فصل: تفسير الآيات رقم (40- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

هذه الجملة تتنزل من التي قبلها منزلة النتيجة من الاستدلال ولذلك لم تعطف، والمعنى‏:‏ فيوم الفصل ميقاتهم إعلاماً لهم بأن يوم القضاء هو أجَل الجزاء، فهذا وعيد لهم وتأكيد الخبر لرد إنكارهم‏.‏

و ‏{‏يوم الفصل‏}‏‏:‏ هو يوم الحكم، لأنه يفصل فيه الحق من الباطل وهو من أسماء يوم القيامة قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأيّ يوم أُجِّلَت ليوم الفصل‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 12، 13‏]‏‏.‏

والميقات‏:‏ اسم زمان التوقيت، أي التأجيل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يوم الفصل كان ميقاتاً‏}‏ ‏[‏النبإ‏:‏ 17‏]‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هي مواقيت للناس والحجّ‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏189‏)‏ وحذف متعلق الميقات لظهوره من المقام، أي ميقات جزائهم‏.‏

وأضيف الميقات إلى ضمير المخبر عنهم لأنهم المقصود من هذا الوعيد وإلاّ فإن يوم الفصل ميقات جميع الخلق مؤمنيهم وكفارهم‏.‏

والتأكيد ب ‏{‏أجمعين‏}‏ للتنصيص على الإحاطة والشمول، أي ميقات لجزائهم كلهم لا يفلت منه أحد منهم تَقْوِيَةً في الوعيد وتأييساً من الاستثناء‏.‏

و ‏{‏يوم لا يغني مولى‏}‏ بدل من ‏{‏يوم الفصل‏}‏ أو عطف بيان‏.‏ وفتحة ‏{‏يوم لا يغنى‏}‏ فتحة إعراب لأن ‏{‏يوم‏}‏ أضيف إلى جملة ذات فعل معرب‏.‏

والمولى‏:‏ القريب والحليف، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإني خِفتُ الموالي من ورائي‏}‏ في سورة مريم ‏(‏5‏)‏‏.‏ وتنكير مولًى‏}‏ في سياق النفي لإفادة العموم، أي لا يغني أحد من الموالي كائناً من كان عن أحد من مواليه كائناً من كان‏.‏

و ‏{‏شيئاً‏}‏ مفعول مطلق لأن المراد ‏{‏شيئاً‏}‏ من إغناء‏.‏ وتنكير ‏{‏شيئاً‏}‏ للتقليل وهو الغالب في تنكير لفظ شيء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وشيءٍ من سِدْرٍ قليلٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ووقوعه في سياق النفي للعموم أيضاً، يعني أيَّ إغناء كان في القلة بَلْهَ الإغناء الكثير‏.‏ والمعنى‏:‏ يوم لا تغني عنهم مواليهم، فعُدل عن ذلك إلى التعميم لأنه أوسع فائدة إذ هو بمنزلة التذييل‏.‏

والإغناء‏:‏ الإفادة والنفع بالكثير أو القليل، وضميرا ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ راجعان إلى ما رجع إلَيْهِ ضمير ‏{‏أهم خيرٌ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 37‏]‏، وهو اسم الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء ليقولون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 34‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم لا يغني عنهم أولياؤهم المظنون بهم ذلك ولا ينصرهم مقيَّضون آخرون ليسوا من مواليهم تأخذهم الحمية أو الغيرة أو الشفقة فينصرونهم‏.‏

والنصر‏:‏ الإعانة على العدوّ وعلى الغالب، وهو أشد الإغْناء‏.‏ فعطف ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ على ‏{‏لا يغني مولى عن مولى شيئاً‏}‏ زيادة في نفي عدم الإغناء‏.‏

فمحصل المعنى أنه لا يغني مُوال عن مُواليه بشيء من الإغناء حسب مستطاعه ولا ينصرهم ناصر شديد الاستطاعة هو أقوى منهم يدفع عنهم غلب القوي عليهم، فالله هو الغالب لا يدفعه غالب‏.‏ وبُني فعل ‏{‏ينصرون‏}‏ إلى المجهول ليعم نفي كل ناصر مع إيجاز العبارة‏.‏

والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إلا من رحم الله‏}‏ وقع عقب جملتي ‏{‏لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون‏}‏ فحُق بأن يرجع إلى ما يَصلح للاستثناء منه في تينك الجملتين‏.‏

ولنا في الجملتين ثلاثة ألفاظ تصلح لأن يستثنى منها وهي ‏{‏مولى‏}‏ الأولُ المرفوع بفعل ‏{‏يغني‏}‏، و‏{‏مولى‏}‏ الثاني المجرورُ بحرف ‏{‏عن‏}‏، وضميرُ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏، فالاستثناء بالنسبة إلى الثلاثة استثناء متصل، أي إلا من رحمه الله من الموالي، أي فإنه يأذن أن يُشْفَع فيه، ويأذَن للشافع بأن يَشْفَعَ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذِن له‏}‏ ‏[‏سبإ‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا يَشْفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وفي حديث الشفاعة أنه يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم «سَلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشَفَّع»‏.‏ والشفاعة‏:‏ إغناء عن المشفوع فيه‏.‏ والشفعاء يومئذٍ أولياء للمؤمنين فإن من الشفعاء الملائكَة وقد حكى الله عنهم قولهم للمؤمنين ‏{‏نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقيل هو استثناء منقطع لأن من رحمه الله ليس داخلاً في شيء قبله مما يدل على أهل المحشر، والمعنى‏:‏ لكن من رحمه الله لا يحتاج إلى من يُغني عنه أو ينصره وهذا قول الكسائي والفراء‏.‏

وأسباب رحمة الله كثيرة مرجعها إلى رضاه عن عبده وذلك سِر يعلمه الله‏.‏

وجملة ‏{‏إنه هو العزيز الرحيم‏}‏ استئناف بياني هو جوابٌ مجمل عن سؤال سائل عن تعيين من رحمهُ الله، أي أن الله عزيز لا يُكرهه أحد على العدول عن مراده، فهو يرحم من يَرحمه بمحض مشيئته وهو رحيم، أي واسع الرحمة لمن يشاء من عباده على وفق ما جرى به علمه وحكمته ووعدُه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

لما ذكر الله فريقاً مرحومين على وجه الإجمال قابله هنا بفريق معذَّبون وهم المشركون، ووصف بعض أصناف عذابهم وهو مأكلهم وإهانتهم وتحريقهم، فكان مقتضى الظاهر أن يبتدأ الكلام بالإخبار عنهم بأنهم يأكلون شجرة الزقوم كما قال في سورة الواقعة ‏(‏51، 52‏)‏ ‏{‏ثم إنكم أيها الضالّون المكذّبون لآكلون من شجرٍ من زقومٍ‏}‏ الآية، فعُدل عن ذلك إلى الإخبار عن شجرة الزقوم بأنها طعام الأثيم اهتماماً بالإعلام بحال هذه الشجرة‏.‏ وقد جُعلت شجرة الزقوم شيئاً معلوماً للسامعين فأخبر عنها بطريق تعريف الإضافة لأنها سبق ذكرها في سورة الواقعة التي نزلت قبل سورة الدخان فإن الواقعة عدت السادسة والأربعين في عداد نزول السور وسورة الدخان ثالثة وستين‏.‏ ومعنى كون الشجرة طعاماً أن ثمرها طعام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏طَلعُها كأنه رؤوس الشياطين فإنَّهم لآكلون منها‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 65، 66‏]‏‏.‏

