فصل: تفسير الآيات رقم (19- 23)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏}‏ لله الله المصير * وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير * وَلاَ الظلمات وَلاَ النور * وَلاَ الظل وَلاَ الحرور * وَمَا يَسْتَوِى الاحيآء وَلاَ الاموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏‏.‏

أربعة أمثال للمؤمنين والكافرين، وللإِيمان والكفر، شبه الكافر بالأعمى، والكُفر بالظلمات، والحرور والكافر بالميّت، وشبه المؤمن بالبصير وشبه الإِيمان بالنور والظل، وشبه المؤمن بالحي تشبيه المعقول بالمحسوس‏.‏ فبعد أن بيّن قلة نفع النذارة للكافرين وأنها لا ينتفع بها غير المؤمنين ضرب للفريقين أمثالاً كاشفة عن اختلاف حاليهما، وروعي في هذه الأشباه توزيعها على صفة الكافر والمؤمن، وعلى حالة الكفر والإِيمان، وعلى أثر الإِيمان وأثر الكفر‏.‏

وقدم تشبيه حال الكافر وكفره على تشبيه حال المؤمن وإيمانه ابتداء لأن الغرض الأهم من هذا التشبيه هو تفظيع حال الكافر ثم الانتقالُ إلى حسن حال ضده لأن هذا التشبيه جاء لإِيضاح ما أفاده القصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏ كما تقدم آنفاً من أنه قصر إضافي قصرَ قلب، فالكافر شبيه بالأعمى في اختلاط أمره بين عقل وجهالة، كاختلاط أمر الأعمى بين إدراك وعدمه‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الكافر وإن كان ذا عقل يدرك به الأمور فإن عقله تمحض لإِدراك أحوال الحياة الدنيا وكان كالعدم في أحوال الآخرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏، فحاله المقسم بين انتفاع بالعقل وعدمه يشبه حال الأعمى في إدراكه أشياء وعدم إدراكه‏.‏

والعمى يعبر به عن الضلال، قال ابن رواحة‏:‏

أرانا الهدى بعد العَمَى فقلوبنا *** به موقنات أن ما قال واقع

ثم شبه الكفر بالظلمات في أنه يجعل الذي أحاط هو به غير متبيّن للأشياء، فإن من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتقادية، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام‏.‏

وجي في ‏{‏الظلمات‏}‏ بلفظ الجمع لأنه الغالب في الاستعمال فهم لا يذكرون الظلمة إلا بصيغة الجمع‏.‏ وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏ في الأنعام ‏(‏1‏)‏‏.‏

وضُرِب الظِلّ مَثَلاً لأثر الإِيمان، وضدُّه وهو الحرور مثلاً لأثر الكفر؛ فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين، وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالباً إلا في بعض فصل الشتاء، وقوبل بالحَرور لأنه مُؤْلِم ومعذّب في عرفهم كما علمت، وفي مقابلته بالحرور إيذان بأن المراد تشبيهه بالظل في حالة استطابته‏.‏

والحرور‏}‏ حر الشمس، ويطلق أيضاً على الريح الحارة وهي السموم، أو الحَرور‏:‏ الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار‏.‏

وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة ‏{‏الحرور‏}‏‏.‏

وفواصل القرآن من متممات فصاحته، فلها حظ من الإِعجاز‏.‏

فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر، وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريّث وإتقان‏.‏ وحال الكافر يشبه الحَرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه العقول من التأمل والتبصر وتصدر فيها الآراء والمساعي معجَّلة متفككة‏.‏

وأعلم أن تركيب الآية عجيب فقد احتوت على واوات عطْف وأدوات نفي؛ فكلّ من الواوين اللذين في قوله‏:‏ ‏{‏ولا الظلمات‏}‏ الخ، وقوله‏:‏ ‏{‏الظل‏}‏ الخ عاطف جملة على جملة وعاطف تشبيهات ثلاثة بل تشبيه منها يجمع الفريقين‏.‏ والتقدير‏:‏ ولا تستوي الظلمات والنور ولا يستوي الظِّل والحرور، وقد صرح بالمقدر أخيراً في قوله‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏‏.‏

وأما الواوات الثلاثة في قوله‏:‏ ‏{‏والبصير‏}‏ ‏{‏ولا النور‏}‏ ‏{‏ولا الحرور‏}‏ فكل واو عاطف مفرداً على مفرد، فهي ستة تشبيهات موزعة على كل فريق؛ ف ‏{‏البصير‏}‏ عطف على ‏{‏الأعمى‏}‏، و‏{‏النور‏}‏ عطف على ‏{‏الظلمات‏}‏، و‏{‏الحرور‏}‏ عطف على ‏{‏الظل‏}‏، ولذلك أعيد حرف النفي‏.‏

وأما أدوات النفي فاثنان منها مؤكدان للتغلب الموجه إلى الجملتين المعطوفتين المحذوف فعلاهما ‏{‏ولا الظلمات ولا الظل‏}‏، واثنان مؤكدان لتوجه النفي إلى المفردين المعطوفين على مفردين في سياق نفي التسوية بينهما وبين ما عطفا عليهما وهما واو ‏{‏ولا النور‏}‏، وواو ‏{‏ولا الحرور‏}‏، والتوكيد بعضه بالمثل وهو حرف ‏{‏لا‏}‏ وبعضه بالمرادف وهو حرف ‏{‏ما‏}‏ ولم يؤت بأداة نفي في نفي الاستواء الأول لأنه الذي ابتدئ به نفي الاستواء المؤكد من بعد فهو كله تأييس‏.‏ وهو استعمال قرآني بديع في عطف المنفيات من المفردات والجمل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تستوي الحسنة ولا السيئة‏}‏ في سورة فصّلت ‏(‏34‏)‏‏.‏

وجملة وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل ‏{‏يستوي‏}‏ لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد ‏(‏16‏)‏‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور‏.‏‏}‏ فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام ‏(‏122‏)‏ ‏{‏أو من كان ميّتاً فأحييناه‏}‏ وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره‏.‏

واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح، وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين‏.‏

وَلاَ الاموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ‏}‏‏.‏

لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهاً به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه ‏{‏الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له‏:‏ إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات، فجاء قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور‏}‏ على مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب‏.‏

فجملة ‏{‏إن الله يسمع من يشاء‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيداً فريقين‏:‏ فريقاً انتفع بالإِنذار، وفريقاً لم ينتفع، فعلل ذلك ب ‏{‏إن الله يسمع من يشاء‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنت بمسمع من في القبور‏}‏ إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك‏.‏

واستعير ‏{‏من في القبور‏}‏ للذين لم تنفع فيهم النذر، وعبر عن الأموات ب ‏{‏من في القبور‏}‏ لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض‏.‏ فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال‏:‏ وما أنت بمسمع الموتى‏.‏

وجيء بصيغة الجمع ‏{‏الأحياء‏}‏ و‏{‏الأموات‏}‏ تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسماً له أفراد بخلاف النور والظل والحرور، وأما جمع ‏{‏الظلمات‏}‏ فقد علمت وجهه آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏إن أنت إلا نذير‏}‏ أفادت قصراً إضافياً بالنسبة إلى معالجة تسميعهم الحقَ، أي أنت نذير للمشابهين مَن في القبور ولسْت بمُدْخِل الإِيمان في قلوبهم، وهذا مسوق مساق المعذرة للنبيء صلى الله عليه وسلم وتسليته إذ كان مهتَمًّا من عدم إيمانهم‏.‏

والنذير‏:‏ المنبئ عن توقع حدوث مكروه أو مؤلم‏.‏

والاقتصار على وصفه بالنذير لأن مساق الكلام على المصمِّمين على الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

استئناف ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وتنويه به وبالإِسلام‏.‏ وفيه دفع توهم أن يكون قصره على النذارة قصراً حقيقاً لتبيّن أن قصره على النذارة بالنسبة للمشركين الذين شابَه حالُهم حالَ أصحاب القبور، أي أن رسالتك تجمع بشارة ونذارة؛ فالبشارة لمن قَبِل الهدى، والنذارة لمن أعرض عنه، وكل ذلك حقّ لأن الجزاء على حسب القبول، فهي رسالة ملابسة للحق ووضع الأشياء مواضعها‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ إما حال من ضمير المتكلم في ‏{‏أرسلناك‏}‏ أي مُحقّين غير لاَعبين، أو من كاف الخطاب، أي مُحِقّاً أنتَ غير كاذب، أو صفةٌ لمصدر محذوف، أي إرسالاً ملابساً بالحق لا يشوبه شيء من الباطل‏.‏ وتقدم نظير هذه الجملة في سورة البقرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ إبطال لاستبعاد المشركين أن يرسل الله إلى الناس بشراً منهم، فإن تلك الشبهة كانت من أعظم ما صدّهم عن التصديق به، فلذلك أُتبعت دلائل الرسالة بإبطال الشبهة الحاجبة على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعاً من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وأيضاً في ذلك تسفيه لأحلامهم إذ رضُوا أن يكونوا دون غيرهم من الأمم التي شُرّفت بالرسالة‏.‏

ووجه الاقتصار على وصف النذير هنا دون الجمع بينه وبين وصف البشير هو مراعاة العموم الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏، فإن من الأمم من لم تحصل لها بشارة لأنها لم يؤمن منها أحد، ففي الحديث‏:‏ «عُرضت عليّ الأمم فجَعَل النبي يمرّ معه الرهط، والنبي يمرّ معه الرجل الواحد، والنبي يمرّ وحده» الحديث، فإن الأنبياء الذين مرّوا وحدهم هم الأنبياء الذين لم يستجب لهم أحد من قومهم، وقد يكون عدم ذكر وصف البشارة للاكتفاء بذكر قرينة اكتفاء بدلالة ما قبله عليه، وأُوثر وصف النذير بالذكر لأنه أشد مناسبة لمقام خطاب المكذبين‏.‏

