فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

تكرير النداء لتجديد نشاط السامع لوعي الكلام‏.‏ وقرأ نافع وأبو جعفر ‏{‏إن تَكُ مثقالُ‏}‏ برفع ‏{‏مثقالُ‏}‏ على أنه فاعل ‏{‏تَكُ مِن ‏(‏كان‏)‏ التامة‏.‏ وإنما جيء بفعله بتاء المضارعة للمؤنثة، وأعيد عليه الضمير في قوله بها‏}‏ مؤنثاً مع أن ‏{‏مثقال لفظ غير مؤنث لأنه أضيف إلى حبة‏}‏ فاكتسب التأنيث من المضاف إليه، وهو استعمال كثير إذا كان المضاف لو حذف لما اختل الكلام بحيث يستغنى بالمضاف إليه عن المضاف، وعليه فضمير ‏{‏إنها‏}‏ للقصة والحادثة وهو المسمى بضمير الشأن، وهو يقع بصورة ضمير المفردة المؤنثة بتأويل القصة، ويختار تأنيث هذا الضمير إذا كان في القصة لفظ مؤنث كما في قوله تعالى ‏{‏فإنها لا تَعْمَى الأبصار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏، ويكثر وقوع ضمير الشأن بعد ‏(‏إنَّ‏)‏ كقوله تعالى ‏{‏إنه مَن يأتِ ربه مجرماً فإنَّ له جَهَنم لا يَمُوت فيها ولا يَحْيى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 74‏]‏، ومن ذلك تقدير ضمير الشأن اسماً لحرف ‏(‏أنَّ‏)‏ المفتوحة المخففة، وهو يفيد الاهتمام بإقبال المخاطب على ما يأتي بعده، فاجتمع في هذه الجملة ثلاثة مؤكدات‏:‏ النداء، وإنَّ، وضمير القصة، لعظم خطر ما بعده المفيد تقرير وصفه تعالى بالعلم المحيط بجميع المعلومات من الكائنات، ووصفه بالقدرة المحيطة بجميع الممكنات بقرينة قوله ‏{‏يأت بها الله‏.‏‏}‏

وقد أفيد ذلك بطريق دلالة الفحوى؛ فذُكر أدقُّ الكائنات حالاً من حيث تعلق العلم والقدرة به، وذلك أدق الأجسام المختفي في أصْلَب مكان أو أقصاه وأعزِّه منالاً، أو أوسعه وأشده انتشاراً، ليعلم أن ما هو أقوى منه في الظهور والدّنو من التناول أولى بأن يحيط به علم الله وقدرته‏.‏ وقرأه الباقون بنصب ‏{‏مثقالَ‏}‏ على الخبرية ل ‏{‏تكُ‏}‏ مِن ‏(‏كان‏)‏ الناقصة، وتقدير اسم لها يدل عليه المقام مع كون الفعل مسنداً لمؤنث، أي إن تك الكائنة، فضمير ‏{‏إنها‏}‏ مراد منه الخصلة من حسنة أو سيئة أخذاً من المقام‏.‏

والمثقال بكسر الميم‏:‏ ما يقدر به الثقل ولذلك صيغ على زنة اسم الآلة‏.‏

والحبة‏:‏ واحدة الحَبّ وهو بذر النبات من سنابل أو قطنية بحيث تكون تلك الواحدة زريعة لنوعها من النبات، وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏261‏)‏ قوله ‏{‏كَمَثَل حَبَّة أنبتَتْ سَبْع سَنَابل‏}‏ وقوله ‏{‏إنَّ الله فَالِق الحَب والنَّوى‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏95‏)‏‏.‏

والخردل‏:‏ نبت له جذر وساق قائمة متفرعة إسطوانية أوراقها كبيرة يُخرج أزهاراً صغيرة صُفْراً سنبلية تتحول إلى قرون دقيقة مربعة الزوايا تخرج بزوراً دقيقة تسمى الخردل أيضاً، ولبّ تلك البزور شديد الحرارة يلدغ اللسان والجلد، وهي سريعة التفتق ينفتق عنها قشرها بدقّ أو إذا بلت بمائع، فتستعمل في الأدوية ضَمَّادات على المواضع التي فيها التهاب داخلي من نزلة أو ذات جنْب وهو كثير الاستعمال في الطب قديماً وحديثاً‏.‏ وقد أخذ الأطباء يستغنون عنه بعقاقير أخرى‏.‏ وتقدم نظير هذا في سورة الأنبياء ‏(‏47‏)‏

‏{‏فلا تُظْلَم نفس شيئاً وإن كان مثقالُ حَبة من خردل أتينَا بها‏}‏ وقوله ‏{‏أو في السموات‏}‏ عطف على ‏{‏في صخرة‏}‏ لأن الصخرة من أجزاء الأرض فذكر بعدها ‏{‏أو في السماوات‏}‏ على معنى‏:‏ أو كانت في أعزّ مَنَالاً من الصخرة، وعطف عليه ‏{‏أو في الأرض‏}‏ وإنما الصخرة جزء من الأرض لقصد تعميم الأمكنة الأرضية فإن الظرفية تصدق بهما، أي‏:‏ ذلك كله سواء في جانب علم الله وقدرته، كأنه قال‏:‏ فتكن في صخرة أو حيث كانت من العالم العلوي والعالم السفلي وهو معنى قوله ‏{‏وما يعزب عن ربك مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏‏.‏

والإتيان كناية عن التمكن منها، وهو أيضاً كناية رمْزيَّة عن العلم بها لأن الإتيان بأدق الأجسام من أقصى الأمكنة وأعمقها وأصلبها لا يكون إلا عن علم بكونها في ذلك المكان وعلم بوسائل استخراجها منه‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ يجوز أن تكون من كلام لقمان فهي كالمقصد من المقدمة أو كالنتيجة من الدليل، ولذلك فصلت ولم تعطف لأن النتيجة كبدل الاشتمال يشتمل عليها القياس ولذلك جيء بالنتيجة كلية بعد الاستدلال بجزئية‏.‏ وإنما لم نجعلها تعليلاً لأن مقام تعليم لقمان ابنه يقتضي أن الابن جاهل بهذه الحقائق، وشرط التعليل أن يكون مسلَّماً معلوماً قبل العلم بالمعلَّل ليصح الاستدلال به‏.‏ ويجوز أن تكون معترضة بين كلام لقمان تعليماً من الله للمسلمين‏.‏

واللطيف‏:‏ مَن يعلم دقائق الأشياء ويسلك في إيصالها إلى من تصلح به مسلك الرفق، فهو وصف مؤذن بالعلم والقُدرة الكاملين، أي يعلم ويقدر وينفذ قدرته، وتقدم في قوله ‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏103‏)‏‏.‏ ففي تعقيب ‏{‏يأت بها الله‏}‏ بوصفه ب ‏(‏اللطيف‏)‏ إيماء إلى أن التمكن منها وامتلاكها بكيفية دقيقة تناسب فلق الصخرة واستخراج الخردلة منها مع سلامتهما وسلامة ما اتصل بهما من اختلال نظام صُنعه‏.‏ وهنا قد استوفى أصول الاعتقاد الصحيح‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏ يجوز أن تكون من كلام لقمان وأن تكون معترضة من كلام الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

انتقل من تعليمه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان، والصلاة عِماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح‏.‏ وإقامة الصلاة إدامتها والمحافظة على أدائها في أوقاتها‏.‏ وتقدم في أول سورة البقرة‏.‏ وشمل الأمرُ بالمعروف الإتيانَ بالأعمال الصالحة كلها على وجه الإجمال ليتطلَّب بيانه في تضاعيف وصايا أبيه كما شمل النهيُ عن المنكر اجتناب الأعمال السيئة كذلك‏.‏ والأمر بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يقتضي إتيان الآمر وانتهاءه في نفسه لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناسَ ونهيه إياهم‏.‏ فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى، إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخيرَ وبثِّه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه‏.‏ ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجران للقائم بهما معاداةً من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما‏.‏ ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عُدَّ الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله ‏{‏ولا تصاعر خَدّك للناس‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 18‏]‏ لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر‏.‏

والصبر‏:‏ هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏

وجملة إن ذلك من عزم الأمور‏}‏ موقعها كموقع جملة ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المذكور من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصاب‏.‏ والتأكيد للاهتمام‏.‏

والعزم مصدر بمعنى‏:‏ الجزم والإلزام‏.‏ والعزيمة‏:‏ الإرادة التي لا تردد فيها‏.‏ و‏{‏عزم‏}‏ مصدر بمعنى المفعول، أي من معزوم الأمور، أي التي عزمها الله وأوجبها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏‏}‏

انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعدّ نفسه كواحد منهم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ولا تُصاعر‏.‏‏}‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏ولا تصعِّر‏.‏‏}‏ يقال‏:‏ صَاعَر وصَعَّر، إذا أمال عنقه إلى جانب ليعرض عن جانب آخر، وهو مشتق من الصَعَر بالتحريك لِداء يصيبُ البعير فيلوي منه عنقه فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعَر وهو تمثيل للاحتقار لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال‏.‏ قال عمرو بن حُنَي التغلبي يخاطب بعض ملوكهم‏:‏

وَكُنّا إذا الجبَّار صَعَّر خدَّه *** أقمنا له من ميله فتقَوَّمِ

والمعنى‏:‏ لا تحتقر الناس فالنهي عن الإعراض عنهم احتقاراً لهم لا عن خصوص مصاعرة الخد فيشمل الاحتقار بالقول والشتم وغير ذلك فهو قريب من قوله تعالى ‏{‏فلا تقل لهما أُفَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ إلا أن هذا تمثيل كنائي والآخر كناية لا تمثيل فيها‏.‏

