فصل: الجزء الثاني والعشرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الثاني والعشرون

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

أعقب الوعيد بالوعد جرياً على سنة القرآن كما تقدم في المقدمة العاشرة‏.‏

والقنوت‏:‏ الطاعة، والقنوت للرسول‏:‏ الدوام على طاعته واجتلاب رضاه لأن في رضاه رضى الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يقنت‏}‏ بتحتية في أوله مراعاة لمدلول ‏{‏مَن‏}‏ الشرطية كما تقدم في ‏{‏من يأت منكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وقرأه يعقوب بفوقية في أوله مراعاة لما صْدَق ‏{‏مَن‏}‏، أي إحدى النساء، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يأت منكن‏}‏‏.‏

وأسند فعل إيتاء أجرهنّ إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفاً لإيتائهن الأجر لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل ‏{‏وأعتدنا‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏مرتين‏}‏ توفير الأجر وتضعيفه كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضعفين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏أجرها‏}‏ عائد إلى ‏{‏مَن‏}‏ باعتبار أنها صادقة على واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم وفي إضافة الأجر إلى ضميرها إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر‏.‏ ومضاعفة الأجر لهن على الطاعات كرامة لقدرهنّ، وهذه المضاعفة في الحالين من خصائص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لعظم قدرهن، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة فضل الآتي بها‏.‏ ودرجة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وتعمل‏}‏ بالتاء الفوقية على اعتبار معنى ‏{‏من‏}‏ الموصولة المراد بها إحدى النساء وحسنه أنه معطوف على فعل ‏{‏يقنت‏}‏ بعد أن تعلق به الضمير المجرور وهو ضمير نسوة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلَف ‏{‏ويعمل‏}‏ بالتحتية مراعاة لمدلول ‏{‏مَن‏}‏ في أصل الوضع‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏نؤتها‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية على اعتبار ضمير الغائب عائداً إلى اسم الجلالة من قوله قبله ‏{‏وكان ذلك على الله يسيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والقول في ‏{‏أعتدنا لها‏}‏ كالقول في ‏{‏فإن الله أعدّ للمحسنات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 29‏]‏‏.‏ والتاء في ‏{‏أعتدنا‏}‏ بدل عن أحد الدالين من ‏(‏أعدّ‏)‏ لقرب مخرجيها وقصد التخفيف‏.‏ والعدول عن المضارع إلى فعل الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏أعتدنا‏}‏ لإفادة تحقيق وقوعه‏.‏

والرزق الكريم‏:‏ هو رزق الجنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ الآية‏.‏ ووصفه بالكريم لأنه أفضل جنسه‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏يانسآء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن‏}‏

أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماماً يخصُّه‏.‏

وأحد‏:‏ اسم بمعنى واحد مثل‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ وهمزته بدل من الواو‏.‏ وأصلهُ‏:‏ وَحَد بوزن فَعَل، أي متوحِّد، كما قالوا‏:‏ فَرَد بمعنى منفرد‏.‏ قال النابغة يذكر ركوبه راحلته‏:‏

كان رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وَحد

يُريد على ثور وحشي منفرد‏.‏ فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا‏:‏ أَحد، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏ فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس‏.‏

ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وجد ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء ‏(‏95‏)‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنتُنَّ أفضل النساء، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص، ألا ترى إلى قوله‏:‏ حُبِّب إليكم من دنياكم النساء والطيب، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والطيبات للطيبين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن‏.‏

والتقييد بقوله‏:‏ ‏{‏إن اتقيتن‏}‏ ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة‏:‏ ‏"‏ إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل ‏"‏ فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام‏.‏

وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله‏.‏

واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة‏.‏ وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط‏.‏ أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في «شرح الترمذي» في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزاناً نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر، ثم رُفع الميزان‏.‏

والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال‏.‏ وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل‏.‏ ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب «المقاصد»‏.‏ وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها‏.‏

والأحسن أن يكون الوقف على ‏{‏إن اتقيتن‏}‏، وقوله ‏{‏فلا تخضعن‏}‏ ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط‏.‏

فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة، وفيها منافقوها‏.‏

وابتدئ من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة‏.‏ فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين‏.‏

والخضوع‏:‏ حقيقته التذلّل، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالقول‏}‏ يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية، أي لا تُخضعن القول، أي تَجعَلْنَه خاضعاً ذليلاً، أي رقيقاً متفكّكا‏.‏ وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك‏:‏ ذهبت بزيد، أنك ذهبتَ مصاحباً له فأنت أذهبته معك، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة، وأفيدت التعدية بالباء‏.‏ ويجوز أن تكون الباء بمعنى ‏(‏في‏)‏، أي لا يكن منكُن لِين في القول‏.‏

والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت، أي ليكن كلامكن جزلاً‏.‏

والمرض‏:‏ حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك‏.‏

وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏10‏)‏‏.‏

وانتصب يطمَع‏}‏ في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع‏.‏

وحذف متعلِق ‏{‏فيطمع‏}‏ تنزهاً وتعظيماً لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة‏.‏

وعَطْفُ ‏{‏وقلن قولاً معروفاً‏}‏ على ‏{‏لا تَخْضَعْنَ بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار‏.‏

والقول‏:‏ الكلام‏.‏

والمعروف‏:‏ هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولاً بذيئاً من باب‏:‏ فليقل خيراً أو ليصمت‏.‏ وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏‏.‏

هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن، وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة‏.‏ وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث «الموطأ»‏.‏ وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء‏.‏

وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف‏.‏ ووجهها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قَرّ بمعنى‏:‏ أقام واستقرّ، يقولون‏:‏ قَرِرت في المكان بكسر الراء من باب عَلم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قَرْن اقْرَرْن فحذفت الراء الأولى للتخفيف من التضعيف وألقيت حركتها على القاف نظير قولهم‏:‏ أحَسْنَ بمعنى أَحْسَسْنَ في قول أبي زُبيد‏:‏

سوى أن الجياد من المطايا *** أحَسْن به فهُن إليه شُوس

وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة، وزعم أن قرِرت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قُرّة العين، والقراءة حجة عليهما‏.‏ والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرّة العين وأن المعنى‏:‏ واقررن عيوناً في بيوتكن، أي لَكُنّ في بيوتكن قُرّة عين فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن‏.‏

وقرأ بقية العشرة ‏{‏وقرن‏}‏ بكسر القاف‏.‏ قال المبرد‏:‏ هو من القرار، أصله‏:‏ اقرِرن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفاً، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا‏:‏ ظَلْت ومَسْت‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يصح أن يكون قِرْن، أي بكسر القاف أمراً من الوقار، يقال‏:‏ وَقر فلان يقِر، والأمر منه قِر للواحد، وللنساء قِرن مثل عِدن، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن مع الإِيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بيوتكن‏}‏ بكسر الباء‏.‏ وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء‏.‏

وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت، يقولون‏:‏ حُجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهُنّ لأن البيوت بناها النبي صلى الله عليه وسلم تباعاً تبعاً لبناء المسجد، ولذلك لما تُوفِّيت الأزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة ولم يُعطِ عوضاً لورثتهن‏.‏

وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله أَذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن ‏"‏ يريد حاجات الإِنسان‏.‏ ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين‏.‏ وقد خرجت عائشة إلى بيت أبيها أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها‏:‏ ‏"‏ وإنما هو اليومَ مالُ وارث ‏"‏ رواه في «الموطأ»‏.‏ وكُنّ يخرُجْن للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحَضَر، وأبت سودة أن تخرج إلى الحجّ والعمرة بعد ذلك‏.‏ وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏‏.‏

ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يُمَرّ عليها بجنازته في المسجد لتدعو له، أي لتصلي عليه‏.‏ رواه في «الموطأ»‏.‏

وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى‏:‏ وقْعةَ الجَمَل، فلم يغير عليها ذلك كثير من جِلّة الصحابة منهم طلحة والزبير‏.‏ وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل‏:‏ عَمار بن ياسر، وعلي بن أبي طالب، ولكلَ نظَر في الاجتهاد‏.‏ والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها إلى البصرة مصلحة للمسلمين لتسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلّقوا بها وشكَوْا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة ورجَوْا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين، وظنّوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القَرار المأمور به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏ يكافئ الخروج للحج‏.‏ وأخذت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة، فكان ذلك منها عن اجتهاد‏.‏ وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما‏.‏ وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب، كقولنا في تقاتلهم في صِفِّين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتَلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل‏.‏ ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علاّته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقّفوا الغثّ والسمين‏.‏ وما يذكر عنها رضي الله عنها‏:‏ أنها كانت إذا قَرأت هذه الآية تبكي حتى يبتلّ خمارها، فلا ثقة بصحة سنده، ولو صحّ لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية‏.‏

‏{‏وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى‏}‏‏.‏

التبرج‏:‏ إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏ في سورة النور ‏(‏60‏)‏‏.‏

وانتصب ‏{‏تبرج الجاهلية الأولى‏}‏ على المفعول المطلق، وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرّج‏.‏ والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهياتٌ عنه‏.‏ وفيه تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج، فإن المدينة أيامئذٍ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كُنَّ على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقاً حتى في الأحوال التي رُخّص للنساء التبرج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف‏.‏

فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا مَا أقرّه الإسلام‏.‏

و ‏{‏الجاهلية‏}‏‏:‏ المدة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، وتأنيثها لتأويلها بالمُدة‏.‏ والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏154‏)‏‏.‏

ووصفُها ‏{‏بالأولى‏}‏ وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام، وجاء الإِسلام بعدها فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏، وكقولهم‏:‏ العشاء الآخرة، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية‏.‏ ومن المفسرين من جعلوه وصفاً مقيِّداً وجعلوا الجاهلية جاهليتين، فمنهم من قال‏:‏ الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون جاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا للرجال، ووضعوا حكايات في ذلك مختلفة أو مبالغاً فيها أو في عمومها، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد‏.‏

‏{‏وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله‏}‏‏.‏

أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم‏.‏ وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم التكاليف الشرعية‏.‏

وخصّ الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء الأمر عاماً بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرّتاه إلى ما وراءهما، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ وقد بيناه في سورة العنكبوت ‏(‏45‏)‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّركم تَطْهِيراً‏}‏‏.‏

متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏ فإن موقع ‏{‏إنما‏}‏ يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف ‏(‏إنَّ‏)‏ جزء من ‏{‏إنما‏}‏ وحرف ‏(‏إن‏)‏ من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما بينه الشيخ عبد القاهر، فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات‏.‏

وهذا التعليل وقع معترضاً بين الأوامر والنواهي المتعاطفة‏.‏

والتعريف في ‏{‏البيت‏}‏ تعريف العهد وهو بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة فالمراد بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه صاحبة ذلك، ولذلك جاء بعده قوله‏:‏ ‏{‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏، وضميرَا الخطاب موجهان إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سَنن الضمائر التي تقدمت‏.‏ وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب لأنه رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر هذا الخطاب إذ هو مبلغه‏.‏ وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهنّ لأجل مقام النبي صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والطيبات للطيبين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏ يعني أزواج النبي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله في قصة إبراهيم‏:‏ ‏{‏رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 73‏]‏ والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها‏.‏

و ‏{‏الرجس‏}‏ في الأصل‏:‏ القذر الذي يلوّث الأبدان، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عِرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولاً مكروهاً كالجسم الملوّث بالقذر‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجس من عمل الشيطان‏}‏ في سورة العقود ‏(‏90‏)‏‏.‏ واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهراً‏.‏

واستعير الإِذهاب للإِنجاء والإِبعاد‏.‏

وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها، وإذا أراد الله أمراً قدّره إذ لا رادّ لإِرادته‏.‏

والمعنى‏:‏ ما يريد الله لكُنّ مما أمركن ونهاكن إلا عصمتَكُنّ من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوامَ ذلك، أي لا يريد من ذلك مقتاً لكنّ ولا نكاية‏.‏ فالقصر قصر قلب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وهذا وجه مجيء صيغة القصر ب ‏{‏إنما‏}‏‏.‏ والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيئه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن‏.‏

و ‏{‏أهل البيت‏}‏‏:‏ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحداً شك في ذلك، ولم يفهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون إلا أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهنّ‏.‏

وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عُمر بن أبي سلمة قال‏:‏ لما نزلت على النبي‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ في بيت أم سلمة دعا فاطمةَ وحسناً وحسيناً فجَلَّلهم بكساء وعليٌّ خلْف ظهره ثم قال‏:‏

‏"‏ اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يَسِمْه الترمذي بصحة ولا حُسن، ووسمه بالغرابَة‏.‏ وفي «صحيح مسلم» عن عائشة‏:‏ خرج رسول الله غداةً وعليه مرط مرحَّل فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏‏.‏ وهذا أصرح من حديث الترمذي‏.‏