ومعنى الأمة هنا‏:‏ الجذم العظيم من أهل نسب ينتهي إلى جدّ واحد جامع لقبائل كثيرة لها مواطن متجاورة مثل أمة الفُرس وأمة الروم وأمة الصين وأمة الهند وأمة اليونان وأمة إسرائيل وأمة العرب وأمة البرْبر؛ فما من أمة من هؤلاء إلا وقد سبق فيها نذير، أي رسول أو نبيء يُنذرهم بالمهلكات وعذاب الآخرة‏.‏ فمن المنذِرين من علمناهم، ومنهم من أنذروا وانقرضوا ولم يبق خبرهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصُصْ عليك‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 78‏]‏‏.‏

والحكمة في الإِنذار أن لا يبقى الضلال رائجاً وأن يتخول الله عباده بالدعوة إلى الحق سواء عملوا بها أو لم يعملوا فإنها لا تخلو من أثر صالح فيهم‏.‏ وإنما لم يسم القرآن إلا الأنبياء والرسل الذين كانوا في الأمم الساميّة القاطنة في بلاد العرب وما جاورها لأن القرآن حين نزوله ابتدأ بخطاب العرب ولهم علم بهؤلاء الأقوام فقد علموا أخبارهم وشهدوا آثارهم فكان الاعتبار بهم أوقع، ولو ذكرت لهم رسل أمم لا يعرفونهم لكان إخبارهم عنهم مجرد حكاية ولم يكن فيه استدلال واعتبار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

أعقب الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بتسليته على تكذيب قومه وتأنيسه بأن تلك سنة الرسل مع أممهم‏.‏

وإذ قد كان سياق الحديث في شأن الأمم جعلت التسلية في هذه الآية بحال الأمم مع رسلهم عكس ما في آية آل عمران ‏(‏184‏)‏‏:‏ ‏{‏فإن كذبوك فقد كذّب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير‏}‏ لأن سياق آية آل عمران كان في ردّ محاولة أهل الكتاب إفحام الرسول لأن قبلها ‏{‏الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 183‏]‏‏.‏

وقد خولف أيضاً في هذه الآية أسلوب آية آل عمران إذ قرن كل من «الزبر والكتاب المنير» هنا بالباء، وجُرّدا منها في آية آل عمران وذلك لأن آية آل عمران جرت في سياق زعم اليهود أن لا تقبل معجزة رسول إلا معجزة قُربان تأكله النار، فقيل في التفرد ببهتانهم‏:‏ قد كُذّبت الرسل الذين جاء الواحد منهم بأصناف المعجزات مثل عيسى عليه السلام ومن معجزاتهم قرابين تأكلها النار فكذبتموهم، فترك إعادة الباء هنالك إشارة إلى أن الرُسل جاءوا بالأنواع الثلاثة‏.‏

ولما كان المقام هنا لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب أن يذكر ابتلاء الرسل بتكذيب أممهم على اختلاف أحوال الرسل؛ فمنهم الذين أتَوا بآيات، أي خوارق عادات فقط مثل صالح وهود ولوط، ومنهم من أتوا بالزبر وهي المواعظ التي يؤمر بكتابتها وزَبرها، أي تخطيطها لتكون محفوظة وتردد على الألسن كزبور داود وكتب أصحاب الكتب من أنبياء بني إسرائيل مثل أرمياء وإيلياء، ومنهم من جاءوا بالكتاب المنير، يعني كتاب الشرائع مثل إبراهيم وموسى وعيسى، فذكر الباء مشير إلى توزيع أصناف المعجزات على أصناف الرسل‏.‏

فزبور إبراهيم صُحُفه المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صحف إبراهيم وموسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وزبور موسى كلامه في المواعظ الذي ليس فيه تبليغ عن الله مثل دعائه الذي دعا به في قادش المذكور في الإِصحاح التاسع من سفر التثنية، ووصيته في عَبر الأردن التي في الإِصحاح السابع والعشرين من السفر المذكور، ومثل نشيده الوعظي الذي نطق به وأمر بني إسرائيل بحفظه والترنّم به في الإِصحاح الثاني والثلاثين منه، ومثل الدعاء الذي بارك به أسباط إسرائيل في عَربات مُؤاب في آخر حياته في الإِصحاح الثالث والثلاثين منه‏.‏

وزبور عيسى أقواله المأثورة في الأناجيل مما لم يكن منسوباً إلى الوحي‏.‏

فالضمير في «جاءوا» للرسل وهو على التوزيع، أي جاء مجموعهم بهذه الأصناف من الآيات، ولا يلزم أن يجيء كل فرد منهم بجميعها كما يقال بنو فلان قتلوا فلاناً‏.‏

وجواب ‏{‏إن يكذبوك‏}‏ محذوف دلت عليه علته وهي قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذبت رسل من قبلك‏}‏

‏[‏فاطر‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إن يكذبوك فلا تحزن، ولا تحسبهم مفلِتين من العقاب على ذلك إذ قد كذب الأقوام الذين جاءتهم رسل من قبل هؤلاء وقد عاقبناهم على تكذيبهم‏.‏

فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذب الذين من قبلهم‏}‏ فاء فصيحة أو تفريع على المحذوف‏.‏

وجملة ‏{‏جاءتهم‏}‏ صلة ‏{‏الذين‏}‏، و‏{‏من قبلهم‏}‏ في موضع الحال من اسم الموصول مقدّم عليه أو متعلق ب ‏{‏جاءتهم‏}‏‏.‏

و ‏{‏ثمّ‏}‏ عاطفة جملة ‏{‏أخذت‏}‏ على جملة ‏{‏جاءتهم‏}‏ أي ثمّ أخذتهم، وأُظهر ‏{‏الذين كفروا‏}‏ في موضع ضمير الغيبة للإِيماء إلى أن أخذهم لأجل ما تضمنته صلة الموصول من أنهم كفروا‏.‏

والأخذ مستعار للاستئصال والإِفناء؛ شبه إهلاكهم جزاءً على تكذيبهم بإتلاف المغيرين على عدوّهم يقتلونهم ويغنمون أموالهم فتبقى ديارهم بَلْقَعاً كأنهم أخذوا منها‏.‏

و ‏(‏كيف‏)‏ استفهام مستعمل في التعجيب من حالهم وهو مفرع بالفاء على ‏{‏أخذت الذين كفروا‏}‏، والمعنى‏:‏ أخذتهم أخذاً عجيباً كيف ترون أعجوبته‏.‏ وأصل ‏(‏كيف‏)‏ أن يستفهم به عن الحال فلما استعمل في التعجيب من حال أخذهم لزم أن يكون حالهم معروفاً، أي يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وكلّ من بلغتْه أخبارهم فعلى تلك المعرفة المشهورة بني التعجيب‏.‏

والنَّكير‏:‏ اسم لشدة الإِنكار، وهو هنا كناية عن شدة العقاب لأن الإِنكار يستلزم الجزاء على الفعل المنكر بالعقاب‏.‏

وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً ولرعاية الفواصل في الوقف لأن الفواصل يعتبر فيها الوقت، وتقدم في سبأ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏كَانَ نَكِيرِ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ‏}‏‏.‏

استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خِلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جِبلِّي فَطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن‏.‏

وضُرب اختلاف الظواهر في أفراد الصنف الواحد مثلاً لاختلاف البواطن تقريباً للأفهام، فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البياني لأن مثل هذا التقريب مما تشرئِبُّ إليه الأفهام عند سماع قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يسمع من يشاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والرؤية بصرية، والاستفهام تقريري، وجاء التقرير على النفي على ما هو المستعمل كما بيناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا أنه لا يكلمهم‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏148‏)‏ وفي آيات أخرى‏.‏

وضمير فأخرجنا‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏

والألوان‏:‏ جمع لون وهو عَرَض، أي كيفية تعرض لسطوح الأجسام يكيِّفه النورُ كيفيات مختلفة على اختلاف ما يحصل منها عند انعكاسها إلى عدسات الأعين من شبه الظلمة وهو لون السواد وشِبه الصبح هو لون البياض، فهما الأصلان للألوان، وتنشق منها ألوان كثيرة وضعت لها أسماء اصطلاحية وتشبيهية‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏69‏)‏، وتقدم في سورة النحل‏.‏

والمقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التفاح مع ألوان السفرجل، وألوان العنب مع ألوان التين، واختلاف ألوان الأفراد من الصنف الواحد تارات كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمان‏.‏

وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ وذلك أرعى للاعتبار‏.‏

وجيء بالجملتين الفعليتين في ‏{‏أنزل‏}‏ و«أخرجنا» لأن إنزال الماء وإخراج الثمرات متجدد آنا فآنا‏.‏

والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله‏:‏ ‏{‏أنزل‏}‏ وقوله‏:‏ «أخرجنا» لأن الاسم الظاهر أنسب بمقام الاستدلال على القدرة لأنه الاسم الجامع لمعاني الصفات‏.‏

وضمير التكلم أنسب بِما فيهِ امتنان‏.‏

وقدم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه سعة اختلاف الناس في المنافع والمدارك والعقائد‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمْرة طعمُها طيّب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحُها طيّب وطعمها مُرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريح لها ‏"‏‏.‏

وجرد ‏{‏مختلفاً‏}‏ من علامة التأنيث مع أن فاعله جمع وشأنُ النعت السَببي أن يوافق مرفوعه في التذكر وضده والإِفراد وضده، ولا يوافق في ذلك منعوته، لأنه لما كان الفاعل جمعاً لما لا يعقل وهو الألوان كان حذف التاء في مثله جائزاً في الاستعمال، وآثره القرآن إيثاراً للإِيجاز‏.‏

والمراد بالثمرات‏:‏ ثمرات النخيل والأعناب وغيرها، فثمرات النخيل أكثر الثمرات ألواناً، فإن ألوانها تختلف باختلاف أطوارها، فمنها الأخضر والأصفر والأحمر والأسود‏.‏

‏{‏مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏ألم تر أن الله‏}‏ فهي مثلها مستأنفة، وعطفها عليها للمناسبة الظاهرة‏.‏

و ‏{‏جدد‏}‏ مبتدأ ‏{‏ومن الجبال‏}‏ خبره‏.‏ وتقديم الخبر للاهتمام وللتشويق لذكر المبتدأ حثّاً على التأمل والنظر‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ تبعيضية على معنى‏:‏ وبعض تراب الجبال جُدَد، ففي الجبل الواحد توجد جُدد مختلفة، وقد يكون بعض الجُدَد بعضها في بعض الجبال وبعض آخر في بعض آخر‏.‏

