فصل: الجزء الخامس والعشرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الخامس والعشرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏‏}‏

كانوا إذا أُنذروا بالبعث وساعته استهزأوا فسألوا عن وقتها، وكان ذلك مما يتكرّر منهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن السّاعة أيّان مُرساها لِّلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ فلمّا جرى ذكر دليل إحياء الموتى وذكر إلحاد المشركين في دلالته بسؤالهم عنها استهزاء انتقل الكلام إلى حكاية سؤالهم تمهيداً للجواب عن ظاهره وتقديم المجرور على متعلّقه لإفادة الحصر، أي إلى الله يفوض علم السّاعة لا إليّ، فهو قصر قلب‏.‏ وردّ عليهم بطريق الأسلوب الحكيم، أي الأجدر أن تعلموا أنْ لا يعلم أحد متى السّاعة وأن تؤمنوا بها وتستعدّوا لها‏.‏ ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم وسأله رجل من المسلمين‏:‏ متى الساعة‏؟‏ فقال له‏:‏ ‏{‏ماذا أعددت لها‏}‏ أي استعدادك لها أولى بالاعتناء من أن تسأل عن وقتها‏.‏

والرّد‏:‏ الإرجاع وهو مستعمل لتفويض علم ذلك إلى الله والتبرؤ من أن يكون للمسؤول علم به، فكأنّه جيء بالسؤال إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم فردّه إلى الله‏.‏ وفي حديث موسى مع الخضر في «الصحيح» «فعاتب الله موسى أن لم يَرُدّ العِلم إليه» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو رَدّوه إلى الرّسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏ الآية‏.‏ وعطف جملة ‏{‏وما تخرج من ثمرات من أكمامها‏}‏ وما بعدها توجيه لصرف العلم بوقت السّاعة إلى الله بذكر نظائرِ لا يعلمها النّاس، وليس علم السّاعة بأقرب منها فإنّها أمور مشاهدة ولا يعلم تفصيل حالها إلاّ الله، أي فليس في عدم العلم بوقت السّاعة حجةٌ على تكذيب من أنذَر بها، لأنّهم قالوا‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 48‏]‏، أي إن لم تبيّن لنا وقته فلست بصادق‏.‏ فهذا وجه ذكر تلك النظائر، وهي ثلاثة أشياء‏:‏

أوّلها‏:‏ علم ما تُخرجه أكمام النخيل من الثَمَر بقدره وجودتِه وثباته أو سقوطه، وضمير ‏{‏أكمامها‏}‏ راجع إلى الثمرات‏.‏ والأكمام‏:‏ جمع كِمّ بكسر الكاف وتشديد الميم وهو وعاء الثّمر وهو الجُفّ الذي يخرج من النّخلة محتوياً على طلْع الثّمر‏.‏

ثانيها‏:‏ حمل الأنثى من النّاس والحيوان، ولا يعلم التي تلقح من التي لا تلقح إلاّ الله‏.‏

ثالثها‏:‏ وقت وضع الأجنّة فإن الإناث تكون حوامل مثقلة ولا يعلم وقت وضعها باليوم والسّاعة إلا الله‏.‏

وعُدل عن إعادة حرف ‏{‏ما‏}‏ مرة أخرى للتفادي من ذكر حرف واحد ثلاث مرّات لأنّ تساوي هذه المنفيات الثلاثة في علم الله تعالى وفي كون أزمان حصولها سواءً بالنسبة للحال وللاستقبال يسدّ علينا باب ادعاء الجمهور الفرق بين ‏{‏ما‏}‏ و‏(‏لا‏)‏ في تخليص المضارع لزمان الحال مع حرف ‏{‏ما‏}‏ وتخليصه للاستقبال مع حرف ‏(‏لا‏)‏‏.‏ ويؤيّد ردّ ابن مالك عليهم فإن الحق في جانب قول ابن مالك‏.‏ وحرف ‏{‏من‏}‏ بعد مدخولي ‏{‏ما‏}‏ في الموضعين لإفادة عموم النفي ويسمّى حرفاً زائِداً‏.‏

والباء في ‏{‏بعلمه‏}‏ للملابسة‏.‏ وتقدم نظيره في سورة فاطر‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ‏{‏ثمرات‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏ثمرةٍ‏}‏ واحدةِ الثمرات‏.‏

‏{‏بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قالوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن‏}‏ ‏{‏شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ‏}‏‏.‏

عطف على الجملة قبلها فإنّه لما تضمن قوله‏:‏ ‏{‏إليه يرد علم الساعة‏}‏ إبطال شبهتهم بأن عدم بيان وقتها يدلّ على انتفاء حصولها، وأتبع ذلك بنظائر لوقت السّاعة مما هو جار في الدّنيا دَوْماً عاد الكلام إلى شأن السّاعة على وجه الإنذار مقتضياً إثبات وقوع السّاعة بذكر بعض ما يلْقونه في يومها‏.‏

و ‏{‏يوم‏}‏ متعلّق بمحذوف شائععٍ حذفه في القرآن، تقديره‏:‏ واذكر يوم يناديهم‏.‏

والضّمير في ‏(‏ينادي‏)‏ عائد إلى ‏{‏ربّك في قوله وما ربّك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏، والنداء كناية عن الخطاب العلني كقوله‏:‏ ‏{‏ينادونهم ألم نكن معكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقد تقدم الكلام على النداء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربّنا إننا سمِعنا منادياً ينادي للإيمان‏}‏ في آل عمران ‏(‏193‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونُودوا أن تلكُم الجنّة أورثتموها‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏43‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏أين شركائي‏}‏ يصح أن يكون مقول قول محذوف كما صرّح به في آية أخرى ‏{‏ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وحذف القول ليس بعزيز‏.‏

ويصحّ أن تكون مبيّنة لما تضمنه ‏{‏يناديهم‏}‏ من معنى الكلام المعْلن به‏.‏ وجاءت جملة ‏{‏قالوا آذناك‏}‏ غير معطوفة لأنّها جارية على طريقة حكاية المحاورات كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربّك للملائكة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

و ‏{‏آذناك‏}‏ أخبرناك وأعلمناك‏.‏ وأصل هذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الأذن بضم الهمزة وسكون الذال وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فقل آذنتكم على سواء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 109‏]‏، وقال الحارث بن حلزة‏:‏

أذنَتْنَا بِبَيْنها أسماء ***

وصيغة الماضي في ‏{‏آذناك‏}‏ إنشاء فهو بمعنى الحال مثل‏:‏ بعْتُ وطلقت، أي نأذنك ونُقر بأنّه ما منّا من شهيد‏.‏

والشهيد يجوز أن يكون بمعنى المشاهد، أي المبصر، أي ما أحد منا يَرى الذين كنّا ندعوهم شركاءك الآن، أي لا نرى واحداً من الأصنام التي كنّا نعبدها فتكون جملة ‏{‏وضلّ عنهم ما كانوا يدعون‏}‏ في موضع الحال، والواو واو الحال‏.‏ ويجوز أن يكون الشهيد بمعنى الشاهد، أي ما منّا أحد يشهد أنّهم شركاؤك، فيكون ذلك اعترافاً بكذبهم فيما مضى، وتكون جملة ‏{‏وضل عنهم‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏قالوا آذناك‏}‏، أي قالوا ذلك ولم يجدوا واحداً من أصنامهم‏.‏ وفعل ‏{‏آذناك‏}‏ معلّق عن العمل لورود النفي بعده‏.‏

و ‏{‏ضلّ‏}‏‏:‏ حقيقته غاب عنهم، أي لم يجدوا ما كانوا يدعونهم من قبل في الدّنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل ضلُّوا عنهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ فالمراد به هنا‏:‏ غيبة أصنامهم عنهم وعدم وجودها في تلك الحضرة بقطع النّظر عن كونها ملقاة في جهنّم أو بقيت في العالم الدنيوي حين فنائه‏.‏ وإذ لم يجدوا ما كانوا يزعمونه فقد علموا أنّهم لا محيص لهم، أي لا ملجأ لهم من العذاب الذي شاهدوا إعداده، فالظّنّ هنا بمعنى اليقين‏.‏

والمحيصُ مصدر ميمي أو اسم مكان من‏:‏ حاص يَحيصُ، إذا هرب، أي ما لهم مفر من النّار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏مَّحِيصٍ * لاَّ يَسْھَمُ الانسان مِن دُعَآءِ الخير وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ‏}‏ ‏{‏قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِى‏}‏‏.‏

اعتراض بين أجزاء الوعيد‏.‏ والمعنى‏:‏ وعلموا ما لهم من محيص‏.‏ وقد كانوا إذا أصابتهم نعماء كذّبوا بقيام السّاعة فجملة ‏{‏لا يسأم الإنسان من دعاء الخير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قنوط‏}‏ تمهيد لجملة ‏{‏ولئن أذقناه رحمةً منا‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏

وموقع هذه الآيات عقب قوله ‏{‏ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏ الخ يقتضي مناسبة في النّظم داعية إلى هذا الاعتراض فتلك قاضية بأنّ الإنسان المخبر عنه بأنّه لا يسأمُ من دعاء الخير وما عطف عليه هو من صنف النّاس الذين جرى ذِكر قصصهم قبل هذه الآية وهم المشركون، فإمّا أن يكون المراد فريقاً من نوع الإنسان، فيكون تعريف ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الجنس العام لكن عمومه عرفي بالقرينة وهو الممَثل له في علم المعاني بقولكَ‏:‏ جمع الأمير الصاغة‏.‏ وإمّا أن يكون المراد إنساناً معيناً من هذا الصنف فيكون التعريف تعريف العهد‏.‏ كما أن الإخبار عن الإنسان بأنّه يقول‏:‏ ما أظنّ الساعة قائمة، صريح أن المخبر عنه من المشركين معيناً كان أو عاماً عموماً عرفياً‏.‏ فقيل المراد بالإنسان‏:‏ المشركون كلّهم، وقيل أريد به مشرك معين، قيل هو الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة بن ربيعة‏.‏ وأيًّا مَّا كان فالإخبار عن إنسان كافر‏.‏

ومحمل الكلام البليغ يرشد إلى أنَّ إناطة هذه الأخبار بصنف من المشركين أو بمشرك معين بعنوان إنسان يومئ بأنّ للجبلة الإنسانية أثراً قوياً في الخُلُق الذي منه هذه العقيدة إلا من عصمه الله بوازع الإيمان‏.‏ فأصل هذا الخُلق أمر مرتكز في نفس الإنسان، وهو التوجه إلى طلب الملائم والنافع ونسيان ما عسى أن يحل به من المؤلم والضار، فبذلك يأنس بالخير إذا حصل له فيزداد من السعي لتحصيله ويحسبه كالملازم الذاتي فلا يتدبر في مُعطيه حتى يشكره ويسأله المزيد تخضعاً، وينسى ما عسى أن يطرأ عليه من الضرّ فلا يستعد لدفعه عن نفسه بسؤال الفاعل المختار أن يدفعه عنه ويعيذه منه‏.‏ فأما أنّ الإنسان لا يسأم من دعاء الخير فمعناه‏:‏ أنّه لا يكتفي، فأطلق على الاكتفاء والاقتناع السآمة، وهي الملَل على وجه الاستعارة بتشبيه استرسال الإنسان في طلب الخير على الدوام بالعمل الدائم الذي شأنه أن يسأم منه عامله فنفيُ السآمة عنه رمزٌ للاستعارة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «لوْ أن لابن آدم واديين من ذهب لأحبّ لهما ثالثاً، ولو أن له ثلاثة لأحبّ لهما رابعاً، ولا يملأ عين ابن آدم إلاّ التراب» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّه لِحُبّ الخير لشديد‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والدعاء‏:‏ أصله الطلب بالقول، وهو هنا مجاز في الطلب مطلقاً فتكون إضافته إلى الخير من إضافة المصدر إلى ما في معنى المفعول، أي الدعاء بالخير أو طلب الخير‏.‏

ويجوز أن يكون الدعاء استعارة مكنية، شبه الخير بعاقل يسأله الإنسان أن يُقبِل عليه، فإضافة الدعاء من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏

