فصل: تفسير الآيات رقم (23- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

هذا ذكر فريق آخر من الأمم لم يشهد العرب آثارهم وهم قوم فرعون أقباطُ مصر، وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة هود‏.‏ وتقدم ذكر هامان وهو لقب وزير فرعون في سورة القصص‏.‏ وفي هذه القصة أنها تزيد على مَا أجمل من قصص أمم أخرى أن فيها عبرتين‏:‏ عبرةً بكيد المكذبين وعنادهم ثم هلاكهم، وعبرةً بصبر المؤمنين وثباتهم ثم نصرهم، وفي كلتا العبرتين وعيد ووعد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّاب‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ولقد أرْسَلْنَا موسى‏}‏ وبين جملة ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهم بِالحَقّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 25‏]‏‏.‏

‏(‏وقَارون هو من بني إسرائيل كذب موسى، وتقدم ذكره في القصص، وقد قيل إنه كان منقطعاً إلى فرعون وخادماً له، وهذا بعيد لأنه كان في زمرة من خرج مع موسى، أي فاشترك أولئك في رمي رسولهم بالكذب والسحر كما فعلت قريش‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

أي رَمَوْه ابتداءً بأنه ساحر كذاب توهماً أنهم يلقمونه حجر الإِحجام فلما استمر على دَعوته وجاءهم بالحق، أي أظهر لهم الآيات الحقَّ، أي الواضحة، فأطلق ‏{‏جاءهم‏}‏ على ظهور الحق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏‏.‏

و ‏{‏مِن عِندِنا‏}‏ وصف للحق لإِفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده، وهو آيات نبوته التسعُ‏.‏

ووجه وقوع ‏{‏فلَمَّا جَاءَهم بالحَقِّ مِن عِندنا‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏أرْسَلْنَا مُوسَى بآياتِنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 23‏]‏ مع اتحاد مُفاد الجملتين فإن مفاد جملة ‏{‏جاءهم‏}‏ مساو لمفاد جملة ‏{‏أرسلنا‏}‏ ومفاد قوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ مساو لمفاد قوله‏:‏ ‏{‏بآياتنا وسُلطان مُبين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 23‏]‏ أن الأول للتنويه برسالة موسى وعظمة موقفه أمام أعظم ملوك الأرض يومئذٍ، وأما قوله‏:‏ ‏{‏فلمَّا جَاءَهُم بالحَقِّ‏}‏ فهو بيان لدعوته إياهم وما نشأ عنها، وتقدير الكلام‏:‏ أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون فلما جاءهم بالحق، فسلكت في هذا النظم طريقة الإِطناب للتنويه والتشريف‏.‏

وجملة ‏{‏فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏ معترضة‏.‏ وأرادوا بقولهم اقتلوا أبناء الذين معه أن يُرهبوا أتباعه حتى ينفضوا عنه فلا يجد أنصاراً ويبقى بنو إسرائيل في خدمة المصريين‏.‏

وضمير ‏{‏جاءهم‏}‏ يحمل على أنه عائد إلى غير مذكور في اللفظ لأنه ضمير جمع يدل عليه المقام وهم أهل مجلس فرعون الذين لا يخلو عنهم مجلس الملك في مثل هذه الحوادث العظيمة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ الآية‏.‏ وليس عائداً إلى فرعون وهامان وقارون، لأن قارون لم يكن مع فرعون حين دعاه موسى ولم يكن من المكذبين لموسى في وقت حضوره لدى فرعون ولكنه طغا بعد خروج بني إسرائيل من مصر وبلغ به طغيانه إلى الكفر كما تقدم في قصته في سورة القصص‏.‏

والضمير في قولهم‏:‏ ‏{‏اقتلوا‏}‏ مخاطب به فرعون خطاب تعظيم مثل ‏{‏ربّ ارجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99‏]‏‏.‏ وإنما أبهم القائلون لعدم تعلق الغرض بعلمه، ففعل قالوا‏}‏ بمنزلة المبني للنائب أو بمنزلة‏:‏ قال قائل، لأن المقصود قوله بعده‏:‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلالٍ‏}‏‏.‏ وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعاً فكذلك يكون كيدهم‏.‏ وهذا القتل غير القتل الذي فعله فرعون الذي وُلد موسى في زمنه‏.‏

وسمي هذا الرأي كيداً لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏‏:‏ ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏ الآية، ثم بقوله‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏ الآية‏.‏

والضلال‏:‏ الضياع والاضمحلال كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لانقاذه سبيلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

عطفُ ‏{‏وقال‏}‏ بالواو يدل على أنه قال هذا القول في موطن آخر ولم يكن جواباً لقولهم‏:‏ ‏{‏اقْتُلوا أبْنَاءَ الَّذِينَ ءامَنُوا مَعَهُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 25‏]‏، وفي هذا الأسلوب إيماء إلى أن فرعون لم يعمل بإشارة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه‏}‏ وأنه سكت ولم يراجعهم بتأييد ولا إعراض، ثم رأى أن الأجدر قتل موسى دون أن يقتل الذين آمنوا معه لأن قتله أقطع لفتنتهم‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ذروني‏}‏ إعلامهم بعزمه بضرب من إظهار ميله لذلك وانتظاره الموافقة عليه بحيث يمثل حاله وحال المخاطبين بحال من يريد فعل شيء فيصدّ عنه، فلرغبته فيه يقول لمن يصده‏:‏ دَعْنِي أفعل كذا، لأن ذلك التركيب مما يخاطب به الممانع والملائم ونحوهما، قال طرفة‏:‏

فان كنتَ لا تستطيع دفع منيتي *** فدَعْنِي أبادرها بما ملكتْ يدي

ثم استعمل هذا في التعبير عن الرغبة ولم يكن ثمة معارض أو ممانع، وهو استعمال شائع في هذا وما يرادفه مثل‏:‏ دَعْني وخَلِّني، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏، وقول أبي القاسم السهيلي‏:‏

دَعْنِي على حكم الهوى أتضرع *** فَعَسَى يلين ليَ الحبيب ويخشع

وذلك يستتبع كناية عن خطر ذلك العمل وصعوبة تحصيله لأن مثله مما يَمنع المستشارُ مستشيره من الإِقدام عليه، ولذلك عطف عليه‏:‏ ‏{‏وَلْيَدْعُ رَبَّهُ‏}‏ لأن موسى خوّفهم عذاب الله وتحدَّاهم بالآيات التسع‏.‏ ولام الأمر في ‏{‏وَلْيَدعُ رَبَّهُ‏}‏ مستعملة في التسوية وعدم الاكتراث‏.‏ وجملة ‏{‏إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ‏}‏ تعليل للعزم على قتل موسى‏.‏ والخوف مستعمل في الإِشفاق، أي أظن ظناً قوياً أن يبدل دينكم‏.‏ وحذفت ‏(‏مِن‏)‏ التي يتعدى بها فعل ‏{‏أخاف‏}‏ لأنها وقعت بينه وبين ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏

والتبديل‏:‏ تعويض الشيء بغيره‏.‏ وتوسم فرعون ذلك من إنكار موسى على فرعون زعمه أنه إله لقومه فإن تبديل الأصول يقتضي تبديل فروع الشريعة كلها‏.‏

والإِضافة في قوله‏:‏ ‏{‏دينكم‏}‏ تعريض بأنهم أولى بالذبّ عن الدين وإن كان هو دينَه أيضاً لكنه تجرد في مشاورتهم عن أن يكون فيه مراعاة لحظ نفسه كما قالوا هم ‏{‏أتذر موسى وقومَه ليفسدوا في الأرض ويذَرَك وآلهتك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏ وذلك كله إلهاب وتحضيض‏.‏

والأرض‏:‏ هي المعهودة عندهم وهي مملكة فرعون‏.‏

ومعنى إظهار موسى الفساد عندهم أنه يتسبب في ظهوره بدعوته إلى تغيير ما هم عليه من الديانة والعوائد‏.‏ وأطلق الإِظهار على الفشوّ والانتشار على سبيل الاستعارة‏.‏ وقد حمله غروره وقلة تدبره في الأمور على ظن أن ما خالف دينهم يعدّ فساداً إذ ليست لهم حجة لدينهم غير الإِلف والانتفاع العاجل‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ‏{‏وأَنْ بواو العطف‏.‏ وقرأ غيرهم أوْ أَنْ‏}‏ ب ‏(‏أو‏)‏ التي للترديد، أي لا يخلو سعي موسى عن حصول أحد هاذين‏.‏ وقرأ نافع وأبو عَمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بضم ياء ‏{‏يُظهر‏}‏ ونصب ‏{‏الفَسَاد‏}‏ أي يبدل دينكم ويكون سبباً في ظهور الفساد‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بفتح الياء وبرفع ‏{‏الفسادُ‏}‏ على معنى أن الفساد يظهر بسبب ظهور أَتْباع موسى، أو بأن يجترئ غيره على مثل دعواه بأن تزول حُرمة الدولة، لأن شأن أهل الخوف عن عمل أن ينقلب جبنهم شجاعة إذا رأوا نجاح من اجترأ على العمل الذي يريدون مثله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

هذا حكاية كلام صدر من موسى في غير حضرة فرعون لا محالة، لأن موسى لم يكن ممن يضمه ملأ استشارة فرعون حين قال لقومه‏:‏ ‏{‏ذروني أقتل موسى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 26‏]‏ ولكن موسى لما بلغه ما قاله فرعون في ملائه قال موسى في قومه‏:‏ ‏{‏إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكُم‏}‏، ولذلك حكِيَ فعل قوله معطوفاً بالواو لأن ذلك القول لم يقع في محاورة مع مقال فرعون بخلاف الأقوال المحكية في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 18 31‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏قال ألم نربك فينا وليداً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قال فأْتِ به إن كنت من الصادقين‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكم مِن كُلِّ مُتَكَبِر‏}‏ خطاب لقومه من بني إسرائيل تطميناً لهم وتسكيناً لإِشفاقهم عليه من بطش فرعون‏.‏ والمعنى‏:‏ إني أعددت العدة لدفع بطش فرعون العوذَ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وفي مقدمة هؤلاء المتكبرين فرعون‏.‏

ومعنى ذلك‏:‏ أن موسى علم أنه سيجد مناوين متكبرين يكرهون ما أرسله الله به إليهم، فدعا ربه وعلم أن الله ضمن له الحفظ وكفاه ضير كل معاند، وذلك ما حكي في سورة ‏[‏طه‏:‏ 45، 46‏]‏‏:‏ ‏{‏قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمَع وأرى‏}‏ فأخبر موسى قومه بأن ربه حافظٌ له ليثقوا بالله كما كان مقام النبي لاحينَ كان في أول البعثة تحرسه أصحابه في الليل فلما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94، 95‏]‏ الآية أمر أصحابه بأن يتخلوا عن حراسته‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ متوجه إلى لازم الخبر وهو أن الله ضمن له السلامة وأكد ذلك لتنزيل بعض قومه أو جُلهم منزلة من يتردد في ذلك لِما رأى من إشفاقهم عليه‏.‏

والعَوذ‏:‏ الالتجاء إلى المحل الذي يستعصم به العائذ فيدفع عنه مَن يروم ضره، يقال‏:‏ عاذ بالجبل، وعاذ بالجيش، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏‏.‏

وعبر عن الجلالة بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المتكلم لأن في صفة الرب إيماء إلى توجيه العوذ به لأن العبد يعوذ بمولاه‏.‏ وزيادة وصفه برب المخاطبين للإِيماء إلى أن عليهم أن لا يجزعوا من مناواة فرعون لهم وأن عليهم أن يعوذوا بالله من كل ما يفظعهم‏.‏

وجُعلت صفة ‏{‏لاَ يُؤمِنُ بِيَوْممِ الحِسَابِ‏}‏ مغنية عن صفة الكفر أو الإِشراك لأنها تتضمن الإشراك وزيادة، لأنه إذا اجتمع في المرء التجبر والتكذيب بالجزاء قَلَّت مبالاته بعواقب أعماله فكملت فيه أسباب القسوة والجرأة على الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

