فصل: الجزء الرابع والعشرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الرابع والعشرون

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أفادت الفاء تفريع ما بعدها على ما قبلها تفريعَ القضاء عن الخصومة التي في قوله‏:‏ ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 31‏]‏ إذ قد علمتَ أن الاختصام كُنِّيَ به عن الحكم بينهم فيما خالفوا فيه وأنكروه، والمعنى‏:‏ يقضي بينكم يوم القيامة فيكون القضاء على من كذَب على الله وكذَّب بالصدق إذ جاءه إذ هو الذي لا أظلم منه، أي فيكون القضاء على المشركين إذْ كذَبوا على الله بنسبة الشركاء إليه والبنات، وكذَّبوا بالصْدق وهو القرآن، ومَا صْدَقُ ممَّن كذَّب على الله‏}‏ الفريقُ الذين في قوله‏:‏ ‏{‏وإنهم ميتون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏ وهم المعنيون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 24‏]‏‏.‏

‏(‏وقد كني عن كونهم مدينين بتحقيق أنهم أظلم لأن من العدل أنْ لا يُقَرَّ الظالم على ظلمه فإذا وصف الخصم بأنه ظالم عُلم أنه محكوم عليه كما قال تعالى حكاية عن داود‏:‏ ‏{‏قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقد عُدل عن صَوْغ الحكم عليهم بصيغة الإِخبار إلى صوغه في صورة الاستفهام للإيماء إلى أن السامع لا يسعه إلاّ الجواب بأنهم أظلم‏.‏

فالاستفهام مستعمل مجازاً مرسلاً أو كناية مرادٌ به أنهم أظلم الظالمين وأنه لا ظالم أظلم منهم، فآل معناه إلى نفي أن يكون فريق أظلم منهم فإنهم أتوا أصنافاً من الظلم العظيم‏:‏ ظلم الاعتداء على حرمة الرب بالكذب في صفاته إذ زعموا أن له شركاء في الربوبية، والكذب عليه بادعاء أنه أمرهم بما هم عليه من الباطل، وظُلم الرسول بتكذيبه، وظلم القرآن بنسبته إلى الباطل، وظلم المؤمنين بالأذى، وظلم حقائق العالم بقلبها وإفسادها، وظلم أنفسهم بإقحامها في العذاب الخالد‏.‏

وعدل عن الإتيان بضميرهم إلى الإِتيان بالموصول لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه كونهم أظلم الناس‏.‏ وإنما اقتصر في التعليل على أنهم كذَبوا على الله وكذَّبوا بالصدق لأن هذين الكذبَيْن هما جُماع ما أتوا به من الظلم المذكور آنفاً‏.‏

والصدق‏:‏ ضد الكذب‏.‏ والمراد بالصدق القرآن الذي جَاء به النبي، ومجيء الصدق إليهم‏:‏ بلوغه إياهم، أي سماعهم إياه وفهمهم فإنه بلسانهم وجاء بأفصح بيان بحيث لا يُعرِض عنه إلا مكابر مُؤثِر حظوظ الشهوة والباطل على حظوظ الإِنصاف والنجاة‏.‏

وفي الجمع بين كلمة ‏(‏الصدق‏)‏ وفعل كَذَبَ‏}‏ محسن الطباق‏.‏

و ‏{‏إذْ جاءَهُ‏}‏ متعلق ب ‏{‏كَذَبَ،‏}‏ و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف زمن ماض وهو مشعر بالمقارنة بين الزمن الذي تدل عليه الجملةُ المضاف إليها، وحصول متعلقه، فقوله‏:‏ ‏{‏إذْ جاءَهُ‏}‏ يدل على أنه كذَّب بالحق بمجرد بلوغه إياه بدون مهلة، أي بادر بالتكذيب بالحق عند بلوغه إياه من غير وقفة لإِعمال رؤية ولا اهتمام بمَيْز بين حق وباطل‏.‏

وجملة ‏{‏أليس في جهنَّم مَثْوى للكافرين‏}‏ مبينة لمضمون جملة ‏{‏فمن أظلم ممن كَذَب على الله‏}‏ أي أن ظلمهم أوجب أن يكون مثواهم في جهنم‏.‏

والاستفهام تقريري، وإنما وُجِّه الاستفهام إلى نفي ما المقصودُ التقريرُ به جرياً على الغالب في الاستفهام التقريري وهي طريقة إرخاء العنان للمقرَّر بحيث يُفتح له باب الإِنكار علماً من المتكلم بأن المخاطب لا يَسعه الإِنكار فلا يلبث أن يقر بالإِثبات‏.‏ ويجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً رداً لاعتقادهم أنهم ناجون من النار الدال عليه تصميمهم على الإِعراض عن التدبر في دعوة القرآن‏.‏

والكافرون‏:‏ هم الذين كفروا بالله فأثبتوا له الشركاء أو كذبوا الرسل بعد ظهور دلالة صدقهم، والتعريف في ‏(‏الكافرين‏)‏ للجنس المفيد للاستغراق فشمل الكافرين المتحدث عنهم شمولاً أوليا‏.‏ وتكون الجملة مفيدة للتذييل أيضاً، ويكون اقتضاء مصير الكافرين المتحدث عنهم إلى النار ثابتاً بشبه الدليل الذي يعم مصير جميع الجنس الذي هم من أصنافه‏.‏ وليس في الكلام إظهار في مقام الإِضمار‏.‏

والمثوى‏:‏ اسم مكان الثواء، وهو القرار، فالمثوى المقر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

الذي جاء بالصدق هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدق‏:‏ القرآن كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وكذَّب بالصدق إذ جاءه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وجملة وصدَّقَ بهِ‏}‏ صلة موصوللٍ محذوففٍ تقديره‏:‏ والذي صدق به، لأن المصدق غير الذي جاء بالصدق، والقرينة ظاهرة لأن الذي صَدَّق غير الذي جاء بالصدق فالعطف عطف جملة كاملة وليس عطف جملة صِلة‏.‏

وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ يجوز أن يعود على ‏(‏الصدق‏)‏ ويجوز أن يعود على الذي ‏{‏جَاءَ بالصِدْق،‏}‏ والتصديق بكليهما متلازم، وإذ قد كان المصدقون بالقرآن أو بالنبي صلى الله عليه وسلم من ثبت له هذا الوصف كان مراداً به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم جماعة فلا تقع صفتهم صلة ل ‏{‏الذي‏}‏ لأن أصله للمفرد، فتعين تأويله بفريق، وقرينته ‏{‏أولئك هم المتقون،‏}‏ وإنما أفرد عائد الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏وصَدَّقَ‏}‏ رعياً للفظ ‏{‏الذي‏}‏ وذلك كله من الإِيجاز‏.‏

وروى الطبري بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر، وقاله الكلبي وأبو العالية، ومحمله على أن أبا بكر أول من صدّق النبي صلى الله عليه وسلم

وجملة ‏{‏أولئك هم المتقون‏}‏ خبر عن اسم الموصول‏.‏ وجيء باسم الإشارة للعناية بتمييزهم أكمل تمييز‏.‏ وضمير الفصل في قوله ‏{‏هم المتقون‏}‏ يفيد قصر جنس المتقين على ‏{‏الذي جاء بالصدق وصدق به‏}‏ لأنه لا متقي يومئذٍ غير الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلهم متقون لأن المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم لما أشرقت على نفوسهم أنوار الرسول صلى الله عليه وسلم تَطهرت ضمائرهم من كل سيئة فكانوا محفوظين من الله بالتقوى قال تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أولئك هم الذين تحقق فيهم ما أريد من إنزال القرآن الذي أشير إليه في قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وجملة لهم ما يشاءون عند ربهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بَيانياً لأنهم لما قصر عليهم جنس المتقين كان ذلك مشعراً بمزية عظيمة فكان يقتضي أن يَسأل السامع عن جزاء هذه المزية فبُين له أن لهم ما يشاؤون عند الله‏.‏ و‏{‏ما يشاءون‏}‏ هو ما يريدون ويتمنون، أي يعطيهم الله ما يطلبون في الجنة‏.‏

ومعنى ‏{‏عند ربِّهم‏}‏ أن الله ادّخر لهم ما يبتغونه، وهذا من صيغ الالتزام ووعدِ الإِيجاببِ، يقال‏:‏ لك عندي كذا أي ألتزِمُ لك بكذا، ثم يجوز أن الله يلهمهم أن يشاءوا ما لا يتجاوز قدرَ ما عَين الله من الدرجات في الجنة فإن أهل الجنة متفاوتون في الدرجات‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إن الله يقول لأحدهم‏:‏ تمنَّهْ، فلا يزال يتمنى حتى تنقطع به الأَماني فيقول الله لك ذلك وعشرةُ أمثاله معه»

ويجوز أن ‏{‏مَا يَشاءُون‏}‏ مما يقع تحت أنظارهم في قُصورهم ويحجب الله عنهم ما فوق ذلك بحيث لا يسألون إلا ما هو من عطاءِ أمثالهم وهو عظيم ويقلع الله من نفوسهم ما ليس من حظوظهم‏.‏

ويجوز أن ‏{‏مَا يَشاءُون‏}‏ كناية عن سعة ما يُعطَوْنَه كما ورد في الحديث ‏"‏ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سَمِعَت ولا خطَر على قلب بشر ‏"‏ وهذا كما يقول من أسديتَ إليه بعمل عظيم‏:‏ لكَ عليَّ حُكْمُك، أو لَك عندي ما تَسْأَل، وأنت تريد ما هو غاية الإِحسان لأمثاله‏.‏

وعُدل عن اسم الجلالة إلى وصف ‏{‏رَبِّهم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبِّهم‏}‏ إيماء إلى أنه يعطيهم عطاءَ الربوبية والإِيثار بالخير‏.‏

ثم نوه بهذا الوعد بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك جزاء المُحسنين‏}‏ والمشار إليه هو ما يشاءون لِما تضمنه من أنه جزاء لهم على التصديق‏.‏ وأشير إليه باسم الإِشارة لتضمنه تعظيماً لشأن المشار إليه‏.‏ والمراد بالمحسنين أولئك الموصوفون بأنهم المتقون، وكانَ مقتضى الظاهر أن يؤتى بضميرهم فيقال‏:‏ ذلك جزاؤهم، فوقع الإِظهار في مقام الإِضمار لإِفادة الثناء عليهم بأنهم محسنون‏.‏