وأما أن الإنسان يؤوس قنوط إن مسه الشر فذلك من خُلق قلة صبر الإنسان على ما يتعبه ويَشق عليه فيضجر إن لحقه شرّ ولا يوازي بين ما كان فيه من خير فيقول‏:‏ لئن مسني الشرّ زمناً لقد حلّ بي الخير أزماناً، فمن الحق أن أتحمل ما أصابني كما نعمت بما كان لي من خير، ثم لا ينتظر إلى حين انفراج الشرّ عنه وينسى الإقبال على سؤال الله أن يكشف عنه الضر بل ييأس ويقنط غضباً وكبراً ولا ينتظر معاودة الخير ظاهراً عليه أثرُ اليأس بانكسار وحزن‏.‏ واليأس فعل قلبي هو‏:‏ اعتقاد عدم حصوله الميؤوس منه‏.‏

والقُنوط‏:‏ انفعال يدني من أثَر اليأس وهو انكسار وتضاؤل‏.‏ ولم يذكر هنا أنّه ذو دعاء لله كما ذكر في قوله الآتي‏:‏ ‏{‏وإذا مسه الشرُّ فذو دعاء عريض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 51‏]‏‏.‏ لأنّ المقصود أهل الشرك وهم إنّما ينصرفون إلى أصنامهم‏.‏ وقد جاءت تربية الشريعة للأمّة على ذم القنوط، قال تعالى حكاية عن إبراهيم ‏{‏قال ومن يَقنَط من رحمة ربّه إلاّ الضَّالون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 56‏]‏، وفي الحديث «انتظار الفرج بعد الشدّة عبادة»‏.‏

فالآية وصفت خُلقين ذميمين‏:‏ أحدهما خلق البطر بالنعمة والغفلة عن شكر الله عليها‏.‏ وثانيهما اليأس من رجوع النعمة عند فقدها‏.‏ وفي نظم الآية لطائف من البلاغة‏:‏

الأولى‏:‏ التعبير عن دوام طلب النّعمة بعَدم السآمة كما علمْتَه‏.‏

الثانية‏:‏ التعبير عن محبّة الخير بدُعاء الخير‏.‏

الثالثة‏:‏ التعبير عن إضافة الضر بالمسّ الذي هو أضعف إحساس الإصابة قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَمَسُّهم السوء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 61‏]‏‏.‏

الرّابعة‏:‏ اقتران شرط مسّ الشر ب ‏{‏إنْ‏}‏ التي من شأنها أن تدخل على النادر وقوعُه فإن إصابة الشر الإنسانَ نادرة بالنسبة لما هو مغمور به من النعم‏.‏

الخامسة‏:‏ صيغة المبالغة في ‏{‏يَؤُوس‏}‏‏.‏

السّادسة‏:‏ إتْباع ‏{‏يؤوس‏}‏ ب ‏{‏قنوط‏}‏ الذي هو تجاوز إحساس اليأس إلى ظاهر البدن بالانكسار، وهو من شدّة يَأسه، فحصلت مبالغتان في التّعبير عن يأسه بأنّه اعتقاد في ضميره وانفعال في سحناته‏.‏ فالمشرك يتأصّل فيه هذا الخُلق ويتزايد باستمرار الزّمان‏.‏ والمؤمن لا تزال تربية الإيمان تكفه عن هذا الخلق حتى يزول منه أو يكاد‏.‏

ثم بينت الآية خلقاً آخر في الإنسان وهو أنّه إذا زال عنه كربه وعادت إليه النّعمة نسي ما كان فيه من الشّدة ولم يتفكر في لطف الله به فبطر النّعمةَ، وقال‏:‏ قد استرجعت خيراتي بحيلتي وتدبيري، وهذا الخير حق لي حصلت عليه، ثمّ إذا كان من أهل الشرك وهم المتحدث عنهم تراه إذا سمع إنذار النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الساعة أو هجس في نفسه هاجس عاقبة هذه الحياة قال لمن يدعوه إلى العمل ليوم الحساب أو قال في نفسه ‏{‏ما أظنّ السّاعة قائمة‏}‏ ولئن فَرَضت قِيام السّاعة على احتمال ضعيف فإنّي سأجد عند الله المعاملة بالحسنى لأنّي من أهل الثراء والرفاهية في الدّنيا فكذلك سأكون يوم القيامة‏.‏

وهذا من سوء اعتقادهم أن يحسبوا أحوال الدّنيا مقارنة لهم في الآخرة، كما حكى الله تعالى عن العاصي بن وائل حين اقتضاه خبَّاب بن الأرتِّ مالاً له عنده من أجر صناعةِ سيف فقال له‏:‏ حتى تكفر بمحمد‏؟‏ فقال خبَّاب‏:‏ لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك، فقال‏:‏ أوَ إنِّي لميّت فمبعوث‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ لئن بعثني الله فسيكون لي مالي فأقضيك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرَأيت الذي كفَر بآياتنا وقال لأوتيَنَّ مالاً وولداً‏}‏ الآيات من سورة مريم ‏(‏77‏)‏‏.‏

ولَعَل قوله‏:‏ ‏{‏ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‏}‏ إنّما هو على سبيل الاستهزاء كما في مقالة العاصي بن وائل‏.‏ وذِكر إنكار البعث هنا إدماج بذكر أحوال الإنسان المشرك في عموم أحوال الإنسان‏.‏

وجيء في حكاية قوله ‏{‏ولئن رجعت‏}‏ بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ الشرطية التي يَغلب وقوعها في الشرط المشكوك وقوعه لأنّه جعل رجوعه إلى الله أمراً مفروضاً ضعيف الاحتمال‏.‏ وأما دخول اللام الموطئة للقسم عليه فمورد التحقيق بالقسم هو حصول الجواب لو حصل الشرط‏.‏

وكذلك التأكيد ب ‏{‏إن‏}‏ ولام الابتداء مورده هو جواب الشرط، وكذلك تقديم ‏{‏لي‏}‏ و‏{‏عنده‏}‏ على اسم ‏{‏إنَّ‏}‏ هو لتقوّي ترتب الجواب على الشرط‏.‏

والحسنى‏:‏ صفة لموصوف محذوف، أي الحالة الحسنى، أو المعاملة الحسنى‏.‏ والأظهر أن الحسنى صارت اسماً للإحسان الكثير أخذاً من صيغة التفضيل‏.‏

واعلم أن الإنسان متفاوتة أفراده في هذا الخُلق المعزوّ إليه هنا على تفاوت أفراده في الغرور، ولما كان أكثر النّاس يومئذٍ المشركين كان هذا الخلق فاشياً فيهم يقتضيه دين الشرك‏.‏ ولا نظر في الآية لمن كان يومئذٍ من المسلمين لأنهم النادر، على أن المسلم قد يخامره بعض هذا الخلق وترتسم فيه شِيَات منه ولكن إيمانه يصرفه عنه انصرافاً بقدر قوة إيمانه، ومعلوم أنّه لا يبلغ به إلى الحد الذي يقول ‏{‏وما أظنّ الساعة قائمة‏}‏، ولكنه قد تجري أعمال بعض المسلمين على صورة أعمال من لا يظنّ أن الساعة قائمة مثل أولئك الذّين يأتون السيئات ثم يقولون‏:‏ إن الله غفور رحِيم، والله غني عن عذابنا، وإذا ذكر لهم يوم الجزاء قالوا‏:‏ ما ثَمّ إلا الخير ونحو ذلك، فجعل الله في هذه الآية مذمّة للمشركين وموعظة للمؤمنين كمَداً للأوّلين وانتشالاً للآخرين‏.‏

‏{‏للحسنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ‏}‏‏.‏

تفريع على جملة ‏{‏ويوم يناديهم أين شركائي‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏ وما اتصل بها أي فلنعلمنّهم بما عَمِلوا عَلناً يعلَمُون به أنّا لا يخفى علينا شيء مما عملوه وتقريعاً لهم‏.‏

وقول‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار، ومقتضى الظّاهر أن يقال‏:‏ ولننبئنّهم بما عملوا، فعدل إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من علة استحقاقهم الإذاقة بما عملوا وإذاقة العذاب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولنذيقنهم من عذاب غليظ‏}‏ هو المقصود من التفريع‏.‏

والغليظ حقيقته‏:‏ الصلب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستغلظ فاستوى على سوقه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وهو هنا مستعار للقويّ في نوعه، أي عذاب شديد الإيلام والتعذيب، كما استعير للقساوة في المعاملة في قوله ‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وليجدوا فيكم غلظة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏‏.‏

والإذاقة‏:‏ مجاز في مطلق الإصابة في الحسّ لإطماعهم أنّها إصابة خفيفة كإصابة الذوق باللّسان‏.‏ وهذا تجريد للمجاز كما أن وصفه بالغليظ تجريد ثان فحصل من ذلك ابتداء مُطمِع وانتهاء مُؤيِس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

هذا وصف وتذكير بضرب آخر من طغيان النفس الإنسانية غير خاص بأهل الشرك بل هو منبث في جميع النّاس على تفاوتتٍ إلاَّ من عصم الله‏.‏ وهو توصيف لنَزَق النفْس الإنساني وقلّة ثباته فإذا أصابته السراء طغا وتكبر ونسِي شكر ربّه نسياناً قليلاً أو كثيراً وَشُغل بلذاته، وإذا أصابته الضراء لم يصبر وجزِع ولجأ إلى ربّه يُلحّ بسؤال كشف الضراء عنه سريعاً‏.‏ وفي ذكر هذا الضرب تعرُّض لفعل الله وتقديره الخَلتين السراء والضراء‏.‏ وهو نقد لسُلوك الإنسان في الحالتين وتعجيب من شأنه‏.‏ ومحل النقد والتعْجيب من إعراضه ونأيه بجانبه واضح، وأمّا محل الانتقاد والتعجيب من أنّه ذو دُعاء عريض عندما يمسه الشرّ فهو من حيث لم يتذكر الإقبالَ على دعاء ربّه إلا عندما يمَسُّه الشر وكان الشأن أن لا يغفل عن ذلك في حال النعمة فيدعو بدوامها ويشكر ربّه عليها وقبوللِ شكره لأن تلك الحالة أولى بالعناية من حالة مسّ الضر‏.‏

وأما ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏لا يسأم الإنسان من دعاء الخير‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للحسنى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 49، 50‏]‏ فهو وصف لضرب آخر أشدّ، وهو خاص بأهل الشرك لِما وقع فيه من قوله‏:‏ ‏{‏وما أظن الساعة قائمة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 36‏]‏، فليس قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه‏}‏ الخ تكريراً مع قوله‏:‏ ‏{‏لا يسأم الإنسان‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 49‏]‏ الآية‏.‏ فهذا التفنن في وصف أحوال الإنسان مع ربّه هو الذي دعا إلى ما اشتمل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا‏}‏ من بعض التكرير لِما ذكر في الضرب المتقدم لزيادة تقريره، وللإشارة إلى اختلاف الحالتين باعتبار الشرك وعدمه مع اتحادهما في مثار الجبلة الإنسانية، وباعتبار ما قدره الله للإنسان‏.‏

والإعراض‏:‏ الانصراف عن شيء، وهو مستعار هنا للغفلة عن شكر المنعم أو التعمد لترك الشكر‏.‏

ومتعلق فعل ‏{‏أعرض‏}‏ محذوف لدلالة السياق عليه، والتقدير‏:‏ أعرض عن دعائنا‏.‏

والنأي‏:‏ البعد، وهو هنا مستعار لعدم التفكر في المنعِم عليه، فشبّه عدم اشتغاله بذلك بالبُعد‏.‏ والجانب للإنسان‏:‏ منتهى جسمه من إحدى الجهتين اللَّتين ليستا قُبالَة وجهه وظهرِه، ويسمى الشِقّ، والعِطف بكسر العين‏.‏ والباء للتعدية‏.‏ والمعنى‏:‏ أبعد جانبه، كناية عن إبعاد نفسه، أي ولَّى معرضاً غير ملتفت بوجهه إلى الشيء الذي ابتعد هو عنه‏.‏