و ‏{‏جُدَد‏}‏‏:‏ جمع جُدّة بضم الجيم، وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه‏.‏ يقال للخطة السوداء التي على ظهر الحمار جُدّة، وللظبي جدّتان مسكيّتا اللون تفصلان بين لوني ظهره وبطنه، والجدد البيض التي في الجبال هي ما كانت صخوراً بيضاء مثل المروة، أو كانت تقرب من البياض فإن من التراب ما يصير في لون الأصهب فيقال‏:‏ تراب أبيض، ولا يعنون أنه أبيض كالجير والجص بل يعنون أنه مخالف لغالب ألوان التراب، والجُدَد الحُمر هي ذات الحجارة الحمراء في الجبال‏.‏

و ‏{‏غرابيبُ‏}‏ جمع غربيب، والغربيبُ‏:‏ اسم للشيء الأسود الحالك سواده، ولا تعرف له مادة مشتق هو منها، وأحسب أنه مأخوذ من الجامد، وهو الغراب لشهرة الغراب بالسواد‏.‏

‏{‏وسود‏}‏ جمع أسود وهو الذي لونه السواد‏.‏

فالغربيب يدل على أشد من معنى أسود، فكان مقتضى الظاهر أن يكون ‏{‏غرابيب‏}‏ متأخراً عن ‏{‏سود‏}‏ لأن الغالب أنهم يقولون‏:‏ أسود غربيب، كما يقولون‏:‏ أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قان، ولا يقولون‏:‏ غربيب أسود وإنما خولف ذلك للرعاية على الفواصل المبنية على الواو والياء الساكنتين ابتداءً من قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه هو الغني الحميد‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 15‏]‏، على أن في دعوى أن يكون غربيباً تابعاً لأسود نظراً والآية تؤيد هذا النظر، ودعوى كون ‏{‏غرابيب‏}‏ صفة لمحذوف يدل عليه ‏{‏سود‏}‏ تكلف واضح، وكذلك دعوى الفراء‏:‏ أن الكلام على التقديم والتأخير، وغرض التوكيد حاصل على كل حال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ الناس والدوآب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏‏.‏

موقعه كموقع قوله‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جدد‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فإن تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة‏.‏

واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي‏.‏ وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر، وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏واختلاف ألسنتكم وألوانكم‏}‏ في سورة الروم ‏(‏22‏)‏‏.‏

ومن‏}‏ تبعيضية‏.‏ والمعنى‏:‏ أن المختلف ألوانه بعض من الناس، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام، وهو نظم دقيق دعا إليه الإِيجاز‏.‏

وجيء في جملة ‏{‏ومن الجبال جدد‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏ و‏{‏من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه‏}‏ بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإِيجاد اختلافاً دائماً لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل‏.‏

‏{‏مُخْتَلِفٌ ألوانه كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله‏}‏‏.‏

الأظهر عندي أن ‏{‏كذلك‏}‏ ابتداء كلام يتنزل منزلة الإِخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل‏.‏ والمعنى‏:‏ كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله‏:‏ ‏{‏إنما يخشى الله من عباده‏}‏ أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم، فجملة ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ مستأنفة عن جملة ‏{‏كذلك‏}‏‏.‏ وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون‏.‏ وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصاً للتنويه بأهل العلم والإِيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يتلون كتاب الله‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏‏.‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف دل عليه المقام‏.‏ والتقدير‏:‏ كذلك الاختلاف، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف ‏(‏91‏)‏‏:‏ ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً‏}‏ وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده‏.‏

وأما جعل كذلك‏}‏ من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه‏.‏

والقصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ قصر إضافي، أي لا يخشاه الجهال، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية، أي عدم العلم؛ فالمؤمنون يومئذٍ هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله‏.‏ ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتاً كثيراً‏.‏ وتقديم مفعول ‏{‏يخشى‏}‏ على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه‏.‏

والمراد بالعلماء‏:‏ العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقْوَى الخشية؛ فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصدُ شرعه، فإنْ هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنه مورَّط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإِيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإِقلاع أو الإِقلال‏.‏

وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء‏.‏ قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد «والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة»‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله عزيز غفور‏}‏ تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير‏.‏ ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإِعراض عنهم مما قد يحدث يأساً في نفوس المقاربين منهم، أُلِّفَتْ قلوبهم بإتباع وصف ‏{‏عزيز‏}‏، بوصف ‏{‏غفور‏}‏ أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة ‏{‏غفور‏}‏ حظاً عظيماً لأحد طرفي القصر وهم العلماء، أي غفور لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏‏}‏

استئناف لبيان جملة ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ الآية، فالذين يتلون كتاب الله هم المراد بالعلماء، وقد تخلّص إلى بيان فوز المؤمنين الذين اتَّبعوا الذكر وخشوا الرحمان بالغيب فإن حالهم مضادّ لحال الذين لم يسمعوا القرآن وكانوا عند تذكيرهم به كحال أهل القبور لا يسمعون شيئاً‏.‏ فبعد أن أثنى عليهم ثناء إجمالياً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏، وأجمل حسن جزائهم بذكر صفة ‏{‏غفور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ ولذلك ختمت هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إنه غفور شكور‏}‏ فُصِّل ذلك الثناء وذكرت آثاره ومنافعه‏.‏

فالمراد ب ‏{‏الذين يتلون كتاب الله‏}‏ المؤمنون به لأنهم اشتهروا بذلك وعُرفوا به وهم المراد بالعلماء‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وهو أيضاً كناية عن إيمانهم لأنه لا يتلو الكتاب إلا من صدّق به وتلقاه باعتناء‏.‏ وتضمن هذا أنهم يكتسبون من العلم الشرعي من العقائد والأخلاق والتكاليف، فقد أشعر الفعل المضارع بتجدد تلاوتهم فإن نزول القرآن متجدد فكلما نزل منه مقدار تلقوه وتدارسوه‏.‏

وكتاب الله القرآن وعدل عن اسمه العلم إلى اسم الجنس المضاف لاسم الجلالة لما في إضافته إليه من تعظيم شأنه‏.‏

وأتبع ما هو علامة قبول الإِيمان والعلم به بعلامة أخرى وهي إقامة الصلاة كما تقدم في سورة البقرة ‏(‏2‏)‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة‏}‏ فإنها أعظم الأعمال البدنية، ثم أتبعت بعمل عظيم من الأعمال في المال وهي الإِنفاق، والمراد بالإِنفاق حيثما أطلق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها وما ورد الإِنفاق في السور المكية إلا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ؛ على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نُصب ولا تَحديد ثم حدِّدت بالنصب والمقادير‏.‏

وجيء في جانب إقامة الصلاة والإِنفاق بفعل المضي لأن فرض الصلاة والصدقة قد تقرر وعملوا به فلا تجدد فيه، وامتثال الذي كلفوا به يقتضي أنهم مداومون عليه‏.‏

وقوله‏:‏ مما رزقناهم‏}‏ إدماج للامتنان وإيماء إلى أنه إنفاق شكر على نعمة الله عليهم بالرزق فهم يعطون منه أهل الحاجة‏.‏

ووقع الالتفات من الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏كتاب الله‏}‏ إلى التكلم في قوله‏:‏ ‏{‏مما رزقناهم‏}‏ لأنه المناسب للامتنان‏.‏

وانتصب ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ على الصفة لمصدر ‏{‏أنفقوا‏}‏ محذوففٍ، أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمصدر مبين للنوع‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم لا يريدون من الإِنفاق إلا مرضاة الله تعالى لا يراءون به، فهم ينفقون حيث لا يراهم أحد وينفقون بمرأى من الناس فلا يصدهم مشاهدة الناس عن الإِنفاق‏.‏

وفي تقديم السر إشارة إلى أنه أفضل لانقطاع شائبة الرياء منه، وذكر العلانية للإِشارة إلى أنهم لا يصدهم مرأى المشركين عن الإِنفاق فهم قد أعلنوا بالإِيمان وشرائعه حبّ من حبّ أو كره من كره‏.‏

و ‏{‏يرجون تجارة‏}‏ هو خبر ‏{‏إن‏}‏‏.‏

والخبر مستعمل في إنشاء التبشير كأنه قيل‏:‏ لِيرجُوا تجارة، وزاده التعليلُ بقوله‏:‏ ‏{‏ليوفيهم أجورهم‏}‏ قرينةً على إرادة التبشير‏.‏

والتجارة مستعارة لأعمالهم من تلاوة وصلاة وإنفاق‏.‏

ووجه الشبه مشابهة ترتب الثواب على أعمالهم بترتب الربح على التجارة‏.‏

والمعنى‏:‏ ليرجوا أن تكون أعمالهم كتجارة رابحة‏.‏

والبوار‏:‏ الهلاك‏.‏ وهلاك التجارة‏:‏ خسارة التاجر‏.‏ فمعنى ‏{‏لن تبور‏}‏ أنها رابحة‏.‏ و‏{‏لن تبور‏}‏ صفة ‏{‏تجارة‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يرجون عدم بوار التجارة‏.‏

فالصفة مناط التبشير والرجاء لا أصل التجارة لأن مشابهة العمل الفظيع لعمل التاجر شيء معلوم‏.‏

و ‏{‏ليوفيهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏يرجون‏}‏، أي بشرناهم بذلك وقدَّرناه لهم لنوفيهم أجورهم‏.‏ ووقع الالتفات من التكلم في قوله‏:‏ ‏{‏مما رزقناهم‏}‏ إلى الغيبة رجوعاً إلى سياق الغيبة من قوله‏:‏ ‏{‏يتلون كتاب الله‏}‏ أي ليوفي الله الذين يتلون كتابه‏.‏

والتوفية‏:‏ جعل الشيء وافِياً، أي تامّاً لا نقيصة فيه ولا غبن‏.‏

وأسْجلَ عليهم الفضل بأنه يزيدهم على ما تستحقه أعمالهم ثواباً من فضله، أي كرمه، وهو مضاعفة الحسنات الواردة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ الآية‏.‏