والإِحسان‏:‏ هو كمال التقوى لأنه فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه» وأيُّ إحسان وأيُّ تقوى أعظمُ من نبذهم ما نشأوا عليه من عبادة الأصنام، ومن تحملهم مخالفة أهليهم وذويهم وعداوتهم وأذاهم، ومِن صبرهم على مصادرة أموالهم ومفارقة نسائهم تصديقاً للذي جاء بالصدق وإيثاراً لِرِضى الله على شهوة النفس ورضى العشِيرةَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليُكَفِّر الله عنهُم أسْوَأ الَّذِي عَمِلوا‏}‏ اللام للتعليل وهي تتعلق بفعل محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لهم ما يشاءون عند ربهم،‏}‏ والتقدير‏:‏ وَعَدَهم الله بذلك والتزمَ لهم ذلك ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله وعدهم وعداً مطلقاً ليكفر عنهم أسوأ ما عملوه، أي ما وعدهم بذلك الجزاء إلا لأنهُ أراد أن يكفر عنهم سيئات ما عملوا‏.‏

والمقصود من هذا الخبر إعلامهم به ليطمئنوا من عدم مؤاخذتهم على ما فرط منهم من الشرك وأحواله‏.‏

و ‏{‏أسوَأَ‏}‏ يجوز أن يكون باقياً على ظاهر اسم التفضيل من اقتضاء مفضل عليه، فالمراد بأَسوأ عملهم هو أعظمهُ سُوءاً وهو الشرك، سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ الذنب أعظمُ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ أن تدعو لله نِدًّا وهو خَلَقَك ‏"‏ وإضافته إلى ‏{‏الذي عملوا‏}‏ إضافة حقيقية، ومعنى كون الشرك مما عملوا باعتبار أن الشرك عمل قلبي أو باعتبار ما يستتبعه من السجود للصنم، وإذا كَفَّر عنهم أسوأَ الذي عملوا كفَّر عنهم ما دونه من سيِّئ أعمالهم بدلالة الفَحوى، فأفاد أنه يكفر عنهم جميع ما عمِلوا من سيئات، فإن أريد بذلك ما سبَق قبلَ الإِسلام فالآية تعم كل من صدَّق بالرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن بعد أن كان كافراً فإن الإِسلام يُجبّ ما قبله، وإن أريد بذلك ما عسى أن يعمله أحَدٌ منهم من الكبَائر في الإسلام كان هذا التكفير خصوصية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فضل الصحبة عظيم‏.‏

روي عن رسول الله أنه قال‏:‏ ‏"‏ لاَ تسبُّوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفَق مثلَ أُحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ‏"‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏أسوأ‏}‏ مسلوب المفاضلة وإنما هو مجاز في السوء العظيم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏ أي العمل الشديدُ السُوءِ، وهو الكبائر، وتكون إضافته بيانية‏.‏ وفي هذه الآية دلالة على أن رتبة صحبة النبي عظيمة‏.‏

وقال رسول الله‏:‏ الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمَن أَحَبَّهم فبِحُبِّي أَحَبَّهم ومن أبغضهم فببغضي أَبغضَهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه‏.‏ وقد أوصى أيمة سلفنا الصالح أن لا يُذكَر أحد من أصحاب الرسول إلاّ بأحسننِ ذكر، وبالإمساك عما شجَر بينهم، وأنهم أحق الناس بأن يُلتمس لهم أحسنُ المخارج فيما جرى بين بعضهم، ويظنَّ بهم أحسن المذاهب، ولذلك اتفق السلف على تفسيق ابن الأشتر النخعي ومن لُف لفه من الثوّار الذين جاءوا من مصر إلى المدينة لِخلع عثمان بن عفان، واتفقوا على أن أصحاب الجمَلَ وأصحاب صِفِّينَ كانوا متنازِعين عن اجتهاد وما دفعهم عليه إلا السعي لِصلاح الإِسلام والذبّ عن جامعته من أن تتسَرب إليها الفُرقة والاختلال، فإنهم جميعاً قدْوتنا وواسطة تبليغ الشريعة إلينا، والطعن في بعضهم يفضي إلى مخاوف في الدين، ولذلك أثبت علماؤنا عدالة جميع أصحاب النبي‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في موضععِ الاضمار بضمير رَبِّهم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لِيُكفِّرَ الله عَنهم‏}‏ لزيادة تمكن الإِخبار بتكفير سيئاتهم تمكيناً لاطمئنان نفوسهم بوعد ربهم‏.‏

وعطف على الفعل المجعوللِ علةٌ أولى فعلٌ هو علة ثانية وهو‏:‏ ‏{‏ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون‏.‏‏}‏ وهو المقصود من التعليل للوعد الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏لهم ما يشاءون عند ربهم‏.‏

والبناء في قوله‏:‏ بأحسن الذي كانوا يعملون‏}‏ للسببية وهي ظرف مستقرّ صفة ل ‏{‏أجْرَهم‏}‏ وليست متعلقة بفعل ‏{‏يجزيهم‏}‏، أي يجزيهم أجراً على أحسن أعمالهم‏.‏ وإذا كان الجزاء على العمل الأحسن بها الوعد وهو ‏{‏لهم ما يشاءون عند ربهم،‏}‏ فدل على أنهم يُجازَون على ما هو دون الأحسن من محاسن أعمالهم، بدلالة إيذان وصف «الأحسن» بأن علة الجزاء هي الأحسنية وهي تتضمن أنّ لمعنى الحُسن تأثيراً في الجزاء فإذا كان جزاء أحسن أعمالهم أَنَّ لهم ما يشاءون عند ربهم كان جزاء ما هو دون الأحسن من أعمالهم جزاء دون ذلك بأن يُجَازَوا بزيادة وتنفيل على ما استحقوه على أحسن أعمالهم بزيادة تنعم أو كرامة أو نحو ذلك‏.‏

وفي «مفاتيح الغيب»‏:‏ أن مقاتِلاً كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإِيمان واحتجَّ بهذه الآية فقال‏:‏ إنها تدل على أن من صدّق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفّر عنهم أسوأ الذي عملوا‏.‏ ولا يجوز حمل الأسوأ على الكفر السابق لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الأسوأ الكبائر التي يأتي بها بعد الإِيمان ا ه‏.‏ ولم يجب عنه في «مفاتيح الغيب» وجوابه‏:‏ لأن الأسوأ محتمل أن أدلة كثيرة أخرى تعارض الاستدلال بعمومها‏.‏ وفي الجمع بين كلمة ‏{‏أسْوَأ‏}‏ وكملة ‏{‏أحسن‏}‏ محسِّن الطِّبق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ‏}‏‏.‏

لمّا ضرب الله مثلاً للمشركين والمؤمنين بمَثَل رجل فيه شركاء متشاكسون ورجللٍ خالصصٍ لرجل، كان ذلك المثَل مثيراً لأن يقول قائِلُ المشركين لَتَتَأَلبَنَّ شركاؤنا على الذي جاء يحقرها ويسبها، ومثيراً لحمية المشركين أن ينتصروا لآلهتهم كما قال مشركو قوم إبراهيم ‏{‏حرقوه وانصروا آلهتكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وربما أنطقتهم حميتُهم بتخويف الرسول، ففي الكشاف‏}‏ و«تفسير القرطبي»‏:‏ أن قريشاً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّا نخاف أن تُخْبِلَك آلهتُنا وإنا نخشى عليك معرتها ‏(‏بعين بعد الميم بمعنى الإِصابة بمكروه يَعنون المضرة‏)‏ لعيبك إياها»‏.‏ وفي «تفسير ابن عطية» ما هو بمَعنى هذا، فلمَّا حكى تكذيبَهم النبي عطف الكلام إلى ما هددوه به وخوفوه من شر أصنامهم بقوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه‏}‏‏.‏

فهذا الكلام معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏ضَربَ الله مثَلاً رجُلاً فيه شُركاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏ الآية والمعنى‏:‏ أن الله الذي أفردتَه بالعبادة هو كافيك شر المشركين وباطل آلهتهم التي عبدوها من دونه، فقوله‏:‏ أليس الله بكاففٍ عبده‏}‏ تمهيد لقوله‏:‏ و‏{‏يخوفونك بالذين من دونه‏}‏ قدم عليه لتعجيل مساءة المشركين بذلك، ويستتبع ذلك تعجيل مسرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله ضامن له الوقاية كقوله‏:‏ ‏{‏فسيكفيكهم اللَّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏

وأصل النظم‏:‏ ويُخوّفونك بالذين من دون الله والله كافيك، فغُير مجرى النظم لهذا الغرض، ولك أن تجعل نظم الكلام على ترتيبه في اللفظ فتجعل جملة أليس الله بكاف عبده‏}‏ استئنافاً، وتصير جملة ‏{‏ويخوفونك‏}‏ حالاً‏.‏

ووقع التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم الظاهر وهو ‏{‏عَبْدَه‏}‏ دون ضمير الخطاب لأن المقصود توجيه الكلام إلى المشركين، وحُذف المفعول الثاني ل ‏{‏كافٍ‏}‏ لظهور أن المقصود كافيك أَذاهُم، فأما الأصنام فلا تستطيع أذىً حتى يُكْفاه الرسول صلى الله عليه وسلم والاستفهام إنكار عليهم ظنّهم أن لا حامِيَ للرسول صلى الله عليه وسلم من ضرّ الأصنام‏.‏ ‏[‏والمراد ب ‏{‏عَبْدَه‏}‏ هو الرسول صلى الله عليه وسلم لا محالة وبقرينة و‏{‏يُخوفونك‏}‏‏.‏

وفي استحضار الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة، معنى عظيم من تشريفه بهذه الإِضافة وتحقيققِ أنه غير مُسلمِه إلى أعدائه‏.‏

والخطاب في ‏{‏ويخوفونك‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو التفات من ضمير الغيبة العائد على ‏{‏عبده‏}‏، ونكتةُ هذا الإلتفات هو تمحيض قصد النبي بمضمون هذه الجملة بخلاف جملة ‏{‏أليس الله بكاف عبده‏}‏ كما علمت آنفاً‏.‏

و ‏{‏الذين من دونه‏}‏ هم الأصنام‏.‏ عُبر عنهم وهم حجارة بمَوصول العقلاءِ لكثرة استعمال التعبير عنهم في الكلام بصيغ العقلاء‏.‏ و‏{‏من دونه‏}‏ صلة الموصول على تقدير محذوف يتعلق به المجرور دل عليه السياق، تقديره‏:‏ اتخذُوهم من دونه أو عبَدُوهم من دونه‏.‏