وكتبت كلمة ‏{‏شجرت‏}‏ في المصاحف بتاء مفتوحة مراعاة لحالة الوصل وكان الشائع في رسم أواخر الكلم أن تراعى فيه حالة الوقف، فهذا مما جاء على خلاف الأصل‏.‏

و ‏{‏الأثيم‏}‏‏:‏ الكثير الآثام كما دلت عليه زنة فَعيل‏.‏ والمراد به‏:‏ المشركون المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ هؤلاء ليَقُولُون إن هي إلاّ موتتنا الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 34، 35‏]‏، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى أن المهم بالشرك مع سبب معاملتهم هذه‏.‏

وتقدم الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات ‏(‏62‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذَلك خَيْرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم‏.‏‏}‏ والمُهل بضم الميم دُرْدِيُّ الزيت‏.‏ والتشبيه به في سواد لونه وقيل في ذوبانه‏.‏

والحميم‏}‏‏:‏ الماء الشديد الحرارة الذي انتهى غليانه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم شرابٌ من حميم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏70‏)‏‏.‏ ووجه الشبه هو هيئة غليانه‏.‏

وقرأ الجمهور تغلي‏}‏ بالتاء الفوقية على أن الضمير ل ‏{‏شجرة الزقوم‏}‏‏.‏ وإسناد الغليان إلى الشجَرَةِ مجاز وإنما الذي يغلي ثمرها‏.‏ وقرأه ابن كثير وحفص بالتحتية على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المُهل‏.‏

والغليان‏:‏ شدة تأثر الشيء بحرارة النار يقال‏:‏ غلي الماء وغلت القدر، قال النابغة‏:‏

يسير بها النعمان تغلي قدوره ***

وجملة ‏{‏خذوه‏}‏ الخ مقول لقول محذوف دلّ عليه السياق، أي يقال لملائكة العذاب‏:‏ خذوه، والضمير المفرد عائد إلى الأثيم باعتبار آحاد جنسه‏.‏

والعَتْلُ‏:‏ القوْد بعنف وهو أن يؤخذ بتلبيب أحد فيقاد إلى سجن أو عذاب، وماضيه جاء بضم العين وكسرها‏.‏

وقرأه بالضم نافع وابن كثير وابن عامر‏.‏ وقرأه الباقون بكسر التاء‏.‏

وسَواء الشيء‏:‏ وسطه وهو أشد المكان حرارة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلى سواء الجحيم‏}‏ يتنازعه في التعلق كلٌّ من فعلي ‏{‏خذوه فاعتلوه‏}‏ لتضمنهما‏:‏ سوقوه سوقاً عنيفاً‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن صب الحميم على رأسه أشد عليه من أخذه وعتله‏.‏

والصبّ‏:‏ إفراغ الشيء المظروف من الظرف وفعل الصّبّ لا يتعدى إلى العذاب لأن العذاب أمر معنوي لا يصب‏.‏ فالصب مستعار للتقوية والإسراع فهو تمثيلية اقتضاها ترويع الأثيم حين سمعها، فلما كان المحكي هنا القول الذي يسمعه الأثيم صيغ بطريقة التمثيلية تهويلاً، بخلاف قوله‏:‏

‏{‏يُصَبّ من فوق رءوسهم الحميم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ الذي هو إخبار عنهم في زمن هم غير سامعيه فلم يؤت بمثل هذه الاستعارة إذ لا مقتضى لها‏.‏

وجملة ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ مقول قول آخر محذوف تقديره‏:‏ قولوا له أو يقال له‏.‏

والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ خبر مستعمل في التهكم بعلاقة الضدّية‏.‏ والمقصود عكس مدلوله، أي أنت الذليل المهان، والتأكيد للمعنى التهكمي‏.‏ وقرأه الجمهور بكسر همزة ‏{‏إنك‏}‏‏.‏ وقرأه الكسائي بفتحها على تقدير لام التعليل وضمير المخاطب المنفصل في قوله‏:‏ ‏{‏أنت‏}‏ تأكيد للضمير المتصل في ‏{‏إنك‏}‏ ولا يؤكد ضمير النصب المتصل إلا بضمير رفع منفصل‏.‏

وجملة ‏{‏إن هذا ما كنتم به تمترون‏}‏ بقية القول المحذوف، أي ويقال للآثمين جميعاً‏:‏ إن هذا ما كنتم به تمترون في الدنيا‏.‏ والخبر مستعمل في التنديم والتوبيخ واسم الإشارة مشار به إلى الحالة الحاضرة لديهم، أي هذا العذاب والجزاء هو ما كنتم تكذبون به في الدنيا‏.‏

والامتراء‏:‏ الشك، وأطلق الامتراء على جزيتهم بنفي يقينهم بانتفاء البعث لأن يقينهم لما كان خلياً عن دلائل العلم كان بمنزلة الشك، أي أن البعث هو بحيث لا ينبغي أن يوقن بنفيه على نحو ما قرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من وصف عذاب الأثيم إلى وصف نعيم المتقين لمناسبة التضاد على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد والعكس‏.‏

والمُقام بضم الميم‏:‏ مكان الإقامة‏.‏ والمَقام بفتح الميم‏:‏ مكان القيام ويتناول المسكن وما يتبعه‏.‏ وقرأه نافع وابنُ عامر وأبو جعفر بضم الميم‏.‏ وقرأه الباقون بفتح الميم‏.‏

والمراد بالمُقام المكان فهو مجاز بعلاقة الخصوص والعموم‏.‏

والأمين بمعنى الآمِن والمراد‏:‏ الآمن ساكنه، فوصفه ب ‏{‏أمين‏}‏ مجاز عقلي كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا البلد الأمين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والأمن أكبر شروط حسن المكان لأن الساكن أولُ ما يتطلب الأمن وهو السلامة من المكاره والمخاوف فإذا كان آمناً في منزله كان مطمئن البال شاعراً بالنعيم الذي يناله‏.‏ وأبدل منه بأنهم ‏{‏في جنات وعيون‏}‏ وذلك من وسائل النزهة والطيب‏.‏ وأعيد حرف ‏{‏في‏}‏ مع البدل للتأكيد‏.‏

والجنات‏:‏ جمع جنة، وتقدم في أول البقرة‏.‏ والعيون‏:‏ جمع عين، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏60‏)‏، فهذا نعيم مكانهم‏.‏ ووُصف نعيم أجسادهم بذكر لباسهم وهو لباس الترف والنعيم وفيه كناية عن توفر أسباب نعيم الأجساد لأنه لا يَلبس هذا اللّباسَ إلا من استكمل ما قبله من ملائمات الجسد باطنهِ وظاهره‏.‏

والسندس‏:‏ الديباج الرقيق النفيس، والأكثر على أنه معرب من الفارسية وقيل عربي‏.‏ أصله‏:‏ سِنْدِي، منسوب إلى السنِد على غير قياس‏.‏ والسندس يلبس مما يلي الجسد‏.‏

والإستبرق‏:‏ الديباج القوي يلبس فوق الثياب وهو معرب استبره فارسية، وهو الغليظ مطلقاً ثم خص بغليظ الديباج، ثم عُرب‏.‏

