فصل: تفسير الآية رقم (8)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ‏}‏

هذا مثال لتقلب المشركين بين إشراكهم مع الله غيره في العبادة، وبين إظهار احتياجهم إليه، فذلك عنوان على مبلغ كفرهم وأقصاه‏.‏ والجملة معطوفة على جملة ‏{‏ذلكم الله رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ الآية لاشتراك الجملتين في الدلالة على أن الله منفرد بالتصرف مستوجب للشكر، وعلى أن الكفر به قبيح، وتَتَضمن الاستدلال على وحدانية إلهية بدليل من أحوال المشركين به فإنهم إذا مسهم الضر لجأوا إليه وحده، وإذا أصابتهم نعمة أعرضوا عن شكره وجعلوا له شركاء‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الإنْسَانَ‏}‏ تعريف الجنس ولكن عمومه هنا عموم عرفي لفريق من الإِنسان وهم أهل الشرك خاصة لأن قوله‏:‏ ‏{‏وجَعَلَ لله أندَاداً‏}‏ لا يتفق مع حال المؤمنين‏.‏

والقول بأن المراد‏:‏ انسان معيّن وأنه عتبة بن ربيعة، أو أبو جهل، خروج عن مهيع الكلام، وإنما هذان وأمثالهما من جملة هذا الجنس‏.‏ وذكر الإِنسان إظهار في مقام الإِضمار لأن المقصود به المخاطبون بقوله‏:‏ ‏{‏خلقكم من نفس واحدة إلى قوله‏:‏ فَيُنَبِئكم بما كُنتمُ تَعْمَلُون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6، 7‏]‏، فكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وإذا مسكم الضر دعوتم ربكم الخ، فعدل إلى الإِظهار لما في معنى الإِنسان من مراعاة ما في الإِنسانية من التقلب والاضطراب إلا من عصمه الله بالتوفيق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ وغير ذلك ولأن في اسم الإِنسان مناسبة مع النسيان الآتي في قوله‏:‏ ‏{‏نسي ما كان يدعو إليه من قبل‏}‏‏.‏ وتقدم نظير لهذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه‏}‏ في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 33‏]‏‏.‏

‏(‏والتخويل‏:‏ الإِعطاء والتمليك دون قصد عوض‏.‏ وعينُه واو لا محالة‏.‏ وهو مشتق من الخَوَل بفتحتين وهو اسم للعبيد والخدم، ولا التفات إلى فعل خال بمعنى‏:‏ افتخر، فتلك مادة أخرى غير ما اشتق منه فعل خَوَّل‏.‏

والنسيان‏:‏ ذهول الحافظة عن الأمر المعلوم سابقاً‏.‏

ومَا صْدَق ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ يَدْعُوا إلَيْهِ مِن قَبْلُ‏}‏ هو الضر، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه، أي إلى كشفه عنه، ومفعول ‏{‏يَدْعُوا‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏دَعَا رَبَّهُ‏}‏، وضمير ‏{‏إلَيْهِ‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما‏}‏، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إليه، أي إلى كشفه‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ما‏}‏ صادقاً على الدعاء كما تدل عليه الصلة ويكون الضمير المجرور ب ‏(‏إلى‏)‏ عائداً إلى ‏{‏رَبَّهُ‏}‏، أي نسي الدعاء، وضُمّن الدعاء معنى الابتهال والتضرع فعُدي بحرف ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ وعائد الصلة محذوف دل عليه فعل الصلة تفادياً من تكرر الضمائر‏.‏ والمعنى‏:‏ نسي عبادة الله والابتهال إليه‏.‏

والأنداد‏:‏ جمع نِدّ بكسر النون، وهو الكفء، أي وزاد على نسيان ربه فجعل له شركاء‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لّيُضِلَّ عن سبيلِهِ‏}‏ لام العاقبة، أي لام التعليل المجازي لأن الإِضلال لما كان نتيجة الجعل جاز تعليل الجعل به كأنه هو العلة للجاعل‏.‏ والمعنى‏:‏ وجعل لله أنداداً فَضل عن سبيل الله‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لّيُضِلَّ‏}‏ بضم الياء، أي ليضل الناس بعد أن أضل نفسه إذ لا يضل الناس إلا ضَالّ‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتح الياء، أي ليَضل هو، أي الجاعل وهو إذا ضلّ أضل الناس‏.‏

‏{‏سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب‏}‏‏.‏

استئناف بياني لأن ذكر حالة الإِنسان الكافر المعرض عن شكر ربه يثير وصفها سؤال السامع عن عاقبة هذا الكافر، أي قل يا محمد للإِنسان الذي جعل لله أنداداً، أي قل لكل واحد من ذلك الجنس، أو روعي في الإِفراد لفظُ الإِنسان‏.‏ والتقدير‏:‏ قل تمتعوا بكفركم قليلاً إنكم من أصحاب النار‏.‏ وعلى مثل هذين الاعتبارين جاء إفراد كاف الخطاب بعد الخبر عن الإِنسان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر‏}‏ في سورة ‏[‏القيامة‏:‏ 10- 12‏]‏‏.‏

والتمتع‏:‏ الانتفاع الموقّت، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏‏.‏

‏(‏والباء في ‏{‏بِكُفْرِكَ‏}‏ ظرفية أو للملابسة وليست لتعدية فعل التمتع‏.‏ ومتعلِّق التمتع محذوف دل عليه سياق التهديد‏.‏ والتقدير‏:‏ تمتع بالسلامة من العذاب في زمن كفرك أو متكسباً بكفرك تمتعاً قليلاً فأنت آئل إلى العذاب لأنك من أصحاب النار‏.‏

ووصف التمتع بالقليل لأن مدة الحياة الدنيا قليل بالنسبة إلى العذاب في الآخرة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وصيغة الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعْ‏}‏ مستعملة في الإِمهال المراد منه الإِنذار والوعيد‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّكَ من أصحابب النَّارِ‏}‏ بيان للمقصود من جملة ‏{‏تَمَتَّع بِكُفْرِكَ قَلِيلاً‏}‏ وهو الإِنذار بالمصير إلى النار بعد مدة الحياة‏.‏ و‏{‏من‏}‏ للتبعيض لأن المشركين بعض الأمم والطوائف المحكوم عليها بالخلود في النار‏.‏

وأصحاب النار‏:‏ هم الذين لا يفارقونها فإن الصحبة تشعر بالملازمة، فأصحاب النار‏:‏ المخلّدون فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اليل ساجدا وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ‏}‏ قرأ نافع وابن كثير وحمزة وَحْدَهم ‏{‏أَمَنْ‏}‏ بتخفيف الميم على أن الهمزة دخلت على ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة فيجوز أن تكون الهمزة همزة استفهام و‏(‏مَن‏)‏ مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الكلام قبله من ذكر الكافر في قوله‏:‏ ‏{‏وجعَلَ لله أندَاداً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏من أصحَاببِ النَّارِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ والاستفهام إنكاري والقرينة على إرادة الإِنكار تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ‏}‏ لظهور أن ‏{‏هل فيه للاستفهام الإِنكاري وبقرينة صلة الموصول‏.‏ تقديره‏:‏ أَمَن هو قانت أفضل أم من هو كافر‏؟‏ والاستفهام حينئذٍ تقريري ويقدر له معادل محذوف دل عليه قوله عقبه‏:‏ قُلْ هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ‏}‏‏.‏

وجعل الفراء الهمزة للنداء و‏{‏من هو قانت‏:‏ النبي، ناداه الله بالأوصاف العظيمة الأربعة لأنها أوصاف له ونداء لمن هم من أصحاب هذه الأوصاف، يعني المؤمنين أن يقولوا‏:‏ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وعليه فإفراد ‏(‏قل‏)‏ مراعاة للفظ ‏(‏مَن‏)‏ المنادَى‏.‏

وقرأ الجمهور أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ بتشديد ميم ‏(‏مَن‏)‏ على أنه لفظ مركب من كلمتين ‏(‏أم‏)‏ و‏(‏مَن‏)‏ فأدغمت ميم ‏(‏أم‏)‏ في ميم ‏(‏مَن‏)‏‏.‏ وفي معناه وجهان‏:‏

أحدهما‏}‏‏:‏ أن تكون ‏(‏أم‏)‏ معادلة لهمزة استفهام محذوفة مع جملتها دلت عليها ‏(‏أم‏)‏ لاقتضائها معادلاً‏.‏ ودل عليها تعقيبه ب ‏{‏هل يسْتَوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلَمُونَ‏}‏ لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين‏.‏ فالتقدير‏:‏ أهذا الجاعل لله أنداداً الكافر خير أمَّنْ هو قانت، والاستفهام حقيقي والمقصود لاَزمه، وهو التنبيه على الخطأ عند التأمل‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن تكون ‏(‏أم‏)‏ منقطعة لمجرد الإِضراب الانتقالي‏.‏ و‏(‏أم‏)‏ تقتضي استفهاماً مقدراً بعدها‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ دع تهديدهم بعذاب النار وانتقِل بهم إلى هذا السؤال‏:‏ الذي هو قانت، وقائم، ويحذر الله ويرجو رحمته‏.‏ والمعنى‏:‏ أذلك الإِنسان الذي جعل لله أنداداً هو قانت الخ، والاستفهام مستعمل في التهكم لظهور أنه لا تتلاقَى تلك الصفاتُ الأربعُ مع صفة جعله لله أنداداً‏.‏

والقانت‏:‏ العابد‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوموا للَّه قانتين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏‏.‏

‏(‏والآناء‏:‏ جمع أَنىً مثل أمعاء ومَعىً، وأقفاء وقفىً، والأنى‏:‏ الساعة، ويقال أيضاً‏:‏ إنَي بكسر الهمزة، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏غير ناظرين إِناه‏}‏ في سورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وانتصب ‏{‏ءَانَاءَ‏}‏ على الظرف ل ‏{‏قَانِتٌ‏}‏، وتخصيص الليل بقنوتهم لأن العبادة بالليل أعون على تمحض القلب لذكر الله، وأبعد عن مداخلة الرياء وأدل على إيثار عبادة الله على حظ النفس من الراحة والنوم، فإن الليل أدعى إلى طلب الراحة فإذا آثر المرء العبادة فيه استنار قلبه بحب التقرب إلى الله قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ ناشئة الليل هي أشدُ وطئاً وأقوم قِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏، فلا جرم كان تخصيص الليل بالذكر دالاً على أن هذا القانت لا يخلو من السجود والقيام آناءَ النهار بدلالة فحوى الخطاب قال تعالى‏:‏

‏{‏إن لك في النهار سبحاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 7‏]‏، وبذلك يتم انطباق هذه الصلة على حال النبي صلى الله عليه وسلم

