ماذا‏}‏‏.‏

فيتعين أن يكون ‏{‏فأروني‏}‏ تهكماً لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملاً في التعجيز، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعاً نظرياً‏.‏

وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئاً يدّعون أن آلهتهم خلقته‏.‏ وهذا كقول حُطائط بن يعفر النهشلي وقيل حاتم الطائي‏:‏

أريني جواداً مات هَزلاً لعلني *** أرى ما تزين أو بخيلا مخلَّدا

أي‏:‏ أحضرني جواداً مات من الهزال وأرينيه لعلي أرى مثل ما رأيتيه‏.‏

والعرب يقصدون في مثل هذا الغرض الرؤية البصرية، ولذلك يكثر أن يقول‏:‏ ما رأتْ عيني، وانظر هل ترى‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

فللَّه عيناً من رأى من تفرق *** أشتّ وأنأى من فراق المحصب

وإجراء اسم موصول العقلاء على الأصنام مجاراة للمشركين إذ يعدُّونهم عقلاء‏.‏ و‏{‏مِنْ دونه‏}‏ صلة الموصول‏.‏ و‏(‏دون‏)‏ كناية عن الغير، و‏{‏مِن‏}‏ جارّة لاسم المكان على وجه الزيادة لتأكيد الاتصال بالظرف‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ للإضراب الانتقالي من غرض المجادلة إلى غرض تسجيل ضلالهم، أي في اعتقادهم إلهية الأصنام، كما يقال في المناظرة‏:‏ دع عنك هذا وانتقل إلى كذا‏.‏

و ‏{‏الظالمون‏:‏ المشركون‏.‏ والضلال المبين‏:‏ الكفر الفظيع، لأنهم أعرضوا عن دعوة الإسلام للحق، وذلك ضلال، وأشركوا مع الله غيره في الإلهية، فذلك كفر فظيع‏.‏ وجيء بحرف الظرفية لإفادة اكتناف الضلال بهم في سائر أحوالهم، أي‏:‏ شدة ملابسته إياهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

الواو عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث المتقدمة في قوله تعالى ‏{‏ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 6‏]‏ باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزؤاً، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة، فهما حالان متضادان؛ فقُطِع النظر عن كون قصة النضر سيقت مساق المقدمة والمدخل إلى المقصود لأن الكلام لما طال في المقدمة خرجت عن سَنن المقدمات إلى المقصودات بالذات فلذلك عطفت عطفَ القصص ولم تُفصل فَصْل النتائج عقب مقدماتها‏.‏ وقد تتعدد الاعتبارات للأسلوب الواحد فيتخير البليغ في رعيها كقوله تعالى ‏{‏يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏49‏)‏، ‏{‏ويذبحون أبناءكم‏}‏ في سورة ‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وافتتاح القصة بحرفي التوكيد‏:‏ لام القسم و‏(‏قد‏)‏ للإنباء بأنها خبر عن أمر مهم واقع‏.‏

و ‏{‏لقمان‏}‏ اسم رجل حكيم صالح، وأكثر الروايات في شأنه التي يعضد بعضها وإن كانت أسانيدها ضعيفة تقتضي أنه كان من السود، فقيل هو من بلاد النوبة، وقيل من الحبشة‏.‏

وليس هو لقمان به عاد الذي قال المثل المشهور‏:‏ إحدى حُظيات لقمان‏.‏ والذي ذكره أبو المهوش الأسدي أو يزيد بن عمر يصعق في قوله‏:‏