وذيل هذا الوعد بما يحققه وهو أن الغفران والشكران من شأنه، فإنّ من صفاته الغفور الشكور، أي الكثير المغفرة والشديد الشكر‏.‏

فالمغفرة تأتي على تقصير العباد المطيعين، فإن طاعة الله الحقّ التي هي بالقلب والعمل والخواطر لا يبلغ حق الوفاء بها إلا المعصوم ولكن الله تجاوز عن الأمة فيما حدّثت به أنفسها، وفيما همت به ولم تفعله، وفي اللمم، وفي محو الذنوب الماضية بالتوبة، والشكر كناية عن مضاعفة الحسنات على أعمالهم فهو شكر بالعمل لأن الذي يجازي على عمل المجزيّ بجزاء وافر يدل جزاؤه على أنه حمد للفاعل فعله‏.‏

وأكد هذا الخبر بحرف التأكيد زيادة في تحقيقه، ولما في التأكيد من الإِيذان بكون ذلك علة لتوفية الأجور والزيادة فيها‏.‏

وفي الآية ما يشمل ثواب قُرَّاء القرآن، فإنهم يصدق عنهم أنهم من الذين يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة ولو لم يصاحبهم التدبر في القرآن فإن للتلاوة حظها من الثواب والتنوّر بأنوار كلام الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏غَفُورٌ شَكُورٌ * والذى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق‏}‏‏.‏

لما كان المبدأ به من أسباب ثواب المؤمنين هو تلاوتهم كتاب الله أعقب التنويه بهم بالتنويه بالقرآن للتذكير بذلك، ولأن في التذكير بجلال القرآن وشرفه إيماء إلى علة استحقاق الذين يتلونه ما استحَقوا‏.‏ وابتدئ التنويه به بأنه وحي من الله إلى رسوله، وناهيك بهذه الصلة تنويهاً بالكتاب، وهو يتضمن تنويهاً بشأن الذي أنزل عليه من قوله‏:‏ ‏{‏والذي أوحينا إليك‏}‏، ففي هذا مسرة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبشارة له بأنه أفضل الرسل وأن كتابه أفضل الكتب‏.‏

وهذه نكتة تعريف المسند إليه باسم الموصول لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه كونه الحق الكامل، دون الإِضمار الذي هو مقتضى الظاهر بأن يقال‏:‏ وهو الكتاب الحق‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الكتاب‏}‏ تعريف العهد‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ بيانية لما في الموصول من الإِبهام، والتقدير‏:‏ والكتاب الذي أوحينا إليك هو الحقّ‏.‏ فقدم الموصول الذي حقه أن يَقع صفة للكتاب تقديماً للتشويق بالإِبهام ليقع بعده التفصيل فيتمكن من الذهن فضْلَ تمكن‏.‏

فجملة ‏{‏والذي أوحينا إليك من الكتاب‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏إن الذين يتلون كتاب الله‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 29‏]‏ فهي مثلها في حكم الاستئناف‏.‏

وضمير ‏{‏هو‏}‏ ضمير فصل، وهو تأكيد لما أفاده تعريفَ المسند من القصر‏.‏

والتعريف في ‏{‏الحق‏}‏ تعريف الجنس‏.‏ وأفاد تعريفُ الجزأين قصر المسند على المسند إليه، أي قصر جنس الحق على ‏{‏الذي أوحينا إليك‏}‏، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بحقيّة ما عداه من الكتب‏.‏

فأما الكتب غير الإِلهية مثل ‏(‏الزند فسْتَا‏)‏ كتاب ‏(‏زرادشت‏)‏ ومثل كتب الصابئة فلأنَّ ما فيها من قليل الحق قد غمر بالباطل والأوهام‏.‏

وأما الكتب الإِلهية كالتوراة والإِنجيل وما تضمنته كتب الأنبياء كالزبور وكتاب أرميا من الوحي الإِلهي، فما شهد القرآن بحقيته فقد دخل في شهادة قوله‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه‏}‏، وما جاء نسخُه بالقرآن فقد بين النسخ تحديد صلاحيته في القرآن‏.‏ وذلك أيضاً تصديق لها لأنه يدفع موهم بطلانها عند من يجد خلافها في القرآن وما عسى أن يكون قد نقل على تحريف أو تأويل فقد دخل فيما أخرجه القصر‏.‏ وقد بين القرآن معظمهُ وكشف عن مواقعه كقوله‏:‏ ‏{‏وهو محرم عليكم إخراجهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏‏.‏

ومعنى «ما بين يديه» ما سبقه لأن السابق يجيء متقدِّماً على المسبوق فكأنه يمشي بين يديه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏‏.‏ والمراد بما بين يديه ما قبله من الشرائع، وأهمها شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما السلام‏.‏

وانتصب ‏{‏مصدقاً‏}‏ على الحال من ‏{‏الكتاب‏}‏ والعامل في الحال فعل ‏{‏أوحينا‏}‏ ليفيد أنه مع كونه حقّاً بالغاً في الحقيَّة فهو مصدق للكتب الحقّة، ومقرر لما اشتملت عليه من الحق‏.‏

‏{‏بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ‏}‏‏.‏

تذييل جامع لما تضمنته الآيات قبله من تفضيل بعض عباد الله على بعض ومن انطواء ضمائرهم على الخشية وعدمها، وإقبال بعضهم على الطاعات وإعراض بعض، ومن تفضيل بعض كتب الله على بعض المقتضي أيضاً تفضيل بعض المرسلين بها على بعض، فموقع قوله‏:‏ ‏{‏إن الله بعباده لخبير بصير‏}‏ موقع إقناع السامعين بأن الله عليم بعباده وهو يعاملهم بحسب ما يعلم منهم، ويصطفي منهم من علم أنه خلقه كفئاً لاصطفائه، فأَلْقَمَ بهذا الذين قالوا‏:‏ ‏{‏أأنزل عليه الذكر من بيننا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏ حَجراً، وكأولئك أيضاً الذين ينكرون القرآن من أهل الكتاب بعلة أنه جاء مبطلاً لكتابهم‏.‏

والخبير‏:‏ العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية‏.‏

والبصير‏:‏ العالم بالأمور المبصرة‏.‏ وتقديم الخبير على البصير لأنه أشمل‏.‏ وذكر البصير عقبه للعناية بالأعمال التي هي من المبصرات وهي غالب شرائع الإِسلام، وقد تكرر إرداف الخبير بالبصير في مواضع كثيرة من القرآن‏.‏

والتأكيد ب ‏{‏إنَّ‏}‏ واللام للاهتمام بالمقصود من هذا الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ثمّ‏}‏ للترتيب الرتبي كما هو شأنها في عطفها الجمل فهي هنا لعطف الجمل عطفاً ذكرياً، فالمتعاطفات بها بمنزلة المستأنفات، فهذه الجملة كالمستأنفة، و‏{‏ثم‏}‏ للترقي في الاستئناف‏.‏ وهذا ارتقاء في التنويه بالقرآن المتضمن التنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم وعروج في مسرّته وتبشيره، فبعد أن ذُكِّر بفضيلة كتابه وهو أمر قد تقرر لديه زيد تبشيراً بدوام كتابه وإيتائه أمة هم المصطَفون من عباد الله تعالى، وتبشيره بأنهم يعملون به ولا يتركونه كما ترك أمم من قبله كتبهم ورسلهم، لقوله‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه‏}‏ الآية، فهذه البشارة أهم عند النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأن القرآن حق مصدق لما بين يديه، لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده فوقعها أهمّ‏.‏

وحمل الزمخشري ‏{‏ثم‏}‏ هنا على التراخي الزمني فاحتاج إلى تكلف في إقامة المعنى‏.‏

والمراد ب ‏{‏الكتاب‏}‏ الكتاب المعهود وهو الذي سبق ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏والذي أوحينا إليك من الكتاب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 31‏]‏ أي القرآن‏.‏

و ‏{‏أورثنا‏}‏ جعلنا وارثِين‏.‏ يقال‏:‏ ورث، إذا صار إليه مال ميت قريب‏.‏ ويستعمل بمعنى الكسب عن غير اكتساب ولا عوض، فيكون معناه‏:‏ جعلناهم آخذين الكتاب منا، أو نَجعَل الإِيراث مستعملاً في الأمر بالتلقي، أي أمرنا المسلمين بأن يرثوا القرآن، أي يتلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الاحتمالين ففي الإِيراث معنى الإِعطاء فيكون فعل ‏{‏أورثنا‏}‏ حقيقاً بأن ينصب مفعولين‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن يكون أحد المفعولين الذي هو الآخذُ في المعنى هو المفعولَ الأول والآخر ثانياً، وإنما خولف هنا فقُدِّم المفعول الثاني لأمْننِ اللبس قصداً للاهتمام بالكتاب المعطى‏.‏ وأما التنويه بآخذي الكتاب فقد حصل من الصلة‏.‏

والمراد بالذين اصطفاهم الله‏:‏ المؤمنون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏هو اجتباكم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77، 78‏]‏‏.‏ وقد اختار الله للإِيمان والإِسلام أفضل أمة من الناس، وقد رويت أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى في مسند أحمد بن حنبل وغيره ذكرها ابن كثير في «تفسيره»‏.‏

ولما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتب فيما بُشروا به جيء بالتفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه‏}‏ إلى آخره، فهو تفصيل لمراتب المصطفَيْن لتشمل البشارة جميع أصنافهم ولا يظن أن الظالم لنفسه محروم منها، فمناط الاصطفاء هو الإِيمان والإِسلام وهو الانقياد بالقول والاستسلام‏.‏

وقدم في التفصيل ذكر الظالم لنفسه لدفع توهم حرمانه من الجنة وتعجيلاً لمسرَّته‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه‏}‏ الخ تفصيل لأحوال الذين أورثوا الكتاب أي أعطوا القرآن‏.‏ وضمير «منهم» الأظهر أنه عائد إلى ‏{‏الذين اصطفينا‏}‏، وذلك قول الحسن وعليه فالظالم لنفسه من المصطفَيْن‏.‏ وقيل هو عائد إلى ‏{‏عبادنا‏}‏ أي ومن عبادنا علمه والإطلاق‏.‏ وهو قول ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك، وعليه فالظالم لنفسه هو الكافر‏.‏