فمَحمله أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهلَ بيته كما ألحق المدينةَ بمكة في حكم الحَرَمية بقوله‏:‏ ‏"‏ إن إبراهيم حرّم مكة وإني أحرّم ما بينَ لابتيها ‏"‏‏.‏ وتَأوُّل البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون‏:‏ فيهم البيتُ والعَدد، ويكون هذا من حَمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة‏.‏ وكأنَّ حكمة تجليلهم معه بالكساء تقويةُ استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريباً لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوباً إليه، وبهذا يتضح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح الآية، وأن فاطمة وابنيْها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها‏.‏ ولذلك هُمْ أهل بيته بدليل السنة، وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، بعضه بالجعل الإلهي، وبعضه بالجعل النبوي، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سَلْمان منّا أهلَ البيت ‏"‏‏.‏ وقد استوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليّاً وحسناً وحسيناً‏.‏ وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثاً واحداً نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي بن أبي طالب فقالت‏:‏ فيه نزلت‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ وذكرتْ خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء ‏(‏وذكر مصحّح طبعة «تفسير ابن كثير» أن في متن ذلك الحديث اختلافاً في جميع النسخ ولم يفصله المصحّح‏)‏‏.‏

وقد تلقّف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان، وزعموا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لسن من أهل البيت‏.‏ وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبي‏.‏ وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله‏:‏ «هؤلاء أهل بيتي» صيغة قصر وهو كقوله تعالى‏:‏

‏{‏إن هؤلاء ضيفي‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 68‏]‏ ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها‏.‏ ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين، وأن منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها‏.‏ ويدل لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنه قال‏:‏ من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال أيضاً‏:‏ ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق‏.‏ وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبي الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة‏.‏

وأما ما وقع من قول عُمر بن أبي سلمة‏:‏ أن أم سلمة قالت‏:‏ وأنا معهم يا رسول الله‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أنت على مكانك وأنتِ على خير ‏"‏‏.‏ فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن ما سألته من الحاصل، لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً لها‏.‏ وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة‏:‏ ‏"‏ إنككِ من أزواج النبي ‏"‏‏.‏ وهذا أوضح في المراد بقوله‏:‏ «إنك على خير»‏.‏

ولما استجاب الله دعاءه كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابنيهما، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول‏:‏ ‏"‏ الصلاة يا أهل البيت ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً‏}‏ ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليذهب‏}‏ لام جرّ تزاد للتأكيد غالباً بعد مادتي الإرادة والأمر، وينتصب الفعل المضارع بعدها ب ‏(‏أنْ‏)‏ مضمرة إضماراً واجباً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمرنا لنسلم لرب العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏، وقول كثير‏:‏

أُريد لأنسَى حبها فكأنما *** تمثَّلُ لي ليلى بكل مكان

وعن النحاس أن بعض القراء سماها ‏(‏لام أَنْ‏)‏ وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏26‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أهل البيت‏}‏ نداء للمخاطبين من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد شمل كلَّ من ألحق النبي صلى الله عليه وسلم بهن بأنه من أهل البيت وهم‏:‏ فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدُو هؤلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

لما ضمِن الله لهن العظمة أمرهن بالتحلي بأسبابها والتملّي من آثارها والتزود من علم الشريعة بدراسة القرآن ليجمع ذلك اهتداءَهن في أنفسهن ازدياداً في الكمال والعلم، وإرشادَهن الأمة إلى ما فيه صلاح لها من علم النبي صلى الله عليه وسلم

وفعل ‏{‏اذْكُرن‏}‏ يجوز أن يكون من الذُّكر بضم الذال وهو التذكّر، وهذه كلمة جامعة تشمل المعنى الصريح منه، وهو أن لا ينسَيْن ما جاء في القرآن ولا يغفلن عن العمل به، ويشمل المعنى الكنائي وهو أن يراد مراعاة العمل بما يتلى في بيوتهن مما ينزل فيها وما يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وما يبيّن فيها من الدين، ويشمل معنى كنائياً ثانياً وهو تذكر تلك النعمة العظيمة أَن كانت بيوتهن موقع تلاوة القرآن‏.‏

ويجوز أن يكون من الذِّكر بكسر الذال، وهو إجراء الكلام على اللسان، أي بلّغْنَه للناس بأن يقرأن القرآن ويبلغن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته‏.‏ وفيه كناية عن العمل به‏.‏ والتلاوة‏:‏ القراءة، أي إعادة كلام مكتوب أو محفوظ، أي ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم و‏{‏من آيات الله والحكمة‏}‏ بيان لما يتلى فكل ذلك متلوّ، وذلك القرآن، وقد بين المتلو بشيئين‏:‏ هما آيات الله، والحكمة، فآيات الله يعم القرآن كلَّه، لأنه معجز عن معارضته فكان آية على أنه من عند الله‏.‏

وعطف ‏{‏والحكمة‏}‏ عطف خاص على عام وهو ما كان من القرآن مواعظ وأحكاماً شرعية، قال تعالى بعد ذكر الأحكام التي في سورة الإِسراء ‏(‏39‏)‏ ‏{‏ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة‏}‏ أي ما يتلى في بيوتهن عند نزوله، أو بقراءة النبي ودراستهن القرآن، ليتجدد ما علِمْنه ويلمع لهن من أنواره ما هو مكنون لا ينضُب معينه، وليكُنّ مشاركاتتٍ في تبليغ القرآن وتواتره، ولم يزل أصحاب رسول الله والتابعون بعدهم يرجعون إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام النساء ومن أحكام الرجل مع أهله، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 42‏]‏، أي بلغ خبر سجني وبقائي فيه‏.‏

وموقع مادة الذكر هنا موقع شريف لتحملها هذه المحامل ما لا يتحمله غيرها إلا بإطناب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إن الله تعالى أمر نبيئه عليه الصلاة والسّلام بتبليغ ما أنزل إليه فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من تبعه أن يبلغه إلى غيره ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة‏.‏

وقد تكرر ذكر الحكمة في القرآن في مواضع كثيرة، وبيّنّاه في سورة البقرة‏.‏

وتقدم قريباً اختلاف القراء في كسر باء ‏(‏بيوت‏)‏ أو ضمها‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله كان لطيفاً خبيراً‏}‏ تعليل للأمر وتذييل للجمل السابقة‏.‏

والتعليل صالح لمحامل الأمرِ كلها لأن اللطف يقتضي إسداء النفع بكيفية لا تشقّ على المُسدَى إليه‏.‏

وفيما وُجّه إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي ما هو صلاح لهن وإجراء للخير بواسطتهن، وكذلك في تيسيره إياهن لمعاشرة الرسول عليه الصلاة والسلام وجعلهن أهل بيوته، وفي إعدادهن لسماع القرآن وفهمه، ومشاهدة الهدي النبوي، كل ذلك لطف لهن هو الباعث على ما وجهه إليهن من الخطاب ليتلقّيْن الخبرَ ويبلغنه، ولأن الخبير، أي العليم إذا أراد أن يُذهب عنهن الرجس ويطهرهن حصل مراده تاماً لا خلل ولا غفلة‏.‏