ومعنى ‏{‏مسه الشر‏}‏ أصابه شر بسبب عاديّ‏.‏ وعدل عن إسناد إصابة الشر إلى الله تعليماً للأدب مع الله كما قال إبراهيم ‏{‏الذي خلقني فهو يهدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78‏]‏ الخ‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وإذا مَرِضْت فهو يشفين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ فلم يقل‏:‏ وإذا أمرضني، وفي ذلك سرّ وهو أن النعم والخير مسخّران للإنسان في أصل وضع خلقته فهما الغالبان عليه لأنّهما من مظاهر ناموس بقاء النوع‏.‏ وأمّا الشرور والأضرار فإن معظمها ينجرّ إلى الإنسان بسوء تصرفه وبتعرضه إلى ما حذرته منه الشرائع والحكماء الملهمون فقلما يقع فيهما الإنسان إلا بعلمه وجُرأته‏.‏

والدعاء‏:‏ الدعاء لله بكشف الشرّ عنه‏.‏ ووصفُه بالعريض استعارة لأن العَرض بفتح العين ضد الطول، والشيء العريض هو المتسع مساحة العَرض، فشبه الدعاء المتكرر الملَحُّ فيه بالثوب أو المكان العريض‏.‏ وعُدل عن أن يقال‏:‏ فداع، إلى ‏{‏ذو دعاء‏}‏ لما تشعر به كلمة ‏{‏ذو‏}‏ من ملازمة الدعاء له وتملكه منه‏.‏

والدّعاء إلى الله من شيم المؤمنين وهم متفاوتون في الإكثار منه والإقلال على تفاوت ملاحظة الحقائق الإلهيّة‏.‏ وتَوجه المشركين إلى الله بالدعاء هو أقوال تجري على ألسنتهم توارثوها من عادات سالفة من أزمان تدينهم بالحنيفية قبل أن تدخل عليهم عبادة الأصنام وتتأصل فيهم فإذا دعوا الله غفلوا عن منافاة أقوالهم لعقائد شركهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي متصل بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بالذكر لمَّا جاءهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لفي شك منه مريب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41، 45‏]‏‏.‏ فهذا انتقال إلى المجادلة في شأن القرآن رجع به إلى الغرض الأصلي من هذه السورة وهو بيان حقّيّة القرآن وصدقه وصدق من جاء به‏.‏ وهذا استدعاء ليُعمِلُوا النظر في دلائل صدق القرآن مثل إعجازه وانتساقه وتأييد بعضه بعضاً وكونه مؤيّداً للكتب قبلَه، وكوننِ تلك الكتب مؤيدة له‏.‏

والمعنى‏:‏ ما أنتم عليه من إنكار صدق القرآن ليس صادراً عن نظر وتمحيص يحصّل اليقين وإنما جازفتم به قبل النظر فلو تأملتم لاحتمل أن يُنتج لكم التأمل أنه من عند الله وأن لا يكون من عنده، فإذا فُرض الاحتمال الأول فقد أقحمتم أنفسكم في شقاق قويّ‏.‏ وهذا من الكلام المنصِف واقتُصر فيه على ذكر الحالة المنطبقة على صفاتهم تعريضاً بأن ذلك هو الطرَف الرّاجح في هذا الإجمال كأنه يقول‏:‏ كما أنكم قضيتم بأنه ليس من عند الله وليس ذلك معلوماً بالضرورة فكذلك كونه من عند الله فتعالوا فتأملوا في الدّلائل، فهم لمّا أنكروا أن يكون من عند الله وصدوا أنفسهم وعامتهم عن الاستماع إليه والتدبر فيه فقد أعملوا شهوات أنفسهم وأهملوا الأخذ بالحيطة لهم أن يتدبروه حتى يكونوا على بينة من أمرهم في شأنه، وهم إذا تدبروه لا يلبثون أن يعلموا صدقه، فاستدعاهم الله إلى النظر بطريق تجويز أن يكون من عند الله فإنه إذا جاز ذلك وكانوا قد كفروا به دون تأمل كانوا قد قضوا على أنفسهم بالضلال الشديد، وإذا كانوا كذلك فقد حقّت عليهم كلمات الوعيد‏.‏

و ‏{‏إن‏}‏ الشرطية شأنها أن تدخل على الشرط المشكوك فيه، فالإتيان بها إرخاء للعنان معهم لاستنزال طائر إنكارهم حتى يقبلوا على التأمل في دلائل صدق القرآن‏.‏ ويشبه أن يكون المقصود بهذا الخطاب والتشكيك أولاً دَهماءَ المشركين الذين لم ينظروا في دلالة القرآن أو لم يطيلوا النظر ولم يبلغوا به حد الاستدلال‏.‏

وأما قادتهم وكبراؤهم وأهل العقول منهم فهم يعلمون أنه من عند الله ولكنّهم غلب عليهم حبّ الرئاسة على أنهم متفاوتون في هذا العلم إلى أن يبلغ بعضهم إلى حدّ قريب من حالة الدّهماء ولكن القرآن ألقى بينهم هذا التشكيك تغليباً ومراعاةً لاختلاف درجات المعاندين ومجارَاةً لهم ادعاءهم أنّهم لم يهتدوا نظراً لقولهم ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي ءاذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

و ‏{‏ثُمّ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم كفرتم‏}‏ للتراخِي الرتبي لأن الكفر بما هو من عند الله أمره أخطر من كون القرآن من عند الله‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ الأولى للاستفهام وهو مستعمل في معنى النفي، أي لا أضل ممن هو في شقاق بعيد إذا تحقق الشرط‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ الثانية موصولة ومَا صْدَقُها المخاطبون بقوله‏:‏ ‏{‏كفرتم به‏}‏ فعُدل عن الإضمار إلى طريق الموصول لما تأذن به الصلة من تعليل أنّهم أضلُّ الضالّين بكونهم شديدي الشقاق، وذلك كناية عن كونهم أشد الخلق عقوبة لما هو معلوم من أن الضلال سبب للخسران‏.‏

والشقاق‏:‏ العصيان‏.‏ والمراد‏:‏ عصيان أمر الله لظهور أن القرآن من عنده على هذا الفرض بيننا‏.‏

والبعيد‏:‏ الواسع المسافة، واستعير هنا للشديد في جنسه، ومناسبة هذه الاستعارة للضلال لأن الضلال أصله عدم الاهتداء إلى الطريق، وأن البعد مناسب للشقاق لأن المنشقّ قد فارق المنشقَّ عنه فكان فراقه بعيداً لا رجاء معه للدنوّ، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏176‏)‏‏.‏

وفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏ معلق عن العمل لوجود الاستفهام بعده، والرؤية علمية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وفى أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ‏}‏‏.‏

أعقب الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما فيه تخويفهم من عواقب الشقاق على تقدير أن يكون القرآن من عند الله وهم قد كفروا به إلى آخر ما قرر آنفاً، بأن وَعَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل التسلية والبشارة بأن الله سيغمر المشركين بطائفة من آياته ما يتبيّنون به أن القرآن من عند الله حقاً فلا يسعهم إلا الإيمان به، أي أن القرآن حقّ بَيِّنٌ غير محتاج إلى اعترافهم بحقيته، وستظهر دلائل حقّيّته في الآفاق البعيدة عنهم وفي قبيلتهم وأنفسهم فتتظاهر الدلائل على أنّه الحق فلا يجدوا إلى إنكارها سبيلاً، والمراد‏:‏ أنهم يؤمنون به يومئذٍ مع جميع من يؤمن به‏.‏ وفي هذا الوعد للرّسول صلى الله عليه وسلم تعريض بهم إذْ يسمعونه على طريقة‏:‏ فاسمعي يا جارة‏.‏

فموقع هذه الجملة بصريحها وتعريضها من الجملة التي قبلها موقع التعليل لأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما أمر به، والتعليل راجع إلى إحالتهم على تشكيكهم في موقفهم للطعن في القرآن‏.‏ وقد سكت عما يترتب على ظهور الآيات في الآفاق وفي أنفسهم المبينة أن القرآن حقّ لأن ما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 52‏]‏ ينبئ عن تقديره، أي لا يسعهم إلا الإيمان بأنه حق فمن كان منهم شاكّاً من قبلُ عن قلة تبصر حصل له العلم بعد ذلك، ومن كان إنّما يكفر عناداً واحتفاظاً بالسيادة افتضح بهتانه وسفَّهه جيرانه‏.‏ وكلاهما قد أفات بتأخير الإيمان خيراً عظيماً من خير الآخرة بما أضاعه من تزود ثواب في مدة كفره ومن خير الدّنيا بما فاته من شرف السبق بالإيمان والهجرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوي منكم من أنفقَ مِن قبللِ الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاَّ وعد الله الحسنى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وفي هذه الآية طرف من الإعجاز بالإخبار عن الغيب إذ أخبرتْ بالوعد بحصول النصر له ولدينه وذلك بما يسَّر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه مِن بعده في آفاق الدّنيا والمشرق والمغرب عامة وفي بَاحة العرب خاصة من الفتوح وثباتها وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمْثالها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض، والتّاريخ شاهد بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمر خارق للعادة، فيتبيّن أن دين الإسلام هو الحق وأن المسلمين كلما تمسّكوا بعُرى الإسلام لَقُوا من نصر الله أمراً عجيباً يشهد بذلك السابق واللاحق، وقد تحدّاهم الله بذلك في قوله‏:‏

‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ ثم قال ‏{‏ويقول الذّين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏

ولم يقف ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة فتقلّدوه ديناً وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم فأصلحت عوائدهم ونُظُمهم المدنِيّة المختلفة التي كانوا عليها فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة وأوجدوا حضارة جديدة سالمة من الرعونة وتفشت لغة القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن وتعارفت بواسطتها ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدّين وعلماء العربية وأيّمة الأدب العربي وفحول الشعراء ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم‏.‏

فالمراد بالآيات في قوله‏:‏ ‏{‏سنريهم آياتنا‏}‏ ما يشمل الدلائل الخارجة عن القرآن وما يشمل آيات القرآن فإن من جملة معنى رؤيتها رؤية ما يصدِّق أخبارها ويبيّن نصحها إياهم بدعوتها إلى خير الدّنيا والآخرة‏.‏

والآفاق‏:‏ جمع أُفُق بضمتين وتسكن فاؤه أيضاً هو‏:‏ الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها، والناحية من قبة السماء‏.‏ وعطف ‏{‏وفي أنفسهم‏}‏ يجوزُ أن يكون من عطف الخاص على العام، أي وفي أفق أنفسهم، أي مكّة وما حولها على حذف مضاف‏.‏

والأحسن أنْ يكون في الآفاق على عمومه الشامل لأفقهم، ويكون معنى ‏{‏وفي أنفسهم‏}‏ أنّهم يرون آيات صدقه في أحوال تصيب أنفسهم، أي ذواتهم مثل الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتَقِبْ يوم تأتي السماء بدخان مبين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10‏]‏، ومثل ما شاهدوه من مَصارِع كبرائهم يوم بدر وقد توعدهم به القرآن بقوله ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وأيَّة عبرة أعظم من مقتل أبي جهل يوم بدر رماه غلامان من الأنصار وتولى عبد الله بن مسعود ذبحه وثلاثتهم من ضعفاء المسلمين وهو ذلك الجبار العنيد‏.‏ وقد قال عند مَوته‏:‏ لو غيرُ أكَّار قتلني، ومن مقتل أُبيّ بن خلف يومئذٍ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قال له بمكة‏:‏ أنا أقتلُك وقد أيقن بذلك فقال لزوجه ليلة خروجه إلى بدر‏:‏ والله لو بصق علي لقتلني‏.‏

‏{‏الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَئ‏}‏‏.‏

عَطْفٌ على إعلام الرّسول بما سيظهر من دلائل صدق القرآن وصدق الرّسول صلى الله عليه وسلم زيادة لتَثبيتتِ الرّسول وشرح صدره بأن الله تكفل له بظهور دينه ووضوح صدقه في سائر أقطار الأرض وفي أرض قومه، على طريقة الاستفهام التقريري تحقيقاً لتيقن النبي صلى الله عليه وسلم بكفالة ربّه بحيث كانت ممّا يقرر عليها كنايةً عن اليقين بها، فالاستفهام تقريري‏.‏