وقوله‏:‏ ‏{‏ساجِداً وقائماً‏}‏ حالان مُبينان ل ‏{‏قَانِتٌ‏}‏ ومؤكدان لمعناه‏.‏ وجملة ‏{‏يحذَرُ الآخِرَةَ ويرجوا رحمة ربه‏}‏ حالان، فالحال الأول والثاني لوصف عمَله الظاهر والجملتان اللتان هما ثالث ورابع لوصف عمل قلبه وهو أنه بين الخوف من سيئاته وفلتاته وبين الرجاء لرحمة ربه أن يثيبه على حسناته‏.‏ وفي هذا تمام المقابلة بين حال المؤمنين الجارية على وفق حال نبيئهم صلى الله عليه وسلم وحال أهل الشرك الذين لا يدعون الله إلا في نادر الأوقات، وهي أوقات الاضطرار، ثم يشركون به بعد ذلك، فلا اهتمام لهم إلا بعاجل الدنيا لا يحذرون الآخرة ولا يرجون ثوابها‏.‏

والرجاء والخوف من مقامات السالكين، أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول‏.‏ والرجاء‏:‏ انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس‏.‏ والخوف‏:‏ انتظار ما هو مكروه للنفس‏.‏ والمراد هنا‏:‏ الملاءمة الأخروية لقوله‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ الآخِرَةَ‏}‏، أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضاً المأمولُ في الآخرة‏.‏ وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله، وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين‏.‏

وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه لأن المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلاً ولا يظن المرء أمراً إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه، لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه، فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ فإن ترقُّب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غروراً‏.‏

وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنّاً مع تردد في المظنون، أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يأمن مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إنه لا ييأس من روح اللَّه إلا القوم الكافرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وقد بسط ذلك حجة الإِسلام أبو حامد في كتاب الرجاء والخوف من كتاب «الإِحياء»‏.‏ ولله درّ أبي الحسن التهامي إذ يقول‏:‏

وإذا رجوتَ المستحيل فإنما *** تبني الرجاء على شَفير هارِ

وسئل الحسن البصري عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال‏:‏ هذا تمنَ وإنما الرجاء، قوله‏:‏ ‏{‏يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه‏}‏‏.‏

وقال بعض المفسرين أريد ب ‏{‏مَن هو قانِتٌ‏}‏ أبو بكر، وقيل عمّار بن ياسر، وقيل صُهيب، وقيل‏:‏ أبو ذرّ، وقيل ابن مسعود، وهي روايات ضعيفة ولا جرم أن هؤلاء المعدودين هم من أحقّ مَن تصدق عليه هذه الصلة فهي شاملة لهم ولكن محمل الموصول في الآية على تعميم كل من يصدق عليه معنى الصلة‏.‏

‏{‏رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو‏}‏

استئناف بياني موقعه كموقع قوله‏:‏

‏{‏قُلْ تمتَّع بكفرك قليلاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏ أثاره وصف المؤمن الطائع، والمعنى‏:‏ أَعْلِمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالِم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه‏.‏ وإعادة فعل ‏{‏قل هنا للاهتمام بهذا المقول ولاسْترعاء الأسماع إليه‏.‏

والاستفهام هنا مستعمل في الإِنكار‏.‏ والمقصود‏:‏ إثبات عدم المساواة بين الفريقين، وعدم المساواة يكنّى به عن التفضيل‏.‏ والمراد‏:‏ تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر والمجاهدون في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم فضل اللَّه المجاهدين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ الآية، فيعرف المفضّل بالتصريح كما في آية ‏{‏لا يستوي القاعدون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ أو بالقرينة كما في قوله هنا‏:‏ ‏{‏هل يستوي الذين يعلمون‏}‏ الخ لظهور أن العلم كمال ولتعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏إنما يتذكَّر أُولوا الألبابِ‏}‏‏.‏ ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة‏:‏

يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم *** وليس جاهل شيء مثلَ من عَلِما

وفعل ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ في الموضعين منزّل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول‏.‏ والمعنى‏:‏ الذين اتصفوا بصفة العلم، وليس المقصود الذين علموا شيئاً معيّناً حتى يكون من حذف المفعولين اختصاراً إذ ليس المعنى عليه، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه‏:‏ ‏{‏إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏ أي أهل العقول، والعقل والعلم مترادفان، أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم، مع الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر‏.‏ فتعين أن المعنى‏:‏ لا يستوي مَن هو قانت آناء الليل يحذر ربّه ويرجوه، ومَن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله‏.‏ وإذ قد تقرر أن الذين جعلوا لله أنداداً هم الكفار بحكم قوله‏:‏ ‏{‏قُل تَمتَّع بِكُفرِكَ قَليلاً‏}‏ ثبت أن الذين لا يستوون معهم هم المؤمنون، أي هم أفضل منهم، وإذ قد تقرر أن الكافرين من أصحاب النار فقد اقتضى أن المفضلين عليهم هم من أصحاب الجنة‏.‏

وعدل عن أن يقول‏:‏ هل يستوي هذا وذاك، إلى التعبير بالموصول إدماجاً للثناء على فريق ولذم فريق بأن أهل الإِيمان أهل علم وأهل الشرك أهل جهالة فأغنت الجملة بما فيها من إدماج عن ذكر جملتين، فالذين يعلمون هم أهل الإِيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ والذين لا يعلمون هم أهل الشرك الجاهلون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل أفغير اللَّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وفي ذلك إشارة إلى أن الإِيمان أخو العلم لأن كليهما نور ومعرفةٌ حقّ، وأن الكفر أخو الضلال لأنه والضلال ظلمة وأوهام باطلة‏.‏

هذا ووقع فعل ‏{‏يَسْتَوِي‏}‏ في حيّز النفي يكسبه عموم النفي لجميع جهات الاستواء‏.‏ وإذ قد كان نفي الاستواء كناية عن الفضل آل إلى إثبات الفضل للذين يعلمون على وجه العموم، فإنك ما تأملت مقاماً اقتحم فيه عالم وجاهل إلا وجدتَ للعالم فيه من السعادة ما لا تجده للجاهل ولنضرب لذلك مثلاً بمقامات ستةٍ هي جلّ وظائف الحياة الاجتماعية‏:‏

المقام الأول‏:‏ الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به وهو مقام العمل، فالعالم بالشيء يهتدي إلى طرقه فيبلغ المقصود بيُسْر وفي قرب ويعلم ما هو من العمل أولى بالإِقبال عنه، وغير العالم به يضل مسالكه ويضيع زمانه في طلبه؛ فإما أن يخيب في سعيه وإمّا أن يناله بعد أن تتقاذفه الأرزاء وتنتابه النوائب وتختلط عليه الحقائق فربما يتوهم أنه بلغ المقصود حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده، ومثله قوله تعالى‏:‏

‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏ ومن أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور والجهل بالظلمة‏.‏

المقام الثاني‏:‏ ناشئ عن الأول وهو مقام السلام من نوائب الخطأ ومزلات المذلات، فالعالم يعصمه علمه من ذلك، والجاهل يريد السلامة فيقع في الهلكة، فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز ومثَله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ إذ مثَّلهم بالتاجر خرج يطلب فوائد الربح من تجارته فآب بالخسران ولذلك يشبه سَعي الجاهل بخبط العشواء، ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تَقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم‏.‏

المقام الثالث‏:‏ مقام أُنس الانكشاف فالعالم تتميز عنده المنافع والمضار وتنكشف له الحقائق فيكون مأنوساً بها واثقاً بصحة إدراكه وكلما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيساً بخلاف غير العالم بالأشياء فإنه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات فلا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع، فإن اجتهد لنفسه خشِي الزلل وإن قلد خشِي زلل مقلَّده، وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

المقام الرابع‏:‏ مقام الغِنَى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات فكلما ازداد عِلم العالم قوِيَ غناه عن الناس في دينه ودنياه‏.‏

المقام الخامس‏:‏ الإلتذاذ بالمعرفة، وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف وهي لذة لا تقطعها الكثرة‏.‏ وقد ضرب الله مثلاً بالظلّ إذ قال‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظِل ولا الحرُور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19 21‏]‏ فإن الجلوس في الظل يلتذ به أهل البلاد الحارة‏.‏

المقام السادس‏:‏ صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل، فإن العالم مصدر الارشاد والعلم دليل على الخير وقائد إليه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ والعلم على مزاولته ثوابٌ جزيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده»‏.‏

وعلى بثه مثل ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير»‏.‏

فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في صوره التي ذكرناها مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمونَ‏}‏ وتتشعب من هذه المقامات فروع جمّة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنَّما يتذكَّر أُولوا الألبابِ‏}‏ واقع موقع التعليل لنفي الاستواء بين العالم وغيره المقصودِ منه تفضيل العالم والعلم، فإن كلمة ‏(‏إنما‏)‏ مركبة من حرفين ‏(‏إنَّ‏)‏ و‏(‏مَا‏)‏ الكافّة أو النافية فكانت ‏(‏إِن‏)‏ فيه مفيدة لتعليل ما قبلها مغنية غَناء فاء التعليل إذ لا فرق بين ‏(‏إنَّ‏)‏ المفردة و‏(‏إنَّ‏)‏ المركبة مع ‏(‏ما‏)‏، بل أفادها التركيب زيادة تأكيد وهو نفي الحكم الذي أثبتته ‏(‏إنَّ‏)‏ عن غير من أثبتته له‏.‏ وقد أخذ في تعليل ذلك جانبُ إثبات التذكر للعالِمين، ونفيه من غير العالمين، بطريق الحصر لأن جانب التذكر هو جانب العمل الديني وهو المقصد الأهم في الإِسلام لأن به تزكية النفس والسعادة الأبدية قال النبي صلى الله عليه وسلم «مَن يُرِد الله به خيراً يفقهْهُ في الدين»

والألباب‏:‏ العقول، وأولو الألباب‏:‏ هم أهل العقول الصحيحة، وهم أهل العلم‏.‏ فلما كان أهل العلم هم أهل التذكر دون غيرهم أفاد عدم استواء الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏.‏ فليس قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما يتذكر أولوا الألباب‏}‏ كلاماً مستقلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

لما أجري الثناء على المؤمنين بإقبالهم على عبادة الله في أشدّ الآناء وبشدة مراقبتهم إياه بالخوف والرجاء وبتمييزهم بصفة العلم والعقل والتذكر، بخلاف حال المشركين في ذلك كله، أُتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإِقبال على خطابهم للاستزادة من ثباتهم ورباطة جأشهم، والتقديرُ‏:‏ قل للمؤمنين، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ياعِبَادِ الذين ءَامنُوا‏}‏ الخ‏.‏