فمعنى الجملة أنه تعالى موصوف باللطف والعلم كما دلّ عليه فعل ‏{‏كان‏}‏ فيشمل عمومُ لطفِه وعلمِه لطفَه بهن وعلمَه بما فيه نفعهن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏ بعدَ قوله‏:‏ ‏{‏لستن كأحد من النساء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏ يثير في نفوس المسلمات أن يسألَنْ‏:‏ أَهُنَّ مأجورات على ما يعملن من الحسنات، وأهنّ مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم تلك خصائص لنساء النبي عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن فيما إذا ذكر مأمورات يُعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها‏.‏ ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

روى ابن جرير والواحدي عن قتادة‏:‏ أن نساءً دخلْنَ على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن‏:‏ قد ذَكَرَكُنّ الله في القرآن ولم يذكرنا بشيء، ولو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وروى النسائي وأحمد‏:‏ أن أم سلمة قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وروى الترمذي والطبراني‏:‏ «أن أم عُمارة الأنصارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ما أرى النساء يُذْكَرن بشيء» فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال الواحدي‏:‏ «قال مقاتل‏:‏ بلغني أن أسماء بنت عُميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النبي فقالت‏:‏ هل نزل فينا شيء من القرآن‏؟‏ قيل‏:‏ لا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار‏.‏ قال‏:‏ ومم ذلِك‏؟‏ قالت‏:‏ لأنهن لا يذكرن بالخير كما يذكر الرجال فأنزل الله هذه الآية»‏.‏

فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساءُ، وأما ذِكْر الرجال فللإِشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصاً بالرجال إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء، فشريعة الإِسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نُصّ على تخصيصه بأحد الصنفين، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأَغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة، ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة‏.‏

وسُلك مسلك الإِطناب في تعداد الأوصاف لأن المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام الناس في ذلك، على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية‏.‏

وبهذه الآثار يظهر اتصال هذه الآيات بالتي قبلها‏.‏ وبه يظهر وجه تأكيد هذا الخبر بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لدفع شك من شك في هذا الحكم من النساء‏.‏

والمراد ب ‏{‏المسلمين والمسلمات‏}‏ من اتصف بهذا المعنى المعروف شرعاً‏.‏ والإِسلام بالمعنى الشرعي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصومُ رمضان وحج البيت، ولا يعتبر إسلاماً إلا مع الإيمان‏.‏ وذكرُ ‏{‏المؤمنين والمؤمنات بعده للتنبيه على أن الإِيمان هو الأصل، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ في البقرة ‏(‏132‏)‏‏.‏

والمراد ‏{‏بالمؤمنين والمؤمنات‏}‏ الذين آمنوا‏.‏ والإِيمان‏:‏ أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقَدر خيرِه وشره‏.‏ وتقدم الكلام على الإِيمان في أوائل سورة البقرة‏.‏

و ‏{‏والقانتين والقانتات‏}‏‏:‏ أصحاب القنوت وهو الطاعة لله وعبادته، وتقدم آنفا ‏{‏ومن يقنت منكن لله ورسوله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏الصادقين والصادقات‏}‏ من حصَل منهم صدق القول وهو ضد الكذب، والصدق كله حسن، والكذب لا خير فيه إلا لضرورة‏.‏ وشمل ذلك الوفاءَ بما يُلتزم به من أمور الديانة كالوفاء بالعهد والوفاء بالنذر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين صدقوا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏

‏{‏وبالصابرين والصابرات‏}‏‏:‏ أهل الصبر والصبر محمود في ذاته لدلالته على قوة العزيمة، ولكن المقصود هنا هو تحمل المشاق في أمور الدين، وتحمُّل المكاره في الذبّ عن الحوزة الإسلامية، وتقدم مستوفى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا‏}‏ آخر سورة آل عمران ‏(‏200‏)‏‏.‏

و ‏{‏بالخاشعين والخاشعات‏}‏‏:‏ أهلُ الخشوع، وهو الخضوع للَّه والخوفُ منه، وهو يرجع إلى معنى الإِخلاص بالقلب فيما يعمله المكلف، ومطابقة ذلك لما يَظهر من آثاره على صاحبه‏.‏ والمراد‏:‏ الخشوع للَّه بالقلب والجوارح، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏

و ‏{‏بالمتصدقين والمتصدقات‏}‏‏:‏ من يبذل الصدقة من ماله للفقراء، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا من أمر بصدقة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏114‏)‏‏.‏ وفائدة ذلك للأمة عظيمة‏.‏

وأما ‏(‏الصائمون والصائمات‏)‏ فظاهرٌ ما في الصيام من تخلق برياضة النفس لطاعة الله، إذ يترك المرء ما هو جبلي من الشهوة تقرباً إلى الله، أي برهاناً على أن رضى الله عنه ألذُّ عنده من أشد اللذات ملازمة له‏.‏

وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية، وهي في الرجل أشد، وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك فقال في يحيى ‏{‏وحَصوراً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ وقال في مريم ‏{‏والتي أحصنت فرجها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏، وهذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة، فالمراد‏:‏ حفظ الفروج عن أن تستعمل فيما نهي عنه شرعاً، وليس المراد‏:‏ حفظها عن الاستعمال أصلاً وهو الرهبنة، فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى‏.‏

وأما ‏(‏الذاكرون والذاكرات‏)‏ فهو وصف صالح لأن يَكون من الذِّكر بكسر الذال وهو ذكر اللسان كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكُرْكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وقوله في الحديث‏:‏ «ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» ومن الذُّكر بضمها كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏واذكرن ما يتلى في بيوتكن‏}‏

‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏، والذي في قوله‏:‏ ‏{‏ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏‏.‏

ومفعول و‏{‏الحافظات‏}‏ محذوف دل عليه ما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏والحافظين فروجهم‏}‏، وكذلك مفعول و‏{‏الذاكرات‏}‏‏.‏

وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها‏.‏

فالإِسلام‏:‏ يجمع قواعد الدين الخمس المفروضةَ التي هي أعمال، والإِيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإِسلام كلها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والقنوت‏:‏ يجمع الطاعات كلّها مفروضَها ومسنُونها، وتركَ المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها، وهو معنى التوبة، فالقنوت هو تمام الطاعة، فهو مساوٍ للتقوى‏.‏ فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم‏.‏

والصدق‏:‏ يجمع كلّ عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلّها‏.‏ ومن الصدق صدق الأفعال‏.‏

والصبر‏:‏ جامع لما يختص بتحمل المشاقّ من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإِنصاف من النفس‏.‏

