فصل: تفسير الآيات رقم (38- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

استئناف لزيادة بيان مساواة النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في إباحة تزوج مطلقة دعيّه وبيان أن ذلك لا يخل بصفة النبوءة لأن تناول المباحات من سنة الأنبياء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏، وأن النبي إذا رام الانتفاع بمباح لميل نفسه إليه ينبغي له أن يتناوله لئلا يجاهد نفسه فيما لم يؤمر بمجاهدة النفس فيه، لأن الأليق به أن يستبقي عزيمته ومجاهدته لدفع ما أمر بتجنبه‏.‏

وفي هذا الاستئناف ابتداء لنقض أقوال المنافقين أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ابنه‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏فرض الله له‏}‏ قدّره، إذْ أَذِنَه بفعله‏.‏ وتعدية فعل ‏{‏فرض‏}‏ باللام تدل على هذا المعنى بخلاف تعديته بحرف ‏(‏على‏)‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏

والسُّنَّة‏:‏ السيرة من عمل أو خُلق يلازمه صاحبه‏.‏ ومضى القول في هل السنة اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏137‏)‏، وعلى الأول فانتصاب سنة الله‏}‏ هنا على أنه اسم وضع في موضع المصدر لدلالته على معنى فعل ومصدر‏.‏ قال في «الكشاف» كقولهم‏:‏ تُرباً وجندَلاً، أي في الدعاء، أي تَرب تُرباً‏.‏ وأصله‏:‏ تُرْب له وجندَلٌ له‏.‏ وجاء على مراعاة الأصل قول المعري‏:‏

تمنتْ قُوَيْقاً والسراة حِيالها *** تُرَابٌ لها من أَينق وجِمال

ساقه مساق التعجب المشوب بغضب‏.‏

وعلى الثاني فانتصاب ‏{‏سنة‏}‏ على المفعول المطلق، وعلى كلا الوجهين فالفعل مقدّر دل عليه المصدر أو نائبه‏.‏ فالتقدير‏:‏ سَنّ الله سنته في الذين خلوا من قبل‏.‏

والمعنى‏:‏ أن محمداً صلى الله عليه وسلم متَّبع سُنَّة الأنبياء الذين سبقوه اتباعاً لما فرض الله له كما فرض لهم، أي أباح‏.‏

والمراد ب ‏{‏الذين خلوا‏}‏‏:‏ الأنبياء بقرينة سياق لفظ النبي، أي الذين خلوا من قبل النبوءة، وقد زاده بياناً قوله‏:‏ ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه‏}‏، فالأنبياء كانوا متزوجين وكان لكثير منهم عدة أزواج، وكان بعض أزواجهم أحب إليهم من بعضهن‏.‏

فإن وقفنا عند ما جاء في هذه الآية وما بيّنته الآثار الصحيحة فالعبرة بأحوال جميع الأنبياء‏.‏

وإن تلقَّيْنا بشيء من الإغضاء بعضَ الآثار الضعيفة التي أُلصِقت بقصة تزوج زينب كان داود عليه السلام عبرة بالخصوص فقد كانت له زوجات كثيرات وكان قد أحب أن يتزوج زَوجة ‏(‏أوريا‏)‏ وهي التي ضرب الله لها مثلاً بالخصم الذين تسَوّرُوا المحراب وتشاكوا بين يديه‏.‏ وستأتي في سورة ص، وقد ذكرت القصة في «سفر الملوك»‏.‏ ومحلّ التمثيل بداود في أصل انصراف رغبته إلى امرأة لم تكن حلالاً له فصارت حلالاً له، وليس محلّ التمثيل فيما حَفّ بقصة داود من لوم الله إياه على ذلك كما قال‏:‏

‏{‏وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ الآية لأن ذلك منتففٍ في قصة تزوّج زينب‏.‏

وجملة ‏{‏وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏}‏ معترضة بين الموصول والصفة إن كانت جملة ‏{‏الذين يبلغون‏}‏ صفة ل ‏{‏الذين خلوا من قبل‏}‏، أو تذييل مثل جملة ‏{‏وكان أمر الله مفعولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ إن كانت جملة ‏{‏الذين يبلغون‏}‏ مستأنفة كما سيأتي، والقول فيه مثل نظيره المتقدم آنفاً‏.‏

والقَدَر بفتح الدال‏:‏ إيجاد الأشياء على صفة مقصودة وهو مشتق من القَدْر بسكون الدال وهو الكمية المحددة المضبوطة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسالت أودية بقدرها‏}‏ في سورة الرعد ‏(‏17‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏21‏)‏‏.‏ ولما كان من لوازم هذا المعنى أن يكون مضبوطاً محكماً كثرت الكناية بالقدَر عن الإِتقان والصدور عن العلم‏.‏ ومنه حديث‏:‏ كل شيء بقضاء وقَدر، أي من الله‏.‏

واصطلح علماء الكلام‏:‏ أن القدَر اسم للإِرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، ويطلقونه على الشيء الذي تعلق به القدَر وهو المقدور كما في هذه الآية، فالمعنى‏:‏ وكان أمر الله مُقَدَّراً على حكمة أرادها الله تعالى من ذلك الأمر، فالله لما أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بتزوج زينب التي فارقها زيد كان عالماً بأن ذلك لائق برسوله عليه الصلاة والسلام كما قدر لأسلافه من الأنبياء‏.‏

وفي قوله‏:‏ الذين يبلغون‏}‏ جيء بالموصول دون اسم الإشارة أو الضمير لما في هذه الصلة من إيماء إلى انتفاء الحرج عن الأنبياء في تناول المباح بأن الله أراد منهم تبليغ الرسالة وخشية الله بتجنب ما نهى عنه ولم يكلفهم إشقاق نفوسهم بترك الطيبات التي يريدونها، ولا حجب وجدانهم عن إدراك الأشياء على ما هي عليه من حُسْن الحَسَن وقُبْح القَبيح، ولا عن انصراف الرغبة إلى تناول ما حَسُن لديهم إذا كان ذلك في حدود الإِباحة، ولا كلّفهم مراعاة ميول الناس ومصطلحاتهم وعوائدهم الراجعة إلى الحيدة بالأمور عن مناهجها فإن في تناولهم رغباتهم المباحة عوناً لهم على النشاط في تبليغ رسالات الله، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏، أي لا يخشون أحداً خشية تقتضي فعل شيء أو تركه‏.‏

ثم إن جملة ‏{‏الذين يبلغون‏}‏ إلى آخرها يجوز أن تكون في موضع الصفة للذين خلوا من قبل، أي الأنبياء‏.‏ وإذ قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم متبع ما أذِن الله له اتباعه من سُنّة الأنبياء قبله عُلم أنه متصف بمضمون جملة ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ بحكم قياس المساواة، فعلم أن الخشية التي في قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ليست خشية خَوف توجب ترك ما يكرهه الناس أو فعلَ ما يرغبونه بحيث يكون الناس محتسبين على النبي عليه الصلاة والسلام ولكنها توَقُّع أن يصدر من الناس وهم المنافقون ما يكرهه النبي عليه الصلاة والسلام ويدل لذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏، أي الله حسيب الأنبياء لا غيره‏.‏

هذا هو الوجه في سياق تفسير هذه الآيات، فلا تسلك في معنى الآية مسلكاً يفضي بك إلى توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حصلت منه خشية الناس وأن الله عرّض به في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يخشون أحداً إلا الله‏}‏ تصريحاً بعد أن عرّض به تلميحاً في قوله‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ بل النبي عليه الصلاة والسلام لم يكترث بهم وأقدم على تزوج زينب، فكل ذلك قبل نزول هذه الآيات التي ما نزلت إلا بعد تزوج زينب كما هو صريح قوله‏:‏ ‏{‏زوّجناكها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ ولم يتأخر إلى نزول هذه الآية‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله حسيباً‏}‏ حيث تقدم ذكره لقصد أن تكون هذه الجملة جارية مجرى المثل والحِكمة‏.‏

وإذ قد كان هذا وصف الأنبياء فليس في الآية مجال للاستدراك عليها بمسألة التقية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

استئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك‏.‏

وهو ناظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والغرض من هذا العموم قطعُ توهّم أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام البنوّة حتى لا يتطرق الإِرجاف والاختلاق إلى من يتزوجهن من أيامى المسلمين أصحابِه مثل أمِّ سلمة وحفصة‏.‏

و ‏{‏من رجالكم‏}‏ وصف ل ‏{‏أحد‏}‏، وهو احتراس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بنات‏.‏ والمقصود‏:‏ نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان وُلد له أولادٌ أو وَلَدَاننِ بمكة من خديجة وهم الطيّب والطاهر ‏(‏أو هما اسمان لواحد‏)‏ والقاسم، ووُلد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية، وكلهم ماتوا صبياناً ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية‏.‏

والمنفي هو وصف الأبوّة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وَهِم فيه من وَهِم فلا التفات إلى كونه جَدًّا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود، ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا، أو المراد أبوّة الصلب دون أبوة الرّحم‏.‏

وإضافة ‏(‏رجال‏)‏ إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجاً للكلام في صيغة التغليط والتغليظ‏.‏

وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وأنه قال‏:‏ ‏{‏من رجالكم‏}‏ وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين أعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ كما تقدم‏.‏

واستدراك قوله‏:‏ ‏{‏ولكن رسول الله‏}‏ لرفع ما قد يُتوهم مِن نفي أبوته، من انفصال صلة التراحم والبّرِ بينه وبين الأمة فذُكِّروا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم، وفي برّهم وتوقيرهم إياه، شأن كل نبيء مع أمته‏.‏

والواو الداخلة على ‏{‏لكن‏}‏ زائدة و‏{‏لكنْ‏}‏ عاطفة ولم ترد ‏{‏لكن‏}‏ في كلام العرب عاطفة إلاّ مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في «شرح التسهيل»‏.‏ وحرف ‏{‏لكن‏}‏ مفيد الاستدراك‏.‏

وعَطَف صفة ‏{‏وخاتم النبيئين‏}‏ على صفة ‏{‏رسول الله‏}‏ تكميل وزيادة في التنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمةً قدَّرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرُّسل أو أفضل في جميع خصائصه‏.‏

وإذ قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبيء كان كونه خاتم النبيئين مقتضياً أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة لأجل ختم النبوءة به كان ذلك غضاً فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به‏.‏

ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوءة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه السّلام صرف عيسى عن التزوج‏.‏

فلا تجعل قوله‏:‏ ‏{‏وخاتم النبيئين‏}‏ داخلاً في حيّز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه‏.‏ وببيان هذه الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة ‏{‏وكان الله بكل شيء عليما‏}‏ إذْ أظهر مقتضى حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏

والآية نصّ في أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين وأنه لا نبيء بعده في البشر لأن النبيئين عام فخاتم النبيئين هو خاتمهم في صفة النبوءة‏.‏ ولا يعكر على نصيِّة الآية أن العموم دلالتُه على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصّص‏.‏ وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء‏.‏

وقد أجمع الصحابة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعُرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العَنْسِي فصار معلوماً من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإِسلام ولو كان معترفاً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلّهم‏.‏ وهذا النوع من الإِجماع موجب العلم الضروري كما أشار إليه جميع علمائنا ولا يدخل هذا النوع في اختلاف بعضهم في حُجِّية الإِجماع إذ المختلف في حجّيته هو الإِجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة في كلام الغزالي في خاتمة كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير‏.‏ وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمهُ إلزاماً فاحشاً ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليهما‏.‏

ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يُثبت نبوءةً لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم وفي إخراجه من حظيرة الإِسلام، ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابِيَّة والبَهائية وهما نحْلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى‏.‏ وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود سنة مائتين وألف وتسربت إلى العراق وكان القائم بها رجلاً من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد علي محمد، كذا اشتهر اسمه، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الإِمامية‏.‏ أخذ عن رجل من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأَحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهي الطريقة المتلقاة عن الحلاج‏.‏ وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما أظهر نحلته علي محمد هذا لقبَ نفسه بَاب العلم فغلب عليه اسم الباب‏.‏

وعرفت نحلته بالبَابِيّة وادعى لنفسه النبوءة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه «البيان» وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان علمه البيان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 3 4‏]‏‏.‏

وكتاب «البيان» مؤلف بالعربية الضعيفة ومخلوط بالفارسية‏.‏ وقد حكم عليه بالقتل فقتل سنة 1266 في تبريز‏.‏

وأما البهائية فهي شعبة من البابِيّة تنسب إلى مؤسسها الملقّب ببهاء الله واسمه ميرزا حُسين عَلي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب‏.‏ ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد إلى أدرنة ثم إلى عكا، وفيها ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوءة الباب وقد التفّ حوله أصحاب نحلة البابيّة وجعلوه خليفة البَاب فقام اسم البهائية مقام اسم البَابية فالبهائية هم البابية‏.‏ وقد كان البهاء بَنى بناء في جبل الكرمل ليجعله مدفناً لرفات ‏(‏الباب‏)‏ وآل أمره إلى أن سجنته السلطنة العثمانية في سجن عَكا فلبث في السجن سبعَ سنوات ولم يطلق من السجن إلا عند ما أُعلن الدستور التركي فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أُطلقوا يومئذٍ فرحل منتقلاً في أوروبا وأميركا مدة عامين ثم عاد إلى حيفا فاستقرّ بها إلى أن توفي سنة 1340 وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإِخوته فتفرقوا في الزعامة وتضاءلت نحلتهم‏.‏

فمن كان من المسلمين متّبعاً للبَهائية أو البابية فهو خارج عن الإِسلام مرتدّ عن دينه تجري عليه أحكام المرتدّ‏.‏ ولا يرث مسلماً ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم‏:‏ إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده‏.‏ ونحن كفَّرنا الغُرابية من الشيعة لقولهم‏:‏ بأن جبريل أرسل إلى علي ولكنه شُبّه له محمد بعليّ إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب ‏(‏وكذبوا‏)‏ فبلغ الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهم أثبتوا الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم زعموه غير المعيّن من عند الله‏.‏

وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإِلهي، فبذلك فارقت الماسونية وعُدّت في الأديان والملل ولم تعد في الأحزاب‏.‏

وانتصب ‏{‏رسول الله‏}‏ معطوفاً على ‏{‏أبا أحد من رجالكم‏}‏ عطفاً بالواو المقترنة ب ‏{‏لكن‏}‏ لتفيد رفع النفي الذي دخل على عامل المعطوف عليه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وخاتِمَ النبيئين‏}‏ بكسر تاء ‏{‏خاتِم‏}‏ على أنه اسم فاعل من ختم‏.‏ وقرأ عاصم بفتح التَاء على تشبيهه بالخاتَم الذي يختم به المكتوب في أن ظهوره كان غلقاً للنبوءة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

إقبال على مخاطبة المؤمنين بأن يشغلوا ألسنتهم بذكر الله وتسبيحه، أي أن يمسكوا عن مماراة المنافقين أو عن سبّهم فيما يُرجفون به في قضية تزوج زينب فأمر المؤمنين أن يعتاضوا عن ذلك بذكر الله وتسبيحه خيراً لهم، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200‏]‏، أي خير من التفاخر بذكر آبائكم وأحسابكم، فذلك أنفع لهم وأبعد عن أن تثور بين المسلمين والمنافقين ثائرة فتنة في المدينة، فهذا من نحو قوله لنبيّئه ‏{‏ودَعْ أذاهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏ ومن نحو قوله‏:‏ ‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏، فأمروا بتشغيل ألسنتهم وأوقاتهم بما يعود بنفعهم وتجنب ما عسى أن يوقع في مضرة‏.‏

وفيه تسجيل على المنافقين بأن خوضهم في ذلك بعد هذه الآية علامة على النفاق لأن المؤمنين لا يخالفون أمر ربهم‏.‏

والجملة استئناف ابتدائي متصل بما قبله للمناسبة التي أشرنا إليها‏.‏

والذكر‏:‏ ذكر اللسان وهو المناسب لموقع الآية بما قبلها وبعدها‏.‏

والتسبيح‏:‏ يجوز أن يراد به الصلوات النوافل فليس عطف ‏{‏وسبحوه‏}‏ على ‏{‏اذكروا الله‏}‏ من عطف الخاص على العام‏.‏

ويجوز أن يكون المأمور به من التسبيح قول‏:‏ سبحان اللَّه، فيكون عطف ‏{‏وسبّحوه‏}‏ على ‏{‏اذكروا الله‏}‏ من عطف الخاص على العام اهتماماً بالخاص لأن معنى التسبيح التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتمجيد، ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله المنافقون في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم فيكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 16‏]‏ فإن كلمة‏:‏ سبحان الله، يكثر أن تقال في مقام التبرُّؤ من نسبة ما لا يليق إلى أحد كقول النبي صلى الله عليه وسلم «سُبحان الله المُؤمن لا ينجس»‏.‏ وقول هند بنت عتبة حين أخذ على النساء البيعة «أن لا يَزْنين»‏:‏ سبحان الله أتزني الحرّة‏.‏

والبُكرة‏:‏ أول النهار‏.‏ والأصيل‏:‏ العشيّ الوقت الذي بعد العصر‏.‏ وانتصبا على الظرفية التي يتنازعها الفعلان ‏{‏اذكروا الله‏.‏‏.‏ وسبحوه‏}‏‏.‏

والمقصود من البُكرة والأصيل إعمار أجزاء النهار بالذكر والتسبيح بقدر المُكْنة لأن ذكر طرفي الشيء يكون كناية عن استيعابه كقول طرفة‏:‏

لكَالِطّوَل المرخَى وثِنياه باليد *** ومنه قولهم‏:‏ المشرق والمغرب، كناية عن الأرض كلّها، والرأسُ والعقب كناية عن الجسد كله، والظهر والبطن كذلك‏.‏

وقدّم البكرة على الأصيل لأن البكرة أسبق من الأصيل لا محالة‏.‏ وليس الأصيل جديداً بالتقديم في الذكر كما قُدم لفظ ‏{‏تمسون‏}‏ في قوله في سورة الروم ‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 17‏]‏ لأن كلمة المساء تشمل أول الليل فقدم لفظ ‏{‏تمسون‏}‏ هنالك رعّياً لاعتبار الليل أسبق في حساب أيام الشهر عند العرب وفي الإِسلام وليست كذلك كلمة الأصيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