ووقع في «تفسير البيضاوي» أن سبب نزول هذه الآية هو خبر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى هدم العُزّى وأن سادن العزّى قال لخالد‏:‏ أحذِّرُكَها يا خالد فإن لها شدةً لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وتأول الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ويخوفونك‏}‏ بأن تخويفهم خالداً أرادوا به تخويف النبي صلى الله عليه وسلم فتكون هذه الآية مدنية وسياق الآية ناببٍ عنه‏.‏ ولعل بعض من قال هذا إنما أراد الاستشهاد لتخويف المشركين النبي صلى الله عليه وسلم من أصنامهم بمثال مشهور‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بكاففٍ عبده‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف ‏{‏عبادَه‏}‏ بصيغة الجمع أي النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فإنهم لما خوَّفوا النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرادوا تخويفه وتخويف أتباعه وأن الله كفاهم شرهم‏.‏

‏{‏دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ‏}‏

اعتراض بين جملة ‏{‏أليس الله بكاف عبده‏}‏ الآية وجملةِ ‏{‏أليس الله بعزيز ذي انتقام‏}‏ قصد من هذا الاعتراض أن ضلالهم داء عَياء لأنه ضلال مكوَّن في نفوسهم وجبلّتهم قد ثبّتته الأيام، ورسخه تعاقب الأجيال، فَران بغشاوته على ألبابهم، فلما صار ضلالهم كالمجبول المطبوع أسند إيجاده إلى الله كناية عن تعسر أو تعذر اقتلاعه من نفوسهم‏.‏

وأريد من نفي الهادي من قوله‏:‏ ‏{‏فما له من هاد‏}‏ نفي حصول الاهتداء، فكني عن عدم حصول الهدى بانتفاء الهادي لأن عدم الاهتداء يجعل هاديهم كالمنفي‏.‏ وقد تقدم قوله في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏ ‏{‏من يضلل اللَّه فلا هادي له‏.‏‏}‏ والآيتان متساويتان في إفادة نفي جنس الهادي، إلا أن إفادة ذلك هنا بزيادة مِن‏}‏ تنصيصاً على نفي الجنس‏.‏ وفي آية الأعراف ببناء هادي على الفتح بعد ‏(‏لا‏)‏ النافية للجنس فإن بناء اسمها على الفتح مشعر بأن المراد نفي الجنس نصًّا‏.‏ والاختلاف بين الأسلوبين تفنن في الكلام وهو من مقاصد البلغاء‏.‏

وتقديم ‏{‏له‏}‏ على ‏{‏هَادٍ‏}‏ للاهتمام بضميرهم في مقام نفي الهادي لهم لأن ضلالهم المحكي هنا بالغ في الشناعة إذا بلغ بهم حدَّ الطمع في تخويف النبي بأصنامهم في حال ظهور عدم اعتداده بأصنامهم لكل متأمل مِن حاللِ دعوته، وإذْ بلغ بهم اعتقاد مقدرة أصنامهم مع الغفلة عن قدرة الرب الحَقّ، بخلاف آية الأعراف فإن فيها ذكر إعراضهم عن النظر في ملكوت السماوات والأرض وهو ضلال دون ضلال التخويف من بأس أصنامهم‏.‏

وأما جملة ‏{‏ومَن يَهْدِ الله فما لهُ مِن مُضلٍ‏}‏ فقد اقتضاها أن الكلام الذي اعترضت بعده الجملتان اقتضى فريقين‏:‏ فريقاً متمسكاً بالله القادر على النفع والضر وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وآخرَ مستمسكاً بالأصنام العاجزة عن الأمرين، فلما بُيّن أن ضلال الفريق الثاني ضلال مكين ببيان أن هدى الفريق الآخر راسخ متين فلا مطمع للفريق الضال بأن يجرّوا المهتدين إلى ضلالهم‏.‏

‏{‏مُّضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِى‏}‏‏.‏

تعليل لإِنكار انتفاء كفاية الله عن ذلك كإنكار أن الله عزيز ذو انتقام، فلذلك فصلت الجملة عن التي قبلها‏.‏

والاستفهام تقريري لأن العلم بعزة الله متقرر في النفوس لاعتراف الكل بإلهيته والإلهية تقتضي العزة، ولأن العلم بأنه منتقم متقرر من مشاهدة آثار أخذه لبعض الأمم مثل عاد وثمود‏.‏ فإذا كانوا يقرّون لله بالوصفين المذكورين فما عليهم إلا أن يعلموا أنّه كاففٍ عبده بعزته فلا يقدر أحد على إصابة عبده بسوء، وبانتقامه من الذين يبْتغون لعبده الأذى‏.‏

والعزيز‏:‏ صفة مشبهة مشتقة من العزّ، وهو منَعَة الجانب وأن لا يناله المتسلط وهو ضد الذل، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 209‏]‏‏.‏

والانتقام‏:‏ المكافأة على الشر بشر، وهو مشتق من النقْم وهو الغضب كأنه مطاوعه لأنه مسبب عن النَّقْم، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا منهم فأغرقناهم‏}‏ في اليم في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 136‏]‏‏.‏ وانظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه عزيز ذو انتقام‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 95‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏

اعتراض بين جملة ‏{‏أليس الله بعزيز‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 37‏]‏، وجملة قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏، فالواو اعتراضية، ويجوز أن يكون معطوفاً على جملة ‏{‏أليس الله بكاف عبده‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ وهو تمهيد لما يأتي بعده من قوله‏:‏ قُل أفرءيتُم ما تدعُون من دون الله‏}‏، لأنه قصد به التوطئة إليه بما لا نزاع فيه لأنهم يعترفون بأن الله هو المتصرف في عظائم الأمور، أي خلقَهُما وما تحويانه، وتقدم نظيره في سورة العنكبوت‏.‏

‏{‏الله قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ‏}‏

جاءت جملة ‏{‏قل أفرءيتم‏}‏ على أسلوب حكاية المقاولة والمجاوبة لكلامهم المحكي بجملة ‏{‏ليقولن الله‏}‏ ولذلك لم تعطف الثانية بالواو ولا بالفاء، والمعنى‏:‏ ليقولن الله فقل أفرأيتم ما تدعون من دون الله الخ‏.‏ والفاء من ‏{‏أفرءيتم‏}‏ لتفريع الاستفهام الإنكاري على جوابهم تفريعاً يفيد محاجّتهم على لازم اعترافهم بأن الله هو خالق السماوات والأرض كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أفغير اللَّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وهذا تفريع الإلزام على الإقرار، والنتيجة على الدليل فإنهم لما أقروا بأنه خالق السمَاوات والأرض يلزمهم أن يقرّوا بأنه المتصرف فيما تحويه السماوات والأرض‏.‏ والرؤية قلبية، أي أفظننتم‏.‏

وما تدعون من دون الله‏}‏ مفعول ‏(‏رأيتم‏)‏ الأول والمفعول الثاني محذوف سدّ مسده جوابُ الشرط المعترَض بعد المفعول الأول على قاعدة اللغة العربية عند اجتماع مبتدأ وشرطٍ أن يجري ما بعدهما على ما يناسب جملة الشرط لأن المفعول الأول لأفعال القلوب في معنى المبتدأ‏.‏

وجملة ‏{‏هل هن كاشفات ضرِّهِ‏}‏ جواب ‏{‏إِنْ‏.‏ واستعمال العرب إذا صُدّر الجواب بأداة استفهام غير الهمزة يجوز تجرده عن الفاء الرابطة للجواب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللَّه بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 47‏]‏، ويجوز اقترانه بالفاء كقوله‏:‏ ‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من اللَّه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 63‏]‏‏.‏ فأما المصدّر بالهمزة فلا يجوز اقترانه بالفاء كقوله‏:‏ ‏{‏أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن اللَّه يرى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏

وجواب الشرط دليل على المفعول الثاني لفعل الرؤية‏.‏ والتقدير‏:‏ أرأيتم مَا تدعون من دون الله كاشفاتتٍ ضرّه‏.‏ والهمزة للاستفهام وهو إنكاري إنكاراً لهذا الظن‏.‏

وجيء بحرف هل‏}‏ في جواب الشرط وهي للاستفهام الإِنكاري أيضاً تأكيداً لما أفادته همزة الاستفهام مع ما في ‏(‏هل‏)‏ من إفادة التّحْقيق‏.‏ وضمير ‏{‏هُنَّ‏}‏ عائد إلى مَا الموصولة وكذلك الضمائر المؤنثة الواردة بعده ظاهرةً ومستترة، إما لأن ‏(‏مَا‏)‏ صْدَقَ ما الموصولة هُنا أحجار غيرُ عاقلة وجمع غير العقلاء يَجري على اعتبار التأنيث، ولأن ذلك يُصير الكلام من قبيل الكلام الموجه بأن آلهتهم كالإِناث لا تقدر على النصر‏.‏

والكاشفات‏:‏ المزيلات، فالكشف مستعار للإِزالة بتشبيه المعقول وهو الضُرّ بشيء مستتر، وتشبيهِ إزالته بكشف الشيء المستور، أي إخراجه، وهي مكنية والكشف استعارة تخييلية‏.‏

والإِمساك أيضاً مكنية بتشبيه الرحمة بما يُسعَف به، وتشبيه التعرض لحصولها بإمساك صاحب المتاع متاعه عن طالبيه‏.‏

وعدل عن تعدية فعل الإِرادة للضر والرحمة، إلى تعديته لضمير المتكلم ذات المضرور والمَرحوم مع أن متعلق الإِرادات المعاني دون الذوات، فكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ إن أراد ضرّي أو أراد رحمتي فحق فعل الإِرادة إذا قصد تعديته إلى شيئين أن يكون المرادُ هو المفعول، وأن يكون ما معه معدىًّ إليه بحرف الجرّ، نحو أردتُ خيراً لزيد، أو أردت به خيراً، فإذا عدل عن ذلك قصد به الاهتمام بالمراد به لإِيصال المراد إليه حتى كأن ذاته هي المراد لمن يريد إيصال شيء إليه، وهذا من تعليق الأحكام بالذوات‏.‏ والمرادُ أحوال الذوات مثل ‏{‏حُرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، أي أكلها‏.‏ ونظم التركيب‏:‏ إن أرادني وأنا متلبس بضرّ منه أو برحمة منه، قال عمرو بن شاس‏:‏