ويسري أثر هذا الخلاف في محْمل ضمير ‏{‏جنات عدن يدخلونها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏ ولذلك يكون قول الحسن جارياً على وفاق ما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وما هو مروي عن عائشة وهو الراجح‏.‏

والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرُّون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية فإن معصية المرء ربَّه ظلم لنفسه لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها وذلك ظلم للنفس لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير، وورطها فيما تجد جزاء ذميماً عليه‏.‏ قال تعالى حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نُهِيا عنه من أكل الشجرة ‏{‏قالا ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏11‏)‏، وقال‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إن اللَّه يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ في سورة الزمر ‏(‏53‏)‏‏.‏

واللام في لنفسه‏}‏ لام التقوية لأن العامل فرع في العمل إذ هو اسم فاعل‏.‏

والمقتصد‏:‏ هو غير الظالم نفسه كما تقتضيه المقابلة، فهم الذين اتقوا الكبار ولم يحرموا أنفسهم من الخيرات المأمور بها وقد يلمون باللمم المعفو عنه من الله، ولم يأتوا بمنتهى القربات الرافعة للدرجات، فالاقتصاد افتعال من القصد وهو ارتكاب القصد وهو الوسط بين طرفين يبينه المقام، فلما ذكر هنا في مقابلة الظالم والسابق عُلم أنه مرتكب حالة بين تينك الحالتين فهو ليس بظالم لنفسه وليس بسابق‏.‏

والسابق أصله‏:‏ الواصل إلى غاية معينة قبلَ غيره من الماشين إليها‏.‏ وهو هنا مجاز لإِحراز الفضل لأن السابق يحرز السَبق ‏(‏بفتح الباء‏)‏، أو مجاز في بذل العناية لنوال رضى الله، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنّى عن الإِكثار من الخير لأن السبْق يستلزم إسراع الخطوات، والإِسراع إكثار‏.‏ وفي هذا السبق تفاوت أيضاً كخيل الحلبة‏.‏

والخيرات‏:‏ جمع خير على غير قياس، والخير‏:‏ النافع‏.‏ والمراد بها هنا الطاعات لأنها أعمال صالحة نافعة لعاملها وللناس بآثارها‏.‏

والباء للظرفية، أي في الخيرات كقوله‏:‏ ‏{‏يسارعون في الإِثم والعدوان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وفي ذكر الخيرات في القسم الآخر دلالة على أنها مرادة في القسمين الأولين فيؤول إلى معنى ظالم لنفسه في الخيرات ومقتصد في الخيرات أيضاً، ولك أن تجعل معنى ‏{‏ظالم لنفسه‏}‏ أنه ناقصها من الخيرات كقوله‏:‏ ‏{‏كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلِم منه شيئاً أي لم تنقص عن معتادها في الإِثمار‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏33‏)‏‏.‏

والإِذن مستعمل في التيسير على سبيل المجاز، والباء للسببية متعلقة بسابق‏}‏، وليس المراد به الأمر لأن الله أمر الناس كلهم بفعل الخير سواء منهم من أتى به ومن قصّر به‏.‏

ولك أن تجعل الباء للملابسة وتجعلها ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ‏{‏سابق‏}‏ أي متلبساً بإذن الله ويكون الإِذن مصدراً بمعنى المفعول، أي سابق ملابس لما أذن الله به، أي لم يخالفه‏.‏

وعلى الوجه الأول هو تنويه بالسابقين بأن سبقهم كان بعون من الله وتيسير منه‏.‏

وفيما رأيتَ من تفسير هذه المراتب الثلاث في الآية المأخوذِ من كلام الأيمة، مع ضميمةٍ لا بد منها‏.‏ تستغني عن التيه في مهامه أقوال كثيرة في تفسيرها تجاوزت الأربعين قولاً‏.‏

والإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ إلى الاصطفاء المفهوم من ‏{‏اصطفينا‏}‏ أو إلى المذكور من الاصطفاء وإيراث الكتاب‏.‏

و ‏{‏الفضل‏}‏‏:‏ الزيادة في الخير، و‏{‏الكبيرُ‏}‏ مراد به ذو العظم المعنوي وهو الشرف وهو فضل الخروج من الكفر إلى الإِيمان والإِسلام‏.‏ وهذا الفضل مراتب في الشرف كما أشار إليه تقسيم أصحابه إلى‏:‏ ظالم، ومقتصد، وسابق‏.‏ وضمير الفصل لتأكيد القصر الحاصل من تعريف الجزأين، وهو حقيقي لأن الفضل الكبير منحصر في المشار إليه بذلك لأن كل فضل هو غير كبير إلا ذلك الفضل‏.‏

ووجه هذا الانحصار أن هذا الاصطفاء وإيراث الكتاب جمع فضيلة الدنيا وفضل الآخرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وعد اللَّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

الأظهر أنه بدل اشتمال من قوله‏:‏ ‏{‏ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ فإن مما يشتمل عليه الفضل دخولهم الجنة كما علمت وتخصيص هذا الفضل من بين أصنافه لأنه أعظم الفضل لأنه أمارة على رضوان الله عنهم حين إدخالهم الجنة، ‏{‏ورضوانٌ من الله أكبر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً لبيان الفضل الكبير وقد بيّن بأعظم أصنافه‏.‏ والمعنى واحد‏.‏

وضمير الجماعة في ‏{‏يدخلونها‏}‏ راجع إلى ‏{‏الذين اصطفينا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ المقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ ظالممٍ، ومقتصدٍ، وسابققٍ، أي هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لأن المؤمنين كلهم مآلهم الجنة كما دلت عليه الأخبار التي تكاثرت‏.‏ وقد روى الترمذي بسند فيه مجهولان عن أبي سعيد الخدري «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏ هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة ‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ قال أبو بكر بن العربي في «العارضة»‏:‏ من الناس من قال‏:‏ إن هذه الأصناف الثلاثة هم الذين في سورة الواقعة ‏(‏8 10‏)‏‏:‏ ‏{‏أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون‏}‏ وهذا فاسد لأن أصحاب المشأمة في النار الحامية، وأصحاب سورة فاطر في جنة عالية لأن الله ذكرهم بين فاتحة وخاتمة فأما الفاتحة فهي قوله‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ فجعلهم مصطفَيْن‏.‏ ثم قال في آخرهم ‏{‏جنات عدن يدخلونها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏ ولا يصطفَى إلا من يدخل الجنة، ولكن أهل الجنة ظالم لنفسه فقال‏:‏ ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ وهو العاصي والظالم المطلق هو الكافر، وقيل عنه‏:‏ الظالم لنفسه رفقاً به، وقيل للآخر‏:‏ السابق بإذن الله إنباء أن ذلك بنعمة الله وفضله لا من حال العبد ا ه‏.‏

وفي الإِخبار بالمسند الفعلي عن المسنْد إليه إفادة تقوي الحكم وصوَغ الفعل بصيغة المضارع لأنه مستقبل، وكذلك صوغ ‏{‏يحلون‏}‏ وهو خبر ثاننٍ عن ‏{‏جنات عدن‏}‏‏.‏ وتقدم نظيرها في سورة الحج فانظره‏.‏

وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر ‏{‏ولؤلؤاً‏}‏ بالنصب عطفاً على محل ‏{‏أساور‏}‏ لأنه لما جر بحرف الجر الزائد كان في موضع نصب على المفعول الثاني لفعل ‏{‏يحلون‏}‏ فجاز في المعطوف أن ينصب على مراعاة محل المعطوف عليه‏.‏ وقرأه الباقون بالجر على مراعاة اللفظ، وهما وجهان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

الأظهر أن جملة ‏{‏وقالوا‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يحلون‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏ لئلا يلزم تأويل الماضي بتحقيق الوقوع مع أنه لم يقصد في قوله‏:‏ ‏{‏يدخلونها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وتلك المقالة مقارنة للتحلية واللباس، وهو كلام يجري بينهم ساعتئذ لإِنشاء الثناء على الله على ما خوّلهم من دخول الجنة، ولما فيه من الكرامة‏.‏

وإذهاب الحزن مجاز في الإِنجاء منه فتصدق بإزالته بعد حصوله ويصدق بعدم حصوله‏.‏

و ‏{‏الحزن‏}‏ الأسف‏.‏ والمراد‏:‏ أنهم لمّا أعطوا ما أعطوه زال عنهم ما كانوا فيه قبلُ من هول الموقف ومن خشية العقاب بالنسبة للسابقين والمقتصدين ومما كانوا فيه من عقاب بالنسبة لظالمي أنفسهم‏.‏

وجملة ‏{‏إن ربنا لغفور شكور‏}‏ استئنافُ ثناء على الله شكروا به نعمة السلامة أثنوا عليه بالمغفرة لما تجاوز عما اقترفوه من اللمم وحديثثِ الأنفس ونحو ذلك مما تجاوز الله عنه بالنسبة للمقتصدين والسابقين، ولما تجاوز عنه من تطويل العذاب وقبول الشفاعة بالنسبة لمختلف أحوال الظالمين أنفسهم وأثنوا على الله بأنه شكور لما رأوا من إفاضته الخيرات عليهم ومُضاعفة الحسنات مما هو أكثر من صالحات أعمالهم‏.‏ وهذا على نحو ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 30‏]‏‏.‏

و ‏{‏المُقَامة‏}‏ مصدر ميمي من أقام بالمكان إذا قطنه‏.‏ والمراد‏:‏ دار الخلود‏.‏ وانتصب ‏{‏دار المقامة‏}‏ على المفعول الثاني ل ‏{‏أحلنا‏}‏ أي أسكننا‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ ابتدائية في موضع الحال من ‏{‏دار المقامة‏}‏‏.‏