وتقدما في قوله ‏{‏يلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏31‏)‏ فارجع إليه‏.‏ ومن‏}‏ لبيان الجنس، والمبيَّن محذوف دل عليه ‏{‏يلبسون‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ثياباً من سندس وإستبرق‏.‏

ثم وُصف نَعيم نفوسهم بعضِهم مع بعض في مجالسهم ومحادثاتهم بقوله‏:‏ ‏{‏متقابلين‏}‏ لأن الحديث مع الأصحاب والأحبّة نعيم للنفّس فأغنَى قوله‏:‏ ‏{‏متقابلين‏}‏ عن ذكر اجتماعهم وتحابهم وحديث بعضهم مع بعض وأن ذلك شأنهم أجمعين بأن ذكر ما يستلزم ذلك وهو صيغة متقابلين ومادتُه على وجه الإيجاز البديع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏متقابلين‏}‏‏.‏

اعتراض وقد تقدم بيان معناه عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبْراً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏91‏)‏‏.‏ وتقدم نظيره آنفاً في هذه السورة‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ وزوجناهم بِحُورٍ‏}‏ ‏{‏عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فاكهة ءَامِنِينَ * لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت‏}‏‏.‏

معنى ‏{‏زوجناهم‏}‏ جعلناهم أزواجاً جمع زوج ضد الفرد، أي جعلنا كل فرد من المتقين زوجاً بسبب نساءٍ حور العيون‏.‏

والزوج هنا كناية عن القرين، أي قرنَّا بكل واحد نساءً حوراً عيناً، وليس فعل ‏{‏زوجناهم‏}‏ هنا مشتقاً من الزوج الشائععِ إطلاقُه على امرأة الرجل وعلى رجل المرأة لأن ذلك الفعل يتعدى بنفسه يقال‏:‏ زوجه ابنتَه وتزوج بنت فلان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏زوَّجناكها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، وليس ذلك بمراد هنا إذ لا طائل تحته، إذ ليس في الجنة عقود نكاح، وإنما المراد أنهم مأنوسون بصحبة حبائب من النساء كما أنسوا بصحبة الأصحاب والأحبة من الرجال استكمالاً لمتعارف الأنس بين الناس‏.‏ وفي كلا الأنسين نعيم نفساني منجرّ للنفس من النعيم الجثماني، وَهذا معنًى ساممٍ من معاني الانبساط الروحي وإنما أفسد بعضه في الدّنيا ما يخالط بعضه من أحوال تجرّ إلى فساد منهي عنه مثل ارتكاب المحرم شرعاً ومثل الاعتداء على المرأة قسراً، ومن مصطلحات متكلفة، وقد سمى الله سكوناً فقال‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنُوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

والحور‏:‏ جمع الحوراء، وهي البيضاء، أي بنساء بضيضات الجلد‏.‏

والعِين‏:‏ جمع العيناء، وهي واسعة العين، وتقدم في سورة الصافات‏.‏ وشمل الحور العين النساء الّلاءِ كُنَّ أزواجهن في الدنيا، ونساءً يخلقهن الله لأجل الجنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنشأناهن إنشاءً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 35‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هم وأزواجهم في ظلالٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏يدعون فيها بكل فاكهة‏}‏ أي هم يأمرون بأن تحضر لهم الفاكهة، أي فيجابون‏.‏

والدعاء نوع من الأمر أي يأذنون بكل فاكهة، أي بإحضار كل فاكهة‏.‏ و‏{‏كل‏}‏ هنا مستعملة في الكثرة الشديدة لكل واحد منهم ويجوز أن تكون بمعنى الإحاطة، أي بكل صنف من أصناف الفاكهة‏.‏

والفاكهة‏:‏ ما يتفكه به، أي يتلذذ بطعمه من الثمار ونحوها‏.‏

وجملة ‏{‏يدعون‏}‏ حال من ‏{‏المتقين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏، و‏{‏آمنين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يدعون‏}‏‏.‏ والمراد هنا أمن خاص غير الذي في قوله‏:‏ ‏{‏في مقاممٍ أمينٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏ وهو الأمن من الغوائل والآلام من تلك الفواكه على خلاف حال الإكثار من الطعام في الدنيا كقوله في خمر الجنة ‏{‏لا فيها غوْلُ ولا هم عنها ينزفون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏، أو آمنين من نفاد ذلك وانقطاعه‏.‏

وجملة ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ حال أخرى‏.‏ وهذه بشارة بخلود النعمة لأن الموت يقطع ما كان في الحياة من النعيم لأصحاب النعيم كما كان الإعلام بأن أهل الشرك لا يموتون نذارة بدوام العذاب‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا الموتة الأولى‏}‏ من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لزيادة تحقيق انتفاء ذوق الموت عن أجل الجنة فكأنه قيل لا يذوقون الموت البتة وقرينة ذلك وصفها ب ‏{‏الأولى‏}‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏الأولى‏}‏ السالفة، كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا موتتنا الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 35‏]‏‏.‏

‏{‏الاولى ووقاهم عَذَابَ‏}‏ ‏{‏الجحيم * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم‏}‏‏.‏

عطف على ‏{‏وزوجناهم بحور عين‏}‏ وهذا تذكير بنعمة السلامة مما ارتبك فيه غيرهم‏.‏ وذلك مما يحمد الله عليه كما ورد أن من آداب من يرى غيره في شدة أو بأس أن يقول‏:‏ الحمد لله الذي عافاني مما هو فيه‏.‏ وضمير ‏{‏وقاهم‏}‏ عائد إلى ضمير المتكلم في ‏{‏وزوجناهم‏}‏ على طريقة الالتفات‏.‏

و ‏{‏فضلاً‏}‏ حال من المذكورات‏.‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم

وذكر الرب إظهار في مقام الإضمار ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فضلاً منه أو منا‏.‏ ونكتة هذا الإظهار تشريف مقام النبي صلى الله عليه وسلم والإيماء إلى أن ذلك إكرام له لإيمانهم به‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏ تذييل، والإشارة في ‏{‏ذلك هو الفوز العظيم‏}‏ لتعظيم الفضل ببعد المرتبة‏.‏ وأتي بضمير الفصل لتخصيص الفوز بالفضل المشار إليه وهو قصر لإفادة معنى الكمال كأنه لا فوز غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرّع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضاراً لتلك الأغراض وضبطاً لترتُّب علتها‏.‏

وضمير ‏{‏يسرناه‏}‏ عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله ‏{‏والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 2، 3‏]‏ الخ، والذي كان جلّ غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة، وقوله‏:‏ ‏{‏والكتاب المبين، فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من ردّ العجز على الصدر‏.‏ فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله‏:‏ فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعاً على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ‏.‏

ويجوز أن يكون المفرع قوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏‏.‏ وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماماً بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذّكرون بهذا لما يسّرناه لهم بلسانهم‏.‏

والقصر المستفاد من ‏(‏إنما‏)‏ قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهَّل لهم طريق فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله‏:‏ ‏{‏بل هم في شَككٍ يلعبون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 9‏]‏ أي إنا جعلنا فهمه يسيراً بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا‏.‏ فمفعول ‏{‏يسرناه‏}‏ مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره‏:‏ فهمه‏.‏

والباء في ‏{‏بلسانك‏}‏ للسببية، أي بسبب لغتك، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسوللٍ إلا بلسان قومه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللّغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏بلساننٍ عربيٍ مبينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 195‏]‏‏.‏