تعليل للأمر بذكر الله وتسبيحه بِأن ذلك مجلبةٌ لانتفاع المؤمنين بجزاء الله على ذلك بأفضل منه من جنسه وهو صلاته وصلاة ملائكته‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يصلي عليكم وملائكته إذا ذكرتموه ذكراً بُكرة وأصيلاً‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخير الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم‏}‏ لإِفادة التقوِّي وتحقيق الحكم‏.‏ والمقصود تحقيق ما تعلق بفعل ‏{‏يصلي‏}‏ من قول ‏{‏ليخرجكم من الظلمات إلى النور‏}‏‏.‏

والصلاة‏:‏ الدعاء والذكر بخير، وهي من الله الثناء‏.‏ وأمره بتوجيه رحمته في الدنيا والآخرة، أي اذكروه ليذكركم كقوله‏:‏ ‏{‏فاذكروني أذكركم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وقوله في الحديث القدسي‏:‏ «فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكَرَنِي في ملإِ ذكرتُه في ملإِ خيرٍ منهم»‏.‏ وصلاة الملائكة‏:‏ دعاؤهم للمؤمنين فيكون دعاؤهم مستجاباً عند الله فيزيد الذاكرين على ما أعطاهم بصلاته تعالى عليهم‏.‏ ففِعل ‏{‏يصلي‏}‏ مسند إلى الله وإلى ملائكته لأن حرف العطف يفيد تشريك المعطوف والمعطوف عليه في العامل، فهو عامل واحد له معمولان فهو مستعمل في القدر المشترك الصالح لصلاة الله تعالى وصلاة الملائكة الصادق في كلَ بما يليق به بحسب لوازم معنى الصلاة التي تتكيّف بالكيفية المناسبة لمن أسندت إليه‏.‏

ولا حاجة إلى دعوى استعمال المشترك في معنييه على أنه لا مانع منه على الأصح، ولا إلى دعوى عموم المجاز‏.‏ واجتلاب ‏{‏يصلي‏}‏ بصيغة المضارع لإِفادة تكرر الصلاة وتجددها كلما تجدد الذكر والتسبيح، أو إفادة تجددها بحسب أسباب أخرى من أعمال المؤمنين وملاحظة إيمانهم‏.‏

وفي إيراد الموصول إشارة إلى أنه تعالى معروف عندهم بمضمون الصلة بحسب غالب الاستعمال‏:‏ فإمّا لأن المسلمين يعلمون على وجه الإِجمال أنهم لا يأتيهم خير إلاّ من جانب الله تعالى، فكل تفصيل لذلك الإجمال دخل في علمهم، ومنه أنه يصلي عليهم ويأمر ملائكته بذلك، وإمّا أن يكون قد سبق لهم علم بذلك تفصيلاً من قبل‏:‏ فبعض آيات القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ فقد علم المسلمون أن استغفار الملائكة للمؤمنين بأمر من الله تعالى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏، والدعاء لأحد من الشفاعة له، على أن من جملة صلة الموصول أن ملائكته يصلُّون على المؤمنين‏.‏ وذلك معلوم من آيات كثيرة، وقد يكون ذلك بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين فيما قبل نزول هذه الآية، ويؤيد هذا المعنى قوله بعده ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ كما يأتي قريباً‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليخرجكم‏}‏ متعلقة ب ‏{‏يصلي‏}‏‏.‏ فعلم أن هذه الصلاة جزاء عاجل حاصل وقت ذكرهم وتسبيحهم‏.‏

والمراد ب ‏{‏الظلمات‏}‏‏:‏ الضلالة، وبالنور‏:‏ الهُدى، وبإخراجهم من الظلمات‏:‏ دوام ذلك والاستزادَة منه لأنهم لما كانوا مؤمنين كانوا قد خرجوا من الظلمات إلى النور ‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وكان بالمؤمنين رحيماً‏}‏ تذييل‏.‏

ودلّ الإِخبار عن رحمته بالمؤمنين بإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ وخبرها لما تقتضيه ‏{‏كان‏}‏ من ثبوت ذلك الخبر له تعالى وتحققه وأنه شأن من شؤونه المعروف بها في آيات كثيرة‏.‏

ورحمته بالمؤمنين أعمّ من صلاته عليهم لأنها تشمل إسداء النفع إليهم وإيصال الخير لهم بالأقوال والأفعال والأَلطاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

أعقب الجزاء العاجل الذي أنبأ عنه قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏ بذكر جزاء آجل وهو ظهور أثر الأعمال التي عملوها في الدنيا وأثر الجزاء الذي عجّل لهم عليها من الله في كرامتهم يوم يلقون ربهم‏.‏

فالجملة تكملة للتي قبلها لإِفادة أن صلاة الله وملائكته واقعة في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة‏.‏

والتحية‏:‏ الكلام الذي يخاطب به عندَ ابتداء الملاقاة إعراباً عن السرور باللقاء من دعاء ونحوه‏.‏ وهذا الاسم في الأصل مصدر حيّاه، إذا قال له‏:‏ أحْياك الله، أي أطال حياتك‏.‏ فسمى به الكلام المعرب عن ابتغاء الخير للملاقَى أو الثناء عليه لأنه غلب أن يقولوا‏:‏ أحياك الله عند ابتداء الملاقاة فأطلق اسمها على كل دعاء وثناء يقال عند الملاقاة وتحية الإِسلام‏:‏ سَلامٌ عليك أو السلامُ عليكم، دعاء بالسلامة والأمن، أي من المكروه لأن السلامة أحسن ما يُبتغى في الحياة‏.‏ فإذا أحياه الله ولم يُسلِّمه كانت الحياة أَلَما وشراً، ولذلك كانت تحيةُ المؤمنين يوم القيامة السلامَ بشارة بالسلامة مما يشاهده الناس من الأهوال المنتظرة‏.‏ وكذلك تحية أهل الجنة فيما بينهم تلذّذاً باسم ما هم فيه من السلامة من أهوال أهل النار، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وتحيتهم فيها سلام‏}‏ في سورة يونس ‏(‏10‏)‏‏.‏

وإضافة التحية إلى ضمير المؤمنين من إضافة اسم المصدر إلى مفعوله، أي تحية يُحَيَّون بها‏.‏

ولقاء الله‏:‏ الحضور من حضرة قدسه للحساب في المحشر‏.‏ وتقدم تفصيل الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏223‏)‏‏.‏ وهذا اللقاء عام لجميع الناس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 77‏]‏ فميّز الله المؤمنين يومئذٍ بالتحية كرامة لهم‏.‏

وجملة ‏{‏وأعد لهم أجراً كريماً‏}‏ حال من ضمير الجلالة، أي يحييهم يوم يلقونه وقد أعد لهم أجراً كريماً‏.‏ والمعنى‏:‏ ومن رحمته بهم أن بدأهم بما فيه بشارة بالسلامة وقد أعدّ لهم أجراً كريماً إتماماً لرحمته بهم‏.‏

والأجر‏:‏ الثواب‏.‏ والكريم‏:‏ النفيس في نوعه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏ والأجر الكريم‏:‏ نعيم الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

هذا النداء الثالث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بذاته، وبالنداء الثاني ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه، وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة‏.‏

وذُكر له هنا خمسةُ أوصاف هي‏:‏ شاهد‏.‏ ومبشّر‏.‏ ونذير‏.‏ وداع إلى الله‏.‏ وسراج منير‏.‏ فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة‏.‏

والشاهد‏:‏ المخبر عن حجة المدعي المحقّ ودفع دعوى المبطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاءِ ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وفي حديث الحشر‏:‏ «يُسأل كل رسول هل بلّغ‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم‏.‏ فيقول الله‏:‏ مَن يشهد لك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد وأمته»‏.‏ الحديث‏.‏

ومحمد صلى الله عليه وسلم شاهد أيضاً على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عَرَصات القيامة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بَدّل‏.‏ وفي حديث الحَوض‏:‏ «ليَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ حتى إذا رأيتُهم وعرفتُهم اختُلجوا دوني فأقول‏:‏ يا رب أُصَيْحَابي أُصَيْحَابي‏.‏ فيقال لي‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تَبًّا وسُحْقاً لمَن أحدث بعدي» يعني‏:‏ أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث‏:‏ «إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم»‏.‏ فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولاً لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتماً للشرائع ومتمّماً لِمراد الله من بعثة الرسل‏.‏

والمبشر‏:‏ المخبر بالبُشرى والبِشارة‏.‏ وهي الحادث المسرّ لمن يخبر به والوعد بالعطية، والنبي صلى الله عليه وسلم مبشر لأَهل الإِيمان والمطيعين بمراتب فوزهم‏.‏ وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل‏.‏

وقدمت البِشارة على النِذارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته‏.‏

والنذير‏:‏ مشتق من الإِنذار وهو الإِخبار بحلول حادث مسيء أو قُرْب حلوله، والنبي عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم‏.‏