تراه يطوف الآفاق حرصاً *** ليأكل رأس لقمان بن عاد

ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور، وهو الذي له ابن اسمه لقيم وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في «الإصحاحين» ‏(‏22 و23‏)‏ من «سفر العدد»، ولعل ذلك وهَم لأن بلعام ذلك رجل من أهل مَدْيَن كان نبيئاً في زمن موسى عليه السلام، فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب، أو من ظن أن بلعام يرادف معنى لقمان لأن بلعام من البلع ولقمان من اللّقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية‏.‏ وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيماً أو نبيئاً‏.‏ فالجمهور قالوا‏:‏ كان حكيماً صالحاً‏.‏ واعتمد مالك في «الموطأ» على الثاني، فذكره في «جامع الموطأ» مرتين بوصف لقمان الحكيم، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة‏.‏ وذكر ابن عطية‏:‏ أن ابن عمر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ لم يكن لقمان نبيئاً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسنَ اليقين أحبَّ الله تعالى فأحبه فمنَّ عليه بالحكمة ‏"‏ ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبيئاً لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة‏.‏ والاقتصارُ على أنه أوتي الحكمة يومئ إلى أنه أُلهم الحكمة ونطق بها، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال تعالى

‏{‏وهو يعظه‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ وذلك مؤذن بأنه تعليم لا تبليغ تشريع‏.‏

وذهب عكرمة والشعبي‏:‏ أن لقمان نبيء ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود ‏{‏وءاتيناه الحكمة وفصلَ الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وقد فسرت الحكمة في قوله تعالى ‏{‏ومن يُؤْت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ بما يشمل النبوءة‏.‏ وأن الحكمة «معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه» وأعلاها النبوءة لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفاً لما هي عليه في نفس الأمر إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء‏.‏ وسيأتي أن إيراد قوله تعالى ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14‏]‏ في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول‏.‏

وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ إنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته، فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل‏.‏ وذكر بعضهم أنه كان عبداً فأعتقه سيده، وذكر ابن كثير عن مجاهد‏:‏ أن لقمان كان قاضياً في بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين‏.‏ قيل كان راعياً لغنم وقيل كان نجاراً وقيل خياطاً‏.‏ وفي «تفسير ابن كثير» عن ابن وهب أن لقمان كان عبداً لبني الحسحاس وبنو الحسحاس من العرب وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان‏.‏

وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال والمقرّبة للخفيات بأحسن الأمثال‏.‏ وقد عني بها أهل التربية وأهل الخير، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة، وذكر منها مالك في «الموطأ» بلاغين في كتاب «الجامع» وذكر حكمة له في كتاب «جامع العتبية» وذكر منها أحمد بن حنبل في «مسنده» ولا نعرف كتاباً جمع حكمة لقمان‏.‏ وفي «تفسير القرطبي» قال وهب بن منبه‏:‏ قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب‏.‏ ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة‏.‏

وكان لقمان معروفاً عند خاصة العرب‏.‏ قال ابن إسحاق في «السيرة»‏:‏ قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجّاً أو معتمراً فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد‏:‏ فلعل الذي معك مثل الذي معي‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذي معك‏؟‏ قال‏:‏ مجلة لقمان‏.‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرِضها عليّ، فعرضها عليه، فقال‏:‏ إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فقدم المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج وكان قتله قبل يوم بعاث‏.‏ وكان رجال من قومه يقولون‏:‏ إنّا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدْعُونه الكامل اه‏.‏ وفي «الاستيعاب» لابن عبد البر‏:‏ أنا شَاكّ في إسلامه كما شك غيري‏.‏

وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقمان وابنه وذلك يقتضي أنه كان معروفاً للعرب‏.‏ وقد انتهى إليّ حين كتابة هذا التفسير من حِكَم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمةً غير ما ذكر في هذه الآية وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات‏.‏

والإيتاء‏:‏ الإعطاء، وهو مستعار هنا للإلهام أو الوحي‏.‏

و ‏{‏لقمان‏}‏‏:‏ اسم علَم مَادته مادة عربية مشتق من اللَّقْم، والأظهر أن العرب عربوه بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم كما عربوا شاول باسم طالوت وهو ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة‏.‏

وتقدم تعريف الحكمة عند قوله تعالى ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏269‏)‏، وقوله ‏{‏ادع إلى سبيل ربك بالحكمة‏}‏ في سورة النحل ‏(‏125‏)‏‏.‏