والخشوع‏:‏ الإخلاص بالقلب والظاهر، وهو الانقياد وتجنب المعاصي، ويدخل فيه الإِحسان وهو المفسر في حديث جبريل «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»‏.‏ ويدخل تحت ذلك جميع القُرَب النوافل فإنها من آثار الخشوع، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها‏.‏

والتصدق‏:‏ يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإِرفاق‏.‏

والصوم‏:‏ عبادة عظيمة، فلذلك خُصصت بالذكر مع أن الفرض منه مشمول للإِسلام في قوله‏:‏ ‏{‏إن المسلمين والمسلمات‏}‏ ويفي صوم النافلة، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ الصوم لي وأنا أجزي به ‏"‏‏.‏ وحفظ الفروج‏:‏ أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها‏.‏

وذكرُ اللَّه كما علمت له محملان‏:‏

أحدهما‏:‏ ذكرهُ اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيَتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ‏"‏ ففي قوله‏:‏ «وذكرهم اللَّه» إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذِكر الله وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكرْكُم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وقال فيما أخبر عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وإن ذكرني في مَلأَ ذكرته في ملأ خير منهم ‏"‏‏.‏ وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار‏.‏

والمحمل الثاني‏:‏ الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى‏:‏

‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحِرابة والإِضرار بالناس في المعاملات‏.‏ ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده ب ‏{‏كثيراً‏}‏ لأن المرء إذا ذَكَر الله كثيراً فقد استغرق ذكره على المحملين جميعَ ما يُذكر الله عنده‏.‏

ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في تفاصيلها‏.‏

والمغفرة‏:‏ عدم المؤاخذة بما فَرَط من الذنوب، وقد تقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم تغفر لنا وترحمنا لكونن من الخاسرين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏23‏)‏‏.‏ واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب‏:‏ الفاءِ وثم، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتاً لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفُه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات، فإذا قلت‏:‏ وجدت فيهم الكريم والشجاع والشاعر كان المعنى‏:‏ أنك وجدتَ فيهم ثلاثة أُناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات‏.‏ وفي الحديث‏:‏ فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة أي أصحاب المرض والضعف والحاجة، بخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1 3‏]‏ فإن الأوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد‏.‏ ولهذا فحقّ جملة ‏{‏أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً‏}‏ أن تكون خبراً في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل‏:‏ إن المسلمين أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً، إن المسلمات أعدّ الله لهن مغفرة وأجراً عظيماً، وهكذا‏.‏ والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل ‏{‏أعد‏}‏ قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإِخبار به عن كل واحد من الموصوفات المتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يُعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر‏.‏

وأما صحة الإِخبار بفعل ‏{‏أعد‏}‏ عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول وهو ‏{‏مغفرة‏}‏ فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المُذنِب وعداً من الله بقوله‏:‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وألحَقَت السنة بموجبات المغفرة الحجّ المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى‏.‏

والوجه في تفسير ذلك عندي‏:‏ أن تُحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملاً أُراعي فيه الجري على سَنَن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإِسلام كقوله‏:‏

‏{‏أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 4‏]‏ فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب‏.‏

والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإِجمال بالجمع بين أدلة الشريعة‏.‏ وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدّي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرّج عليه فيما رأيت سوى صاحب «الكشاف» فجعل معنى قوله‏:‏ ‏{‏أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً‏}‏‏:‏ أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً، وجعل واو العطف بمعنى المعية، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات، وهذا تكلّف وصنع باليد، وتبعه البيضاوي وكثير‏.‏ ويعكّر عليه أن جمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة، إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل ‏{‏والذاكرين الله والذاكرات‏}‏ على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي، فيكون الذكر القلبي شاملاً للتوبة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللَّه فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية، فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هوناً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يجزون الغرفة بما صبروا‏}‏ الآية في سورة الفرقان ‏(‏63، 75‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خِطبة زينب بنت جحش على زيد بن حارثة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على فتاهُ زيدٍ بن حارثة زينبَ بنتَ جحش فاستنكفت وأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة‏}‏ الآية، فتابعتْه ورضِيتَ لأن تزويج زينب بزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ويَكون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحاقاً لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ الذي يظهر أنه وقع بعد وقعة الأحزاب وقد علم الله ذلك من قبلُ فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد‏.‏

ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها من سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما‏.‏

وروي عن جابر بن زيد أن سبب نزول هذه الآية‏:‏ أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط وكانت أول من هاجَرن من النساء وأنها وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد بن حارثة، بعد أن طلق زيْدٌ زينَب بنتَ جحش كما سيأتي قريباً، فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت‏:‏ إنما أردت رسولَ الله فزوجني عبده ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية‏.‏

والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلما أُعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر، وسوّى في ذلك بين الرجال والنساء، أعقبه ببيان أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمرَ هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية‏.‏

وإقحام ‏{‏كان‏}‏ في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل ‏{‏كان‏}‏ لدلالته على الكون، أي الوجود يقتضي نفيُه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة‏.‏

والمصدر المستفاد من ‏{‏أن تكون لهم الخيرة‏}‏ في محل رفع اسم ‏{‏كان‏}‏ المنفية وهي ‏{‏كان‏}‏ التامة‏.‏

وقضاء الأمر تبيينه والإِعلام به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏إذا قضى الله ورسوله‏}‏ إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خياراً في الامتثال، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازاً من نحو قوله للذين وجدهم يأبِرون نخلهم‏:‏ «لو تركتموها لصلحت ثم قالوا تركناها فلم تصلح فقال‏:‏ أنتم أعلم بأمور دنياكم»‏.‏

ومن نحو ما تقدم في أول هذه السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدْين، ومن نحو أمرِه يوم بدر، بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن المنذر‏:‏ أهذا منزل أنزلكَه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرْب والمكيدة‏؟‏ قال‏:‏ «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»‏.‏ قال‏:‏ فإنَّ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزِلَه ثم نُغَوِّرَ ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لقد أشرت بالرأي ‏"‏ فنهض بالناس‏.‏ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان صائماً، فلما غَربت الشمس قال لبلال‏:‏ ‏"‏ انْزلْ فاجدَحْ لنا ‏"‏ فقال‏:‏ يا رسول الله لو أمسيتَ‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ انزِل فاجدَح لنا ‏"‏ فقال‏:‏ يا رسول الله لو أمسيتَ إن عليك نهاراً ثم قال‏:‏ «انزل فاجدَح»، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب‏.‏ فمراجعة بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه علم أن الأمر غير عزم‏.‏

وذكر اسم الجلالة هنا للإِيماء إلى أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة للَّه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏‏.‏ فالمقصود إذا قضى رسول الله أمراً كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لله خمسه وللرسول‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏41‏)‏ إذ المقصود‏:‏ فإن للرسول خُمُسَه‏.‏