وانتصب ‏{‏شاهداً‏}‏ على الحال من كاف الخطاب وهي حال مقدرة، أي أرسلناك مقدَّراً أن تكون شاهداً على الرسل والأمم في الدنيا والآخرة‏.‏ ومثّل سيبويه للحال المقدرة بقوله‏:‏ مُررت برجل معه صقر صائِداً به‏.‏

وجيء في جانب النِذارة بصيغة فَعيل دون اسم الفاعل لإِرادة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم‏.‏ ومن الأَمثال‏:‏ أنا النذير العُريان، أي الآتي بخبر حلول العدوّ بديار قوم‏.‏ والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال‏:‏ ‏{‏إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏ للإِيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حلّ بهم وكأنَّ المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقلّ الوصف بمنذر‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أُنزل عليه‏:‏ ‏{‏وأنذر عشيرتك الأقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏ خرج حتى صعد الصفا، فنادى‏:‏ يا صباحاه ‏(‏كلمة ينادِي بها من يطلب النجدة‏)‏ فاجتمعوا إليه فقال‏:‏ أرأيتُم إن أخبرتكم أن خَيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقيَّ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد»‏.‏ فهذا يشير إلى تمثيل الحالة التي استخلصها بقوله‏:‏ ‏(‏فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏)‏‏.‏ وما في ‏{‏بين يدي عذاب‏}‏ من معنى التقريب‏.‏

وشمل اسم النذير جوامعَ ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسمي التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المُقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل‏.‏

والداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى ترك عبادة غير الله ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله‏.‏ وأصل دَعاه إلى فلان‏:‏ أنه دعاه إلى الحضور عنده، يقال‏:‏ ادعُ فلاناً إليَّ‏.‏ ولما عُلم أن الله تعالى منزه عن جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره ‏(‏كما يَقولون‏:‏ أبو مسلم الخراساني يدعو إلى الرضَى من آل البيت‏)‏ فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإِسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدُعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم‏.‏

وزيادة ‏{‏بإذنه‏}‏ ليفيد أن الله أرسله داعياً إليه ويسّر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أُنزل عليه ‏{‏يا أيها المدثر قم فأنذر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1، 2‏]‏، ومثلُه قوله تعالى لموسى‏:‏

‏{‏لا تخف إنك أنت الأعلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 68‏]‏، فهذا إذن خاص وهو الإِذن بعد الإِحجام المقتضي للتيسير، فأطلق اسم الإِذن على التيسير على وجه المجاز المرسل‏.‏ ونظيره قوله تعالى خطاباً لعيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ وقوله حكاية عن عيسى ‏{‏فأنفخ فيه فيكون طائراً بإذن الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقّاد ظلمة المكان‏.‏ وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبَّه بالنور فناسبه السراج المنير‏.‏ وهذا وصف شامل لجميع الأوصاف التي وصف بها آنفاً فهو كالفذلكة وكالتذييل‏.‏

ووصف السراج ب ‏{‏منيراً‏}‏ مع أن الإِنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله‏:‏ شعر شاعر، وليلٌ ألْيَل لإِفادة قوة معنى الاسم في الموصوف بهِ الخاص فإن هدى النبي صلى الله عليه وسلم هو أوضح الهدى‏.‏ وإرشاده أبلغ إرشاد‏.‏

روى البخاري في كتاب «التفسير» من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال‏:‏ «إن هذه الآية التي في القرآن‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً‏}‏ قال في التوراة‏:‏ يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحِرزاً للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي سمّيتك المتوكِّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيِّئة بالسيئة ولكنْ يعْفو ويصفح ‏(‏أو وَيغفر‏)‏ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العَوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتحَ ‏(‏أو فيفتح‏)‏ به أعينا عُمْياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاء» ا ه‏.‏

وقول عبد الله بن عمرو «في التوراة» يعني بالتوراة‏:‏ أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصليّة من التوراة‏.‏ وهذا الذي حدث به عبد الله بن عَمرو ورأيت مقارِبه في سفر النبي أشعياء من الكتب المعبر عنها بالتوراة تغليباً وهي الكتب المسماة بالعهد القديم؛ وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير قليل ‏(‏أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم‏)‏، ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرَّتْ به نفسي، وَضَعْتُ رُوحي عليه فيُخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا تقصف، وفتيلة خامدة لا تطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأُمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم لنفتح عيون العُمي لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر»‏.‏

وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً‏}‏ نظيرها هذه الآية وحرزاً للأميين ‏{‏هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم‏}‏ سورة ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ أنت عبدي ورسولي ‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب‏}‏ سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 1‏]‏ سميتك المتوكل ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ سورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3‏]‏ ليس بفظ ولا غليظ ‏{‏ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏ ‏(‏سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ ولا صخّاب في الأسواق ‏{‏واغضض من صوتك‏}‏ سورة ‏[‏لقمان‏:‏ 19‏]‏ ولا يدفع السيئة بالسيئة ‏{‏وادفع بالتي هي أحسن‏}‏ سورة ‏[‏فصلت‏:‏ 34‏]‏ ولكن يعفو ويصفح ‏{‏فاعف عنهم واصفح‏}‏ سورة ‏[‏العقود‏:‏ 13‏]‏ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملةَ العوجاء بأن يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً‏}‏ سورة ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ويفتح به أعينا عُمْياً وآذاناً صُمًّا وقلوباً غُلْفاً ‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ في ذكر الذين كفروا مقابلاً لذكر المؤمنين في قوله قبله ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

ولنذكرْ هنا ما في سفر أشعياء ونقحم فيه بيان مقابلة كلماته بالكلمات التي جاءت في حديث عبد الله بن عمَرو‏.‏

جاء في الإصحاح الثاني والأربعين من سفر أشعياء‏:‏ هو ذا عبدي ‏(‏أنت عبدي‏)‏ الذي أعضده مختاري ‏(‏ورسولي‏)‏ الذي سُرت به نفسي، وضَعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح ‏(‏ليس بفظّ‏)‏ ولا يرفع ‏(‏ولا غليظ‏)‏ ولا يسمع في الشارع صوته ‏(‏ولا صَخَّاب في الأَسواق‏)‏ قصبة مرضوضة لا يقصف ‏(‏ولا يدفع السيئة بالسيئة‏)‏ وفتيلة خامدة لا يَطفا ‏(‏يعفو ويصفح‏)‏ إلى الأمان يُخرج الحق ‏(‏وحرزاً‏)‏ لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض ‏(‏ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء‏)‏ وتنتظر الجزائر شريعته ‏(‏للأميين‏)‏ أنا الرب قد دعوتك بالبر فأُمسكُ بيدِك ‏(‏سميتك المتوكل‏)‏ وأحفظك ‏(‏ولن يقبضه الله‏)‏ وأجعلك عهداً للشعب أرسلناك شاهداً ‏(‏ونوراً للأمم‏)‏ ‏(‏مبشراً‏)‏ لنفتح عيون العُمي ‏(‏ونفتح به أعيناً عمياً‏)‏ لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن ‏(‏وآذاناً صُمًّا‏)‏ الجالسين في الظلمة ‏(‏وقلوباً غلفاً‏)‏‏.‏ أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ‏(‏بأن يقولوا لا إله إلا الله‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏إنا أرسلناك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ عطف الإنشاء على الخبر لا محالة وهي أوضح دليل على صحة عطف الإِنشاء على الخبر إذ لا يتأتّى فيها تأويل مما تأوله المانعون لعطف الإِنشاء على الخبر وهم الجمهور والزمخشري والتفتزاني مما سنذكره إن شاء الله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ وبشر المؤمنين في سورة الصف ‏(‏11 13‏)‏، فالجملة المعطوف عليها إخبار عن النبي بأنه أرسله متلبساً بتلك الصفات الخمس‏.‏ وهذا أمر له بالعمل بصفة المبشر، فلاختلاف مضمون الجملتين عطفت هذه على الأولى‏.‏

والفضل‏:‏ العطاء الذي يزيده المعطي زيادة على العطية‏.‏ فالفضل كناية عن العطية أيضاً لأنه لا يكون فضلاً إلا إذا كان زائداً على العطية‏.‏ والمراد أن لهم ثواب أعمالهم الموعود بها وزيادة من عند ربهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ووصف ‏{‏كبيراً‏}‏ مستعار للفائق في نوعه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قال لي أبي رضي الله عنه‏:‏ هذه أرجى آية عندي في كتاب الله لأن الله قد أمر نبيئه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلاً كبيراً‏.‏ وقد بين الله تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏ فالآية التي في هذه السورة خبرٌ، والآية التي في حم عسق تفسير لها ا ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

جاء في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطع الكافرين والمنافقين‏}‏ تحذيراً له من موافقتهم فيما يسألون منه وتأييداً لفعله معهم حين استأذنه المنافقون في الرجوع عن الأحزاب فلم يأذن لهم، فنُهي عن الإِصغاء إلى ما يرغبونه فيترك ما أحلّ له من التزوّج، أو فيعطي الكافرين من الأحزاب ثَمر النخل صلحاً أو نحو ذلك، والنهي مستعمل في معنى الدوام على الانتهاء‏.‏