وأنْ‏}‏ في قوله ‏{‏أن اشكر لله‏}‏ تفسيرية وليست تفسيراً لفعل ‏{‏ءاتينا‏}‏ لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة، فتكون ‏{‏أنْ‏}‏ مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو ألهمها فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تُفسر ب ‏{‏أنْ‏}‏ التفسيرية، كما فسرت حاجة في قول الشاعر الذي لم يُعرف وهو من شواهد العربية‏:‏

إنْ تحملا حاجة لي خفّ محملها *** تستوجبا منة عندي بها ويَدا

أنْ تقرءان علي أسماء ويحكما *** مني السلامَ وأن لا تُخبرا أحدا

والصوفية وحكماء الإشراق يرون خواطرَ الأصفياء حجة ويسمونها إلهاماً‏.‏ ومال إليه جمّ من علمائنا‏.‏ وقد قال قطب الدين الشيرازي في «ديباجة شرحه على المفتاح»‏:‏ أما بعد إني قَد ألقي إليَّ على سبيل الإنذار، من حضرة الملك الجبار، بلسان الإلهام، إلاَّ كوَهَم من الأوهام، ما أورثني التجافيَ عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور، الخ‏.‏

وكان أول ما لُقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن أمره الله بشكره على ما هو محفوف به من نعم الله التي منها نعمة الاصطفاء لإعطائه الحكمة وإعداده لذلك بقابليته لها‏.‏ وهذا رأس الحكمة لتضمنه النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل النظر في حقائق الأشياء وقبل التصدي لإرشاد غيره، وأن أهم النظر في حقيقته هو الشعور بوجوده على حالة كاملة والشعور بموجده ومفيض الكمال عليه، وذلك كله مقتض لشكر موجده على ذلك‏.‏ وأيضاً فإن شكر الله من الحكمة، إذ الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه لقصد العمل بمقتضى العلم، فالحكيم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابلياتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى، والتعليم لقابليه مع حملهم على العمل بما علموه من ذلك، وذلك العمل من الشكر إذ الشكر قد عُرف بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من مواهب ونِعم فيما خلق لأجله؛ فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة فلذلك كان رأس الحكمة لأن من الحكمة تقديم العلم بالأنفع على العلم بما هو دونه؛ فالشكر هو مبدأ الكمالات علماً، وغايتها عملاً‏.‏

وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور بقوله ‏{‏ومَن يشكر فإنما يشكر لنفسه‏}‏ لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئاً لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين، ولذلك جيء به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء، فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار‏.‏ وجيء بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله ‏{‏فإنما يشكر لنفسه‏}‏ أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة‏.‏ وزيد ذلك تبيناً بعطف ضده بقوله ‏{‏ومَن كفر فإن الله غنيّ حميد‏}‏ لإفادة أن الإعراض عن الشكر بعد استشعاره كفر للنعمة وأن الله غنيّ عن شكره بخلاف شأن المخلوقات إذ يكسبهم الشكر فوائد بين بني جنسهم تجر إليهم منافع الطاعة أو الإعانة أو الإغناء أو غير ذلك من فوائد الشكر للمشكورين على تفاوت مقاماتهم، والله غني عن جميع ذلك، وهو ‏{‏حميد‏}‏، أي‏:‏ كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما قال تعالى ‏{‏ولله يسجد مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏ سورة الرعد ‏(‏15‏)‏‏.‏