وكذلك قوله ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحاً‏}‏ تمثيل كنائي عن النهي عن التكبر والتفاخر لا عن خصوص المشي في حال المرح فيشمل الفخر عليهم بالكلام وغيره‏.‏

والمَرح‏:‏ فرْط النشاط من فَرح وازدهاء، ويظهر ذلك في المشي تبختراً واختيالاً فلذلك يسمى ذلك المشي مَرَحاً كما في الآية، فانتصابه على الصفة لمفعول مطلق، أي مَشياً مرحاً، وتقدم في سورة الإسراء ‏(‏37‏)‏ وموقع قوله ‏{‏في الأرض‏}‏ بعد ‏{‏لا تمش‏}‏ مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويّهم وضعيفهم، ففي ذلك موعظة للماشي مرحاً أنه مساو لسائر الناس‏.‏

وموقع ‏{‏إن الله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ موقع ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏ كما تقدم‏.‏ والمختال‏:‏ اسم فاعل من اختال بوزن الافتعال من فِعل خَال إذا كان ذا خُيلاء، فهو خائل‏.‏ والخُيلاء‏:‏ الكبر والازدهاء، فصيغة الافتعال فيه للمبالغة في الوصف فوزن المختال مختيل فلما تحرّك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفاً، فقوله ‏{‏إن الله لا يحب كل مختال‏}‏ مقابل قوله ‏{‏ولا تصاعر خدك للناس‏}‏، وقوله ‏{‏فخور‏}‏ مقابل قوله ‏{‏ولا تَمش في الأرض مرحاً‏}‏‏.‏

والفَخور‏:‏ شديد الفخر‏.‏ وتقدم في قوله ‏{‏إن الله لا يحب من كان مختالاً فَخوراً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏36‏)‏‏.‏

ومعنى ‏{‏إن الله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ أن الله لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين، ولا يخطر ببال أهل الاستعمال أن يكون مفاده أن الله لا يحب مجموع المختالين الفخورين إذا اجتمعوا بناء على ما ذكره عبد القاهر من أن ‏{‏كُل‏}‏ إذا وقع في حيز النفي مؤخراً عن أداته ينصبّ النفي على الشمول، فإن ذلك إنما هو في ‏{‏كل‏}‏ التي يراد منها تأكيد الإحاطة لا في ‏{‏كل‏}‏ التي يراد منها الأفراد، والتعويل في ذلك على القرائن‏.‏ على أنّا نرى ما ذكره الشيخ أمرٌ أغلبي غير مطرد في استعمال أهل اللسان ولذلك نرى صحة الرفع والنصب في لفظ ‏(‏كل‏)‏ في قول أبي النجم العِجلي‏:‏

قد أصبحتْ أُمّ الخيار تدّعي *** عليَّ ذنباً كلَّه لم أصنع

وقد بينت ذلك في تعليقاتي على دلائل الإعجاز‏.‏

وموقع جملة ‏{‏إن الله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ يجوز فيه ما مضى في جملة ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ وجملة ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏، وجملة ‏{‏إن ذلك من عزم الأمور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه‏.‏

والقصد‏:‏ الوسط العَدل بين طرفين، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال‏:‏ قصد في مشيه‏.‏ فمعنى ‏{‏اقْصِدْ في مشيك‏}‏‏:‏ ارتكب القصد‏.‏

والغَضُّ‏:‏ نقص قوة استعمال الشيء‏.‏ يقال‏:‏ غَضَّ بصره، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق‏.‏ وتقدم قوله تعالى ‏{‏قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم‏}‏ في سورة النور ‏(‏30‏)‏‏.‏ فغض الصوت‏:‏ جعله دون الجهر‏.‏ وجيء ب ‏{‏مِن‏}‏ الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه، أي بعضَ جهره، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار‏.‏

وجملة ‏{‏إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير‏}‏ تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيهاً بليغاً، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات‏.‏ ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة‏.‏

و ‏{‏أنكَر‏:‏‏}‏ اسم تفضيل في كون الصوت منكوراً، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغيرُ شاذ، ومنه قولهم في المثل‏:‏ «أشغل من ذات النِّحْيَيْنِ» أي أشد مشغولية من المرأة التي أُريدت في هذا المثل‏.‏

وإنما جمع ‏{‏الحمير‏}‏ في نظم القرآن مع أن ‏{‏صوت‏}‏ مفرداً ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعُه‏.‏ ولذلك يقال‏:‏ إن لام الجنس إذا دخلتْ على جَمع أبطلت منه معنى الجَمْعِيَّة‏.‏ وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله ‏{‏ولقد ءاتينا لقمان الحكمة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 12‏]‏ هي‏:‏ حميد، عظيم، المصير، خبير، الأمور، فخور، الحمير‏.‏ وفواصل القرآن تعتمد كثيراً على الحركات والمُدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد‏.‏ وهذا وفاء بما وعدتُ به عند الكلام على قوله تعالى ‏{‏ولقد ءاتينا لقمان الحكمة‏}‏ من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أُثِر من حِكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في «تفسيره» منها ثمانياً وعشرين حكمة وهي‏:‏

قوله لابنه‏:‏ أي بني، إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحِشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً‏.‏

وقوله‏:‏ من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزاً، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية‏.‏

وقوله‏:‏ ضَرْبُ الوالد لولده كالسماد للزرع‏.‏

وقوله‏:‏ يا بني إياك والدَّين فإنه ذل النهار وَهَمُّ الليل‏.‏

وقوله‏:‏ يا بني ارجُ الله عز وجل رجاء لا يجرِّئك على معصيته تعالى، وخَففِ الله سبحانه خوفاً لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه‏.‏

وقوله‏:‏ من كَذب ذهب ماء وجهه، ومَن ساء خلُقُه كثُر غمُّه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم‏.‏

وقوله‏:‏ يا بني حَملْتُ الجندل والحديد وكلَّ شيء ثقيل فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء، وذقت المِرار فلم أذق شيئاً هو أمرّ من الفقر‏.‏

يا بني لا تُرسِلْ رسولك جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسولَ نفسك‏.‏

يا بني، إياك والكذب، فإنه شَهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه‏.‏

يا بني، احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا‏.‏

يا بني، لا تأكل شِبَعاً على شِبَع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله‏.‏

يا بني، لا تكُن حُلواً فتُبلَعَ ولا تكن مُرّاً فتُلْفَظ‏.‏

وقوله لابنه‏:‏ لا يأكل طعامك إلاَّ الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء‏.‏

وقوله‏:‏ لا خير لك في أن تتعلمَ ما لم تَعْلَم ولَمّا تعملْ بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحمل حُزْمَة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى‏.‏

وقوله‏:‏ يا بني، إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذَره‏.‏

وقوله‏:‏ لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء‏.‏

وقوله‏:‏ يا بني، أنْزِل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بدّ لك منه‏.‏

يا بنيّ، كن كمن لا يبتغي محمدَة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة‏.‏

وقوله‏:‏ يا بني، امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكتَّ سالم، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك‏.‏

وأنا أقفّي عليها ما لم يذكره الألوسي‏.‏ فمن ذلك ما في «الموطأ» فيما جاء في طلب العلم من كتاب «الجامع»‏:‏ مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال‏:‏ يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء‏.‏ وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب «الجامع» أنه بلغه أنه قيل للقمان‏:‏ ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل‏؟‏ فقال‏:‏ صدقُ الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعْنيني‏.‏

وفي «جامع المستخرجة» للعتبي قال مالك‏:‏ بلغني أن لقمان قال لابنه‏:‏ يا بُني ليكنْ أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأةً صالحة‏.‏ وفي «أحكام القرآن» لابن العربي عن مالك‏:‏ أن لقمان قال لابنه‏:‏ يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنتَ واستقبلتَ الآخرة، وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها‏.‏

وقال‏:‏ ليس غنى كصحة، ولا نعمة كطِيب نفْس‏.‏ وقال‏:‏ يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبَك معهم، وقال‏:‏ يا بني، جالس العلماء ومَاشِهِم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ أنه قال لرجل ينظر إليه‏:‏ إن كنتَ تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنتَ تراني أسود فقلبي أبيض‏.‏ وأن مولاه أمره بذبححِ شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب، ثم أمره بذبح أخرى وأنْ ألْققِ منها أخبث مضغتين، فألقى اللسان والقلب؛ فسأله عن ذلك، فقال‏:‏ هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا‏.‏

ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع، فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها داود لَبِسها وقال‏:‏ نِعم لَبُوس الحرب أنتتِ‏.‏ فقال لقمان‏:‏ الصمتُ حكمة وقليل فاعله‏.‏ وفي «تفسير ابن عطية»‏:‏ قيل للقمان‏:‏ أيّ الناس شرّ‏؟‏ فقال‏:‏ الذي لا يبالي أن يراه الناس سيِّئاً أو مسيئاً‏.‏

وفي «تفسير القرطبي»‏:‏ كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى‏.‏ فقيل له، فقال‏:‏ ألا أكتفِي إذا كُفِيتُ‏.‏ وفيه‏:‏ إن الحاكم بأشدّ المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إنْ يصبْ فبالحريِّ أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة‏.‏ ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً‏.‏ ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتْه الدنيا ولا يُصب الآخرة‏.‏ وفي «تفسير البيضاوي»‏:‏ أن داود سأل لقمان‏:‏ كيف أصبحتَ‏؟‏ فقال‏:‏ أصبحت في يَديْ غيري‏.‏ وفي «درة التنزيل» المنسوب لفخر الدين الرازي‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ إن الله رَضيني لك فلم يُوصني بكَ ولم يرضَك لي فأوصاك بي‏.‏ وفي «الشفاء» لعياض‏:‏ قال لقمان لابنه‏:‏ إذا امتلأتْ المَعِدة نامت الفِكْرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة‏.‏