وابتداء الكلام بالأمر بالقول للوجه الذي تقدم في نظيره آنفاً، وابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى، كل ذلك يؤذن بالاهتمام بما سيقال وبأنه سيقال لهم عن ربهم، وهذا وضعٌ لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة‏.‏ وحذفت ياء المتكلم المضاف إليها ‏{‏عباد‏}‏ وهو استعمال كثير في المنادَى المضاف إلى ياء المتكلم‏.‏

وقرأه العشرة ‏{‏يَاعِبادِ بدون ياء في الوصل والوقف كما في إبراز المعاني‏}‏ لأبي شامة وكما في «الدرة المضيئة» في القراءات الثلاث المتممة للعشر لعلي الضباع المصري، بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ الآتي في هذه السورة، فالمخالفة بينهما مجرد تفنن‏.‏ وقد يوجه هذا التخالف بأن المخاطبين في هذه الآية هم عباد الله المتقون، فانتسابهم إلى الله مقرر فاستُغني عن إظهار ضمير الجلالة في إضافتهم إليه، بخلاف الآية الآتية، فليس في كلمة ‏{‏يَاعِبَادِ‏}‏ من هذه الآية إلاَّ وَجه واحد باتفاق العشرة ولذلك كتبها كتّاب المصحف بدون ياء بعد الدال‏.‏

وما وقع في «تفسير ابن عطية» من قوله‏:‏ وقرأ جمهور القراء ‏{‏قل يا عباديَ‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو أيضاً وعاصم والأعشى وابن كثير ‏{‏يا عِبَادِ‏}‏ بغير ياء في الوصل ا ه‏.‏ سهو، وإنما اختلف القراء في الآية الآتية ‏{‏قُل ياعِبَادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ في هذه السورة ‏[‏53‏]‏ فإنها ثبتت فيه ياء المتكلم فاختلفوا كما سنذكره‏.‏

والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به لأنهم متّقون من قبلُ، وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يُقصّروا في تقواهم‏.‏ وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم، وهو ما عُرض به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرْضُ الله واسِعَة‏}‏‏.‏

وفي استحضارهم بالموصول وصلته إيماء إلى أن تقَرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة‏.‏ وجملة ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ‏}‏ وما عطف عليها استئناف بياني لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله‏:‏ ‏{‏أرض الله واسعة،‏}‏ ولكن جُعل قوله ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ‏}‏ تمهيداً له لقصد تعجيل التكفل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ‏}‏ مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها‏.‏

والمراد بالذين أحسنوا‏:‏ الذين اتقوا الله وهم المؤمنون الموصوفون بما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏أمن هو قانت‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ الآية، لأن تلك الخصال تدل على الإِحسان المفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك ‏"‏، فعدل عن التعبير بضمير الخطاب بأن يقال‏:‏ لكم في الدنيا حسنة، إلى الإِتيان باسم الموصول الظاهر وهو ‏{‏الذين أحسنوا‏}‏ ليشمل المخاطبين وغيرهم ممن ثبتت له هذه الصلة‏.‏ وذلك في معنى‏:‏ اتقوا ربكم لتكونوا محسنين فإن للذين أحسنوا حسنة عظيمة فكونوا منهم‏.‏ وتقديم المسند في ‏{‏للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ‏}‏ للاهتمام بالمحسَن إليهم وأنهم أحرياء بالإِحسان‏.‏

والمراد بالحسنة الحالة الحسنة، واستغني بالوصف عن الموصوف على حد قوله‏:‏ ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏‏.‏ وقولِه في عكسه ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وتوسيط قوله‏:‏ ‏{‏في هذه الدنيا‏}‏ بين ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ وبين ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ نظم مما اختص به القرآن في مواقع الكلم لإِكثار المعاني التي يسمح بها النظم، وهذا من طرق إعجاز القرآن‏.‏ فيجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏في هذه الدُّنيا‏}‏ حالاً من ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ قدم على صاحب الحال للتنبيه من أول الكلام على أنها جزاؤهم في الدنيا، لقلة خطور ذلك في بالهم ضمن الله لهم تعجيل الجزاء الحسن في الدنيا قبل ثواب الآخرة على نحو ما أثنى على مَن يقول‏:‏ ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة‏}‏‏.‏ وقد جاء في نظير هذه الجملة في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولدار الآخرة خير‏}‏، أي خير من أمور الدنيا، ويكون الاقتصار على حسنة الدنيا في هذه الآية لأنها مسوقة لتثبيت المسلمين على ما يلاقونه من الأذى، ولأمرهم بالهجرة عن دار الشرك والفتنة في الدين، فأما ثواب الآخرة فأمر مقرر عندهم من قبل ومومىً إليه بقوله بعده‏:‏ إنما يوفَّى الصابِرُون أجرهم بغير حسابٍ‏}‏ أي يوفون أجرهم في الآخرة‏.‏ قال السدّي‏:‏ الحسنة في الدنيا الصحة والعافية‏.‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ «في الدنيا» متعلقاً بفعل ‏{‏أحسنوا‏}‏ على أنه ظرف لغوي، أي فعلوا الحسنات في الدنيا فيكون المقصود التنبيه على المبادرة بالحسنات في الحياة الدنيا قبل الفوات والتنبيه على عدم التقصير في ذلك‏.‏

وتنوين ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ للتعظيم وهو بالنسبة لحسنة الآخرة للتعظيم الذاتي، وبالنسبة لحسنة الدنيا تعظيم وصفي، أي حسنة أعظم من المتعارف، وأيّاً ما كان فاسم الإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏في هذه الدنيا‏}‏ لتمييز المشار إليه وإحضاره في الأذهان‏.‏ وعليه فالمراد ب ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ يحتمل حسنة الآخرة ويحتمل حسنة الدنيا، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏‏.‏ وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ قولُه تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير‏}‏

، فألْحِقْ بها ما قُرر هنا‏.‏

وعطف عليه وأرضُ الله واسعةٌ‏}‏ عطفَ المقصود على التوطئة‏.‏ وهو خبر مستعمل في التعريض بالحث على الهجرة في الأرض فراراً بدينهم من الفتن بقرينة أن كون الأرض واسعةً أمر معلوم لا يتعلق الغرض بإفادته وإنما كني به عن لازم معناه، كما قال إياس بن قبيصة الطائي‏:‏

ألم تر أن الأرض رحْب فسيحة *** فَهَلْ تعجزنِّي بقعة من بقاعها

والوجه أن تكون جملة ‏{‏وأرضُ الله واسِعةٌ‏}‏ معترضة والواو اعتراضية لأن تلك الجملة جرت مجرى المثل‏.‏

والمعنى‏:‏ إن الله وعدهم أن يلاقوا حسنة إذا هم هاجروا من ديار الشرك‏.‏ وليس حسن العيش ولا ضده مقصوراً على مكان معين وقد وقع التصريح بما كني عنه هنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏‏.‏

والمراد‏:‏ الإِيماء إلى الهجرة إلى الحَبَشَة‏.‏ قال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يا عِبادِ الذين ءَامنُوا اتَّقوا ربَّكُم‏}‏ يريد جعفرَ بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة‏.‏ ونكتة الكناية هنا إلقاء الإِشارة إليهم بلطف وتأنيس دون صريح الأمر لما في مفارقة الأوطان من الغمّ على النفس، وأما الآية التي في سورة النساء فإنها حكاية توبيخ الملائكة لمن لم يهاجروا‏.‏

وموقع جملة ‏{‏إنما يُوفَّى الصَّابِرون أجرهم بغيرِ حسابٍ‏}‏ موقع التذييل لجملة ‏{‏للذين أحْسَنُوا‏}‏ وما عطف عليها لأن مفارقة الوطن والتغرب والسفر مشاق لا يستطيعها إلا صابر، فذُيّل الأمر به بتعظيم أجر الصابرين ليكون إعلاماً للمخاطبين بأن أجرهم على ذلك عظيم لأنهم حينئذٍ من الصابرين الذين أجرهم بغير حساب‏.‏

والصبر‏:‏ سكون النفس عند حلول الآلام والمصائب بأن لا تضجر ولا تضطرب لذلك، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الصابرين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏‏.‏ وصيغة العموم في قوله‏:‏ ‏{‏الصابرين تشمل كل من صبر على مشقة في القيام بواجبات الدين وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ومراتب هذا الصبر متفاوتة وبقدرها يتفاوت الأجر‏.‏

والتوفية‏:‏ إعطاء الشيء وافياً، أي تاماً‏.‏ والأجر‏:‏ الثواب في الآخرة كما هو مصطلح القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ بِغَيرِ حسابٍ‏}‏ كناية عن الوفرة والتعظيم لأن الشيء الكثير لا يُتصدى لعدِّه، والشيء العظيم لا يحاط بمقداره فإن الإِحاطة بالمقدار ضرب من الحساب وذلك شأن ثواب الآخرة الذي لا يخطر على قلب بشر‏.‏

وفي ذكر التوفية وإضافة الأجر إلى ضميرهم تأنيس لهم بأنهم استحقوا ذلك لا منة عليهم فيه وإن كانت المنة لله على كل حال على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم أجر غير ممنون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والحصر المستفاد من ‏{‏إنما منصبّ على القيد وهو بِغيرِ حسابٍ‏}‏ والمعنى‏:‏ ما يوفي الصابرون أجرهم إلا بِغير حساب، وهو قصر قلب مبنيّ على قلب ظن الصَابرين أن أجر صبرهم بمقدار صبرهم، أي أن أجرهم لا يزيد على مقدار مشقة صبرهم‏.‏

والهجرة إلى الحبشة كانت سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة‏.‏ وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأن عمه أبا طالب كان يمنع ابن أخيه من أضرار المشركين ولا يقدر أن يمنع أصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكاً لا يُظلَم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج معظم المسلمين مخافة الفتنة فخرج ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً‏.‏ وقد كان أبو بكر الصديق استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له فخرج قاصداً بلاد الحبشة فلقيه ابن الدّغِنَة فَصدّه وجعَلَه في جواره‏.‏

ولما تعلقت إرادة الله تعالى بنشر الإِسلام في مكة بين العرب لحكمة اقتضت ذلك وعَذر بعض المؤمنين فيما لقُوه من الأذى في دينهم أذن لهم بالهجرة وكانت حكمته مقتضية بقاء رسوله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المشركين لبثّ دعوة الإِسلام لم يأذن له بالهجرة إلى موطن آخر حتى إذا تم مراد الله من توشج نواة الدين في تلك الأرض التي نشأ فيها رسوله صلى الله عليه وسلم وأصبح انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلد آخر أسعد بانتشار الإِسلام في الأرض أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة بعد أن هيّأ له بلطفه دخول أهلها في الإِسلام وكل ذلك جرى بقدَر وحكمة ولطف برسوله صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

بعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب المسلمين بقوله‏:‏ ‏{‏قُل يا عِبادِ الذين ءَامنوا اتَّقُوا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يقول قولاً يتعين أنه مَقول لغير المسلمين‏.‏

نقل الفخر عن مقاتل‏:‏ أن كفار قريش قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللاّت والعُزّى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قل إني أُمرتُ أن أعْبُدَ الله مُخلصاً له الدِّينَ‏}‏‏.‏

وحقاً فإن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذا حمل على صريحه إنما يناسب توجيهه إلى المشركين الذي يبْتغون صرفه عن ذلك‏.‏ ويجوز أن يكون موجهاً إلى المسلمين الذين أذن الله لهم بالهجرة إلى الحبشة على أنه توجيه لبقائه بمكة لا يهاجر معهم لأن الإِذن لهم بالهجرة للأمن على دينهم من الفتن، فلعلهم ترقبوا أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم معهم إلى الحبشة فآذنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أمره أن يعبد الله مخلصاً له الدين، أي أن يوحده في مكة فتكون الآية ناظرة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94 95‏]‏، أي أن الله أمره بأن يقيم على التبليغ بمكة فإنه لو هاجر إلى الحبشة لانقطعت الدعوة وإنما كانت هجرتهم إلى الحبشة رخصة لهم إذ ضعفوا عن دفاع المشركين عن دينهم ولم يرخَّص ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم

وقد جاء قريب من هذه الآية بعد ذكر أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومماته لله، أي فلا يَفرق من الموت في سبيل الدين وذلك قوله تعالى في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 162- 163‏]‏‏:‏ ‏{‏قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين‏}‏

فكان قوله‏:‏ لأنْ أكُونَ أوَّلَ المُسلمين‏}‏ علة ل ‏{‏أعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏، فالتقدير‏:‏ وأمِرت بذلك لأن أكون أول المسلمين، فمتعلِّق ‏{‏أُمِرْتُ‏}‏ محذوف لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏أن أعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ عليه‏.‏ ف ‏{‏أول هنا مستعمل في مجازه فقط إذ ليس المقصود من الأولية مجرد السبق في الزمان فإن ذلك حصل فلا جدوى في الإِخبار به، وإنما المقصود أنه مأمور بأن يكون أقوى المسلمين إسلاماً بحيث أن ما يقوم به الرسول من أمور الإِسلام أعظم مما يقوم به كل مسلم كما قال‏:‏ إني لأتقاكم لله وأعلمكم به‏.‏

وعطف وأمرت‏}‏ الثاني على ‏{‏أُمِرْتُ‏}‏ الأول للتنويه بهذا الأمر الثاني ولأنه غَاير الأمر الأول بضميمة قيد التعليل فصار ذكر الأمر الأول لبيان المأمور، وذكرُ الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله، ليشير إلى أنه أمر بأمرين عظيمين‏:‏ أحدهما يشاركه فيه غيره وهو أن يعبد الله مخلصاً له الدين، والثاني يختص به وهو أن يعبده كذلك ليكون بعبادته أولَ المسلمين، أي أمره الله بأن يبلُغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصاً له الدين، فجعل وجوده متمحضاً للإِخلاص على أي حال كان كما قال في الآية الأخرى‏:‏

‏{‏قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162، 163‏]‏‏.‏

واعلم أنه لما كان الإِسلام هو دين الأنبياء في خاصتهم كما تقدم عند قوله تعالى ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ ونظائرها كثيرة، كانت في هذه الآية دلالةٌ على أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لشمول لفظ المسلمين للرسل السابقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

هذا القول متعين لأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً بأن يواجه به المشركين الذين كانوا يحاولون النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الدعوة وأن يتابع دينهم‏.‏ وهما أحد الشقين اللذين وجّه الخطاب السابق إليهما، وتعيينُ كلّ لما وجّه إليه منطوٍ بقرينة السياق وقرينةِ ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوا ما شِئْتُم من دُونِه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وإعادة الأمر بالقول على هذا للتأكيد اهتماماً بهذا المقول، وأمّا على الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين في المراد من توجيه المطلب في قوله‏:‏ ‏{‏إِني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11‏]‏ الآية فتكون إعادة فعل ‏{‏قل‏}‏ لأجل اختلاف المقصودين بتوجيه القول إليهم، وقد تقدم قول مقاتل‏:‏ قال كفار قريش للنبيء‏:‏ ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ألاَ تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون الّلاتَ والعزّى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى * فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ‏}‏

أمر بأن يعيد التصريح بأنه يعبد الله وحده تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏قل إني أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11‏]‏، لأهميته، وإن كان مفاد الجملتين واحداً لأنهما معاً تفيدان أنه لا يعبد إلا الله تعالى باعتبار تقييد ‏{‏أعْبُدَ الله‏}‏ الأول بقيد ‏{‏مُخلصاً له الدين‏}‏ وباعتبار تقديم المفعول على ‏{‏أَعْبُد‏}‏ الثاني فتأكد معنى التوحيد مرتين ليتقرر ثلاث مرات، وتمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوا ما شئتم من دونه‏}‏ وهو المقصود‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدُوا‏}‏ الخ لتفريع الكلام الذي بعدها على الكلام قبلها فهو تفريع ذكري‏.‏ والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ‏}‏ مستعمل في معنى التخلية، ويعبر عنه بالتسوية‏.‏ والمقصود التسوية في ذلك عند المتكلم فتكون التسوية كناية عن قلة الاكتراث بفعل المخاطب، أي أن ذلك لا يضرني كقوله في سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏، أي اعبدوا أيّ شيء شئتم عبادتَه من دون الله‏.‏ وجعلت الصلة هنا فعل المشيئة إيماء إلى أن رائدهم في تعيين معبوداتهم هو مجرد المشيئة والهوى بلا دليل‏.‏

دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران‏}‏

أعقب أمر التسوية في شأنهم بشيء من الموعظة حرصاً على إصلاحهم على عادة القرآن، ولوحظ في إبلاغهم هذه الموعظة مقام ما سبق من التخلية بينهم وبين شأنهم جمعاً بين الإِرشاد وبين التوبيخ، فجيء بالموعظة على طريق التعريض والحديث عن الغائب والمراد المخاطبون‏.‏

وافتتح المقول بحرف التوكيد تنبيهاً على أنه واقع وتعريف ‏{‏الخَاسِرِينَ‏}‏ تعريف الجنس، أي أن الجنس الذين عرفوا بالخسران هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم‏.‏

وتعريف المسند والمسند إليه من طريق القصر، فيفيد هذا التركيب قصر جنس الخاسرين على الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، وهو قصر مبالغة لكمال جنس الخسران في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فخسران غيرهم كَلاَ خسران، ولهذا يقال في لام التعريف في مثل هذا التركيب إنها دالة على معنى الكمال فليسوا يريدون أن معنى الكمال من معاني لام التعريف‏.‏

ولما كان الكلام مسوقاً بطريق التعريض بالذين دَار الجدال معهم من قوله‏:‏ ‏{‏إن تكفروا فإن الله غني عنكم إلى قوله‏:‏ فاعبدوا ما شئتم من دونه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7 15‏]‏، عُلم أن المراد بالذين خسروا أنفسهم وأهليهم هم الذين جرى الجدال معهم، فأفاد معنى‏:‏ أن الخاسرين أنتم، إلا أن وجه العدول عن الضمير إلى الموصولية في قوله‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ لإِدماج وعيدهم بأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة‏.‏

ومعنى خسرانهم أنفسهم‏:‏ أنهم تسببوا لأنفسهم في العذاب في حين حسبوا أنهم سعوا لها في النعيم والنجاح، وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب وهم يحسبون أنهم يُلقونها في النعيم، بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح فأصيب بالتلف، فأطلق على هذه الهيئة تركيب ‏{‏خَسِرُوا أنفسَهُم‏}‏، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ومن خفَّت موازينُه فأُولئِكَ الذين خَسِروا أنفُسَهُم بما كانوا بأياتِنا يظلِمُون‏}‏ في أوّل سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وأما خسرانهم أهليهم فهو مِثل خسرانهم أنفسهم وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر كما أوقعوا أنفسهم فيه فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة ولم ينفعوهم‏:‏ ‏{‏لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 37‏]‏، وهذا قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏، فكان خسرانهم خسراناً عظيماً‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ألاَ ذلِكَ هو الخُسرانُ المبينُ‏}‏ استئناف هو بمنزلة الفذلكة والنتيجة من الكلام السابق لأن وصف ‏{‏الذين خسروا‏}‏ بأنهم خسروا أحب ما عندهم وبأنهم الذين انحصر فيهم جنس الخاسرين، يستخلص منه أن خسارتهم أعظم خسارة وأوضحها للعيان، ولذلك أوثرت خسارتهم باسم الخسران الذي هو اسم مصدر الخسارة دالٌّ على قوة المصدر والمبالغة فيه‏.‏

وأشير إلى العناية والاهتمام بوصف خسارتهم، بأن افتتح الكلام بحرف التنبيه داخلاً على اسم الإِشارة المفيد تمييز المشار إليه أكمل تمييز، وبتوسط ضمير الفصل المفيد للقصر وهو قصر ادعائي، والقول فيه كالقول في الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الخاسِرينَ الذين خَسِروا أنفسهم وأهليهم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏‏.‏

بدل اشتمال من جملة ‏{‏ألا ذَلِكَ هو الخسرانُ المبينُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 15‏]‏، وخص بالإِبدال لأنه أشد خسرانهم عليهم لتسلطه على إهلاك أجسامهم‏.‏ والخسران يشتمل على غير ذلك من الخزي وغضب الله واليأس من النجاة‏.‏ فضمير ‏{‏لهم‏}‏ عائد إلى مجموع ‏{‏أنفُسَهُم وأهْلِيهِم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

والظلل‏:‏ اسم جمع ظلة، وهي شيء مرتفع من بناء أو أعواد مثل الصُّفَّة يستظل به الجالس تحته، مشتقة من الظلّ لأنها يكون لها ظِلّ في الشمس، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا غشيهم موج كالظلل‏}‏ في سورة ‏[‏لقمان‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وهي هنا استعارة للطبقة التي تعلو أهل النار في نار جهنم بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ النَّارِ‏}‏، شبهت بالظلة في العلوّ والغشيان مع التهكم لأنهم يتمنون ما يحجب عنهم حرّ النار فعبر عن طبقات النار بالظّلَل إشارة إلى أنهم لا واقي لهم من حر النار على نحو تأكيد الشيء بما يشبه ضده، وقوله ‏{‏لهم‏}‏ ترشيح للاستعارة‏.‏