عطف قول هذا الرجل يقتضي أنه قال قوله هذا في غير مجلس شورى فرعون، لأنه لو كان قوله جارياً مجرى المحاورة مع فرعون في مجلس استشارته، أو كان أجاب به عن قول فرعون‏:‏ ‏{‏ذَرُوني أقتُل موسى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 26‏]‏ لكانت حكاية قوله بدون عطف على طريقة المُحاورات‏.‏ والذي يظهر أن الله ألهم هذا الرجل بأن يقول مقالته إلهاماً كان أولَ مظهر من تحقيق الله لاستعاذة موسى بالله، فلما شاع توعد فرعون بقتل موسى عليه السلام جاء هذا الرجل إلى فرعون ناصحاً ولم يكن يتهمه فرعون لأنه من آله‏.‏

وخطابه بقوله‏:‏ ‏{‏أتقتلون‏}‏ موجَّه إلى فرعون لأن فرعون هو الذي يسند إليه القتل لأنه الآمر به، ولحكاية كلام فرعون عقب كلام مؤمن آل فرعون بدون عطف بالواو في قوله‏:‏ ‏{‏قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ووصفُه بأنه من آل فرعون صريح في أنه من القبط ولم يكن من بني إسرائيل خلافاً لبعض المفسرين ألا ترى إلى قوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏يا قوم لكم المُلْك اليومَ ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏ فإن بني إسرائيل لم يكن لهم مُلك هنالك‏.‏

والأظهر أنه كان من قرابة فرعون وخاصته لما يقتضيه لفظ آل من ذلك حقيقةً أو مجازاً‏.‏ والمراد أنه مؤمن بالله ومؤمن بصدق موسى، وما كان إيمانه هذا إلا لأنه كان رجلاً صالحاً اهتدى إلى توحيد الله إما بالنظر في الأدلة فصدَّق موسى عندما سمع دعوته كما اهتدى أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى تصديق النبي في حين سماع دعوته فقال له‏:‏ صَدَقتَ‏.‏ وكان كتمه الإِيمان متجدداً مستمراً تقيةً من فرعون وقومه إذ علم أن إظهاره الإِيمان يُضره ولا ينفع غيره كما كان ‏(‏سقراط‏)‏ يكتم إيمانه بالله في بلاد اليونان خشية أن يقتلوه انتصاراً لآلهتهم‏.‏

وأراد بقوله‏:‏ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً‏}‏ إلى آخره أن يسعى لحفظ موسى من القتل بفتح باب المجادلة في شأنه لتشكيك فرعون في تكذيبه بموسى، وهذا الرجل هو غير الرجل المذكور في سورة ‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى‏}‏ فإن تلك القصة كانت قُبَيْل خروج موسى من مصر، وهذه القصة في مبدأ دخوله مصر‏.‏ ولم يوصف هنالك بأنه مؤمن ولا بأنه من آل فرعون بل كان من بني إسرائيل كما هو صريح سفر الخروج‏.‏ والظاهر أن الرجل المذكور هنا كان رجلاً صالحاً نظَّاراً في أدلة التوحيد ولم يستقر الإِيمان في قلبه على وجهه إلا بعد أن سمع دعوة موسى، وإن الله يقيض لعباده الصالحين حُماة عند الشدائد‏.‏

قيل اسم هذا الرجل حبيب النجّار وقيل سمعان، وقد تقدم في سورة ‏(‏يس‏)‏ أن حبيباً النجار من رسل عيسى عليه السلام‏.‏

وقصة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون غير مذكورة في «التوراة» بالصريح ولكنها مذكورة إجمالاً في الفقرة السابعة من الإصحاح العاشر «فقال عبيد فرعون إلى متَى يكون لنا هذا ‏(‏أي موسى‏)‏ فخًّا أَطْلِق الرجال ليعبدوا الرب إلههم»‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أتقتلون‏}‏ استفهام إنكار، أي يقبح بكم أن تقتلوا نفساً لأنه يقول ربي الله، أي ولم يجبركم على أن تؤمنوا به ولكنه قال لكم قولاً فاقبلوه أو ارفضوه، فهذا محمل قوله‏:‏ ‏{‏أنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله‏}‏ وهو الذي يمكن الجمع بينه وبين كون هذا الرجل يكتم إيمانه‏.‏

و ‏{‏أنَّ يَقُولَ‏}‏‏.‏ مجرور بلام التعليل المقدرة لأنها تحذف مع ‏(‏أَن‏)‏ كثيراً‏.‏ وذكر اسممِ الله لأنه الذي ذكره موسى ولم يكن من أسماء آلهة القبط‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وقد جاءَكُم بالبيناتت من رَبِّكُم‏}‏ فهو ارتقاء في الحِجاج بعد أن استأنس في خطاب قومه بالكلام الموجَّه فارتقى إلى التصريح بتصديق موسى بعلة أنه جاء بالبينات، أي الحجج الواضحة بصدقه، وإلى التصريح بأن الذي سماه الله في قوله‏:‏ ‏{‏أن يقول ربي الله‏}‏ هو رب المخاطبين فقال‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏‏.‏ فجملة ‏{‏وقد جاءكم بالبينات من ربكم‏}‏ في موضع الحال من قوله‏:‏ ‏{‏رجلاً‏}‏ والباء في ‏{‏بالبينات‏}‏ للمصاحبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يَكُ كاذبا فَعلَيهِ كَذِبُهُ‏}‏ رجوع إلى ضرب من إيهام الشك في صدق موسى ليكون كلامه مشتملاً على احتمالَيْ تصديق وتكذيب يتداولهما في كلامه فلا يؤخذ عليه أنه مصدق لموسى بل يُخيل إليهم أنه في حالة نظر وتأمل ليسوق فرعون وملأَه إلى أدلة صدق موسى بوجه لا يثير نفورهم، فالجملة عطف على جملة ‏{‏وقد جاءكم بالبينات‏}‏ فتكون حالاً‏.‏

وقَدم احتمال كذبه على احتمال صدقه زيادةً في التباعد عن ظنهم به الانتصار لموسى فأراد أن يَظهَر في مظهر المهتَم بأمر قومه ابتداء‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏وإن يَكُ كَاذِباً فَعلَيه كَذِبُهُ‏}‏ استنزالهم للنظر، أي فعليكم بالنظر في آياته ولا تعجلوا بقتله ولا باتباعه فإن تبين لكم كذبه فيما تحداكم به وما أنذركم به من مصائب فلم يقع شيء من ذلك لم يضركم ذلك شيئاً وعاد كذبه عليه بأن يوسم بالكاذب، وإن تبين لكم صدقه يصبكم بعضُ ما تَوَعَّدكم به، أي تصبكم بوارقه فتعلموا صدقه فتتبَعوه، وهذا وجه التعبير ب ‏{‏بعض‏}‏ دون أن يقول‏:‏ يصبكم الذي يعدكم به‏.‏ والمراد بالوعْد هنا الوعد بالسوء وهو المسمى بالوعيد‏.‏ أي فإن استمررتم على العناد يصبكم جميع ما توعَّدكم به بطريق الأوْلى‏.‏

وقد شابَه مقامُ أبي بكر الصديققِ مقامَ مؤمن آل فرعون إذ آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع دعوته ولم يكن من آله، ويومَ جاء عقبة بن أبي مُعيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏والنبي صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة‏)‏ يخنقه بثوبه فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكب عقبة ودفَعه وقال‏:‏ ‏{‏أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم‏}‏‏.‏

قال علي بن أبي طالب‏:‏ «والله لَيَومُ أبي بكر خيرٌ من مؤمن آل فرعون، إنَّ مؤمن آل فرعون رجل يكتم إيمانه وإن أبا بكر كان يُظهر إيمانه وبذل ماله ودمه»

وأقول‏:‏ كان أبو بكر أقوى يقيناً من مؤمن آل فرعون لأن مؤمن آل فرعون كتم إيمانه وأبو بكر أظهر إيمانه‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن هُو مُسْرفٌ كَذَّابٌ‏}‏ يجوز أنها من قول مؤمن آل فرعون، فالمقصود منها تعليل قوله‏:‏ ‏{‏وَإن يَكُ كاذبا فعليه كَذِبُهُ وإن يَكُ صادقاً يُصِبكم بعْض الذي يَعِدُكُم‏}‏ أي لأن الله لا يقره على كذبه فإن كان كاذباً على الله فلا يلبث أن يفتضح أمره أو يهلكه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44 46‏]‏ لأن الله لا يمهل الكاذب عليه، ولأنه إذا جاءكم بخوارق العادات فقد تبين صدقه لأن الله لا يَخرق العادة بعد تحدي المتحدّي بها إلاّ ليجعلها أمارة على أنه مرسَل منه لأن تصديق الكاذب محال على الله تعالى‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏يصيبكم بعض الذي يعدكم‏}‏ أي مما تَوعدكم بوقوعه في الدنيا، أو في الآخرة وكيف إذا كانت البينة نفسُها مصائب تحلّ بهم مثل الطوفان والجراد وبقية التسع الآيات‏.‏

والمسرف‏:‏ متجاوز المعروف في شيء، فالمراد هنا مسرف في الكذب لأن أعظم الكذب أن يكون على الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏‏.‏

وإذا كان المراد الإِسراف في الكذب تعين أن قوله‏:‏ ‏{‏كذاب‏}‏ عطف بيان وليس خبراً ثانياً إذ ليس ثمة إسراف هنا غير إسراف الكذب، وفي هذا اعتراف من هذا المؤمن بالله الذي أنكره فرعون، رمَاه بين ظهرانَيْهم‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏إنَّ الله لاَ يَهْدِي‏}‏ إلى آخرها جملة معترضة بين كلامي مؤمن آل فرعون ليست من حكاية كلامه وإنما هي قول من جانب الله في قُرآنه يقصد منها تزكية هذا الرجل المؤمن إذ هداه الله للحق، وأنه تقيّ صادق، فيكون نفي الهداية عن المسرف الكذاب كناية عن تقوى هذا الرجل وصدقه لأنه نطق عن هدىً والله لا يعطي الهدى من هو مسرف كذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الارض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا‏}‏

لما توسم نهوضَ حجتِه بينهم وأنها داخلت نفوسهم، أَمِن بأسهم، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم، فصارحهم بمقصوده من الإِيمان بموسى على سَنَن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود، فوعظهم بهذه الموعظة‏.‏ وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجدَ فرعون بُدّاً من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم، وأيضاً فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر والنهي، وثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيراً لهم من مصائبَ تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون‏.‏ وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبي صلى الله عليه وسلم «ولأئمَّةِ المسلمين وعامتهم» ولا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه وترقيق قلوبهم لقوله‏.‏

وابتداء الموعظة بقوله‏:‏ ‏{‏لَكُمُ المُلكُ اليَوْمَ ظاهرين في الأرْضِ‏}‏ تذكيرٌ بنعمة الله عليهم، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله، يعني‏:‏ لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما معرضان للزوال إن غضب الله عليكم‏.‏

والمقصود‏:‏ تخويف فرعون من زوال ملكه، ولكنه جعل المُلك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه‏.‏

والأرض‏:‏ أرض مصر، أي نافذاً حكمكم في هذا الصقع‏.‏

وفرع على هذا التمهيد‏:‏ ‏{‏فَمَن يَنصُرُنا مِن بأس الله إن جاءَنا،‏}‏ و‏(‏مَنْ‏)‏ للاستفهام الإِنكاري عن كل ناصر، فالمعنى‏:‏ فلا نصر لنا من بأس الله‏.‏ وأدمج نفسه مع قومه في ‏{‏ينصرنا‏}‏ و‏{‏جاءنا،‏}‏ ليريهم أنه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه وأن المصيبة إن حلت لا تصيب بعضهم دون بعض‏.‏

