فصل: تفسير الآيات رقم (49- 50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

لما لم يجدوا مساغاً للتخفيف من العذاب في جانب كُبرائهم، وتنصَّلَ كبراؤُهم من ذلك أو اعترفوا بغلطهم وتوريطهم قومَهم وأنفسَهم تمَالأَ الجميع على محاولة طلب تخفيف العذاب بدعوة من خَزَنة جهنم، فلذلك أسند القول إلى الذين في النار، أي جميعهم من الضعفاء والذين استكبروا‏.‏

وخَزَنة‏:‏ جمع خَازن، وهو الحافظ لما في المكان من مال أو عروض‏.‏ و‏{‏خزنة جهنم‏}‏ هم الملائكة الموكَّلون بما تحويه من النار ووَقودها والمعذبين فيها وموكلون بتسيير ما تحتوي عليه دار العذاب وأهلها ولذلك يقال لهم‏:‏ خزنة النار، لأن الخزن لا يتعلق بالنار بل بما يحويها فليس قوله هنا‏:‏ ‏{‏جهنم‏}‏ إظهاراً في مقام الإِضمار إذ لا يحسن إضافة خزنة إلى النار ولو تقدم لفظ جهنم لقال‏:‏ لخزنتها، كما في قوله في سورة ‏[‏الملك‏:‏ 6 8‏]‏ ‏{‏وللذين كفروا بربهم عذاب ‏(‏جهنم‏)‏ وبئس المصير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏سألهم خزنتها‏}‏ فإن الضمير ل ‏{‏جهنم‏}‏ لا ل ‏{‏النار‏}‏‏.‏

وفي «الكشاف» أنه من الإِظهار في مقام الإِضمار للتهويل بلفظ ‏{‏جهنم‏}‏، والمسلك الذي سلكناه أوضح‏.‏

وفي إضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضمير المخاطبين ضرب من الإِغراء بالدعاء، أي لأنكم أقرب إلى استجابته لكم‏.‏ ولما ظنُّوهم أرجى للاستجابة سألوا التخفيف يوماً من أزمنة العذاب وهو أنفع لهم من تخفيف قوة النار الذي سألوه من مستكبريهم‏.‏

وجزم ‏{‏يخفف‏}‏ بعد الأمر بالدعاء، ولعله بتقدير لام الأمر لكثرة الاستعمال، ومن أهل العربية من يجعله جزماً في جواب الطلب لتحقيق التسبب‏.‏ فيكون فيه إيذان بأن الذين في النار واثقون بأن خزنة جهنم إذا دعوا الله استجاب لهم‏.‏ وهذا الجزم شائع بعد الأمر بالقول وما في معناه لهذه النكتة وحقه الرفع أو إظهار لام الأمر‏.‏ وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ في سورة ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏‏.‏

‏(‏وضمّن ‏{‏يخفف‏}‏ معنى ينقص فنصب ‏{‏يوماً،‏}‏ أو هو على تقدير مضاف، أي عذاب يوم، أي مقدار يوم، وانتصب ‏{‏يوماً‏}‏ على المفعول به ل ‏{‏يخفف‏}‏‏.‏

واليومُ كناية عن القلة، أي يخفف عنا ولو زمناً قليلاً‏.‏ و‏{‏مِنَ العَذَابِ‏}‏ بيان ل ‏{‏يوماً‏}‏ لأنه أريد به المقدار فاحتاج إلى البيان على نحو التمييز‏.‏ ويجوز تعلقه ب ‏{‏يخفف‏}‏‏.‏

وجوَابُ خزنة جهنم لهم بطريق الاستفهام التقريري المراد به‏:‏ إظهارُ سوء صنيعهم بأنفسهم إذ لم يتبعوا الرسل حتى وقعوا في هذا العذاب، وتنديمُهم على ما أضاعوه في حياتهم الدنيا من وسائل النجاة من العقاب‏.‏ وهو كلام جامع يتضمن التوبيخ، والتنديم، والتحسير، وبيان سبب تجنب الدعاء لهم، وتذكيرهم بأن الرسل كانت تحذرهم من الخلود في العذاب‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكُم رُسُلُكُم‏}‏ لم يعرج المفسرون على موقعها‏.‏ وهي واو العطف عطف بها ‏(‏خزنة جهنم‏)‏ كلامهم على كلام الذين في النار من قَبيل طريقة عطف المتكلم كلاماً على كلاممٍ صدر من المخاطب إيماء إلى أن حقه أن يكون من بقية كلامه وأن لا يُغفِله، وهو ما يلقب بعطف التلقين كقوله تعالى‏:‏

‏{‏قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ فإن أهل النار إذا تذكروا ذلك علموا وجاهة تنصل خزنة جهنم من الشفاعة لهم، وتفريع ‏{‏فادعو‏}‏ على ذلك ظاهر على كلا التقديرين‏.‏ وهمزة الاستفهام مقدمة من التأخير على التقديرين، لوجوب صدارتها‏.‏

وجملة ‏{‏وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏ يجوز أن تكون من كلام خزنة جهنم تذييلاً لكلامهم يبين أن قولهم‏:‏ ‏{‏فادعو‏}‏ مستعمل في التنبيه على الخطأ، أي دعاؤكم لم ينفعكم لأن دعاء الكافرين في ضلال والواو اعتراضية، ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى تذييلاً واعتراضاً‏.‏

والبينات‏:‏ الحجج الواضحة والدعَوات الصريحة إلى اتباع الهدى‏.‏ فلم يسعهم إلا الاعتراف بمجيء الرسل إليهم بالبينات فقالوا‏:‏ بلى، فرد عليهم خزنة جهنم بالتنصل من أن يدعُوا الله بذلك، إلى إيكال أمرهم إلى أنفسهم بقولهم‏:‏ ‏{‏فادعو‏}‏ تفريعاً على اعترافهم بمجيء الرسل إليهم بالبينات‏.‏

ومعنى تفريعه عليه هو أنه مفرع عليه باعتبار معناه الكِنائي الذي هو التنصل من أن يَدعُوا لهم، أي كما توليتم الإعراض عن الرسل استبداداً بآرائكم فتولَّوا اليومَ أمرَ أنفسكم فادعوا أنتم، فإن «من تولى قُرها يَتولَّى حَرَّها»، فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فادعو‏}‏ مستعمل في الإِباحة أو في التسوية، وفيه تنبيه على خطإِ السائلين في سُؤالهم‏.‏

وزيادة فعل الكَون في ‏{‏أوَلَمْ تَكُ تَأتِيكم‏}‏ للدلالة على أن مجيء الرسل إلى الأمم أمر متقرر محقّق، لما يدل عليه فعل الكَون من الوجود بمعنى التحقق، وأما الدلالة على أن فعل الإِتيان كان في الزمن الماضي فهو مستفاد من ‏(‏لَم‏)‏ النافية في الماضي‏.‏

والضلال‏:‏ الضياع، وأصله‏:‏ خطأ الطريق، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن دعاءهم لا ينفعهم ولا يُقبل منهم، وسواء كان قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا دُعاء الكافرين إلاَّ فِي ضلال‏}‏ من كلام الملائكة أو من كلام الله تعالى فهو مقتض عموم دعائهم لأن المصدر المضاف من صيغ العموم فيقتضي أن دعاء الكافرين غير متقبل في الآخرة وفي الدنيا لأن عموم الذوات يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة‏.‏

وأما ما يوهم استجابة دعاء الكافرين نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 63، 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22، 23‏]‏، فظاهر أن هذه لا تدل على استجابة كرامة ولكنها لتسجيل كفرهم ونكرانهم، وقد يُتوهم في بعض الأحوال أن يَدْعو الكافر فيقع ما طَلبه وإنما ذلك لمصادفة دعائه وقَت إجابة دعاء غيره من الصالحين، وكيف يستجاب دعاء الكافر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم استبعاد استجابة دعاء المؤمن الذي يأكل الحرام ويلبس الحرام في حديث مسلم عن أبي هريرة‏:‏ «ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُطيلُ السَّفَر أشعثَ أَغْبَرَ يُمدُّ يديْه إلى السماء‏:‏ يا رَبِّ يا رَبِّ، ومطعَمُه حَرام ومَشْرَبُه حرام وغُذّي بالحرام فأنَّى يستجاب له»‏.‏ ولهذا لم يقل الله‏:‏ فلما استجاب دعاءهم، وإنما قال‏:‏ فلما نجاهم، أي لأنه قدّر نجاتهم من قبل أن يدعوا أو لأن دعاءهم صادف دعاء بعض المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

كلام مستأنف وهو استخلاص للعبرة من القصص الماضية مسوق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ووعده بحسن العاقبة، وتسلية المؤمنين ووعدهم بالنصر وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏ وذلك أن الكلام من ابتداء السورة كان بذكر مجادلة المشركين في القرآن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وأومأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن شِيَعهم آيلة إلى خسار بقوله‏:‏ ‏{‏فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏، وامتد الكلام في الرد على المجادلين وتمثيل حالهم بحال أمثالهم من الأمم التي آل أمرها إلى خيبة واضمحلال في الدنيا وإلى عذاب دائم في الآخرة ولما استوفى الغرضُ مقتضاه من اطناب البيان بَيّن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عَقِبَه أنه ينصر رسله وَالذين آمنوا في الدنيا كما دل عليه قوله في آخر الكلام ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وقد عُلم من فعل النصر أن هنالك فريقاً منصوراً عليهم الرسلُ والمؤمنون في الدنيا والآخرة، ومن المتعين أنهم الفريقُ المعاند للرسل وللمُؤمنين، فنصر الرسل والمؤمنين عليهم في الدنيا بإظهارهم عليهم وإبادتهم، وفي الآخرة بنعيم الجنة لهم وعذاب النار لأعدائهم‏.‏

والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ لننصر‏}‏ لما فيه من استحضار حالات النصر العجيبة التي وُصفَ بعضها في هذه السورة ووصف بعضٌ آخر في سُور أخرى تقدم نزولها، وإلا فإن نصر الرسل الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم قد مضى ونصْرُ محمد صلى الله عليه وسلم مترقّب غير حاصل حين نزول الآية‏.‏ وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ وبجَعْل المسند فعلياً في قوله‏:‏ ‏{‏لننصر‏}‏ مراعًى فيه حال المعرَّض بهم بأن الله ينصر رسله عليهم وهم المشركون لأنهم كانوا يكذبون بذلك‏.‏

وهذا وعْد للمؤمنين بأن الله ناصرهم على من ظلمهم في الحياة الدنيا بأن يوقع الظالم في سوء عاقبة أو بأن يسلط عليه من ينتقم منه بنحوٍ أو أشدَّ مما ظلَم به مؤمناً‏.‏

والأشهاد‏:‏ جمع شَاهد‏.‏ والقيام‏:‏ الوقوف في الموقف‏.‏ والأشهاد‏:‏ الرسل، والملائكة الحفَظةُ والمؤمنون من هذه الأمة، كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وذلك اليوم هو يوم الحشر، وشهادة الرسل على الذين كفروا بهم من جملة نصرهم عليهم وكذلك شهادة المؤمنين‏.‏

و ‏{‏يومَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُم‏}‏ بدل من ‏{‏يوم يقوم الأشهاد‏}‏ وهو منصوب على البدلية من الظرف‏.‏ والمراد بالظالمين‏:‏ المشركون‏.‏ والمعذرة اسم مَصْدر اعتَذر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا معذرة إلى ربكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏‏.‏

وظاهرُ إضافة المعذرة إلى ضميرهم أنهم تصدر منهم يومئذٍ معذرة يعتذرون بها عن الأسباب التي أوجبت لهم العذاب مثل قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء أضلونا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ وهذا لا ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏ الذي هو في انتفاء الاعتذار من أصله لأن ذلك الاعتذار هو الاعتذار المأذون فيه، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم‏}‏ في سورة ‏[‏الروم‏:‏ 57‏]‏‏.‏

‏(‏وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏لا ينفع‏}‏ بالياء التحتية لأن الفاعل وهو «معذرة» غير حقيقي التأنيث وللفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء الفوقية على اعتبار التأنيث اللفظي‏.‏

و ‏{‏لَهُمُ اللَّعْنَةُ‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لا يَنفَعُ الظالمين معذِرَتُهُم‏}‏ أي ويوم لهم اللعنة‏.‏ واللعنة‏:‏ البعد والطرد، أي من رحمة الله، ‏{‏ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ هي جهنم‏.‏ وتقديم ‏(‏لهم‏)‏ في هاتين الجملتين للاهتمام بالانتقام منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏‏}‏

هذا من أوضح مُثُل نصر الله رسله والذين آمنوا بهم وهو أشبه الأمثال بالنصر الذي قدره الله تعالى للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فإن نصر موسى على قوم فرعون كوَّن الله به أمةً عظيمة لم تكن يؤبه بها وأوتيتْ شريعة عظيمة ومُلكاً عظيماً، وكذلك كان نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكان أعظمَ من ذلك وأكملَ وأشرفَ‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏ولقد ءاتينا موسى الهدى‏}‏ الخ معترضة بين ‏{‏إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلنَا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ وبين التفريع عليه في قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر إن وعد الله حق‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏، وأيّ نصر أعظم من الخلاص من العبودية والقِلة والتبععِ لأمة أخرى في أحكام تلائم أحوال الأمة التابعة، إلى مصير الأمة مالكة أمر نفسها ذات شريعة ملائمة لأحوالها ومصالحها وسيادة على أمم أخرى، وذلك مَثَل المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعدَه وهو إيماء إلى الوعد بأن القرآن الذي كذَّب به المشركون باققٍ موروث في الأمة الإِسلامية‏.‏

والهُدى الذي أوتيه موسى هو ما أوحي إليه من الأمر بالدعوة إلى الدين الحق، أي الرسالة وما أنزل إليه من الشريعة وهي المراد بالكتاب، أي التوراة، وهو الذي أورثه الله بني إسرائيل، أي جعله باقياً فيهم بعد موسى عليه السلام فهم ورثوه عن موسى، أي أخذوه منه في حياته وأبقاه الله لهم بعد وفاته، فإطلاق الإِيراث استعارة‏.‏ وفي ذلك إيذان بأن الكتاب من جملة الهدى الذي أوتيه موسى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، ففي الكلام إيجاز حذف تقديره‏:‏ ولقد آتينا موسى الهدى والكتابَ وأورثنا بني إسرائيل الكتاب، فإن موسى أُوتى من الهدى ما لم يرثه بنو إسرائيل وهو الرسالة وأوتي من الهدى ما أُورثه بنو إسرائيل وهو الشريعة التي في التوراة‏.‏

و ‏{‏هُدىً‏}‏ و‏{‏ذِكْرَى‏}‏ حالان من ‏{‏الكتاب،‏}‏ أي هدى لبني إسرائيل وذكرى لهم، ففيه علم ما لم يعلمه المتعلمون، وفيه ذكرى لما علمه أهل العلم منهم، وتشمل الذكرى استنباط الأحكام من نصوص الكتاب وهو الذي يختص بالعلماء منهم من أنبيائهم وقضاتهم وأحبارهم، فيكون ‏{‏لأُوْلِي الألباب‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏ذكرى‏}‏‏.‏

وأولو الألباب‏:‏ أولو العقول الراجحة القادرة على الاستنباط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏إنَّا لنَنصُر رُسُلنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ أي فاعلم أنّا ناصروك والذين آمنوا واصبر على ما تلاقيه من قومك ولا تهن‏.‏

وجملةُ‏:‏ ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ تعليل للأمر بالصبر‏.‏ و‏{‏إنّ للاهتمام بالخبر وهي في مثل هذا المقام تغني غناء فاء التعليل فكأنه قيل‏:‏ فوعد الله حق ويفاد بأن التأكيد الذي هو للاهتمام والتحقيق‏.‏

ووعد الله هو وعد رسوله بالنصر في الآية السابقة وفي غير ما آية‏.‏ والمعنى لا تستبطئ النصر فإنه واقع، وذلك ما نصر به النبي في أيامه على المشركين يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وفي أيام الغزوات الأخرى‏.‏ وما عرض من الهزيمة يوم أُحُد كان امتحاناً وتنبيهاً على سوء مغبة عدم الحفاظ على وصية الرسول أن لا يبرحوا من مكانهم ثم كانت العاقبة للمؤمنين‏.‏

وعُطف على الأمر بالصبر الأمرُ بالاستغفار والتسبيح فكانَا داخلين في سياق التفريع على الوعد بالنصر رمزٌ إلى تحقيق الوعد لأنه أَمَرَ عقبه بما هو من آثار الشكر كنايةً عن كون نعمة النصر حاصلة لا محالة، وهذه كناية رمزية‏.‏

والأمر بالاستغفار أمر بأن يطلب من الله تعالى المغفرة التي اقتضتها النبوءة، أي اسأل الله دوام العصمة لتدوم المغفرة، وهذا مقام التخلية عن الأكدار النفسية، وفيه تعريض بأن أمته مطلوبون بذلك بالأحرى كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركتَ ليحبطن عملك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالاستغفار تعبداً وتأدباً‏.‏ وأمر بتسبيح الله تعالى وتنزيهه بالعشي والإِبكار، أي الأوقات كلها فاقتصر على طرفي أوقات العمل‏.‏

والعشيّ‏:‏ آخر النهار إلى ابتداء ظلمة الليل، ولذلك سمي طعام الليل عشاء، وسميت الصلاة الأخيرة بالليل عشاء‏.‏ والإِبكار‏:‏ اسم لبُكرة النهار كالإِصباح اسم للصباح، والبكرة أول النهار، وتقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏أن سبحوا بكرة وعشياً‏}‏ في سورة ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وتقدم العشيّ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وهذا مقام التحَلِّي بالكمالات النفسية وبذلك يتم الشكر ظاهراً وباطناً‏.‏ وجُعل الأمران معطوفين على الأمر بالصبر لأن الصبر هنا لانتظار النصر الموعود، ولذلك لم يؤمر بالصبر لمَّا حصَل النصر في قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاء نَصْرُ الله والفَتْحُ ورَأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلونَ في دِين الله أفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1 3‏]‏ فإن ذلك مقام محض الشكر دون الصبر‏.‏

وقد أخبر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما في أول سورة الفتح، فتعين أن أمره بالاستغفار في سورة غافر قبلَ أن يخبره بذلك، لطلب دوام المغفرة، وكان أمره به في سورة النصر بعدَ أن أخبره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، للارشاد إلى شكر نعمة النصر، وقد قال بعض الصحابة للنبيء صلى الله عليه وسلم في شأن عبادته‏:‏ إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال؛ «أفلا أكون عبداً شكوراً»‏.‏ وكان يُكثر أن يقول في سجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»‏.‏ بعد نزول سورة ‏{‏إذَا جَاءَ نَصْرُ الله‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1‏]‏ قالت عائشة رضي الله عنها يتأول القرآن‏.‏ وبحكم السياق تعلم أن الآية لا علاقة لها بفرض الصلاة ولا بأوقاتها وإنما هي على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ واستَغْفره‏}‏ في سورة ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يجادلون فى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم إِن فِى صُدُورِهِمْ إلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبلِغِهِ‏}‏‏.‏

جرى الكلام من أول السورة إلى هنا في مَيدان الرد على مجادلة المشركين في آيات الله ودَحض شُبههم وتوعدهم على كفرهم وضرب الأمثال لهم بأمثالهم من أهل العناد ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏، كما ذُكرت أمثال أضدادهم من أهل الإِيمان من حَضَر منهم ومَن غَبَرَ من قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا وسلطان مبين إلى فرعون ‏[‏هود‏:‏ 96، 97‏]‏ ثم قوله‏:‏ وقال رجل مؤمن من ءال فرعون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏، وخُتم ذلك بوعد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر كما نُصر النبيئون من قبله والذين آمنوا بهم، وأُمر بالصبر على عناد قومه والتوجه إلى عبادة ربه، فكان ذكر الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان عقب ذلك من باب المثل المشهور‏:‏ «الشيء بالشيء يُذكر»‏.‏