والمعنى‏:‏ تكفيك شهادة ربّك بصدقك فلا تلتفت لتكذيبهم، وهذا على حدّ قوله‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏وأرسلناك للنّاس رسولاً وكفى بالله شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ فهذا وجه في موقع هذه الآية‏.‏

وهنالك وجه آخر أن يكون مساقها مساق تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يستشهد بالله على أن القرآن من عند الله، فيكون موقعها موقع القَسم بإشهاد الله، وهو قسم غليظ فيه معنى نسبة المقسَم عليه إلى أنه مما يشهَد الله به فيكون الاستفهام إنكارياً إنكاراً لعدم الاكتفاء بالقَسَم بالله، وهو كناية عن القسم، وعن عدم تصديقهم بالقسَم، فيكون معنى الآية قريباً من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وليس معنى الآية إنكاراً على المشركين أنّهم لم يكتفوا بشهادة الله على صدق القرآن ولا على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّهم غير معترفين بأن الله شهد بذلك فلا يظهر توجه الإنكار إليهم‏.‏ ولقد دلّت كلمات المفسرين في تفسير هذه الآية على تردد في استخراج معناها من لفظها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أنه على كل شيء شهيد‏}‏ بدل اشتمال من ‏{‏بربّك‏}‏ والتقدير‏:‏ أو لم يكفهم ربُّك عِلمُه بكل شيء، أي فهو يحقق ما وعدك من دمغهم بالحجة الدالة على صدقك، أو فمن استشهدَ به فقد صدق لأن الله لا يُقرّ من استشهد به كاذباً فلا يلبثُ أن يأخذه‏.‏

وفي الآية على الوجه الثاني من وجهي قوله‏:‏ ‏{‏أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد‏}‏ إشارة إلى أن الله لا يصدق من كذب عليه فلا يتم له أمر وهو معنى قول أيّمة أصول الدّين‏:‏ إن دلالة المعجزة على الصدق أن تغيير الله العادة لأجل تحدّي الرّسول صلى الله عليه وسلم قائم مقام قوله‏:‏ صَدَق عبدي فيما أخبر به عني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

تذييلان للسورة وفذلكتان افتتحا بحرف التنبيه اهتماماً بما تضمناه‏.‏ فأما التذييل الأول فهو جُماع ما تضمنته السورة من أحوال المشركين المعاندين إذ كانت أحوالهم المذكورة فيها ناشئة عن إنكارهم البعث فكانوا في مأمن من التفكير فيما بعد هذه الحياة، فانحصرت مساعيهم في تدبير الحياة الدّنيا وانكبُّوا على ما يعود عليهم بالنفع فيها‏.‏ وضمير ‏{‏إنهم‏}‏ عائد إليهم كما عاد ضمير الجمع في ‏{‏سنريهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وأما التذييل الثاني فهو جامع لكل ما تضمنته السورة من إبطاللٍ لأقوالهم وتقويممٍ لاعوجاجهم، لأن ذلك كله من آثار علم الله تعالى بالغيب والشهادة‏.‏ وتأكيد الجملتين بحرف التأكيد مع أن المخاطب بهما لا يشكّ في ذلك لقصد الاهتمام بهما واستدعاء النّظر لاستخراج ما تحويانه من المعاني والجزئيات‏.‏

والمرية بكسر الميم وهو الأشهر فيها واتفقت عليه القراءات المتواترة، وبكسر الميم وهو لغة مثل‏:‏ خِفْية وخُفية‏.‏ والمرية‏:‏ الشك‏.‏ وحرف الظرفية مستعار لتمكن الشك بهم حتى كأنّهم مظروفون فيه و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية وتعدى بها أفعال الشك إلى الأمر المشكوك فيه بتنزيل متعلق الفعل منزلة مثار الفعل بتشبيه المفعول بالمَنشإ كأن الشك جاء من مكان هو المشكوك فيه‏.‏

وفي تعليقه بذات الشيء مع أن الشك إنما يتعلق بالأحكام مبالغة على طريقة إسناد الأمور إلى الأعيان والمرادُ أوصافها، فتقدير ‏{‏في مرية من لقاء ربهم‏}‏‏:‏ في مرية من وقوع لقاء ربّهم وعدممِ وقوعه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ أي في ريب من كونه منزلاً‏.‏ وأطلق الشك على جزمهم بعدم وقوع البعث لأن جزمهم خلي عن الدّليل الذي يقتضيه، فكان إطلاق الشك عليه تعريضاً بهم بأن الأوْلى بهم أن يكونوا في شك على الأقل‏.‏

ووصف الله بالمحيط مجاز عقلي لأن المحيط بكل شيء هو علمه فأسندت الإحاطة إلى اسم الله لأن ‏(‏المحيط‏)‏ صفة من أوصافه وهو العلم‏.‏

وبهاتين الفذلكتين آذن بانتهاء الكلام فكان من براعة الختام‏.‏

سورة الشورى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏‏}‏

ابتدئت بالحروف المقَطَّعة على نحو ما ابتدئت به أمثالها مثل أول سورة البقرة لأن ابتداءها مشير إلى التحدّي بعجزهم عن معارضة القرآن وأن عجزهم عن معارضته دليل على أنه كلام منزل من الله تعالى‏.‏

وخصت بزيادة كلمة ‏{‏عسق‏}‏ على أوائل السور من آل ‏{‏حم‏}‏ ولعل ذلك لحال كانوا عليه من شدّة الطعن في القرآن وقت نزول هذه السورة، فكان التحدي لهم بالمعارضة أشد فزيد في تحدّيهم من حروف التهجّي‏.‏ وإنّما لم تُوصل الميم بالعين كما وصلت الميم بالراء في طالعة سورة الرعد، وكما وصلت الميم بالصاد في مفتتح سورة الأعراف، وكما وصلت العين بالصاد في مفتتح سورة مريم، لأن ما بعد الميم في السور الثلاث حرف واحد فاتصاله بما قبله أولى بخلاف ما في هذه السورة فإنه ثلاثة حروف تشبه كلمة فكانت أولى بالانفصال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

موقع الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يوحي إليك‏}‏ كموقع قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ مِثْلَ هذا الوحي يُوحِي الله إليك، فالمشار إليه‏:‏ الإيحاء المأخوذ من فعل يوحي‏}‏‏.‏

وأما ‏{‏وإلى الذين من قبلك‏}‏ فإدماج‏.‏ والتشبيه بالنسبة إليه على أصله، أي مثل وحيه إليك وحيه إلى الذين من قبلك، فالتشبيه مستعمل في كلتا طريقتيه كما يستعمل المشترك في معنييه‏.‏ والغرض من التشبيه إثبات التسوية، أي ليس وحي الله إليك إلا على سنة وحيه إلى الرّسل من قبلك، فليس وحيه إلى الرّسل من قبلك بأوضح من وحيه إليك‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏، أي ما جاء به من الوحي إن هو إلا مِثلُ ما جاءت به الرّسل السابقون، فما إعراض قومه عنه إلا كإعراض الأمم السالفة عما جاءت به رسلهم‏.‏ فحصل هذا المعنى الثاني بغاية الإيجاز مع حسن موقع الاستطراد‏.‏

وإجراء وصفي ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ على اسم الجلالة دون غيرهما لأن لهاتين الصفتين مزيدَ اختصاص بالغرض المقصود من أن الله يصطفي من يشاء لرسالته‏.‏ ف ‏{‏العزيز‏}‏ المتصرف بما يريد لا يصده أحد‏.‏ و‏{‏الحكيم‏}‏ يُحَمِّل كلامَه معاني لا يبلغ إلى مثلها غيرُه، وهذا من متممات الغرض الذي افتتحت به السورة وهو الإشارة إلى تحدّي المعاندين بأن يأتوا بسورة مثل سور القرآن‏.‏

وجملة ‏{‏كذلك يوحي إليك‏}‏ إلى آخرها ابتدائية، وتقديم المجرور من قوله ‏{‏كذلك‏}‏ على ‏{‏يوحي إليك‏}‏ للاهتمام بالمشار إليه والتشويق بتنبيه الأذهان إليه، وإذ لم يتقدم في الكلام ما يحتمل أن يكون مشاراً إليه ب ‏{‏كذلك‏}‏ عُلم أن المشار إليه مقدر معلوم من الفعل الذي بعد اسم الإشارة وهو المصدر المأخوذ من الفعل، أي كذلك الإيحاء يوحي إليك الله‏.‏ وهذا استعمال متّبع في نظائر هذا التركيب كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏ وأحسب أنّه من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثله في كلام العرب قبل القرآن‏.‏ وما ذكره الخفاجي في سورة البقرة من تنظيره بقول زهير‏:‏

كذلك خِيمهم ولكلِّ قوم *** إذا مسَّتهم الضّراء خِيم

لا يصحّ لأن بيْت زهير مسبوق بما يصلح أن يكون مشاراً إليه، وقد فاتني التنبيه على ذلك فيما تقدم من الآيات فعليك بضم ما هنا إلى ما هنالك‏.‏

والجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف دلّ عليه ‏{‏يوحي‏}‏ أي إيحاءً كذلك الإيحاء العجيب‏.‏ والعدول عن صيغة الماضي إلى صيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يوحي‏}‏ للدلالة على أن إيحاءه إليه متجدد لا ينقطع في مدة حياته الشريفة لييأس المشركون من إقلاعه بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ إذ لا غرض في إفادة معنى التجدد هناك‏.‏

وأمّا مراعاة التجدّد هنا فلأنَّ المقصود من الآية هو ما أوحي به إلى محمّد صلى الله عليه وسلم من القرآن، وأنَّ قوله‏:‏ ‏{‏إلى الذين من قبلك‏}‏ إدماج‏.‏

ولك أن تعتبر صيغة المضارع منظوراً فيها إلى متعلِّقي الإيحاء وهو ‏{‏إليك‏}‏ و‏{‏إلى الذين من قبلك‏}‏، فتجعل المضارع لاستحضار الصورة من الإيحاء إلى الرّسل حيث استبعد المشركون وقوعه فجعل كأنّه مشاهد على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يوحي‏}‏ بصيغة المضارع المبني للفاعل واسم الجلالة فاعل‏.‏ وقرأه ابن كثير ‏{‏يوحَى‏}‏ بالبناء للمفعول على أن ‏{‏إليك‏}‏ نائب فاعل، فيكون اسم الجلالة مرفوعاً على الابتداء بجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنّه لما قال‏:‏ يوحى إليك، قيل‏:‏ ومن يُوحيه، فقيل‏:‏ الله العزيز الحكيم، أي يوحيه الله على طريقة قول ضِرار بن نَهشل أو الحارث بن نهيك‏:‏

ليُبْك يزيدُ ضارعٌ لخُصومة *** ومختَبِط ممّا تُطيح الطوائح

إذ كانت رواية البيت بالبناء للنائب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ مقررة لوصفه ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 3‏]‏ لأن من كان ما في السماوات وما في الأرض مِلكاً له تتحقق له العزّة لقوة ملكوته، وتتحقق له الحكمة لأن الحكمة تقتضي خلقَ ما في السماوات والأرض وإتقانَ ذلك النظام الذي تسير به المخلوقات‏.‏ ولكون هذه الجملة مقررةً معنى التي قبلها كانت بمنزلة التأكيد فلم تعطف عليها‏.‏

وجملة ‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏ عطف عليها مقررة لما قررته الجملة قبلها فإن مَن اتصف بالعلاء والعظمة لو لم يكن عزيزاً لتخلف علاؤهُ وعظمته، ولا يكون إلا حكيماً لأن عَلاءه يقتضي سموّه عن سفاسف الصفات والأفعال، ولو لم يكن عظيماً لتعلقت إرادته بسفاسف الأمور ولتنازل إلى عبث الفعال‏.‏