ومعنى ‏{‏ظاهرين‏}‏ غالبين، وتقدم آنفاً، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فالله قادر على هلاككم‏.‏

والبَأْس‏:‏ القوة على العدوّ والمعاند، فهو القوة على الضر‏.‏

‏{‏جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ‏}‏

تفطن فرعون إلى أنه المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومَه فقاطعه كلامَه وبيَّن سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعاً إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلاً إلى نفوس مَلَئِه خيفة أن يتأثرُوا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى‏.‏ ولكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قوللِ فرعون مَفْصُولاً غيرَ معطوف وهي طريقة حكاية المقاولات والمحاورة‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏مَا أُرِيكُم‏}‏‏:‏ ما أجعلكم رَائِين إلا ما أراه لنفسي، أي ما أشير عليكم بأن تعتقدوا إلا ما أعتقده، فالرؤية علمية، أي لا أشير إلا بما هو معتقَدي‏.‏

والسبيل‏:‏ مستعار للعمل، وإضافته إلى الرشاد قرينة، أي ما أهديكم وأشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد‏.‏ وكأنه يعرِّض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي‏.‏ والمعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بَيّن وكما هو مقتضى العطف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

لما كان هذا تكملة لكلام الذي آمن ولم يكن فيه تعريج على محاورة فرعون على قوله‏:‏ ‏{‏مَا أريكم إلاَّ مَا أرى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏ الخ وكان الذي آمن قد جعل كلام فرعون في البَيْن واسترسل يكمل مقالته عُطف فعل قوله بالواو ليتصل كلامه بالكلام الذي قبله، ولئلا يتوهم أنه قصد به مراجعة فرعون ولكنه قصد إكمال خطابه، وعبر عنه بالذي آمن لأنه قد عرف بمضمون الصلة بعد ما تقدم‏.‏ وإعادته نداء قومه تأكيد لما قصده من النداء الأول حسبما تقدم‏.‏

وجعل الخوف وما في معناه يتعدى إلى المخوف منه بنفسه وإلى المخوف عليه بحرف ‏(‏على‏)‏ قال لبيد يرثي أخاه أربد‏:‏

أخشَى على أرْبَدَ الحُتوفَ ولا *** أخشَى عليه الرياحَ والمطرا

و‏{‏يَوْممِ الأحْزَابِ‏}‏ مراد به، الجنس لا ‏(‏يومٌ‏)‏ معين بقرينة إضافته إلى جمعٍ أزمانُهم متباعدة‏.‏ فالتقدير‏:‏ مثل أيام الأحزاب، فإفراد يوم للإِيجاز، مثل بطن في قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل‏:‏

كلُوا في بعض بَطْنِكم تَعِفُّوا *** فإن زَمانكم زمنٌ خميص

والمراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم والعرب يطلقون اليوم على يوم الغالب ويوم المغلوب‏.‏ والأحزاب الأمم لأن كل أمة حِزبٌ تجمعهم أحوال واحدة وتناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزباً، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏ في سورة ‏[‏المؤمنين‏:‏ 53‏]‏‏.‏

والدأْب‏:‏ العادة والعمل الذي يدأب عليه عامله، أي يلازمه ويكرره، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ في أول ‏[‏آل عمران‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏مِثْلَ دَأْببِ قَوْممِ نُوحٍ‏}‏ على عطف البيان من ‏{‏مِثلَ يَوْممِ الأحزابِ‏}‏ ولما كان بياناً له كان ما يضافان إليه متحداً لا محالة فصار الأحزاب و‏(‏الدأب‏)‏ في معنى واحد وإنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما، فالتقدير‏:‏ مثلَ يوممِ جزاء الأحزاب‏.‏ مثلَ يوممِ جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي جزاء عملهم‏.‏ ودأبُهم الذي اشتركوا فيه هو الاشراك بالله‏.‏

وهذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حلّ بقوم نوح وعاد وثمود، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهوراً، وأما عاد وثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية وكان عظيماً لا يخفى على مجاوريهم‏.‏

وجملة ‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ‏}‏ معترضة، والواو اعتراضية وهي اعتراض بين كلاميه المتعاطفين، أي أخاف عليكم جزاءً عادلاً من الله وهو جزاء الإشراك‏.‏

والظلم يطلق على الشرك ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏، ويطلق على المعاملة بغير الحق، وقد جمع قوله‏:‏ ‏{‏وما الله يريد ظلماً للعباد‏}‏ نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المُشترك في معنييه‏.‏ وكذلك فعل ‏{‏يريد‏}‏ يطلق بمعنى المشيئة كقوله‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ويطلق بمعنى المحبة كقوله‏:‏ ‏{‏ما أريد منهم من رزق‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 57‏]‏، فلما وقع فعل الإِرادة في حيّز النفي اقتضى عموم نفي الإِرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه، فالله تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يَظلِم عبادَه‏.‏

وأول المعنيين في الإِرادة وفي الظلم أعلق بمقام الإِنذار، والمعنى الثاني تابع للأَول لأنه يدل على أن الله تعالى لا يترك عقاب أهل الشرك لأنه عَدْل، لأن التوعد بالعقاب على الشرك والظلممِ أقوى الأسباب في إقلاع الناس عنه، وصدق الوعيد من متممات ذلك مع كونه مقتضى الحكمة لإِقامة العدل‏.‏

وتقديم اسم ‏{‏اللَّهُ‏}‏ على الخبر الفعلي لإِفادة قصر مدلول المسند على المسند إليه، وإذ كان المسند واقعاً في سياق النفي كان المعنى‏:‏ قصر نفي إرادة الظلم على الله تعالى قصرَ قلب، أي الله لا يريد ظلماً للعباد بل غيره يريدونه لهم وهم قادة الشرك وأيمتُه إذ يدعونهم إليه ويَزعمون أن الله أمرهم به قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

هذا على المعنى الأول للظلم، وأما على المعنى الثاني فالمعنى‏:‏ ما الله يريد أن يَظلم عبادَه ولكنهم يظلمون أنفسهم باتباع أيمتهم على غير بصيرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 44‏]‏ وبظلمهم دعاتهم وأيمتهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏، فلم يَخْرُج تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق النفي في هذه الآية عن مهيع استعماله في إفادة قصر المسند على المسند إليه فتأمله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

أعقب تخويفَهم بعقاب الدنيا الذي حلّ مثله بقوم نوح وعاد وثمود والذينَ مِن بعدهم بأنْ خَوَّفهم وأنذَرَهم عذاب الآخرة عاطفاً جملته على جملة عذاب الدنيا‏.‏

وأَقْحَم بين حرف العطف والمعطوففِ نداء قومه للغرض الذي تقدم آنفاً‏.‏

و ‏{‏يَوْمَ التَّنَادِي‏}‏ هو يوم الحساب والحشر، سمي ‏{‏يَوْمَ التَّنَادي‏}‏ لأن الخلق يتنادون يومئذٍ‏:‏ فَمِن مستشفع ومن متضرع ومن مسلِّم ومهنِّئ ومن موبّخ ومن معتذر ومن آمر ومن معلن بالطاعة قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يناديهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏، ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، ‏{‏ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏، ‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏، ‏{‏يوم ندعوا كل أناس بإمامهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 71‏]‏، ‏{‏دعوا هنالك ثبورا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏، ‏{‏يوم يدعُ الداعِ إلى شيء نكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 6‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ ومن بديع البلاغة ذكر هذا الوصف لليوممِ في هذا المقام ليُذكرهم أنه في موقفه بينهم يناديهم ب ‏(‏يا قوم‏)‏ ناصحاً ومريداً خلاصهم من كل نداء مفزع يوم القيامة، وتأهيلَهم لكل نداء سارّ فيه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏ بدون ياء في الوصل والوقففِ وهو غير منون ولكن عومل معاملة المنوّن لقصد الرعاية على الفواصل، كقول التاسعة من نساء حديث أم زرع‏:‏ «زَوجي رفيعُ العِماد، طويل النِجَاد، كثيرُ الرماد، قريبُ البيت من الناد» فحذفت الياء من كلمة ‏(‏الناد‏)‏ وهي معرِفة‏.‏

وقرأ ابن كثير ‏{‏يوم التنادي بإثبات الياء على الأصل اعتباراً بأن الفاصلة هي قوله‏:‏ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ‏}‏‏.‏

و ‏{‏يَوْمَ تُوَلُّونَ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏، والتولي‏:‏ الرجوع، والإِدبارُ‏:‏ أن يرجع من الطريق التي وراءه، أي من حيث أتى هَرباً من الجهة التي ورد إليها لأنه وجد فيها ما يكره، أي يوم تفرّون من هول ما تجدونه‏.‏ و‏{‏مدبرين‏}‏ حال مؤكدة لعاملها وهو ‏{‏تولون‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏مَا لَكُم مِنَ الله مِن عَاصِمٍ‏}‏ في موضع الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ حالةَ لا ينفعكم التولِّي‏.‏

والعاصم‏:‏ المانع والحافظ‏.‏ و‏{‏مِنَ الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏عاصم،‏}‏ و‏{‏من‏}‏ المتعلقة به للابتداء، تقول‏:‏ عصمه من الظالم، أي جعله في منَعَة مبتدأة من الظالم‏.‏ وضَمن فعل ‏(‏عَصم‏)‏ معنى‏:‏ أنقذَ وانتزعَ، ومعنى‏:‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ من عذابه وعقابه لأن المنع إنما تتعلق به المعاني لا الذوات‏.‏ و‏{‏من‏}‏ الداخلة على ‏{‏عاصم‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي‏.‏

وَأغنى الكلام على تعدية فعل‏:‏ ‏{‏أَخَافُ عَلَيكم مِثلَ يَوممِ الأحْزَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 30‏]‏ عن إعادته هنا‏.‏

وجملة ‏{‏وَمَن يُضْلِل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إنِّي أخَافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التَّنَادِ‏}‏ لتضمنها معنى‏:‏ إني أرشدتكم إلى الحذر من يوم التنادي‏.‏

وفي الكلام إيجاز بحذف جُمل تدل عليها الجملة المعطوفة‏.‏ والتقدير‏:‏ هذا إرشاد لكم فإن هداكم الله عملتم به وإن أعرضتم عنه فذلك لأن الله أضلكم ومن يضلل الله فما له من هاد، وفي هذه الجملة معنى التذييل‏.‏

ومعنى إسناد الإِضلال والإِغواء ونحوهما إلى الله أن يكون قد خلق نفس الشخص وعقله خلقاً غير قابل لمعاني الحق والصواب، ولا ينفعل لدلائل الاعتقاد الصحيح‏.‏

وأراد من هذه الصلة العموم الشامل لكل من حرمه الله التوفيق، وفيه تعريض بتوقعه أن يكون فرعون وقومه من جملة هذا العموم، وآثر لهم هذا دون أن يقول‏:‏ ‏{‏ومن يهد الله فما له من مضل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 37‏]‏ لأنه أحسّ منهم الإِعراض ولم يتوسم فيهم مخائل الانتفاع بنصحه وموعظته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُم لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعدِهِ رَسُولاً‏}‏‏.‏

توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذّبوا يوسف لما جاءهم بالبينات فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏(‏قد‏)‏ ولام القسم لتحقيقه لأنهم مظنة أن ينكروه لبعد عهدهم به‏.‏

فالمجيء في قوله‏:‏ ‏{‏جاءكم‏}‏ مستعار للحصول والظهور والباء للملابسة، أي ولقد ظهر لكم يوسف ببيّنات‏.‏ ولا يلزم أن يكون إظهار البينات مقارناً دعوةً إلى شرع لأنه لما أظهر البينات وتحققوا مكَانتهُ كان عليهم بحكم العقل السليم أن يتبينوا آياته ويستهدوا طريقَ الهدى والنجاة، فإن الله لم يأمر يوسف بأن يدعو فرعون وقومه، لحكمة لعلَّها هي انتظار الوقت والحاللِ المناسب الذي ادخره الله لموسى عليه السلام‏.‏