وأما إطلاق الظلل على الطبقات التي تحتهم فهو من باب المشاكلة ولأن الطبقات التي تحتهم من النار تكون ظللاً لكفار آخرين لأن جهنم دركات كثيرة‏.‏

‏{‏ظُلَلٌ ذلك يُخَوِّفُ الله بِهِ‏}‏‏.‏

تذييل للتهديد بالوعيد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل إنَّ الخاسرين الذين خسِرُوا أنفسهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 15‏]‏ الآية، أو استئناف بياني بتقدير سؤال يخطر في نفس السامع لوصف عذابهم بأنه ظلل من النار من فوقهم وظلل من تحتهم أن يقول سائل‏:‏ ما يقع إعداد العذاب لهم في الآخرة بعد فوات تدارك كفرهم‏؟‏ فأجيب بأن الله جعل ذلك العذاب في الآخرة لتخويف الله عباده حين يأمرهم بالاستقامة ويشرع لهم الشرائع ليعلموا أنهم إذا لم يستجيبوا لله ورسله تكون ذلك عاقبتهم‏.‏ ولما كان وعيد الله خبراً منه ولا يكون إلا صدقاً حقق لهم في الآخرة ما توعدهم به في الحياة وتخويف الله به معناه أنه يخوفهم بالإِخبار به وبوصفه، أما إذاقتهم إياه فهي تحقيق للوعيد‏.‏

ويعلم من هذا بطريق المقابلة جعل الجنة لترغيب عباده في التقوى، إلا أنه طوى ذكره لأن السياق موعظة لأهل الشرك فالله جعل الجنة وجهنم إتماماً لحكمته ومراده من نظام الحياة الدنيا ليكون الناس فيها على أكمل ما ترتقي إليه النفس الزكية‏.‏ والظاهر أن الجنة جعلها الله مسكناً لأهل النفوس المقدسة من الملائكة والناس مثل الرسل فلذلك هي مخلوقة من قبل ظهور التكليف، وأما جهنم فيحتمل أنها مقدمة وهو ظاهر حديث‏:‏ «اشتكت النار إلى ربها فقالت‏:‏ أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنَفَسَيْن نفس في الشتاء ونفس في الصيف»‏.‏ ويحتمل أنها تخلق يوم الجزاء ويتأول الحديث‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما وصف من الخسران والعذاب بتأويل المذكور‏.‏

والتخويف‏:‏ مصدر خوفه، إذا جعله خائفاً إذا أراه ووصف له شيئاً يثير في نفسه الخوف، وهو الشعور بما يؤلم النفس بواسطة إحدى الحواس الخمس‏.‏

والعباد المضاف إلى ضمير الجلالة في الموضعين هنا يعمّ كل عبد من الناس من مؤمن وكافر إذ الجميع يخافون العذاب على العصيان، والعذاب متفاوت وأقصاه الخلود لأهل الشرك، وليس العباد هنا مراداً به أهل القرب لأنه لا يناسب مقام التخويف ولأن قرينة قوله‏:‏ ‏{‏عِبَادَهُ‏}‏ تدل على أن المنادَيْن جميع العباد، ففرق بينه وبين نحو ‏{‏يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 68‏]‏‏.‏

عِبَادَهُ يا عباد تفريع وتعقيب لِجملة ‏{‏ذلك يُخوّفُ الله بهِ عِبَادَه‏}‏ لأن التخويف مؤذن بأن العذاب أعد لأهل العصيان فناسب أن يعقب بأمر الناس بالتقوى للتفادي من العذاب‏.‏

وقدم النداء على التفريع مع أن مقتضى الظاهر تأخيره عنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ لأن المقام هنا مقام تحذير وترهيب، فهو جدير باسترعاء ألباب المخاطبين إلى ما سيرد من بعد من التفريع على التخويف بخلاف آية البقرة فإنها في سياق الترغيب في إكمال أعمال الحج والتزود للآخرة فلذلك جاء الأمر بالتقوى فيها معطوفاً بالواو‏.‏

وحذفت ياء المتكلم من قوله‏:‏ ‏{‏يا عِبادِ‏}‏ على أحد وجوه خمسة في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

لما انتهى تهديد المشركين وموعظة الخلائق أجمعين ثُني عنان الخطاب إلى جانب المؤمنين فيما يختص بهم من البشارة مقابلة لنذارة المشركين‏.‏ والجملة معطوفة على جملة ‏{‏قُلْ إنَّ الخاسرين الذين خسِرُوا أنفسهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏ الآية‏.‏

والتعبير عن المؤمنين ب ‏{‏الذين اجتنبوا الطاغوت‏}‏ لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو ‏{‏لهُمُ البشرى‏}‏، وهذا مقابل قوله‏:‏ ‏{‏ذلك يُخوفُ الله به عِباده‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏‏.‏

والطاغوت‏:‏ مصدر أو اسم مصدر طَغا على وزن فَعَلُوت بتحريك العين بوزن رَحموتٍ وملوكت‏.‏ وفي أصله لغتان الواو والياء لقولهم‏:‏ طغا طُغُوًّا مثل علوّ، وقولهم‏:‏ طغوان وطغيان‏.‏ وظاهر «القاموس» أنه واوي، وإذ كانت لامه حرف علة ووقعت بعدها واوُ زِنةِ فَعلوت استثقلت الضمة عليها فقدموها على العين ليتأتّى قلبها ألفاً حيث تحركت وانفتح ما قبلها فصار طاغوت بوزن فَلَعُوت بتحريك اللام وتاؤُه زائدة للمبالغة في المصدر‏.‏

ومن العلماء من جعل الطاغوت اسماً أعجمياً على وزن فَاعول مثل جالوت وطالوت وهارون، وذكره في «الإِتقان» فيما وقع في القرآن من المعرّب وقال‏:‏ إنه الكاهن بالحبشية‏.‏ واستدركه ابن حجر فيما زاده على أبيات ابن السبكي في الألفاظ المعرَّبة الواقعة في القرآن، وقد تقدم ذكره بأخصر مما هنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وأُطلق الطاغوت في القرآن والسنة على القوي في الكفر أوْ الظلم، فأطلق على الصّنم، وعلى جماعة الأصنام، وعلى رئيس أهل الكفر مثل كعب بن الأشرف‏.‏ وأما جمعه على طواغيت فذلك على تغليب الاسمية علماً بالغلبة إذ جعل الطاغوت لواحد الأصنام وهو قليل، وهو هنا مراد به جماعة الأصنام وقد أجرى عليه ضمير المؤنث في قوله‏:‏ ‏{‏أن يعْبُدُوهَا‏}‏ باعتبار أنه جمع لغير العاقل، وأجري عليه ضمير جماعة الذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ باعتبار أنه وقع خبراً عن الأولياء وهو جمع مذكر، وباعتبار تنزيلها منزلة العقلاء في زعم عبادها‏.‏ و‏{‏أن يعبُدُوها‏}‏ بدل من ‏{‏الطَّاغُوتَ‏}‏ بدل اشتمال‏.‏

والإِنابة‏:‏ التوبة وتقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لحليم أواه منيب‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏‏.‏ والمراد بها هنا التوبة من كل ذنب ومعصية وأعلاها التوبة من الشرك الذي كانوا عليه في الجاهلية‏.‏

والبشرى‏:‏ البشارة، وهي الإِخبار بحصول نفع، وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ في سورة ‏[‏يونس‏:‏ 64‏]‏‏.‏ والمراد بها هنا‏:‏ البشرى بالجنة‏.‏

وفي تقديم المسند من قوله‏:‏ ‏{‏لهُمُ البشرى‏}‏ إفادة القصر وهو مثل القصر في ‏{‏أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب‏}‏‏.‏

وفرع على قوله‏:‏ ‏{‏لهُمُ البُشْرى‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه‏}‏ وهم الذين اجتنبوا الطاغوت، فعدل عن الإِتيان بضميرهم بأن يقال‏:‏ فبشرهم، إلى الإِظهار باسم العِباد مضاف إلى ضمير الله تعالى، وبالصلة لزيادة مدحهم بصفتين أخريين وهما‏:‏ صفة العبودية لله، أي عبودية التقرب، وصفة استماع القول واتباع أحسنه‏.‏

وقرأ العشرة ما عدا السوسي رَاويَ أبي عمرو كلمة ‏{‏عبادِ بكسر الدال دون ياء وهو تخفيف واجْتزاء بوجود الكسرة على الدال‏.‏ وقرأها السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل وساكنة في الوقف، ونقل عنه حذف الياء في حالة الوقف وهما وجهان صحيحان في العربية كما في التسهيل‏}‏، لكن اتفقت المصاحف على كتابة ‏{‏عبادِ هنا بدون ياء بعد الدال وذلك يوهن قراءة السوسي إلاّ أن يتأول لها بأنها من قبيل الأداء‏.‏

والتعريف في القَوْلَ‏}‏ تعريف الجنس، أي يستمعون الأقوال مما يدعو إلى الهدى مثلَ القرآن وإرشادَ الرسول صلى الله عليه وسلم ويستمعون الأقوال التي يريد أهلها صرفهم عن الإِيمان من ترهات أيمة الكفر فإذا استمعوا ذلك اتبعوا أحسنه وهو ما يدعو إلى الحق‏.‏

والمراد‏:‏ يتبعون القول الحسن من تلك الأقوال، فاسم التفضيل هنا ليس مستعملاً في تفاوت الموصوف به في الفضل على غيره فهو للدلالة على قوة الوصف، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ أثنى الله عليهم بأنهم أهل نقد يميزون بين الهدى والضلال والحكمة والأوهام نُظّار في الأدلة الحقيقية نُقّاد للأدلة السفسطائية‏.‏ وفي الموصول إيماء إلى أن اتباع أحسن القول سبب في حصول هداية الله إياهم‏.‏

وجملة ‏{‏أُولئِكَ الذينَ هداهُم الله‏}‏ مستأنفة لاسترعاء الذهن لتلقي هذا الخبر‏.‏ وأكد هذا الاسترعاء بجعل المسند إليه اسم إشارة ليتميز المشار إليهم‏.‏ أكمل تميزه مع التنبيه على أنهم كانوا أحرياء بهذه العناية الربانية لأجل ما اتصفوا به من الصفات المذكورة قبل اسم الإِشارة وهي صفات اجتنابهم عبادة الأصنام مع الإِنابة إلى الله واستماعهم كلام الله واتباعهم إياه نابذين ما يلقي به المشركون من أقوال التضليل‏.‏