و ‏{‏الخيرة‏}‏‏:‏ اسم مصدر تخير، كالطِيرة اسم مصدر تَطَيَّر‏.‏ قيل ولم يسمع في هذا الوزن غيرهما، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لهم الخِيرة‏}‏ في سورة القصص ‏(‏68‏)‏‏.‏

ومَن‏}‏ تبعيضية و‏{‏أمرهم‏}‏ بمعنى شأنهم وهو جنس، أي أمورهم‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان اختيار بعض شؤونهم مِلْكاً يملكونه بل يتعين عليهم اتباع ما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لهم‏.‏

و ‏(‏مؤمن ومؤمنة‏)‏ لمّا وقعا في حيز النفي يعُمّان جميع المؤمنين والمؤمنات فلذلك جاء ضميرها ضمير جمع لأن المعنى‏:‏ ما كان لجمعهم ولا لكل واحد منهم الخِيرَة كما هو شأن العموم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أن تكون‏}‏ بمثناة فوقية لأن فاعله مؤنث لفظاً‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف وهشام وابن عامر بتحتية لأن الفاعل المؤنث غيرَ الحقيقي يجوز في فعله التذكير ولا سيما إذا وقع الفصل بين الفعل وفاعله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً‏}‏ تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ للذى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أن تَخْشَاهُ ب‏}‏‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره‏:‏ اذْكُر، وله نظائر كثيرة‏.‏ وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكُّر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك ولكنه ذَكَّر رسوله صلى الله عليه وسلم ليُرتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏وتخفي في نفسك ما الله مبديه‏}‏‏.‏ والمقصود بهذا الاعتبارُ بتقدير الله تعالى الأسبابَ لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه، ولذلك قال عقبه‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكان أمر اللَّه مفعولاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبنّي ودحض ما بناه المنافقون على أساسِه الباطِل بناءً على كفر المنافقين الذين غَمزوا مغامز في قضية تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنت جحش بعد أن طلّقها زيد بن حارثة فقالوا‏:‏ تزوج حليلة ابنه وقد نهَى عن تزوج حلائل الأبناء‏.‏ ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏ الآية‏.‏ وبالإِعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم‏.‏

وزيد هو المعنيُّ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه‏}‏، فالله أنعم عليه بالإِيمان والخلاص من أيدي المشركين بأن يسَّر دخولَه في ملك رسوله صلى الله عليه وسلم والرسول عليه الصلاة والسلام أنعم عليه بالعتق والتبنّي والمحبة، ويأتي التصريح باسمه العلم إثر هذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً‏}‏ وهو زيد بن حارثة بن شُراحيل الكلبي من كَلْب بن وَبَرة وبنو كلب من تغلب‏.‏ كانت خيل من بني القين بن جَسْر أغاروا على أبيات من بني مَعن من طيء، وكانت أم زيد وهي سعدى بنت ثعلبة من بني مَعْن خرجت به إلى قومها تَزورهم فسبقته الخيل المُغيرة وباعوه في سوق حُباشة ‏(‏بضم الحاء المهملة‏)‏ بناحية مكة فاشتراه حكيم بن حِزام لعمته خديجةَ بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏وزيد يومئذٍ ابن ثمان سنين‏)‏ وذلك قبل البعثة، فحج ناس من كلب فرأوا زيداً بمكة فعرفوه وعرفهم فأعلموا أباه ووصفوا موضعه وعند مَن هو، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وكَلَّمَا النبي صلى الله عليه وسلم في فدائه، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم إليهما فعرفهما، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏

«اخترني أو اخترهما»‏.‏ قال زيد‏:‏ ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، فانصرف أبوه وعمّه وطابت أنفسهما ببقائه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك أخرجه إلى الحِجر وقال‏:‏ «يا من حضَرَ اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه» فصار ابناً للنبيء صلى الله عليه وسلم على حكم التبني في الجاهلية وكان يُدعى‏:‏ زيد بنَ محمد‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّجه أمَّ أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجه زينب بنت جَحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أُميمة بنت عبد المطلب، وهو يومئذٍ بمكة‏.‏ ثم بعد الهجرة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ولما بطل حكم التبنّي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ صار يُدْعى‏:‏ حِبَّ رسول الله‏.‏ وفي سنة خمس قبل الهجرة بعد غزوة الخندق طلق زيد بن حارثة زينب بنت جحش فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلّقها، وتزوج دُرَّة بنت أبي لهب، ثم طلّقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير‏.‏

وشهد زيد بدراً والمغازي كلّها‏.‏ وقُتل في غزوة مُؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسين سنة‏.‏

وزوجُ زيد المذكورة في الآية هي زينبُ بنت جَحْش الأسدية وكان اسمها بَرَّة فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سمّاها زَينب، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفاً لآل عبد شمس بمكة وأمها أُميمة بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزّوجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلّقها بالمدينة، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة خمس، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة، أي سنة عشرين قبل البعثة‏.‏

والإِتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏، وفي ذلك تصوير لحثِّ النبي صلى الله عليه وسلم زيداً على إمساك زوجه وأن لا يطلقها، ومعاودته عليه‏.‏

والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العَلم الذي يأتي في قوله‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد‏}‏ لما تشعر به الصلة المعطوفة وهي ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏ من تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏ لأن المقصود منها أن زيداً أخص الناس به، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أحرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به، وأما صلة ‏{‏أنعم الله عليه‏}‏ فهي توطئة للثانية‏.‏

واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة‏:‏ أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له، فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلّت عليه بسؤددها وغضّت منه بولايته فلما تكرّر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده‏.‏

وروي عن علي زين العابدين‏:‏ أن الله أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينكح زينب بنت جحش‏.‏ وعن الزهري‏:‏ نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يُعلمه أن الله زوّجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه‏.‏ وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري وأبي بكر بن العربي‏.‏

والظاهر عندي‏:‏ أن ذلك كان في الرؤيا كما أُري أنه قال لعائشة‏:‏ ‏"‏ أتاني بككِ الملك في المنام في سَرَقَة من حرير يقول لي‏:‏ هذه امرأتك فأكْشِفُ فإذا هي أنتتِ فأقول‏:‏ إن يكن هذا من عند الله يُمضه ‏"‏‏.‏ فقول النبي صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ ‏"‏ أمسك عليك زوجك ‏"‏ توفية بحقّ النصيحة وهو أمر نصح وإشارة بخير لا أمر تشريع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المقام متصرف بحق الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينب صائرة زوجاً له لأن علم النبي بما سيكون لا يقتضي إجراءَه إرشادَه أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أبا جهل مثلاً لا يؤمن ولم يمنعه ذلك من أن يبلغه الرسالة ويعاوده الدعوة، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمِل الناسَ عليه، كما كان يرغب أن يقوم أَحد بقتل عبدَ الله بنَ سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع منه إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائباً‏.‏