وبهذه المناسبة انتقل هنا إلى كشف ما تكنه صدور المجادلين من أسباب جدالهم بغير حق، ليَعلم الرسول صلى الله عليه وسلم دخيلتهم فلا يحسب أنهم يكذبونه تنقصاً له ولا تجويزاً للكذب عليه، ولكن الذي يدفعهم إلى التكذيب هو التكبر عن أن يكونوا تبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم ووراء الذين سبقوهم بالإِيمان ممن كانوا لا يعبَأون بهم‏.‏ وهذا نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏‏.‏

‏(‏فقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذينَ يُجادلُونَ في ءاياتت الله‏}‏ الآية استئناف ابتدائي وهو كالتكرير لِجملة ‏{‏الذين يجادلون في ءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ تكرير تعداد للتوبيخ عند تنهية غرض الاستدلال كما يوقَّف الموبخ المرة بعد المرة‏.‏ و‏{‏الذِينَ يجادلون‏}‏ هم مشركو أهل مكة وهم المخبَر عنهم في قوله أولَ السورة‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ومعنى المجادلة في آيات الله تقدم هنالك‏.‏

ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ سلطان‏}‏ ب ‏{‏يجادلون‏.‏‏}‏ والباء للمصاحبة، أي مصاحب لهم غير سلطان، أي غير حجة، أي أنهم يجادلون مجادلة عناد وغصْب‏.‏

وفائدة هذا القيد تشنيع مجادلتهم وإلا فإن المجادلة في آيات الله لا تكون إلا بغير سلطان لأن آيات الله لا تكون مخالفة للواقع فهذا القيد نظير القيد في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 50‏]‏، وكذلك وصف ‏{‏سلطان‏}‏ بجملة ‏{‏أتاهم‏}‏ لزيادة تفظيع مجادلتهم بأنها عرية عن حجة لديهم فهم يجادلون بما ليس لهم به علم، وتقدم نظير أول هذه الآية في أثناء قصة موسى وفرعون في هذه السورة‏.‏

و ‏{‏إنْ في قوله‏:‏ إن في صُدُورِهم إلاَّ كِبْرٌ‏}‏ نافية والجار والمجرور خبر مقدم، والاستثناء مفرّغ، و‏{‏كبر‏}‏ مبتدأ مؤخَّر، والجملة كلها خبر عن ‏{‏الَّذِينَ يُجادلون‏}‏‏.‏

وأطلق الصدور على القلوب مجازاً بعلاقة الحلول، والمراد ضمائر أنفسهم، والعرب يطلقون القلب على العقل لأن القلب هو الذي يحس الإِنسان بحركته عند الانفعالات النفسية من الفرح وضده والاهتماممِ بالشيء‏.‏ والكِبْر من الانفعالات النفسية، وهو‏:‏ إدراك الإِنسان خواطر تشعره بأنه أعظم من غيره فلا يرضى بمساواته بَلْهَ متابعته، وتقدم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إبليس أبى واستكبر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ ما يحملهم على المجادلة في آيات الله إلا الكِبر على الذي جاءهم بها وليست مجادلتهم لدليل لاح لهم‏.‏ وقد أثبت لهم الكبرَ الباعثَ على المجادلة بطريق القصر ليُنفَى أن يكون داعيهم إلى المجادلة شيء آخر غير الكِبْر على وجه مؤكد، فإن القصر تأكيد على تأكيد لما يتضمنه من إثبات الشيء بوجه مخصوص مؤكِّد، ومن نفي ما عداه فتضمن جملتين‏.‏

وجملة ‏{‏ما هُمْ بِبالِغِيه‏}‏ يجوز أن تكون معترضة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة ل ‏{‏كبر‏.‏‏}‏ وحقيقة البلوغ‏:‏ الوصول، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلى بلد لم تكونوا بالغيبة إلا بشق الأنفس‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 7‏]‏ ويطلق على نوال الشيء وتحصيله مجازاً مرسلاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما بلغوا معشار ما آتيناهم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 45‏]‏ وهو هنا محمول على المعنى المجازي لا محالة، أي ما هم ببالغي الكِبر‏.‏

وإذ قد كان الكبر مثبتاً حصوله في نفوسهم إثباتاً مؤكداً بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ في صُدُورهم إلاَّ كِبرٌ‏}‏، تعيّن أن نفي بلوغهم الكِبر منصرف إلى حالات الكِبر‏:‏ فإما أن يراد نفي أهليتهم للكبر إذ هم أقل من أن يكون لهم الكبر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ أي لا عزة حقاً لهم، فالمعنى هنا‏:‏ كِبْر زيفٌ، وإما أن يراد نفي نوالهم شيئاً من آثار كِبْرهم مثل تحقير الذين يتكبرون عليهم مثل احتقار المتكبر عليهم ومخالفتهم إياهم فيما يدعونهم إليه فضلاً عن الانتظام في سلك اتباعهم، وإذلالهم، وإفْحام حجتهم، فالمعنى‏:‏ ما هم ببالغين مرادهم الذي يأملونه منك في نفوسهم الدالة عليه أقوالهم مثل قولهم‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ ونحو ذلك من أقوالهم الكاشفة لآمالهم‏.‏

فتنكير‏:‏ ‏{‏كبر‏}‏ للتعظيم، أي كبر شديد بتعدد أنواعه، وتمكنه من نفوسهم، فالضمير البارز في ‏{‏ببالغيه‏}‏ عائد إلى الكبر على وجه المجاز بعلاقة السببية أو المسببية، والداعي إلى هذا المجاز طلب الإِيجاز لأن تعليق نفي البلوغ باسم ذات الكبر يشمل جميع الأحوال التي يثيرها الكِبر، وهذا من مقاصد إسناد الأحكام إلى الذوات إن لم تقم قرينة على إرادة حالة مخصوصة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نحن قسمنا بينهم معيشتهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏ أي جميع أحوال معيشتهم‏.‏ فشمل قوله‏:‏ ‏{‏ما هم ببالغيه‏}‏ عدم بلوغهم شيئاً مما ينطوي عليه كِبرُهم، فما بلغوا الفضل على غيرهم حتى يتكبروا، ولا مطمع لهم في حصول آثار كبرهم، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وقد نُفي أن يبلغوا مرادهم بصوغه في قالب الجملة الاسمية لإِفادتها ثبات مدلولها ودوامه، فالمعنى، أنهم محرومون من بلوغه حرماناً مستمراً، فاشتمل تشويه حالهم إثباتاً ونفياً على خصوصيات بلاغية كثيرة‏.‏ ومن المفسرين من جعل مَا صَدْقَ‏:‏ ‏{‏الذين يجادلون في ءايات الله‏}‏ هنا اليهودَ، وجعله في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏، وارتقى بذلك إلى القول بأن هذه الآية مدنية ألحقت بالسورة المكية كما تقدم في مقدمة تفسير السورة، وأيدوا تفسيرهم هذا بآثار لو صحت لم تكن فيها دلالة على أكثر من صلوحية الآية لأن تُضرب مثلاً لكل فريق يجادلون في آيات الله بغير سلطان جدالاً يدفعهم إليهم الكبر‏.‏

‏{‏ببالغيه فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏

لما ضمن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن الذين يجادلونه فيما جاءهم به يحدوهم إلى الجدال كبرهم المنطوي على كيدهم وأنهم لا يبلغون من أضمروه وما يضمرونه، فَرّع على ذلك أن أَمَرَه بأن يجعل الله معاذه منهم، أي لا يعبأ بما يبيتونه، أي قدم على طلب العوذ بالله‏.‏ وحذف متعلق ‏(‏استعذ‏)‏ لقصد تعميم الاستعاذة من كل ما يخاف منه‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّه هوَ السَّمِيع البصِير‏}‏ تعليل للأمر بالدوام على الاستعاذة، أي لأنه المطلع على أقوالهم وأعمالهم وأنت لا تحيط علماً بتصاريف مكرهم وكيدهم‏.‏

والتوكيد بحرف ‏(‏إنّ‏)‏، والحصرُ بضمير الفصل مراعى فيه التعريض بالمتحدث عنهم وهم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه هو القادر على إبطال ما يصنعونه لا أنت فكيف يتم لهم ما أضمروه لك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

مناسبة اتصال هذا الكلام بما قبله أن أهم ما جادلوا فيه من آيات الله هي الآيات المثبِتة للبعث وجدالهم في إثبات البعث هو أكبر شبهة لهم ضللت أنفسهم وروجوها في عامَّتهِم فقالوا‏:‏ ‏{‏أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فكانوا يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك ‏{‏وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على اللَّه كذباً أم به جنة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7، 8‏]‏، ولما كانوا مقرّين بأن الله هو خالق السماوات والأرض أقيمت عليهم الحجة على إثبات البعث بأنّ بعْث الأموات لا يبلغ أمره مقدار أمر خلق السماوات والأرض بالنسبة إلى قدرة الله تعالى‏.‏ والكلام مؤذن بقَسَم مقدّر لأن اللام لام جواب القسم، والمقصود‏:‏ تأكيد الخبر‏.‏

ومعنى ‏{‏أكبر‏}‏ أنه أعظم وأهم وأكثر متعلَّقاتتِ قدرة بالقادر عليه لا يعجز عن خلق ناس يبعثهم للحساب‏.‏

فالمراد بالناس في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ خَلْققِ النَّاسِ‏}‏ الذين يعيد الله خلقتهم كما بدأهم أول مرة ويودع فيهم أرواحهم كما أودعها فيهم أول مرة‏.‏ والخبر مستعمل في غير معناه لأن كون خلقها أكبر هو أمر معلوم وإنما أريد التذكير والتنبيه عليه لعدم جريهم على موجَب علمهم به‏.‏