ومن بلاغة القرآن وبديع إيجازه أن كان قوله أن اشكر لله‏}‏ جامعاً لمبدأ الحكمة التي أوتيها لقمان، ولأمره بالشكر على ذلك، فقد جمع قوله ‏{‏أن اشكر لله‏}‏ الإرشاد إلى الشكر، مع الشروع في الأمر المشكور عليه تنبيهاً على المبادرة بالشكر عند حصول النعمة‏.‏ وإنما قوبل الإعراض عن الشكر بوصف الله بأنه حميد لأن الحمد والشكر متقاربان، وفي الحديث‏:‏ «الحَمدُ رأس الشكر» فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور وهو بمعنى شاكر، أي‏:‏ شاكر لعباده عبادتَهم إياه عُبر هنا باسمه ‏{‏حميد‏}‏‏.‏ وجيء في فعل ‏{‏يشكر‏}‏ بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد‏.‏

واللام في قوله ‏{‏أن اشكر لي‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14‏]‏ داخلة على مفعول الشكر وهي لام ملتزم زيادتها مع مادة الشكر للتأكيد والتقوية، وتقدم في قوله ‏{‏واشكُرُوا لي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏152‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ءاتينا لقمان الحكمة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 12‏]‏ لأن الواو نائبة مناب الفعل فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان‏.‏ والتقدير‏:‏ وآتيناه الحكمة إذْ قال لابنه فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف متعلق بالفعل المقدّر الذي دلت عليه واو العطف، أي والتقدير‏:‏ وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه‏.‏ وهذا انتقال من وصفه بحكمة الاهتداء إلى وصفه بحكمة الهدى والإرشاد‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏إذْ قَالَ‏}‏ ظرفاً متعلقاً بفعل ‏(‏اذكر‏)‏ محذوفاً‏.‏

وفائدة ذكر الحال بقوله ‏{‏وهو يعظه‏}‏ الإشارة إلى أن قوله هذا كان لتلبس ابنه بالإشراك، وقد قال جمهور المفسرين‏:‏ إن ابن لقمان كان مُشركاً فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده، فإن الوعظ زجرٌ مقترن بتخويف قال تعالى ‏{‏فأعْرِضْ عنهم وعِظهم وقُل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 63‏]‏ ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله‏.‏ ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبَى ابنه متابعته فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد، وليس استيطان لقمان بمدينة داود مقتضياً أن تكون عائلته تدين بدين اليهودية‏.‏

وأصل النهي عن الشيء أن يكون حين التلبس بالشيء المنهي عنه أو عند مقاربة التلبس به، والأصل أن لا ينهى عن شيء منتف عن المنهي‏.‏ وقد ذكر المفسرون اختلافاً في اسم ابن لقمان فلا داعي إليه‏.‏ وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي‏:‏ الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس‏.‏

وافتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب، فالنداء مستعمل مجازاً في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام كما تقدم عند قوله تعالى ‏{‏يا أبَتتِ إني رأيتُ أحَدَ عَشَر كوكباً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏ وقوله ‏{‏يا بُني لا تقصص رؤياك‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏5‏)‏ وقوله ‏{‏إذْ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريم هل يستطيع ربك أن يُنَزّل علينا مائدة من السماء‏}‏ في سورة العقود ‏(‏112‏)‏ وقوله تعالى ‏{‏إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسمع ولا يبْصر‏}‏ في سورة مريم ‏(‏42‏)‏‏.‏

و ‏{‏بُنَيّ‏}‏ تصغير ‏(‏ابن‏)‏ مضافاً إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء‏.‏ وقرأه الجمهور بكسر ياء ‏{‏بُنَيِّ‏}‏ مشدّدة‏.‏ وأصله‏:‏ يا بُنَيْيي بثلاث ياءات إذ أصله الأصيل يا بُنَيْوِي لأن كلمة ابن واوية اللام الملتزمة حذفها فلما صُغر ردّ إلى أصله، ثم لما التقت ياء التصغير ساكنة قبل واو الكلمة المتحركة بحركة الإعراب قلبت الواو ياء لتقاربهما وأدغمتا، ولما نودي وهو مضاف إلى ياء المتكلم حذفت ياء المتكلم لجواز حذفها في النداء وكراهية تكرر الأمثال، وأشير إلى الياء المحذوفة بإلزامِه الكسرَ في أحوال الإعراب الثلاثة لأن الكسرة دليل على ياء المتكلم‏.‏