ولذلك كله لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصياناً للنبي صلى الله عليه وسلم لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه‏.‏ ولا يلزم أحداً المصير إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها‏:‏ «لو راجعته‏؟‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله تأمرني‏؟‏ قال‏:‏ لا إنما أنا أشفع، قالت‏:‏ لا حاجة لي فيه»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ يؤذن بأنه جواب عن كلام صدر من زيد بأن جاء زيد مستشيراً في فراق زوجه، أو معلماً بعزمه على فراقها‏.‏

و ‏{‏أمسك عليك‏}‏ معناه‏:‏ لازِم عشرتها، فالإِمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيهاً للصاحب بالشيء الممسَك باليد‏.‏

وزيادة ‏{‏عليك‏}‏ لدلالة ‏(‏على‏)‏ على الملازمة والتمكن مثل ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ أو لتضمن ‏{‏أمسك‏}‏ معنى احبس، أي ابق في بيتك زوجك، وأمرُه بتقوى الله تابع للإِشارة بإمساكها، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحِدْ عن واجب حسن المعاشرة، أي اتق الله بملاحظة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإمساك بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وتخفى في نفسك ما الله مبديه‏}‏ عطف على جملة ‏{‏تقول‏}‏‏.‏ والإِتيان بالفعل المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏وتخفي‏}‏ للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيداً يُطَلّقها وذلك سرّ بينه وبين ربّه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة في علمه حتى يبلَّغوه؛ ألا ترى أنه لم يُعلم عائشة ولا أباهَا برؤيا إتياننِ الملَك بها في سَرَقةٍ من حرير إلا بعد أن تزوجها‏.‏

فما صْدَقُ «ما في نفسك» هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله لأن الله أبدى ذلك في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ولم يُبْدِ الله شيئاً غير ذلك، فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمراً يصلح للإظهار في الخارج، أي أن يكون من الصور المحسوسة‏.‏

وليست جملة ‏{‏وتخفي في نفسك‏}‏ حالاً من الضمير في ‏{‏تقول‏}‏ كما جعله في «الكشاف» لأن ذلك مبني على توهم أن الكلام مسوق مساق العتاب على أن يقول كلاماً يخالف ما هو مخفيّ في نفسه ولا يستقيم له معنى، إذ يفضي إلى أن يكون اللائق به أن يقول له غير ذلك وهو ينافي مقتضى الاستشارة، ويفضي إلى الطعن في صلاحية زينب للبقاء في عصمة زيد، وقد استشعر هذا صاحب «الكشاف» فقال‏:‏ «فإن قلت فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد‏:‏ أُريدُ مفارقتها، وكان من الهُجنة أن يقول له‏:‏ افعَلْ فإني أريد نكاحَها‏.‏ قلت‏:‏ كأنَّ الذي أراد منه عز وجل أن يصمُت عند ذلك أو يقول‏:‏ أنتَ أعلم بشأنك حتى لا يخالف سِرّه في ذلك علانيته» ا ه وهو بناء على أساس كونه عتاباً وفيه وهَن‏.‏

وجملة ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وتخفي في نفسك‏}‏، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه‏.‏

والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون، والكراهةُ من ضروب الخشية إذ الخشية جنس مقول على أفراده بالتشكيك فليست هي خشية خوف، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخاف أحداً من ظهور تزوجه بزينب، ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعدُ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما يبعثهم على القالة في الناس لفتنة الأمة، فكان يعلم ما سيقولونه ويمتعض منه، كما كان منهم في قضية الإِفك، ولم تكن خشيةً تبلغ به مبلغَ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون‏.‏

والتعريف في ‏{‏الناس‏}‏ للعهد، أي تخشى المنافقين، أي يؤذوك بأقوالهم‏.‏

وجملة ‏{‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس، والواو اعتراضية وليست واو الحال، فمعنى الآية معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيراً من المفسرين على جعل الكلام عتاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم

و ‏{‏أحق‏}‏ اسم تفضيل مسلوب المفاضَلَة فهو بمعنى حقيق، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله، ولا ما يفيد تعارضاً بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس، والمعنى‏:‏ والله حقيق بأن تخشاه‏.‏

وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله، لأن الله لم يكلفه شيئاً فعمل بخلافه‏.‏

وبهذا تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل إلا ما يرضي الله، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيداً بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترصه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خفية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإِيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينبَ فأسرعا خُطاهما فقال‏:‏ «على رسلكما إنما هي زينب»‏.‏ فكبر ذلك عليهما وقالا‏:‏ سبحان الله يا رسول اللَّه‏.‏ فقال‏:‏ «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما»‏.‏ فمقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستانَ يحوي أصنافاً من المرضى إذا رأى طعاماً يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهى عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه‏.‏

وليس في قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين‏.‏ وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس من سياق الكلام ما يقتضيه فأحسبهم مخطئين فيه، ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء من ذلك عن طاعة ربهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38، 39‏]‏، وأن عليه أن يعرض عن قول المنافقين، وعلى نحو قوله‏:‏ ‏{‏لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين‏}‏

‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية، وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك‏.‏

وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة، فلا تصْغغِ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر زيداً بإمساك زوجه، فإن ذلك من مختلقات القصاصين؛ فإما أن يكون ذلك اختلافاً من القصاص لتزيين القصة، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به‏.‏ ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثراً مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم، ولكنها كلها قصص وأخبار وقيل وقال‏.‏

ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزّت كثيراً من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب‏.‏ وقد تصدى أبو بكر بن العربي في «الأحكام» لوهن أسانيدها وكذلك عياض في «الشفاء»‏.‏

والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد‏.‏ ومجموع القصة من ذلك‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب متفضلة، وقيل رفعتْ الريحُ ستار البيت فرأى النبي عليه الصلاة والسلام زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبَّح للَّه، وأن زينب علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيداً علم ذلك وأنه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ ‏(‏وهو يودّ طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجاً له‏)‏‏.‏

وعلى تفاوت أسانيده في الوهن أُلقي إلى الناس في القصة فانتُقل غَثه وسمينه، وتُحُمِّل خِفه ورزينه، فأخذ منه كلٌّ ما وسعه فهمُه ودينه، ولو كان كله واقعاً لما كان فيه مغمز في مقام النبوءة‏.‏