والإِتيان باسم الإشارة عقب ذكر أوصاف أو أخبارٍ طريقة عربية في الاهتمام بالحكم والمحكوم عليه فتارة يشار إلى المحكوم عليه كما هنا وتارة يشار إلى الخبر كما في قوله‏:‏ ‏{‏هذا وإن للطاغين لشر مئاب‏}‏ في سورة ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وقد أفاد تعريف الجزأين في قوله‏:‏ ‏{‏أُولئكَ الذينَ هداهُم الله‏}‏ قصر الهداية عليهم وهو قصر صفة على موصوف وهو قصر إضافي قصر تعيين، أي دون الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم‏.‏

ومعنى ‏{‏هدَاهُمُ الله‏}‏ أنهم نالوا هذه الفضيلة بأن خلق الله نفوسهم قابلة للهدى الذي يخاطبهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فتهيأت نفوسهم لذلك وأقبلوا على سماع الهدى بشَرَاشِرهم وسعوا إلى ما يبلغهم إلى رضاه وطلبوا النجاة من غضبه‏.‏ وليس المراد بهدي الله إياهم أنه وجه إليهم أوامر إرشاده لأن ذلك حاصل للذين خوطبوا بالقرآن فأعرضوا عنه ولم يتطلبوا البحث عما يرضي الله تعالى فأصروا على الكفر‏.‏

وأشارت جملة ‏{‏وأُولئِكَ هُم أُولوا الألبَابِ‏}‏ إلى معنى تهيئهم للاهتداء بما فطرهم الله عليه من عقول كاملة، وأصل الخِلقة ميَّالة لفهم الحقائق غير مكترثة بالمألوف ولا مُرَاعاة الباطل، على تفاوت تلك العقول في مدى سرعة البلوغ للاهتداء، فمنهم من آمن عند أول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مثل خديجة وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، ومنهم من آمن بُعيد ذلك أو بَعده، فأشير إلى رسوخ هذه الأحوال في عقولهم بذكر ضمير الفصل مع كلمة ‏{‏أُولُوا‏}‏ الدالة على أن الموصوف بها ممسك بما أضيفت إليه كملة ‏{‏أُوْلُوا‏}‏، وبما دل عليه تعريف ‏{‏الألبابِ‏}‏ من معنى الكمال، فليس التعريف فيه تعريف الجنس لأن جنس الألباب ثابت لجميع العقلاء‏.‏ وأشار إعادة اسم الإِشارة إلى تميزهم بهذه الخصلة من بين نظرائهم وأهل عصرهم‏.‏

وفيه تنبيه على أن حصول الهداية لا بدّ له من فاعل وقابل، فأشير إلى الفاعل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هداهم الله‏}‏، وإلى القابل بقوله‏:‏ ‏{‏هُم أُولوا الألبابِ‏}‏‏.‏ وفي هذه الجملة من القصر ما في قوله‏:‏ ‏{‏أُولئِكَ الذينَ هداهُمُ الله‏}‏‏.‏

وقد دل ثناء الله على عباده المؤمنين الكمّل بأنهم أحرزوا صفة اتباع أحسن القول الذي يسمعونه، على شرف النظر والاستدلال للتفرقة بين الحق والباطل وللتفرقة بين الصواب والخطأ ولغلق المجال في وجه الشبهة ونفي تلبس السفسطة‏.‏ وهذا منه ما هو واجب على الأعيان وهو ما يكتسب به الاعتقاد الصحيح على قدر قريحة الناظر، ومنه واجب على الكفاية وهو فضيلة وكمال في الأعيان وهو النظر والاستدلال في شرائع الإسلام وإدراكُ دلائل ذلك والفقهُ في ذلك والفهم فيه والتهممُ برعاية مقاصده في شرائع العبادات والمعاملات، وآداب المعاشرة لإِقامة نظام الجامعة الإِسلامية على أصدق وجه وأكمله، وإلجامُ الخائضين في ذلك بعماية وغرور، وإلقامُ المتنطعين والملحدين‏.‏

ومما يتبع ذلك انتقاء أحسن الأدلة وأبلغغِ الأقوال الموصلة إلى هذا المقصود بدون اختلال ولا اعتلال بتهذيب العلوم ومؤلفاتها، فقد قيل‏:‏ خذوا من كل علم أحسنه أخذاً من قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَهُ‏}‏‏.‏ وعن ابن زيد نزلت في زيد بن عَمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم واتّبعوا أحسن ما بلغهم من القول‏.‏

وعن ابن عباس نزل قوله‏:‏ ‏{‏فبشّر عِبَادِ الذينَ يستَمِعونَ القولَ‏}‏ الآية في عثمان وعبد الرحمان بن عوف وطلحة والزبير وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص جاؤوا إلى أبي بكر الصديق حين أسلم فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

لما أفاد الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏لهُم البشرى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 17‏]‏ والحصران اللذان في قوله‏:‏ ‏{‏أُولئِكَ الذينَ هداهُم الله وأُولئِكَ هم أُولوا الألبابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏ أنّ من سواهم وهم المشركون لا بشرى لهم ولم يهدهم الله ولا ألباب لهم لعدم انتفاعهم بعقولهم، وكان حاصل ذلك أن المشركين محرومون من حسن العاقبة بالنعيم الخالد لحرمانهم من الطاعة التي هي سببه فُرع على ذلك استفهام إنكاري مفيد التنبيه على انتفاء الطماعية في هداية الفريق الذي حقت عليه كلمة العذاب، وهم الذين قُصد إقصاؤهم عن البشرى، والهدايةِ والانتفاععِ بعقولهم، بالقصر المصوغة عليه صِيَغ القصر الثلاث المتقدمة كما أشرنا إليه‏.‏

وقَد جاء نظم الكلام على طريقة مبتكرة في الخبر المهتم به بأن يؤكد مضمونه الثابت للخبر عنه، بإثبات نقيضضِ أو ضدِّ ذلك المضمون لضد المخبر عنه ليتقرر مضمون الخبر مرتين مرةً بأصله ومرة بنقيضه أو ضده، لضد المخبر عنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا وإن للطاغين لشر مئاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏ عَقب قوله‏:‏ ‏{‏هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مئاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ويكثر أن يقع ذلك بعد الإِتيان باسم إشارة للخبر المتقدم كما في الآية المذكورة أو للمخبر عنه كما في هذه السورة في قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏أُولئِكَ الذين هداهُم الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏ فإنه بعد أن أشير إلى الموصوفين مرتين فرع عليه بعده إثبات ضد حكمهم لمن هم متصفون بضد حالهم‏.‏

وبهذا يَظهر حسن موقع الفاء لتفريع هذه الجملة على جملة ‏{‏أُولئك الذين هداهم الله وأُولئك هم أُولوا الألبابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏ لأن التفريع يقتضي اتصالاً وارتباطاً بين المفرَّع والمفرّع عليه وذلك، كالتفريع في قول لبيد‏:‏

أفتلك أم وحشيةٌ مَسْبُوعَة *** خَذَلت وهاديةُ الصِوار قِوامها

إذ فَرَّع تشبيهاً على تشبيه لاختلاف المشبه بهما‏.‏

وكلمة ‏{‏العذَابِ‏}‏ كلام وعيد الله إياهم بالعذاب في الآخرة‏.‏ ومعنى ‏{‏حَقَّ‏}‏ تحققت في الواقع، أي كانت كلمة العذاب المتوعَّد بها حقّاً غير كذب، فمعنى ‏{‏حَقَّ‏}‏ هنا تحقق، وحَقّ كلمة العذاب عليهم ضد هدي الله الآخرين، وكونُهم في النار ضد كون الآخرين لهم البشرى، وترتيبُ المتضادْين جرى على طريقة شِبه اللف والنشر المعكوس، نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ‏{‏ختم اللَّه على قلوبهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6، 7‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4، 5‏]‏، فإن قوله‏:‏ ‏{‏ختم اللَّه على قلوبهم‏}‏ ضد لقوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم ضد قوله‏:‏ أولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏

و ‏(‏مَن‏)‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفَمن حقَّ عليهِ كلمةُ العذَابِ‏}‏ روي عن ابن عباس أن المراد بها أبو لهب وولدُه ومن تخلف عن الإِيمان من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ‏(‏مَنْ‏)‏ مبتدأ حذف خبره‏.‏ والتقدير‏:‏ تنقذه من النار، كما دل عليه ما بعده وتكون جملة ‏{‏أفأنت تُنقِذُ من في النَّار‏}‏ تذييلاً، أي أنت لا تنقذ الذين في النار‏.‏

والهمزة للاستفهام الإِنكاري، والهمزة الثانية كذلك‏.‏ وإحدَاهما تأكيد للأخرى التي قبلها للاهتمام بشأن هذا الاستفهام الإِنكاري على نحو تكرير ‏(‏أَنَّ‏)‏ في قول قس بن ساعدة‏:‏

لقد علم الحَي اليمانُون أنني

إذ قلت‏:‏ أمّا بعد، أَني خطيبها

والذي درج عليه صاحب «الكشاف» وتبعه شارحوه أن ‏(‏مَن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أفَمَنْ حَقَّ علَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ‏}‏ شرطية، بناء على أن الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏أفأنْتَ تُنْقِذُ مَن في النَّارِ‏}‏ يحسن أن تكون لمعنى غيرِ معنى التفريع المستفاد من التي قبلها وإلا كانت مؤكدة للأولى وذلك ينقص معنىً من الآية‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏مَن‏)‏ الأولى موصولة مبتدأً وخبرُه ‏{‏أفأنْتَ تُنْقِذُ مَن في النَّارِ‏}‏، وتكون الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏أفأنْتَ تُنْقِذُ مَن في النَّارِ‏}‏ مؤكدة للفاء الأولى في قوله‏:‏ ‏{‏أفَمَنْ حَقَّ‏}‏ الخ فتكون الهمزة والفاء معاً مؤكدتين للهمزة الأولى والفاءِ التي معها لاتصالهما، ولأن جملة ‏{‏أفأنْتَ تُنْقِذُ‏}‏ صادقة على ما صدقت عليه جملة ‏{‏أفَمَن حقَّ عليهِ كلِمَةُ العذَابِ‏}‏، ويكون الاستفهام الإِنكاري جارياً على غالب استعماله من توجهه إلى كلام لا شرط فيه‏.‏ وأصل الكلام على اعتبار ‏(‏مَن‏)‏ شرطية‏:‏ أَمَن تَحْقُق عليه كلمة العذاب في المستقبل، فأنت لا تنقذه منه فتكون همزة ‏{‏أفأنْتَ تُنْقِذُ مَن في النَّارِ‏}‏ للاستفهام الإنكاري وتكون همزة ‏{‏أفَمَن حقَّ عليه كلِمَةُ العَذَابِ‏}‏ افتُتح بها الكلام المتضمن الإِنكار للتنبيه من أول الأمر على أن الكلام يتضمن إنكاراً، كما أن الكلام الذي يشتمل على نفي قد يفتتحونه بحرف نفي قبل أن ينطقوا بالنفي كما في قول مسلم بن معبد الوالبي من بني أسد‏:‏