والفضل‏:‏ العطاء، وهو أخُو التفضل في أنه عطاء منّة وكرم‏.‏

ومن فضل الله أن جعل لهم الجنة جزاء على الأعمال الصالحة لأنه لو شاء لما جعل للصالحات عطاء ولكان جزاؤها مجرد السلامة من العقاب، وكان أمر مَن لم يستحق الخلود في النار كفافاً، أي لا عقاب ولا ثواب فيبقى كالسوائم، وإنما أرادوا من هذا تمام الشكر والمبالغة في التأدب‏.‏

وجملة ‏{‏لا يمسنا فيها نصب‏}‏ حال ثانية‏.‏

والمسّ‏:‏ الإِصابة في ابتداء أمرها، والنصب‏:‏ التعب من نحو شدّة حر وشدة برد‏.‏ واللغوب‏:‏ الإِعياء من جراء عمل أو جري‏.‏

وإعادة الفعل المنفي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يمسنا فيها لغوب‏}‏ لتأكيد انتفاء المسّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

مقابلة الأقسام الثلاثة للذين أُورثوا الكتاب بذكر الكافرين يزيدنا يقيناً بأن تلك الأقسام أقسام المؤمنين، ومقابلة جزاء الكافرين بنار جهنم يوضح أن الجنة دار للأقسام الثلاثة على تفاوت في الزمان والمكان‏.‏

وفي قوله تعالى في الكفار‏:‏ ‏{‏ولا يخفف عنهم من عذابها‏}‏ إيماء إلى أن نار عقاب المؤمنين خفيفة عن نار المشركين‏.‏

فجملة ‏{‏والذين كفروا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏جنات عدن يدخلونها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏‏.‏

ووقع الإِخبار عن نار جهنم بأنها ‏{‏لهم‏}‏ بلام الاستحقاق للدلالة على أنها أعدت لجزاء أعمالهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏24‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا النار التي أعدت للكافرين‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏131‏)‏، فنار عقاب عصاة المؤمنين نار مخالفة أو أنها أعدت للكافرين‏.‏

وإنما دخل فيها من أدخل من المؤمنين الذين ظلموا أنفسهم لاقترافهم الأعمال السيئة التي شأنها أن تكون للكافرين‏.‏

وقدم المجرور في لهم نار جهنم‏}‏ على المسند إليه للتشويق إلى ذكر المسند إليه حتى إذا سمعه السامعون تمكن من نفوسهم تمام التمكن‏.‏

وجملة ‏{‏لا يقضى عليهم‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏لهم نار جهنم‏}‏، والقضاء‏:‏ حقيقته الحكم، ومنه قضاء الله حكمه وما أوجده في مخلوقاته‏.‏ وقد يستعمل بمعنى أماته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوكزه موسى فقضى عليه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهو هنا محتمل للحقيقة، أي لا يقدرُ الله موتهم، فقوله‏:‏ ‏{‏فيموتوا‏}‏ مسبب على القضاء‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا، ومحتمل للمجاز وهو الموت‏.‏ وتفريع ‏{‏فيموتوا‏}‏ على هذا الوجه أنهم لا يموتون إلا الإِماتة التي يتسبب عليها الموت الحقيقي الذي يزول عنده الإِحساس، فيفيد أنهم يُماتون مَوتاً ليس فيه من الموت إلا آلامه دون راحته، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 77‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏عذابها‏}‏ عائد إلى جهنم ليشمل ما ورد من أن المعذبين يعذبون بالنار ويعذبون بالزمهرير وهو شدة البرد وكل ذلك من عذاب جهنم‏.‏

ووقع ‏{‏كذلك‏}‏ موقع المفعول المطلق لقوله‏:‏ ‏{‏نجزي‏}‏ أي نجزيهم جزاء كذلك الجزاء، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

وجملة كذلك نجزي كل كفور‏}‏ تذييل‏.‏ والكفور‏:‏ الشديد الكفر، وهو المشرك‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نجزي‏}‏ بنون العظمة ونصب ‏{‏كل‏}‏‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحده ‏{‏يُجزَى‏}‏ بياء الغائب والبناء للنائب ورفع ‏{‏كل‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن‏}‏‏.‏

الضمير إلى ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 36‏]‏ والجملة عطف على جملة ‏{‏لهم نار جهنم‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 36‏]‏ ولا تجعل حالاً لأن التذييل آذنَ بانتهاء الكلام وباستقبال كلام جديد‏.‏

و ‏{‏يصطرخون‏}‏ مبالغة في ‏(‏يصرخون‏)‏ لأنه افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد، فالاصطراخ مبالغة فيه، أي يصيحون من شدة ما نابهم‏.‏

وجملة ‏{‏ربنا أخرجنا‏}‏ بيان لجملة ‏{‏يصطرخون‏}‏، يحسبون أن رفع الأصوات أقرب إلى علم الله بندائهم ولإِظهار عدم إطاقة ما هم فيه‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏نعمل صالحاً‏}‏ وعدٌ بالتدارك لما فاتهم من الأعمال الصالحة ولكنها إنابة بعد إبانها‏.‏

ولإِرادة الوعد جُزم ‏{‏نعمل صالحاً‏}‏ في جواب الدعاء‏.‏ والتقدير‏:‏ إن تخرجنا نعملْ صالحاً‏.‏

و ‏{‏غير الذي كنا نعمل‏}‏ نعت ل ‏{‏صالحاً‏}‏، أي عملاً مغايراً لما كنا نعمله في الدنيا وهذا ندامة على ما كانوا يعملونه لأنهم أيقنوا بفساد عملهم وضره فإن ذلك العالَم عالم الحقائق‏.‏

‏{‏كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين‏}‏‏.‏

الواو عاطفة فعل قول محذوفاً لعلمه من السياق بحسب الضمير في ‏{‏نعمركم‏}‏ معطوفاً على جملة ‏{‏وهم يصطرخون فيها‏}‏ فإن صراخهم كلام منهم، والتقدير‏:‏ يقولون ربنا أخرجنا ونقول ألم نعمركم‏.‏

والاستفهام تقريع للتوبيخ، وجُعل التقرير على النفي توطئة ليُنكره المقرَّر حتى إذا قال‏:‏ بلى علم أنه لم يسعه الإِنكار حتى مع تمهيد وطاء الإِنكار إليه‏.‏

والتعمير‏:‏ تطويل العمر‏.‏ وقد تقدم غير مرة، منها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يود أحدهم لو يعمر ألف سنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏96‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما يعمر من معمر‏}‏ في هذه السورة ‏(‏11‏)‏‏.‏

وما‏}‏ ظرفية مصدرية، أي زمان تعمير مُعَمَّر‏.‏

وجملة ‏{‏يتذكر فيه من تذكر‏}‏ صفة ل ‏{‏ما‏}‏، أي زماناً كافياً بامتداده للتذكّر والتبصير‏.‏

و ‏{‏النذير‏}‏ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

وجملة ‏{‏وجاءكم النذير‏}‏ عطف على جملة «ألم نعمركم» لأن معناها الخبر فعطف عليها الخبر، على أن عطف الخبر على الإِنشاء جائز على التحقيق وهو هنا حسن‏.‏

ووصف الرسول بالنذير لأن الأهم من شأنه بالنسبة إليهم هو النذارة‏.‏

والفاء في ‏{‏فذوقوا‏}‏ للتفريع‏.‏ وحذف مفعول «ذوقوا» لدلالة المقام عليه، أي ذوقوا العذاب‏.‏

والأمر في قوله ‏{‏فذوقوا‏}‏ مستعمل في معنى الدوام وهو كناية عن عدم الخلاص من العذاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فما للظالمين من نصير‏}‏ تفريع على ما سبق من الحكاية‏.‏ فيجوز أن يكون من جملة الكلام الذي وبخهم الله به فهو تذييل له وتفريع عليه لتأييسهم من الخلاص يعني‏:‏ فأين الذين زعمتم أنهم أولياؤكم ونصراؤكم فما لكم من نصير‏.‏

وعدل عن ضمير الخطاب أن يقال‏:‏ فما لكم من نصير، إلى الاسم الظاهر بوصف «الظالمين» لإِفادة سبب انتفاء النصير عنهم؛ ففي الكلام إيجاز، أي لأنكم ظالمون وما للظالمين من نصير، فالمقصود ابتداء نفي النصير عنهم ويتبعه التعميم بنفي النصير عن كل من كان مثلهم من المشركين‏.‏

ويجوز أن يكون كلاماً مستقلاً مفرعاً على القصة ذُيّلت به للسامعين من قوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا لهم نار جهنم‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 36‏]‏، فليس فيه عدول عن الإِضمار إلى الإِظهار لأن المقصود إفادة شمول هذا الحكم لكل ظالم فيدخل الذين كفروا المتحدث عنهم في العموم‏.‏

والظلم‏:‏ هو الاعتداء على حق صاحب حق، وأعظمه الشرك لأنه اعتداء على الله بإنكار صفته النفيسة وهي الوحدانية، واعتداء المشرك على نفسه إذْ أقحمها في العذاب قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وتعميم «الظالمين» وتعميم «النصير» يقتضي أن نصر الظالم تجاوزٌ للحق، لأن الحق أن لا يكون للظالم نصير، إذ واجب الحكمة والحقِّ أن يأخذ المقتدر على يد كل ظالم لأن الأمة مكلفة بدفع الفساد عن جماعتها‏.‏

وفي هذا إبطال لخُلُق أهل الجاهلية القائلين في أمثالهم ‏"‏ انصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً ‏"‏‏.‏ وقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه إبطال ذلك فساق لهم هذا المثلَ حتى سألوا عنه ثم أصلح معناه مع بقاء لفظه فقال‏:‏ ‏"‏ إذا كان ظالماً تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏إن الله عالم غيب السماوات والأرض‏}‏ استئناف واصل بين جملة ‏{‏إن الله بعباده لخبير بصير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 31‏]‏ وبين جملة ‏{‏قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 40‏]‏ الآية، فتسلسلت معانيه فعاد إلى فذلكة الغرض السالف المنتقل عنه من قوله‏:‏ ‏{‏وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن اللَّه بعباده لخبير بصير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 25 31‏]‏، فكانت جملة ‏{‏إن الله عالم غيب السماوات والأرض‏}‏ كالتذييل لجملة ‏{‏إن اللَّه بعباده لخبير بصير‏}‏‏.‏