والبيّنات‏:‏ الدلائل البينة المظهرة أنه مصطَفى من الله للإِرشاد إلى الخير، فكان على كل عاقل أن يتبع خطاه ويترسم آثاره ويسأله عما وراء هذا العالم الماديِّ، بناء على أن معرفة الوحدانية واجبة في أزمان الفترات‏:‏ إما بالعقل، أو بما تواتر بين البشر من تعاليم الرسل السابقين على الخلاف بين المتكلمين‏.‏

والبينات‏:‏ إخباره بما هو مغيب عنهم من أحوالهم بطريق الوحي في تعبير الرُّؤَى، وكذلك آية العصمة التي انفرد بها من بينهم وشهدت له بها امرأة العزيز وشاهِدُ أهلها حتى قال المَلِك‏:‏ ‏{‏ائتوني به استخلصه لنفسي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏، فكانت دلائل نبوءة يوسف واضحة ولكنهم لم يستخلصوا منها استدلالاً يقتفون به أثره في صلاح آخرتهم، وحرصوا على الانتفاع به في تدبير أمور دنياهم فأودعوه خزائن أموالهم وتدبير مملكتهم، فقال له الملِك‏:‏ ‏{‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ ولم يخطر ببالهم أن يسْترشدوا به في سلوكهم الديني‏.‏ فإن قلت‏:‏ إذا لم يهتدوا إلى الاسترشاد بيوسف في أمور دينهم وألهاهم الاعتناء بتدبير الدنيا عن تدبير الدين فلماذا لم يدْعُهم يوسف إلى الاعتقاد بالحق واقتصر على أن سَأَل من الملك‏:‏ ‏{‏اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ لأن الله لم يأمره بالدعوة للإِرشاد إلا إذا سُئل منه ذلك لحكمة كما علمت آنفاً، فأقامه الله مقام المفتي والمرشد لمن استرشد لا مقام المحتسب المغيِّر للمنكر، و‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏، فلما أقامه الله كذلك وعَلِم يوسف من قول الملك‏:‏ ‏{‏إنك اليوم لدينا مكين أمين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 54‏]‏ أن الملك لا يريد إلا تدبير مملكته وأمواله، لم يسأله أكثر مما يفي له بذلك‏.‏ وأما وجوب طلبهم المعرفة والاسترشاد منه فذلك حق عليهم، فمعنى‏:‏ ‏{‏فَمَا زِلْتُم في شَكّ مِمَّا جَاءَكُم به‏}‏ الإِنحاء على أسلافهم في قلة الاهتمام بالبحث عن الكمال الأعلى وهو الكمال النفساني باتباع الدين القويم، أي فما زال أسلافكم يشعرون بأن يوسف على أمر عظيم من الهُدى غير مألوف لهم ويهرعون إليه في مهماتهم ثم لا تعزم نفوسهم على أن يطلبوا منه الإرشاد في أمور الدين‏.‏

فهم من أمره في حالة شك، أي كان حاصل ما بلغوا إليه في شأنه أنهم في شك مما يكشف لهم عن واجبهم نحوه فانقضت مدة حياة يوسف بينهم وهم في شك من الأمر‏.‏ فالملام متوجه عليهم لتقصيرهم في طلب ما ينجيهم بعد الموت قال تعالى‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏ الآيتين‏.‏

وحتى‏}‏ للغاية وغايتها هو مضمون الجملة التي بعدها وهي جملة‏:‏ ‏{‏إذَا هَلَكَ‏}‏، و‏{‏إذَا‏}‏ هنا اسم لزمان المضي مجرورة ب ‏(‏حتى‏)‏ وليست بظرف، أي حتى زمننِ هلاك يوسف قُلتم‏:‏ لن يَبعث الله من بعده رسولاً، أي قال أسلافكم في وقت وفاة يوسف‏:‏ لا يبعث الله في المستقبل أبداً رسولاً بعد يوسف، يعنون‏:‏ أنا كنا مترددين في الإِيمان بيوسف فقد استرحنا من التردد فإنه لا يجيء من يدَّعِي الرسالة عن الله من بعده، وهذا قول جَرى منهم على عادة المعاندين والمقاومين لأهل الإِصلاح والفضل أن يعترفوا بفضلهم بعد الموت تندماً على ما فاتهم من خير كانوا يَدعونهم إليه‏.‏

وفيه ضرب من المبالغة في الكمال في عصره كما يقال‏:‏ خاتمة المحققين، وبقية الصالحين، ومن لا يأتي الزمان بمثله، وحاصله أنهم كانوا في شك من بعثة رسول واحد، وأنهم أيقنوا أن من يَدّعي الرسالة بعده كاذب فلذلك كذبوا موسى‏.‏

ومقالتهم هذه لا تقتضي أنهم كانوا يؤمنون بأنه رسول ضرورةَ أنهم كانوا في شك من ذلك وإنما أرادوا بها قطع هذا الاحتمال في المستقبل وكشفَ الشك عن نفوسهم وظاهر هذه الآية أن يوسف كان رسولاً لظاهر قوله‏:‏ ‏{‏قلتم لَن يَبْعثَ الله من بَعْدِهِ رَسُولاً‏}‏ أن رسولاً محال من ضمير ‏{‏من بعده‏}‏‏.‏ والوجه أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏رسولا‏}‏ مفعولَ ‏{‏يبعث‏}‏ وأنه لا يقتضي وصف يوسف به فإنه لم يَرِد في الأخبار عدّة في الرسل ولا أنه دعا إلى دين في مصر وكيف والله يقول‏:‏ ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ ولا شك في أنه نبيء إذا وجد مساغاً للإرشاد أظهره كقوله‏:‏ ‏{‏يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39، 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وأتعبتُ ملة آباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37، 38‏]‏‏.‏

وعدي فعل ‏{‏جاءكم‏}‏ إلى ضمير المخاطبين‏.‏

وأسند ‏{‏فما زِلْتُمْ‏}‏ و‏{‏قلتم‏}‏ إلى ضميرهم أيضاً، وهم ما كانوا موجودين حينئذٍ قصداً لحمل تبعة أسلافهم عليهم وتسجيلاً عليهم بأن التكذيب للناصحين واضطراب عقولهم في الانتفاع بدلائل الصدق قد ورثوه عن أسلافهم في جبلّتهم وتقرر في نفوسهم فانتقاله إليهم جيلاً بعد جيل كما تقدم في خطاب بني إسرائيل في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 49‏]‏‏:‏ ‏{‏وإذا نجيناكم من آل فرعون‏}‏ ونحوه‏.‏

جرى أكثر المفسرين على أن هذه الجمل حكاية لبقية كلام المؤمن وبعضهم جعل بعضها من حكاية كلام المؤمن وبعضَها كلاماً من الله تعالى، وذلك من تجويز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يجادلونرسولا كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الذين يجادلون فى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ الخ بدلاً أو مبتدأ، وسكت بعضهم عن ذلك مقتصراً على بيان المعنى دون تصدّ لبيان اتصالَها بما قبلها‏.‏

والذي يظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏جَبَّارٍ‏}‏‏.‏ كله من كلام الله تعالى معترَض بين كلام المؤمن وكلام فرعون فإن هذا من المعاني الإِسلامية قصد منه العبرة بحال المكذبين بموسى تعريضاً بمشركي قريش، أي كضلال قوم فرعون يضل الله من هو مسرف مرتاب أمثالكم، فكذلك يكون جزاؤكم، ويؤيد هذا الوجه قوله في آخرها‏:‏ ‏{‏وَعِندَ الَّذِينَ ءامَنُوا‏}‏ فإن مؤمن آل فرعون لم يكن معه مؤمن بموسى وهارون غيره، وهذا من باب تذكر الشيء بضده، ومما يزيد يقيناً بهذا أن وصف ‏{‏الذين يجادلون في آيات الله‏}‏ تكرر أربع مرات من أول هذه السورة، ثم كان هنا وسطاً في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏، ثم كان خاتمة في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 69‏]‏‏.‏

والإِشارة في قوله كذلك‏:‏ إلى الضلال المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ الله‏}‏ أي مثل ذلك الضلال يضل الله المسرفين المرتابين، أي أن ضلال المشركين في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم مثل ضلال قوم فرعون في تكذيبهم موسى عليه السلام‏.‏ والخطاب بالكاف المقترنة باسم الإِشارة خطاب للمسلمين‏.‏

والمسرف‏:‏ المُفْرِط في فعل لا خير فيه‏.‏ والمرتاب‏:‏ الشديد الريب، أي الشك‏.‏

وإسناد الإِضلال إلى الله كإسناد نفي الهداية إليه في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏، وتقدم آنفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يجادلون في آيات الله‏}‏ يجوز أن يكون مبتدأ خبره ‏{‏كَبُرَ مُقْتاً‏}‏ ويجوز أن يكون بدلاً من ‏(‏مَن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من هو مسرف مرتاب‏}‏ فبيّن أن مَاصْدَقَ ‏(‏مَن‏)‏ جماعة لا واحد، فروعي في ‏{‏مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرتاب‏}‏ لفظ ‏(‏مَن‏)‏ فأخبر عنه بالإِفراد، وروعي في البدل معنى ‏(‏مَن‏)‏ فأبدل منه موصول الجمع‏.‏

وصلة ‏{‏الذين‏}‏ عُرف بها المشركون من قريش قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وقال في هذه السورة ‏[‏4‏]‏‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏

واختيار المضارع في ‏{‏يجادلون‏}‏ لإِفادة تجدد مجادلتهم وتكررها وأنهم لا ينفكون عنها‏.‏ وهذا صريح في ذمهم وكنايةٌ عن ذم جدالهم الذي أوجب ضلالهم‏.‏

وفي الموصولية إيماء إلى علة إضلالهم، أي سببُ خلق الضلال في قلوبهم الإِسراف بالباطل تكررُ مجادلتهم قصداً للباطل‏.‏ والمجادلة‏:‏ تكرير الاحتجاج لإِثبات مطلوب المجادل وإبطال مطلوب مَن يخالفهُ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏، فمن المجادلة في آيات الله المحاجّة لإِبطال دلالتها، ومنها المكابرة فيها كما قالوا‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، ومنها قطع الاستماع لها، كما قال عبد الله بن أُبَيّ بنُ سلول في وقت صراحة كفره للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً فيه ابن سلول فقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن سلول لاَ أحسنَ مما تقول أيُّها المرءُ ولاَ تَغْشَنَا به في مجالسنا واجلِسْ في رحلك فمن جاءك فاقْرَأ عليه‏.‏

و ‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ مُتعلق ب ‏{‏يجادلون،‏}‏ والباء للاستعانة، والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يجادلون بما ليس بحجة ولكن باللَّجاج والاستهزاء‏.‏ و‏{‏أتاهم‏}‏ صفة ل ‏{‏سلطان‏.‏‏}‏ والإِتيان مستعار للظهور والحصول‏.‏

وحصول الحجة هو اعتقادها ولَوْحُها في العقل، أي يجادلون جدلاً ليس مما تثيره العقول والنظر الفكري ولكنه تمويه وإسكات‏.‏

وجملة ‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله‏}‏ خبر ‏{‏إنَّ من باب الإِخبار بالإِنشاء، وهي إنشاء ذمِّ جدالِهم المقصود منه كَمُّ فم الحق، أي كبر جدالهم مَقْتاً عند الله، ففاعل كبر‏}‏ ضمير الجدال المأخوذ من ‏{‏يجادلون‏}‏ على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏إعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

و ‏{‏مقتاً تمييز للكُبْر وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل، والتقدير‏:‏ كبر مَقْتُ جدالهم‏.‏