والعلو هنا علو مجازي، وهو السموّ في الكمال بحيث كان أكمل من كل موجود كامل‏.‏ والعظمة مجازية وهي جلالة الصفات والأفعال‏.‏ وأفادت صيغة الجملة معنى القصر، أي لا عليّ ولا عظيم غيره لأن مَن عداه لا يخلو عن افتقار إليه فلا علوّ له ولا عظمة‏.‏ وهذا قصر قلب، أي دون آلهتكم فلا علو لها كما تزعمون‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ أعْلُ هُبل‏.‏

وتقدم معنى هاتين الجملتين في خلال آية الكرسي من سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏العظيم * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ‏}‏‏.‏

جملة مستأنفة مقررة لمعنى جملة ‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4‏]‏ ولذلك لم تعطف عليها، أي يكاد السماوات على عظمتهن يتشققن من شدّة تسخرهن فيما يسخرهُن الله له من عمل لا يخالف ما قدّره الله لهنّ، وأيضاً قد قيل‏:‏ إن المعنى‏:‏ يكاد السماوات يتفطرن من كثرة ما فيهن من الملائكة والكواكب وتصاريف الأقدار، فيكون في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أطَّتتِ السماء وبِحَقها أن تَئطّ‏.‏ والذي نفسُ محمّد بيده ما فيها موضع شِبر إلا فيه جبهة مَلَك ساجد يسبح الله بحمده ‏"‏ ويرجّحه تعقيبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم‏}‏ كما سيأتي‏.‏

وقرأ نافع وحده والكسَائِي ‏{‏يكاد‏}‏ بتحتية في أوّله‏.‏ وقرأه الباقون بفوقية وهما وجهان جائزان في الفعل المسند إلى جمع غيرِ المذكر السالم وخاصة مع عدم التأنيث الحقيقي‏.‏ وتقدم في سورة مريم ‏(‏90‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏يكاد السماوات يتفَطَّرْنَ منه‏.‏ وقرأ الجمهور يتفطرن‏}‏ بتحتية ثم فوقية وأصله مضارع التفطر، وهو مطاوع التفطير الذي هو تكرير الشقّ‏.‏ وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بِتَحتيّة ثم نون وهو مضارع‏:‏ انفطَر، مطاوع الفطر مصدر فطَر الثلاثي، إذا شَقَّ، وليس المقصود منه على القراءتين قبول أثر الفاعل إذ لا فاعل هنا للشقّ وإنّما المقصود الخبر بحصول الفعل، وهذا كثير، كقولهم‏:‏ انشقّ ضوء الفجر، فلا التفات هنا لما يقصد غالباً في مادة التفعل من تكرير الفعل إذ لا فاعل للشقّ هنا ولا لتكرره، فاستوت القراءتان في باب البلاغة، على أنّ استعمال صيغ المطاوعة في اللّغة ذو أنحاء كثيرة واعتبارات كما نبه عليه كلام الرضيّ في «شرح الشافية»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من فوقهن‏}‏ يجوز أن يكون ضمير ‏{‏فوقهن‏}‏ عائداً على ‏{‏السماوات‏}‏، فيكون المجرور متعلقاً بفعل ‏{‏يتفطرن‏}‏ بمعنى‏:‏ أن انشقاقهن يحصل من أعلاهنّ، وذلك أبلغ الانشقاق لأنه إذا انشقّ أعلاهن كان انشقاق ما دونه أولى، كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهي خاوية على عروشها‏}‏ كما تقدم في سورة البقرة ‏(‏259‏)‏ وفي سورة الحج ‏(‏45‏)‏‏.‏ وتكون ‏{‏من‏}‏ ابتدائيّة‏.‏

ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى ‏{‏الأرض‏}‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4‏]‏ على تأويل الأرض بأرضين باعتبار أجزاء الكرة الأرضية أو بتأويل الأرض بسكانها من باب ‏{‏واسْأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وتكون ‏{‏من‏}‏ زائدة زيادتها مع الظروف لتأكيد الفوقية، فيفيد الظرف استحضار حالة التفطر وحالة موقعه، وقد شبه انشقاق السماء بانشقاق الوَردة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدِّهان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 37‏]‏‏.‏ والوردة تنشق من أعلاها حين ينفتح بُرْعُومُها فيوشك إنْ هُن تفطَّرْنَ أن يخْررْنَ على الأرض، أي يكاد يقع ذلك لِما فشا في الأرض من إشراك وفساد على معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إِدًّا يكاد السماوات يتفطَّرْنَ منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً‏}‏

‏[‏مريم‏:‏ 88 90‏]‏ ويرجحه قوله الآتي‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وعن ابن عباس ‏{‏يكاد السماوات يتفطَّرن‏}‏ من قول المشركين ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

‏{‏فَوْقِهِنَّ والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور‏}‏‏.‏

جملة عطفت على جملة ‏{‏يكاد السماوات يتفطرن‏}‏ لإفادتها تقرير معنى عظمة الله تعالى وجلاله المدلول عليهما بقوله‏:‏ ‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4‏]‏‏.‏

مرتبة واجب الوجود سبحانه وهو أهل التنزيه والحمد ومرتبة الروحانيات وهي الملائكة وهي واسطة المتصرف القدير ومفيض الخير في تنفيذ أمره من تكوين وهدى وإفاضة خير على النّاس، فهي حين تتلقى من الله أوامره تسبِّحُه وتحمده، وحين تفيض خيرات ربّها على عباده تستغفر للذين يتقبلونها تقبل العبيد المؤمنين بربّهم، وتلك إشارة إلى حصول ثمرات إبلاغها، وذلك بتأثيرها في نظم أحوال العالم الإنساني‏.‏ ومرتبة البشرية المفضلة بالعقل إذ أكمله الإيمانُ وهي المراد ب ‏(‏من في الأرض‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

جملة معطوفة على جملة ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4‏]‏ بعد أن أفيد ما هو كالحجة على أن لله ما في السماوات وما في الأرض من قوله ‏{‏وهو العليُ العظيم يكاد السموات‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4، 5‏]‏ الآيتين‏.‏ فالمعنى‏:‏ قد نهضت حجة انفراده تعالى بالعزة والحكمة والعلوّ والعظمة وعلمها المؤمنون فاستغفرْت لهم الملائكة‏.‏ وأما الذين لم يبصروا تلك الحجة وعميت عليهم الأدلة فلا تَهْتَمَّ بشأنهم فإن الله حَسْبُهم وما أنت عليهم بوكيل‏.‏ فهذا تسكين لحزن الرّسول صلى الله عليه وسلم من أجل عدم إيمانهم بوحدانية الله تعالى‏.‏

وهذه مقدّمة لما سيأمر به الرّسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ الآية، ثم قوله‏:‏ ‏{‏شَرع لكم من الدّين ما وصَّى به نوحاً‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ الآيات، ثم قوله‏:‏ ‏{‏فلذلك فادع واستقم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أسألُكم عليه أجراً‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا من دونه أولياء‏}‏ مبتدأ وجملة ‏{‏الله حفيظ عليهم‏}‏ خبر عن ‏{‏الذين اتخذوا من دونه أولياء‏}‏‏.‏

والحفيظ‏:‏ فعيل بمعنَى فاعل، أي حافظ، وتختلف معانيه ومرجعها إلى رعاية الشيء والعناية به‏:‏ ويكثر أن يستعمل كناية عن مراقبة أحوال المرقوب وأعماله، وباختلاف معانيه تختلف تعديته بنفسه أو بحرف جرّ يناسب المعنى، وقد عُدّي هنا بحرف ‏(‏على‏)‏ كما يُعدّى الوكيل لأنه بمعناه‏.‏

والوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكولُ إليه عملٌ في شيء أو اقتضاءُ حق‏.‏ يقال‏:‏ وكله على كذا، ومنه الوكالة في التصرفات المالية والمخاصمة، ويكثر أن يستعمل كناية عن مراقبة أحوال الموكّل عليه وأعماله‏.‏ وقد استعمل ‏{‏حفيظ‏}‏ و‏(‏وكيل‏)‏ هنا في استعمالهما الكنائي عن مُتقارب المعنى فلذلك قد يفسر أهل اللّغة أحد هذين اللفظين بما يقرب من تفسير اللّفظ الآخر كتفسير المرادف بمرادفه، وذلك تسامحٌ‏.‏ / فعلَى من يريد التفرقة بين اللّفظين أن يرجع بهما إلى أصل مادتي ‏(‏حَفِظ‏)‏ و‏(‏وكَل‏)‏، فمادة ‏(‏حفظ‏)‏ تقتضي قيام الحدث بفاعل وتعديته إلى مفعول، ومادة ‏(‏وكَل‏)‏ تقتضي قيام الحدث بفاعل وتعديته إلى مفعول وتجاوزه من ذلك المفعول إلى شيء آخر هو متعلق به، وبذلك كان فعل ‏(‏حفظ‏)‏ مفيداً بمجرد ذكر فاعله ومفعوله دون احتياج إلى متعلَّق آخر، بخلاف فعل ‏(‏وَكَلَ‏)‏ فإفادته متوقفة على ذكرِ أو على تقديرِ ما يدل على شيء آخر زائد على المفعول ومن علائقه، فلذلك أوثر وصف ‏{‏حفيظ‏}‏ هنا بالإسناد إلى اسم الجلالة لأن الله جلّ عن أن يكلفه غيره حفظ شيء فهو فاعل الحفظ، وأوثر وصف ‏(‏وكيل‏)‏ بالإسناد إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود أن الله لم يكلفه بأكثر من التبليغ، والمعنى‏:‏ الله رقيب عليهم لا أنتَ وما أنت بموكل من الله على جبرهم على الإيمان‏.‏

وفي معناه قوله في آخر هذه السورة ‏{‏فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إنْ عليك إلا البلاغ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وأيضاً هي كالبيان لما في جملة ‏{‏يكاد السموات يتفطرن‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ لأنّ من أسباب مقاربة تفطرهن كثرة ما فيهن من الملائكة‏.‏ ولولا أنّها أريد منها زيادة تقرير معنى جملة ‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 4‏]‏ لكانت جديرة بأن تفصل ولكن رُجح العطف لأجل الاهتمام بتقرير العلوّ والعظمة لله تعالى‏.‏ وأما التبيين فيحصل بمجرد تعقيب جملة يكاد السماوات يتفطرن بها كما علمته آنفاً‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏الملائكة‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ مبتدأ وجملة ‏{‏يسبحون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ خبر والمقصود الإعلام بجلال الله‏.‏

وتسبيح الملائكة بحمد الله‏:‏ خضوع لعظمته وعلوه، والتسبيح‏:‏ التنزيه عن النقائص‏.‏

فتسبيح الملائكة قد يكون عبارة عن إدراكهم عظمة الله تعالى فهو‏:‏ انفعال رُوحاني كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اذكر ربّك في نفسك تضرعاً وخيفةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏، وقد يكون دلالة على التنزيه بما يناسب الملائكة من ظواهر الانفعال بالطاعة أو من كلام مناسب للحالة الملَكية وكذلك حمدهم ربّهم واستغفارهم لمن في الأرض‏.‏

ومفعول ‏{‏يسبحون محذوف دلّ عليه مصاحبته ‏{‏بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ تقديره‏:‏ يسبحون ربّهم، والباء للمصاحبة، أي يسبحون تسبيحاً مصاحباً لحمدهم ربّهم، أي الثناء عليه بصفاته الكمالية، ومن الثناء ما هو شكر على نعمه عليهم وعلى غيرهم، فالمعنى‏:‏ يسبحون الله ويحمدونه‏.‏ وهذا تعريض بالمشركين إذ أعرضوا عن تسبيح ربّهم وحمده وشُغلوا بتحميد الأصنام التي لا نعمة لها عليهم ولا تنفعهم ولا تضرهم‏.‏

وتقديم التسبيح على الحمد إشارة إلى أن تنزيه الله عمّا لا يليق به أهم من إثبات صفات الكمال له لأن التنزيه تمهيد لإدراك كمالاته تعالى‏.‏ ولذلك كانت الصفات المعبّر عنها بصفات السُّلُوب مقدمة في ترتيب علم الكلام على صفات المعاني عندنا والصفاتتِ المعنوية‏.‏