وأفصح قوله ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏ عن الأمر بالتذكير بالقرآن‏.‏ والتقدير‏:‏ فذكّرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر، فالتيسير هنا تسهيل الفهم، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما يسرّناه بلسانك لتبشر به المتقين‏}‏ الخ في سورة مريم ‏(‏97‏)‏‏.‏

و ‏(‏لعلّ‏)‏ مستعملة في التعليل، أي لأجل أن يتذكّروا به، وَهَذَا كقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتابٌ مصدقٌ لساناً عربياً لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏، وبأن سبب ذلك التيسير كونُه بأفصح اللغات وكونُه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسبباً قريباً لو لم يكونوا في شك يلعبون‏.‏ وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله‏:‏ ‏{‏فارتقب إنهم مرتقبون‏}‏ أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى‏.‏

وإطلاق الارتقاب على حال المعاندين استعارة تهكمية لأن المعنى أنهم لاقُون ذلك لا محالة وقد حسنها اعتبار المشاكلة بين ‏(‏ارتقب‏)‏ و‏{‏مرتقبون‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنهم مرتقبون‏}‏ تعليل للأمر في قوله ‏{‏فارتقب‏}‏ أي ارتقب النصر بأنهم لاَقُوا العذاب بالقحط وقد أغنت ‏(‏إنّ‏)‏ التّسبُب والتعليل‏.‏

وفي هذه الخاتمة ردّ العجز على الصدر إذ كان صدر السورة فيه ذكر إنزال الكتاب المبين وأنه رحمة من الله بواسطة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكان في صدرها الإنذار بارتقاب يوم تأتي السماء بدخان مبين وذكر البطشة الكبرى‏.‏ فكانت خاتمة هذه السورة خاتمة عزيزة المنال اشتملت على حسن براعة المقطع وبديع الإيجاز‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

تقدم القول في نظائره، وهذه جملة مستقلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي وهو جملة مركبة من مبتدأ وخبر‏.‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ هو المعهود وهو ما نزل من القرآن إلى تلك الساعة‏.‏

والمقصود‏:‏ إثبات أن القرآن موحى به من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكان مقتضى الظاهر أن يجعل القرآن مسنداً إليه ويخبر عنه فيقال القرآن مُنزّل من الله العزيز الحكيم لأن كونه منزلاً من الله هو محل الجدال فيقتضي أن يكون هو الخبر ولو أذعنوا لكونه تنزيلاً لَمَا كان منهم نزاع في أن تنزيله من الله ولكن خولف مُقتضَى الظاهر لغرضين‏:‏

أحدهما‏:‏ التشويق إلى تلقي الخبر لأنهم إذا سمعوا الابتداء بتنزيل الكتاب استشرفوا إلى ما سيخبر عنه؛ فَأمَّا الكافرون فيترقبون أنه سيلقى إليهم وصف جديد لأحوال تنزيل الكتاب فيتهيّأون لخوض جديد من جدالهم وعنادهم، والمؤمنون يترقبون لِمَا يزيدهم يقيناً بهذا التنزيل‏.‏

والغرض الثاني‏:‏ أن يُدَّعى أن كون القرآن تنزيلاً أمر لا يختلف فيه فالذين خالفوا فيه كأنهم خالفوا في كونه منزّلاً من عند الله وهل يكون التنزيل إلا من عند الله فيؤول إلى تأكيد الإخبار بأنه منزل من عند الله إذ لا فرق بين مدلول كونه تنزيلاً وكونه من عند الله إلا باختلاف مفهوم المعنيين دون مَا صْدَقَيْهما على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏لاَ ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وإيثار وصفي ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ بالذكر دون غيرهما من الأسماء الحسنى لإشعار وصف ‏{‏العزيز‏}‏ بأن ما نزل منه مناسب لعزته فهو كتاب عزيز كما وصفه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لكتاب عزيز‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏، أي هو غالب لمعانديه، وذلك لأنه أعجزهم عن معارضته، ولإشعار وصف ‏{‏الحكيم‏}‏ بأن ما نزل من عنده مناسب لِحكمته، فهو مشتمل على دلائل اليقين والحقيقة، ففي ذلك إيماء إلى أن إعجازه، من جانب بلاغته إذ غَلبت بلاغةَ بلغائهم، ومن جانب معانيه إذْ أعجزت حكمته حكمة الحكماء، وقد تقدم مثيل هذا في طالعة سورة الزمر وقريب منه في طالعة سورة غافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 2‏]‏ باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وأكد ب ‏{‏إنَّ‏}‏ وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خَلَق السماوات والأرض ليقولُن خلقهنّ العزيز العليم‏}‏ في سورة الزّخرف ‏(‏9‏)‏‏.‏

والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال‏:‏ لآيات للمؤمنين‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يوقنون‏}‏ دون أن يقال‏:‏ لآيات لكم أو آيات لكم، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك‏.‏ والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له‏.‏

وعطف جملة ‏{‏وفي خلقكم‏}‏ الخ على جملة ‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه‏.‏

والبث‏:‏ التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة‏.‏ وتقدم البث في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبث فيها من كل دابّة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

وعبر بالمضارع في ‏{‏يبث‏}‏ ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها‏.‏ والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات‏.‏ والرزق‏:‏ القوت‏.‏ وقد ذكر في آية سورة البقرة ‏(‏164‏)‏ ‏{‏وما أنزل الله من السماء من ماء‏}‏ وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة‏.‏

والمراد ب ‏(‏المؤمنين‏)‏، وب ‏(‏قوم يوقنون‏)‏، وب ‏(‏قوم يعقلون‏)‏ واحد، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون، أي يعلمون دلالة الآيات‏.‏

والمعنى‏:‏ أن المؤمنين والذين يُوقنون، أي يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض‏.‏

وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوزام مترتبة بإدراك العقل‏.‏ وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏ استفهاماً إنكارياً بمعنى النفي‏.‏

واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجهاً إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء، وكان مقصوداً منه ابتداء إثباتٌ الوحدانية، فهو أيضاً صالح لإقامة الحجة على المعَطِّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم‏.‏ فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يُعدمها‏.‏

وقرأ الجمهور قوله‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يوقنون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آياتٌ لقوم يعقلون‏}‏ برفع ‏{‏آيات‏}‏ فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران‏.‏ وتقدّر ‏(‏في‏)‏ محذوفة في قوله ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ لدلالة أختها عليها التي في قوله‏:‏ ‏{‏وفي خلقكم‏}‏‏.‏ والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد‏.‏

وقرأها حمزة والكسائي وخلف ‏{‏لآيات‏}‏ في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف ‏{‏آياتٍ‏}‏ الأول عطف على اسم ‏{‏إنَّ‏}‏ و‏{‏في خلقكم‏}‏ عطف على خبر ‏{‏إنّ‏}‏ فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما ‏{‏آيات لقوم يعقلون‏}‏ فكذلك، إلا أنه عطف على معمولي عَامِلَيْن مختلفين، أي ليسا مترادفين هما ‏(‏إنّ‏)‏ و‏(‏في‏)‏ على اعتبار أن الواو عاطفة ‏{‏آيَات‏}‏ وليست عاطفة جملة ‏{‏في خلقكم‏}‏ الآية، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير ‏(‏في‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ لدلالة أختها عليها وتبقى الواو عاطفة ‏{‏آياتٍ‏}‏ على اسم ‏(‏إنّ‏)‏ فلا يكون من العطف على معمولي عاملين‏.‏