وفعل كبر‏}‏ هنا ملحق بأفعال الذم مثل‏:‏ ساء، لأن وزن فَعْل بضم العين يجيء بمعنى‏:‏ نِعْم وبِئس، ولو كانت ضمة عينه أصلية وبهذا تفظيع بالصراحة بعد أن استفيد من صلة الموصول أن جدالهم هو سبب إضلالهم ذلك الإِضلال المكين، فحصل بهذا الاستئناف تقرير فظاعة جدالهم بطريقي الكناية والتصريح‏.‏

والكِبَر‏:‏ مستعار للشدة، أي مُقِت جدالُهم مَقْتاً شديداً‏.‏ والمقت‏:‏ شدة البغض، وهو كناية عن شدة العقاب على ذلك من الله‏.‏ وكونه مَقتاً عند الله تشنيع لهم وتفظيع‏.‏

أما عطف ‏{‏وَعِندَ الذِينَ ءامَنُوا‏}‏ فلم أر في التفاسير الكثيرة التي بين يدي من عَرج على فائدة عطف ‏{‏وعند الذين آمنوا‏}‏ ما عدا المَهائمي في «تبصرة الرحمان» إذ قال‏:‏ ‏{‏كَبُرَ مقْتَاً عِندَ الله‏}‏ وهو موجب للإِضلال، ويدل على أنه كبر مقتاً أنه عند الذين آمنوا، وهم المظاهر التي يظهر فيها ظهورُ الحق ا ه‏.‏ وكلمة المهائمي كلمة حسنة يعني أن كونه مقتاً عند الله لا يحصل في علم الناس إلا بالخبَر فزيد الخبر تأييداً بالمشاهدة فإن الذين آمنوا على قِلتهم يومئذٍ يظهر بينهم بغض مجادلة المشركين‏.‏

وعندي‏:‏ أن أظهرَ من هذا أنّ الله أراد التنويه بالمؤمنين ولم يُرد إقناع المشركين فإنهم لا يعبأون ببغض المؤمنين ولا يصدقون ببغض الله إيّاهم، فالمقصود الثناء على المؤمنين بأنهم يكرهون الباطل، كما قال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 71‏]‏ مع الإِشارة إلى تبجيل مكانتهم بأن ضمت عنديتهم إلى عندية الله تعالى على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62‏]‏ ونحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديث كلام الذئب فتعجب بعض من حضر فقال‏:‏ «آمنت بذلك وأبُو بكر» ولم يكن أبو بكر في المجلس‏.‏

وفي إسناد كراهية الجدال في آيات الله بغير سلطان للمؤمنين تلقين للمؤمنين بالإِعراض عن مجادلة المشركين على نحو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا مروا باللغو مروا كراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏‏.‏

والقول في ‏{‏كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار‏}‏ كالقول في ‏{‏كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب‏}‏‏.‏

والطبع‏:‏ الختم، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

والختم والطبع والأَكِنَّة‏:‏ خَلْق الضلالة في القلب، أي النفس‏.‏ والمتكبر‏:‏ ذو الكبْر المبالغ فيه ولذلك استعيرت صيغة التكلف‏.‏ والجبّار‏:‏ مثال مبالغة من الجبر، وهو الإكراه، فالجبار‏:‏ الذي يُكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏على كل قلب متكبر‏}‏ بإضافة ‏{‏قلب‏}‏ إلى ‏{‏متكبر‏.‏‏}‏ وقرأ أبو عمرو وحْده وابنُ ذكوان عن ابن عامر بتنوين ‏{‏قلبٍ على أن يكون متكبر‏}‏ و‏{‏جبار‏}‏ صفتين ل ‏{‏قلب،‏}‏ ووصفُ القلب بالتكبر والجبر مجاز عقلي‏.‏ والمقصود وصف صاحبه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه آثم قلبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ لأنه سبب الإِثم كما يقال‏:‏ رأتْ عيني وسمعتْ أُذْني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفاً، وكما أشرنا إليه في سورة القصص، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها، وتقدم ذكر ‏(‏هامان‏)‏ والصرح هنالك‏.‏

وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال‏:‏ ‏{‏إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 48‏]‏ فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل‏.‏ وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته، لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخرج على قومه من المحراب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم‏.‏

والأسباب‏:‏ جمع سبب، والسبب ما يوصِّل إلى مكان بعيد، فيطلق السبب على الطريق، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل‏.‏ والمراد هنا‏:‏ طرق السماوات، كما في قول زهير‏:‏

ومن هَاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه *** وإن يَرْقَ أسبابَ السماء بسلّم

وانتصب ‏{‏أسباب السماوات‏}‏ على البدل المطابق لقوله‏:‏ ‏{‏الأسباب‏.‏‏}‏ وجيء بهذا الأسلوب من الاجمال ثم التفصيل للتشويق إلى المراد بالأسباب تفخيماً لشأنها وشأننِ عمله لأنه أمرٌ عجيب ليورَدَ على نفس متشوقة إلى معرفته وهي نفس ‏(‏هامان‏)‏‏.‏

والاطّلاع بتشديد الطاء مبالغة في الطلوع، والطلوع‏:‏ الظهور‏.‏ والأكثر أن يكون ظهوراً من ارتفاع، ويعرف ذلك أو عدمُه بتعدية الفعل فإن عُدي بحرف ‏(‏على‏)‏ فهو الظهور من ارتفاع، وإن عُدي بحرف ‏(‏إلى‏)‏ فهو ظهور مطلق‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فأَطَّلِعُ‏}‏ بالرفع تفريعاً على ‏{‏أبلغ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ أبلغُ ثم اطَّلِعُ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على جواب الترجي لمعاملة الترجي معاملة التمني وإن كان ذلك غير مشهور، والبصريون ينكرونه كأنه قيل‏:‏ متى بلغتُ اطلعتُ، وقد تكون له ههنا نكتة وهي استعارة حرف الرجاء إلى معنى التمني على وجه الاستعارة التبعية إشارة إلى بُعْد ما ترجاه، وجعل نصب الفعل بعده قرينة على الاستعارة‏.‏

وبيْن ‏{‏إلى‏}‏ و‏{‏إله‏}‏ الجناسُ الناقص بحرففٍ كما ورد مرتين في قول أبي تمام‏:‏

يمُدُّون من أَيْد عَواصصٍ عَوَاصِمٍ *** تَصُول بأسياف قَوَاضضٍ قَواضَبِ

وجملة ‏{‏وَإنِّي لأظُنُّه كاذبا‏}‏ معترضة للاحتراس من أن يظن ‏(‏هامان‏)‏ وقومه أن دعوة موسى أوهنت منه يقينَه بدينه وآلهته وأنه يروم أن يبحث بحث متأمل ناظر في أدلة المعرفة فحقق لهم أنه ما أراد بذلك إلا نفي ما ادعاه موسى بدليل الحس‏.‏ وجيء بحرف التوكيد المعزّز بلام الابتداء لينفي عن نفسه اتهام وزيره إياه بتزلزل اعتقاده في دينه‏.‏ والمعنى‏:‏ إني أفعل ذلك ليظهر كذب موسى‏.‏

والظن هنا مستعمل في معنى اليقين والقطع، ولذلك سمى الله عزمه هذا كيداً في قوله‏:‏ ‏{‏ومَا كَيْدُ فِرْعَونَ إلاَّ في تَبَابٍ‏}‏‏.‏

‏{‏كاذبا وكذلك زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى‏}‏

جملة ‏{‏وكذلك زُيِنَ لفرعون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وَقَال فِرْعَوْنُ‏}‏ لبيان حال اعتقاده وعمله بعد أن بين حال أقواله، والمعنى‏:‏ أنه قال قولاً منبعثاً عن ضلال اعتقاد ومُغرياً بفساد الأعمال‏.‏ ولهذا الاعتبار اعتبارِ جميع أحوال فرعون لم تُفْصَل هذه الجملة عن التي قبلها إذ لم يقصد بها ابتداء قصة أخرى، وهذا مما سموه بالتوسط بين كَمَالَي الاتصال والانقطاع في باب الفصل والوصل من علم المعاني‏.‏ وافتتاحها ب ‏{‏كذلك‏}‏ كافتتاح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏، أي مثل ذلك التزيين أي تزيين عمل فرعون زُيّن له سوء عمله مبالغة في أن تزيين عمله له بلغ من القوة في نوعه ما لا يوجد له شِبْه يُشبَّه به فمن أراد تشبيهه فليشبّهه بعيْنه‏.‏

وبُني فعل ‏{‏وكذلك‏}‏ إلى المجهول لأن المقصود معرفة مفعول التزيين لا معرفة فَاعله، أي حَصل له تزيين سوء عمله في نفسه فحسِب الباطل حقّاً والضلال اهتداء‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وَصَدَّ‏}‏ بفتح الصاد وهو يجوز اعتباره قاصراً الذي مضارعه يصِدّ بكسر الصاد، ويجوز اعتباره متعدياً الذي مضارعه يصُد بضم الصاد، أي أعرض عن السبيل ومنع قومه اتباع السبيل‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وعاصم بضم الصاد‏.‏

والقول فيه كالقول في‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ لِفِرعونَ سُوءُ عَمَلهِ‏}‏‏.‏

وتعريف ‏{‏السبيل‏}‏ للعهد، أي سبيل الله، أو سبيل الخير، أو سبيل الهدى‏.‏ ويجوز أن يكون التعريف للدلالة على الكمال في النوع، أي صد عن السبيل الكامل الصالح‏.‏

وجملة ‏{‏ومَا كَيْدُ فِرعون إلا في تَبَابٍ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وكذلك زُيِّنَ لفرعون سُوَءُ عَمَلِه‏}‏، والمراد بكيده ما أَمر به من بناء الصرح والغايةِ منه، وسمي كيداً لأنه عمل ليس المراد به ظاهره بل أريد به الإِفضاء إلى إيهام قومه كذب موسى عليه السلام‏.‏

والتباب‏:‏ الخسران والهلاك، ومنه‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أبي لهببٍ وتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏، وحرف الظرفية استعارة تبعية لمعنى شدة الملابسة كأنه قيل‏:‏ «ومَا كَيدُ فرعون إلاَّ بتَبَابٍ شديد»‏.‏ والاستثناء من أحوال مقدرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

هذا مقال في مقام آخر قاله مؤمنُ آل فرعون، فهذه المقالات المعطوفة بالواو مقالات متفرقة‏.‏ فابتدأ موعظته بندائهم ليلفت إليه أذهانهم ويستصغي أسماعهم، وبعنوان أنهم قومه لتَصْغَى إليه أفئدتُهم‏.‏ ورتب خطبتُه على أسلوب تقديم الإِجمال ثم تعقيبه بالتفصيل، فابتدأ بقوله‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوننِ أَهدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏، وسبيل الرشاد مجمل وهو على إجماله مما تتوق إليه النفوس، فربْطُ حصوله باتِّباعهم إيَّاه مما يُقبِل بهم على تلقّي ما يفسر هذا السبيل، ويسترعي أسماعهم إلى ما يقوله إذ لعله سيأتيهم بما ترغبه أنفسهم إذ قد يَظنون أنه نقحَ رأَيه ونخَل مقالَه وأنه سيأتي بما هو الحق الملائم لهم‏.‏ وتقدم ذكر ‏{‏سبيل الرشاد‏}‏ آنفاً‏.‏

وأعاد النداء تأكيداً لإِقبالهم إذْ لاحت بوارقه فأكمل مقدمته بتفصيل ما أجمله يذكرهم بأن الحياة الدنيا محدودة بأجل غير طويل، وأن وراءها حياةً أبدية، لأنه علم أن أشدّ دفاعهم عن دينهم منبعثٌ عن محبة السيادة والرفاهية، وذلك من متاع الدنيا الزائل وأن الخير لهم هو العمل للسعادة الأبدية‏.‏ وقد بنَى هذه المقدمة على ما كانوا عليه من معرفة أن وراء هذه الحياة حياة أبدية فيها حقيقة السعادة والشقاء، وفيها الجزاء على الحسنات والسّيئات بالنعيم أو العذاب، إذ كانت ديانتهم تثبت حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ولكنها حَرفت معظم وسائل السعادة والشقاوة، فهذه حقائق مسلّمة عندهم على إجمالها وهي من نوع الأصول الموضوعة في صناعة الجَدل، وبذلك تمّت مقدمة خطبته وتهيأت نفوسهم لبيان مقصده المفسِّر لإِجمال مقدمته‏.‏