فلاَ والله لا يُلفَى لما بي *** ولا لِما بهم أبداً دَواء

ويفيد ذكرها توكيدَ مُفاد همزة الإِنكار إفادةً تبعية‏.‏

وأصل الكلام على اعتبار ‏(‏مَن‏)‏ الأولى موصولة‏:‏ الذين تَحِقّ عليهم كلمة العذاب أنت لا تنقذهم من النار، فتكون الهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏أفَمَن حقَّ عليه كلِمَةُ العَذَابِ‏}‏ للاستفهام الإِنكاري وتكون همزة ‏{‏أفأنْتَ تُنْقِذُ مَن في النَّارِ‏}‏ تأكيداً للهمزة الأولى‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏مَن في النَّارِ‏}‏ موصولة‏.‏ و‏{‏مَن في النَّارِ‏}‏ هم من حقّ عليهم كلمة العذاب لأن كلمة العذاب هي أن يكونوا من أهل النار فوَقَع إظهار في مقام الإِضمار، والأصل‏:‏ «أفأنْتَ تُنقِذُه مَن النَّارِ»‏.‏

وفائدة هذا الإِظهار تهويل حالتهم لما في الصلة من حَرف الظرفية المصوِّر لحالة إحاطة النار بهم، أي أفأنت تريد إنقاذهم من الوقوع في النار وهم الآن في النار لأنه محقق مصيرهم إلى النار، فشبه تحقق الوقوع في المستقبل بتحققه في الحال‏.‏ وقد صرح بمثل هذا الخبر المحذوف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمناً يوم القيامة‏}‏ في سورة ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفمن يمشي مُكِباً على وجهِهِ أهدى أمَّن يَمشي سَوياً على صِراطٍ مُستَقيم‏}‏

في سورة ‏[‏الملك‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والاستفهام تقريري كناية عن عدم التساوي بين هذا وبين المؤمن‏.‏

وكلمة ‏{‏العَذَابِ‏}‏ هي كلام الله المقتضي أن الكافر في العذاب، أي تقديرُ الله ذلك للكافر في وعيده المتكرر في القرآن‏.‏ وتجريد فعل ‏{‏حَقَّ‏}‏ من تاء التأنيث مع أن فاعله مؤنث اللفظ وهو ‏{‏كلمة‏}‏، لأن الفاعل اكتسب التذكير مما أضيف هو إليه نظراً لإِمكان الاستغناء عن المضاف بالمضاف إليه، فكأنه قيل‏:‏ أفمن حق عليه العذاب‏.‏ وفائدة إقحام ‏{‏كَلِمَةُ‏}‏ الإِشارة إلى أن ذلك أمر الله ووعيده‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في ‏{‏أفأنْتَ تُنْقِذُ‏}‏ مفيد لتقوّي الحكم وهو إنكار أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بتكرير دعوته يخلصهم من تحقق الوعيد أو يُحصل لهم الهداية إذا لم يقدرها الله لهم‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تهويناً عليه بعض حرصه على تكرير دعوتهم إلى الإِسلام، وحزنَه على إعراضهم وضلالهم، وإلا فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يظن أنه ينقذهم من وعيد الله، ولذلك اجتلب فعل الإِنقاذ هنا تشبيهاً لحال النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على هدْيهم وبلوغ جهده في إقناعهم بتصديق دعوته، وحالِهم في انغماسهم في موجبات وعيدهم بحال من يحاول إنقاذ ساقط في النار قد أحاطت النار بجوانبه استحقاقاً قضى به من لا يُردّ مرادُه، فحالهم تشبه حال وقوعهم في النار من الآن لتحقق وقوعه، وحذف المركب الدال على الحالة المشبه بها، ورمز إلى معناه بذكر شيء من ملائمات ذلك المركب المحذوف وهو فعل ‏{‏تُنْقِذُ مَن في النَّارِ‏}‏ الذي هو من ملائمات وقوعهم في النار على طريقة التمثيل بالمكنية، أيْ إجراء الاستعارة المكنية في المركب، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏تُنْقِذُ مَن في النَّارِ‏}‏ قرينة هذه المكنية وهو في ذاته استعارة تحقيقية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينقضون عهد اللَّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وهذا مما أشار إليه «الكشاف» وبينه التفتزاني فيُعدّ من مبتكرات دقائق أنظارهما، وبه يتم تقسيم الاستعارة التمثيلية إلى قسمين مصرحة ومكنية‏.‏ وذلك كان مغفولاً عنه في علم البيان وبهذا تعلم أن الإِنقاذ أطلق على الإِلحاح في الإِنذار من إطلاق اسم المُسبب على السبب، وأن مَن في النار مَن هو صائر إلى النار، فلا متمسك للمعتزلة في الاستدلال بالآية على نفي الشفاعة المحمدية لأهل الكبائر؛ على أننا لو سلمنا أن الآية مسوقة في غرض الشفاعة فإنما نفت الشفاعة لأهل الشرك لأن مَن في النار يحتمل العهد وهم المتحدث عنهم في هذه الآية‏.‏ ولا خلاف في أن المشركين لا شفاعة فيهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 48‏]‏، على أن المنفي هو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منقذاً لمن أراد الله عدمَ إنقاذه، فأما الشفاعة فهو سؤال الله أن ينقذه‏.‏

وقد اشتملت هذه الآية على نكت بديعة من الإِعجاز إذ أفادت أن هذا الفريق من أهل الشرك الذين يكمن الكفر في قلوبهم حقت عليهم كلمة الله بتعذيبهم فهم لا يؤمنون، وأن حالهم الآن كحال من وقع في النار فهو هالك لا محالة، وحال النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على هديهم كحال من رأى ساقطاً في النار فاندفع بدافع الشفقة إلى محاولة إنقاذه ولكنه لا يستطيع ذلك فلذلك أنكرت شدة حرصه على تخليصهم فكان إيداع هذا المعنى في جملتين نهاية في الإِيجاز مع قرنه بما دَل عليه تأكيد الهمزة والفاء في الجملة الثانية من الإِطناب في مقام الصراحة‏.‏

ثم بما أودع في هاتين الجملتين من الاستعارة التمثيلية العجيبة بطريق المكنية ومن الاستعارة المصرحة في قرينة المكنية‏.‏

وحاصل نظم هذا التركيب‏:‏ أفمن حقّ عليه كلمة العذاب فهو في النار أفأنت تنقذه وتنقذ من في النار‏.‏

وقد أشار إلى هذه الحالة الممثلة في هذه الآية حديث أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفَراش وهذه الدوابُ التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلِبْنَه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحُجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

أعيدت بشارة الذين اجتنبوا الطاغوت تفصيلاً للإِجمال الواقع من قبل‏.‏ وافتتح الإِخبار عنهم بحرف الاستدراك لزيادة تقرير الفارق بين حال المؤمنين وحال المشركين والمضادة بينهما، فحرف الاستدراك هنا لمجرد الإِشعار بتضادّ الحالين ليعلم السامع أنه سيتلقى حكماً مخالفاً لما سبق كمَا تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن انظر إلى الجبل‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن كره اللَّه انبعاثهم‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 46‏]‏، فحصل في قضية الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت تقرير على تقرير ابتدئ بالإِشارتين في قوله‏:‏ ‏{‏أُولئِكَ الذينَ هداهُمُ الله وأُولئِكَ هم أُولوا الألبابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏ ثم بما أعقب من تفريع حال أضدادهم على ذكر أحوالهم ثم بالاستدراك الفارق بين حالهم وحال أضدادهم‏.‏

والمراد بالذين اتقوا ربهم‏:‏ هم الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن القول واهتدوا بهدي الله وكانوا أولي ألباب، فعدل عن الإِتيان بضميرهم هنا إلى الموصول لقصد مدحهم بمدلول الصلة وللإِيماء إلى أن الصلة سبب للحكم المحكوم به على الموصول وهو نوالهم الغرف‏.‏ وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير المتقين لما في تلك الإِضافة من تشريفهم برضى ربهم عنهم‏.‏

واللام في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للاختصاص‏.‏ والمعنى‏:‏ أَنها لهم في الجنة، أي أعدت لهم في الجنة‏.‏

والغُرف‏:‏ جمع غُرفة بضم الغين وسكون الراء، وهي البيت المرتكز على بيت آخر، ويقال لها العُلِّيّة ‏(‏بضم العين وكسرها وبكسر اللام مشدّدة والتحتية كذلك‏)‏ وتقدمت الغرفة في آخر سورة الفرقان ‏(‏75‏.‏

‏(‏ومعنى ‏{‏من فَوْقِهَا غُرَفٌ‏}‏ أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيّز لام الاختصاص، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضاً لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمّى بالهواء في اصطلاح الفقهاء‏.‏ فالمعنى‏:‏ لهم أطباق من الغُرف، وذلك مقابل ما جعل لأهل النار في قوله‏:‏ ‏{‏لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وخولف بين الحالتين‏:‏ فجعل للمتقين غرف موصوفة بأنها فوقها غرف، وجعلت للمشركين ظُلل من النار، وعطف عليها أنّ مِن تحتهم ظللاً للإِشارة إلى أن المتقين متنعمون بالتنقل في تلك الغرف، وإلى أن المشركين محبوسون في مكانهم، وأن الظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم لتتظاهر الظلل بتوجيه لفح النار إليه من جميع جهاتهم‏.‏

والمبنيّة‏:‏ المسموكة الجدران بحَجر وجِصّ، أو حَجر وتراب، أو بطوب مُشمس ثم توضع عليها السُقُف، وهذا نعت لغرف التي فوقها غرف‏.‏ ويعلم منه أن الغرف المعتلَى عليها مبنية بدلالة الفحوى‏.‏ وقد تردد المفسرون في وجه وصف الغرف مع أن الغرفة لا تكون إلا من بناء، ولم يذهبوا إلى أنه وصف كاشف ولهم العذر في ذلك لقلة جدواه فقيل ذكر المبنية للدلالة على أنها غرف حقيقة لا أشياء مشابهة الغرف فرقاً بينهما وبين الظلل التي جعلت للذين خسروا يوم القيامة فإن ظللهم كانت من نار فلا يظن السامع أن غرف المتقين مجاز عن سحابات من الظلّ أو نحو ذلك لعدم الداعي إلى المجاز هنا بخلافه هنالك لأنه اقتضاه مقام التهكم‏.‏