والحق ما ذهب إليه جمهور الكوفيين وهو كثير كثرة تنبو عن التأويل‏.‏ وجعل ابن الحاجب في «أماليه» قراءة الجمهور برفع ‏{‏آياتٌ‏}‏ في الموضعين أيضاً من العطف على معمولي عاملين لأن الرفع يحتاج إلى عَامللٍ كما أن النصب يحتاج إلى عَامللٍ قال‏:‏ وأكثر الناس يفرض الإشكال في قراءة النصب لكون العامل لفظيًّا وهما سواء‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏آياتٍ‏}‏ الثانية فقط بكسر التاء على أنه حال متعدد من اختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق وتصريف الرياح، والسحاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله ‏{‏لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يوقنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏آيات لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين‏.‏

وجملة ‏{‏نتلوها عليك بالحق‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏آيات الله‏}‏ والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا بَعْلِي شيخاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏‏.‏

والتلاوة‏:‏ القراءة‏.‏ ومعنى كون الآيات مَتلوة أنّ في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل ‏(‏نتلو‏)‏ مجاز عقلي لأن المتلوَ ما يدل عليها‏.‏

ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دَل عليه قوله‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 2‏]‏ أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن، فيكون استعمال فعل ‏{‏نتلوها‏}‏ في حقيقته‏.‏

وإسناد التلاوةِ إلى الله مجاز عقلي أيضاً لأن الله موجد القرآن المتلو الدال على تلك الآيات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏، و‏{‏بعد‏}‏ هنا بمعنى ‏(‏دون‏)‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ فبأي حديث دون الله وآياته، وتقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏44‏)‏، وفي الأعراف ‏(‏185‏)‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث‏}‏ مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى‏:‏

فمن أيِّ ما تأتي الحوادث أفرَقُ ***

وإضافة ‏{‏بعد‏}‏ إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث‏}‏، والتقدير‏:‏ بعد حديث الله، أي بعد سماعه، كقول النابِغة‏:‏

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل‏.‏

واسم ‏{‏بعد‏}‏ مستعمل في حقيقته‏.‏

والمراد بالحديث‏:‏ الكلام، يعني القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏الله نَزَّل أحسن الحديث‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف ‏(‏185‏)‏ ‏{‏فبأيّ حديث بعده يؤمنون‏}‏ وفي آخر المرسلات ‏(‏50‏)‏ ‏{‏فبأيّ حديث بعده يؤمنون‏}‏ وعطف و‏{‏آياته‏}‏ على ‏{‏حديث‏}‏ لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السموات والأرض مما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب ‏{‏يؤمنون‏}‏ بالتحتية‏.‏ وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ‏}‏ ‏{‏أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏

أعقب ذكر المؤمنين الموقنين العَاقلين المنتفعين بدلالة آيات الله وما يفيده مفهوم تلك الصفات التي أجريت عليهم من تعريض بالذين لم ينتفعوا بها، بصريح ذكر أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يعقلوها كما وصف لذلك قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وافتتح ذكره بالويل له تعجيلاً لإنذاره وتهديده قبل ذكر حاله‏.‏ و‏(‏ويل له‏)‏ كلمة دعاء بالشكر وأصل الويل الشر وحلوله‏.‏

و ‏(‏الأفَّاك‏)‏ القويّ الإفك، أي الكذب‏.‏ والأثيم مبالغة أو صفة مشبهة وهو يدل على المبالغ في اقتراف الآثام، أي الخطايا‏.‏ وفسره الفيروزآبادي في «القاموس» بالكذّاب وهو تسامح وإنما الكذب جزئي من جزئيات الأثيم‏.‏

وجعلت حالتُه أنه يسمع آيات الله ثم يُصرّ مستكبراً لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبراً عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرير الإثم، فلا جرم أن يكون أفاكاً أثيماً بَلْهَ ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم‏.‏

والمراد ب ‏{‏كل أفّاك أثيم‏}‏ جميع المشركين الذين كذبوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعاندوا في معجزة القرآن وقالوا ‏{‏لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏ ‏[‏سبإ‏:‏ 31‏]‏ وبخاصة زعماء أهل الشرك وأيمة الكفر مثل النضْر بننِ الحارث، وأبي جهل وقرنائهم‏.‏ و‏{‏آيات الله‏}‏ أي القرآن فإنها المتلوة‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب، فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخراً عن سماع الآيات‏.‏

والإصرار‏:‏ ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه، وحُذف متعلق ‏{‏يصِرّ‏}‏ لدلالة المقام عليه، أي يُصرُّون على كفرهم كما دل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات، وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث أن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلولا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها‏.‏

و ‏{‏كَأنْ‏}‏ أصلها ‏(‏كأنَّ‏)‏ المشددة فخففت فقدر اسمها وهو ضمير الشأن‏.‏ وفرّع على حالتهم هذه إنذارهم بالعذاب الأليم وأطلق على الإنذار اسم البشارة التي هي الإخبار بما يسر على طريقة التهكم‏.‏

والمراد بالعلم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا علم من آياتنا شيئاً‏}‏ السمع، أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هُزؤاً، أي لا يَتلقى شيئاً من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به، ففعل ‏{‏عَلِم‏}‏ هنا متعدّ إلى واحد لأنه بمعنى عَرف‏.‏

وضمير التأنيث في ‏{‏اتخذها‏}‏ عائد إلى ‏{‏آياتنا‏}‏، أي اتخذ الآيات هزؤاً لأنه يستهزئ بما علمه منها وبغيره، فهو إذا علم شيئاً منها استهزأ بما علمه وبغيره‏.‏

ومعنى اتخاذهم الآيات هزؤاً‏:‏ أنهم يلوكونها بأفواههم لوك المستهزئ بالكلام، وإلا فإن مطلق الاستهزاء بالآيات لا يتوقف على العِلم بشيء منها‏.‏ ومن الاستهزاء ببعض الآيات تحريفُها على مواضعها وتحميلها غير المراد منها عمداً للاستهزاء، كقول أبي جهل لما سَمِع ‏{‏إنَّ شجرة الزقوم طعام الأثيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43، 44‏]‏ تجاهل بإظهار أن الزقوم اسم لمجموع الزبد والتمر فقال‏:‏ «زقّمونا»، وقوله‏:‏ لما سمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عليها تسعة عَشَر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 30‏]‏‏:‏ أنا أَلْقَاهُمْ وحدي‏.‏

‏{‏هُزُواً أولئك لَهُمْ عَذَابٌ‏}‏ ‏{‏لله مُّهِينٌ * مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا‏}‏‏.‏

جيء باسم الإشارة للتنبيه على أن ما ذكر من الأوصاف من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل أفاك أثيم‏}‏ إلى قوله ‏{‏هزؤاً‏}‏ على أن المشار إليهم أحرياء بهِ لأجْللِ ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف‏.‏

وجملة ‏{‏من ورائهم‏}‏ بيان لجملة ‏{‏لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏من ورائهم‏}‏ تحقيق لحصول العذاب وكونه قريباً منهم وأنهم غافلون عن اقترابه كغفلة المرء عن عدوّ يتبعه من ورائه ليأخذه فإذا نظر إلى أمامه حسب نفسه آمناً‏.‏ ففي الوراء استعارة تمثيلية للاقتراب والغفلة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة غصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏، وقول لبيد‏:‏