فجملة ‏{‏إنما هذه الحياة الدُّنيا متاع‏}‏ مبينة لجملة ‏{‏أهْدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏‏.‏ والمتاع‏:‏ ما ينتفع به انتفاعاً مؤجلاً‏.‏ والقرار‏:‏ الدوام في المكان‏.‏ والقصر المستفاد من قوله ‏{‏إنما هذه الحياة الدنيا متاع‏}‏ قصرُ موصوففٍ على صفة، أي لا صفة للدنيا إلا أنها نفع موقت، وهو قصر قلب لتنزيل قومه في تهالكهم على منافع الدنيا منزلة من يحسبها منافع خالدة‏.‏

وجملتا ‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِئَةً‏}‏ إلى آخرهما بيان لجملة ‏{‏وإنَّ الآخِرَة هِيَ دَارُ القَرارِ‏}‏ والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله ‏{‏وَإِنَّ الآخِرَة هي دَارُ القَرارِ‏}‏ قصرُ قلْببٍ نظير القصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا متاع‏}‏، وهو مؤكد للقصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنَّما هَذهِ الحَياةُ الدُّنْيا متاع‏}‏ من تأكيد إثبات ضد الحكم لضد المحكوم عليه، وهو قصر قلب، أي لاَ الدنيا‏.‏ ‏(‏ومَنْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِئةَ‏}‏ شرطية‏.‏ ومعنى ‏{‏إلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ المماثلة في الوصف الذي دل عليه اسم السيّئة وهو الجزاء السّيّء، أي لا يجزي عن عمل السوء بجزاء الخير، أي لا يطمعوا أن يعلموا السيئات وأنهم يجازَون عليها جزاءَ خير‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن وهب بن منبه وكان كثير الوعظ للناس فقيل له، إنك بوعظك تقنط الناس فقال‏:‏ «أأنا أقدر أن أقنط الناس والله يقول‏:‏

‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ ولكنكم تُحبون أن تُبشَّروا بالجنة على مساوي أعمالكم»‏.‏ وكأن المؤمن خصّ الجزاء بالأعمال لأنهم كانوا متهاونِين بالأعمال وكان قصارى ما يهتمون به هو حسن الاعتقاد في الآلهة، ولذلك توجد على جُدر المعابد المصرية صورة الحساب في هيئة وضع قلب الميت في الميزان ليكون جزاؤه على ما يفسر عنه ميزان قلبه‏.‏

ولذلك ترى مؤمن آل فرعون لم يهمل ذكر الإِيمان بعد أن اهتم بتقديم الأعمال فتراه يقول‏:‏ ‏{‏ومَنْ عَمِلَ صالحا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏، فالإِيمان هو أُسٌّ هيكل النجاة، ولذلك كان الكفر أُسَّ الشقاء الأبدي فإن كل عمل سيّء فإن سُوءه وفساده جُزئي مُنقَضضٍ فكان العقاب عليه غير أبدي، وأما الكفر فهو سيئة دائمة مع صاحبها لأن مقرّها قلبه واعتقاده وهو ملازم له فلذلك كان عقابه أبدياً، لأن الحكمة تقتضي المناسبة بين الأسباب وآثارها فدل قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُجْزَىَ إلاَّ مِثلها‏}‏ أن جزاء الكفر شقاء أبدي لأن مِثْل الكفر في كونه ملازماً للكافر إِن مات كافراً‏.‏

وبهذا البيان أبطلنا قول المعتزلة والخوارج بمساواة مرتكب الكبائر للكافر في الخلود في العذاب، بأنه قول يفضي إلى إزالة مزية الإِيمان، وذلك تنافيه أدلة الشريعة البالغة مبلغ القطع، ونظير هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13 17‏]‏‏.‏

وترتيبه دخول الجنة على عمل الصالحات معناه‏:‏ من عمل صالحاً ولم يعمل سيئة بقرينة مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها‏}‏، فإنْ خلَط المؤمن عملاً صالحاً وسيئاً فالمقاصة، وبيانه في تفاصيل الشريعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ حِسابٍ‏}‏ كناية على سعة الرزق ووفرته كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏‏.‏

و ‏{‏مَن في قوله‏:‏ وَمَنْ عَمِلَ صالحا‏}‏ الخ شرطية، وجوابها ‏{‏فأولئك يَدْخُلون الجنَّة‏}‏‏.‏ وجيء باسم الإشارة لِلتنبيه على أن المشار إليه يستحق ما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجْل ما ذكر قبل اسم الإشارة من الأوصاف، وهي عمل الصالحات مع الإِيمان زيادة على استفادة ذلك من تعليقه على الجملة الشرطية‏.‏ وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة جواب الشرط لإِفادة الحصر‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم إن متم على الشرك والعمل السيّئ لا تدخلونها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ ذَكَرٍ أوْ أنثى‏}‏ بيان لما في ‏{‏مَنْ من الإِبهام من جانب احتمال التعميم فلفظ ذَكَرٍ أو أنثى‏}‏ مراد به عموم الناس بذكر صنفيهم تنصيصاً على إرادة العموم، وليس المقصود به إفادة مساواة الأنثى للذكر في الجزاء على الأعمال إذ لا مناسبة له في هذا المقام، وتعريضاً بفرعون وخاصته أنهم غير مُفلَتين من الجزاء‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يَدْخُلونَ الجَنَّة‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بضمها وفتح الخاء، والمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطى من غرض إلى غرض وأنه سَيَطْرَق ما يغاير أول كلامه مغايرة مَّا تُشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب، وأنه سيرتقي باستدراجهم في دَرَج الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئاً جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظتَهُ إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليهم، وهو كلامُ آيسسٍ من استجابتهم لقوله فيه‏:‏ ‏{‏فَسَتَذكُرُونَ مَا أقولُ لَكُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 44‏]‏، ومُتَوقِّععٍ أذاهم لقوله‏:‏ ‏{‏وَأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 44‏]‏، ولقوله تعالى آخر القصة‏:‏ ‏{‏فوقاه الله سيئات ما مكروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فصرّح هنا وبينّ بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتّباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط‏.‏

والاستفهام في ‏{‏مَا لِي أدْعُوكم إلى النجاة‏}‏ استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي ‏{‏وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ‏}‏ فجملة ‏{‏وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ‏}‏ في موضع الحال بتقدير مبتدأ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال‏:‏ ما لي أفعل، وما لي لا أفعل ونحوه، أن يكون استفهاماً عن فعل أو حاللٍ ثبت للمجرور باللام ‏(‏وهي لام الاختصاص‏)‏، ومعنى لام الاختصاص يَكسب مدخولها حالةً خَفيًّا سببُها الذي عُلق بمدخول اللام نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللَّه اثّاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏ما لي لا أرى الهدهد‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 20‏]‏ وقولك لمن يستوقفك‏:‏ ما لك‏؟‏ فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية‏.‏

وتركيب‏:‏ ما لي ونحوه، هو كتركيب‏:‏ هل لك ونحوه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل هل لك إلى أن تزكى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏ وقول كعب بن زهير‏:‏

ألا بلغا عني بُجيرا رسالة *** فهل لك فيما قلتَ ويحْك هلْ لَكَ

فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة، أو إلى الإِنكار أو نحو ذلك‏.‏ فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم‏.‏

وجملة ‏{‏تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بالله‏}‏ بيان لجملة ‏{‏وتدعونني إلى النار‏}‏ لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار‏.‏ والمعنى‏:‏ تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإِلهية‏.‏

ومعنى ‏{‏مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم، والكلام كناية عن كونه يعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم‏.‏

وعطف عليه ‏{‏وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفَّار‏}‏ فكان بياناً لمجمل جملة ‏{‏أدْعُوكُمْ إلَى النجاة‏}‏‏.‏ وإبراز ضمير المتكلم في قوله‏:‏ ‏{‏وأنا أدعوكم‏}‏ لإِفادة تقوِّي الخبر بتقديم المسند إليه على خبره الفعلي‏.‏

وفعل الدعوة إذا ربط بمتعلق غير مفعوله يعدّى تارة باللام وهو الأكثر في الكلام، ويعدى بحرف ‏(‏إلى‏)‏ وهو الأكثر في القرآن لما يشتمل عليه من الاعتبارات ولذلك علق به معموله في هذه الآية أربع مرات ب ‏(‏إلى‏)‏ ومرة باللام مع ما في ربط فعل الدعوة بمتعلقه الذي هو من المعنويات من مناسبة لام التعليل مثل ‏{‏تدعونني لأكْفُرَ بالله وأُشْرِكَ بِهِ‏}‏، وربطِه بما هو ذات بحرف ‏(‏إلى‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أدْعُوكم إلى النجاة‏}‏ فإن النجاة هي نجاة من النار فهي نجاة من أمر محسوس، وقوله‏:‏ ‏{‏وتدعونني إلى النَّار‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا‏}‏ الخ، لأن حرف ‏(‏إلى‏)‏ دالّ على الانتهاء لأن الذي يدعو أحداً إلى شيء إنما يدعوه إلى أن ينتهي إليه، فالدعاء إلى الله الدعاء إلى توحيده بالربوبية فشبه بشيء محسوس تشبيه المعقول بالمحسوس، وشبه اعتقادُه صحتَه بالوصول إلى الشيء المسعي إليه، وشبهت الدعوة إليه بالدلالة على الشيء المرغوب الوصول إليه فكانت في حرف ‏(‏إلى‏)‏ استعارة مكنية وتخييلية وتبعية، وفي ‏{‏العَزِيزِ الغفار‏}‏ استعارة مكنية، وفي ‏{‏أدعوكم‏}‏ استعارة تبعية وتخييلية‏.‏

وعدل عن اسم الجلالة إلى الصفتين ‏{‏العَزِيزِ الغفار‏}‏ لإِدماج الاستدلال على استحقاقه الإِفراد بالإِلهية والعبادة، بوصفه ‏{‏العزيز‏}‏ لأنه لا تناله الناس بخلاف أصنامهم فإنها ذليلة توضع على الأرض ويلتصق بها القتام وتلوثها الطيور بذرقها، ولإِدماج ترغيبهم في الإقلاع عن الشرك بأن الموحد بالإِلهية يغفر لهم ما سلف من شركهم به حتى لا ييأسوا من عفوه بعد أن أساءوا إليه‏.‏

وجملة ‏{‏لا جَرَمَ أنما تَدْعُونني‏}‏ بيان لجملة ‏{‏تَدْعُونني لأكْفُرَ بِالله‏}‏‏.‏ وكلمة ‏{‏لا جَرَم‏}‏ بفتحتين في الأفصح من لغاتتٍ ثلاث فيها، كلمة يراد بها معنى لا يثبت أو لا بد، فمعنى ثبوته لأن الشيء الذي لا ينقطع هو باق وكل ذلك يؤول إلى معنى حق وقد يقولون‏:‏ لا ذا جرم، ولا أنَّ ذا جرم، ولا عَنَّ ذا جرم، ولاَ جَرَ بدون ميم ترخيماً للتخفيف‏.‏

والأظهر أن ‏{‏جَرم اسم لا فعل لأنه لو كان فعلاً لكان ماضياً بحسب صيغته فيكون دخول لا عليه من خصائص استعمال الفعل في الدعاء‏.‏