وفي كتاب «آداب النكاح» لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي‏:‏ أن من وصية لقمان‏:‏ يا بني إنما مَثَل المرأة الصالحة كمثَل الدهن في الرأس يُليِّن العروق ويحسن الشعر، ومَثَلها كمثل التاج على رأس الملك، ومثلها كمثَل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته‏.‏ ومثَل المرأة السوء كمثل السَّيْل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه‏:‏ إذا تكلمتْ أسمعت، وإذا مشت أسرعت، وإذا قعدت رفعت، وإذا غضبت أسمعت‏.‏ وكل داء يبرأ إلاَّ داء امرأة السوء‏.‏

يا بني، لأن تساكن الأسد والأسْوَد خير من أن تساكنها‏:‏ تبكي وهي الظالمة، وتحكم وهي الجائرة، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها‏.‏

وفي «مجمع البيان» للطبرسي‏:‏ يا بني، سافر بسيفك وخُفّك وعمامتك وخبائك وسِقائك وخيوطك ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقاً إلا في معصية الله عز وجل‏.‏

يا بني، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسم في وجوههم، وكن كريماً على زادك بينهم، فإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعِنْهم، واستعمِل طول الصمت وكثرة الصلاة، وسَخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحق فاشهَد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر، ولا تُجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإن من لم يمحض النصيحة من استشارة سلبه الله رأيه، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم، واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً‏.‏ وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئاً فقل نعم ولا تقل ‏(‏لا‏)‏ فإن ‏(‏لا‏)‏ عِيٌّ ولؤم، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا، وإذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مُريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيّركم‏.‏ واحذروا الشخصين أيضاً إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقِل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب‏.‏

يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلِّها واسترح منها فإنها دَين، وصلِّ في جماعة ولو على رأس زَجّ‏.‏ وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً وألينها تربة وأكثرها عشباً‏.‏ وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبْعِد المذهب في الأرض‏.‏ وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثم ودّع الأرض التي حللتَ بها وسلّم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة، وإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتى تبتدئ فتتصدق منه فافعل‏.‏ وعليك بقراءة كتاب الله لعله يعني الزبور ما دمت راكباً، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملاً عملاً، وعليك بالدعاء ما دمت خالياً‏.‏ وإياك والسير في أول الليل إلى آخره‏.‏ وإياك ورفع الصوت في مسيرك‏.‏ فقد استقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير‏}‏

رجوع إلى تعداد دلائل الوحدانية وما صحب ذلك من منة على الخلق، فالكلام استئناف ابتدائي عن الكلام السابق ورجوع إلى ما سلف في أول السورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَق السَّماوات بِغَير عمد‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 10‏]‏ فإنه بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض والحيوان والأمطار عاد هنا الاستدلال والامتنان بأن سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض‏.‏ وقد مضى الكلام على هذا التسخير في تفسير قوله تعالى ‏{‏الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ الآيات من سورة إبراهيم ‏(‏32‏)‏، وكذلك في سورة النحل ‏(‏3‏)‏‏.‏

ومعنى ‏{‏سخر لكم‏}‏ لأجلكم لأن من جملة ذلك التسخير ما هو منافع لنا من الأمطار والرياح ونور الشمس والقمر ومواقيت البروج والمنازل والاتجاه بها‏.‏ والخطاب في ‏{‏ألم تروا‏}‏ يجوز أن يكون لجميع الناس مؤمنهم ومشركهم لأنه امتنان، ويجوز أن يكون لخصوص المشركين باعتبار أنه استدلال‏.‏

والاستفهام في ‏{‏ألم تروا‏}‏ تقرير أو إنكار لِعدم الرؤية بتنزيلهم منزلة من لم يروا آثار ذلك التسخير لعدم انتفاعهم بها في إثبات الوحدانية‏.‏ والرؤية بصرية‏.‏ ورؤية التسخير رؤية آثاره ودلائله‏.‏ ويجوز أن تكون الرؤية علمية كذلك، والخطاب للمشركين كما في قوله ‏{‏خلق السماوات بغير عَمد ترونها‏}‏‏.‏

وإسباغ النِعم‏:‏ إكثارها‏.‏ وأصل الإسباغ‏:‏ جعل ما يلبس سابغاً، أي وافياً في الستر‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ درع سابغة‏.‏ ثم استعير للإكثار لأن الشيء السابغ كثير فيه ما يتخذ منه من سَرْد أو شُقَق أثواب، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فقيل‏:‏ سوابغ النعم‏.‏

والنعمة‏:‏ المنفعة التي يقصد بها فاعلُها الإحسان إلى غيره‏.‏

وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر نِعَمهُ‏}‏ بصيغة جمع نعمة مضاف إلى ضمير الجلالة، وفي الإضافة إلى ضمير الله تنويه بهذه النِعم‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏نِعْمَةً‏}‏ بصيغة المفرد، ولما كان المراد الجنس استوى فيه الواحد والجمع‏.‏

والتنكير فيها للتعظيم فاستوى القراءتان في إفادة التنويه بما أسبغ الله عليهم‏.‏ وانتصب ‏{‏ظاهرة وباطنة‏}‏ على الحال على قراءة نافع ومن معه، وعلى الصفة على قراءة البقية‏.‏

والظاهرة‏:‏ الواضحة‏.‏ والباطنة‏:‏ الخفية وما لا يعلم إلا بدليل أو لا يعلم أصلاً‏.‏

وأصل الباطنة المستقرة في باطن الشيء أي داخله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏باطنه فيه الرحمة‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ فكم في بدن الإنسان وأحواله من نِعم يعلمها الناس أو لا يعلمها بعضُهم، أو لا يعلمها إلا العلماء، أو لا يعلمها أهل عصر ثم تنكشف لمن بعدهم، وكلا النوعين أصناف دينية ودنيوية‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير‏}‏

الواو في قوله ‏{‏ومن الناس من يجادل‏}‏ واو الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ قد رأيتم أن الله سخّر لكم ما في السماوات وأنعم عليكم نعماً ضافية في حال أن بعضكم يجادل في وحدانية الله ويتعامى عن دلائل وحدانيته‏.‏ وجملة الحال هنا خبر مستعمل في التعجيب من حال هذا الفريق‏.‏ ولك أن تجعل الواو اعتراضيَّة والجملة معترضة بين جملة ‏{‏ألم تروا أن الله سخر لكم‏}‏ وبين جملة ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏ومِنَ النَّاس‏}‏ من الإظهار في مقام الإضمار كأنه قيل‏:‏ ومنكم، و‏{‏مِن‏}‏ تبعيضية‏.‏ والمراد بهذا الفريق‏:‏ هم المتصدون لمحاجة النبي صلى الله عليه وسلم والتمويه على قومهم مثل النضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وعبد الله بن الزِّبْعَرى‏.‏

وشمل قوله ‏{‏بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير‏}‏ مراتبَ اكتساب العلم وهي إما‏:‏ الاجتهاد والاكتساب، أو التلقي من العالم، أو مطالعة الكتب الصائبة‏.‏ وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحج ‏(‏8‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ الخ عطف على صلة ‏{‏مَن،‏}‏ أي‏:‏ مَن حالهم هذا وذاك، وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة ‏(‏170‏)‏‏.‏

والضمير المنصوب في قوله ‏{‏يدعوهم‏}‏ عائد إلى الآباء، أي أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يَدعو الآباء إلى العذاب فهم يتبعونهم إلى العذاب ولا يهتدون‏.‏ و‏{‏لو‏}‏ وصلية، والواو معها للحال‏.‏

والاستفهام تعجيبي من فظاعة ضلالهم وعماهم بحيث يتبعون من يدعوهم إلى النار، وهذا ذم لهم‏.‏ وهو وزان قوله في آية البقرة ‏(‏170‏)‏‏:‏ ‏{‏أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً‏}‏ والدعاء إلى عذاب السعير‏:‏ الدعاء إلى أسبابه‏.‏ والسعير تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما خَبَتْ زِدْنَاهم سعيراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏97‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

هذا مقابل قوله ‏{‏ومن الناس من يجادل في الله بغير علم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 20‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يدعوهم إلى عذاب السعير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 21‏]‏، فأولئك الذين اتبعوا ما وجدوا ءاباءهم عليه من الشرك على غير بصيرة فوقعوا في العذاب، وهؤلاء الذين لم يتمسكوا بدين آبائهم وأسلموا لله لما دعاهم إلى الإسلام فلم يصدّهم عن اتباع الحق إلف ولا تقديس آباء؛ فأولئك تعلقوا بالأوهام واستمسكوا بها لإرضاء أهوائهم، وهؤلاء استمسكوا بالحق إرضاء للدليل وأولئك أرضوا الشيطان وهؤلاء اتّبعوا رضى الله‏.‏

وإسلام الوجه إلى الله تمثيل لإفراده تعالى بالعبادة كأنه لا يقبل بوجهه على غير الله، وقد تقدم في قوله تعالى ‏{‏بَلى مَن أسلم وجهه لله وهو محسن‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏112‏)‏، وقوله ‏{‏فَقُل أسلَمْتُ وجهيَ لله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏20‏)‏‏.‏

وتعدية فعل ‏{‏يُسْلم‏}‏ بحرف ‏{‏إلى‏}‏ هنا دون اللام كما في آيتي سورة البقرة ‏(‏112‏)‏ وسورة آل عمران ‏(‏20‏)‏ عند الزمخشري مجاز في الفعل بتشبيه نفس الإنسان بالمتاع الذي يدفعه صاحبه إلى آخر ويَكِلُه إليه‏.‏ وحقيقته أن يعدى باللام، أي وجهه وهو ذاته سالماً لله، أي خالصاً له كما في قوله تعالى ‏{‏فإن حاجُّوك فقل أسلمتُ وجهيَ لله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏20‏)‏‏.‏