أليسَ ورائي إنْ تراخت منيتي *** لُزومُ العصا تُحنى عليها الأصابع

ومن فسر وراء بقُدّام، فما رعَى حق الكلام‏.‏

وعطف جملة ‏{‏ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً‏}‏ على جملة ‏{‏من ورائهم جهنم‏}‏ لأن ذلك من جملة العذاب المهين فإن فقدان الفداء وفقدان الوليّ مما يزيد العذاب شدة ويكسب المعاقب إهانة‏.‏ ومعنى الإغناء في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يغني عنهم‏}‏ الكفاية والنفع، أي لا ينفعهم‏.‏

وعُدي بحرف ‏(‏عن‏)‏ لتضمينه معنى يدفع فكأنَّه عُبّر بفعلين لا يغنيهم وبالدفع عنهم، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏10‏)‏‏.‏

و ‏{‏ما كسبوا‏}‏‏:‏ أموالهم‏.‏ و‏{‏شيئاً‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة، أي شيئاً من الإغناء لأن ‏{‏شيئاً‏}‏ من أسماء الأجناسسِ العاليةِ فهو مفسر بما وقع قبله أو بعده، وتنكيره للتقليل، أي لا يدفع عنهم ولو قليلاً من جهنم، أي عذابها‏.‏

‏{‏ولا ما اتخذوا‏}‏ عطف على ‏{‏ما كسبوا‏}‏ وأعيد حرف النفي للتأكيد، و‏{‏أولياء‏}‏ مفعول ثان ل ‏{‏اتخذوا‏}‏‏.‏ وحذف مفعوله الأول وهو ضميرهم لوقوعه في حيز الصلة فإن حذف مثله في الصلة كثير‏.‏

وأردف ‏{‏عذاب مهين‏}‏ بعطف ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ لإفادة أن لهم عذاباً غير ذلك وهو عذاب الدنيا بالقتل والأسر، فالعذاب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏ غير العذاب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك لهم عذاب مهين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏هذا هدى‏}‏ استئناف ابتدائي انتُقل به من وصف القرآن في ذاته بأنه منزل من الله وأنه من آيات الله إلى وصفه بأفضل صفاته بأنه هدى، فالإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ إلى القرآن الذي هو في حال النزول وَالتِلاوةِ فهو كالشيء المشاهد، ولأنه قد سبق من أوصافه من قوله‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏ إلى آخره ما صيره متميزاً شخصاً بِحسن الإشارة إليه‏.‏ ووصف القرآن بأنه ‏{‏هدى‏}‏ من الوصف بالمصدر للمبالغة، أي‏:‏ هاد للناس، فمن آمن فقد اهتدى ومن كفر به فله عذاب لأنه حَرَمَ نفسه من الهدى فكان في الضلال وارتبق في المفاسد والآثام‏.‏

فجملة ‏{‏والذين كفروا‏}‏ عطف على جملة ‏{‏هذا هدى‏}‏ والمناسبة أن القرآن من جملة آيات الله وأنه مذكِّر بها، فالذين كفروا بآيات الله كفروا بالقرآن في عموم الآيات، وهذا واقع موقع التذييل لما تقدمه ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وجيء بالموصول وصلته لما تشعر به الصلة من أنهم حقيقون بالعقاب‏.‏

واستُحْضِروا في هذا المقام بعنوان الكُفر دون عنواني الإصرار والاستكبار اللذين استحضروا بهما في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يُصِرّ مستكبراً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 8‏]‏ لأن الغرض هنا النعي عليهم إهمالهم الانتفاع بالقرآن وهو النعمة العظمى التي جاءتهم من الله فقابلوها بالكفران عوضاً عن الشكر، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 82‏]‏‏.‏

والرجز‏:‏ أشد العذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يَفْسُقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون حرف ‏{‏مِن‏}‏ للبيان فالعذاب هو الرجز ويجوز أن يكون للتبعيض، أي عذاب مما يسمى بالرجز وهو أشده‏.‏

و ‏{‏أليم‏}‏ يجوز أن يكون وصفاً ل ‏{‏عذاب‏}‏ فيكون مرفوعاً وكذلك قرأه الجمهور‏.‏ ويجوز أن يكون وصفاً ل ‏{‏رجزٍ‏}‏ فيكون مجروراً كما قرأه ابن كثير وحفص عن عاصم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال من التذكير بما خلق الله من العوالم وتصاريف أحوَالِها من حيث إنها دلالات على الوحدانية، إلى التذكير بما سخر الله للناس من المخلوقات وتصاريفها من حيثُ كانت منافع للناس تقتضي أن يشكروا مقدِّرها فجحدوا بها إذ توجهوا بالعبادة إلى غير المنعم عليهم، ولذلك عُلق بفعليْ ‏{‏سخر‏}‏ في الموضعين مجرور بلام العلة بقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏؛ على أن هذه التصاريف آيات أيضاً مثلُ اختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من ماء، وتصريف الرياح، ولكن لُوحظ هنا ما فيها من النعم كما لوحظ هنالك ما فيها من الدلالة، والفَطِنُ يَستخلص من المقامين كلا الأمرين على ما يشبه الاحتباك‏.‏ ومناسبة هذا الانتقال واضحة‏.‏

واسم الجلالة مسند إليه والموصول مسند، وتعريف الجزأين مفيد الحصر وهو قَصر قلب بتنزيل المشركين منزلة من يحسب أن تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض إنعام من شركائهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 40‏]‏، فكان هذا القصر إبطالا لهذا الزعم الذي اقتضاه هذا التنزيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتجري الفلك فيه‏}‏ بَدل اشتمال من ‏{‏لكم‏}‏ لأن في قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ إجمالاً أريد تفصيله‏.‏ فتعريف ‏{‏الفلك‏}‏ تعريف الجنس، وليس جري الفلك في البحر بنعمة على الناس إلا باعتبار أنهما يجرونهما للسفر في البحر فلا حاجة إلى جعل الألف واللام عوضاً عن المضاف إليه من باب ‏{‏فإن الجنة هي المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وعطف عليه ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ باعتبار ما فيه من عموم الاشتمال، فحصل من مجموع ذلك أن تسخير البحر لجري الفلك فيه للسفر لقضاء مختلف الحاجات حتى التنزه وزيارة الأهل‏.‏

وعطف ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏لتجري الفلك فيه‏}‏ لا باعتبار ما اشتمل عليه إجمالاً، بل باعتبار لفظه في التعليق بفعله‏.‏ وهذا مناط سَوق هذا الكلام، أي لعلكم تشكرون فكفرتم، وتقدم نظير مفردات هذه الآية غير مرة ما أغنى عن إعادته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات‏}‏‏.‏

هذا تعميم بعد تخصيص اقتضاه الاهتمام أولاً ثم التعميم ثانياً‏.‏ و‏{‏ما في السموات وما في الأرض‏}‏ عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده‏:‏ كالشمس للضياء، والمطر للشراب، أو من بعض أحواله‏:‏ كالكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، والشجر للاستظلال، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك‏.‏ وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال‏.‏