والأكثر أن يقع بعدها ‏(‏أنَّ‏)‏ المفتوحة المشددة فيقدر معها حرف ‏(‏في‏)‏ ملتزماً حذفه غالباً‏.‏ والتقدير‏:‏ لا شك في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة‏.‏ وتقدم بيان معنى لا جَرم وأن جرم فعل أو اسم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وَمَا صَدَق ‏{‏ما الأصنام، وأعيد الضمير عليها مفرداً في قوله‏:‏ لَيْسَ لَهُ‏}‏ مراعاة لإِفراد لفظ ‏(‏ما‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ جَرم أنَّما تدعونني إليه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أصحاب النَّار‏}‏ واقع موقع التعليل لجملتي ‏{‏ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار‏}‏ لأنه إذا تحقق أن لا دعوة للأصنام في الدنيا بدليل المشاهدة، ولا في الآخرة بدلالة الفحوى، فقد تحقق أنها لا تنجي أتباعها في الدنيا ولا يفيدهم دعاؤها ولا نداؤها‏.‏ وتحقق إذن أن المرجو للإِنعام في الدنيا والآخرة هو الربّ الذي يدعوهم هو إليه‏.‏ وهذا دليل إقناعي غير قاطع للمنازع في إلهية رب هذا المؤمن ولكنه أراد إقناعهم واستحفظهم دليلَه لأنهم سيظهر لهم قريباً أن رب موسى له دعوة في الدنيا ثقة منه بأنهم سيرون انتصار موسى على فرعون ويرون صرف فرعون عن قتل موسى بعد عزمه عليه فيعلمون أن الذي دعا إليه موسى هو المتصرف في الدنيا فيعلمون أنهُ المتصرف في الآخرة‏.‏

ومعنى ‏{‏لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ‏}‏ انتفاء أن يكون الدعاء إليه بالعبادة أو الالتجاء نافعاً لا نفي وقوع الدعوة لأن وقوعها مشاهَد‏.‏ فهذا من باب «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقولهم‏:‏ ليس ذلك بشيء، أي بشيء نافع، وبهذا تعلم أن ‏{‏دعوة مصدر متحمل معنَى ضمير فاعل، أي ليست دعوةُ داع، وأنّ ضمير له‏}‏ عائد إلى ‏(‏ما‏)‏ الموصولة، أي لا يملك دعوة الداعين، أي لا يملك إجابتهم‏.‏

وعطفت على هذه الجملة جملة ‏{‏وأنَّ مردَّنَا إلى الله‏}‏ عطفَ اللازم على ملزومه لأنه إذا تبين أن رب موسى المسمى ‏(‏الله‏)‏ هو الذي له الدعوة، تبين أن المرد أي المصير إلى الله في الدنيا بالالتجاء والاستنصار وفي الآخرة بالحكم والجزاء‏.‏ ولو عطف مضمون هذه الجملة بالفاء المفيدة للتفريع لكانت حقيقة بها، ولكن عُدل عن ذلك إلى عطفها بالواو اهتماماً بشأنها لتكون مستقلة الدلالة بنفسها غيرَ باحثثٍ سامعُها على ما ترتبط به، لأن الشيء المتفرع على شيء يعتبر تابعاً له، كما قال الأصوليون في أنّ جوابَ السائل غيرَ المستقل بنفسِه تَابع لعُموم السُّؤال‏.‏

وكذلك جملة ‏{‏وأنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أصحاب النَّارِ‏}‏ بالنسبة إلى تفرع مضمونها على مضمون جملة ‏{‏وأنَّ مَرَدَّنا إلى الله‏}‏ لأنه إذا كان المصير إليه كان الحكم والجزاء بين الصائرين إليه من مُثاب ومعاقب فيتعين أن المعاقَب هم الكافرون بالله‏.‏

فالإِسراف هنا‏:‏ إفراط الكفر، ويشمل ما قيل‏:‏ إنه أريد هنا سفك الدم بغير حق ليصرف فرعون عن قتل موسى عليه السلام‏.‏ والوجه أن يعم أصحاب الجرائم والآثام‏.‏ والتعريف فيه تعريف الجنس المفيد للاستغراق وهو تعريض بالذين يُخاطبهم إذْ هُم مسرفون على كل تقدير فهم مسرفون في إفراط كفرهم بالرب الذي دعا إليه موسى، ومسرفون فيما يستتبعه ذلك من المعاصي والجرائم فضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هُمْ أصحاب النَّارِ‏}‏ يفيد قصراً ادعائياً لأنهم المتناهون في صحبة النار بسبب الخلود بخلاف عصاة المؤمنين، وهذا لِحَمل كلام المؤمن على موافقة الواقع لأن المظنون به أنه نبي أو مُلْهَم وإلاّ فإن المقام مقام تمييز حال المؤمنين من حال المشركين، وليس مقام تفصيل درجات الجزاء في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

هذا الكلام متاركة لقومه وتنهية لخطابه إياهم ولعله استشعر من ملامحهم أو من مقاطعتهم كلامه بعبارات الإِنكار، ما أيْأَسَه من تأثرهم بكلامه، فتحدّاهم بأنهم إن أعرضوا عن الانتصاح لنصحه سيندمون حين يرون العذاب إما في الدنيا كما اقتضاه تهديده لهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنِّي أخافُ عليكم مِثْلَ يَوْممِ الأحْزَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 30‏]‏، أو في الآخرة كما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏إنِّي أخافُ عليكم يَومَ التَّنادِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 32‏]‏، فالفاء تفريع على جملة ‏{‏ما لِيَ أدْعُوكم إلى النجاة وتَدْعُونني إلى النَّار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وفعل ‏{‏ستذكرون‏}‏ مشتق من الذُّكْر بضم الذال وهو ضد النسيان، أي ستذكرون في عقولكم، أي ما أقول لكم الآن يحضر نصب بصائركم يوم تحققه، فشبه الإِعراض بالنسيان ورمز إلى النسيان بما هو من لوازمه في العقل مُلازمةَ الضد لضده وهو التذكر على طريقة المكنية وفي قرينتها استعارة تبعية‏.‏ والمعنى سيحلّ بكم من العذاب ما يُذَكِّركم ما أقوله‏:‏ إنَّه سيحل بكم‏.‏

وجملة ‏{‏وَأُفَوِّضُ أمرِي إلى الله‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار‏}‏، ومساق هذه الجملة مساق الانتصاف منهم لما أظهروه له من الشرّ، يعني‏:‏ أني أَكِل شأني وشأنكم معي إلى الله فهو يجزي كل فاعل بما فعل، وهذا كلام مُنصِف فالمراد ب ‏{‏أمري‏}‏ شأني ومُهمّي‏.‏ ويدل لمعنى الانتصاف تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله بَصيرٌ بالعِبَادِ‏}‏ معللاً تفويض أمره معهم إلى الله بأن الله عليم بأحوال جميع العباد فعموم العباد شَمِله وشمل خصومَهُ‏.‏

وقال في «الكشاف» قوله‏:‏ ‏{‏وأُفَوِّضُ أمرِي إلى الله‏}‏ لأنهم توعدوه ا ه‏.‏ يعني أن فيه إشعاراً بذلك بمعونة ما بعده‏.‏

و ‏{‏العباد‏}‏ الناس يطلق على جماعتهم اسم العباد، ولم أر إطلاق العبد على الإِنسان الواحد ولا إطلاق العبيد على الناس‏.‏

والبصير‏:‏ المطلع الذي لا يخفى عليه الأمر‏.‏ والبَاء للتعدية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبصرت به عن جنب‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 11‏]‏، فإذا أرادوا تعدية فعل البصر بنفسه قالوا‏:‏ أبصره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

تفريع ‏{‏فَوَقاهُ الله‏}‏ مؤذن بأنهم أضمروا مكراً به‏.‏ وتسميته مكراً مؤذن بأنهم لم يُشعروه به وأن الله تكفل بوقايته لأنه فوَّض أمره إليه‏.‏ والمعنى‏:‏ فأنجاه الله، فيجوز أن يكون نجا مع موسى وبني إسرائيل فخرج معهم، ويجوز أن يكون فرّ من فرعون ولم يعثروا عليه‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ مصدرية‏.‏ والمعنى‏:‏ سيئات مكْرهم‏.‏ وإضافة ‏{‏سيئات‏}‏ إلى ‏(‏مكر‏)‏ إضافة بيانية، وهي هنا في قوة إضافة الصفة إلى الموصوف لأن المكر سيّء‏.‏ وإنما جُمع السيئات باعتبار تعدد أنواع مكرهم التي بيّتوها‏.‏

وحَاق‏:‏ أحاط‏.‏ والعذاب‏:‏ الغَرَق‏.‏ والتعريف للعهد لأنه مشهور معلوم‏.‏ وتقدم له ذكر في السور النازلة قبل هذه السورة‏.‏

ومناسبة فعل ‏{‏حَاق لذلك العذاب أنه مما يَحيق على الحقيقة، وإنما كان الغَرَق سوء عذاب لأن الغريق يعذب باحتباس النفَس مدة وهو يطفو على الماء ويغوص فيه ويُرعبه هول الأمواج وهو مُوقن بالهلاك ثم يكون عُرضة لأكْل الحيتان حيًّا وميِّتاً وذلك ألم في الحياة وخزي بعد الممات يُذكرون به بين الناس‏.‏

وقوله‏:‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُواً وعَشياً‏}‏ يجوز أن يكون جملة وقعت بدلاً من جملة ‏{‏وحاق بآل فرعون سوء العذاب‏}‏، فيجعل ‏{‏النَّار‏}‏ مبتدأ ويجعل جملة ‏{‏يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ خبراً عنه ويكون مجموع الجملة من المبتدأ وخبره بدل اشتمال من جملة ‏{‏وحَاقَ بِآللِ فِرعون سُوءُ العَذَّابِ‏}‏ لأن سوء العذاب إذا أريد به الغرق كان مشتملاً على موتهم وموتُهم يشتمل على عرضهم على النار غدُوًّا وعشِيًّا، فالمذكور عَذَابَان‏:‏ عذاب الدنيا وعذابُ الغرق وما يلحق به من عذاببٍ قبل عذاب يوم القيامة‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏النار‏}‏ بدلاً مفرداً من ‏{‏سُوءُ العَذَابِ‏}‏ بدلاً مطابقاً وجملة ‏{‏يُعْرَضُونَ عليها‏}‏ حالاً من ‏{‏النار‏}‏ فيكون المذكور في الآية عذاباً واحداً ولم يذكر عَذاب الغرق‏.‏ وعلى كلا الوجهين فالمذكور في الآية عذاب قبل عذاب يوم القيامة فذلك هو المذكور بعده بقوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا ءالَ فِرْعَونَ أشَدَّ العَذَابِ‏}‏‏.‏

والعرض حقيقته‏:‏ إظهار شيء لمن يراه لترغيب أو لتحذير وهو يتعدّى إلى الشيء المظْهَر بنفسه وإلى من يُظهَر لأجله بحرف ‏(‏على‏)‏، وهذا يقتضي أن المعروض عليه لا يكون إلا من يَعقل ومنزّلاً منزلة من يعقل، وقد يقلب هذا الاستعمال لقصد المبالغة كقول العرب «عرضتُ الناقةَ على الحوض»، وحقه‏:‏ عرضت الحوض على الناقة، وهو الاستعمال الذي في هذه الآية وقوله في سورة الأحقاف ‏(‏20‏)‏ ‏{‏ويوم يعرض الذين كفروا على النار‏}‏ وقد عدَّ علماء المعاني القلب من أنواع تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ومثلوا له بقول العرب‏:‏ عرضت الناقة على الحوض‏.‏ واختلفوا في عدّه من أفانين الكلام البليغ فعدّه منها أبو عبيدة والفارسي والسكاكي ولم يقبله الجمهور، وقال القزويني‏:‏ إن تضمن اعتباراً لطيفاً قُبِل وإلاّ رُدّ‏.‏