وتقدم في سورة يوسف‏.‏ والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة‏.‏

ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتُها عن مبادئ الفساد والضلال، فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل‏.‏ وكان أصل فساد الاعتقاد أحد أمرين هما الدُهرية والإشراك، فكان قوله ‏{‏لا تشرك بالله‏}‏ يفيد إثبات وجود إله وإبطال أن يكون له شريك في إلهيته‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم في المواضع الثلاثة في هذه السورة ‏{‏يا بنيَّ‏}‏ بفتح الياء مشددة على تقدير‏:‏ يا بنَيَّا بالألف وهي اللغة الخامسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ثم حذفت الألف واكتفي بالفتحة عنها، وهذا سماع‏.‏

وجملة ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ تعليل للنهي عنه وتهويل لأمره، فإنه ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات، وظلم لأهل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعلقها‏.‏ وهذا من جملة كلام لقمان كما هو ظاهر السياق، ودل عليه الحديث في «صحيح مسلم» عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ لما نزلت ‏{‏الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ أينا لا يظلم نفسه‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه ‏{‏يا بنيِّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏"‏‏.‏ وجوَّز ابن عطية أن تكون جملة ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ من كلام الله تعالى، أي‏:‏ معترضة بين كَلِم لقمان‏.‏ فقد روي عن ابن مسعود أنهم لما قالوا ذلك أنزل الله تعالى ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏، وانظر من روى هذا ومقدار صحته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيئاً مبلغاً عن الله وإنما كان حكيماً مرشداً كان هذا الكلام اعتراضاً بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله‏.‏ والضمائر ضمائر العظمة جرَّتْه مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه ظلم عظيم‏.‏ فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادَهم على الإشراك‏.‏ وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكى وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن الشرك في الإلهية بيَّن الله أنه تعالى أسبق منَّة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاءً على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برَعْي حقه‏.‏ ويقوي هذا التفسير اقتران شكر الله وشكر الوالدين في الأمر‏.‏

وإذا درجنا على أن لقمان كان نبيئاً فهذا الكلام مما أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله ‏{‏أن اشكر لله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 12‏]‏ وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آيتي سورة العنكبوت وسورة الأحقاف لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب أنف لهذه الأمة‏.‏ وقد روي أن لقمان لما أبلغ ابنه هذا قال له‏:‏ إن الله رضيني لك فلم يوصِني بك ولم يرضَك لي فأوصاكَ بي‏.‏

والمقصود من هذا الكلام هو قوله ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بي‏}‏ إلى آخره‏.‏‏.‏‏.‏ وما قبله تمهيد له وتقرير لواجب بر الوالدين ليكون النهي عن طاعتهما إذا أمرا بالإشراك بالله نهياً عنه في أوْلى الحالات بالطاعة حتى يكون النهي عن الشرك فيما دون ذلك من الأحوال مفهوماً بفحوى الخطاب مع ما في ذلك من حسن الإدماج المناسب لحكمة لقمان سواء كان هذا من كلام لقمان أو كان من جانب الله تعالى‏.‏

وعلى كلا الاعتبارين لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه، لعدم مناسبته السياق، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخلِيت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه، ولا وجه لنزول آيتين في غرض واحد ووقت مختلف وسيجيء بيان الموصَى به‏.‏

والوهْن بسكون الهاء مصدر وَهَن يهِن من باب ضرَب‏.‏ ويقال‏:‏ وَهَنٌ بفتح الهاء على أنه مصدر وهِنَ يَوْهَن كوَجِلَ يَوجَل‏.‏ وهو الضعف وقلة الطاقة على تحمل شيء‏.‏ وانتصب ‏{‏وَهْناً‏}‏ على الحال من ‏{‏أمّه‏}‏ مبالغة في ضعفها حتى كأنها نفس الوهْن، أي واهنة في حمله، و‏{‏على وهن‏}‏ صفة ل ‏{‏وَهْناً‏}‏ أي وهْناً واقعاً على وهْن، كما يقال‏:‏ رجع عوْداً على بدء، إذا استأنف عملاً فرغ منه فرجع إليه، أي‏:‏ بعد بدء، أو ‏{‏على‏}‏ بمعنى ‏(‏مع‏)‏ كما في قول الأحوص‏:‏