وفي هذا إيماء إلى أن الله يجازي كل ذي نية على حسب ما أضمره ليزداد النبي صلى الله عليه وسلم يقيناً بأن الله غير عالم بما يكنه المشركون‏.‏

وجملة ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ مستأنفة هي كالنتيجة لِجملة ‏{‏إن الله عالم غيب السماوات والأرض‏}‏ لأن ما في الصدور من الأمور المغيبة فيلزم من علم الله بغيب السموات والأرض علمه بما في صدور الناس‏.‏

و «ذات الصدور» ضمائر الناس ونِيَّاتهم، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏43‏)‏‏.‏

وجيء في الإِخبار بعلم الله بالغيب بصيغة اسم الفاعل، وفي الإِخبار بعلمه بذات الصدور بصيغة المبالغة لأن المقصود من إخبار المخاطبين تنبيههم على أنه كناية عن انتفاء أن يفوت علمَه تعالى شيءٌ‏.‏ وذلك كناية عن الجزاء عليه فهي كناية رمزية‏.‏

وجملة هو الذي جعلكم خلائف في الأرض‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏إن الله عالم غيب السماوات والأرض‏}‏ الآية وبين جملة ‏{‏فمن كفر فعليه كفره‏}‏‏.‏

والخلائف‏:‏ جمع خليفة، وهو الذي يخلف غيره في أمرٍ كانَ لذلك الغير، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏، فيجوز أن يكون بعدَ أمم مضت كما في قوله‏:‏ ‏{‏ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم‏}‏ في سورة يونس ‏(‏14‏)‏ فيَكون هذا بياناً لقوله‏:‏ إن الله عالم غيب السماوات والأرض‏}‏ أي هو الذي أوجدكم في الأرض فكيف لا يعلم ما غاب في قلوبكم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏ ويكون مَا صْدَف ضمير جماعة المخاطبين شاملاً للمؤمنين وغيرهم من الناس‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ هو الذي جعلكم متصرفين في الأرض، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏، فيكون الكلام بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله قدّر أن يَكون المسلمون أهل سلطان في الأرض بعد أمم تداولت سيادة العالم ويُظهر بذلك دين الإِسلام على الدين كله‏.‏

والجملة الاسمية مفيدة تقوّي الحكم الذي هو جعل الله المخاطبين خلائف في الأرض‏.‏

وقد تفرّع على قوله‏:‏ ‏{‏عليم بذات الصدور‏}‏ قولُه‏:‏ ‏{‏فمن كفر فعليه كفره‏}‏ وهو شرط مستعمل كناية عن عدم الاهتمام بأمر دَوامهم على الكفر‏.‏

وجملة ‏{‏ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً‏}‏ بيان لجملة ‏{‏فمن كفر فعليه كفره‏}‏ وكان مقتضى ظاهر هذا المعنى أن لا تعطف عليها لأن البيان لا يعطف على المبيَّن، وإنما خولف ذلك للدلالة على الاهتمام بهذا البيان فجعل مستقلاً بالقصد إلى الإِخبار به فعطفت على الجملة المبيَّنة بمضمونها تنبيهاً على ذلك الاستقلال، وهذا مقصد يفوت لو ترك العطف، أما ما تفيده مِن البيان فهو أمر لا يفوت لأنه تقتضيه نسبة معنى الجملة الثانية من معنى الجملة الأولى‏.‏

والمقت‏:‏ البغض مع خزي وصغار، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏22‏)‏، أي يزيدهم مقتَ الله إياهم، ومقت الله مجاز عن لازمه وهو إمساك لطفه عنهم وجزاؤهم بأشد العقاب‏.‏

وتركيب جملة ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً‏}‏ تركيب عجيب لأن ظاهره يقتضي أن الكافرين كانوا قبل الكفر ممقوتين عند الله فلما كفروا زادهم كفرهم مقتاً عنده، في حال أن الكفر هو سبب مقت الله إياهم، ولو لم يكفروا لما مقتهم الله‏.‏ فتأويل الآية‏:‏ أنهم لمَّا وصفوا بالكفر ابتداءً ثم أخبر بأن كفرهم يزيدهم مقتاً عُلم أن المراد بكفرهم الثاني الدوام على الكفر يوماً بعد يوم، وقد كان المشركون يتكبّرون على المسلمين ويُشاقونهم ويؤيسونهم من الطماعية في أن يقبَلوا الإِسلام بأنهم أعظم من أن يتبعوهم وأنهم لا يفارقون دين آبائهم، ويحسبون ذلك مقتاً منهم للمسلمين فجازاهم الله بزيادة المقت على استمرار الكفر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ينادون لمقت اللَّه أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏، يعني‏:‏ ينادَون في المحشر، وكذلك القول في معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً‏}‏‏.‏

والخَسار‏:‏ مصدر خسر مثل الخسارة، وهو‏:‏ نقصان التجارة‏.‏ واستعير لخيبة العمل؛ شبه عملهم في الكفر بعمل التاجر والخاسر، أي الذي بارت سلعته فباع بأقل مما اشتراها به فأصابه الخسار فكلما زاد بيعاً زادت خسارته حتى تفضي به إلى الإِفلاس، وقد تقدم ذلك في آيات كثيرة منها ما في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

لم يزل الكلام موجهاً لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم

ولما جرى ذكر المشركين وتعنتهم وحسبان أنهم مقتوا المسلمين عاد إلى الاحتجاج عليهم في بطلان إلهية آلهتهم بحجة أنها لا يوجد في الأرض شيء يدَّعي أنها خلقته، ولا في السماوات شيء لها فيه شرك مع الله فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحاجهم ويوجه الخطاب إليهم بانتفاء صفة الإِلهية عن أصنامهم، وذلك بعد أن نفى استحقاقها لعبادتهم بأنها لا ترزقهم كما في أول السورة، وبعد أن أثبت الله التصرف في مظاهر الأحداث الجوية والأرضية واختلاف أحوالها من قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه الذي أرسل الرياح‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏، وذكرهم بخلقهم وخلق أصلهم وقال عقب ذلك ‏{‏ذلكم اللَّه ربكم له الملك‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 13‏]‏ الآية عاد إلى بطلان إلهية الأصنام‏.‏

وبنيت الحجة على مقدمة مُشاهدة انتفاء خصائص الإِلهية عن الأصنام، وهي خصوصية خلق الموجودات وانتفاء الحجة النقلية بطريقة الاستفهام التقريري في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم شركاءكم‏}‏ يعني‏:‏ إن كنتم رأيتموهم فلا سبيل لكم إلا الإِقرار بأنهم لم يخلقوا شيئاً‏.‏

والمستفهم عن رؤيته في مثل هذا التركيب في الاستعمال هو أحوال المرئي وإناطة البصر بها، أي أن أمر المستفهم عنه واضح بادٍ لكل من يراهُ كقوله‏:‏ ‏{‏أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 1، 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ الخ‏.‏‏.‏ والأكثر أن يكون ذلك توطئة لكلام يأتي بعده يكون هو كالدليل عليه أو الإِيضاح له أو نحو ذلك، فيؤول معناه بما يتصل به من كلام بعده، ففي قوله هنا‏:‏ ‏{‏أرأيتم شركاءكم‏}‏ تمهيد لأن يطلب منهم الإِخبار عن شيء خلقه شركاؤهم فصار المراد من ‏{‏أرأيتم شركاءكم‏}‏ انظروا ما تخبرونني به من أحوال خلقهم شيئاً من الأرض، فحصل في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم شركاءكم‏}‏ إجمال فصّله قوله‏:‏ ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏ فتكون جملة ‏{‏أروني ماذا خلقوا‏}‏ بدلاً من جملة ‏{‏أرأيتم شركاءكم‏}‏ بدل اشتمال أو بدل مفصل من مجمل‏.‏

والمراد بالشركاء من زعموهم شركاء الله في الإِلهية فلذلك أضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين، أي الشركاء عندكم، لظهور أن ليس المراد أن الأصنام شركاء مع المخاطبين بشيء فتمحضت الإِضافة لمعنى مُدَّعَيْكُم شركاء لله‏.‏

والموصول والصلة في قوله‏:‏ ‏{‏الذين تدعون من دون الله‏}‏ للتنبيه على الخطإ في تلك الدعوة كقول عبدة بن الطبيب‏:‏

إن الذين ترونهم إخوانكم *** يشفي غليل صدورهم أن تُصرْعَوا

وقرينة التخطئة تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏، فإنه أمر للتعجيز إذ لا يستطيعون أن يُرُوه شيئاً خلقته الأصنام، فيكون الأمر التعجيزي في قوة نفي أن خلقوا شيئاً مّا، كما كان الخبر في بيْت عبدة الوارد بعد الصلة قرينة على كون الصلة للتنبيه على خطأ المخاطبين‏.‏

وفعل الرؤية قلبي بمعنى الإِعلام والإِنباء، أي أنبئُوني شيئاً مخلوقاً للذين تدْعُون من دون الله في الأرض‏.‏

و ‏{‏ماذا‏}‏ كلمة مركبة من ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية و‏(‏ذا‏)‏ التي بمعنى الذي حين تقع بعد اسم استفهام، وفعل الإِراءة معلَّق عن العمل في المفعول الثاني والثالث بالاستفهام‏.‏ والتقدير‏:‏ أروني شيئاً خلقوه مما على الأرض‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية، أي شيئاً ناشئاً من الأرض، أو تبعيضية على أن المراد بالأرض ما عليها كإطلاق القرية على سكانها في قوله‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ منقطعة للإِضراب الانتقالي، وهي تؤذن باستفهام بعدها‏.‏ والمعنى‏:‏ بل ألهم شرك في السماوات‏.‏

والشرك بكسر الشين‏:‏ اسم للنصيب المشترك به في ملك شيء‏.‏

والمعنى‏:‏ ألهم شرك مع الله في ملك السموات وتصريف أحوالها كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وإنزال المطر‏.‏