أَرَادَتْ عِراراً بالهَواننِ ومَنْ يُرِدْ *** عِراراً لَعَمْرِي بالهَوَاننِ فَقَدْ ظَلَمْ

وإنمَا فَرض إرادة الضر وإرادة الرحمة في نفسه دون أن يقول‏:‏ إن أرادكم، لأن الكلام موجَّه إلى ما خوفوه من ضُر أصنامهم إياه‏.‏

وقرأ الجمهور كاشفات ضُرِّه‏}‏ و‏{‏ممسكات رحمته‏}‏ بإضافة الوصفين إلى الاسمين‏.‏ وقرأ أبو عمرو ويعقوب بتنوين الوصفين ونَصب ‏{‏ضُرَّه‏}‏ و‏{‏رحمتَه‏}‏ وهو اختلاف في لفظِ تعلُّق الوصف بمعموله والمعنى واحد‏.‏

ولمّا ألقمهم الله بهذه الحجة الحجَرَ وقطَعهم فلا يُحيروا ببنْت شَفَة أَمَر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ ‏{‏حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون‏}‏، وإنما أعيد الأمر بالقول ولم يَنتظِمْ ‏{‏حسبي الله‏}‏ في جملة الأمر الأول، لأن هذا المأمور بأن يقوله ليس المقصود توجيهه إلى المشركين فإن فيما سبقه مَقنَعاً من قلة الاكتراث بأصنامهم، وإنما المقصود أن يكون هذا القول شِعَارَ النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونه، وفيه حَظ للمؤمنين معه حاصل من قوله‏:‏ ‏{‏عليه يتوكل المتوكلون‏}‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك اللَّه ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏، فإعادة فعل قل‏}‏ للتنبيه على استقلال هذا الغرض عن الغرض الذي قبله‏.‏

والحسْب‏:‏ الكافي‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا حسبنا اللَّه ونعم الوكيل‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وحُذف المتعلِّق في هذه الجملة لعموم المتعلِّقَات، أي حسبيَ الله من كل شيء وفي كل حال‏.‏

والمراد بقوله اعتقادُه، ثم تذكُّرُه، ثم الإِعلانُ به، لتعليم المسلمين وإغاظة المشركين‏.‏

والتوكل‏:‏ تفويضُ أمور المفوِّض إلى من يَكفيه إياه، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على اللَّه إن اللَّه يحب المتوكلين‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏

وجملة عليه يتوكل المتوكلون‏}‏ يجوز أن تكون مما أُمر بأن يقوله تذكراً من النبي صلى الله عليه وسلم وتعليماً للمسلمين فتكون الجملة تذييلاً للتي قبلها لأنها أعمّ منها باعتبار القائلين لأن ‏{‏حسبي الله‏}‏ يؤول إلى معنى‏:‏ توكلت على الله، أي حَسبي أنا وحسب كل متوكل، أي كل مؤمن يعرف الله حق معرفته ويعتمد على كفايته دون غيره، فتعريف ‏{‏المتوكلون‏}‏ للعموم العرفي، أي المتوكلون الحقيقيون إِذ لا عبرة بغيرهم‏.‏

ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى خاطبَ به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يقوله فتكون الجملة تعليلاً للأمر بقَول‏:‏ ‏{‏حسبي الله‏}‏، أي اجعَلْ الله حسبك، لأن أهل التوكل يتوكلون عَلَى الله دون غيره وهم الرسل والصالحون وإذ قد كنتَ من رفيقهم فكن مثلَهم في ذلك على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى اللَّه فبهداهم اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏ وتقديم المجرور على يتوكَّلُ‏}‏ لإِفادة الاختصاص لأن أهل التوكل الحقيقيين لا يتوكلون إلا على الله تعالى، وذلك تعريض بالمشركين إذ اعتمدوا في أمورهم على أصنامهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

لما أبلغهم الله من الموعظة أقصى مَبلغ، ونصب لهم من الحجج أسطع حجة، وثبَّت رسوله صلى الله عليه وسلم أرسخ تثبيت، لا جرم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرِب النصر، ويواعدهم ما أُعد لهم من خسر‏.‏

وعدم عطف جملة ‏{‏قُل‏}‏ هذه على جملة ‏{‏قل حسبي الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ لدفع توهم أن يكون أمره ‏{‏قُلْ حسبي الله‏}‏ لقصد إبلاغه إلى المشركين نظير ترك العطف في البيت المشهور في علم المعاني‏:‏

وتظن سلمَى أنني أبغي بها *** بَدَلاً أَراها في الضلال تَهيم

لم يعطف جملة‏:‏ أراها في الضلال، لئلا يتوهم أنها معطوفة على جملة‏:‏ أبغي بها بدلاً، ولأنها انتقال من غرض الدعوة والمحاجّة إلى غرض التهديد‏.‏ وابتدأ المقول بالنداء بوصف القوم لما يشعر به من الترقيق لحالهم والأسف على ضلالهم لأن كونهم قومه يقتضي أن لا يدخرهم نصحاً‏.‏

والمكانة‏:‏ المكان، وتأنيثه روعي فيه معنى البقعة، استعير للحالة المحيطة بصاحبها إحاطة المكان بالكائن فيه‏.‏ والمعنى‏:‏ اعملوا على طريقتكم وحالكم من عداوتي، وتقدم نظيره في سورة الأنعام ‏(‏135‏.‏

‏(‏وقرأ الجمهور ‏{‏مكانتكم‏}‏ بصيغة المفرد‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏مكاناتكم‏}‏ بصيغة الجمع بألف وتاء‏.‏

وقال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏مَن يأتيه عذابٌ يخزيه‏}‏ ليكون التهديد بعذاب خزي في الدنيا وعذاب مقيم في الآخرة‏.‏ فأما قوله في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 135‏]‏‏:‏ ‏{‏قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‏}‏ فلم يذكر فيها العذاب لأنها جاءت بعد تهديدهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏‏.‏

وحذف متعلِّق إني عامل‏}‏ ليَعمّ كل متعلِّق يصلح أن يتعلق ب ‏{‏عامل‏}‏ مع الاختصار فإن مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا على مكانتكم‏}‏ يدل على أنه أراد من ‏{‏إني عامل‏}‏ أنه ثابت على عمله في نصحهم ودعوتهم إلى ما ينجيهم‏.‏ وأن حذف ذلك مشعر بأنه لا يقتصر على مقدار مكانته وحالته بل حالة تزداد كل حين قوةً وشدة لا يعتريها تقصير ولا يثبطها إعراضهم، وهذا من مستتبعات الحذف ولم ننبه عليه في سورة الأنعام وفي سورة هود‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ استفهامية عَلَّقت فعل ‏{‏تَعْلَمُون‏}‏ عن العمل في مفعوليه‏.‏

والعذاب المُخزي هو عذاب الدنيا‏.‏ والمراد به هنا عذاب السيف يوم بدر‏.‏ والعذاب المقيم هو عذاب الآخرة، وإقامته خلوده‏.‏ وتنوين ‏{‏عَذَابٌ‏}‏ في الموضعين للتعظيم المراد به التهويل‏.‏

وأسند فعل ‏{‏يأتِيهِ‏}‏ إلى العذاب المخْزي لأن الإِتيان مشعر بأنه يفاجئهم كما يأتي الطارق‏.‏ وكذلك إسناد فعل ‏{‏يَحل‏}‏ إلى العذاب المقيممِ لأن الحلول مشعر بالملازمة والإِقامة معهم، وهو عذاب الخلود، ولذلك يسمى منزل القول حِلة، ويقال للقوم القاطنين غير المسافرين هم حِلال، فكان الفعل مناسباً لوصفه بالمقيم‏.‏ وتعدية فعل ‏{‏يحل‏}‏ بحرف ‏(‏على‏)‏ للدلالة على تمكنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

الجملة تعليل للأمر بأن يقول لهم اعملوا على مكانتكم المفيد موادعتَهم وتهوينَ تصميم كفرهم عليه، وتثبيتَه على دعوته‏.‏ والمعنَى‏:‏ لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لفائدة الناس وكفاك ذلِك شرفاً وهدايةً وكفاك تبليغه إليهم فمن اهتدى من الناس فهدايته لنفسه بواسطتك ومن ضل فلم يهتد به فضلاَلُه على نفسه وما عليك من ضلالهم تَبعة لأنك بلغتَ ما أمرتَ به‏.‏ ولذلك خولف بين ما هنا وبين قوله في صدر السورة ‏{‏إنَّا أنزلنا إليك الكتاب للناس بالحق‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 2‏]‏، لأن تلك في غرض التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن يكون إنزال الكتاب إليه، و‏{‏للنَّاس‏}‏ متعلق ب ‏{‏أنزلنا،‏}‏ و‏{‏بالحَقِّ‏}‏ حال من ‏{‏الكِتَاب‏}‏، والباء للملابسة، واللام في ‏{‏للنَّاس‏}‏ للعلة، أي لأجل الناس‏.‏ وفي الكلام مضاف مفهوم مما تؤذن به اللام من معنى الفائدة والنفع أي لنفع الناس، أو مما يؤذن به التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن اهتدى‏}‏ الخ‏.‏ وفاء ‏{‏فَمَننِ اهتدى فَلِنَفْسِه‏}‏ للتفريع وهو تفريع ناشئ من معنى اللام‏.‏ و‏(‏مَنْ‏)‏ شرطية، أي من حصل منه الاهتداء في المستقبل فإن اهتداءه لفائدة نفسه لا غير، أي ليست لك من اهتدائه فائدة لذاتك لأن فائدة الرسول صلى الله عليه وسلم ‏(‏وهي شرفه وأجره‏)‏ ثابتة عن التبليغ سواء اهتدى من اهتدى وضل من ضل‏.‏

وتقدم نظير هذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ آخر سورة يونس ‏(‏108‏)‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ في آخر سورة النمل ‏(‏91، 92‏)‏، ولكن جيء في تينك الآيتين بصيغة قصر الاهتداء على نفس المهتدي وتُرك ذلك في هذه السورة، ووجْهُ ذلك أن تينك الآيتين واردتان بالأمر بمخاطبة المشركين فكان المقام فيهما مناسباً لإِفادة أن فائدة اهتدائهم لا تعود إلا لأنفسهم، أي ليست لي منفعة من اهتدائهم، خلافاً لهذه الآية فإنها خطاب موجه من الله إلى رسوله ليس فيها حالُ من ينزل منزلة المُدل باهتدائه‏.‏