والإحسان‏:‏ العمل الصالح والإخلاص في العبادة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ الإحسان أن تعبد الله كأنه تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏.‏ والمعنى‏:‏ ومن يسلم إسلاماً لا نفاق فيه ولا شك فقد أخذ بما يعتصم به من الهُوِيّ أو التزلزل‏.‏

وقوله ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ مضى الكلام على نظيره عند قوله تعالى ‏{‏فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏25‏)‏، وهو ثناء على المسلمين‏.‏ وتذييل هذا بقوله ‏{‏وإلى الله عاقبة الأمور‏}‏ إيماء إلى وعدهم بلقاء الكرامة عند الله في آخر أمرهم وهو الحياة الآخرة‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأمور‏}‏ للاستغراق، وهو تعميم يراد به أن أمور المسلمين التي هي من مشمولات عموم الأمور صائرة إلى الله وموكولة إليه فجزاؤهم بالخير مناسب لعظمة الله‏.‏

والعاقبة‏:‏ الحالة الخاتمة والنهاية‏.‏ و‏{‏الأمور‏:‏ جمع أمر وهو الشأن‏.‏

وتقديم ‏{‏إلى الله‏}‏ للاهتمام والتنبيه إلى أن الراجع إليه يلاقي جزاءه وافياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لما خلا ذَمّ الذين كفروا عن الوعيد وانتقل منه إلى مدح المسلمين ووعدهم عطف عِنان الكلام إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بتهوين كفرهم عليه تسلية له وتعريضاً بقلة العِبْءِ بهم لأن مرجعهم إلى الله فيريهم الجزاء المناسب لكفرهم، فهو تعريض لهم بالوعيد‏.‏

وأُسند النهي إلى كفرهم عن أن يكون محزناً للرسول صلى الله عليه وسلم مجازاً عقلياً في نهي الرسول عليه الصلاة والسلام عن مداومة الفكر بالحزن لأجل كفرهم لأنه إذا قلع ذلك من نفسه انتفى إحزان كفرهم إياه‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏يُحْزِنك‏}‏ بضم التحتية وكسر الزاي مضارع أحزنه إذا جعله حزيناً‏.‏ وقرأ البقية ‏{‏يَحْزُنك‏}‏ بفتح التحتية وضم الزاي مضارع حَزَنه بذلك المعنى، وهما لغتان‏:‏ الأولى لغة تميم، والثانية لغة قريش، والأولى أقيس وكلتاهما فُصحى ولغة تميم من اللغات التي نزل بها القرآن وهي لغة عُلْيا تميم وهم بنو دارم كما تقدم في المقدمة السادسة‏.‏ وزعم أبو زيد والزمخشري‏:‏ أن المستفيض أحْزَن في الماضي ويُحْزن في المستقبل، يريدان الشائع على ألسنة الناس، والقراءة رواية وسنة‏.‏ وتقدم في سورة يوسف ‏(‏13‏)‏ ‏{‏إنّي لَيُحزنني‏}‏ وفي سورة الأنعام ‏(‏33‏)‏ ‏{‏قد نعلم أنه ليُحزنك الذي يقولون‏}‏ وجملة ‏{‏إلينا مرجعهم‏}‏ واقعة موقع التعليل للنهي، وهي أيضاً تمهيد لوعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يتولى الانتقام منهم المدلول عليه بقوله ‏{‏فنُنبئهم‏}‏ مفرعاً على جملة ‏{‏إلينا مرجعهم‏}‏ كناية عن المجازاة؛ استعمل الإنباء وأريد لازمه وهو الإظهار كما تقدم آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏فننبئهم بما عملوا،‏}‏ فموقع حرف ‏{‏إنّ‏}‏ هنا مغننٍ عن فاء التسبب كما في قول بشار‏:‏

إن ذاك النجاح في التبكير *** و‏{‏ذات الصدور‏:‏ هي النوايا وأعراض النفس من نحو الحِقد وتدبير المكر والكفر‏.‏ ومناسبته هنا أن كفر المشركين بعضُه إعلان وبعضه إسرار قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأسِرُّوا قولكم أو اجهَروا به إنه عليم بذات الصدور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 13‏]‏، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏43‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن قوله ‏{‏إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 23‏]‏ يثير في نفوس السامعين سؤالاً عن عدم تعجيل الجزاء إليهم، فبيّن بأن الله يُمهِلُهم زمناً ثم يوقعهم في عذاب لا يجدون منه منجى‏.‏ وهذا الاستئناف وقع معترضاً بين الجمل المتعاطفة‏.‏

والتمتيع‏:‏ العطاء الموقت فهو إعطاء المتاع، أي الشيء القليل‏.‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ صفة لمصدر مفعول مطلق، أي تمتيعاً قليلاً، وقلته بالنسبة إلى ما أعدّ الله للمسلمين أو لقلة مدته في الدنيا بالنسبة إلى مدة الآخرة، وتقدم عند قوله تعالى ‏{‏ومتاع إلى حين‏}‏ في الأعراف ‏(‏24‏)‏‏.‏

والاضطرار‏:‏ الإلجاء، وهو جعل الغير ذا ضرورة، أي‏:‏ لزوم، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أضْطَرُّه إلى عذاب النار‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏126‏)‏‏.‏

والغليظ‏:‏ من صفات الأجسام وهو القوي الخشن، وأطلق على الشديد من الأحوال على وجه الاستعارة بجامع الشدة على النفس وعدم الطاقة على احتماله‏.‏ وتقدم قوله ‏{‏ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏ في سورة هود ‏(‏58‏)‏ كما أطلق الكثير على القوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 21‏]‏ باعتبار أن ما وَجَدوا عليه آباءهم هو الإشراك مع الله في الإلهية، وإن سألهم سائل‏:‏ مَن خلق السماوات والأرض يقولوا خلقهن الله، وذلك تسخيف لعقولهم التي تجمع بين الإقرار لله بالخلق وبين اعتقاد إلهية غيره‏.‏

والمراد بالسماوات والأرض‏:‏ ما يشمل ما فيها من المخلوقات ومن بين ذلك حجارة الأصنام، وتقدم نظيرها في سورة العنكبوت‏.‏ وعبر هنا ب ‏{‏لا يعلمون‏}‏ وفي سورة ‏(‏العنكبوت63‏)‏ ب ‏{‏لا يعقلون‏}‏ تفنناً في المخالفة بين القصتين مع اتحاد المعْنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏‏}‏

موقع هذه الجملة من التي قبلها موقع النتيجة من الدليل في قوله‏:‏ ‏{‏لله ما في السماوات‏}‏ فلذلك فصلت ولم تعطف لأنها بمنزلة بدل الاشتمال من التي قبلها، كما تقدم آنفاً في قوله ‏{‏يأت بها الله إن الله لطيف خبير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏؛ فإنه لما تقرر إقرارهم لله بخلق السماوات والأرض لزمهم إنتاج أن ما في السموات والأرض ملك لله ومن جملة ذلك أصنامهم‏.‏ والتصريح بهذه النتيجة لقصد التهاون بهم في كفرهم بأن الله يملكهم ويملك ما في السماوات والأرض، فهو غني عن عبادتهم محمود من غيرهم‏.‏

وضمير ‏{‏هو‏}‏ ضمير فصل مُفاده اختصاص الغِنى والحمْد بالله تعالى، وهو قصر قلب، أي ليس لآلهتهم المزعومة غنى ولا تستحق حمداً‏.‏ وتقدم الكلام على الغني الحميد عند قوله ‏{‏فإن الله غني حميد‏}‏ في أول السورة لقمان ‏(‏12‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

تكرر فيما سبق من هذه السورة وصف الله تعالى بإحاطة العلم بجميع الأشياء ظاهرةً وخفيةً فقال فيما حكى من وصية لقمان‏:‏ ‏{‏إنها إن تكُ مثقالُ حبة من خردل‏}‏ إلى قوله ‏{‏لطيف خبير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏، وقال بعد ذلك ‏{‏فنُنبئُهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 23‏]‏ فعقب ذلك بإثبات أن لعلم الله تعالى مظاهرَ يبلّغ بعضها إلى من اصطفاه من رسله بالوحي مِما تقتضي الحكمة إبلاغه، وأنه يستأثر بعلم ما اقتضت حكمته عدم إبلاغه، وأنه لو شاء أن يبلغ ما في علمه لما وفّت به مخلوقاته الصالحة لتسجيل كلامه بالكتابة فضلاً على الوفاء بإبلاغ ذلك بواسطة القول‏.‏ وقد سُلك في هذا مسلك التقريب بضرب هذا المثل؛ وقد كان ما قُصَّ من أخبار الماضين موطئاً لهذا فقد جرت قصة لقمان في هذه السورة كما جرت قصة أهل الكهف وذي القرنين في سورة الكهف ‏(‏109‏)‏ فعقبتا بقوله في آخر السورة‏:‏ ‏{‏قل لو كان البحر مِدَاداً لكلمات ربي لَنَفِد البحر قبل أن تَنْفَد كلماتُ ربي ولو جئنا بمثله مَدَداً‏}‏ وهي مشابهة للآية التي في سورة لقمان‏.‏ فهذا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من الآيات المتفرقة‏.‏

ولما في اتصال الآية بما قبلها من الخفاء أخذ أصحاب التأويل من السلف من أصحاب ابن عباس في بيان إيقاع هذه الآية في هذا الموْقع‏.‏ فقيل‏:‏ سبب نزولها ما ذكره الطبري وابن عطية والواحدي عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن يسار بروايات متقاربة‏:‏ أن اليهود سألوا رسول الله أو أغَروا قريشاً بسؤاله لمَّا سمعوا قول الله تعالى في شأنهم‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ فقالوا‏:‏ كيف وأنت تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سألوه‏:‏ هي في علم الله قليل، ثم أنزل الله ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏ الآيتين أو الآيات الثلاثَ‏.‏