وعلم من مقابلة أمر التبشير للمؤمنين بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين أن الكافرين والمنافقين هم متعلَّق الإِنذار من قوله‏:‏ ‏{‏ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ لأن وصف «بشيراً» قد أخذ متعلّقه فقد صار هذا ناظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ودع أذاهم‏}‏ يجوز أن يكون فعل ‏{‏دع‏}‏ مراداً به أن لا يعاقبهم فيكون ‏{‏دع‏}‏ مستعملاً في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي دع أذاك إياهم‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏دع‏}‏ مستعملاً مجازاً في عدم الاكتراث وعدممِ الاغتمام، فما يقولونه مما يؤذي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذىً إليك فإنك أجلّ من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه‏.‏ وأكثر المفسرين اقتصروا على هذا الاحتمال الأخير‏.‏ والوجه‏:‏ الحمل على كلا المعنيين، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقاً بالإِعراض عما يؤذون به النبي صلى الله عليه وسلم من أقوالهم، وصادقاً بالكف عن الإِضرار بهم، أي أن يترفع النبي صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذتهم على ما يصدر منهم في شأنه، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد، فليست آيات القتال بناسخة له‏.‏

وهذا يقتضي أنه يترك أذاهم ويكلهم إلى عقاب آجل وذلك من معنى قوله‏:‏ ‏{‏شاهداً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ لأنه يشهد عليهم بذلك كقوله‏:‏ ‏{‏فتول عنهم حتى حين وأبصرهم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 174 175‏]‏‏.‏

والتوكل‏:‏ الاعتماد وتفويض التدبير إلى الله‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏159‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ في سورة العقود ‏(‏23‏)‏، أي اعتمد على الله في تبليغ الرسالة وفي كفايته إياك شر عدوك، فهذا ناظر إلى قوله‏:‏ وداعياً إلى الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏وتوكل على الله‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ فإن الله هو الوكيل الكافي في الوكالة، أي المجزي من توكّل عليه ما وكله عليه فالباء تأكيد، وتقدم قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏81‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ كفى الله و‏{‏وكيلاً‏}‏ تمييز‏.‏

فقد جاءت هذه الجمل الطلبية مقابلة وناظرة للجمل الإِخبارية من قوله‏:‏ ‏{‏إنا أرسلناك شاهداً إلى وسراجاً منيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45، 46‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 47‏]‏ ناظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومبشراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطع الكافرين‏}‏ ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ لأنه جاء في مقابلة بشارة المؤمنين كما تقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ودع أذاهم‏}‏ ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏شاهداً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏ كما علمت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏وداعياً إلى الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وسراجاً منيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 46‏]‏ فلم يذكَر له مقابل في هذه المطالب إلا أنه لما كان كالتذييل للصفات كما تقدم ناسب أن يقابله ما هو تذييل للمطالب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏‏.‏ وهذا أقرب من بعض ما في «الكشاف» من وجوه المقابلة ومن بعض ما للآلوسي فانظرهما واحكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

جاءت هذه الآية تشريعاً لحكم المطلقات قبل البناء بهن أن لا تلزمهن عِدَّة بمناسبة حدوث طلاق زيد بن حارثة زوجه زينب بنت جحش لتكون الآية مخصصة لآيات العدة من سورة البقرة، فإن الأحزاب نزلت بعد البقرة، وليخصص بها أيضاً آية العِدّة في سورة الطلاق النازلة بعدها لئلاَّ يظنّ ظانّ أن العدة من آثار العقد على المرأة سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأجمع علماء الأمة على أن لا عدّة على المرأة إذا لم يدخل بها زوجها لهذه الآية‏.‏

والنكاح‏:‏ هو العقد بين الرجل والمرأة لتكون زوجاً بواسطة وليها‏.‏ وهو حقيقة في العقد لأن أصل النكاح حقيقة هو الضمّ والإِلصاق فشبه عقد الزواج بالالتصاق والضم بما فيه من اعتبار انضمام الرجل والمرأة فصارا كشيئين متّصلَيْن‏.‏ وهذا كما سمي كلاهما زوجاً، ولا يعرف في كلام العرب إطلاق النكاح على غير معنى العقد دون معنى الوطء ولذلك يقولون‏:‏ نكحت المرأة فُلاناً، أي تزوجته، كما يقولون‏:‏ نكح فلان امرأة‏.‏ وزعم كثير من مدوِّني اللغة أن النكاح حقيقة في إدخال شيء في آخر‏.‏ فأخذوا منه أنه حقيقة في الوطء، ودرج على ذلك الأزهري والجوهري والزمخشري، وهو بعيد، وعلى ما بنوه أخطأ المتنبي في استعماله إذ قال‏:‏

أنكحتُ صم حصاها خُفّ يعملة *** تَغَشْمَرت بي إليكَ السهل والجبلا

ولا حجة في كلامه، ولذلك تأوله أبو العلاء المعرّي في معجز أحمد بأنه أراد جمعت بين صم الحصى وخف اليعملة‏.‏

وتعليق الحكم في العِدَّة بالمؤمنات جرى على الغالب لأن نساء المؤمنين يومئذٍ لم يكنَّ إلا مؤمنات وليس فيهن كتابيات فينسحب هذا الحكم على الكتابية كما شملها حكم الاعتداد إذا وقع مسيسها بطرق القياس‏.‏

والمس والمسيس‏:‏ كناية عن الوطء، كما سمي ملامسة في قوله‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏

والعِدّة بكسر العين‏:‏ هي في الأصل اسم هيئة من العَدّ بفتح العين وهو الحساب فأطلقت العِدّة على الشيء المعدود، يقال‏:‏ جاء عِدة رجال، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ البقرة ‏(‏184‏)‏‏.‏ وغلب إطلاق هذا اللفظ في لسان الشرع على المدة المحددة لانتظار المرأة زواجاً ثانياً، لأن انتظارها مدة معدودة الأزمان إما بالتعيين وإما بما يحدث فيها من طهر أو وضع حمل فصار اسمَ جنس ولذلك دخلت عليه ‏{‏مِن‏}‏ التي تدخل على النكرة المنفية لإِفادة العموم، أي فما لكم عليهن من جنس العدة‏.‏

والخطاب في ‏{‏لكم‏}‏ للأزواج الذين نكحوا المؤمنات‏.‏ وجعلت العدة لهم، أي لأجلهم لأن المقصد منها راجع إلى نفع الأزواج بحفظ أنسابهم ولأنهم يملكون مراجعة الأزواج ما دُمْن في مدة العدّة كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ ومع ذلك هي حق أوجبه الشرع، فلو رام الزوج إسقاط العِدّة عن المطلقة لم يكن له ذلك لأن ما تتضمنه العِدّة من حفظ النسب مقصد من أصول مقاصد التشريع فلا يسقط بالإِسقاط‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏تعتدونها‏}‏ تَعُدّونها عليهن، أي تعدُّون أيّامها عليهن، كما يقال‏:‏ اعتدت المرأة، إذا قضت أيام عِدّتها‏.‏

فصيغة الافتعال ليست للمطاوعة ولكنها بمعنى الفعل مثل‏:‏ اضطُرّ إلى كذا‏.‏ ومحاولة حمل صيغة المطاوعة على معروف معناها تكلف‏.‏

ويشبه هذا مَن راجع المعتدة في مدة عِدّتها ثم طلقها قبل أن يمَسَّها فإن المراجعة تشبه النكاح وليست عينه إذ لا تفتقر إلى إيجاب وقبول‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في اعتدادها من ذلك الطلاق، فقال مالك والشافعي في أحد قوليه وجمهور الفقهاء‏:‏ إنها تنشئ عِدة مستقبَلة من يومَ طلقها بعد المراجعة ولا تبني على عِدّتها التي كانت فيها لأن الزوج نقض تلك العدة بالمراجعة‏.‏ ولعل مالكاً نظر إلى أن المسيس بعد المراجعة قد يخفى أمره بخلاف البناء بالزوجة في النكاح فلعله إنما أوجب استئناف العِدة لهذه التهمة احتياطاً للأنساب‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والحسن وأبو قلابة وقتادة والزهري‏:‏ تبني على عدتها الأولى التي راجعها فيها لأن طلاقه بعد المراجعة ودون أن يمسها بمنزلة إرداف طلاق ثان على المرأة وهي في عدتها فإن الطلاق المردف لا اعتداد له بخصوصه‏.‏ ونسب القرطبي إلى داود الظاهري أنه قال‏:‏ المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عِدّتها ثم فارقها قبل أن يمسها إنه ليس عليها أن تتمّ عدتها ولا عدةً مستقبلة لأنها مطلقة قبل الدخول بها ا ه‏.‏ وهو غريب، وكلام ابن حزم في «المحلَّى» صريح في أنها تبتدئ العِدة فلعله من قول ابن حزم وليس مذهب داود، وكيف لو راجعها بعد يوم أو يومين من تطليقها فبماذا تعرف براءة رحمها‏.‏

وفاء التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فمتعوهن‏}‏ لأن حكم التمتيع مقرّر من سورة البقرة ‏(‏236‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‏}‏ الخ‏.‏ والمتعة‏:‏ عطية يعطيها الزوج للمرأة إذا طلقها‏.‏ وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ فلذلك جيء بالأمر بالتمتيع مفرعاً على الطلاق قبل المسيس‏.‏