وموقع الاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرَ النَّاسسِ لا يعلَمُون‏}‏ ما اقتضاه التوكيد بالقَسَم من اتضاح أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن حجة إمكان البعث واضحة ولكن الذين ينكرونها لا يعلمون، أي لا يعلمون الدليل لأنهم متلاهون عن النظر في الأدلة مقتنعون ببادئ الخواطر التي تبدو لهم فيتخذونها عقيدة دون بحث عن معارضها، فلما جرَوا على حالة انتقاء العلم نُزلوا منزلة من لا علم لهم فلذلك نزل فعل ‏{‏يعلمون‏}‏ منزلة اللازم ولم يذكر له مفعول‏.‏

فالمراد ب ‏{‏أكثَرَ النَّاسِ‏}‏ هم الذين يجادلون في آيات البعث وهم المشركون، وأما الذين علموا ذلك فهم المؤمنون وهم أقل منهم عدداً‏.‏ وإظهار لفظ ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثَر النَّاس لا يعلمون‏}‏ مع أن مقتضى الظاهر الإضمار، لتكون الجملة مستقلة بالدلالة فتصلح لأن تَسير مسير الأمثال، فالمعنى أنهم أنكروا البعث لاستبعادهم خلق الأجسام مع أن في خلق السماوات والأرض ما لا يبقَى معه استبعاد مثل ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

لما نزّلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلاً لهم وللمؤمنين، فمثَل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مَثَل الأعمى، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة ‏{‏أكثر الناس‏}‏ لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين الذين تضمنهما قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثرَ النَّاسسِ لا يعلَمون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏‏.‏

‏(‏ونفيُ الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ الآية في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصَر أشرف من العمى في شخص واحد، ونفي الاستواء بدون متعلِّق يقتضي العموم في متعلقاته، لكنه يُخص بالمُتعلِّقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته، ويسمى مثل هذا العموم العمومَ العرفي، وتقدم نظيرها في سورة فاطر ‏[‏19‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذينَ ءامنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتتِ ولا المُسِيء‏}‏ زيادة بيان لفضيلة أهل الإِيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإِيمان‏.‏ والمعنى‏:‏ وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله‏:‏ ‏{‏وعَمِلُوا الصَّالِحَاتتِ وَلا المُسِيء‏}‏، وفيه إيماء إلى اختلاف جزاء الفريقين وهذا الإِيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا‏}‏ عاطفةٌ الجملةَ على الجملة بتقدير‏:‏ وما يستوي الذين آمنوا‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏ولا المُسِيء‏}‏ عاطفة ‏{‏المسيء‏}‏ على ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ عطفَ المفرد على المفرد، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة، والمشبهَ بالبصير أشرفُ من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون، فقدم ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهمّ في المقام بيانَ حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا وعَمِلوا الصَّالحاتتِ ولا المُسِيء‏}‏ فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماماً بشرف المؤمنين‏.‏

وأعيدت ‏(‏لا‏)‏ النافية بعد واو العطف على النفي، وكان العطف مغنياً عنها فإعادتها لإِفادة تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإِطناب، ولذلك تُعدّ ‏(‏لا‏)‏ في مثله زائدة كما في «مغني اللبيب»، وكان الظاهر أن تقع ‏(‏لا‏)‏ قبل ‏(‏الذين آمنوا‏)‏، فعدُل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عَمِل الصالحات، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مُقتضي للعدول عنه بعد أن قُضي حق الاهتمام بالذين سبق الكلام لأجل تمثيلهم، فحصل في الكلام اهتمامان‏.‏

وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل‏:‏ اثنتين قُدّم فيهما جانب تشبيه الكافرين، واثنتين قُدّم فيهما تشبيه جانب المؤمنين، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19 22‏]‏‏.‏

و ‏{‏قليلاً‏}‏ حال من ‏{‏أكْثَرَ النَّاسِ‏}‏ في قوله تعالى قبله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏، و‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَتَذَكَّرون‏}‏ مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية‏.‏ وهذا مؤكد لمعنى قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعْلَمُون‏}‏ لأن قلة التذكر تؤول إلى عدم العلم، والقلةُ هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكروا تذكراً لا يتممونه فينقطعون في أثنائه عن التعمّق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يَتَذَكَّرون بياء الغيبة جرياً على مقتضى ظاهر الكلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف تتذكرون‏}‏ بتاء الخطاب على الالتفات، والخطاب للذين يجادلون في آيات الله‏.‏

وكون الخطاب لجميع الأمة من مؤمنين ومشركين وأن التذكر القليل هو تذكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لعدم تذكر المشركين بعيد عن سياق الردّ ولا يلاقي الالتفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

لما أُعطي إثبات البعث ما يحق من الحجاج والاستدلال، تهيأَ المقام لاستخلاص تحقيقه كما تُستخلص النتيجة من القياس، فأُعلن بتحقيق مجيء ‏{‏الساعة‏}‏ وهي ساعة البعث إذ ‏{‏الساعة‏}‏ في اصطلاح الإسلام علَم بالغلَبة على ساعة البعث، فالساعة والبعث مترادفان في المآل، فكأنه قيل‏:‏ إن الذي جادل فيه المجادلون سيقع لا محالة إذ انكشفت عنه شبه الضالّين وتمويهاتُهم فصار بيّناً لا ريب فيه‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ ولام الابتداء لزيادة التحقيق، وللإِشارة إلى أن الخبر تحقق بالأدلة السابقة‏.‏ وذلك أن الكلام موجه للذين أنكروا البعث، ولهذا لم يؤت بلام الابتداء في قوله في سورة ‏[‏طه‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏إن الساعة آتية‏}‏ لأن الخطاب لموسى عليه السلام‏.‏

وجيء باسم الفاعل في ‏{‏آتية‏}‏ الذي هو حقيقة في الحال، للإِيماء إلى أنها لما تحققت فقد صارت كالشيء الحاضر المشاهد‏.‏ والمراد تحقيق وقوعها لا الإِخبار عن وقوعها‏.‏

وجملة ‏{‏لَّا رَيْبَ فِيهَا‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏إنَّ السَّاعة لأتِيَةٌ‏}‏، ونُفِي الريب عن نفس الساعة، والمراد نفيه عن إتيانها لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏آتية‏}‏ على ذلك‏.‏

ومعنى نفي الريب في وقوعها‏:‏ أن دلائلها واضحة بحيث لا يُعتد بريب المرتابين فيها لأنهم ارتابوا فيها لعدم الرِويَّةِ والتفكر، وهذا قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

فموقع الاستدراك الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ هو ما يثيره نفي الريب عن وقوعها من أن يتساءل متسائل كيف ينفي الريب عنها والريب حاصل لكثير من الناس، فكان الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ جواباً لذلك السؤال‏.‏ والمعنى‏:‏ ولكن أكثر الناس يمرون بالأدلة والآيات وهم معرضون عن دلالتها فيبقون غيرَ مؤمنين بمدلولاتها ولو تأملوا واستنبطوا بعقولهم لظهر لهم من الأدلة ما يؤمنون بعده، فلذلك نفي عنهم هنا وصف الإِيمان‏.‏

وهذا الاستدراك استئناف بياني، ولولا أن ‏(‏لكنَّ‏)‏ يكثر أن تقع بعد واو العطف لكانت الجملة جديرة بالفصل دون عطف، فهذا العطف تحلية لفظية‏.‏

و ‏{‏أكثر النَّاسِ‏}‏ هم المشركون، وهم يومئذٍ أكثر من المؤمنين جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

لما كانت المجادلة في آيات الله تشمل مجادلتهم في وحدانية الإِلهية كما دل عليه قوله الآتي، ‏{‏ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون اللَّه قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 73، 74‏]‏، فجَعل ‏{‏لم نكن ندعوا‏}‏ نقيض ما قيل لهم ‏{‏أين ما كنتم تشركون‏}‏، وتشمل المجادلَة في وقوع البعث كما دل عليه قوله بعدَ هذه ‏{‏ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات اللَّه أنى يصرفون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 69 71‏]‏ الآية، أُعقب ذكر المجادلة أولاً بقوله‏:‏ ‏{‏لَخَلق السموات والأرضضِ أكْبرُ من خَلققِ النَّاس‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ وذلك استدلال على إمكان البعث، ثم عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِب لكُم‏}‏ الآية تحذيراً من الإِشراك به، وأيضاً لما ذُكر أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده أمراً مفرّعاً على توبيخ المشركين بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم بأنَّه إذَا دُعيَ الله وحْدَه كَفَرتم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ وعلى قوله عقب ذلك‏:‏ ‏{‏ومَا يتذكَّرُ إلاَّ مَن يُنيب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 13‏]‏ وانتقَل الكلام أثر ذلك إلى الأَهمّ وهو الأمر بإنذار المشركين بقوله‏:‏ ‏{‏وأنذِرْهُم يَومَ الأزِفَة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ الخ، وتتابعت الأغراض حتى استوفت مقتضاها، عاد الكلام الآن إلى ما يشمل عبادة المؤمنين الخالصةَ لله تعالى وهو أيضاً متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ومَا دَعاؤُا الكافرين إلاَّ في ضلال‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فلما تقدم ذكر الدعاء بمعنييه‏:‏ معنى العبادة، ومعنى سُؤال المطلوب، أردف بهذا الأمر الجامع لكلا المعنيين‏.‏

والقول المخبَر عنه بفعل‏:‏ ‏{‏قال ربكم‏}‏ يجوز أن يراد به كلام الله النفسي، أي ما تعلقت إرادة الله تعلقاً صلاحياً، بأن يقوله عند إرادة تكوينه، ويجوز أن يراد القول اللفظي ويكون التعبير ب ‏(‏قال‏)‏ الماضي إخباراً عن أقوال مضت في آيات قبل نزول هذه الآية مثل قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا اللَّه مخلصين له الدين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏أجيب دعوة الداعِ إذ دعان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ فإنه نزل بعد هذه الآية، ويجوز أن يكون الماضي مستعملاً في الحال مجازاً، أي يقول ربكم‏:‏ ادعوني‏.‏

والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمُنَادَى، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ الدعاء هو العبادة ‏"‏ ثم قرأ ‏{‏وقَالَ ربُّكم ادعُوني أستَجِب لكم إنَّ الذِّين يستَكبرون عَن عبادتي سيَدخلُون جهنَّم داخِرين‏}‏ رواه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، فإن قوله‏:‏ «الدعاء هو العبادة» يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة‏.‏ فالدعاء يطلق على سؤال العبد من الله حاجته وهو ظاهر معناه في اللغة، ويطلق على عبادة الله على طريق الكناية لأن العبادة لا تخلو من دُعاء المعبود بنداءِ تعظيمه والتضرع إليه، وهذا إطلاق أقل شيوعاً من الأول، ويراد بالعبادة في اصطلاح القرآن إفراد الله بالعبادة، أي الاعتراف بوحدانيته‏.‏

والاستجابة تطلق على إعطاء المسؤول لمن سأله وهو أشهر إطلاقها وتطلق على أثر قبول العبادة بمغفرة الشرك السابق وبحصول الثواب على أعمال الإِيمان فإفادة الآية على معنى طلب الحاجة من الله يناسب ترتب الاستجابة على ذلك الطلب معلقاً على مشيئة الله أو على استيفاء شروط قبول الطلب، وإعطاء خير منه في الدنيا، أو إعطاء عوض منه في الآخرة‏.‏ وإفادتها على معنى إفراد الله بالعبادة، أي بأن يتوبوا عن الشرك، فترتب الاستجابة هو قبول ذلك، فإن قبول التوبة من الشرك مقطوع به‏.‏

فلما جمعت الآية بين الفعلين على تفاوت بين شيوع الإِطلاق في كليهما علمنا أن في المعنى المراد ما يشبه الاحتباك بأن صرح بالمعنى المشهور، في كلا الفعلين ثم أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين يَسْتكبرون عَن عِبادي،‏}‏ فعلمنا أن المراد الدعاء والعبادة، وأن الاستجابة أريد بها قبول الدعاء وحصول أثر العبادة‏.‏ ففعل ‏{‏ادعوني‏}‏ مستعمل في معنييه بطريقة عموم المشترك‏.‏

وفعل ‏{‏أستجب‏}‏ مستعمل في حقيقته ومجازه، والقرينة ما علمتَ، وذلك من الإِيجاز والكلاممِ الجامع‏.‏

وتعريف الله بوصف الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين لما في هذا الوصف وإضافتِه من الإِيماء إلى وجوب امتثال أمره لأن من حق الربوبية امتثال ما يأمر به موصوفها لأن المربوبَ محقوق بالطاعة لربه، ولهذا لم يعرج مع هذا الوصف على تذكير بنعمته ولا إشارة إلى كمالات ذاته‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّ الذين يَسْتكبرون عن عِبادَتي سيدخلون جهنَّم‏}‏ تعليل للأمر بالدعاء تعليلاً يفيد التحذير من إباية دعاء الله حين الإِقبال على دعاء الأصنام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم بأنَّه إذا دُعِي الله وحْدَه كفرتم وإن يُشرك به تُؤْمنوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ وكان المشركون لا يضرعون إلى الله إلا إذا لم يتوسموا استجابة شركائهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نجاكم إلى البر أعرضتم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏‏.‏ ومعنى التعليل للأمر بالدعاء بهذا التحذير‏:‏ أن الله لا يحب لعباده ما يفضي بهم إلى العذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يرضى لعباده الكفر‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏ ففي الآية دليل على طلب الله من عباده أن يدعوه في حاجاتهم‏.‏

ومشروعية الدعاء لا خلاف فيها بين المسلمين وإنما الخلاف في أنه ينفع في رد القدر أو لا‏؟‏ وهو خلاف بيننا وبين المعتزلة‏.‏ وليس في الآية حجة عليهم لأنهم تأولوا معنى ‏{‏أستجِبْ لكم‏}‏، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب‏}‏ الآية في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏، وفي الإتيان بالموصول إيماء إلى التعليل‏.‏

و ‏{‏داخرين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏سيدخلون‏}‏ أي أذلة، دخَر كمنَع وفرِح‏:‏ صغر وذلّ، وتقدم قوله‏:‏ ‏{‏سجداً للَّه وهم داخرون‏}‏ في سورة ‏[‏النحل‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سيدخلون‏}‏ بفتح التحتية وضم الخاء‏.‏ وقرأه أبو جعفر ورويس عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب، أي سيدخلهم ملائكة العذاب جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون اسم الجلالة بدلاً من ‏{‏ربكم‏}‏ في ‏{‏وَقَال ربُّكُمُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ اتبع ‏{‏ربكم‏}‏ بالاسم العلم ليُقضَى بذلك حقّان‏:‏ حق استحقاقه أن يطاع بمتقضى الربوبية والعبودية، وحقُّ استحقاقه الطاعة لصفات كماله التي يجمعها اسم الذات‏.‏ ولذلك لم يؤت مع وصف الرب المتقدم بشيء من ذكرِ نعمِهِ ولا كمالاته اجتزاء بمقتضى حق الربوبية، وذكر مع الاسم العلَم بعض إنعامه وإفضاله ثم وُصف الاسم بالموصول وصلته إشارةً إلى بعض صفاته، وإيماءً إلى وجه الأمر بعبادته، وتكون الجملة استنئافاً بيانياً ناشئاً عن تقوية الأمر بدعائه‏.‏ ويجوز أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول صفة له ويكون الخبر قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏ ويكون جملة ‏{‏إنَّ الله لَذُو فَضلٍ‏}‏ معترضة، أو أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصولُ خبراً‏.‏

واعتبار الجملة مستأنفة أحسن من اعتبار اسم الجلالة بدلاً لأنه أنسب بالتوقيف على سوء شكرهم، وبمقام تعداد الدلائل وأسعد بقوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَل لكم الأرْضَ قَرَاراً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏، فتكون الجملة واقعة موقع التعليل لجملة ‏{‏إنَّ الذين يستَكْبِرون عن عِبَادتي سيدخلون جَهنَّم دَاخِرِين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، أي تسببوا لأنفسهم بذلك العقاب لأنهم كفروا نعمة الله إذ جعل لهم الليل والنهار‏.‏ وعلى هذه الاعتبارات كلها فقد سجلت هذه الآية على الناس تقسيمهم إلى‏:‏ شاكر نعمة، وكفورها، كما سجلت عليهم الآية السابقة تقسيمهم إلى‏:‏ مؤمن بوحدانية الله، وكافر بها‏.‏

وهذه الآية للتذكير بنعمة الله تعالى على الخلق كما اقتضاه لام التعليل في قوله‏:‏ ‏{‏أَسْتَجِبْ‏}‏ واقتضاه التذييل بقوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الله لَذُو فَضْللٍ على النَّاسسِ ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسسِ لا يَشْكُرون‏.‏‏}‏ وأدمج في التذكير بالنعمة استدلال على انفراده تعالى بالتصرف بالخلق، والتدبير الذي هو مُلازم حقيقة الإِلهية‏.‏

وابتدئ الاستدلال بدلائل الأكوان العلوية وآثارها الواصلة إلى الأكوان السفلية، وهي مظهر النعمة بالليل والنهار فهما تكوينان عظيمان دالاّن على عظيم قدرة مُكونهما ومنظِّمهما وجاعلهما متعاقبين، فنيطت بهما أكثر مصالح هذا العالم ومصالح أهله، فمن مصالح العالم حصول التعادل بين الضياء والظلمة، والحرارةِ والبرودة لتكون الأرض لائقة بمصالح مَن عليها فتنبت الكلأ وتنضج الثمار، ومن مصالح سكان العالم سكون الإِنسان والحيوان في الليل لاسترداد النشاط العصبي الذي يُعييه عمل الحواس والجسد في النهار، فيعود النشاط إلى المجموع العصبي في الجسد كله وإلى الحواس، ولولا ظلمة الليل لكان النوم غير كامل فكانَ عود النشاط بطيئاً وواهناً ولعاد على القوة العصبية بالانحطاط والاضمحلال في أقرب وقت فلم يتمتع الإنسان بعمر طويل‏.‏ ومنها انتشار الناس والحيوان في النهار وتبيّن الذوات بالضياء، وبذلك تتم المساعي للناس في أعمالهم التي بها انتظام أمر المجتمع من المدن والبوادي، والحضر والسفر، فإن الإنسان مدني بالطبع، وكادح للعمل والاكتساب، فحاجته للضياء ضرورية ولولا الضياء لكانت تصرفات الناس مضطربة مختبطة‏.‏

وللتنويه بشأن إبصار الناس في الضياء وكثرة الفوائد الحاصلة لهم من ذلك أُسند الإِبصار إلى النهار على طريقة المجاز العقلي لقوة الملابسة بين الأفعال وزمانها، فأسند إبصار الناس إلى نفس النهار لأنه سبب بعضه وسبب كمال بعض آخر‏.‏ فأما نعمة السكون في الليل فهي نعمة واحدة هي رجوع النشاط‏.‏

وفي ذكر الليل والنهار تذكير بآية عظيمة من المخلوقات وهي الشمس التي ينشأ الليل من احتجاب أشعتها عن نصف الكرة الأرضية وينشأ النهار من انتشار شعاعها على النصف المقابل من الكرة الأرضية، ولكن لما كان المقصد الأول من هذه الآية الامتنان ذَكَر الليل والنهار دون الشمس، وقد ذكرت الشمس في آيات أخرى كان الغرض الأهمّ منها الدلالة على عظيم القدرة والوحدانية كقوله‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏

ودلت مقابلةُ تعليل إيجاد الليل بعلة سكون الناس فيه، بإسناد الإِبصار إلى ذات النهار على طريقة المجاز العقلي وإنما المبصرون الناس في النهار، على احتباك إذ يفهم من كليهما أن الليل ساكن أيضاً، وأن النهار خُلق ليُبصِرَ الناسُ فيه إذ المنة بهما سواء، فهذا من بديع الإِيجاز مع ما فيه من تفنن أسلوبي الحقيقة والمجاز العقلي‏.‏ ولم يعكس فيُقَلْ‏:‏ جَعل لكم الليل ساكناً والنهار لتبصروا فيه، لئلا تفوت صراحة المراد من السكون كيلاً يُتوهم أن سكون الليل هو شدة الظلام فيه كما يقال‏:‏ ليل سَاج، لقلة الأصوات فيه‏.‏

وتقدم الكلام على الليل والنهار في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏، وفي مواضع أخرى‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّ الله لَذُو فَضْللٍ على النَّاسِ‏}‏ اعتراض هو كالتذييل لجملة ‏{‏الله الَّذِي جَعلَ لكُمُ الليَّلَ لِتَسْكنوا فِيه‏}‏ لأن الفضل يشمل جعل الليل والنهار وغير ذلك من النعم، ولأن ‏{‏الناس‏}‏ يعمّ المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ‏}‏ وغيرَهم من الناس‏.‏

وتنكير ‏{‏فضل‏}‏ للتعظيم لأن نعم الله تعالى عظيمة جليلة ولذلك قال‏:‏ ‏{‏لَذُو فَضْلٍ‏}‏ ولم يقل‏:‏ لمتفضل، ولا لَمُفْضِل، فعُدل إلى إضافة ‏(‏ذو‏)‏ إلى ‏{‏فضل‏}‏ لتأتِّي التنكير المشعر بالتعظيم‏.‏ وعدل عن نحو‏:‏ له فضل، إلى ‏{‏لَذُو فَضْلٍ‏}‏ لما يدل عليه ‏(‏ذو‏)‏ من شرف ما يضاف هو إليه‏.‏

والاستدراك ب ‏{‏لكن‏}‏ ناشئ عن لازم ‏{‏ذو فضل على الناس‏}‏ لأن الشأن أن يشكر الناس ربّهم على فضله فكان أكثرهم كافراً بنعمه، وأيّ كفر للنعمة أعظم من أن يتركوا عبادة خالقهم المتفضللِ عليهم ويعبدوا ما لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً‏.‏

وخرج ب ‏{‏أكْثَر النَّاسِ‏}‏ الأقلُّ وهم المؤمنون فإنهم أقل ‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏‏.‏ والعدول عن ضمير ‏(‏الناس‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر النَّاسسِ لا يَشْكُرون‏}‏ إلى الاسم الظاهر ليتكرر لفظ الناس عند ذكر عدم الشكر كما ذكر عند التفضل عليهم فيسجل عليهم الكفران بوجه أصرح‏.‏

وقد علمتَ مما تقدم وجه اختلاف المنفيَّات في قوله‏:‏ ‏{‏ولكنَّ أكثر النَّاسسِ لا يعْلَمُون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولكِنَّ أكثر النَّاس لاَ يؤمنون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 59‏]‏ وقوله‏:‏ ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏، فقد أُتبع كل غرض أريد إثباته بما يناسب حال منكريه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

اتصل الكلام على دلائِل التفرد بالإِلهية من قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكُم خالق كلِّ شَيءٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مُخْلِصين له الدِّينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62 65‏]‏ اتصالَ الأدلة بالمستدل عليه‏.‏

والإِشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏الله الَّذِي جَعَلَ لَكُم الليْلَ لِتَسْكنوا فِيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وعدل عن الضمير إلى اسم الإِشارة لإِفادة أنه تعالى معلوم متميز بأفعاله المنفرد بها بحيث إذا ذكرت أفعاله تميز عما سواه فصار كالمشاهد المشار إليه، فكيف تلتبس إلهيته بإلهية مزعومة للأصنام فليست للذين أشركوا به شبهة تلبِّس عليهم ما لا يفعلُ مثلَ فعله، أي ذلكم ربكم لا غيره وفي اسم الإِشارة هذا تعريض بغباوة المخاطبين الذين التبست عليهم حقيقة إلهيته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الله رَبُّكم خالق كل شَيْءٍ لا إله إلا هُو‏}‏ أخبار أربعة عن اسم الإِشارة، ابتدئ فيها بالاسم الجامع لصفات الإِلهية إجمالاً، وأردف ب ‏{‏ربكم‏}‏ أي الذي دبر خلق الناس وهيّأ لهم ما به قوام حياتهم‏.‏ ولما كان في معنى الربوبية من معنى الخلق ما هو خَلْق خاص بالبشر بأنه خالق الأشياء كلها كما خلقهم، وأردف بنفي الإِلهية عن غيره فجاءت مضامين هذه الأخبار الأربعة مترتبة بطريقة الترقّي، وكان رابعها نتيجة لها، ثم فرع عليها استفهام تعجيبي من انصرافهم عن عبادته إلى جانب عبادة غيره مع وضوح فساد إعراضهم عن عبادته‏.‏

و ‏{‏أَنَّى‏}‏ اسم استفهام عن الكيفية، وأصله استفهام عن المكان فإذا جعلوا الحالة في معنى الجانب ومثار الشيء استفهموا ب ‏(‏أنّى‏)‏ عن الحالة ويشعر بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏‏.‏

و ‏{‏تؤفكون‏}‏ تُصرفون، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلهم اللَّه أنّى يؤفكون‏}‏ في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 30‏]‏، وبناؤه للمجهول لإِجمال بسبب إعراضهم إذ سيُبين بحاصل الجملة بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

هذه الجملة معترضة بمنزلة التعليل لمضمون الجملة التي قبلها وهو التعجيب من انصرافهم عن عبادة ربهم خالقهم وخالق كل شيء فإن في تعليل ذلك ما يبين سبب التعجيب، فجيء في جانب المأفوكين بالموصول لأن الصلة تومئ إلى وجه بناء الخبر وعلتِه، أي أن استمرارهم على الجحد بآيات الله دون تأمل ولا تدبّر في معانيها ودلائلها يَطبع نفوسهم على الانصراف عن العلم بوجوب الوحدانية له تعالى‏.‏ فالإِشارة بذلك إلى الإِفك المأخوذ من فعل ‏{‏تؤفكون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62‏]‏ أي مثل إفككم ذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون‏.‏

فيجوز أن يكون المراد بالذين كانوا بآياتِ الله يَجْحَدون‏}‏ المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62‏]‏، ويكون الموصول وصلته إظهاراً في مقام الإِضمار، والمعنى‏:‏ كذلك تؤفكون، أي مثلَ أَفككم تُؤفكون، ويكون التشبيه مبالغة في أن إفكهم بلغ في كنه الأَفك النهاية بحيث لو أراد المقرِّب أن يقربه للسامعين بشبيه له لم يجد شبيهاً له أوضح منه وأجلى في ماهيته فلا يسعه إلا أن يشبهه بنفسه على الطريقة المألوفة المبينة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وبذلك تكون صلة الموصول من قوله‏:‏ ‏{‏الذين كانوا بئاياتت الله يجحَدُون‏}‏ إيماء إلى علة إفكهم تعليلاً صريحاً‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏الذين كانوا بآياتِ الله يجحَدُون‏}‏ كلَّ من جحد بآيات الله من مشركي العرب ومن غيرهم من المشركين والمكذبين فيصير التعليل المومى إليه بالصلة تعليلاً تعريضياً لأنه إذا كان الأفك شأن الذين يجحدون بآيات الله كلهم فقد شمل ذلك هؤلاء بحكم المماثلة‏.‏ وصيغة المضارع لاستحضار الحالة، وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم وهجِّيراهم‏.‏

وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية، فإن العقول التي تتخلق بالإِنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميّز بين الصحيح والفاسد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض قَرَاراً والسمآء بِنَاءً‏}‏‏.‏

استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي جَعَل لكُمُ الليْلَ لِتَسكنوا فيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏ كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإِنعام عليهم حتى يفتضح خطَلُهم في الإِشراك به وكفراننِ نعمه، فذكّرهم في الآية السابقة بآثار قدرته في إيجاد الأعراض القائمة بجواهر هذا العالم، وهما عَرَضا الظلمة والنور، وفي كليهما نعم عظيمة على الناس، وذكّرهم في هذه الآية بآثار خلْق الجواهر في هذا العالم على كيفيات هي نعمة لهم، وفي خلق أنفسهم على صور صالحة بهم، فأما إن جعلتَ اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي جعَل‏}‏ الخ بدلاً من ‏{‏ربكم‏}‏ في ‏{‏وقال ربكم ادعوني‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، فإن جملة ‏{‏الله الذي جعل لكم الأرض قراراً‏}‏ تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

والموصول وصلته يجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة فيكون الخبر قولَه‏:‏ ‏{‏ذلكم الله رَبُّكُم‏}‏ وهو أولى لأن المقصود إثبات إلهيته وحده بدليل ما هو مشاهد من إتقان صنعه الممزوج بنعمته‏.‏ ويجوز أن يكون الموصول خبراً فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان والاعتبار، ولمّا كان المقصود الأول من هذه الآية الامتنان كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ قُدمت الأرض على السماء لأن الانتفاع بها محسوس وذكرت السماء بعدها كما يستحضر الشيء بضده مع قصد إيداع دلائل علم الهيئة لمن فيهم استعداد للنظر فيها وتتبع أحوالها على تفاوت المدارك وتعاقب الأجيال واتساع العلوم‏.‏

والقرار أصله، مصدر قرّ، إذا سكن‏.‏ وهو هنا من صفات الأرض لأنه في حكم الخبر عن الأرض، فالمعنى يحتمل‏:‏ أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة فلم تكن مثل كُرة الهواء مضطربة متحركة، ولو لم تكن قارة لكان الناس في عناء من اضطرابها وتزلزلها، وقد يفضي ذلك بأكثرهم إلى الهلاك وهذا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 31‏]‏‏.‏

ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قَرار، أي قَرارٍ لكم، أي جعلها مستقَراً لكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 50‏]‏ أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة ولو شاء لجعل سطح الأرض سيالاً كالزئبق أو كالعَجَل فلا يزال الإنسان سائخاً فيها يطفو تارة ويسيخ أخرى فلا يكاد يبقى على تلك الحالة، وذلك كوسَط سبخة ‏(‏التَّاكْمَرْتْ‏)‏ المسماة‏:‏ «شط الجريد» الفاصل بين «نفطة» و«نفزاوة» من الجنوب التونسي فإن فيها مسافات إذا مشت فيها القوافل ساخت في الأرض فلا يُعثر عليها، ولذلك لا تسير فيها القوافل إلا بهُداة عارفين بمسالك السير في علامات منصوبَة، فكانت خلقة الأرض دالة على عظيم قدرة الله وعلى دقيق حكمته وعلى رحمته بالإِنسان والحيوان المعمور بهما وجه الأرض‏.‏

والبناء‏:‏ ما يُرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحر والبرد والمطر والدواب‏.‏ ووصف السماء بالبناء جار على طريقة التشبيه البليغ، وتقدم الكلام مستوفى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

‏{‏بِنَآءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ‏}‏‏.‏

لا جرم أن حكمة الله تعالى التي تعلقت بإيجاد ما يحفّ بالإنسان من العوالم على كيفيات ملائمة لحياة الإِنسان وراحته قد تعلقت بإيجاد الإِنسان في ذاته على كيفية ملائمة له مدة بقاء نوعه على الأرض وتحت أديم السماء ولذلك أعقَب التذكيرَ بما مَهَّد له من خلق الأرض والسماء، بالتذكير بأنه خلقه خلقاً مستوفياً مصلحتَه وراحتَه‏.‏

وعبّر عن هذا الخلق بفعل ‏{‏صوركم‏}‏ لأن التصوير خلق على صورة مرادة تشعر بالعناية، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ فاقتضى حسن الصور فلذلك عُدل في جانب خلق الإِنسان عن فعل الجعل إلى فعل التصوير بقوله‏:‏ ‏{‏وصوركم‏}‏ فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقك فسوّاك فعدّلَك في أي صورة‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 7، 8‏]‏ ثم صرح بما اقتضاه فعل التصوير من الإِتقان والتحسين بقوله‏:‏ ‏{‏فأحْسَن صُوَركم‏}‏‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأَحْسَن صُوَركم‏}‏ عاطفة جملة على جملة ودالّة على التعقيب أي أوجد صورة الإنسان فجاءت حسنة‏.‏

وعطف على هذه العبرة والمنة منةٌ أخرى فيها عبرة، أي خلقكم في أحسن صورة ثم أمدكم بأحسننِ رزق، فجمع لكم بين الإِيجاد والإِمداد، ولما كان الرزق شهوة في ظاهره وكان مشتملاً على حكمة إمداد الجسم بوسائل تجديد قُواه الحَيوية وكان في قوله‏:‏ ‏{‏ورزقكم‏}‏ إيماء إلى نعمة طُول الوجود فلم يكن الإنسان من الموجودات التي تظهر على الأرض ثم تضمحلّ في زمن قريب وجمع له بين حسن الإِيجاد وبين حسن الإِمداد فجَعل ما به مددَ الحياة وهو الرزق من أحسن الطيبات على خلاف رزق بقية أنواع الحيوان‏.‏

‏{‏الطيبات ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ‏}‏

موقع ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ كموقع نظيره المتقدم آنفاً‏.‏ وإعادة هذا تكرير للتوقيف على خطل رأيهم في عبادة غيره على طريقة التعريض، بقرينة ما تقدم في نظيره من قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلاَّ هو فأنَّى تُؤفكون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 62‏]‏، وقرينةِ قوله هنا‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هُو فادعوه مخلصين له الدين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وفُرِّع على ما ذُكِرَ من بدائع صنعه وجزيل منّهِ‏.‏ أن أنشِيءَ الثناءُ عليه بما يفيد اتصافه بعظيم صفات الكمال فقال‏:‏ ‏{‏فَتَبَارك الله‏}‏، وفعل ‏{‏تبارك‏}‏ صيغةُ مفاعلة مستعملة مجازاً في قوةِ ما اشتُقّ منه الفعل‏.‏ وهو مشتقّ من اسم جامد وهو البَركَة، والبركَة‏:‏ اسم يدل على تزايد الخير‏.‏ وإظهار اسم الجلالة مع فعل ‏{‏تبارك‏}‏ دون الإِتيان بضمير مع تقدم اسمه، فالإِظهار لتكون الجملة كلمةَ ثناء مستقلة‏.‏

و ‏{‏رَبِّ العالمين‏}‏ خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجنّ‏.‏ وهذا الوصف من تمام الإِنشاء لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضاراً لما أفاضه عليهم من خيرات الإِيجاد والإمداد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏‏.‏

استئناف ثالث للارتقاء في إثبات إلهيته الحقِّ بإثبات ما يناسبها وهو الحياة الكاملة، فهذه الجملة مقدمة لجملة ‏{‏لا إله إلاَّ هُوَ‏}‏ فإثبات الحياة الواجبة لذاته فإن الذي رَبَّ العالمين وأوجدَهم على أكمل الأحوال وأمدهم بما به قوامهم على ممر الأزمان لا جرم أنه موصوف بالحياة الحق لأن مدبّر المخلوقات على طول العصور يجب أن يكون موصوفاً بالحياة، إذ الحياة ‏(‏مع ما عرض من عسر في تعريفها عند الحكماء والمتكلمين‏)‏ هي صفة وجودية تصحح لمن قامت به الإِدراكَ والإِرادة والفعل، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

فإن كان اتصاف موصوفها بها مسبوقاً بعدم فهي حياة ممكنة عارضة مثل حياة الملائكة وحياة الأرواح وحياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الأساريع، فتكون متفاوتة في موصوفاتها بتفاوت قوتها فيها ومتفاوتة في موصوفها الواحد بتفاوت أزمانها مثل تفاوت حياة الشخص الواحد في وقت شبابه، وحياته في وقت هرمه ومثل حياة الشخص وقت نشاطه وحياته وقت نومه، وبذلك التفاوت تصير إلى الخفوت ثم إلى الزوال، ويظهر أثر تفاوتها في تفاوت آثارها من الإِدراك والإِرادة والفعل‏.‏

وإن كان اتصاف موصوفها بها أزليًّا غير مسبوق بعدم فهي حياة واجب الوجود سبحانه وهي حياة واجبة ذاتية‏.‏ وهي الحياة الحقيقية لأنها غير معرَّضة للنقص ولا للزوال، فلذلك كان الحيّ حقيقة هو الله تعالى كما أنبأت عنه صيغة الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الحَيُّ‏}‏ وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بحياة ما سواه من الأحياء لأنها عارضة ومعرّضة للفناء والزوال‏.‏

فموقع قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلاَّ هُوَ‏}‏ موقع النتيجة من الدليل لأن كل من سواه لا حياة له واجبةً، فهو معرض للزوال فكيف يكون إلهاً مدبراً للعالم‏.‏ وجميع ما عبد من دون الله هو بَيْن ما لم يتصف بالحياة تماماً كالأصنام من الحجارة أو الخشب أو المعادن‏.‏ ومثلَ الكواكب الشمسسِ والقمر والشجر، وبين ما اتّصف بحياة عارضة غير زائلة كالملائكة، وبين ما اتصف بحياة عارضة زائلة من معبودات البشر مثل ‏(‏بُوذة‏)‏ و‏(‏بَرْهَما‏)‏ بَلْهَ المعبودات من البقر والثعابين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دون اللَّه لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20‏]‏ أي لا يستطيع أحدهم التصرف بالإِيجاد والإِحياء وهو مخلوق، أي معرض للحياة ‏{‏أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 21‏]‏ فجعل نفي الحياة عنهم في الحال أو في المآل دلالة على انتفاء إلهيتهم وجعل نفي إدراك بعض المدركات عنهم دلالة على انتفاء إلهيتهم‏.‏

وبعد اتضاح الدلالة على انفراده تعالى بالإِلهية فرع عليه الأمر بعبادته وحده غير مشركين غيره في العبادة لنهوض انفراده باستحقاق أن يُعبد‏.‏

والدعاء‏:‏ العبادة لأنها يلازمها السؤال والنداء في أولها وفي أثنائها غالباً، لأن الدعاء عنوان انكسار النفس وخضوعها كما تقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستَجِبْ لَكُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وكما في قوله الآتي‏:‏ ‏{‏بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 74‏]‏‏.‏

والإِخلاص‏:‏ الإِفراد وتصفية الشيء مما ينافيه أو يفسده‏.‏

والدين‏:‏ المعاملة‏.‏ وأطلق على الطاعة وهو المراد هنا لأنها أشد أنواع المعاملة بين المطيع والمطاع‏.‏ والمعنى‏:‏ فإذ كان هو الحي دون الأصنام وكان لا إله غيره فاعبدوه غير مشركين معه غيره في عبادته‏.‏

ويدخل في ماهية الإِخلاص دخولاً أولياً ترك الرِّيَاء في العبادة لأن الرياء وهو أن يقصد المتعبد من عبادته أن يَراه الناس سواء كان قصداً مجرداً أو مخلوطاً مع قصد التقرب إلى الله‏.‏ كل ذلك لا يخلو من حصول حظ في تلك العبادة لِغير الله وإن لم يكن ذلك الحظ في جوهرها‏.‏ وهذا معنى ما جاء في الحديث «إن الرياء الشرك الأصغر»‏.‏

وتقديم ‏{‏له‏}‏ المتعلق بمخلصين على مفعول ‏{‏مخلصين‏}‏ لأنه الأهم في هذا المقام به لأنه أشد تعلقاً بمتعلقه من تعلق المفعول بعامله‏.‏