وعن السدّي قالت قريش‏:‏ ما أكثر كلامَ محمدٍ فنزلت‏:‏ ‏{‏ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام‏}‏‏.‏

وعن قتادة قالت قريش‏:‏ سيتِمّ هذا الكلام لمحمد وينحسِر أي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يقول بعده كلاماً‏.‏ وفي رواية‏:‏ سينفَدُ هذا الكلام‏.‏ وهذه يرجع بعضها إلى أن هذه الآية نزلت بالمدينة فيلزم أن يكون وضعها في هذا الموضع من السورة بتوقيف نبوي للمناسبة التي ذكرناها آنفاً، وبعضها يرجع إلى أنها مكية فيقتضي أن تكون نزلت في أثناء نزول سورة لقمان على أن توضع عقب الآيات التي نزلت قبلها‏.‏

و ‏{‏كلمات‏}‏ جمع كلمة بمعنى الكلام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إنها كلمةٌ هو قائلها‏}‏

‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ أي‏:‏ الكلام المنبئ عن مراد الله من بعض مخلوقاته مما يخاطب به ملائكته وغيرَهم من المخلوقات والعناصر المعدودة للتكون التي يقال لها‏:‏ كن فتكون، ومن ذلك ما أنزله من الوحي إلى رسله وأنبيائه من أول أزمنة الأنبياء وما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم أي لو فُرض إرادة الله أن يكتب كلامَه كله صُحفاً ففُرضت الأشجار كلها مقسمة أقلاماً، وفرض أن يكون البحر مداداً فكُتب بتلك الأقلام وذلك المدادِ لنفِد البحر ونفِدت الأقلام وما نفدت كلمات الله في نفس الأمر‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَمَّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏ فالتمام هنالك بمعنى التحقق والنفوذ، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويريد الله أن يحق الحق بكلماته‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏7‏)‏‏.‏ وقد نُظمت هذه الآية بإيجاز بديع إذ ابتُدئت بحرف ‏{‏لو‏}‏ فعلم أن مضمونها أمر مفروض، وأن ل ‏{‏لو‏}‏ استعمالات كما حققه في «مغنى اللبيب» عن عبارة سيبويه‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏ولو أسمعهم لتولَّوا وهم معرضون‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏23‏)‏‏.‏

‏{‏ومن شجرة‏}‏ بيان ل ‏{‏ما‏}‏ الموصولة وهو في معنى التمييز فحقه الإفراد، ولذلك لم يقل‏:‏ من أشجار‏.‏ والأقلام‏:‏ جمع قلَم وهو العود المشقوق ليرفع به المداد ويكتب به، أي‏:‏ لو تصير كل شجرة أقلاماً بمقدار ما فيها من أغصان صالحة لذلك‏.‏ والأقلام هو الجمع الشائع لقلَم فيرَد للكثرة والقلة‏.‏ و‏{‏يَمّده‏}‏ بفتح الياء التحتية وضم الميم، أي‏:‏ يزيده مِداداً‏.‏ والمداد بكسر الميم الحِبر الذي يُكتب به‏.‏ يقال‏:‏ مَد الدَّوَاةَ يمدُها‏.‏ فكان قوله ‏{‏يمده‏}‏ متضمناً فرض أن يكون البحر مداداً ثم يُزاد فيه إذا نشف مدادُه سبعةُ أبحر، ولو قيل‏:‏ يُمده، بضم الميم من أمد لفات هذا الإيجاز‏.‏

والسبعة‏:‏ تستعمل في الكناية عن الكثرة كثيراً كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ والكافر يأكل في سبعة أمعاء ‏"‏ فليس لهذا العدد مفهوم، أي والبحر يمده أبحر كثيرة‏.‏

ومعنى ‏{‏ما نفدت كلمات الله‏}‏ ما انتهت، أي‏:‏ فكيف تحسب اليهود ما في التوراة هو منتهى كلمات الله، أو كيف يحسب المشركون أن ما نزل من القرآن أوشك أن يكون انتهاء القرآن، فيكون المَثل على هذا الوجه الآخر وارداً مورد المبالغة في كثرة ما سينزل من القرآن إغاظة للمشركين، فتكون ‏{‏كلمات الله‏}‏ هي القرآن، لأن المشركين لا يعرفون كلمات الله التي لا يحاط بها‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله عزيز حكيم‏}‏ تذييل، فهو لعزته لا يَغلبه الذين يزعمون عدم الحاجة إلى القرآن ينتظرون انفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لحكمته لا تنحصر كلماته لأن الحكمة الحق لا نهاية لها‏.‏

وقرأ الجمهور برفع ‏{‏والبحرُ‏}‏ على أن الجملة الاسمية في موضع الحال والواو واو الحال وهي حال مِن ‏{‏ما في الأرض من شجرة،‏}‏ أي‏:‏ تلك الأشجار كائنة في حال كون البحر مداداً لها، والواو يحصل بها من الربط والاكتفاء عن الضمير لدلالتها على المقارنة‏.‏ وقرأ أبو عمرو ويعقوب ‏{‏والبحرَ‏}‏ بالنصب عطفاً على اسم ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

استئناف بياني متعلق بقوله ‏{‏إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 23‏]‏ لأنه كلما ذكر أمر البعث هجس في نفوس المشركين استحالة إعادة الأجسام بعد اضمحلالها فيكثر في القرآن تعقيب ذكر البعث بالإشارة إلى إمكانه وتقريبه‏.‏ وكانوا أيضاً يقولون‏:‏ إن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً فكيف يبعثنا خلقاً جديداً في ساعة واحدة وكيف يحيي جميع الأمم والأجيال التي تضمنتها الأرض في القرون الكثيرة، وكان أُبَيّ بنُ خلف وأبو الأسد أو أبو الأسدين ونُبَيْه، ومُنبِّه، ابنا الحجاج من بني سهم، يقولون ذلك وربما أسرّ به بعضهم‏.‏ وضميرَا المخاطَبين مراد بهما جميع الخلق فهما بمنزلة الجنس، أي ما خلْقُ جميع الناس أول مرة ولا بَعْثُهم، أي خلقُهم ثاني مرة إلا كخلق نفس واحدة لأن خلق نفس واحدة هذا الخلق العجيب دال على تمام قدرة الخالق تعالى فإذا كان كامل القدرة استوى في جانب قدرته القليل والكثير والبدء والإعادة‏.‏

وفي قوله ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم‏}‏ التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد مجابهتهم بالاستدلال المُفْحِم‏.‏

وفي قوله ‏{‏كنفس واحدة‏}‏ حذف مضاف دل عليه ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم‏.‏‏}‏ والتقدير‏:‏ إلا كخلق وبعث نفس واحدة‏.‏ وذلك إيجاز كقول النابغة‏:‏

وقد خِفت حتى ما تزيدُ مخافتي *** على وَعِل في ذي المَطارة عاقِل

التقدير‏:‏ على مخافة وعل‏.‏ والمقصود‏:‏ إن الخلق الثاني كالخلق الأول في جانب القدرة‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله سميع بصير‏}‏‏:‏ إما واقعة موقع التعليل لكمال القدرة على ذلك الخلق العجيب استدلالاً بإحاطة علمه تعالى بالأشياء والأسباب وتفاصيلها وجزئياتها ومن شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة إنما يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 23‏]‏، ولأجل هذا لم يقل‏:‏ إن الله عليم قدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

استدلال على ما تضمنته الآية قبلَها من كون الخلق الثاني وهو البعث في متناول قدرة الله تعالى بأنه قادر على تغيير أحوال ما هو أعظم حالاً من الإنسان، وذلك بتغيير أحوال الأرض وأُفقها بين ليل ونهار في كل يوم وليلة تغييراً يشبه طُروّ الموت على الحياة في دخول الليل في النهار، وطروّ الحياة على الموت في دخول النهار على الليل، وبأنه قادر على أعظم من ذلك بما سخره من سير الشمس والقمر‏.‏

فهذا الاستدلال على إمكان البعث بقياس التمثيل بإمكان ما هو أعظم منه من شؤون المخلوقات بعد أن استدل عليه بالقياس الكلي الذي اقتضاه قوله ‏{‏إن الله سميع بصير‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏ من إحاطة العلم الإلهي بالمعلومات المقتضي إحاطة قدرته بالممكنات لأنها جزئيات المعلومات وفرعٌ عنها‏.‏ والخطاب لغير معين، والمقصود به المشركون بقرينة ‏{‏وأن الله بما تعملون خبير‏}‏‏.‏ والرؤية علْمية، والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم‏.‏

والإيلاج‏:‏ الإدخال‏.‏ وهو هنا تمثيل لتعاقب الظلمة والضياء بولوج أحدهما في الآخر كقوله ‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وتقدم الكلام على نظيره في قوله ‏{‏تُولج الليل في النهار‏}‏ أول سورة آل عمران ‏(‏27‏)‏، وقوله ‏{‏ذلك بأن الله يولج الليل في النهار‏}‏ الآية في سورة الحج ‏(‏61‏)‏ مع اختلاف الغرضين‏.‏

والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشَى ظُلمته تلك الأنوار النهارية، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تُلازم عملاً متماثلاً‏.‏ والكلام على تسخير الشمس والقمر مضى في سورة الأعراف‏.‏

وتنوين ‏{‏كلٌّ‏}‏ هو المسمى تنوين العوض عن المضاف إليه، والتقدير‏:‏ كلٌّ من الشمس والقمر يجري إلى أجل‏.‏