وعندي أن الاستعمالين على مقتضى الظاهر وأن العَرض قد كثر في معنى الإمرار دون قصد الترغيب كما يقال‏:‏ عُرض الجيش على أميره واستعرضه الأمير‏.‏

ولعلّ أصله مجاز ساوى الحقيقة فليس في الآيتين قلب ولا في قول العرب‏:‏ عرضت الناقة على الحوض، قَلب، ويقال‏:‏ عُرض بنو فلان على السيف، إذا قُتلوا به‏.‏ وخرج في «الكشف» آية الأحقاففِ على قولهم‏:‏ عُرض على السيففِ‏.‏

ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تُشاهِد المواضع التي أعدت لها في جهنم، وهو ما يبينه حديث عبد الله بن عُمر في «الصحيح» قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏ إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقْعَدُه بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال‏:‏ هذا مقعدك حتى يبعثَك الله يوم القيامة ‏"‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏غُدُوّاً وعَشِيّاً‏}‏ كناية عن الدوام لأن الزمان لا يخلو عن هاذين الوقتين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة أدْخِلوا ءالَ فِرْعون أشدَّ العَذَابِ‏}‏ هذا ذكر عذاب الآخرة الخالد، أي يُقال‏:‏ أَدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وعلم من عذاب آل فرعون أن فرعون داخل في ذلك العذاب بدلالة الفحوى‏.‏

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏أدخلوا‏}‏ بهمزة قطع وكسر الخاء‏.‏ وقرأ الباقون بهمزة وصل وضم الخاء على معنى أن القول مُوجّه إلى آل فرعون وأن ‏{‏ءَالَ فِرْعَونَ‏}‏ منادى بحذف الحرف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون ‏{‏إذ‏}‏ معمولاً ل ‏(‏اذْكُرْ‏)‏ محذوففٍ فيكون عطفاً على جملة ‏{‏وأنذرهم يوم الأزِفَةِ‏}‏، والضميرُ عائداً إلى ‏{‏الذِّينَ يجادلون في ءاياتت الله بِغَيْرِ سلطان‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ وما بين هذا وذاك اعتراض واستطراد لأنها قصد منها عظة المشركين بمن سبقهم من الأمم المكذبين فلما استُوفي ذلك عاد الكلام إليهم‏.‏ ويفيد ذلك صريحَ الوعيد للمشركين بعد أن ضُربت لهم الأمثال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللكافرين أمثالها‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 10‏]‏، وقد تكرر في القرآن موعظة المشركين بمثل هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا‏}‏ الآية في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ الآية في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

‏(‏ويجوز أن تكون ‏{‏وَإذْ يَتَحَآجُّونَ‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏ويوم تقوم الساعة ادخلوا ءالَ فرعونَ أشدَّ العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ لأن ‏(‏إذْ‏)‏ و‏(‏يومَ‏)‏ كليهما ظرف بمعنى ‏(‏حين‏)‏، فيكون المعنى‏:‏ وحين تقوم الساعة يقال‏:‏ أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب، وحين يتحاج أهل النار فيقول الضعفاء الخ‏.‏

وقرن ‏{‏فَيَقُولُ الضعفاؤا‏}‏ بالفاء لإِفادة كون هذا القول ناشئاً عن تحاجّهم في النار مع كون ذلك دَالاً على أنه في معنى متعلَّق ‏{‏إذ، وهذا استعمال من استعمالات الفاء التي يسميها النحاة زائدة، وأثبت زيادتها جماعة منهم الأخفش والفراء والأعلم وابن بَرهان، وحكاه عن أصحابه البصريين‏.‏ وضمير يتحاجون‏}‏ على هذا الوجه عائد إلى آل فرعون‏.‏ ويفيد مع ذلك تعريضاً بوعيد المشركين كما هو مقتضى المماثلة المسوقة وضمير ‏{‏يتحاجون‏}‏ غير عائد إلى ‏{‏ءَالَ فِرعونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ لأن ذلك يأباه قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين في النار لِخَزنة جهنم ادعوا ربكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 49‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَكُ تَأتيكم رُسُلكم بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50‏]‏ ولم يَأت آل فرعون إلا رسول واحد هو موسى عليه السلام فيعود ضمير ‏{‏يتحاجون‏}‏ إلى معلوم من المقام وهم أهل النار‏.‏

والتحاجّ‏:‏ الاحتجاج من جانبين فأكثرَ، أي إقامة كل فريق حجته وهو يقتضي وقوع خلاف بين المتحاجّين إذ الحجة تأييد لدعوى لدفع الشك في صحتها‏.‏

والضعفاء‏:‏ عامة الناس الذين لا تصرُّف لهم في أمور الأمة‏.‏ والذين استكبروا‏:‏ سادة القوم، أي الذين تكبروا كِبْراً شديداً، فالسين والتاء فيه للمبالغة‏.‏ وقول الضعفاء للكبراء هذا الكلامَ يحتمل أنه على حقيقته فهو ناشئ عما اعتادوه من اللجإ إليهم في مهمهم حين كانوا في الدنيا فخالوا أنهم يتولون تدبير أمورهم في ذلك المكان ولهذا أجاب الذين استكبروا بما يفيد أنهم اليوم سواء في العجز وعدم الحيلة فقالوا‏:‏ ‏{‏إنَّا كُلٌّ فِيهَآ‏}‏ أي لو أغنينا عنكم لأغنينا عن أنفسنا‏.‏

وتقديم قولهم‏:‏ ‏{‏إنَّا كُنَّا لَكُم تبعَاً‏}‏ على طلب التخفيف عنهم من النار، مقدمة للطلب لقصد توجيهه وتعليله وتذكيرهم بالولاء الذي بينهم في الدنيا، يلهمهم الله هذا القول لافتضاح عجز المستكبرين أن ينفعوا أتباعهم تحقيراً لهم جزاء على تعاظمهم الذي كانوا يتعاظمون به في الدنيا‏.‏

ويحتمل أن قول الضعفاء ليس مستعملاً في حقيقة الحث على التخفيف عنهم ولكنه مستعمل في التوبيخ، أي كنتم تدعوننا إلى دين الشرك فكانت عاقبة ذلك أنا صرنا في هذا العذاب فهل تستطيعون الدفع عنا‏.‏ وتأكيد ‏{‏إنَّا كنا لكُم تَبَعاً‏}‏ ب ‏(‏إنَّ‏)‏ للاهتمام بالخبر وليس لرد إنكار‏.‏

والتبع‏:‏ اسم لمن يتبع غيره، يستوي فيه الواحد والجمع، وهو مثل خَدَم وَحَشَم لأن أصله مصدر، فلذلك استوى فيه الواحد والجمع، وقيل التَبَع‏:‏ جمع لا يجري على الواحد، فهو إذن من الجموع النادرة‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أنتُم مُغْنُونَ‏}‏ مستعمل في الحث واللوم على خذلانهم وترك الاهتمام بما هم فيه من عذاب‏.‏

وجيء بالجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي هل من شأنكم أنكم مغنون عنّا‏.‏ و‏{‏مغنون‏}‏ اسم فاعل من أغنى غناء بفتح الغين والمدّ، أي فائدة وإجزاء‏.‏

والنصيب‏:‏ الحَظ والحصة من الشيء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقد ضمّن ‏{‏مغنون‏}‏ معنى دافعون ورادُّون، فلذلك عُدي إلى مفعوللٍ وهو ‏{‏نصيباً‏}‏ أي جُزءاً من حر النار غير محدد المقدار من قوتها، و‏{‏مِنَ النَّار‏}‏ بيان ل ‏{‏نَصِيباً‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مغنون عنا من عذاب اللَّه من شيء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏ فهم قانعون بكل ما يخفف عنهم من شدة حرّ النار وغير طامعين في الخروج منها‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏مغنون‏}‏ على معناه دون تضمين ويكون ‏{‏نصيباً‏}‏ منصوباً على المفعول المطلق لِمغنون والتقدير غَناء نصيباً، أي غناء مَّا ولو قليلاً‏.‏ و‏{‏منَ النَّارِ‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏مغنون‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أغني عنكم من اللَّه من شيء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون النصيب الجزءَ من أزمنة العذاب فيكون على حذف مضاف تقديره‏:‏ من مُدة النار‏.‏

ولما كان جواب الذين استكبروا للذين استضعفوا جارياً في مجرى المحاورة جرّد فعل ‏{‏قال من حرف العطف على طريقة المحاورة كما تقدم غير مرة‏.‏

ومعنى قولهم‏:‏ إِنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ نحن وأنتم مستوون في الكون في النار فكيف تطمعون أن ندفع عنكم شيئاً من العذاب‏.‏ وعلى وجه أن يكون قول الضعفاء ‏{‏إنا كُنَّا لَكمُ تَبعاً‏}‏ إلى آخره توبيخاً ولوماً لزعمائهم يكون قول الزعماء ‏{‏إنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ اعترافاً بالغلط، أي دَعُوا لومنا وتوبيخنا فقد كفانا أنا معكم في النار وتأكيد الكلام ب ‏(‏إنّ‏)‏ للاهتمام بتحقيقه أو لتنزيل من طالبوهم بالغناء عنهم من عذاب النار مع مشاهدتهم أنهم في العذاب مثلهم، منزلة من يحسبهم غير واقعين في النار، وفي هذا التنزيل ضرب من التوبيخ يقولون‏:‏ ألستم تروننا في النار مثلكم فكيف نغني عنكم‏.‏ و‏{‏كل‏}‏ مرفوع بالابتداء وخبره ‏{‏فيها‏}‏ والجملة من المبتدأ وخبره خبر ‏(‏إنَّ‏)‏ وتنوين ‏(‏كل‏)‏ تنوين عوض عن المضاف إليه، إذ التقدير‏:‏ إنا كلُّنا في النار‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ‏}‏ تتنزل منزلة بدل الاشتمال من جملة ‏{‏إنَّا كُلٌّ فيها‏}‏ فكلتا الجملتين جواب لهم مؤيس من حصول التخفيف عنهم‏.‏

والمعنى‏:‏ نحن مستوون في العذاب وهو حكم الله فلا مطمع في التقصي من حكمه فقد جوزي كل فريق بما يستحق‏.‏

وما في هذه الجملة الثانية من عموم تعلق فعل الحكم بين العباد ما يجعل هذا البدل بمنزلة التذييل، أي أن الله حكم بين العباد كلهم بجزاء أعمالهم فكان قسطنا من الحكم هذا العذاب‏.‏ فكلمة ‏{‏حَكَمَ‏}‏ هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو المكان المتوسط، أي وقع حكمه وقضاؤه في مجمعهم الذي حضره من حُكم عليه ومن حكم له ومن لم يتعرض للحكومة لأنه من أهل الكرامة بالجنة، فليست كلمة ‏(‏بين‏)‏ هنا بمنزلة ‏(‏بين‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل اللَّه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ فإنها في ذلك مستعملة مجازاً في التفرقة بين المحق والمبطل‏.‏

وفي هذه الآية عبرة لزعماء الأمم وقادتهم أن يحذروا الارتماء بأنفسهم في مهاوي الخسران فيوقعوا المقتدين بهم في تلك المهاوي فإن كان إقدامهم ومغامرتهم بأنفسهم وأممِهم على علم بعواقب ذلك كانوا أحرياء بالمذمة والخزي في الدنيا ومضاعفة العذاب في الآخرة، إذ ما كان لهم أن يغُرُّوا بأقوام وكلوا أمورهم بقادتهم عن حسن ظن فيهم، أن يخونوا أمانتهم فيهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏، وإن كان قَحْمهم أنفسهم في مضائق الزعامة عن جهل بعواقب قصورهم وتقصيرهم فإنهم ملومون على عدم التوثق من كفاءتهم لتدبير الأمة فيخبِطوا بها خبط عشواء حتى يزلوا بها فيَهْوُوا بها من شواهق بعيدة فيصيروا رميماً، ويَلْقوا في الآخرة جحيماً‏.‏