وقد جعل الله التمتيع جبراً لخاطر المرأة المنكسرِ بالطلاق وتقدم في سورة البقرة أن المتعة حق للمطلقة سواء سمي لها صداق أم لم يسم بحكم آية سورة الأحزاب لأن الله أمر بالتمتيع للمطلقة قبل البناء مطلقاً فكان عمومها في الأحوال كعمومها في الذوات، وليست آية البقرة بمعارضة لهذه الآية إذ ليس فيها تقييد بشرط يَقتضي تخصيص المتعة بالتي لم يسم لها صداق لأنها نازلةٌ في رفع الحرج عن الطلاق قبل البناء وقبل تسمية الصداق، ثم أمرتْ بالمتعة لِتَينِك المطلقتين فالجمع بين الآيتين ممكن‏.‏

والسراح الجميل‏:‏ هو الخلي عن الأذى والإِضرار ومنع الحقوق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها النبى إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ وبنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وامْرَأَةً مُّؤمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِىِّ إنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ‏}‏‏.‏

نداء رابع خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحلّ له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل، ومما بعضه يتساوى فيه النبي عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعة عليه، أو مما روعي في تخصيصه به علوّ درجته‏.‏

ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنتتِ جحش وقالوا‏:‏ تزوج من كانت حليلة متبنّاه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية مَن يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون‏.‏ ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء‏}‏ الآية، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعاً لتكون جامعة للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال‏.‏

فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك التي آتيت أجورهن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وبنات خالاتك‏}‏، وأما تشريع ما لم يكن مشروعاً فذلك من قوله‏:‏ ‏{‏التي هاجرن معك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ خبر مُراد به التشريع‏.‏ ودخول حرف ‏(‏إنّ‏)‏ عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع ‏(‏إنَّ‏)‏ هنا مجرد الاهتمام، والاهتمام يناسب كلاّ من قصد الإِخبار وقصدِ الإِنشاء، ولذلك عُطفت على مفعول ‏{‏أحللنا‏}‏ معطوفات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوماً من قبل وذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وبنات عمك‏}‏ وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف ‏{‏الاتي هاجرن معك‏}‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها‏}‏ باعتبار تقييدها بوصف الإِيمان وتقييدها ب«إن وهبت نفسها للنبي وأراد النبي أن يستنكحها»‏.‏ هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم‏.‏

وعندي‏:‏ أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وتؤخذ من الامتنان الإِباحة ويؤخذ من ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏ الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية، ولتكون هذه الآية تمهيداً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ الخ‏.‏

وسيجيء ما لنا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏من بعدُ‏}‏ وما لنا في موضع قوله ‏{‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏أحللنا لك‏}‏ الإِباحة له، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحلّلات له ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏‏.‏

وإضافة أزواج إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أنّهن الأزواج اللاتي في عصمته، فيكون الكلام إخباراً لتقرير تشريع سابق ومسوقاً مساق الامتنان، ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي هاجرن معك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية‏.‏

وحكى ابن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏أزواجك اللاتي آتيت أجورهن‏}‏ أن الله أحلّ له أن يتزوج كل امرأة يُصدقها مهرها فأباح له كل النساء، وهذا بعيد عن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره‏.‏ وعن التعبير ب ‏{‏آتيت أجورهن‏}‏ بصيغة المضيّ‏.‏ واختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ فقال قوم‏:‏ هذه ناسخة لقوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏ ولو تقدمت عليها في التلاوة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء من بعد‏}‏‏.‏

و ‏{‏اللاتي آتيت أجورهن‏}‏ صفة ل ‏{‏أزواجك‏}‏، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة، فالماضي في قوله‏:‏ ‏{‏آتيت أجورهن‏}‏ مستعمل في حقيقته‏.‏ وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن‏:‏ عائشة، وحفصة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وفيهن من لسن كذلك وهنّ‏:‏ جويرية من بني المصطلق، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وزينب أم المساكين من بني هلال، وكانت يومئذٍ متوفاة، وصفية بنت حيي الإِسرائيلية‏.‏

وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهنّ ثلاثة أصناف‏:‏

«الصنف الأول»‏:‏ ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه، أي مما أعطاه الله من الفيء، وهو ما ناله المسلمون من العدوّ بغير قتال ولكن تركَه العدو، أو مما أعطي للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل مارية القبطية أمّ ابنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر، وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوءته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسالمة من جهة الجوار، إذ لم تكن له مع الرسول صلى الله عليه وسلم سابق صحبة ولا معرفة، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتسرّ غير مارية القبطية‏.‏ وقيل‏:‏ إنه تسرى جارية أخرى وهبتها له زوجه زينبُ ابنة جحش ولم يثبت‏.‏ وقيل أيضاً‏:‏ إنه تسرى ريحانَة من سبي قريظة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد ب ‏{‏مما أفاء الله عليك‏}‏ المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة‏.‏

وهذا الحكم يشركه فيه كثير من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئاً من الفيء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلّت له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مما أفاء الله عليك‏}‏ وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القبطية، أو هي وريحانة إن ثبت أنّه تسراها‏.‏

«الصنف الثاني»‏:‏ نساء من قريب قرابته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه أو من جهة أمه مؤمنات مهاجرات‏.‏ وأغنى قوله‏:‏ ‏{‏هاجرن معك‏}‏ عن وصف الإِيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإِيمان، فأباح الله للنبيء عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف، فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة‏.‏ وعندي‏:‏ أن الوصفين ببنات عمه وعمّاته وبناتتِ خاله وخالاته، وبأنهن هاجَرْن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن‏.‏

وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريماً لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة‏.‏ وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم والتعميم لأمته، فالمرأة التي تستوفي هذا الوصف يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام ولأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوجُ أمثالها، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها، وهو الذي درج عليه الجمهور، ويؤيده خبر روي عن أمّ هاني بنت أبي طالب‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها‏.‏ وباعتبار عدم تقييد نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد يكون هذا الإطلاق خاصاً به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع‏.‏

وبنات عمّ النبي صلى الله عليه وسلم هن بنات إخوة أبيه مثل‏:‏ بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب‏.‏ وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له، وبناتُ عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب‏.‏

وبناتُ خاله هنّ بنات عبد مناف بن زُهرة وهن أخوال النبي صلى الله عليه وسلم عبد يغوث بن وهب أخو آمنة، ولم يذكروا أن له بنات، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير‏.‏ وقد ذكر في «الإصابة» فريعة بنتَ وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجةَ عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه‏.‏

وإنما أُفرد لفظ ‏(‏عم‏)‏ وجُمع لفظ ‏(‏عمات‏)‏ لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون‏:‏ هؤلاء بنو عم أو بنات عم، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام، ويفهم المراد من القرائن‏.‏ قال الراجز أنشده الأخفش‏:‏

ما بَرئتْ من ريبة وذمّ *** في حربنا إلا بناتُ العمّ

وقال رؤبة بن العجاج‏:‏

قالت بنات العم يا سلمى وإنْ *** كان فقيراً مُعدماً قالت وإنْ

فأما لفظ ‏(‏العمة‏)‏ فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم، فإذا قالوا‏:‏ هؤلاء بنو عمةٍ، أرادوا أنهم بنو عمةٍ معيّنة، فجيء في الآية‏:‏ ‏{‏عماتك‏}‏ جمعاً لئلا يفهم منه بنات عمة معينة‏.‏ وكذلك القول في إفراد لفظ ‏(‏الخال‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏بنات خالك‏}‏ وجمع الخالة في قوله‏:‏ ‏{‏وبنات خالاتك‏}‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ المراد ببنات العم وبنات العمات‏:‏ نساء قريش، والمراد ببنات الخال‏:‏ النساء الزهريات، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبي قد عُرفت أزواجه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اللاني هاجرن معك‏}‏ صفة عائدة إلى ‏{‏بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك‏}‏ كشأن الصفة الواردة بعد مفردات، وهو شرط تشريع لم يكن مشروطاً من قبل‏.‏

والمعية في قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي هاجرن معك‏}‏ معية المقارنة في الوصف المأخوذ من فعل ‏{‏هاجرن‏}‏ فليس يلزم أن يكنَّ قد خرجْنَ مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة‏.‏

«الصنف الثالث»‏:‏ امرأة تَهب نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم أي تجعل نفسها هبة له دون مهر، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب، فأباح الله للنبيء أن يتخذها زوجة له بدون مهر إذا شاء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهذا حقيقة لفظ ‏{‏وهبت‏}‏، فالمراد من الهبة‏:‏ تزويج نفسها بدون عوض، أي بدون مهر، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح عقد النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافاً للشافعي‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وامرأة‏}‏ عطف على ‏{‏أزواجك‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وأحللنا لك امرأة مؤمنة‏.‏