إني على ما قد علمِت محسَّد *** أنمي على البغضاءِ والشَنآنِ

فإن حمل المرأة يقارنه التعب من ثقل الجنين في البطن، والضُعفُ من انعكاس دمها إلى تغذية الجنين، ولا يزال ذلك الضعف يتزايد بامتداد زمن الحمل فلا جرم أنه وَهْن على وَهْن‏.‏

وجملة ‏{‏حملته أمه وهناً على وهن‏}‏ في موضع التعليل للوصاية بالوالدين قصداً لتأكيد تلك الوصاية لأن تعليل الحكم يفيده تأكيداً، ولأن في مضمون هذه الجملة ما يثير الباعث في نفس الولد على أن يبرّ بأمه ويستتبع البرّ بأبيه‏.‏ وإنما وقع تعليل الوصاية بالوالدين بذكر أحوال خاصة بأحدهما وهي الأم اكتفاء بأن تلك الحالة تقتضي الوصَاية بالأب أيضاً للقياس فإن الأب يلاقي مشاقّ وتعباً في القيام على الأم لتتمكن من الشغل بالطفل في مدة حضانته ثم هو يتولى تربيته والذبّ عنه حتى يبلغ أشدّه ويستغني عن الإسعاف كما قال تعالى ‏{‏وقُلْ ربِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيَانِي صَغِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏، فجمعهما في التربية في حال الصغر مما يرجع إلى حفظه وإكمال نشأته، فلما ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البر بالأم من الحمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البرَّ به على حساب ما تقتضيه تلك العلة في كليهما قوة وضعفاً‏.‏ ولا يقدح في القياس التفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوة الوصف الموجب للإلحاق‏.‏ وقد نبَّه على هذا القياس تشريكهما في التحكم عقب ذلك بقوله ‏{‏أن اشكر لي ولوالديك‏}‏ وقوله ‏{‏وصاحبهما في الدنيا معروفاً‏}‏‏.‏ وحصل من هذا النظم البديع قضاء حق الإيجاز‏.‏

وأمّا رجحان الأم في هذا الباب عند التعارض في مقتضيات البرور تعارضاً لا يمكن معه الجمع فقال ابن عطية في «تفسيره»‏:‏ شرك الله في هذه الآية الأم والأب في رتبة الوصية بهما ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل ودرجة الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل‏:‏ مَن أُبِرُّ‏؟‏ قال‏:‏ أمَّك‏.‏ قال‏:‏ ثم مَن‏؟‏ قال‏:‏ أمَّك‏.‏ قال‏:‏ ثم مَن‏؟‏ قال‏:‏ أمَّك‏.‏ قال‏:‏ ثم مَن‏؟‏ قال‏:‏ أباك‏.‏ فجعل له الربع من المبرّة‏.‏ وهذا كلام منسوب مثله لابن بطّال في شرح «صحيح البخاري»‏.‏ ولا يخفى أن مساق الحديث لتأكيد البر بالأم إذ قد يقع التفريط في الوفاء بالواجب للأم من الابن اعتماداً على ما يلاقيه من اللين منها بخلاف جانب الأب فإنه قوي ولأبنائه تَوَقَ من شدته عليهم، فهذا مساق الحديث ولا معنى لأخذه على ظاهره حتى نذهب إلى تجزئة البرّ بين الأم والأب أثلاثاً أو أرباعاً وهو ما استشكله القرافي في «فائدة من الفرق الثالث والعشرين»، وحسبنا نظم هذه الآية البديع في هذا الشأن‏.‏