ولما كان مقرُّ الأصنام في الأرض كان من الراجح أن تتخيَّل لهم الأوهام تصرفاً كاملاً في الأرض فكأنهم آلهة أرضية، وقد كانت مزاعم العرب واعتقاداتهم أفانين شتى مختلطة من اعتقاد الصابئة ومن اعتقاد الفُرس واعتقاد الروم فكانوا أشباها لهم فلذلك قيل لأشباههم في الإِشراك ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏، أي فكان تصرفهم في ذلك تصرف الخالقية، فأما السماوات فقلما يخطر ببال المشركين أن للأصنام تصرفاً في شؤونها، ولعلهم لم يدّعوا ذلك ولكن جاء قوله‏:‏ ‏{‏أم لهم شرك في السماوات‏}‏ مَجيء تكملة الدليل على الفرض والاحتمال، كما يقال في آداب البحث «فإن قلتَ»‏.‏ وقد كانوا ينسبون للأصنام بنوة لله تعالى قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19 23‏]‏‏.‏

فمِن أجل ذلك جيء في جانب الاستدلال على انتفاء تأثير الأصنام في العوالم السماوية بإبطال أن يكون لها شرك في السماوات لأنهم لا يدَّعُون لها في مزاعمهم أكثر من ذلك‏.‏

ولما قضي حق البرهان العقلي على انتفاء إلهية الذين يدعون من دون الله انتقل إلى انتفاء الحجة السمعية من الله تعالى المثبتة آلهة دونه لأن الله أعلم بشركائه وأنداده لو كانوا، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أم آتيناهم كتاباً فهم على بينات منه‏}‏ المعنى‏:‏ بل آتيناهم كتاباً فهم يتمكنون من حجة فيه تصرح بإلهية هذه الآلهة المزعومة‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم ‏{‏على بينات‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب ‏{‏على بَينة‏}‏ بصيغة الإِفراد‏.‏ فأما قراءة الجمع فوجهها أن شأن الكتاب أن يشتمل على أحكام عديدة ومواعظ مكررة ليتقرر المراد من إيتاء الكتب من الدلالة القاطعة بحيث لا تحتمل تأويلاً ولا مبالغة ولا نحوها على حدّ قول علماء الأصول في دلالة الأخبار المتواترة دلالة قطعية، وأما قراءة الإِفراد فالمراد منها جنس البينة الصادق بأفراد كثيرة‏.‏

ووصف البينات أو البينة ب ‏{‏منه‏}‏ للدلالة على أن المراد كون الكتاب المفروض إيتاؤه إياهم مشتملاً على حجة لهم تثبت إلهية الأصنام‏.‏ وليس مطلق كتاب يُؤتَوْنه أمارة من الله على أنه راضضٍ منهم بما هم عليه كدلالة المعجزات على صدق الرسول، وليست الخوارق ناطقة بأنه صادق فأريد‏:‏ أآتيناهم كتاباً ناطقاً مثل ما آتينا المسلمين القرآن‏.‏

ثم كرّ على ذلك كله الإِبطال بواسطة ‏{‏بل‏}‏، بأن ذلك كله منتف وأنهم لا باعث لهم على مزاعمهم الباطلة إلا وعد بعضهم بعضاً مواعيد كاذبة يغرّ بعضهم بها بعضاً‏.‏

والمراد بالذين يَعِدُونهم رؤساء المشركين وقادتهم بالموعودين عامتهم ودهماؤهم، أو أريد أن كلا الفريقين واعد وموعود في الرؤساء وأيمة الكفر يَعِدُون العامة نفعَ الأصنام وشفاعتها وتقريبها إلى الله ونصرها غروراً بالعامة والعامة تَعِدُ رؤساءها التصميم على الشرك قال تعالى حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 42‏]‏‏.‏

و ‏{‏إن‏}‏ نافية، والاستثناء مفرّع عن جنس الوعد محذوفاً‏.‏

وانتصب ‏{‏غروراً‏}‏ على أنه صفة للمستثنى المحذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً وعداً إلا وعداً غروراً‏.‏

والغرور تقدم معناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏}‏ في آل عمران ‏(‏196‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

انتقال من نفي أن يكون لشركائهم خلق أو شركة تصرف في الكائنات التي في السماء والأرض إلى إثبات أنه تعالى هو القيّوم على السماوات والأرض لتبقَيَا موجودتَيْن فهو الحافظ بقدرته نظام بقائهما‏.‏ وهذا الإِمساك هو الذي يعبر عنه في علم الهيئة بنظام الجاذبية بحيث لا يعْتريه خلل‏.‏

وعبر عن ذلك الحفظ بالإِمساك على طريقة التمثيل‏.‏

وحقيقة الإِمساك‏:‏ القبض باليد على الشيء بحيث لا ينفلت ولا يتفرق، فمُثل حال حفظ نظام السماوات والأرض بحال استقرار الشيء الذي يُمسكه الممسك بيده، ولمّا كان في الإِمساك معنى المنع عُدّي إلى الزوال ب ‏{‏مِن‏}‏، وحذفت كما هو شأن حروف الجر مع ‏{‏أنْ‏}‏ و‏{‏أنَّ‏}‏ في الغالب، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيق معناه وأنه لا تسامح فيه ولا مبالغة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمسك السماء‏}‏ في سورة الحج ‏(‏65‏)‏‏.‏ ثم أشير إلى أن شأن الممكنات المصير إلى الزوال والتحول ولو بعد أدهار فعطف عليه قوله‏:‏ ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده‏}‏، فالزوال المفروض أيضاً مراد به اختلال نظامهما الذي يؤدي إلى تطاحنهما‏.‏

والزوال يطلق على العدم، ويطلق على التحول من مكان إلى مكان، ومنه زوال الشمس عن كبد السماء، وتقدم آخِرَ سورة إبراهيم‏.‏

وقد اختير هذا الفعل دون غيره لأن المقصود معناه المشترك فإن الله يُمسكهما من أن يُعْدما، ويمسكهما من أن يتحول نظام حركتهما، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فالله مريد استمرار انتظام حركة الكواكب والأرض على هذا النظام المشاهد المسمى بالنظام الشمسي وكذلك نظام الكواكب الأخرى الخارجة عنه إلى فلك الثوابت، أي إذا أراد الله انقراض تلك العوالم أو بعضِها قيّض فيها طوارئ الخلل والفساد والخَرْق بعد الالتئام والفتق بعد الرتق، فتفككت وانتشرت إلى ما لا يَعلم مصيره إلا الله تعالى وحينئذٍ لا يستطيع غيره مدافعة ذلك ولا إرجاعها إلى نظامها السابق فربما اضمحلت أو اضمحل بعضها، وربما أخذت مسالك جديدة من البقاء‏.‏

وفي هذا إيقاظ للبصائر لتَعلم ذلك علماً إجمالياً وتتدبر في انتساق هذا النظام البديع‏.‏

فاللام موطئة للقسم‏.‏ والشرط وجوابه مقسم عليه، أي محقق تعليق الجواب بالشرط ووقوعه عنده، وجواب الشرط هو الجملة المنفية ب ‏{‏إن‏}‏ النافية وهي أيضاً سادّة مسدّ جواب القسم‏.‏

وإذ قد تحقق بالجملة السابقة أن الله ممسكهما عن الزوال علم أن زوالهما المفروض لا يكون إلا بإرادة الله تعالى زوالهما وإلا لبطل أنه ممسكهما من الزوال‏.‏

وأسند فعل ‏{‏زالتا‏}‏ إلى ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ على تأويل السماوات بسماء واحدة‏.‏ وأسند الزوال إليهما للعلم بأن الله هو الذي يزيلهما لقوله‏:‏ ‏{‏إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا‏}‏‏.‏

وجيء في نفي إمساك أحد بحرف ‏{‏مِن‏}‏ المؤكدة للنفي تنصيصاً على عموم النكرة في سياق النفي، أي لا يستطيع أحد كائناً من كان إمساكهما وإرجاعهما‏.‏

و«من بعد» صفة ‏{‏أحد‏}‏ و‏{‏من‏}‏ ابتدائية، أي أحد ناشئ أو كائن من زمان بعده، لأن حقيقة ‏(‏بعدٍ‏)‏ تأخر زمان أحد عن زمن غيره المضاففِ إليه ‏(‏بعد‏)‏ وهو هنا مجاز عن المغايرة بطريق المجاز المرسل لأن بعدية الزمان المضاف تقتضي مغايرة صاحب تلك البعدية، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يهديه من بعد اللَّه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، أي غير الله فالضمير المضاف إليه ‏(‏بعد‏)‏ عائد إلى الله تعالى‏.‏

وهذا نظير استعمال ‏(‏وراءٍ‏)‏ بمعنى ‏(‏دون‏)‏ أو بمعنى ‏(‏غير‏)‏ أيضاً في قول النابغة‏:‏

وليس وراءَ الله للمرءِ مذهب ***

وفي ذكر إمساك السماوات عن الزوال بعد الإِطناب في محاجة المشركين وتفظيع غرورهم تعريض بأن ما يدْعون إليه من الفظاعة من شأنه أن يزلزل الأرضين ويسقط السماء كسفاً لولا أن الله أراد بقاءهما لحكمة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد جئتم شيئاً إداً يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 89، 90‏]‏‏.‏ وهذه دلالة من مستتبعات التراكيب باعتبار مثار مقامات التكلم بها، وهو أيضاً تعريض بالتهديد‏.‏

ولذلك أتبع بالتذييل بوصف الله تعالى بالحلم والمغفرة لما يشمله صفة الحليم من حلمه على المؤمنين أن لا يزعجهم بفجائع عظيمة، وعلى المشركين بتأخير مؤاخذتهم فإن التأخير من أثر الحلم، وما تقتضيه صفة الغفور من أن في الإِمهال إعذاراً للظالمين لعلهم يرجعون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لعل الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يعبده ‏"‏ لما رأى مَلَك الجبال فقال له‏:‏ ‏"‏ إن شئتَ أن أطبق عليهم الأَخشَبين ‏"‏‏.‏

وفعل ‏{‏كان‏}‏ المخبر به عن ضمير الجلالة مفيد لتقرر الاتصاف بالصفتين الحسنيين‏.‏