أما قوله‏:‏ ومَن ضَلَّ فإنما يضل عليها‏}‏ فصيغة القصر فيه لتنزيل الرسول صلى الله عليه وسلم في أسفه على ضلالهم المفضي بهم إلى العذاب منزلةَ من يعود عليه من ضلالهم ضُر، فخوطب بصيغة القصر، وهو قصر قلب على خلاف مقتضى الظاهر‏.‏ ولذلك اتّحدت الآيات الثلاث في الاشتمال على القصر بالنسبة لجانب ضلالهم فإن قوله في سورة النمل ‏(‏92‏)‏ ‏{‏فقل إنما أنا من المنذرين في معنى‏:‏ فإنما يضل عليها‏}‏، أي ليس ضلالكم عليَّ فإنما أنا من المنذرين‏.‏ وهذه نكت من دقائق إعجاز القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ القول فيه كالقول في ‏{‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏ في سورة يونس ‏(‏108‏)‏‏.‏ وجملة ووما أنت عليهم بوكيل‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فَمَننِ اهتَدَى فلِنَفْسه‏}‏ أي لَسْتَ مأموراً بإرغامهم على الاهتداء، فصيغ هذا الخبر في جملة اسمية للدلالة على ثبات حكم هذا النفي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

يصلح هذا أن يكون مثَلاً لحال ضلال الضالين وهُدى المهتدين نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏فمن اهتدى فلنفسه إلى قوله‏:‏ وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 41‏]‏‏.‏

‏(‏والمعنى‏:‏ أن استمرار الضالّ على ضلاله قد يحصل بعدَه اهتداء وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه، وهذا تهوين على نفس النبي برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذٍ في ضلال وشرك كما تَحقّقَ ذلك‏.‏ فتكون الجملة تعليلاً للجملة قبلَها ولها اتصال بقوله‏:‏ ‏{‏أفمن شرح الله صدره للإسلام‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏في ضلال مبين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون انتقالاً إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداءً من قوله‏:‏ خلق السموات والأرض بالحق إلى قوله‏:‏ ‏{‏في ظُلُمات ثَلاث‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5، 6‏]‏، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذواتتٍ وإنشاءِ ذواتتٍ من تلك الأحوال وذلك من قوله‏:‏ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض إلى قوله‏:‏ ‏{‏لأُولى الألباب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏ وأعقَبَ كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفُس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم‏.‏ وقد أنبأ عن الاستدلال قوله‏:‏ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏، فهذا دليل للناس من أنفسهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ضرب لكم مثلاً من أنفسكم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏، فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتدرج في الاستدلال ولها اتصال بجملة خلق السموات والأرض بالحق‏}‏ وجملة ‏{‏ألم تر أن الله أنزل‏}‏ المتقدمتين، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإِفادة تخصيصه بمضمون الخبر، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإِظهار فساد أَنْ أشركوا به آلهة لا تملك تصرفاً في أحوال الناس‏.‏

والتوفِّي‏:‏ الإماتة، وسميت توفّياً لأن الله إذا أَمات أحداً فقد توفّاه أجلَه فالله المتوفِّي ومَلك الموت متوفًّ أيضاً لأنه مباشر التوفّي‏.‏

والميت‏:‏ متوفى بصيغة المفعول، وشاع ذلك فصار التوفّي مرادفاً للإِماتة والوفاة مُرادفة للموت بقطع النظر عن كيفية تصريف ذلك واشتقاقه من مادة الوفاء‏.‏

وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل يتوفاكم ملك الموت‏}‏ في سورة ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ والأنفس‏:‏ جمع نَفْس، وهي الشخص والذات قال تعالى‏:‏ وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏}‏ وتطلق على الروح الذي به الحياة والإِدراك‏.‏

ومعنى التوفي يتعلق بالأنفس على كلا الإِطلاقين‏.‏ والمعنى‏:‏ يتوفّى الناس الذين يموتون فإن الذي يوصف بالموت هو الذات لا الروح وأنَّ توفيها سَلب الأرواح عنها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والتي لم تمت‏}‏ عطف على الأنفس باعتبار قيد ‏{‏حين موتها‏}‏ لأنه في معنى الوصف فكأنه قيل يتوفى الأنفس التي تموت في حالة نومها، والأنفسَ التي لم تمت في نومها فأفاقت‏.‏

ويتعلق ‏{‏في منامها‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏يَتَوفَّى‏}‏، أي ويتوفى أنفساً لم تمت يَتوفاها في منامها كل يوم، فعلم أن المراد بتوفِّيها هو منامها، وهذا جار على وجه التشبيه بحسب عرف اللغة إذ لا يطلق على النائم ميّت ولا متوفى‏.‏ وهو تشبيه نُحِيَ به منحَى التنبيه إلى حقيقة علمية فإن حالة النوم حالة انقطاع أَهم فوائد الحياة عن الجسد وهي الإِدراك سوى أن أعضاءه الرئيسيّة لم تفقد صلاحيتها للعودة إلى أعمالها حينَ الهبوب من النوم، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه‏}‏ كما تقدم في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏‏.‏

‏(‏والفاء في فيمسك‏}‏ فاء الفصيحة لأن ما تقدم يقتضي مقدراً يفصح عنه الفاء لبيان توفي النفوس في المقام‏.‏

والإِمساك‏:‏ الشدّ باليد وعدم تسليم المشدود‏.‏ والمعنى‏:‏ فيبقِي ولا يردّ النفْس التي قضى عليها بالموت، أي يمنعها أن ترجع إلى الحياة فإطلاق الإِمساك على بقاء حالة الموت تمثيل لدوام تلك الحالة‏.‏ ومن لطائفه أن أهل الميت يتمنون عود ميتهم لو وجدوا إلى عوده سبيلاً ولكن الله لم يسمح لنفس ماتت أن تعود إلى الحياة‏.‏

والإِرسال‏:‏ الإِطلاق والتمكين من مبارحة المكان للرجوع إلى ما كَان والمراد ب ‏{‏الأخرى‏}‏ ‏{‏التي لم تمت‏}‏ ولكن الله جعلها بمنزلة الميتة‏.‏ والمعنى‏:‏ يرد إليها الحياة كاملة‏.‏ والمقصود من هذا إبراز الفرق بين الوفاتين‏.‏

ويتعلق ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ بفعل ‏{‏يرسل‏}‏ لما فيه من معنى يرد الحياة إليها، أي فلا يسلبها الحياة كلَّها إلا في أجلها المسمى، أي المعيّن لها في تقدير الله تعالى‏.‏

والتسمية‏:‏ التعيين، وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏

‏(‏هذا هو الوجه في تفسير الآية الخليّ عن التكلفات وعن ارتكاب شبه الاستخدام في قوله‏:‏ التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى‏}‏ وعن التقدير‏.‏

وجملة ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏ مستأنفة كما تذكر النتيجة عقب الدليل، أي أن في حالة الإِماتةِ والإِنامةِ دلائِلَ على انفراد الله تعالى بالتصرف وأنه المستحق للعبادة دون غيره وأن ليس المقصود من هذا الخبر الإِخبار باختلاف حالتي الموت والنوم بل المقصود التفكر والنظر في مضرب المثل، وفي دقائق صنع الله والتذكير بما تنطوي عليه من دقائق الحكمة التي تمر على كل انسان كلَّ يوم في نفسه، وتمرّ على كثير من الناس في آلهم وفي عشائرهم وهم معرضون عما في ذلك من الحكَم وبديع الصنع‏.‏

وجُعل ما تدل عليه آياتتٍ كثيرةً لأنهما حالتان عجيبتان ثم في كل حالة تصرف يغاير التصرف الذي في الأخرى، ففي حالة الموت سلب الحياة عن الجسم وبقاء الجسم كالجماد ومَنْعٌ من أن تعود إليه الحياة وفي حالة النوم سلب بعض الحياة عن الجسم حتى يكون كالميت وما هو بميت ثم منح الحياة أن تعود إليه دَوَالَيْك إلى أن يأتي إِبّان سلبها عنه سلباً مستمراً‏.‏

و ‏(‏الآياتُ لقوم يتفكرون‏)‏ حاصلة على كل من إرادة التمثيل وإرادة استدلال على الانفراد بالتصرف‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ لتنزيل معظم الناس منزلة المنكر لتلك الآيات لعدم جريهم في أحوالهم على مقتضى ما تدل عليه‏.‏

والتفكر‏:‏ تكلف الفكرة، وهو معالجة الفكر ومعاودة التدبر في دلالة الأدلة على الحقائق‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏قضى عليها الموت‏}‏ ببناء الفعل للفاعل ونصب الموت‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف ‏{‏قُضِي عليها الموت‏}‏ ببناء الفعل للنائب وبرفع الموت وهو على مراعاة نزع الخافض‏.‏ والتقدير‏:‏ قضي عليها بالموت، فلما حذف الخافض صار الاسم الذي كان مجروراً بمنزلة المفعول به فجعل نائباً عن الفاعل، أو على تضمين ‏{‏قُضِي‏}‏ معنى كُتب وقُدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ منقطعة وهي للاضراب الانتقالي انتقالاً من تشنيع إشراكهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم، ذلك أنهم لما دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله شركاء تمحّلوا تأويلاً لشركهم فقالوا‏:‏ ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ كما حكي عنهم في أول هذه السورة، فلما استُوفيَت الحججُ على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم منه ومعذرتهم‏.‏ والاستفهام الذي تشعر به أم‏}‏ في جميع مواقعها هو هنا للإِنكار بمعنى أن تأويلهم وعذرهم منكَر كما كان المعتذَر عنه منكراً فلم يقضوا بهذه المعذرة وطَراً‏.‏ وقد تقدم في أول السورة بيان مرادهم بكونهم شفعاء‏.‏

وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم مقالةً تقطع بهتانهم وهي ‏{‏أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون‏.‏

فالواو في أولو كانوا‏}‏ عاطفة كلام المجيب على كلامهم وهو من قبيل ما سُمّي بعطف التلقين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏124‏)‏، ولك أن تجعل الواو للحال كما هو المختار في نظيره‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏ وصاحب الحال مقدر دل عليه ما قبله من قوله‏:‏ اتخذوا من دون الله شفعاء‏.‏‏}‏ والتقدير‏:‏ أيشفعون لو كانوا لا يملكون شيئاً‏.‏ والظاهر أن حكم تصدير الاستفهام قبل واو الحال كحكم تصديره قبل واو العطف‏.‏