فأما رؤيته زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد، فإن الاستئذان واجب فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكُنَّ يستْرنَ وجوههن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ ‏(‏أي الوجه والكفين‏)‏ وزيد كان من أشد الناس اتصالاً بالنبي، وزينبُ كانت ابنةَ عمته وزوجَ مولاه ومتبنّاه، فكانت مختلطة بأهله، وهو الذي زوجها زيداً، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيتَ زيد، وإن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبلُ، فكذلك لا عَجب فيه لأن رؤية الفُجأة لا مؤاخذة عليها، وحصولَ الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنّات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يتبعه النظار نظرة‏.‏

وأما ما خطر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل لأنه خاطر لا يملك المرء صرفه عن نفسه وقد علمت أن قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ ليس بلوم، وأن قوله‏:‏ ‏{‏والله أحق أن تخشاه‏}‏ ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس‏.‏

وإنما تظهر مجالات النفوس في ميادين الفُتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المَرائِي من ضعف في النفوس وخور العزائم وكفاك دليلاً على تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المقام وهو أفضل من ترسخ قدمه في أمثاله أنه لم يزل يراجع زيداً في إمساك زوجه مشيراً عليه بما فيه خير له وزيد يرى ذلك إشارةً ونصحاً لا أمراً وشرعاً‏.‏

ولو صح أن زيداً علم مودة النبي صلى الله عليه وسلم تزوج زينب فطلقها زيد لذلك دون أمر من النبي عليه الصلاة والسلام ولا التماس لما كان عجباً فإنهم كانوا يؤثرون النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وقد تنازل له دِحية الكلبي عن صفية بنت حُيَي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خَيبر، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمان بن عوف أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه يختارها للمؤاخاة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما‏.‏

وأما إشارة النبي عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة، وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحةً وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل‏.‏ والتخليط بين الحالين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم اللَّه في الباطن، وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث‏.‏ وليس هذا من خائنة الأعين، كما توهمه من لا يُحسن، لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد‏.‏

وليس هو أيضاً من الكذب لأن قول النبي عليه الصلاة والسّلام لزيد ‏{‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏}‏ لا يناقض رغبته في تزوجها وإنما يناقضه لو قال‏:‏ إنّي أُحب أن تمسك زوجك، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار‏.‏ ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه، فضلاً على كون ما في هذه القصة إنما هو تخالُف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثّر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت‏:‏ لو كان رسول الله كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك‏}‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ أرادت أن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سراً في نفسه لم يطلع عليه أحدٌ إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد‏.‏ وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد من قوله‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏‏.‏ فلما طلقها زيد ورام تزوجها علم أن المنافقين سيرجفون بالسوء، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خَبره بلَّغه ولم يكتمه مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع ولا نقص مصلحة، فلو كان كاتماً لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربّه تعالى، ولكنه لما كان وحياً بلّغه لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه‏.‏

واعلم أن للحقائق نِصابها، وللتصرفات موانعها وأسبابَها، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد، فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد، فإذا تفشَّت أحوال في عاداتهم استحسنوها ولو ساءت، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها، والمباعدة بين الحقائق وشرعها‏.‏

ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش ليقلعها من أقاصيها، وينزلها من صياصيها، فالحسن المشروع ما تشهد الفطرة لحسنه، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً‏}‏‏.‏

تفريع على جملة ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه‏}‏ الآية، وقد طوي كلام يدل عليه السياق، وتقديره‏:‏ فلم يقبل منك ما أشرت عليه ولم يمسكها‏.‏

ومعنى ‏{‏قضى‏}‏ استوفى وأتم‏.‏ واسم ‏{‏زيد‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فلما قضى منها وطراً، أي قضى الذي أنعم الله وأنعمت عليه، فعدل عن مقتضى الظاهر للتنويه بشأن زيد‏.‏ قال القرطبي‏:‏ قال السهيلي‏:‏ كان يقال له زيد بن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهي أنه سماه في القرآن، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم نوّه غاية التنويه ا ه‏.‏

والوطر‏:‏ الحاجة المهمة، والنهمة قال النابغة‏:‏

فمن يكن قد قضى من خَلة وطَراً *** فإنني منككِ ما قَضَّيت أوطاري

والمعنى‏:‏ فلما استتم زيد مدة معاشرة زينب فطلقها، أي فلما لم يبق له وطرٌ منها‏.‏

ومعنى ‏{‏زوجناكها‏}‏ أَذِنَّا لك بأن تتزوجها، وكانت زينب أيِّماً فتزوجها الرسول عليه الصّلاة والسّلام برضاها‏.‏

وذكر أهل السِير‏:‏ أنها زوّجها إياه أخوها أبو أحمد الضرير واسمه عبد بن جَحش، فلما أمره الله بتزوجها قال لزيد بن حارثة‏:‏ ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطُب زينب عليَّ، قال زيد‏:‏ فجئتها فوليتها ظهري توقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت‏:‏ يا زينب أرسل رسول الله يذكرك‏.‏ فقالت‏:‏ ما أنا بصانعة شيئاً حتى أُوَامر ربي، وقامت إلى مسجدها وصلَّت صلاة الاستِخارة فرضيت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فبنى بها‏.‏ وكانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول‏:‏ زوجكنَّ آباؤكن وزوّجني ربّي‏.‏ وهذا يقتضي إن لم يتول أخوها أبو أحمد تزويجها فتكون هذه خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم عند الذين يشترطون الولي في النكاح كالمالكيّة دون قول الحنفية‏.‏ ولم يذكر في الروايات أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أصدقها فعدّه بعض أهل السير من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فيكون في تزوُّجها خصوصيتان نبويّتان‏.‏

وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة، وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دَعِيِّه، فلما أبطله الله بالقول إذ قال‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل‏:‏ إن ذاك وإن صار حلالاً فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعيّ من أفضل الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم

والجمع بين اللام وكي توكيد للتعليل كأنه يقول‏:‏ ليست العلة غير ذلك، ودلت الآية على أن الأصل في الأحكام التشريعية أن تكون سواء بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة حتى يدل دليل على الخصوصية‏.‏

وجملة ‏{‏وكان أمر الله مفعولاً‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏زوجناكها‏}‏‏.‏ وأمر الله يجوز أن يراد به من أمر به من إباحة تزوج من كنّ حلائل الأدعياء، فهو بمعنى الأمر التشريعي فيه‏.‏ ومعنى ‏{‏مفعولاً‏}‏ أنه متّبع ممتثل فلا يتنزه أحد عنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد الأمر التكويني وهو ما علم أنه يكون وقَدّر أسباب كونه، فيكون معنى ‏{‏مفعولاً‏}‏ واقعاً، والأمر من إطلاق السبب على المسبب، والمفعول هو المسبب‏.‏

وتزوُّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب من أمر الله بالمعنيين‏.‏