والجري‏:‏ المشي السريع؛ استعير لانتقال الشمس في فلكها وانتقال الأرض حول الشمس وانتقال القمر حول الأرض، تشبيهاً بالمشي السريع لأجل شسوع المسافات التي تقطع في خلال ذلك‏.‏

وزيادة قوله ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ للإشارة إلى أن لهذا النظام الشمسي أمداً يعلمه الله فإذا انتهى ذلك الأمد بطل ذلك التحرك والتنقل، وهو الوقت الذي يؤذن بانقراض العالم؛ فهذا تذكير بوقت البعث‏.‏ فيجوز أن يكون ‏{‏إلى أجل‏}‏ ظرفاً لغواً متعلقاً بفعل ‏{‏يجري،‏}‏ أي‏:‏ ينتهي جريه، أي سيره عند أجل معيَّن عند الله لانتهاء سيرهما‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏إلى أجل‏}‏ متعلقاً بفعل ‏{‏سَخَّر‏}‏ أي‏:‏ جعل نظام تسخير الشمس والقمر منتهياً عند أجل مقدّر‏.‏

وحرف ‏{‏إلى‏}‏ على التقديرين للانتهاء‏.‏ وليست ‏{‏إلى‏}‏ بمعنى اللام عند صاحب «الكشاف» هنا خلافاً لابن مالك وابن هشام، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى ‏{‏وسخّر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى‏}‏ في سورة فاطر ‏(‏13‏)‏‏.‏

‏{‏وأن الله بما تعملون خبير‏}‏ عطف على ‏{‏أن الله يولج الليل في النهار‏}‏، فهو داخل في الاستفهام الإنكاري بتنزيل العالم منزلة غيره لعدم جريه على موجَب العلم، فهم يعلمون أن الله خبير بما يعملون ولا يَجرون على ما يقتضيه هذا العلم في شيء من أحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

كاف الخطاب المتصلُ باسم الإشارة موجه إلى غير معين، والمقصود به المشركون بقرينة قوله ‏{‏وأن ما تدعون من دونه الباطل‏}‏ بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم‏.‏ والمشار إليه هو المذكور آنفاً وهو الإيلاج والتسخير‏.‏ وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته‏.‏

والمعنى‏:‏ أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مُسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية، فالباء للسببية، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة‏.‏ وضمير الفصل مفيد للاختصاص، أي‏:‏ هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يُدّعى إلهية غيره تعالى‏.‏

و ‏{‏الحق‏:‏ هنا بمعنى الثابت، ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهيته بقرينة السياق ولمقابلته بقوله وأن ما تدعون من دونه الباطل،‏}‏ والمعنى‏:‏ لما كان ذلك الصنع البديع مسبباً عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضاً دليلاً على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب‏.‏ والتعريف في ‏{‏الحق‏}‏ و‏{‏الباطل‏}‏ تعريف الجنس‏.‏ وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل‏.‏ وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج ‏(‏73‏)‏ لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم‏.‏

والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في ‏{‏بأن الله هو الحق‏}‏ باء السببية أن يكون قوله ‏{‏وأن ما تدعون من دونه الباطل‏}‏ عطفاً على الخبر وهو مجموع ‏{‏بأن الله‏.‏‏}‏ فالتقدير‏:‏ ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل‏.‏ ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حُذف قبل ‏{‏أنّ‏}‏ وهو حرف ‏(‏على‏)‏ أي‏:‏ ذلك دال‏.‏ وهذا كما قدر حرف ‏(‏عن‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكِحوهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ ولا يكون عطفاً على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر، أو تقدر لام العلة، أي ذلك، لأن ما تدعونه باطل؛ فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين‏.‏ وقوله ‏{‏وأن الله هو العلي الكبير‏}‏ واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أنَّ ما ذُكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية، ودال على أن ما يدعونه باطل، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم‏.‏ وقد اجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم‏.‏

والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفاً مستقراً بل قال الرضِيُّ‏:‏ إنها لا تكون إلاّ كذلك، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال‏:‏

وما لي بحمد الله لحم ولا دم ***

أي‏:‏ حالة كوني ملابساً حمد الله، أي‏:‏ غير ساخط من قضائه، ويقال‏:‏ أنت بخير النظرين، أي‏:‏ مستقر‏.‏ فالتقدير‏:‏ ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقيَّة إلهية الله تعالى، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالباء، أي ملابس لكون الله إلهاً حقاً، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير‏.‏ والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف، ويزداد وقوع جملة ‏{‏ذلك بأن الله هو الحق‏}‏ إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحاً‏.‏

وضمير الفصل في قوله وأن الله هو العلي الكبير‏}‏ للاختصاص كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله هو الغني الحميد‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 26‏]‏‏.‏

و ‏{‏العلي‏}‏‏:‏ صفة مشتقة من العلوّ المعنويّ المجازي وهو القدسية والشرف‏.‏

والكبير‏:‏ وصف مشتق من الكِبَر المجازي وهو عظمة الشأن‏.‏ وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج ‏(‏63‏)‏ مع زيادة ضمير الفصل في قوله ‏{‏وأن ما تدعون من دونه هو الباطل‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

استئناف جاء على سنن الاستئنافين اللذين قبله في قوله ‏{‏ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 20‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله يُولج الليل في النهار‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 29‏]‏، وجيء بها غير متعاطفة لئلا يتوهم السامع أن العطف على ما تخلل بينها، وجاء هذا الاستئناف الثالث دليلاً ثالثاً على عظيم حكمة الله في نظام هذا العالم وتوفيق البشر للانتفاع بما هيّأه الله لانتفاعهم به‏.‏ فلما أتى الاستئنافان الأولان على دلائل صنع الله في السماوات والأرض جاء في هذا الثالث دليل على بديع صنع الله بخلق البحر وتيسير الانتفاع به في إقامة نظام المجتمع البشري‏.‏ وتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس موجبات الشكر دواعي كفر‏.‏

فكان خلق البحر على هذه الصفة العظيمة ميسراً للانتفاع بالأسفار فيه حين لا تغني طرق البر في التنقل غناء فجعله قابلاً لحمل المراكب العظيمة، وألْهَم الإنسان لصنع تلك المراكب على كيفية تحفظها من الغرق في عباب البحر، وعصمهم من توالي الرياح والموج في أسفارهم، وهداهم إلى الحيلة في مصانعتها إذا طرأت حتى تنجلي، ولذلك وصف هذا الجري بملابسة نعمة الله فإن الناس كلما مَخرت بهم الفلك في البحر كانوا ملابسين لنعمة الله عليهم بالسلامة إلا في أحوال نادرة، وقد سميت هذه النعمة أمراً في قوله ‏{‏والفلك تجري في البحر بأمره‏}‏ في سورة الحج ‏(‏65‏)‏، أي‏:‏ بتقديره ونظام خلقه‏.‏

وتقدم تفصيله في قوله ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏65‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يُسيّركم في البرّ والبحر‏}‏ الآيات من سورة يونس ‏(‏22‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله سخّر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره‏}‏ في سورة الحج ‏(‏65‏)‏‏.‏

ويتعلق ‏{‏ليريكم‏}‏ ب ‏{‏تجري‏}‏ أي‏:‏ تجري في البحر جرياً، علةُ خَلْقه أن يريكم الله بعض آياته، أي‏:‏ آياته لكم فلم يذكر متعلق الآيات لظهوره من قوله ‏{‏ليريكم‏}‏ وجريُ الفلك في البحر آية من آيات القدرة في بديع الصنع أن خلق ماء البحر بنظام، وخلق الخشب بنظام، وجعل لعقول الناس نظاماً فحصل من ذلك كله إمكان سير الفلك فوق عباب البحر‏.‏ والمعنى‏:‏ أن جري السفن فيه حِكم كثيرة مقصودة من تسخيره، منها أن يكون آية للناس على وجود الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته‏.‏ وليس يلزم من لام التعليل انحصار الغرض من المعلَّل في مدخولها لأن العلل جزئيةٌ لا كلية‏.‏

وجملة ‏{‏إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور‏}‏ لها موقع التعليل لجملة ‏{‏ليريكم من ءاياته‏.‏‏}‏ ولها موقع الاستئناف البياني إذ يخطر ببال السامع أن يسأل‏:‏ كيف لم يهتد المشركون بهذه الآيات‏؟‏ فأفيد أن الذي ينتفع بدلالتها على مدلولها هو ‏{‏كل صبّار شكور‏}‏، ثناء على هذا الفريق صريحاً، وتعريضاً بالذين لم ينتفعوا بدلالتها‏.‏

واقتران الجملة بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لأنه يفيد في مثل هذا المقام معنى التعليل والتسبب‏.‏ وجعل ذلك عدة آيات لأن في ذلك دلائل كثيرة، أي‏:‏ الذين لا يفارقهم الوصفان‏.‏

والصبَّار‏:‏ مبالغة في الموصوف بالصبر، والشَّكور كذلك، أي‏:‏ الذين لا يفارقهم الوصفان‏.‏ وهذان وصفان للمؤمنين الموحِّدين في الصبر للضراء والشكر للسراء إذ يرجون بهما رضى الله تعالى الذي لا يتوكلون إلا عليه في كشف الضر والزيادة من الخير‏.‏ وقد تخلقوا بذلك بما سمعوا من الترغيب في الوصفين والتحذير من ضديهما قال‏:‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزِيدَنَّكم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏ فهم بين رجاء الثواب وخوف العقاب لأنهم آمنوا بالحياة الخالدة ذات الجزاء وعلموا أن مَصِيرهم إلى الله الذي أمَر ونهى، فصارا لهم خلقاً تطبعوا عليه فلم يفارقاهم البتة أو إلا نادراً؛ فأما المشركون فنظرهم قاصر على الحياة الحاضرة فهم أُسَراء العالم الحِسيّ فإذا أصابهم ضر ضجروا وإذا أصابهم نفع بَطَروا، فهم أخلياء من الصبر والشكر، فلذلك كان قوله ‏{‏لكل صبّار شكور‏}‏ كنايةً رمزية عن المؤمنين وتعريضاً رمزياً بالمشركين‏.‏ ووجه إيثار خلقي الصبر والشكر هنا للكناية بهما، من بين شعب الإيمان، أنهما أنسب بمقام السير في البحر إذ راكب البحر بين خطر وسلامة وهما مظهر الصبر والشكر، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يسيركم في البرّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك‏}‏ الآية في سورة يونس ‏(‏22‏)‏‏.‏