والاستغفار لمن في الأرض‏:‏ طلب المغفرة لهم بحصول أسبابها لأن الملائكة يعلمون مراتب المغفرة وأسبابها، وهم لكونهم من عالم الخير والهدى يحرصون على حصول الخير للمخلوقات وعلى اهتدائهم إلى الإيمان بالله والطاعات ويناجون نفوس الناس بدواعي الخير، وهي الخواطر المَلكية‏.‏ فالمراد ب ‏{‏لمن في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ من عليها يستحقون استغفار الملائكة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يحملون العرش ومَن حوله يسبحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وَسِعتَ كل شيءٍ رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقِهِمْ عذاب الجحيم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وقِهِمْ السيّئات‏}‏ في سورة المؤمن ‏(‏9‏)‏‏.‏ وقد أثبت القرآن أن الملائكة يلعنون من تحق عليه اللّعنة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك عليهم لعنة الله والملائكة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏161‏)‏‏.‏ فعموم من في الأرض هنا مخصوص بما دلّت عليه آية سورة المؤمن‏.‏

وجملة ‏{‏ألا إن الله هو الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ تذييل لجملة ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ إلى آخرها لإبطال وهَم المشركين أن شركاءهم يشفعون لهم، ولذلك جيء في هذه الجملة بصيغة القصر بضمير الفصل، أي أن غير الله لا يغفر لأحد‏.‏ وصُدرت بأداة التنبيه للاهتمام بمُفادها‏.‏ وقد أشارت الآية إلى مراتب الموجودات، وهي‏:‏

والمقصود رفع التبعية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدم استجابتهم للتوحيد، أي لا تخشَ أن نسألك على عدم اهتدائهم إذ ما عليك إلا البلاغ، وتقدم في قوله‏:‏

‏{‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏107‏)‏‏.‏

وإذ قد كان الحفيظ الوكيل بمعنًى كان إثبات كون الله حفيظاً عليهم ونفيُ كون الرّسول وكيلاً عليهم مفيداً قصر الكون حفيظاً عليهم على الله تعالى دون الرّسول بطريققٍ غيرِ أحدِ طرق القصر المعروفة فإن هذا من صريح القصر ومنطوقهِ لا من مفهومه وهو الأصل في القصر وإن كان قليلاً، ومنه قول السمَوْأل‏:‏

تَسيل على حد الظبات نفوسُنا *** وليستْ على غير الظُبات تسيل

وأما طرق القصر المعروفة في علم المعاني فهي من أسلوب الإيجاز، والقصر قصر قلب كما هو صريح طرفه الثاني في قوله‏:‏ وما أنت عليهم بوكيل‏}‏، نزل الرّسول صلى الله عليه وسلم منزلة من يحسب أنه وكيل على إيمانهم وحصل من هذا التنزيل تعريض بهم بأنهم لا يضرّون الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يصدّقوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 3‏]‏ الخ باعتبار المغايرة بين المعطوفة والمعطوف عليها بما في المعطوفة من كون المُوحَى به قرآناً عربيّاً، وما في المعطوف عليها من كونه من نوع ما أوحي به إلى الذين من قبله‏.‏ والقول في ‏{‏وكذلك أوحينا‏}‏ كالقول في ‏{‏كذلك يوحِي إليك‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وإنّما أعيد ‏{‏وكذلك أوحينا‏}‏ ليبنى عليه ‏{‏قرآناً عربياً‏}‏ لِما حجز بينهما من الفصل وأصل النظم‏:‏ كذلك يوحي إليك الله العزيز الحكيم قرآناً عربياً مع ما حصل بتلك الإعادة من التأكيد لتقرير ذلك المعنى أفضل تقرير‏.‏

والعدول عن ضمير الغائب إلى ضمير العظمة التفات‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أنه لا فرق بين ما أوحي إليك وما أوحي إلى مَن قبلك، إلا اختلاف اللّغات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والقرآن مصدر‏:‏ قرأ، مثل‏:‏ غُفران وسُبحان، وأطلق هنا على المقروء مبالغة في الاتصاف بالمقروئية لكثرة ما يقرأه القارئون وذلك لحسنه وفائدته، فقد تضمن هذا الاسم معنى الكمال بين المقروءات‏.‏ و‏{‏عربياً‏}‏ نسبة إلى العربية، أي لغة العرب لأنّ كونه قرآناً يدلّ على أنه كلام، فوصفه بكونه ‏{‏عربياً‏}‏ يفيد أنه كلام عربي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتنذر أم القرى ومن حولها‏}‏ تعليل ل ‏{‏أوحينا إليك قرآناً عربياً‏}‏ لأن كونه عربيّاً يليق بحال المنذَرين به وهم أهل مكّة ومَن حولها، فأولئك هم المخاطبون بالدِّين ابتداء لما اقتضته الحكمة الإلهية من اختيار الأمة العربية لتكون أوّل من يتلقّى الإسلام وينشره بين الأمم، ولو روعي فيه جميع الأمم المخاطبين بدعوة الإسلام لاقتضى أن ينزل بلغات لا تُحصى، فلا جرم اختار الله له أفضل اللّغات واختار إنزاله على أفضل البشر‏.‏

و ‏{‏أم القرى‏}‏ مكّة، وكنيت‏:‏ أم القرى لأنها أقدم المدن العربية فدعاها العرب‏:‏ أم القرى، لأن الأم تطلق على أصل الشيء مثل‏:‏ أم الرأس، وعلى مرجعه مثل قولهم للراية‏:‏ أم الحرب، وقولهم‏:‏ أم الطريق، للطريق العظيم الذي حوله طرق صغار‏.‏ ثم إن إنذار أم القرى يقتضي إنذار بقية القُرى بالأحرى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتنذر أم القرى‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏92‏)‏‏.‏

والمراد‏:‏ لتنذر أهلَ أمّ القُرى، فأطلق اسم البلد على سكانه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسألْ القريةَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وأهل مكّة هم قريش، وأما من حولها فهم النازلون حولها من القبائل مثل خُزاعة وكنانة، ومن الذين حولها قريشٌ الظواهر وهم الساكنون خارج مكة في جبالها‏.‏

والاقتصار على إنذار أمّ القُرى ومن حولها لا يقتضي تخصيص إنذار الرّسول صلى الله عليه وسلم بأهل مكة ومَن حولها، ولا تخصيص الرّسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار دون التبشير للمؤمنين لأن تعليل الفعل بعلة باعثه لا يقتضي أن الفعل المعلّل مخصص بتلك العلّة ولا بمتعلِّقاتها إذ قد يكون للفعل الواحد عللُ باعثة فإن الرّسول صلى الله عليه وسلم بُعث للنّاس كافة، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وما أرسلناك إلا كافّة للنّاس بشيراً ونذيراً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 28‏]‏‏.‏ والاقتصار هنا على إنذار أهل مكّة ومَن حولها لأنهم المقصود بالردّ عليهم لإنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

وانتصب ‏{‏أم القرى‏}‏ على المفعول به لِفعل ‏{‏تنذر‏}‏ بتنزيل الفعل منزلة المعدَّى إلى مفعول واحد إذ لم يذكر معه المنذَر منه وهو الذي يكون مفعولاً ثانياً لفعل الإنذار‏.‏ لأنّ ‏(‏أنذر‏)‏ يتعدّى إلى مفعولين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أنذرتكم صاعقةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏، وفي حديث الدجال‏:‏ «مَا من نبيء إلاّ أنذَر قومَه»‏.‏ فالمعنى‏:‏ لتنذر أهل القرى ومن حولها ما يُنذرونه من العذاب في الدّنيا والآخرة‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏وتنذر يوم الجمع‏}‏ أعيد فعل ‏{‏تنذر‏}‏ لزيادة تهويل أمر يوم الجمع لأن تخصيصه بالذكر بعد عموم الإنذار يقتضي تهويله، ولأن تعدية فعل ‏{‏وتنذر‏}‏ إلى ‏{‏يوم الجمع‏}‏ تعدية مخالفة لإنذار أم القرى لأن ‏{‏يوم الجمع‏}‏ مفعول ثان لفعل ‏{‏وتنذر‏}‏، أي وتنذر الناس يوم الجمع، فمفعول ‏{‏وتنذر‏}‏ الثاني هو المنذر به ومفعول ‏{‏لتنذر‏}‏ الأول هو المنذر‏.‏

وانتصب ‏{‏يوم الجمع‏}‏ على أنّه مفعول ثاننٍ لفعل ‏{‏تنذر‏}‏ وحذف مفعوله الأول لدلالة ما تقدم عليه، أي وتنذرهم، أي أهل أم القرى يومَ الجمع بالخصوص كقوله ‏{‏وأنذرهم يوم الآزفة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ويومُ الجمع‏:‏ يومُ القيامة، سمي ‏{‏يوم الجمع‏}‏ لأن الخلائق تُجمَع فيه للحساب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمعكم ليوم الجمع‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والجمع مصدر، ويجوز أن يكون اسماً للمجتمعين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا فَوْجٌ مقتحمٌ معكم‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 59‏]‏، أي يوم جماعة النّاس كلهم‏.‏

وجملة ‏{‏فريق في الجنة‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، وعطفت عليها جملة ‏{‏وفريق في السعير‏}‏ فكان الجملتان جواباً لسؤال سائل عن شأن هذا الجمع إن كان بمعنى المصدر‏.‏ فقيل‏:‏ فريق في الجنّة وفريق في السعير، أي فريق من المجموعين بهذا الجمع في الجنّة وفريق في السعير، أو لسؤال سائل عن حال هذا الجمع إن كان الجمعُ بمعنى المجموعين‏.‏ والتقدير‏:‏ فريق منهم في الجنّة وفريق منهم في السعير‏.‏ وتقدم السعير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا خبت زدناهم سعيراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏97‏)‏‏.‏ وسوغ الابتداء ب ‏{‏فريق‏}‏ وهو نكرة لوقوعها في معرض التفصيل كقول امرئ القيس‏:‏

فأقبلتُ زحفاً على الركبتين *** فثوبٌ لبِستُ وثوبٌ أَجُرّ

وجملة ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ معترضة بين البيان والمبيَّن‏.‏ ومعنى ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أن دلائله تنفي الشك في أنه سيقع فنزّل ريب المرتابين في منزلة العدم لأن موجبات اليقين بوقوعه بينة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏2‏)‏‏.‏ وظرفية الريب المنفي في ضمير اليوم في قوله‏:‏ لا ريب فيه‏}‏ من باب إيقاع الفعل ونحوه على اسم الذات، والمراد‏:‏ إيقاعه على بعض أحوالها التي يدل عليها المقام مثل ‏{‏حُرِّمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، أي أكلُها، أي لا ريبَ في وقوعه‏.‏ وجملة ‏{‏فريق في الجنة‏}‏ الخ معترضة و‏{‏فريق‏}‏ خبر مبتدأ محذوف على طريقة الحذف المتابع فيه الاستعمال كما سماه السكاكي، أي هم فريق في الجنّة الخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏‏.‏ والغرض من هذا العطف إفادة أن كونهم فريقين أمرٌ شاء الله تقديره، أي أوجد أسبابه بحكمته ولو شاء لقدّر أسباب اتحادهم على عقيدة واحدة من الهُدى فكانوا سواء في المصير، والمراد‏:‏ لكانوا جميعاً في الجنّة‏.‏