وأما لفظ الحديث فهو مسوق لتأكيد البر بالأم خشية التفريط فيه‏.‏ وليس معنى «ثُمَّ» فيه إلا محاكاة قول السائل «ثُمَّ مَن» بقرينة أنه عطف بها لفظ الأم في المرتين ولا معنى لتفضيل الأم على نفسها في البر‏.‏ وإذ كان السياق مسوقاً للاهتمام تعين أن عطف الأب على الأم في المرة الثالثة عطف في الاهتمام فلا ينتزع منه ترجيح عند التعارض‏.‏ ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام علم من السائل إرادة الترخيص له في عدم البرّ‏.‏ وقد قال مالك لرجل سأله‏:‏ أن أباه في بلد السودان كتب إليه أن يقدم عليه وأن أمه منعته فقال له مالك‏:‏ أطِعْ أباك ولا تعْصصِ أمك‏.‏ وهذا يقتضي إعراضه عن ترجيح جانب أحد الأبوين وأنه متوقف في هذا التعارض ليحمل الابن على ترضية كليهما‏.‏ وقال الليث‏:‏ يرجح جانب الأم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يرجح جانب الأب‏.‏

وجملة ‏{‏وفصاله في عامين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏حملتْه أمه‏}‏ الخ، فهي في موقع الحال أيضاً‏.‏ وفي الجملة تقدير ضمير رابط إياها بصاحبها، إذ التقدير‏:‏ وفصالها إياه، فلما أضيف الفصال إلى مفعوله علم أن فاعله هو الأم‏.‏

والفِصال‏:‏ اسم للفطام، فهو فصل عن الرضاعة‏.‏ وتقدم في قوله ‏{‏فإن أرادَا فِصالاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏233‏)‏‏.‏ وذكر الفِصال في معرض تعليل حقية الأم بالبرّ، لأنه يستلزم الإرضاع من قبل الفِصال، وللإشارة إلى ما تتحمله الأم من كدَر الشفقة على الرضيع حين فصاله، وما تشاهده من حزنه وألمه في مبدأ فطامه‏.‏ وذُكر لمدة فِطامه أقصاها وهو عامان لأن ذلك أنسب بالترقيق على الأم، وأشير إلى أنه قد يكون الفطام قبل العامين بحرف الظرفية لأن الظرفية تصدق مع استيعاب المظروف جميعَ الظرف، ولذلك فموقع في أبلغ من موقع ‏(‏من‏)‏ التبعيضية في قول سبَرة بن عمرو الفقعسي‏:‏

ونَشْرَب في أثمانها ونُقَامِر ***

لأنه يصدق بأن يستغرق الشرابُ والمقامرة كامل أثمان إبله‏.‏ وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى ‏{‏وارزقوهم فيها واكسوهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏5‏)‏‏.‏ وقد حمله علي بن أبي طالب أوْ ابن عباس على هذا المعنى فأخذ منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر جمعاً بين هذه الآية وآية سورة الأحقاف كما سيأتي هنالك‏.‏

وجملة أن اشكر لي ولوالديك‏}‏ تفسير لفعل ‏{‏وصينا‏.‏‏}‏ و‏{‏أن‏}‏ تفسيرية، وإنما فُسرت الوصية بالوالدين بما فيه الأمرُ بشكر الله مع شكرهما على وجه الإدماج تمهيداً لقوله ‏{‏وإن جاهداك على أن تُشْرِك بي‏}‏ الخ‏.‏