وفي قوله لكل صبّار شكور‏}‏ حسن التخلص إلى التفصيل الذي عقبه في قوله ‏{‏وإذا غشيهم موج كالظُّلَل‏}‏ الآية، فعطف على آيات سير الفلك إشارة إلى أن الناس يذكرون الله عند تلك الآيات عند الاضطرار، وغفلتهم عنها في حال السلامة، وهو ما تقدم مثله في قوله في سورة العنكبوت ‏(‏65‏)‏‏:‏ ‏{‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون‏}‏ وقوله في سورة يونس ‏(‏22‏)‏‏:‏ ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرَيْنَ بهم بريح طيبة‏}‏ الآيات‏.‏

والغشيان‏:‏ مستعار للمجيء المفاجئ لأنه يشبه التغطية، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُغشي الليل النهار‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏54‏)‏‏.‏

والظُّلَل‏:‏ بضم الظاء وفتح اللام‏:‏ جمع ظُلّة بالضم وهي‏:‏ ما أظلّ من سحاب‏.‏

والفاء في قوله فمنهم مقتصد‏}‏ تدلّ على مقدر كأنه قيل‏:‏ فلما نجاهم انقسموا فمنهم مقتصد ومنهم غيره كما سيأتي‏.‏ وجعل ابن مالك الفاء داخلة على جواب ‏{‏لمّا‏}‏ أي رابطة للجواب ومخالفوه يمنعون اقتران جواب ‏{‏لما بالفاء كما في مغني اللبيب‏}‏‏.‏

والمقتصد‏:‏ الفاعل للقصد وهو التوسط بين طرفين، والمقام دليل على أن المراد الاقتصاد في الكفر لوقوع تذييله بقوله ‏{‏وما يجحد بآياتنا إلاّ كل خَتّار كفور‏}‏ ولقوله في نظيره في سورة العنكبوت ‏(‏65‏)‏ ‏{‏فلما نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون‏}‏ وقد يطلق المقتصد على الذي يتوسط حالُه بين الصلاح وضده‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏ والجاحد الكفور‏:‏ هو المُفرط في الكفر والجَحد‏.‏ والجُحود‏:‏ الإنكار والنفي‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏33‏)‏‏.‏ وعلم أن هنالك قسماً ثالثاً وهو الموقن بالآيات الشاكر للنعمة وأولئك هم المؤمنون‏.‏ قال في سورة فاطر ‏(‏32‏)‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏}‏ وهذا الاقتصار كقول جرير‏:‏

كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم *** من العبيد وثلث من مواليها

أي‏:‏ والثلث الآخر من أنفسهم‏.‏

والخَتَّار‏:‏ الشديد الختر، والختر‏:‏ أشدّ الغدر‏.‏

وجملة وما يجحد‏}‏ إلى آخرها تذييل لأنها تعم كل جاحد سواء من جحد آية سير الفلك وهول البحر ويجحد نعمة الله عليه بالنجاة ومن يجحد غير ذلك من آيات الله ونعمه‏.‏ والمعنى‏:‏ ومنهم جاحد بآياتنا‏.‏ وفي الانتقال من الغيبة إلى التكلم في قوله ‏{‏بآياتنا‏}‏ التفات‏.‏

والباء في ‏{‏بآياتنا‏}‏ لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول مثل قوله ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وقول النابغة‏:‏

لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً ***

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏‏}‏

إن لم يكن ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ خطاباً خاصاً بالمشركين فهو عام لجميع الناس كما تقرر في أصول الفقه، فيعم المؤمن والمشرك والمعطل في ذلك الوقت وفي سائر الأزمان إذ الجميع مأمورون بتقوى الله وأن الخطوات الموصلة إلى التقوى متفاوتة على حسب تفاوت بُعد السائرين عنها، وقد كان فيما سبق من السورة حظوظ للمؤمنين وحظوظ للمشركين فلا يبعد أن تعقَّب بما يصلح لِكِلا الفريقين، وإن كان الخطاب خاصاً بالمشركين جرْياً على ما روي عن ابن عباس أن ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ خطاب لأهل مكة، فالمراد بالتقوى‏:‏ الإقلاع عن الشرك‏.‏

وموقع هذه الآية بعد ما تقدمها من الآيات موقع مقصد الخُطبة بعد مقدماتها إذ كانت المقدمات الماضية قد هيّأت النفوس إلى قبول الهداية والتأثر بالموعظة الحسنة، وإن لاصطياد الحكماء فُرصاً يحرصون على عدم إضاعتها، وأحسن مُثُلها قول الحريري في «المقامة الحادية عشرة»‏:‏ «فلما ألحدوا الميْت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رُباوة، متحضرٌ بهراوة، فقال‏:‏ لِمثْل هذا فليعمل العاملون، فاذكروا أيأيها الغافلون، وشمروا أيها المقصرون» الخ‏.‏‏.‏‏.‏ فأما القلوب القاسية، والنفوس المتعاصية، فلن تأسُوَها آسية‏.‏ ولاعتبار هذا الموقع جعلت الجملة استئنافاً لأنها بمنزلة الفذلكة والنتيجة‏.‏

والتقوى تبتدئ من الاعتراف بوجود الخالق ووحدانيته وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتنتهي إلى اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات في الظاهر والباطن في سائر الأحوال‏.‏ وتقدم تفصيلها عند قوله تعالى ‏{‏هدىً للمتقين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏2‏)‏ وتقدم نظير هذا في سورة الحج ‏(‏32‏)‏‏.‏

وخشية اليوم‏:‏ الخوف من أهوال ما يقع فيه إذ الزمان لا يخشى لذاته، فانتصب يوماً‏}‏ على المفعول به‏.‏ والأمر بخشيته تتضمن وقوعه فهو كناية عن إثبات البعث وذلك حظ المشركين منه الذين لا يؤمنون به حتى صار سمة عليهم قال تعالى ‏{‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لا يَجْزِي والدٌ عن ولده‏}‏ الخ صفة يوم وحذف منها العائد المجرور ب ‏(‏في‏)‏ توسعاً بمعاملته معاملة العائد المنصوب كقوله ‏{‏واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏48‏)‏‏.‏

وجَزى إذا عدي ب عن‏}‏ فهو بمعنى قضى عنه ودفع عنه، ولذلك يقال للمتقاضي‏:‏ المتجازي‏.‏

وجملة ‏{‏ولا مولود‏}‏ الخ عطف على الصفة و‏{‏مولود‏}‏ مبتدأ‏.‏ و‏{‏هو‏}‏ ضمير فصل‏.‏ و‏{‏جاز‏}‏ خبر المبتدأ‏.‏

وذكر الوالد والولد هنا لأنهما أشد محبة وحمية من غيرهم فيعلم أن غيرهما أولى بهذا النفي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه‏}‏ الآية ‏[‏عبس‏:‏ 34 35‏]‏‏.‏

وابتدئ ب ‏{‏الوالد‏}‏ لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصاً من سوء إلا فعله‏.‏ ووجه اختيار هذه الطريقة في إفادة عموم النفي هنا دون طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏123‏)‏، أن هذه الآية نزلت بمكة وأهلها يومئذ خليط من مسلمين وكافرين، وربما كان الأب مسلماً والولد كافراً وربما كان العكس، وقد يتوهم بعضُ الكافرين حين تُداخلهم الظنون في مصيرهم بعد الموت أنه إذا ظهر صدق وعيد القرآن إياهم فإن من له أب مسلم أو ابن مسلم يدفع عنه هنالك بما يُدلّ به على رَبّ هذا الدين، وقد كان قاراً في نفوس العرب التعويل على المولَى والنصير تعويلاً على أن الحَمية والأنفة تدفعهم إلى الدفاع عنهم في ذلك الجمع وإن كانوا من قبل مختلفين لهم لضيق عطن أفهامهم يقيسون الأمور على معتادهم‏.‏

وهذا أيضاً وجه الجمع بين نفي جزاء الوالد عن ولده وبين نفي جزاء الولَد عن والده ليشمل الفريقين في الحالتين فلا يتوهم أن أحد الفريقين أرجى في المقصود‏.‏