وهذا مسوق لتسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على تمنّيهم أن يكون النّاس كلّهم مهتدين ويكون جميعهم في الجنّة، وبذلك تعلم أن ليس المراد‏:‏ لو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة في الأمرين الهُدى والضلال، لأن هذا الشقّ الثاني لا يتعلق الغرض ببيانه هنا وإن كان في نفس الأمر لو شاء الله لكان‏.‏ فتأويل هذه الآية بما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حقّ القول مني لأملان جهنم من الجنّة والنّاس أجمعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تكره النّاس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وقد دلّ على ذلك الاستدراكُ الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن يدخل من يشاء في رحمته‏}‏ أي ولكن شَاء مشيئةً أخرى جرت على وفق حكمته، وهي أنْ خلقهم قابلين للهدى والضلال بتصاريف عُقولهم وأميالهم، ومكَّنهم من كسب أفعالهم وأوضح لهم طريق الخير وطريق الشر بالتكليف فكان منهم المهتدون وهم الذين شاء الله إدخالهم في رحمته، ومنهم الظالمون الذين ما لهم من ولي ولا نصير‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏يدخل من يشاء في رحمته‏}‏ أحدُ دليلين على المعنى المستدرَك إذ التقدير‏:‏ ولكنه جعلهم فريقين فريقاً في الجنّة وفريقاً في السعير ليدخل من يشاء منهم في رحمته وهي الجنة‏.‏ وأفهم ذلك أنّه يدخل منهم الفريق الآخر في عقابه، فدلّ عليه أيضاً بقوله‏:‏ ‏{‏والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏ لأن نفي النصير كناية عن كونهم في بؤس وضُر ومغلوبية بحيث يحتاجون إلى نصير لو كان لهم نصير، فيدخل في الظالمين مشركو أهل مكّة دخولاً أوليًّا لأنهم سبب ورود هذا العموم‏.‏

وأصل النظم‏:‏ ويُدخل من يشاء في غضبه، فعُدِل عنه إلى ما في الآية للدلالة على أن سبب إدخالهم في غضبه هو ظلمهم، أي شركهم ‏{‏إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ مع إفادة أنّهم لا يجدون وليًّا يدفع عنهم غضبه ولا نصيرا يثْأر لهم‏.‏ وضمير ‏(‏جعلهم‏)‏ عائد إلى فريق الجنّة وفريق السعير باعتبار أفراد كل فريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏أمْ‏}‏ للإضراب الانتقالي كما يقال‏:‏ دَع الاهتمامَ بشأنهم وإنذارَهم ولنعُدْ إلى فظاعة حالهم في اتخاذهم من دون الله أولياء‏.‏ وتُقَدَّر بعد ‏{‏أمْ‏}‏ همزة استفهام إنكاري‏.‏ فالمعنى‏:‏ بل أأتخذوا من دونه أولياء، أي أتوا منكراً لَمَّا اتخذوا من دونه أولياء‏.‏ فضمير ‏{‏اتخذوا‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين اتخذوا من دونه أولياء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏ في الجملة السابقة‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فالله هو الولي‏}‏ فاء جواببٍ لشرط مقدر دلّ عليه مقام إنكار اتخاذِهم أولياء من دون الله، لأن إنكار ذلك يقتضي أن أولياءهم ليست جديرة بالوَلاية، وأنهم ضلّوا في ولايتهم إياها، فنشأ تقدير شرط معناه‏:‏ إنْ أرادوا وَليًّا بحقَ فالله هوَ الوليّ‏.‏

قال السكاكي في «المفتاح»‏:‏ وتقديرُ الشرط لقرائننِ الأحوال غيرُ ممتنع قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تقتلوهم ولكنّ الله قتلَهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ على تقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، وقال ‏{‏فالله هو الولي‏}‏ على تقدير‏:‏ إن أرادوا وليًّا بحق فالله هو الوليّ بالحق لا وليّ سواه‏.‏

والمراد بالوِلاية في قوْله ‏{‏أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي‏}‏، وِلايةُ المعبودية، فأفاد تعريفُ المسند في قوله‏:‏ ‏{‏فالله هو الولي‏}‏ قصرَ جنس الولي بهذا الوصف على الله، وإذ قد عبدوا غير الله تعيّن أن المراد قصرُ الوِلاية الحَقّ عليه تعالى‏.‏

وأفاد ضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏فالله هو الولي‏}‏ تأكيدَ القصر وتحقيقَه وأنه لا مبالغة فيه تذكيراً بأن الولاية الحقَّ في هذا الشأن مختصة بالله تعالى‏.‏ وهذا كلّه مسوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين تسلية وتثبيتاً وتعريضاً بالمشركين فإنهم لا يَخلُون من أن يسمعوه‏.‏

وعطفُ ‏{‏وهو يحيي الموتى‏}‏ على جملة ‏{‏فالله هو الولي‏}‏ إدماج لإعادة إثبات البعث ترسِيخاً لعلم المسلمين وإبلاغاً لمسامع المنكرين لأنّهم أنكروا ذلك في ضمن اتخاذهم أولياء من دون الله، فلمّا أُبطل معتقدهم إلهية غير الله أُردف بإبطال ما هو من علائق شركهم وهو نفي البعث، وليس ذلك استدلالاً عليهم لإبطال إلهاية آلهتهم لأن وقوع البعث مجحود عندهم‏.‏ فأما عطف جملة ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ فهو لإثبات هذه الصفة لله تعالى تذكيراً بانفراده بتمام القدرة، ويفيد الاستدلال على إمكان البعث قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، ويفيد الاستدلالَ على نفي الإلهاية عن أصنامهم لأن من لا يَقْدر على كل شيء لا يصلح للإلهاية‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفَمَنْ يخلُق كمَن لا يخلق‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا يخلقون شيئاً وهم يُخْلَقون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 20‏]‏ وقال ‏{‏وإنْ يسلِبْهم الذُّبابُ شيئاً لا يستنقذوه منه‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏‏.‏ والغرض من هذا تعريض بإبلاغه إلى مسامع المشركين‏.‏

ولما كان المقصود إثباتَ القدرة لله تعالى عطفت الجملة على التي قبلها لأنها مثلُها في إفادة الحكم، وكانت إفادة التعليل بها حاصلة من مَوقعها عقبَها، ولو أريد التعليل ابتداءً لفُصلت الجملة ولم تعطف‏.‏

‏(‏10‏)‏ ‏{‏لله قَدِيرٌ * وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَئ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏‏.‏

‏{‏قَدِيرٌ * وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَئ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏‏.‏

يجوز أن يكون هذا تكملة للاعتراض فيكون كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى النّاس‏.‏ ويجوز أن يكون ابتداء كلام متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏ذلاكم الله ربّي عليه توكلت‏}‏، ‏{‏فحكمه إلى الله‏}‏ تعيَّن أن يكون مجمُوع هذا الكلام لمتكلممٍ واحد، لأن ضمائر ‏{‏ربي‏}‏، و‏{‏توكلتُ‏}‏، و‏{‏أنيب‏}‏ ضمائره، وتلك الضمائر لا تصلح أن تعود إلى الله تعالى‏.‏ ولا حظَّ في سياق الوحي إلى أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم فتعين تقدير فعل أمرٍ بقوللٍ يَقوله النبي صلى الله عليه وسلم

والجملة معطوفة على الجمل التي قبلها لأن الكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين‏.‏ والواو عاطفة فِعل أمر بالقول، وحَذْفُ القول شائع في القرآن بدلالة القرائن لأن مادة الاختلاف مشعرة بأنه بين فريقين وحالة الفريقين مشعرة بأنه اختلاف في أمور الاعتقاد التي أنكرها الكافرون من التوحيد والبعثثِ والنفع والإضرار‏.‏

و ‏{‏من شيء‏}‏ بيان لإبهام ‏{‏ما‏}‏، أيْ أيُّ شيء اختلفتم فيه، والمراد‏:‏ من أشياء الدّين وشؤون الله تعالى‏.‏

وضمير ‏{‏فحكمه‏}‏ عائد إلى ‏{‏مَا اختلفتم‏}‏ على معنى‏:‏ الحكمُ بينكم في شأنه إلى الله‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يتضح لهم يوم القيامة المحقّ من المبطل فيما اختلفوا فيه حين يرون الثواب للمؤمنين والعقاب للمشركين، فيعلَم المشركون أنهم مبطلون فيما كانوا يزعمون‏.‏

و ‏{‏إلى الله‏}‏ خبر عن ‏(‏حُكْمُهُ‏)‏‏.‏ و‏{‏إلى‏}‏ للانتهاء وهو انتهاء مجازي تمثيلي، مُثِّل تأخيرُ الحكم إلى حلول الوقت المعيَّن له عند الله تعالى بسير السائر إلى أحد يَنزل عنده‏.‏

ولا علاقة لهذه الآية باختلاف علماء الأمة في أصول الدّين وفروعه لأن ذلك الاختلافَ حكمه منوط بالنظر في الأدلة والأقيسة صحةً وفساداً فإصدار الحكم بين المصيب والمخطئ فيها يسيرٌ إن شاء النّاس التداول والإنصاف‏.‏ وبذلك توصل أهل الحق إلى التمييز بين المصيب والمخطئ، ومراتببِ الخطأ في ذلك، على أنّه لا يناسب سياق الآيات سابِقها وتاليها ولا أغراضَ السور المكية‏.‏ وقد احتج بهذه الآية نفاة القياس، وهو احتجاج لا يرتضيه نطَّاس‏.‏

‏{‏الله ذَلِكُمُ الله رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ‏}‏‏.‏

يجوز أن تكون الجملة مقول قول محذوف يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏لتنذر أمّ القرى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ الآية، فتكون كلاماً مستأنفاً لأن الإنذار يقتضي كلاماً منذراً به، ويجوز أن تكون متصلة بجملة ‏{‏وما اختلفتم فيه من شيء‏}‏ تكملة للكلام الموجه من الله ويكون في قوله‏:‏ ‏{‏ربي‏}‏ التفاتاً من الخطاب إلى التكلم، والتقدير‏:‏ ذلكم الله ربّكم، وتكون جملتا ‏{‏عليه توكلت وإليه أنيب‏}‏ معترضتين‏.‏

والإشارةُ لتمييز المشار إليه وهو المفهوم مِن ‏{‏فحكمه إلى الله‏}‏‏.‏ وهذا التمييز لإبطال التباس ماهية الإلهياة والربوبية على المشركين إذ سموا الأصنام آلهة وأرباباً‏.‏

وأوثر اسم الإشارة الذي يستعمل للبعيد لقصد التعظيم بالبعد الاعتباري اللازم لِلسموّ وشرف القدْر، أي ذلكم الله العظيمُ‏.‏ ويُتوصل من ذلك إلى تعظيم حكمه، فالمعنى‏:‏ الله العظيم في حكمه هُو ربّي الذي توكلت عليه فهو كافيني منكم‏.‏

والتوكل‏:‏ تفعل من الوَكْل، وهو التفويض في العَمل، وتقدم عند قوله تعالى، ‏{‏فإذا عزمتَ فتوكّل على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏159‏)‏‏.‏

والإنابة‏:‏ الرجوع، والمراد بها هنا الكناية عن ترك الاعتماد على الغير لأن الرجوع إلى الشيء يستلزم عدم وجود المطلوب عند غيره، وتقدمت الإنابة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لحليمٌ أوّاهٌ منيبٌ‏}‏ في سورة هود ‏(‏75‏)‏‏.‏

وجيء في فعل ‏{‏توكلت‏}‏ بصيغة الماضي وفي فعل ‏{‏أنيب‏}‏ بصيغة المضارع للإشارة إلى أن توكله على الله كان سابقاً من قبل أن يظهر له تنكر قومه له، فقد صادف تنكرُهم منه عبداً متوكلاً على ربّه، وإذا كان توكله قد سبق تنكُّرَ قومه فاستمراره بعد أن كشّروا له عن أنياب العدوان محقق‏.‏

وأما فعل ‏{‏أنيب‏}‏ فجيء فيه بصيغة المضارع للإشارة إلى تجدد الإنابة وطلب المغفرة‏.‏ ويعلم تحققها في الماضي بمقارنتها لجملة ‏{‏عليه توكلت‏}‏ لأن المتوكل منيب، ويجوز أن يكون ذلك من الاحتباك‏.‏ والتقدير‏:‏ عليه توكلت وأتوكل وإليه أنْبت وأنيب‏.‏

وتقديم المتعلِّقين في ‏{‏عليه توكلت وإليه أنيب‏}‏ لإفادة الاختصاص، أي لا أتوكّل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏أُنِيبُ * فَاطِرُ السماوات والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ‏}‏‏.‏