وأفاد تنكير ‏{‏شيئاً‏}‏ في سياق النفي عموم كل ما يُملك فيدخل في عمومه جميع أنواع الشفاعة‏.‏ ولما كانت الشفاعة أمراً معنوياً كان معنى ملكها تحصيل إجابتها، والكلام تهكم إذ كيف يشفع من لا يعقل فإنه لعدم عقله لا يتصور خطور معنى الشفاعة عنده فضلاً عن أن تتوجه إرادته إلى الاستشفاع فاتخاذهم شفعاء من الحماقة‏.‏

ولما نفى أن يكون لأصنامهم شيء من الشفاعة في عموم نفي مِلْك شيء من الموجودات عَن الأصنام، قوبل بقوله‏:‏ ‏{‏لله الشفاعة‏}‏ أي الشفاعة كلها لله‏.‏ وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم ليعلموا أن لا يملك الشفاعة إلا الله، أي هو مالك إجابة شفاعة الشفعاء الحقِّ‏.‏ وتقديم الخبر المجرور وهو ‏{‏لله‏}‏ على المبتدأ لإِفادة الحصر‏.‏ واللام للملك، أي قَصر ملك الشفاعة على الله تعالى لا يملك أحد الشفاعة عنده‏.‏

و ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من الشفاعة مفيدة للاستغراق، أي لا يشذ جزئي من جزئيات حقيقة الشفاعة عن كونه مِلكاً لله وقد تأكد بلازم هذه لحال ما دل عليه الحصر من انتفاء أن يكون شيء من الشفاعة لغير الله‏.‏

وجملة ‏{‏له ملك السموات والأرض‏}‏ لتعميم انفراد الله بالتصرف في السماوات والأرض الشامل للتصرف في مؤاخذة المخلوقات وتسيير أمورهم فموقعها موقع التذييل المفيد لتقرير الجملة التي قبله وزيادة‏.‏ والمراد المُلك بالتصرف بالخلق وتصريف أحوال العالميْن ومن فيهما، فإذا كان ذلك المُلك له فلا يستطيع أحد صرفه عن أمر أراد وقوعه إلى ضد ذلك الأمر في مدة وجود السماوات والأرض، وهذا إبطال لأن تكون لآلهتهم شفاعة لهم في أحوالهم في الدنيا‏.‏ وعطف عليه ‏{‏ثم إليه ترجعون‏}‏ للإِشارة إلى إثبات البعث وإلى أنه لا يشفع أحد عند الله بعد الحشر إلا من أَذِنه الله بذلك‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل، ذلك لأن مضمون ‏{‏إليه ترجعون‏}‏ أن لله ملكَ الآخرة كما كان له ملك الدنيا وملك الآخرة أعظم لسعة مملوكاته وبقائها‏.‏ وتقديم ‏{‏إليه‏}‏ على ‏{‏تُرجَعُون‏}‏ للاهتمام والتقوِّي وللرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏اتخذوا من دون الله شفعاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43‏]‏ لإِظهار تناقضهم في أقوالهم المشعر بأن ما يقولونه أقضية سُفسطائية يقولونها للتنصل من دمغات الحجج التي جبهَهُم بها القرآن، فإنهم يعتذرون تارة على إشراكهم بأن شركاءهم شفعاء لهم عند الله‏.‏ وهذا يقتضي أنهم معترفون بأن الله هو إلههم وإله شركائهم، ثم إذا ذكَر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله واحد أو ذكر المسلمون كلمة لا إله إلا الله اشمأزّت قلوب المشركين من ذلك‏.‏ وكذلك إذا ذكر الله بأنه إله الناس ولم يذكر مع ذكره أن أصنامهم شركاء لله اشمأزت قلوبهم من الاقتصار على ذكر الله فلا يرضون بالسكوت عن وصف أصنامهم بالإِلهية وذلك مؤذن بأنهم يسوُّونها بالله تعالى‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وحْدَهُ‏}‏ لك أن تجعله حالاً من اسم الجلالة ومعناه منفرداً‏.‏ ويقدر في قوله‏:‏ ‏{‏ذُكِر الله‏}‏ معنى‏:‏ ذكر بوصف الإِلهية ويكون معنى ‏{‏ذُكِر الله وَحْده‏}‏ ذُكر تفرده بالإلهية‏.‏ وهذا جار على قول يونس بن حبيب في ‏{‏وحده‏}‏‏.‏ ولك أن تجعله مصدراً وهو قول الخليل بن أحمد، أي هو مفعول مطلق لفعللِ ‏{‏ذُكِرَ‏}‏ لبيان نوعه، أي ذِكْراً وحْداً، أي لم يذكر مع اسم الله أسماء أصنامهم‏.‏ وإضافة المصدر إلى ضمير الجلالة لاشتهار المضاف إليه بهذا الوحْد‏.‏ وهذا الذكر هو الذي يجري في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصلوات وتلاوة القرآن وفي مجامع المسلمين‏.‏

ومعنى ‏{‏إذا ذُكر الذين من دونه‏}‏ إذا ذُكرت أَصنامهم بوصف الإِلهية وذلك حين يسمعون أقوال جماعة المشركين في أحاديثهم وأيمانهم باللات والعزى، أي ولم يذكر اسم الله معها فاستبشارهم بالاقتصار على ذكر أصنامهم مؤذن بأنهم يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تعالى‏.‏ والذكر‏:‏ هو النطق بالاسم‏.‏ والمراد إذا ذكَر المسلمون اسم الله أشمأز المشركون لأنهم لم يسمعوا ذكر آلهتهم وإذا ذكر المشركون أسماء أصنامهم استبشر الذين يسمعونهم من قومهم‏.‏ والتعبير عن آلهتهم ب ‏{‏الذين من دونه‏}‏ دونَ لفظ‏:‏ شركائهم أو شفعائهم، للإِيماء إلى أن علة استبشارهم بذلك الذكر هو أنه ذكر من هم دون الله، أي ذِكر مناسب لهذه الصلة، أي هو ذكر خاللٍ عن اسم الله، فالمعنى‏:‏ وإذا ذكر شركاؤُهم دُون ذِكر الله إذا هم يستبشرون‏.‏

والاقتصار على التعرض لهذين الذكرين لأنهما أظهر في سوء نوايا المشركين نحو الله تعالى، وفي بطلان اعتذارهم بأنهم ما يعبدون الأصنام إلا ليقربُّوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده، فأما الذكر الذي يذكر فيه اسم الله وأسماءُ آلهتهم كقولهم في التلبية‏:‏ لبَيْك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملِكه وما ملك، فذلك ذكر لا مناسبة له بالمقام‏.‏

وذكَر جمع من المفسرين لقوله‏:‏ ‏{‏إذا ذكر الذين من دونه‏}‏ أنه إشارة إلى ما يُروى من قصة الغرانيق، ونسب تفسير ذلك بذلك إلى مجاهد، وهو بعيد عن سياق الآية‏.‏

ومن البناء على الأخبار الموضوعة فللَّه در من أعرضوا عن ذكر ذلك‏.‏

والاشمئزار‏:‏ شدة الكراهية والنفورِ، أي كرهتْ ذلك قلوبهم ومداركهم‏.‏

والاستبشار‏:‏ شدة الفرح حتى يظهر أثر ذلك على بَشَرة الوجه، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وجاء أهل المدينة يستبشرون‏}‏ في سورة ‏[‏الحِجر‏:‏ 67‏]‏‏.‏

ومقابلة الاشمئزاز بالاستبشار مطابقة كاملة لأن الاشمئزاز غاية الكراهية والاستبشار غاية الفرح‏.‏

والتعبير عن المشركين بالذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ لأنهم عُرفوا بهذه الصلة بين الناس مع قصد إعادة تذكيرهم بوقوع القيامة‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ الأولى و‏{‏إذا‏}‏ الثانية ظرفان مضمنان معنى الشرط كما هو الغالب‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ الثالثة للمفاجأة للدلالة على أنهم يعاجلهم الاستبشار حينئذٍ من فرط حبهم آلهتهم‏.‏ ولذلك جيء بالمضارع في ‏{‏يستبشرون‏}‏ دون أن يقال‏:‏ مستبشرون، لإِفادة تجدّد استبشارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعراً بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين، وبأن المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا القول تنفيساً عنه من كدر الأسى على قومه، وإعذاراً لهم بالنذارة، وإشعاراً لهم بأن الحق في جانبهم مضاع، وأن الأجدر بالرسول صلى الله عليه وسلم متاركتهم وأن يفوّض الحكم في خلافهم إلى الله‏.‏ وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوّض أمره إلى الله هو الواثق بحقّيه دينه المطمئن بأن التحكيم يُظهر حقه وباطل خصمه‏.‏

وابتدئ خطابُ الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه بالنداء لأن المقام مقام توجيه وتحاكم‏.‏ وإجراء الوصفين على اسم الجلالة لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من مُحقّ ومُبطل‏.‏

وَالفاطر‏:‏ الخالق، وفاطر السماوات والأرض فاطر لما تحتوي عليه‏.‏ ووصف ‏{‏فاطِرَ السموات والأرض‏}‏ مشعر بصفة القدرة، وتقديمُه قبل وصف العِلم لأن شعور الناس بقدرته سابق على شعورهم بعلمه، ولأن القدرة أشدّ مناسبة لطلب الحكم لأن الحكم إلزام وقهر فهو من آثار القدرة مباشرةً‏.‏

والغيب‏:‏ ما خفي وغاب عن علم الناس، والشهادة‏:‏ ما يَعلمه الناس مما يدخل تحت الإِحساس الذي هو أصل العلوم‏.‏

والعدول عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر في قوله‏:‏ ‏{‏بَيْنَ عبادِكَ‏}‏ دون أن يقول‏:‏ بيننا، لما في ‏{‏عِبَادِك‏}‏ من العموم لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه والحكمَ بين كل مختلِفين لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة‏.‏