والتنكير في ‏{‏امرأة‏}‏ للنوعية‏:‏ والمعنى‏:‏ ونُعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله‏:‏ ‏{‏للنبيء‏}‏ في الموضعين إظهار في مقام الإِضمار‏.‏ والمعنى‏:‏ إن وهبتْ نفسها لك وأردتَ أن تنكحها‏.‏ وهذا تخصيص من عموم قوله‏:‏ ‏{‏وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك‏}‏ فإذا وهبت امرأة نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت ‏{‏امرأة‏}‏ ب ‏{‏مؤمنة‏}‏ ليعلم عدم اشتراط ما عدا الإيمان‏.‏ وقد عُدّت زينب بنت خُزيمة الهلالية وكانت تدعى في الجاهلية أمَّ المساكين في اللاتي وهبن أنفسهن، ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلاً فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية‏.‏

ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن‏:‏ أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها فقالت عائشة‏:‏ أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم روى ثابت البناني عن أنس قال‏:‏ «جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت‏:‏ يا رسول الله ألك حاجة بي‏؟‏ فقالت ابنةُ أنس وهي تسمع إلى رواية أبيها‏:‏ ما أقل حياءها وَاسَوأتاه واسوأتاه‏.‏ فقال أنس‏:‏ هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها»‏.‏ وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبها‏.‏ فقال رجل‏:‏ «يا رسول الله زوجنيها، إلى أن قال له، ملّكناكها بما معك من القرآن» فهذا الصنف حكمه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنه بدون مهر وبدون ولي‏.‏

وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبيء صلى الله عليه وسلم أربع هن‏:‏ ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أمّ المساكين، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية، وخولة بنت حكيم بنت الأوقص السَلَمية‏.‏ فأما الأوليان فتزوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما من أمهات المؤمنين والأخريان لم يتزوجهما‏.‏

ومعنى ‏{‏وهبت نفسها للنبيء‏}‏ أنها ملّكته نفسها تمليكاً شبيهاً بملك اليمين ولهذا عطفت على ‏{‏ما ملكت يمينك‏}‏، وأردفت بقوله‏:‏ ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ أي خاصة لك أن تتخذها زوجة بتلك الهبة، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك‏.‏ ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبي عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يُزوجه إياها علماً منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك فقال له ما عندك‏؟‏ قال‏:‏ ما عندي شيء‏.‏ قال‏:‏ اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد فذهب ثم رجع فقال‏:‏ لا والله ولا خاتَماً من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نصفه‏.‏ قال سهل‏:‏ ولم يكن له رداء، فقال النبي‏:‏ ‏"‏ وما تصنع بإزارك إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء وإن لبستْه لم يكن عليك منه شيء ثم قال له ماذا معك من القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ معي سورة كذا وسورة كذا لسُور يُعدّدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ملكناكها بما معك من القرآن ‏"‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن وهبت نفسها للنبي‏}‏ إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ إن وهبت نفسها لك‏.‏ والغرض من هذا الإِظهار ما في لفظ ‏{‏النبي‏}‏ من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوءة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ جملة معترضة بين جملة ‏{‏إن وهبت‏}‏ وبين ‏{‏خالصة‏}‏ وليس مسوقاً للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادته نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإِباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجباً عليه كما كان عرف أهل الجاهلية‏.‏ وجوابه محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير‏:‏ إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له، فهذا شرط مستقل وليس شرطاً في الشرط الذي قبله‏.‏

والعدول عن الإِضمار في قوله‏:‏ ‏{‏إن أراد النبي‏}‏ بأن يقال‏:‏ إن أراد أن يستنكحها لما في إظهار لفظ ‏{‏النبي‏}‏ من التفخيم والتكريم‏.‏

وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها ولم يجز له ردُّها، فأبطل الله هذا الالتزام بتخيير النبي عليه الصلاة والسلام في قبول هِبة المرأة نفسها له وعدمه، وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به‏.‏

والسين والتاء في ‏{‏يستنكحها‏}‏ ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة‏:‏

وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوةً *** أبا جابر فاستنكحوا أم جابر

أي بنو حُنّ قتلوا أبا جابر الطائي فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حُنّ، أي زوجة رجل منهم‏.‏ وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏‏.‏

فتبيَّن من جعل جملة ‏{‏إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط، وتبعه السيوطي في الفن السابع من كتاب «الأشباه والنظائر النحوية»، ويلوح من كلام صاحب «الكشاف» استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك‏.‏

وانتصب ‏{‏خالصة‏}‏ على الحال من ‏{‏امرأة‏}‏، أي خالصة لك تلك المرأة، أي هذا الصنف من النساء، والخلوص معنيٌّ به عدم المشاركة، أي مشاركةِ بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرّد عن المخالطة‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ لبيان حال من ضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لك‏}‏ ما في الخلوص من الإجمال في نسبته‏.‏ وقد دل وصف ‏{‏امرأة‏}‏ بأنها ‏{‏مؤمنة‏}‏ أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبيء عليه الصلاة والسلام بهبة نفسها‏.‏ ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنه لا يحلّ للنبيء صلى الله عليه وسلم تزوج الكتابيات بَلْهَ المشركات، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافاً‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ والصحيح عندي تحريمها عليه‏.‏ وبهذا يتميز علينا؛ فإن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تُهاجر لنقصانها فضلَ الهجرة فأحرى أن لا تحلّ له الكتابية الحرة‏.‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ‏}‏‏.‏

جملة معترضة بين جملة ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ أو هي حال سببي من المؤمنين، أي حال كونهم قد علمنا ما نَفرض عليهم‏.‏

والمعنى‏:‏ أن المؤمنين مستمر ما شُرع لهم من قبلُ في أحكام الأزواج وما ملكتْ أيمانهم، فلا يَشملهم ما عُيّن لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفاً، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو الَّلائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة‏.‏

و ‏{‏ما فرضنا عليهم‏}‏ موصول وصلته، وتعدية ‏{‏فرضنا‏}‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ المقتضي للتكليف والإِيجاب للإِشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكَتْ أيمانهم ما يَوَدُّون أن يخفف عنهم مثل عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات، فإذا سمعوا ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من التوسعة في تلك الأحكام وَدّوا أن يلحقوا به في ذلك، فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعه لهم في ذلك، والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الأحكام لأن معناه أنّا لم نغفل عن ذلك، أي لم نبطله بل عن علم خصصنا نبيئنا بما خصصناه به في ذلك الشأن، فلا يشمل ما أحللناه له بقيةَ المؤمنين‏.‏

وظرفية ‏{‏في‏}‏ مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذَوات الأزواج وذواتُ ما ملكته الأيمان‏.‏

‏{‏لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً‏}‏‏.‏

تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيئه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزوج الواهبات أنفسهن دون مهر، وجَعل قبول هبتها موكولاً لإِرادته، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدا ذلك من الإباحة فلم يضيّق عليه، وهذا تعليم وامتنان‏.‏

والحرج‏:‏ الضيق، والمراد هنا أدنى الحرج، وهو ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلو عنه التكاليف، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته‏.‏ ومراتب الحرج متفاوتة، ومناط ما يُنفى عن الأمة منها وما لا ينفى، وتقديراتُ أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها وأعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول، وقد حرر ملاّكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه «أنواء البروق»‏.‏ وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا المسمى «مقاصد الشريعة الإسلامية»‏.‏

وأعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكُمّل من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبداً شكوراً كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفاراً كثيراً‏.‏

والتذييل بجملة ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيء صلى الله عليه وسلم لا للجملة المعترضة، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإِرادة والعلم فهما ناشئتان عن صفات الذات، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمراً متمكّناً بما دلّ عليه فعل ‏{‏كان‏}‏ المشير إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً‏}‏‏.‏

استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏ فإنه يثير في النفس تطلباً لبيان مدى هذا التحليل‏.‏ والجملةُ خبر مستعمل في إنشاء تحليل الإِرجاء والإِيواء لمن يشاء النبي صلى الله عليه وسلم

والإِرجاء حقيقته‏:‏ التأخير إلى وقت مستقبل‏.‏ يقال‏:‏ أرجأت الأمر وأرجيْته مهموزاً ومخففاً، إذا أخرته‏.‏

وفعله ينصرف إلى الأحوال لا الذوات، فإذا عدي فعله إلى اسم ذات تعين انصرافه إلى وصف من الأوصاف المناسبة والتي تراد منها، فإذا قلت‏:‏ أرجأت غريمي، كان المراد‏:‏ أنك أخرت قضاء دينه إلى وقت يأتي‏.‏

والإِيواء‏:‏ حقيقته جعل الشيء آوياً، أي راجعاً إلى مكانه‏.‏ يقال‏:‏ آوى، إذا رجع إلى حيث فارق، وهو هنا مجاز في مطلق الاستقرار سواء كان بعد إبعاد أم بدونه، وسواء كان بعد سبق استقرار بالمكان أم لم يكن‏.‏

ومقابلة الإِرجاء بالإِيواء تقتضي أن الإِرجاء مراد منه ضد الإِيواء أو أن الإِيواء ضد الإِرجاء وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإِرجاء والإِيواء صريحهما وكنايتهما‏.‏

فضمير ‏{‏منهن‏}‏ عائد إلى النساء المذكورات ممن هن في عصمته ومن أحل الله له نكاحهن غيرهن من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، والواهبات أنفسهن، فتلك أربعة أصناف‏:‏