خبر ثاننٍ عن الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 9‏]‏، وما بينهما اعتراض كما علمت آنفاً أُعقب به أنه على كل شيء قدير، فإن خلق السماوات والأرض من أبرز آثار صفة القدرة المنفرد بها‏.‏

والفاطر‏:‏ الخالق، وتقدم في أوّل سورة فاطر ‏(‏1‏)‏‏.‏

‏{‏والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ‏}‏‏.‏

جملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏فاطر‏}‏ لأن مضمونها حال من أحوال فَطْر السماوات والأرض فإن خلق الإنسان والأنعام من أعجب أحوال خلق الأرض‏.‏ ويجوز كونها خبراً ثالثاً عن ضمير ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ قَدَّر في تكوين نوع الإنسان أزواجاً لأفراده، ولما كان ذلك التقدير مقارناً لأصللِ تكوين النوع جيء فيه بالفعل الماضي‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ للنّاس كلّهم‏.‏ والخطاب التفات من الغيبة‏.‏ واللام للتعليل‏.‏ وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على غيره من معمولات ‏{‏جعل‏}‏ ليُعرف أنه معمول لذلك الفعل فلا يتوهم أنه صفة ل ‏{‏أزواجاً‏}‏، وليكون التعليل به ملاحظاً في المعطوف بقوله ‏{‏ومن الأنعام أزواجاً‏}‏‏.‏

والأزواج‏:‏ جمع زوج وهو الذي ينضمُّ إلى فرد فيصير كِلاهما زوجاً للآخر والمراد هنا‏:‏ الذكور والإناث من النّاس، أي جعَل لمجموعكم أزواجاً، فللذكور أزواج من الإناث، وللنساء أزواج من الرّجال، وذلك لأجْل الجميع لأن بذلك الجعل حصلت لذة التأنس ونعمة النسل‏.‏

ومعنى ‏{‏من أنفسكم‏}‏ من نوعكم، ومن بعضكم، كقوله‏:‏ ‏{‏فسلّموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وكون الأزواج من أنفسهم كمال في النعمة لأنه لو جعل أحد الزوجين من نوع آخر لفات نعيم الأنس، وأما زعم العرب في الجاهلية أن الرجل قد يتزوج جنيَّة أو غُولاً فذلك من التكاذيب وتخيلات بعضهم، وربّما عرض لبعض النّاس خبَال في العقل خاصّ بذلك فتخيل ذلك وتحدث به فراج عن كل أبْلَه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الأنعام أزواجاً‏}‏ عطف على ‏{‏أزواجاً‏}‏ الأول فهو كمفعول ل ‏{‏جعل‏}‏ والتقدير‏:‏ وجعل من الأنعام أزواجاً، أي جعل منها أزواجاً بعضها لبعض‏.‏ وفائدة ذكر أزواج الأنعام دون أزواج الوحش‏:‏ أن في أنواع الأنعام فائدة لحياة الإنسان لأنها تعيش معه ولا تنفر منه وينتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونسلها وعملها من حمْل وحرث، فبِجَعْلها أزواجاً حصل معظم نفعها للإنسان‏.‏

والذرءُ‏:‏ بث الخلق وتكثيره، ففيه معنى توالي الطبقات على مرّ الزمان إذ لا منفعة للنّاس من أزواج الأنعام باعتبارها أزواجاً سوى ما يحصل من نسلها‏.‏

وضمير الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏يذرؤكم‏}‏ للمخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏جعل لكم‏}‏‏.‏ ومرادُ شموله لجعل أزواج من الأنعام المتقدم ذكره لأن ذكر أزواج الأنعام لم يكن هَمَلاً بل مراداً منه زيادة المنّة فإن ذَرْءَ نسل الإنسان نعمة للنّاس وذَرْء نسل الأنعام نعمة أخرى للنّاس، ولذلك اكتفى بذكر الأزواج في جانب الأنعام عن ذكر الذرء إذ لا منفعة للناس في تزاوج الأنعام سوى ما يحصل من نسلها‏.‏

وإذ كان الضمير ضمير جماعة العقلاء وكان ضميرَ خطاب في حين أن الأنعام ليست عقلاء ولا مخاطبة، فقد جاء في ذلك الضمير تغليب العقلاء إذ لم يذكر ضمير صالح للعقلاء وغيرهم كأن يقال‏:‏ يذراككِ بكسر الكاف على تأويل إرَادة خطاب الجماعة‏.‏

وجاء فيه تغليب الخطاب على الغيبة، فقد جاء فيه تغليبان وهو تغليب دقيق إذ اجتمع في لفظ واحد نوعان من التغليب كما أشار إليه الكشاف والسكاكي في مبحث التغليب من «المفتاح»‏.‏

وضمير ‏{‏فيه‏}‏ عائد إلى الجَعْل المفهوم مِن قوله ‏{‏جعل لكم‏}‏، أي في الجعل المذكور على حدّ قوله‏:‏ ‏{‏اعدِلُوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وجيء بالمضارع في ‏{‏يذرؤكم‏}‏ لإفادة التجدد والتجدُّد أنسب بالامتنان‏.‏

وحرف ‏(‏في‏)‏ مستعار لمعنى السببية تشبيهاً للسبب بالظرف في احتوائه على مسبباته كاحتواء المنبع على مائه والمعدن على ترابه ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 179‏]‏‏.‏

‏{‏فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ وَهُوَ السميع‏}‏‏.‏

خبر ثالث أو رابع عن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء قدير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ومَوقع هذه الجملة كالنتيجة للدليل فإنه لما قُدم ما هو نِعمٌ عظيمة تبيَّن أن الله لا يماثِله شيء من الأشياء في تدبيره وإنعامه‏.‏

ومعنى ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ليس مثلَه شيء، فأقحمت كاف التشبيه على ‏(‏مِثل‏)‏ وهي بمعناهُ لأن معنى المِثْل هو الشبيه، فتعيّن أن الكاف مفيدة تأكيداً لمعنى المِثل، وهو من التأكيد اللّفظي باللّفظ المرادف من غير جنسه، وحسَّنه أن الموكِّد اسم فأشبه مدخول كاف التشبيه المخالف لمعنى الكاف فلم يكن فيه الثقل الذي في قول خِطام المجاشعي‏:‏

وصَالياتتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ ***

وإذ قد كان المثل واقعاً في حيّز النفي فالكاف تأكيد لنفيه فكأنَّه نُفِي المثلُ عنه تعالى بجملتين تعليماً للمسلمين كيف يُبطلون مماثلة الأصنام لله تعالى‏.‏ وهذا الوجه هو رأي ثعْلب وابن جنِّي والزجّاج والراغب وأبي البقاء وابن عطية‏.‏

وجعله في «الكشاف» وجهاً ثانياً، وقدّم قبله أن تكون الكاف غير مزيدة، وأن التقدير‏:‏ ليس شبيه مثله شيء والمراد‏:‏ ليس شبه ذاته شيء، فأثبت لذاته مثلاً ثم نفَى عن ذلك المثل أن يكون له مماثل كنايةً عن نفي المماثل لذات الله تعالى، أي بطريق لازم اللازم لأنه إذا نفي المِثْل عن مِثْله فقد انتفى المثل عنه إذ لو كان له مثل لما استقام قولك‏:‏ ليس شيء مثلَ مثلِه‏.‏ وجعله من باب قول العرب‏:‏ فلان قد أيفعت لِدَاتُه، أي أيفع هو فكُني بإيفاع لِدَاته عن إيفاعه‏.‏ وقول رُقَيْقَةَ بنتتِ صَيفي في حديث سُقيا عبد المطلب ‏"‏ ألاَ وفيهم الطَّيِّبُ الطاهرُ لداتُه ‏"‏ اه‏.‏ أي ويكون معهم الطيّبُ الطاهرُ يعني النبي صلى الله عليه وسلم

وتبعه على ذلك ابن المنير في «الانتصاف»، وبعض العلماء يقول‏:‏ هو كقولك ليس لأخي زيد أخ، تريد نفي أن يكون لزيد أخ لأنه لو كان لزيد أخ لكان زيد أخا لأخيه فلما نَفَيتَ أن يكون لأخيه أخ فقد نَفيتَ أن يكون لزيد أخ، ولا ينبغي التعويل على هذا لما في ذلك من التكلّف والإبهام وكلاهما مما ينبو عنه المقام‏.‏

وقد شملَ نفيُ المماثلة إبطالَ ما نسبُوا لله البناتتِ وهو مناسبة وقوعِه عقب قوله‏:‏ ‏{‏جعل لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ الآية‏.‏

وحديثُ سقيا عبد المطلب، أي خبر استسقائه لقريش أن رقيقة بنت أبي صيفي قالت‏:‏ تتابعتْ على قريش سنون أقحلت الضرعَ وأدَقَّتْ العَظم، فبينا أنا نائمة إذا هاتف يهتف‏:‏ «يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه ألاَ فانظروا رجلاً منكم وَسيطاً عُظَاما جُسَاماً أبيضَ أَوْطَف الأهداب سهل الخدّين أشمّ العرين فليخلص هو وولده، ألا وفيهم الطيّبُ الطَاهرُ لداته وليهبط إليه من كل بطن رجل فليشنُوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليرتقُوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمنوا فعثتم ما شئتم» الخ‏.‏ قالوا‏:‏ وكان معهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ غلام‏.‏

واعلم أن هذه الآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مثلاً لله تعالى‏.‏ والمثل يُحمل عند إطلاقه على أكمل أفراده، قال فخر الدّين «المثلان‏:‏ هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته» اه‏.‏ فلا يسمّى مثلاً حقاً إلا المماثل في الحقيقة والماهية وأجزائها ولوازمها دون العوارض، فالآية نفت أن يكون شيء من الموجودات مماثلاً لله تعالى في صفات ذاته لأن ذات الله تعالى لا يماثلها ذواتُ المخلوقات، ويلزم من ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقات في محسوس ذواتها فهو منتففٍ عن ذات الله تعالى‏.‏ وبذلك كانت هذه الآية أصلاً في تنزيه الله تعالى عن الجوارح والحواسّ والأعضاء عند أهل التأويل والذين أثبتوا لله تعالى ما ورد في القرآن مما نسميه بالمتشابه فإنما أثبتوه مع التنزيه عن ظاهره إذ لا خلاف في إعمال قوله‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ وأنه لا شبيه له ولا نظير له‏.‏

وإذ قد اتفقنا على هذا الأصل لم يبق خلاف في تأويل النصوص الموهمة التشبيه، إلاّ أن تأويل سلفنا كان تأويلاً جُمْليًّا، وتأويلَ خلفهم كان تأويلاً تفصيليًّا كتأويلهم اليدَ بالقدرة، والعَينَ بالعلم، وبَسْطَ اليدين بالجُود، والوجْهَ بالذات، والنزولَ بتمثيل حال الإجابة والقبول بحال نزول المرتفع من مكانه الممتنع إلى حيث يكون سائلوه لينيلهم ما سألوه‏.‏ ولهذا قالوا‏:‏ طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم‏.‏

ولما أفاد قوله‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ صفاتتِ السُلوببِ أعقب بإثبات صفة العِلم لله تعالى وهي من الصفات المعنوية وذلك بوصفه ب ‏{‏السميع البصير‏}‏ الدّالين على تعلّق علمه بالموجودات من المسموعات والمبصرات تنبيهاً على أن نفي مماثلة الأشياء لله تعالى لا يتوهّم منه أن الله منزّه عن الاتصاف بما اتصفت به المخلوقات من أوصاف الكمال المعنوية كالحياة والعلم ولكن صفات المخلوقات لا تشبه صفاته تعالى في كمالها لأنها في المخلوقات عارضة، وهي واجبة لله تعالى في منتهى الكمال، فكونه تعالى سميعاً وبصيراً من جملة الصفات الداخلة تحت ظلال التأويل بالحمل على عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ فلمْ يقتضيا جارحتين‏.‏ ولقد كان تعقيب قوله ذلك بهما شبيهاً بتعقيب المسألة بمثالها‏.‏