وجملة ‏{‏أنت تحكم بين عبادك‏}‏ خبر مستعمل في الدعاء‏.‏ والمعنى‏:‏ احكم بيننا‏.‏ وفي تلقين هذا الدعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه الفاعل الحق‏.‏ وتقديم المسند إليه على الخبر الفِعْلي في قوله‏:‏ ‏{‏أنت تحكم‏}‏ لإِفادة الاختصاص، أي أنت لا غيرك‏.‏ وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن غير الله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكونَ الرد عليه بمفاد القصر، تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم الإِنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج، بحيث إن من يتطلب حاكماً فيهم لا يجد حاكماً فيهم إلا الله تعالى‏.‏ وهذا أيضاً يؤمئ إلى العذر للرسول صلى الله عليه وسلم في قيامه بأقصى ما كُلّف به لأن هذا القول إنما يصدر عمن بذل وُسعه فيما وجب عليه، فلما لَقَّنه ربه أن يقوله كان ذلك في معنى‏:‏ أنك أبلغتَ وأديتَ الرسالة فلم يبق إلا ما يدخل تحت قدرة الله تعالى التي لا يعجزها الألدَّاء أمثال قومك، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وعيد للمعاندين‏.‏

والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف، ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يُعجل لهم العذاب في الدنيا‏.‏

والإِتيان بفعل الكون صلة ل ‏{‏مَا‏}‏ الموصولة ليدُل على تحقق الاختلاف، وكونُ خبر ‏(‏كان‏)‏ مضارعاً تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم‏.‏

وتقديم ‏{‏فِيهِ‏}‏ على ‏{‏يَخْتلفون‏}‏ للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلَف فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏قل اللهم فاطر السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 46‏]‏ الخ لأنها تشير إلى أن الحق في جانب النبي وهو الذي دعا ربه للمحاكمة، وأن الحكم سيكون على المشركين، فأعقب ذلك بتهويل ما سيكون به الحكم بأنه لو وجَد المشركون فديةً منه بالغةً ما بلغت لافتدوا بها‏.‏

وما في الأرض‏}‏ يشمل كل عزيز عليهم من أهليهم وأموالهم بل وأنفسهم فهو أهون من سوء العذاب يوم القيامة‏.‏ والمعنى‏:‏ لو أن ذلك ملك لهم يوم القيامة لافتدوا به يومئذٍ‏.‏ ووجه التهويل في ذلك هو ما يستلزمه مِلك هذه الأشياء من الشح بها في متعارف النفوس، فالكلام تمثيل لحالهم في شدة الدرك والشقاء بحال من لو كان له ما ذكر لبذله فدية من ذلك العذاب، وتقدم نظير هذا في سورة العقود‏.‏ وتضمن حرف الشرط أن كون ما في الأرض لهم منتف، فأفاد أن لا فِداء لهم من سوء العذاب وهو تأييس لهم‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِن سُوء العذاب‏}‏ بمعنى لام التعليل، أي لافتدوا به لأجل العذاب السيّئ الذي شاهدوه‏.‏ ويجوز أن تكون للبدل، أي بدلاً عن ‏{‏سُوءِ العذاب‏}‏‏.‏

وعطف على هذا التأييس تهويل آخر في عظم ما ينالهم من العذاب وهو ما في الموصول من قوله‏:‏ ‏{‏ما لم يكونوا يحتسِبُون‏}‏ من الإِيهام الذي تذهب فيه نفس السامع إلى كل تصوير من الشدة‏.‏ ويجوز جعل الواو للحال، أي لافتدوا به في حال ظهور ما لم يكونوا يحتسبون‏.‏

و ‏{‏مِنَ الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏بدا‏}‏‏.‏ و‏{‏من‏}‏ ابتدائية، أي ظهر لهم مما أعد الله لهم الذي لم يكونوا يظنونه‏.‏

والاحتساب‏:‏ مبالغة في الحِساب بمعنى الظن مثل‏:‏ اقترب بمعنى قرب‏.‏ والمعنى‏:‏ ما لم يكونوا يظنونه وذلك كناية عن كونه مُتجاوزاً أقصَى ما يتخيله المتخيل حين يسمع أوصافه، فلا التفات في هذه الكناية إلى كونهم كانوا مكذبين بالبعث فلم يكُنْ يخطر ببالهم، ونظير هذا في الوعد بالخبر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

و ‏{‏سَيِئَات‏}‏ جمع سيئة، وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول ‏{‏ما كَسَبُوا‏}‏ أي مكسوباتِهم السيئاتتِ‏.‏ وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على الفعلة وإن كان فيما كسبوه ما هو من فاسد الاعتقاد كاعتقاد الشركاء لله وإضمار البغض للرسول والصالحين والأحقادِ والتحاسد فجرى تأنيث الوصف على تغليب السيئات العملية مثل الغصْب والقتل والفواحش تغليباً لفظياً لكثرة الاستعمال‏.‏

وأوثر فعل ‏{‏كَسَبُوا‏}‏ على فعل‏:‏ عملوا، لِقطع تبرمهم من العذاب بتسجيل أنهم اكتسبوا أسبابه بأنفسهم، كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 24‏]‏ دون‏:‏ تعملون‏.‏

والحَوْق‏:‏ الإِحاطة، أي أحاط بهم فلم ينفلتوا منه، وتقدم الخلاف في اشتقاقه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏‏.‏

و ما كانوا به يستهزءون‏}‏ هو عذاب الآخرة، أي يستهزئون بذكره تنزيلاً للعقاب منزلة مُستهَزَء به فيكون الضمير المجرور استعارة مكنية‏.‏ ولك أن تجعل الباء للسببية وتجعل متعلق ‏{‏يستهزوءن‏}‏ محذوفاً، أي يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذِكره العذاب‏.‏ وتقديم ‏{‏بِهِ‏}‏ على ‏{‏يستهزوءن‏}‏ للاهتمام به وللرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع هذا الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 45‏]‏ الآية وما بينهما اعتراض مسلسل بعضه مع بعض للمناسبات‏.‏

وتفريع ما بعد الفاء على ما ذكرناه تفريع وصف بعض من غرائب أحوالهم على بعض، وهل أغرب من فزعهم إلى الله وحْده بالدعاء إذا مسهم الضر وقد كانوا يشمئزّون من ذكر اسمه وحده فهذا تناقض من أفعالهم وتعكيس، فإنه تسببُ حديثثٍ على حديثثٍ وليس تسبباً على الوجود‏.‏ وهذه النكتة هي الفارقة بين العطف بالفاء هنا وعطف نظيرها بالواو في قوله أول السورة ‏{‏وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ والمقصود بالتفريع هو قوله‏:‏ ‏{‏فإذا مَسَّ الإنسان ضُرٌ دعانا‏}‏، وأما ما بعده فتتميم واستطراد‏.‏

وقد تقدم القول في نظير صدر هذه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا مسّ الإِنسان ضرّ دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏ الآية‏.‏ وأن المراد بالإِنسان كل مشرك فالتعريف تعريف الجنس، والمرادُ جماعةٌ من الناس وهم أهل الشرك فهو للاستغراق العرفي‏.‏ والمخالفة بين الآيتين تفنن ولئلا تخلو إعادة الآية من فائدة زائدة كما هو عادة القرآن في القصص المكررة‏.‏

وقوله‏:‏ إنما أوتيته على علم إنَّمَا‏}‏ فيه هي الكلمة المركبة من ‏(‏إنّ‏)‏ الكافة التي تصير كلمة تدل على الحصر بمنزلة ‏(‏مَا‏)‏ النافية التي بعدها ‏(‏إلاّ‏)‏ الاستثنائية‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أوتيت الذي أوتيتُه من نعمة إلا لعلم منيّ بطرق اكتسابه‏.‏ وتركيز ضمير الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏أوتيته‏}‏ عائد إلى ‏{‏نِعْمَة‏}‏ على تأويل حكاية مقالتهم بأنها صادرة منهم في حال حضور ما بين أيديهم من أنواع النعم فهو من عود الضمير إلى ذات مشاهدة، فالضمير بمنزلة اسم الإِشارة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏‏.‏

ومعنى قال إنما أوتيته على علم‏}‏ اعتقَد ذلك فجرى في أقواله إذ القولُ على وفق الاعتقاد‏.‏ و‏{‏عَلى‏}‏ للتعليل، أي لأجل عِلممٍ، أي بسبب علم‏.‏ وخولف بين هذه الآية وبين آية سورة ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على علم عندي‏}‏ فلم يذكر هنا عندي لأن المراد بالعلم هنا مجرد الفطْنة والتدبير، وأريد هنالك علم صَوغ الذهب والفضة والكيمياء التي اكتسب بها قارون من معرفة تدابيرها مالاً عظيماً، وهو علم خاص به، وأما مَا هنا فهو العلم الذي يوجد في جميع أهل الرأي والتدبير

والمراد‏:‏ العِلم بطرق الكسب ودفع الضرّ كمثل حِيَل النوتيّ في هول البحر‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يقول ذلك إذا ذكَّره بنعمة الله عليه الرسولُ أو أحدُ المؤمنين، وبذلك يظهر موقع صيغة الحصر لأنه قصد قلب كلام من يقول له إن ذلك من رحمة الله به‏.‏

و بل‏}‏ للإِضراب الإِبطالي وهو إبطال لزعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وتدبيرهم، أي بل إن الرحمة التي أوتوها إنما آتاهم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكرهم، أي هي دالّة على حالة فيهم تشبه حالة الاختبار لمقدار علمهم بالله وشكرهم إياه لأن الرحمة والنعمة بها أثر في المنع عليه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً والله عالم بهم وغنيّ عن اختبارهم‏.‏

وضمير ‏{‏هِيَ‏}‏ عائد إلى القول المستفاد من ‏{‏قال‏}‏ على طريقة إعادة الضمير على المصدر المأخوذ من فعل نحو ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، وإنما أُنّث ضميره باعتبار الإِخبار عنه بلفظ فتنة‏}‏، أو على تأويل القول بالكلمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏ والمراد‏:‏ أن ذلك القول سبب فتنة أو مسبب عن فتنة في نفوسهم‏.‏ ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى نِعْمَة‏}‏‏.‏

والاستدراك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ناشئ عن مضمون جملة ‏{‏إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم‏}‏، أي لكن لا يعلم أكثر الناس ومنهم القائلون، أنهم في فتنة بما أُوتوا من نعمة إذا كانوا مثل هؤلاء القائلين الزاعمين أن ما هم فيه من خير نتيجةُ مساعيهم وحيلهم‏.‏