وجملة ‏{‏إلي المصير‏}‏ استئناف للوعظ والتحذير من مخالفة ما أوصى الله به من الشكر له‏.‏ وتعريف ‏{‏المصير‏}‏ تعريف الجنس، أي مصير الناس كلهم‏.‏ ولك أن تجعل أل عوضاً عن المضاف إليه‏.‏ وتقديم المجرور للحصر، أي ليس للأصنام مصير في شفاعة ولا غيرها‏.‏ وتقدم الكلام على نظير قوله ‏{‏وإن جاهداك لتشرك بي إلى فلا تطعهما‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏8‏)‏، سوى أنه قال هنا على أن تُشرِك بي‏}‏ وقال في سورة العنكبوت ‏{‏لِتُشْرِك بِي‏}‏ فأما حرف ‏{‏على‏}‏ فهو أدلّ على تمكن المجاهدة، أي مجاهدة قوية للإشراك، والمجاهدة‏:‏ شدة السعي والإلحاح‏.‏ والمعنى‏:‏ إن ألحَّا وبالغا في دعوتك إلى الإشراك بي فلا تطعهما‏.‏ وهذا تأكيد للنهي عن الإصغاء إليهما إذا دعَوَا إلى الإشراك‏.‏ وأما آية العنكبوت فجيء فيها بلام العلة لظهور أن سعداً كان غنياً عن تأكيد النهي عن طاعة أمه لقوة إيمانه‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ إن امرأة لقمان وابنه كانا مُشركَيْن فلم يزل لقمان يعظهما حتى آمنا، وبه يزيد ذكر مجاهدة الوالدين على الشرك اتضاحاً‏.‏

والمصاحبة‏:‏ المعاشرة‏.‏ ومنه حديث معاوية بن حيدة «أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أحقُّ الناس بحسن صحابتي‏؟‏ قال‏:‏ أمَّك» الخ‏.‏

والمعروف‏:‏ الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن، أي صاحبْ والديْك صحبةً حسنة، وانتصب ‏{‏معروفاً‏}‏ على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق ل ‏{‏صاحِبْهُما،‏}‏ أي صِحاباً معروفاً لأمثالهما‏.‏ وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالمنكر، وشمل ذلك أن يدعو الوَالدُ إلى ما ينكره الله ولا يرضى به ولذلك لا يُطاعَان إذا أمرَا بمعصية‏.‏ وفهم من ذكر ‏{‏وصاحبْهما في الدنيا معروفاً‏}‏ أثر قوله ‏{‏وإن جاهداك على أن تشرك بي‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ أن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما‏.‏ وفي الحديث‏:‏ أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي جاءت راغبة أفأصلها‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، صلي أمَّككِ، وكانت مشركة وهي قتيلة بنت عبد العزى‏.‏ وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما، وإن كان منكراً للمسلم فلذلك قال فقهاؤنا‏:‏ إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحلّ للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه‏.‏ واتباعُ سبيل من أناب هو الاقتداء بسيرة المنيبين لله، أي الراجعين إليه، وقد تقدم ذكر الإنابة في سورة الروم ‏(‏33‏)‏ عند قوله ‏{‏منيبين إليه‏}‏ وفي سورة هود ‏(‏88‏)‏‏.‏ فالمراد بمن أناب‏:‏ المقلعون عن الشرك وعن المنهيات التي منها عقوق الوالدين وهم الذين يدعون إلى التوحيد ومن اتبعوهم في ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏ثم إلي مرجعكم‏}‏ معطوفة على الجمل السابقة و‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي المفيد للاهتمام بما بعدها، أي وعلاوة على ذلك كله إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون‏.‏ وضمير الجمع للإنسان والوالدين، أي مرجع الجميع‏.‏ وتقديم المجرور للاهتمام بهذا الرجوع أو هو للتخصيص، أي لا ينفعكم شيء مما تأملونه من الأصنام‏.‏ وفرع على هذا ‏{‏فأنبئكم‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ والإنباء كناية عن إظهار الجزاء على الأعمال لأن الملازمة بين إظهار الشيء وبين العلم به ظاهرة‏.‏ وجملة ‏{‏ثم إليّ مرجعكم‏}‏ وَعد ووعيد‏.‏ وفي هذه الضمائر تغليب الخطاب على الغيبة لأن الخطاب أهم لأنه أعرف‏.‏