ثم أوثرت جملة ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً‏}‏ بطرق من التوكيد لم تشتمل على مثلها جملة ‏{‏لا يجزي والد عن ولده‏}‏ فإنها نظمت جملة اسمية، ووُسِّط فيها ضمير الفصل، وجعل النفي فيها منصبّاً إلى الجنس‏.‏ ونكتة هذا الإيثار مبالغة تحقيق عدم جَزْءِ هذا الفريق عن الآخر إذ كان معظمُ المؤمنين من الأبناء والشباببِ، وكان آباؤهم وأمهاتهم في الغالب على الشرك مثل أبي قحافة والد أبي بكر، وأبي طالب والد علي، وأم سعد بن أبي وقاص، وأم أسماء بنت أبي بكر، فأُريد حسم أطماع آبائهم وما عسى أن يكون من أطماعهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة بشيء‏.‏ وعبر فيها ب ‏{‏مولود‏}‏ دون ‏(‏ولد‏)‏ لإشعار ‏{‏مولود‏}‏ بالمعنى الاشتقاقي دون ‏(‏ولد‏)‏ الذي هو اسم بمنزلة الجوامد لقصد التنبيه على أن تلك الصلة الرقيقة لا تخول صاحبها التعرض لنفع أبيه المشرك في الآخرة وفاء له بما تُومئ إليه الموْلُودية من تجشّم المشقة من تربيته، فلعله يتجشم الإلحاح في الجزاء عنه في الآخرة حسماً لطمعه في الجزاء عنه، فهذا تعكيس للترقيق الدنيوي في قوله تعالى ‏{‏وقل ربّ ارحمهما كما رَبَّيَاني صغيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وصاحبْهما في الدنيا معروفاً‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ علة لجملتي ‏{‏اتقوا ربّكم واخْشَوْا يوماً‏}‏‏.‏ ووعدُ الله‏:‏ هو البعث، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخِرون عنه ساعةً ولا تستقدمون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29 30‏]‏‏.‏

وأكد الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ مُراعاة لمنكري البعث، وإذ قد كانت شبهتهم في إنكاره مشاهدة الناس يموتون وبخلفهم أجيال آخرون ولم يرجع أحد ممن مات منهم ‏{‏وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 29‏]‏‏.‏

فُرع على هذا التأكيد إبطال شبهتهم بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تَغرنَّكم الحياة الدنيا‏}‏، أي لا تغرنّكم حالة الحياة الدنيا بأن تتوهموا الباطل حقاً والضرّ نفعاً، فإسناد التغرير إلى الحياة الدنيا مجاز عقلي لأن الدنيا ظرف الغرور أو شُبْهَتِه، وفاعل التغرير حقيقة هم الذين يُضِلّونهم بالأقيسة الباطلة فيشبهون عليهم إبطاء الشيء باستحالته فذُكرت هنا وسيلة التغرير وشبهته ثم ذكر بعده الفاعل الحقيقي للتغرير وهو الغَرور‏.‏

و ‏{‏الغَرور بفتح الغين‏:‏ من يكثر منه التغرير، والمراد به الشيطان بوسوسته وما يليه في نفوس دعاة الضلالة من شبه التمويه للباطل في صورة وما يلقيه في نفوس أتباعهم من قبول تغريرهم‏.‏

وعطف ولا يغرنكم بالله الغرور‏}‏ لأنه أدخل في تحذيرهم ممن يلقون إليهم الشبه أو من أوهام أنفسهم التي تخيل لهم الباطل حقاً ليهموا آراءهم‏.‏ وإذا أريد بالغَرور الشيطان أو ما يشمله فذلك أشد في التحذير لما تقرر من عداوة الشيطان للإنسان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم لا يَفْتِننَّكم الشيطان كما أخرج أبوَيْكم من الجَنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذُوه عدواً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏، ففي التحذير شوب من التنفير‏.‏

والباء في قوله ‏{‏ولا يغرنكم بالله‏}‏ هي كالباء في قوله تعالى ‏{‏يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقرر في «الكشاف» في سورة الانفطار معنى الباء بما يقتضي أنها للسببية، وبالضرورة يكون السبب شأناً من شؤون الله يناسب المقام لا ذاتَ الله تعالى‏.‏ والذي يناسب هنا أن يكون النهي عن الاغترار بما يسوِّله الغَرور للمشركين كتوهم أن الأصنام شفعاء لهم عند الله في الدنيا واقتناعهم بأنه إذا ثبت البعث على احتمال مرجوح عندهم شفعت لهم يومئذ أصنامهم، أو يغرُّهم بأن الله لو أراد البعث كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لبعث آباءهم وهم ينظرون، أو أن يغرهم بأن الله لو أراد بعث الناس لعجّل لهم ذلك وهو ما حكى الله عنهم‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ فذلك كله غرور لهم مُسبب بشؤون الله تعالى‏.‏ ففي هذا ما يوضح معنى الباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يغرنكم بالله الغرور‏}‏ وقد جاء مثله في سورة الحديد ‏(‏14‏)‏‏.‏ وهذا الاستعمال في تعدية فعل الغرور بالباء قريب من تعديته ب ‏(‏من‏)‏ الابتدائية في قول امرئ القيس‏:‏

أغرّككِ مني أن حبَّك قَاتِلي ***

أي‏:‏ لا يغرنَّك مِن معاملتي معك أن حبك قاتلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارةً على أنه غير واقع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما يُدْرِيك لعلّ السَّاعة قريبٌ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17، 18‏]‏، فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله‏.‏

فجملة ‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لوقوعها جواباً عن سؤال مقدَّر في نفوس الناس‏.‏ والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليماً للأمة‏.‏ وقال الواحدي والبغوي‏:‏ إن رجلاً من محارب خصفة من أهل البادية سماه في «الكشاف» الحارث بن عمرو ووقع في «تفسير القرطبي» وفي «أسباب النزول» للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ متى الساعة‏؟‏ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب‏؟‏ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد‏؟‏ وماذا أكسب غداً‏؟‏ وبأي أرض أموت‏؟‏، فنزلت هذه الآية، ولا يُدرى سند هذا‏.‏ ونُسب إلى عكرمة ومقاتل، ولو صح لم يكن منافياً لاعتبار هذه الجملة استئنافاً بيانياً فإنه مقتضى السياق‏.‏

وقد أفاد التأكيد بحرف ‏{‏إن‏}‏ تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة، وذلك يتضمن تأكيد وقوعها‏.‏ وفي كلمة ‏{‏عنده‏}‏ إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن العندية شأنها الاستئثار‏.‏ وتقديم ‏{‏عند‏}‏ وهو ظرف مسند على المسند إليه يُفيد التخصيص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوي‏.‏

وجملة ‏{‏وينزل الغيث‏}‏ عطف على جملة الخبر‏.‏ والتقدير‏:‏ وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث‏.‏ والمقصود أيضاً عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نُظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة‏.‏

وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض‏.‏ ولا التفاتَ إلى من قدروا‏:‏ ‏{‏ينزل الغيث، بتقدير ‏(‏أنْ‏)‏‏}‏ المصدرية على طريقة قول طرفة‏:‏

ألا أيهذا الزاجري احضُر الوغى ***

للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة‏.‏ وإذ قد جاء هذا نسقاً في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلاً خبراً عن مسند إليه مقدم مفيداً للاختصاص بالقرينة؛ فالمعنى‏:‏ وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت‏.‏

وعطف عليه ‏{‏ويعلم ما في الأرحام‏}‏ أي‏:‏ ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكراً أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق‏.‏ وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال‏.‏ والمعنى‏:‏ ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيداً للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يقدّر الليل والنهار‏.‏

وأما قوله وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ فقد نسج على منوال آخر من النظم فجعل سَداه نفي علم أيَّة نفس بأخص أحوالها وهو حال اكتسابها القريب منها في اليوم الموالي يوم تأملها ونظرها، وكذلك مكانُ انقضاء حياتها للنداء عليهم بقلة علمهم؛ فإذا كانوا بهذه المثابة في قلة العلم فكيف يتطلعون إلى علم أعظم حوادث هذا العالم وهو حادث فنائه وانقراضه واعتياضه بعالم الخلود‏.‏ وهذا النفي للدراية بهذين الأمرين عن كل نفس فيه كناية عن إثبات العلم بما تكسب كل نفس والعلمُ بأي أرض تموت فيها كل نفس إلى الله تعالى، فحصلت إفادة اختصاص الله تعالى بهذين العِلْمين فكانا في ضميمة ما انتظم معهما مما تقدمهما‏.‏

وعبر في جانب نفي معرفة الناس بفعل الدراية لأن الدراية علم فيه معالجة للاطلاع على المعلوم ولذلك لا يعبر بالدراية عن علم الله تعالى فلا يقال‏:‏ الله يدري كذا، فيفيد‏:‏ انتفاء علم الناس بعد الحرص على علمه‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يعلم ذلك إلا الله تعالى بقرينة مقابلتهما بقوله ‏{‏وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام‏}‏‏.‏ وقد علق فعل الدراية عن العمل في مفعولين بوقوع الاستفهامين بعدهما، أي ما تدري هذا السؤال، أي جوابه‏.‏ وقد حصل إفادة اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأمور الخمسة بأفانين بديعة من أفانين الإيجاز البالغ حد الإعجاز‏.‏

ولقبت هذه الخمسة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بمفاتح الغيب وفسر بها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ففي «صحيح البخاري» من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَفاتح الغيب خمس ‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏إن الله عنده علم السَّاعة‏}‏ الآية، ومن حديث أبي هريرة‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏ في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة جواباً عن سؤال جبريل‏:‏ متى الساعة‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة‏:‏ أنها هي الأمور المغيّبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأنَّ وقوعها فَتح لما كان مغلقاً وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل‏:‏ يوم كذا مدخل الربيع؛ فلا تجد مغيبات لا قِبَل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة فأما في العَوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح عِلم في هذا العالم‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله عليم خبير‏}‏ مستأنفة ابتدائية واقعة موقع النتيجة لما تضمنه الكلام السابق من إبطال شبهة المشركين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏ كموقع قوله في قصة ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏‏:‏ ‏{‏إن الله لطيف خبير‏}‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏إنها إنْ تك مثقال حبة من خردل‏}‏ الآية ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله عليمٌ بمدى وعده خبيرٌ بأحوالكم مما جمعه قوله وما تدري نفس ماذا تكسب غداً‏}‏ الخ ولذا جمع بين الصفتين‏:‏ صفة ‏{‏عليم‏}‏ وصفة ‏{‏خبير‏}‏ لأن الثانية أخص‏.‏