وضمير ‏{‏أكثرهم‏}‏ عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام إذ لم يتقدم ما يناسب أن يكون له معاداً، والمراد به الناس، أي لكن أكثر الناس لا يعلمون أن بعض ما أوتوه من النعمة في الدنيا يكون لهم فتنة بحسب ما يتلقونها به من قلة الشكر وما يفضي إلى الكفر، فدخل في هذا الأكثر جميع المشركين الذين يقول كل واحد منهم‏:‏ إنما أوتيته على علم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏قد قالها‏}‏ مبيّنة لمضمون ‏{‏هي فتنة‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 49‏]‏ لأن بيان مغبة الذين قالوا هذا القول في شأن النعمة التي تنالهم يبين أن نعمة هؤلاء كانت فتنة لهم‏.‏ وضمير قالَهَا‏}‏ عائد إلى قول القائل ‏{‏إنما أوتيته على علم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 49‏]‏، على تأويل القول بالكلمة التي هي الجملة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏‏.‏

و ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ هم غير المتدينين ممن سلفوا ممن علمهم الله، ومنهم قارون وقد حكى عنه في سورة القصص أنه قال ذلك‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما كانوا يكسبون‏}‏ ما كسبوه من أموال‏.‏ وعدمُ إغنائه عنهم أنهم لم يستطيعوا دفع العذاب بأموالهم‏.‏ والفاء في ‏{‏فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏ لتفريع عدم إغناء ما كسبوه على مقالتهم تلكَ فإن عدم الإغناء مشعر بأنهم حل بهم من السوء ما شأن مثله أن يتطلب صاحبه الافتداء منه، فإذا كان ذلك السوء عظيماً لم يكن له فداء، ففي الكلام إيجاز حذف يبينه قوله بعده‏:‏ ‏{‏فأصابهم سيئات ما كسبوا‏}‏‏.‏ ففاء ‏{‏فأصابهم سيئات ما كسبوا‏}‏ مفرِّعة على جملة ‏{‏ما أغنى عنهم‏}‏، أي تسبب على انتفاء إِغناء الكسب عنهم حلولُ العقاب بهم‏.‏ وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الجمل أن تكون جملة ‏{‏فأصابهم سيئات ما كسبوا‏}‏ مقدّمة على جملة ‏{‏فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏، لأن الإِغناء إنما يترقب عند حلول الضير بهم فإذا تقرر عدم الإِغناء يذكر بعده حلول المصيبة، فعُكس الترتيب على خلاف مقتضى الظاهر لقصد التعجيل بإبطال مقالة قائلهم ‏{‏إنما أوتيتُه على علم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 49‏]‏، أي لو كان لعلمهم أثر في جلب النعمة لهم لكان له أثر في دفع الضر عنهم‏.‏

والإِشارة بهؤلاء‏}‏ إلى المشركين من أهل مكة وقد بيّنا غير مرة أننا اهتدينا إلى كشف عادة من عادات القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإِشارة أن يَكون المراد بها المشركون من قريش‏.‏ وإصابة السيئات مراد بها في الموضعين إصابة جزاء السيئات وهو عقاب الدنيا وعقاب الآخرة لأن جزاء السيئة سيئة مثلها‏.‏

والمعجِز‏:‏ الغالب، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏، أي ما هم بمعجزينا، فحذف مفعول اسم الفاعل لدلالة القرينة عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 49‏]‏ فبعد أن وصف أكثرهم بانتفاء العلم بأن الرحمة لهم فتنةٌ وابتلاء، عُطف عليه إنكار علمهم انتفاء علمهم بذلك وإهمالهم النظر في الأدلّة المفيدة للعلم وصمهم آذانهم عن الآيات التي تذكّرهم بذلك حتى بَقُوا في جهالة مركَّبة وكان الشأن أن يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي يعطي الخيْر من يشاء، ويمنع من يشاء‏.‏

فالاستفهام إنكار عليهم في انتفاء علمهم بذلك لأنهم تسببوا في انتفاء العلم، فالإِنكار عليهم يتضمن توبيخاً‏.‏ واقتصر في الإِنكار على إنكار انتفاء العلم بأن بسط الرزققِ وقدْرَه من فعل الله تعالى لأنه أدنى لمشاهدتهم أحوال قومهم فكم من كادَ غير مرزوق وكم من آخر يجيئه الرزق من حيث لا يحتسب‏.‏

وجُعل في ذلك آيات كثيرة لأن اختلاف أحوال الرزق الدالة على أن التصرف بيد الله تعالى ينبئ عن بقية الأحوال فتحصُلُ في ذلك آيات كثيرة دالة على انفراد الله تعالى بالتصرف في نفس الأمر‏.‏ وجعلت الآيات لقوم يؤمنون لأن المؤمنين قد علموا ذلك وتخلقوا به ولم تكن فيه آيات للمشركين الغافلين عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

أُطنبتْ آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف، على رغْممِ تظاهرهم بقلة الاهتمام بها‏.‏ وقد يبلغ بهم وقعها مبلغَ اليأس من سَعيٍ ينجيهم من وعيدها، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب‏.‏

والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجَهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسي التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين، فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد ويضمد تلك الجراحة والحليمُ يزجُر ويلين وتثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا أو حببهم في الحق فأبغضوا فلعله لا يَفتح لهم باب التوبة ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوْبَة ولاسيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه المشتَمِّ منه ترقبُ قطع الجدال وفصمِه فكان أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيساً عليه وتفتيحاً لباب الأوْبة إليه فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة ‏{‏قُل‏}‏ استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضلُ النبيئين صلى الله عليه وسلم أي بلغ عني هذا القول‏.‏

وجملةُ ‏{‏ياعبادي‏}‏ استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم‏.‏ وابتداء الخطاب بالنداء وعنواننِ العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة‏.‏

والخطاب بعنوان ‏{‏ياعبادي‏}‏ مراد به المشركون ابتداءً بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنت لمن الساخرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 59‏]‏‏.‏ فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر ‏{‏عبادي‏}‏ بالإِضافة إلى ضمير المتكلم تعالى‏.‏

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا، وزنَوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية فنزل‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ يعني إلى قوله‏:‏ ‏{‏إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏ ونزل‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه‏}‏‏.‏

وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة‏.‏

ومن أجمل الأخبار المروية فيها ما رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال‏:‏ «لما اجتمعنا على الهجرة اتَّعدتُ أنا وهشامُ بن العاص السهمي، وعيّاش بن أبي ربيعة بن عتبة‏.‏ فقلنا‏:‏ الموعد أَضَاةُ بني غِفَار، وقلنا‏:‏ من تأخّرَ منّا فقد حُبس فليمضضِ صاحباه‏.‏ فأصبحتُ أنا وعياش بن عتبة وحُبس عنا هشام وإذا هو قد فُتِن فافتَتَنَ فكنا نقول بالمدينة‏:‏ هؤلاء قد عَرفوا الله ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة‏.‏ وكانوا هم يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قل ياعبادي الذين أسرفوا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَثْوى للمتكبرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 60‏]‏ قال عمر فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام‏.‏ قال هشام‏:‏ فلما قدمتْ عليَّ خرجتُ بها إلى ذي طوَى فقلت‏:‏ اللهم فهِّمنيها فعرفت أنها نزلت فينا فرجعتُ فجلست على بعيري فلحقت برسول الله ا ه‏.‏ فقول عمر‏:‏ فأنزل الله يريد أنه سمعه بعد أن هاجر وأنه مما نزل بمكة فلم يسمعه عمر إذ كان في شاغل تهيئة الهجرة فما سمعها إلا وهو بالمدينة فإن عمر هاجر إلى المدينة قبل النبي‏.‏

فالخطاب بقوله‏:‏ ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله‏:‏ ‏{‏وأنيبوا إلى ربكم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وبعد هذا فعموم عبادي وعموم صلة الذين أسرفوا‏}‏ يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعُها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ياعبادي الذين أسرفوا‏}‏ بفتح ياء المتكلم، وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب بإسكان الياء‏.‏ ولعل وجه ثبوت الياء في هذه الآية دون نظيرها وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏، أن الخطاب هنا للذين أسرفوا وفي مقدمتهم المشركون وكلهم مظنة تطرق اليأس من رحمة الله إلى نفوسهم، فكان إثبات ‏(‏يا‏)‏ المتكلم في خطابهم زيادة تصريح بعلامة التكلُّم تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله تعالى إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده‏.‏

والإِسراف‏:‏ الإِكثار‏.‏ والمراد به هنا الإِسراف في الذنوب والمعاصي، وتقدم ذكر الإِسراف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا يسرف في القتل‏}‏ في سورة ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏‏.‏ والأكثر أن يعدّى إلى متعلِّقه بحرف ‏{‏مِن‏}‏، وتعديتُه هنا ب ‏(‏على‏)‏ لأن الإِكثار هنا من أعماللٍ تتحملها النفس وتثقل بها وذلك متعارف في التبِعات والعدوان تقول‏:‏ أكثرت على فلان، فمعنى ‏{‏أسرفوا على أنفسهم‏}‏‏:‏ أنهم جلبوا لأنفسهم ما تثقلهم تبعته ليشمل ما اقترفوه من شرك وسيئات‏.‏

والقنوط‏:‏ اليأس، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تكن من القانطين‏}‏ في سورة ‏[‏الحِجر‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله‏.‏

ومادة الغفر ترجع إلى الستر، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجَه للستر فدل ‏{‏يغْفِرُ الذُّنوب‏}‏ على أن الذنوب ثابتة، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها، أي يزيل المؤاخذة بها، وهذه المغفرة تقتضي أسباباً أُجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 82‏]‏، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسباباً تطرأ على المذنب ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثاً ينزه عنه الحكيم تعالى، كيف وقد سماها ذنوباً وتوعد عليها فكان قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يغفر الذنوب‏}‏ دعوةً إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها‏.‏ و‏{‏جميعاً‏}‏ حال من ‏{‏الذنوب‏}‏، أي حال جميعها، أي عمومها، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك‏.‏ وسيأتي الكلام على كلمة ‏(‏جميع‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض جميعاً قبضته‏}‏ في هذه السورة ‏[‏67‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنه هو الغفور الرحيم‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ أي لا يُعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة لأنه شديد الغفران شديد الرحمة‏.‏ فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإِيمان شيء‏.‏