الصنف الأول‏:‏ وهنّ اللاء في عصمة النبي عليه الصّلاة والسّلام فهن متصلن به فإرجاء هذا الصنف ينصرف إلى تأخير الاستمتاع إلى وقت مستقبل يريده، والإِيواء ضده‏.‏ فيتعين أن يكون الإِرجاء منصرفاً إلى القَسْم فوسع الله على نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقاً له لا لهن بخلاف بقية المسلمين، وعلى هذا جرى قول مجاهد وقتادة وأبي رزين، قاله الطبري‏.‏

وقد كانت إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أسقطت عنه حقها في المبيت وهي سودة بنت زمعة، وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة وكان ذلك قبل نزول هذه الآية، ولما نزلت هذه الآية صار النبي عليه الصلاة والسلام مخيراً في القسم لأزواجه‏.‏ وهذا قول الجمهور، قال أبو بكر بن العربي‏:‏ وهو الذي ينبغي أن يعول عليه‏.‏ وهذا تخيير للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يأخذ لنفسه به تكرماً منه على أزواجه‏.‏ قال الزهري‏.‏ ما علمنا أن رسول الله أرجأ أحداً من أزواجه بل آواهن كلَّهن‏.‏

قال أبو بكر بن العربي‏:‏ وهو المعنى المراد‏.‏ وقال أبو رَزين العُقيلي‏:‏ أرجأ ميمونة وسَودة وجويرية وأم حبيبة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء، أي دون مساواة لبقية أزواجه‏.‏ وضعفه ابن العربي‏.‏

وفسر الإِرجاء بمعنى التطليق، والإِيواءُ بمعنى الإِبقاء في العصمة، فيكون إذناً له بتطليق من يشاء تطليقها وإطلاق الإِرجاء على التطليق غريب‏.‏

وقد ذكروا أقوالاً أخر وأخباراً في سبب النزول لم تصح أسانيدها فهي آراء لا يوثق بها‏.‏ ويشمل الإِرجاء الصنف الثاني وهن ما ملكت يمينه وهو حكم أصلي إذ لا يجب للإِماء عدل في المعاشرة ولا في المبيت‏.‏

ويشمل الإِرجاء الصنف الثالث وهن‏:‏ بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته، فالإِرجاء تأخير تزوج مَن يحلّ منهن، والإِيواء العقد على إحداهن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية، وذلك إرجاء العمل بالإِذن فيهن إلى غير أجل معين‏.‏

وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللاء وهَبْن أنفسهن، سواء كان ذلك واقعاً بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة، عُبر عنه بالإِرجاء إبقاء على أَملها أن يقبلها في المستقبل، وإيواؤهن قبول هبتهن‏.‏

قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف ‏{‏ترجي‏}‏ بالياء التحتية في آخره مخَّفف ‏(‏تُرجئ‏)‏ المهموز‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ‏{‏ترجئ‏}‏ بالهمز في آخره‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الهمز أجود وأكثر‏.‏ والمعنى واحد‏.‏

واتفق الرواة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل مع أزواجه ما أبيح له أخذاً منه بأفضل الأخلاق، فكان يعدل في القسم بين نسائه، إلاّ أن سَودة وهبت يومها لعائشة طلباً لمسرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك‏}‏ فهذا لبياننِ أن هذا التخيير لا يوجب استمرار ما أخذ به من الطرفين المخيَّرِ بينهما، أي لا يكون عمله بالعزل لازمَ الدوام بمنزلة الظهار والإِيلاء، بل أَذن الله أن يرجع إلى من يعزلها منهن، فصرح هنا بأن الإِرجاء شامل للعزل‏.‏

ففي الكلام جملة مقدرة دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏ابتغيت‏}‏ إذ هو يقتضي أنه ابتغى إبطال عزلها، فمفعول ‏{‏ابتغيت‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وتؤوي إليك من تشاء‏}‏ كما هو مقتضى المقابلة بقوله‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء‏}‏، فإن العزل والإِرجاء مؤداهما واحد‏.‏

والمعنى‏:‏ فإن عزلْتَ بالإِرجاء إحداهن فليس العزل بواجب استمراره بل لك أن تعيدها إن ابتَغَيْتَ العود إليها، أي فليس هذا كتخيير الرجل زوجه فتختار نفسها المقتضي أنها تَبِين منه‏.‏ ومتعلق الجُناح محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ابتغيت‏}‏ أي ابتغيت إيواءها فلا جناح عليك من إيوائها‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ يجوز أن تكون شرطية وجملة ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ جواب الشرط‏.‏ ويجوز أن تكون موصولة مبتدأ فإن الموصول يعامل معاملة الشرط في كلامهم بكثرة إذا قصد منه العموم فلذلك يقترن خبر الموصول العام بالفاء كثيراً كقوله تعالى‏:‏

‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏، وعليه فجملة ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ خبر المبتدأ اقترن بالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ومفعول ‏{‏عزلت‏}‏ محذوف عائد إلى ‏{‏مَن‏}‏ أي التي ابتغيتها ممن عزلتهن وهو من حذف العائد المنصوب‏.‏

‏{‏ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَلِيمًا‏}‏‏.‏

الإِشارة إلى شيء مما تقدم وهو أقربه، فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء‏}‏، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل ‏{‏ابتغيت‏}‏ أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقرَّ أعينهُنّ‏.‏ والابتغاء‏:‏ الرغبة والطلب، والمراد هنا ابتغاء معاشرة مَن عَزلَهن‏.‏

فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق حقاً لهن فإذا عين لإِحداهن حالة من الحالين رضيته به لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏ فقرت أعين جميعهن بما عُينت لكل واحدة لأن الذي يعلم أنه لا حق له في شيء كان راضياً بما أوتي منه، وإن علم أنّ له حقاً حسب أن ما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه‏.‏ وهذا التفسير مروي عن قتادة وتبعه الزمخشري وابن العربي والقرطبي وابن عطية، وهذا يلائم قوله‏:‏ ‏{‏ويرضين‏}‏ ولا يلائم قوله‏:‏ ‏{‏أن تقر أعينهن‏}‏ لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحزن‏}‏ لأن الحزن من الأمر المكدّر ليس باختياري كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فلا تَلمنِي فيما لا أملك ‏"‏‏.‏ وعلى الوجه الثاني يكون المعنى‏:‏ ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تَقَرَّ أعين اللاتي كنت عزلتَهُن‏.‏ ففي هذا الوجه ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏أن تقر أعينهن ولا يحزن‏}‏ كما علمت آنفاً، ولقوله‏:‏ «ويرضَيْنَ كلُّهن»، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في تحصيلها لا محالة وهي إدخال المسرّة على المسلم وحصول الرضى بين المسلمين وهو مما يعزّز الأخوة الإسلامية المرغب فيها‏.‏ ونقل قريب من هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد واختاره أبو علي الجبّائي وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر‏.‏ ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه بليلة سوى ليلة سودة التي وهبتها لعائشة، استمر ذلك إلى وفاته صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به كل يوم على بيوت أزواجه، وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبة ليلة عائشة فأذِنَّ له أزواجُه أن يمرض في بيتها رفقاً به‏.‏

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حين قَسَم لَهُن ‏"‏ اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك ‏"‏ ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويرضين بما آتيتهن كلهن‏}‏ إشارة إلى أن المراد الرضى الذي يتساوَيْن فيه وإلا لم يكن للتأكيد ب ‏{‏كلهن‏}‏ نكتة زائدة، فالجمع بين ضميرهن في قوله‏:‏ ‏{‏كلهن‏}‏ يومئ إلى رضى متساوٍ بينهن‏.‏

وضميرا ‏{‏أعينهن ولا يحزن‏}‏ عائدان إلى ‏(‏مَن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ممن عزلت‏}‏‏.‏ وذكر ‏{‏ولا يحزن‏}‏ بعد ذكر ‏{‏أن تقر أعينهن‏}‏ مع ما في قُرّة العين من تضمّن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزناً للمعزولات وهو بالمؤمنين رؤوف لا يحب أن يُحْزِن أحداً‏.‏

و ‏{‏كلهن‏}‏ توكيد لضمير ‏{‏يَرْضَيْنَ‏}‏ أو يتنازعه الضمائر كلّها‏.‏

والإِيتاء‏:‏ الإِعطاء وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني، أو ذكر غير معيّن كقوله‏:‏ ‏{‏فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء‏.‏ ولم أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول‏:‏ آتاه سجناً وآتاه ضرباً، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة، فما هنا من القبيل الأول، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن يرضين بما أذِن الله فيه لرسوله من عزلهن وإرجائهن‏.‏ وتوجيهه في «الكشاف» تكلف‏.‏

والتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً‏}‏ كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الإِحسان بأزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضى بما يلقَيْنَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفي إجراء صفتي ‏{‏عليماً حليماً‏}‏ على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك، فمناسبة صفة العلم لقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما في قلوبكم‏}‏ ظاهرة، ومناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه صلى الله عليه وسلم التخلق بخلق الله تعالى وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رؤوف رحيم ومثل شاهد‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً‏.‏ ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخيير في النساء اللاتي كنّ في معاشرته، وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فإن الله كتب الإحسان على كل شيء‏.‏ وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن‏.‏