وانتصب ‏{‏جميعاً‏}‏ على الحال من ‏{‏ما في السموات وما في الأرض‏}‏‏.‏ وتنوينه تنوين عوض عن المضاف إليه، أي جميع ذلك مثل تنوين ‏(‏كل‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏كلاً هدينا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ ابتدائية، أي جميع ذلك من عند الله ليس لغيره فيه أدنى شركة‏.‏ وموقع قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ موقع الحال من المضاف إليه المحذوف المعوّض عنه التنوين أو من ضمير ‏{‏جميعاً‏}‏ لأنه في معنى مجموعاً‏.‏

‏{‏مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات لِّقَوْمٍ‏}‏‏.‏

أي في ذلك المذكور من تسخير البحر وتسخير ما في السموات والأرض دلائل على تفرد الله بالإلهية فهي وإن كانت منناً يحق أن يشكرها الناس فإنها أيضاً دلائل إذا تفكر فيها المنعَم عليهم اهتدوا بها، فحصلت لهم منها ملائمات جسمانية ومعارف نفسانية، وبهذا الاعتبار كانت في عداد الآيات المذكورةِ قبلها من قوله‏:‏ ‏{‏إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏، وإنما أُخرت عنها لأنها ذكرت في معرض الامتنان بأنها نعم، ثم عُقبت بالتنبيه على أنها أيضاً دلائل على تفرد الله بالخلق‏.‏

وأوثر التفكر بالذكر في آخر صفات المستدلين بالآيات، لأن الفكر هو منبع الإيمان والإيقان والعلم المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏لآيات للمؤمنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏آياتٌ لقوم يوقنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏آياتٌ لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 5‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

إن كانت هذه متصلة بالآي التي قبلها في النزول ولم يصح ما روي عن ابن عباس في سبب نزولها فمناسبة وقعها هنا أن قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفّاك أثيم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لهم عذاب من رجز أليم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7 11‏]‏ يثير غضب المسلمين على المستهزئين بالقرآن‏.‏ وَقد أخذ المسلمون يعتزون بكثرتهم فكان ما ذكر من استهزاء المشركين بالقرآن واستكبارهم عن سماعه يتوقع منه أن يبطش بعض المسلمين ببعض المشركين، ويحتمل أن يكون بَدَرَ من بعض المسلمين غضب أو توعد وأن الله علم ذلك من بعضهم‏.‏

قال القرطبي والسدي‏:‏ نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة أصابهم أذى شديد من المشركين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله بالتجاوز عن ذلك لمصلحة في استبقاء الهدوء بمكة والمتاركة بين المسلمين والمشركين ففي ذلك مصالح جمّة من شيوع القرآن بين أهل مكة وبين القبائل النازلين حولها فإن شيوعه لا يخلو من أن يأخذ بمجامع قلوبهم بالرغم على ما يبدونه من إِعراض واستكبار واستهزاء فتتهَيَّأ نفوسهم إلى الدخول في الدين عند زوال ممانعة سادتهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبعد استئصال صناديد قريش يوم بدر‏.‏ وقد تكرر في القرآن مثل هذا من الأمر بالصفح عن المشركين والعفو عنهم والإعراض عن أذاهم، ولكن كان أكثر الآيات أمراً للنبيء صلى الله عليه وسلم في نفسه وكانت هذه أمراً له بأن يبلغ للمؤمنين ذلك، وذلك يشعر بأن الآية نزلت في وقت كان المسلمون قد كثروا فيه وأحسّوا بعزتهم‏.‏ فأمروا بالعفو وأن يكلوا أمر نصرهم إلى الله تعالى، وإن كانت نزلت على سبب خاص عرض في أثناء نزول السورة فمناسبتها لأغراض السورة واضحة لأنها تعليم لما يصلح به مقام المسلمين بمكة بين المضادين لهم واحتمال ما يلاقونه من صَلفهم وتجبرهم إلى أن يقضي الله بينهم‏.‏

وقد روي في سبب نزولها أخبار متفاوتة الضعف، فروى مكي بن أبي طالب أن رجلاً من المشركين شتم عمر بن الخطاب فَهَمّ أن يبطش به قال ابن العربي‏:‏ «وهذا لم يصح»‏.‏ وفي «الكشاف» أن عمر شتمه رجل من غِفار فَهَمَّ أن يبطش به فنزلت‏.‏ وعن سعيد بن المسيب «كنا بين يدي عمر بن الخطاب فقرأ قارئ هذه الآية فقال عمر‏:‏ ليَجزِيَ عُمَرَ بما صنع» يعني أنه سبب نزول الآية‏.‏ وروى الواحدي والقشيري عن ابن عباس‏:‏ إنها نزلت في غزوة بني المصطلق‏:‏ نزلوا على بئر يقال لها‏:‏ المُرَيْسِيع فأرسَل عبدُ الله بن أُبَيّ غلامه ليستقي من البئر فأبطأ، فلما أتاه قال‏:‏ ما حسبك‏.‏ قال‏:‏ غلام عُمر قعد على فم البئر فما ترك أحداً يسقي حتى مَلأ قِرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وقِرَب أبي بكر ومَلأ لمولاه، فقال عبد الله بن أُبيّ‏:‏ ما مَثلُنا ومثَلُ هؤلاء إلا كما قال القائل‏:‏ «سَمِّن كلبَك يأكُلك» فهَمَّ عمر بن الخطاب بقتله، فنزلت‏.‏

وروى ابن مهران عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ الآية قال فنحاص اليهودي‏:‏ احتاج ربّ محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه فنزلت الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فلما جاء قال‏:‏ ضع سيفك‏.‏ وهاتان روايتان ضعيفتان ومن أجلهما روي عن عطاء وقتادة وابن عباس أن هذه الآية مدنية‏.‏

وأقرب هذه الأخبار ما قاله مكي بن أبي طالب‏.‏ ولو صحت ما كان فيه ما يفكك انتظام الآيات سواء صادف نزولها تلك الحادثة أو أمر الله بوضعها في هذا الموضع‏.‏

وجزْم ‏{‏يغفروا‏}‏ على تقدير لام الأمر محذوفاً، أي قل لهم ليغفروا، أو هو مجزوم في جواب ‏{‏قل‏}‏، والمقول محذوف دل عليه الجواب‏.‏ والتقدير‏:‏ قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا‏.‏ وهذا ثقة بالمؤمنين أنهم إذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم امتثلوا‏.‏ والوجهان يتأتَّيان في مثل هذا التركيب كلما وقع في الكلام، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ في سورة إبراهيم ‏(‏31‏)‏‏.‏

و ‏{‏الذين لا يرجون أيام الله‏}‏ يراد بهم المشركون من أهل مكة‏.‏

والرجاء‏:‏ ترقب وتطلب الأمر المحبوب، وهذا أشهر إطلاقاته وهو الظاهر في هذه الآية‏.‏

والأيام‏:‏ جمع يوم، وهذا الجمع أو مفرده إذا أضيف إلى اسم أحد أو قوم أو قبيلة كان المراد به اليوم الذي حصل فيه لمَن أضيف هو إليه نَصر وغلب على معاند أو مُقاتل، ومنه أطلق على أيام القتال المشهورة بين قبائل العرب‏:‏ أيامُ العرب، أي التي كان فيها قتال بين قبائل منهم فانتصر بعضهم على بعض، كما يقال أيام عبس، وأيام داحس والغبراء، وأيام البَسوس، قال عمرو بن كلثوم‏:‏