‏{‏الدين الحمد للَّهِ رَبِّ‏}‏

يجوز أن تكون إنشاء للثناء على الله كما هو شأن أمثالها في غالب مواقع استعمالها كما تقدم في سورة الفاتحة، فيجوز أن تكون متصلة بفعل ‏{‏فادعوه‏}‏ على تقدير قول محذوف، أي قائلين، الحمد لله رب العالمين، أو قولوا‏:‏ الحمد لله رب العالمين، وقرينة المحذوف هو أن مثل هذه الجملة مما يجري على ألسنة الناس كثيراً فصارت كالمثل في إنشاء الثناء على الله‏.‏ والمعنى‏:‏ فاعبدوه بالعمل وبالثناء عليه وشكره‏.‏ ويجوز أن تكون كلاماً مستأنفاً أريد به إنشاء الثناء على الله من نفسه تعليماً للناس كيف يحمدونه، كما تقدم في وجوه نظيرها في سورة الفاتحة‏.‏ أو جارياً على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للَّه رب العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللَّه أو أتتكم الساعة أغير اللَّه تدعون إن كنتم صادقين‏}‏ الآيات من سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وعندي‏:‏ أنه يجوز أن يكون ‏{‏الحمد‏}‏ مصدراً جيء به بدلاً من فعله على معنى الأمر، أي أحمدوا اللَّه ربَّ العالمين‏.‏ وعدل به عن النصب إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات كما تقدم في أول الفاتحة‏.‏ وفصل الجملة عن الكلام الذي قبلها أسعد بالاحتمالين الأول والرابع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

جملة معترضة بين أدلة الوحدانية بدلالة الآيات الكونية والنفسية ليَجْرُوا على مقتضاها في أنفسهم بأن يعبدوا الله وحده، فانتقل إلى تقرير دليل الوحدانية بخبر الوحي الإِلهي بإبطال عبادة غير الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل بذلك في نفسه ويبلغ ذلك إليهم فيعلموا أنه حُكم الله فيهم، وأنهم لا عذر لهم في الغفلة عنها أو عدم إتقان النظر فيها أو قصور الاستنتاج منها بعد أن جاءهم رسول من الله يبينّ لهم أنواعاً بمختلف البيان من أدلّة برهانية وتقريبية إقناعية‏.‏

وأن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يريده لنفسه فهو ممحض لهم النصيحة، وهاديهم إلى الحجة لتتظاهر الأدلة النظرية بأدلة الأمر الإِلهي بحيث يقوى إبطال مذهبهم في الشرك، فإن ما نزل من الوحي تضمن أدلة عقلية وإقناعية وأوَامر إلهية وزواجر وترغيبات، وكل ذلك يحوم حول إثبات تفرد الله تعالى بالإِلهية والربوبية تفرداً مطلقاً لا تشوبه شائبة مشاركة ولو في ظاهر الحال كما تشوب المشاركة في كثير من الصفات الأخرى في مثل المُلك والمِلك والحَمد، والنفع والضر، والكرم والإِعانة وذلك كثير‏.‏ فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إني نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الذينَ تَدْعُون مِن دُوننِ الله لَمَّا جَاءَني البينات مِن رَّبِي‏}‏ إبطالاً لعبادة غير الله بالقول الدال على التحذير والتخويف بعد أن أبطل ذلك بدلالة الحجة على المقصود‏.‏ وهذه دلالة كنائية لأن النهي يستلزم التحذير‏.‏

وذكر مجيء البينات في أثناء هذا الخبر إشارة إلى طرق أخرى من الأدلة على تفرد الله بالإِلهية تكررت قبل نزول هذه الآية‏.‏ وكان تقديم المسند إليه وهو ضمير ‏{‏إني‏}‏ على الخبر الفعلي لتقوية الحكم نحو‏:‏ هو يعطي الجزيل، وكان تخصيص ذاته بهذا النهي دون تشريكهم في ذلك الغرض الذي تقدم مع العلم بأنهم مَنْهيُّون عن ذلك وإلا فلا فائدة لهم في إبلاغ هذا القول فكان الرسول صلى الله عليه وسلم من حين نشأته لم يسجد لصنم قط وكان ذلك مصرفة من الله تعالى إياه عن ذلك إلهاماً إلهيا إرهاصاً لنبوءته‏.‏

و ‏{‏لمّا‏}‏ حرف أو ظرف على خلاف بينهم، وأيًّا مَّا كان فهي كلمة تفيد اقتران مضمون جملتين تليانها تُشبِهان جملتي الشرط والجزاء، ولذلك يدعونها ‏(‏لمّا‏)‏ التوقيتية، وحصولَ ذلك في الزمن الماضي، فقوله‏:‏ ‏{‏لَمَّا جاءَنِي البينَاتُ من رَّبِي‏}‏ توقيت لنهيه عن عبادة غير الله بوقت مجيء البينات، أي بينات الوحي فيما مضى وهو يقتضي أن النهي لم يكن قبل وقت مجيء البينات‏.‏

والمقصود من إسناد المنهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم التعريضُ بنهي المشركين، فإن الأمر بأن يقول ذلك لا قصد منه إلا التبليغ لهم وإلا فلا فائدة لهم في الإِخبار بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عن أن يعبد الذين يدعون من دون الله، يعني‏:‏ فإذا كنتُ أنا منهياً عن ذلك فتأملوا في شأنكم واستعملوا أنظاركم فيه، ليسوقهم إلى النظر في الأدلة سوقاً ليّناً خفياً لاتِّبَاعِه فيما نهى عنه، كما جاء ذلك صريحاً لا تعريضاً في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه

‏{‏يا أبت إني قد جَاءني من العلم ما لم يَأتِك فاتَّبِعْني أهدِك صراطاً سويًّا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 43، 44‏]‏ وبُني الفعل للنائب لظهور أن الناهي هو الله تعالى بقرينة مقام التبليغ والرسالة‏.‏

ومعنى الدعاء في قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَدْعُون‏}‏ يجوز أن يكون على ظاهر الدعاء، وهو القول الذي تسأل به حاجة، ويجوز أن يكون بمعنى تعبدون كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقَالَ رَبُّكم ادعُوني أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ فيكون العدول عن أن يقول‏:‏ أن أعبد الذين تعبدون، تفنناً‏.‏ و‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِن رَّبِي‏}‏ ابتدائية، وجعل المجرور ب ‏(‏من‏)‏ وصف ‏(‏رب‏)‏ مضافاً إلى ضمير المتكلم دون أن يجعل مجرورها ضميراً يعود على اسم الجلالة إظهاراً في مقام الإِضمار على خلاف مقتضى الظاهر لتربية المهابة في نفوس المعرَّض بهم ليعلموا أن هذا النهي ومجيء البينات هو من جانب سيّده وسيدهم فما يسعهم إلا أن يطيعوه ولذلك عززه بإضافة الرب إلى الجميع في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُمِرتُ أنْ أُسْلِمَ لِرَب العالمين‏}‏ أي ربكم ورب غيركم فلا منصرف لكم عن طاعته‏.‏

والإسلام‏:‏ الانقياد بالقول والعمل، وفعله متعدّ، وكثر حذف مفعوله فنزّل منزلة اللازم، فأصله‏:‏ أسلم نفسه أو ذاتَه أو وجهه كما صرح به في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي للَّه‏}‏، ومن استعماله كاللازم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏20‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏131‏)‏، وكذلك هو هنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

استئناف رابع بعد اسئتناف جملة ‏{‏هُوَ الحَيُّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 65‏]‏ وما تفرع عليها، وكلها ناشئ بعضه عن بعض‏.‏ وهذا الامتنان بنعمة الإِيجاد وهو نعمة لأن المَوجُود شرف والمعدوم لا عناية به‏.‏ وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع‏.‏ وتقدم الكلام على أطوار خَلق الإنسان في سورة الحج، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر‏.‏

والطفل‏:‏ اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع، للمذكر والمؤنث قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ وقد يطابق فيقال‏:‏ طفل وطفلان وأطفال‏.‏

واللامات في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغوا أشُدَّكُم‏}‏ وما عطف عليه ب ‏(‏ثم‏)‏ متعلقات بمحذوف تقديره‏:‏ ثم يبقيكم، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى ‏(‏إلى‏)‏ لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها، وتقدم نظيره في سورة الحج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى‏}‏ عطف على ‏{‏لِتَكُونُوا شُيُوخاً‏}‏ أي للشيخوخة غاية وهي الأجلُ المسمّى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة‏.‏ وأما الأجل المقدّر للذين يهلِكون قبل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنكم مَّن يُتَوفَّى مِن قَبْلُ‏}‏ أن من قبل بعض هذه الأطوار، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلاً وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشدّ، أو يتوفّى قبل أن يكون شيخاً‏.‏ ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف ب ‏(‏ثم‏)‏ كما عطفت المجرورات الأخرى، والمعنى‏:‏ أن الله قدّر انقراض الأجيال وخَلَقَهَا بأجيال أخرى، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته، ولمّا خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالماً بأن من جملة الغايات في ذلك الخلققِ أن يَبلغوا أجلاً‏.‏

وبُني ‏{‏قبل‏}‏ على الضم على نية معنى المضاف إليه، أي من قبل ما ذُكر‏.‏ والأشُدّ‏:‏ القوة في البدن، وهو ما بين ثمانَ عشرةَ سنةً إلى الثلاثين وتقدم في سورة يوسف ‏[‏22‏]‏‏.‏

وشيوخ‏:‏ جمع شيخ، وهو مَن بلغ سِن الخمسين إلى الثمانين، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا بعلي شيخاً‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏‏.‏ ويجوز في ‏(‏شيوخ‏)‏ ضم الشين‏.‏ وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحَفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف‏.‏ ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة، والكسائي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى‏}‏ أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإِنسان على الحالة المبينة، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخَلْقَ البديع، وعلى إنفراده بالإِلهية، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإِلهية، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أُريد منه ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل‏.‏ ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل ‏{‏تعقلون‏}‏ بمفعول ولا بمجرور لأنه نزل منزلة اللازم، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل ذلك الخلق العجيب علة لأمور كثيرة‏.‏