وقال في «الكشاف»‏:‏ ‏{‏مَّبْنِيَةٌ‏}‏ مثل المنازل اللاصقة للأرض، أي فذكر الوصف تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏تَجْرِي مِن تحتها الأنهَارُ‏}‏ لأن المعروف أن الأنهار لا تجري إلا تحت المنازل السفلية أي لم يفت الغرف شيء من محاسن المنازل السفلية‏.‏

وقيل‏:‏ أريد أنها مهيّأة لهم من الآن‏.‏ فهي موجودة لأن اسم المفعول كاسم الفاعل في اقتضائه الاتصاف بالوصف في زمن الحال فيكون إيماء إلى أن الجنة مخلوقة من الآن‏.‏

ويجوز عندي أن يكون الوصف احترازاً عن نوع من الغرف تكون نحتاً في الحَجر في الجبال مثل غرف ثمود، ومثل ما يسمّيه أهل الجنوب التونسي غرفاً، وهي بيوت منقورة في جبال ‏(‏مدنين‏)‏ و‏(‏مطماطة‏)‏ و‏(‏تطاوين‏)‏ وانظر هل تسمى تلك البيوت غرفاً في العربية فإن كتب اللغة لم تصف مسمّى الغرفة وصفاً شافياً‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏مَّبْنِيَةٌ‏}‏ وصفاً للغرف باعتبار ما دل عليه لفظها من معنى المبنيّ المعتلي فيكون الوصف دالاً على تمكن المعنى الموصوف، أي مبنية بناء بالغاً الغاية في نوعه كقولهم‏:‏ لَيل أليل، وظلّ ظليل‏.‏

وجريُ الأنهار من تحتها من كمال حسن منظرها للمُطلّ منها‏.‏ ومعنى ‏{‏منْ تَحْتِها‏}‏ أن الأنهار تمرّ على ما يجاور تحتها، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏، فأطلق اسم تحت على مُجاورة‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ تجري من تحت أسسها الأنهار، أي تخترق أسسها وتمر فيها وفي ساحاتها، وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق تحت حقيقة‏.‏

والمعنى‏:‏ أن كل غرفة منها يجري تحتها نهر فهو من مقابلة الجمع ليُقسّم على الآحاد، وذلك بأن يصعد الماء إلى كل غرفة فيجري تحتها‏.‏

و وعْدَ الله‏}‏ مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لنفسه لأن قوله‏:‏ ‏{‏لهُمْ غُرَفٌ‏}‏ في معنى‏:‏ وَعدهم الله غرفاً وعداً منه‏.‏ ويجوز انتصابه على الحال من ‏{‏غُرَفٌ‏}‏ على حدّ قوله‏:‏ ‏{‏وعداً علينا،‏}‏ وإضافة ‏{‏وَعْدَ‏}‏ إلى اسم الجلالة مؤذنة بأنه وعد موفىً به فوقعت جملة ‏{‏لا يُخْلِفُ الله المِيعَادَ‏}‏ بياناً لمعنى ‏{‏وَعْدَ الله‏}‏‏.‏

والميعاد‏:‏ مصدر ميمي بمعنى الوعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي انتُقل به إلى غرض التنويه بالقرآن وما احتوى عليه من هدى الإِسلام، وهو الغرض الذي ابتدئت به السورة وانثنى الكلام منه إلى الاستطراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعبد اللَّه مخلصاً له الدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏ إلى هنا، فهذا تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏أفَمَن شَرَحَ الله صَدرهُ للإسلامِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلِكَ هُدَى الله يهْدِي به من يشاءُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22، 23‏]‏ فمُثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعدُ بنماء ذلك الاهتداء، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله‏.‏ وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها‏:‏ فإِنزال الماء من السماء تشبيه لإِنزال القرآن لإِحياء القلوب، وإسلاكُ الماء ينابيع في الأرض تشبيه لِتبليغ القرآن للناس، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طَيِّب وغيره، ونافع وضار، وهياج الزرع تشبيه لِتكاثر المؤمنين بين المشركين‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَجْعلُهُ حُطاماً‏}‏ فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواءِ الناس فيها من نافع وضار‏.‏ وفي تعقيب هذا بقوله‏:‏ ‏{‏أفَمَن شَرَحَ الله صدرَهُ للإسلامِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22، 23‏]‏ إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل‏.‏

وقريب من تمثيل هذه الآية ما في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نَقيَّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشُب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً فذلك مَثَل من فقُه في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومثَل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به ‏"‏ ويجوز أن يكون المعنى أصالةً وإدماجاً على عكس ما بيّنا، فيكونَ عَوْداً إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة، فيكونَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم ترَ أن الله أنزل من السماءِ ماءً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لذكرى لأولي الألبابِ‏}‏ متصلاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلقكم من نفسسٍ واحدةٍ ثمَّ جعَلَ منها زَوجَهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ المتصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَق السماواتتِ والأرض بالحققِ يُكورُ الليل على النَّهار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏، ويكونَ ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجاً في هذا الاستدلال‏.‏ وعلى كلا الوجهين أُدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية‏.‏

والكلام استفهام تقريري، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطباً معيَّناً‏.‏ والرؤية بصرية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أنزلَ مِن السماءِ ماءً‏}‏ تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏‏.‏

و ‏{‏سلكه‏}‏ أدخله، أي جعله سالكاً، أي داخلاً، ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏وسلك لكم فيها سبلاً‏}‏ في سورة ‏[‏طه‏:‏ 53‏]‏، وذكرنا هنالك أن فعل سلك يكون قاصراً ومتعدّياً، وهذا الإِدخال دليل ثان‏.‏

و ‏{‏يَنابيعَ‏}‏ جمع ينبوع وهو العين من الماء، تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ في سورة ‏[‏الإِسراء‏:‏ 90‏]‏‏.‏ وانتصب ‏{‏ينابيعَ‏}‏ على الحال من ضمير ‏{‏مَاءً‏}‏‏.‏ وتصيير الماء الداخل في الأرض ينابيع دليل ثالث على عظيم قدرة الله‏.‏

وعطف ب ‏{‏ثم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُخرجُ بهِ زَرعاً‏}‏ لإِفادة التراخي الرتبي بحرف ‏{‏ثم‏}‏ كشأنها في عطف الجمل لأن إخراج الزرع من الأرض بعد إقحالها أوقع في نفوس الناس لأنه أقرب لأبصارهم وأنفع لعيشهم وإذ هو المقصود من المطر‏.‏ وهذا الإِخراج دليل رابع‏.‏

والألوان‏:‏ جمع لون، واللون‏:‏ كيفية لائحة على ظاهر الجسم في الضوء، وتقدم في سورة فاطر ‏[‏27، 28‏]‏‏.‏ واختلاف ألوان الزرع بالمعنى الأول أن لكل نوع من الزرع لوناً ولنَوْرها ألواناً ولكل صنف من الزرع ألوان مختلفة في أطوار نباته وبلوغه أشُدّه، وهذا الاختلاف مع اتّحاد الأرض التي تنبت فيها واتحاد الماء الذي نبت به آية خامسة على عظيم القدرة والانفراد بالتصرف‏.‏

ومعنى ‏{‏يهيج‏}‏ يغلظ ويرتفع‏.‏ وحقيقة الهياج‏:‏ ثورة الإنسان أو الحيوان، ويستعار الهياج لشدة الشيء من غير الحيوان يقال‏:‏ هاجت ريِح، ومنه هياج الزرع في الآية لأن الزرع تطول سوقه وسنابله فيتم جفافه فإذا تحرك بمرور الريح عليه صار له حفيف وخشخشة سواء في ذلك الحَب والكَلأ وهذا الطور آية سادسة على الوحدانية‏.‏

والحطام‏:‏ المحطوم، أي المكسور المفتوت، ووزن فُعال ‏(‏بضم الفاء‏)‏ يدل على المفعول كالفُتات والدُقاق، ومثله الفُعالة كالصُبابة والقُلامة والقُمامة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يبلغ من اليبس إلى حد أن يتحطم ويتكسر بحك بعضه بعضاً وتساقُطه وكسر الريح إياه‏.‏ وهذا الطور آية سابعة على قدرة الله‏.‏ وجميعها آيات على دقة صنعه وكيف أودع الأطوار الكثيرة في الشيء الواحد يخلف بعضها بعضاً من طور وجوده إلى طور اضمحلاله‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّ في ذلك لذكرى لأُولِى الألباب‏}‏ مبيّنة للاستفهام التقريري وفذلكة للأطوار المستفهم عنها، فالإِشارة بذلك إلى المذكور من الإِنزال إلى آخر الأطوار‏.‏

والمراد‏:‏ ذكرى بالدلالة على ما يغفل عنه العاقل‏.‏ ويجوز أن تكون الذكرى لما يذهل عنه العاقل مما تشتمل عليه هذه الأحوال من مبدئها إلى منتهاها‏.‏ فمن ذلك أنها تصلح مثالاً لتقريب البعث فإن إنزال الماء على الأرض وإنباتها بسببه أمر يتجدد بعد أن صار ما عليها من النبات حطاماً، وتخللت زراريعه الأرض فنبتت مرة أخرى بنزول الماء، فكذلك يعود الإِنسان بعد فنائه كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏ فتتضمن الآية إدماج تقريب البعث وإمكانه مع الاستدلال على انفراد الله تعالى بالتصرف، ومن ذلك أنها تصلح مثلاً للحياة الدنيا كما في آية سورة يونس وفي سورة الكهف، والمقصود‏:‏ تشبيه الحالة بالحالة فلا يُعتبر التجوز في مفردات هذا المركب بأن يطلب لكل طور من أطوار الدنيا طور يشتبه به من أطوار النبات‏.‏

ومنها أنها مثل لأطوار الإِنسان من طور النطف إلى الشباب إلى الشيخوخة ثم الهلاك، والمقصود تشبيه الحالة بالحالة مع إمكان توزيع تشبيه كل طور من أطوار الحالة المشبهة بطور من أطوار الحالة المشبه بها وهو أكمل أنواع التمثيلية‏.‏

و ‏{‏أولي الألبَابِ‏}‏ هم الذين ينتفعون بألبابهم فيهتدون بما نصب لهم من الأدلة، كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألباب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، وهم الذين استدلوا فآمنوا‏.‏ وفي هذا تعريض بأن الذين لم يستفيدوا من الأدلة بمنزلة مَن عدموا العقول‏.‏