وأيام لنَا غرٌّ طِوال *** عَصينا المَلْك فيها إن نَدِينا

فإذا قالوا‏:‏ أيام بني فلان، أرادوا الأيام التي انتصر فيها من أضيفت الأيام إلى اسمه، ويقولون‏:‏ أيام بني فلان على بني فلان فيريدون أن المجرور بحرف الاستعلاء مغلوب لتضمن لفظ ‏{‏أيام‏}‏ أو ‏(‏يوم‏)‏ معنى الانتصار والغلب‏.‏ وبذلك التضمّن كان المجرور متعلقاً بلفظ ‏{‏أيام‏}‏ أو ‏(‏يوم‏)‏ وإن كان جامداً، فمعنى ‏{‏أيام الله‏}‏ على هذا هو من قبيل قولهم‏:‏ أيام بني فلان، فيحصل من محمل الرجاء على ظاهر استعماله‏.‏

ومحمل ‏{‏أيام الله‏}‏ على محمل أمثاله أن معنى الآية للذين لا تترقب نفوسهم أيام نصر الله، أي نصر الله لهم‏:‏ إما لأنهم لا يتوكلون على الله ولا يستنصرونه بل توجّههم إلى الأصنام، وإما لأنهم لا يخطر ببالهم إلا أنهم منصورون بحولهم وقوتهم فلا يخطر ببالهم سؤال نصر الله أو رجاؤه وهم معروفون بهذه الصلة بين المسلمين فلذلك أجريت عليهم هنا وعرفوا بها‏.‏

وأوثر تعريفهم بهذه الصلة ليكون في ذلك تعريض بأن الله ينصر الذين يرجون أيام نصره وهم المؤمنون‏.‏ والغرض من هذا التعريض الإيماء بالموصول إلى وجه أمر المؤمنين أن يغفِروا للمشركين ويصفحوا عن أذى المشركين ولا يتكلفوا الانتصار لأنفسهم لأن الله ضمن لهم النصر‏.‏

وقد يطلق ‏{‏أيام الله‏}‏ في القرآن على الأيام التي حصل فيها فضله ونعمته على قوم، وهو أحد تفسيرين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذَكِّرهم بأيام الله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يرجون أيام الله‏}‏ على هذا التأويل أنهم في شغل عن ترقب نعم الله بما هم فيه من إسناد فعل الخير إلى أصنامهم بانكبابهم على عبادة الأصنام دون عبادة الله ويأتي في هذا الوجه من التعريض والتحريض مثل ما ذكر في الوجه الأول لأن المؤمنين هم الذين يرجون نعمة الله‏.‏ وفسر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم لا تَرْجَون لله وقاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 13‏]‏، فيكون المراد ب ‏{‏أيام الله‏}‏‏:‏ أيام جزائه في الآخرة لأنها أيام ظهور حكمه وعزته فهي تقارب الأيام بالمعنى الأول، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك اليوم الحقّ‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 39‏]‏، أي ذلك يوم النصر الذي يحق أن يطلق عليه ‏(‏يوم‏)‏ فيكون معنى هذه الآية‏:‏ أنهم لا يخافون تمكن الله من عقابهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث‏.‏

ومعنى الآية أن المؤمنين أمروا بالعفو عن أذى المشركين وقد تكرر ذلك في القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن أسامة بن زيد في هذه الآية‏:‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏ تعليل للأمر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏يغفروا‏}‏ أي ليغفروا ويصفحوا عن أذى المشركين فلا ينتصروا لأنفسهم ليجزيهم الله على إيمانهم وعلى ما أوذوا في سبيله فإن الانتصار للنفس توفية للحق وماذا عساهم يبلغون من شفاء أنفسهم بالتصدّي للانتقام من المشركين على قلتهم وكثرة أولئك فإذا توكلوا على نصر ربّهم كان نصره لهم أتم وأخضد لشوكة المشركين كما قال نوح ‏{‏إني مغلوب فانتصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهذا من معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن يقال ليجزيهم بما كانوا يكسبون، فعدل إلى الإظهار في مقام الإضمار ليكون لفظُ ‏{‏قوماً‏}‏ مشعراً بأنهم ليسوا بمضيعة عند الله فإن لفظ ‏(‏قوم‏)‏ مشعر بفريق له قِوامه وعزته ‏{‏ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وتنكير ‏{‏قوماً‏}‏ للتعظيم، فكأنه قيل‏:‏ ليجزي أيما قوم، أي قوماً مخصوصين‏.‏ وهذا مدح لهم وثناء عليهم‏.‏ ونحْوُه ما ذكر الطيبي عن ابن جنِّي عن أبي علي الفارسي في قول الشاعر‏:‏

أفآت بنو مروان ظلماً دماءنا *** وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل

قال أبو علي‏:‏ هو تعالى أعرف المعارف وسماه الشاعر‏:‏ حكماً عدلاً وأخرج اللفظ مخرج التنكير، ألا ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف اه‏.‏ قيل‏:‏ والأظهر أن ‏{‏قوماً‏}‏ مراد به الإبهام وتنوينه للتنكير فقط‏.‏

والمعنى‏:‏ ليجزي الله كل قوم بما كانوا يكسبون من خير أو شر بما يناسب كسبهم فيكون وعيداً للمشركين المعتدين على المؤمنين ووعداً للمؤمنين المأمورين بالصفح والتجاوز عن أذى المشركين، وهذا وجه عدم تعليق الجزاء بضمير الموقنين لأنه أريد العموم فليس ثمة إظهار في مقام الإضمار ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وهذا كالتفصيل للإجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏‏.‏ ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف على سابقتها، وتقدم نظيره في سورة فصّلت‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ليجزي قوماً‏}‏ بتحتية في أوله، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏يَرْجُونَ أَيَّامَ‏}‏‏.‏ وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف بنون العظمة في أوله على الالتفات‏.‏ وقرأه أبو جعفر بتحتية في أوله مضمومة وبفتح الزاي على البناء للمجهول ونَصبَ ‏{‏قوماً‏}‏‏.‏ وتأويلها أن نائب الفاعل مصدر مأخوذ من فعل ‏(‏يُجْزي‏)‏‏.‏ والتقدير‏:‏ ليجزَى الجزاءُ‏.‏ ‏{‏وقوماً‏}‏ مفعول ثان لفعل ‏(‏يجزى‏)‏ من باب كسا وأعطى‏.‏ وليس هذا من إنابة المصدر الذي هو مفعول مطلق وقد منعه نحاة البصرة بل جعل المصدر مفعولاً أول من باب أعطى وهو في المعنى مفعول ثان لفعل جزى، وإنابة المفعول الثاني في باب كسا وأعطى متفق على جوازه وإن كان الغالب إنابة المفعول الأول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يُجزاه الجزاءَ الأوفى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربّكم ترجعون‏}‏ أي بعد الأعمال في الدنيا تصيرون إلى حكم الله تعالى فيجازيكم على أعمالكم الصالحة والسيئة بما يناسب أعمالكم‏.‏

وأطلق على المصير إلى حكم الله أنه رجُوع إلى الله على طريقة التمثيل بحال من كان بعيداً عن سيده أو أميره فعمل ما شاء ثم رجع إلى سيده أو أميره فإنه يلاقي جزاء ما عمله، وقد تقدمت نظائره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

الوجه أن يكون سَوق خبر بني إسرائيل هنا توطئةً وتمهيداً لقوله بعده ‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏ أثار ذلك ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكلّ أفّاك أثيم يسمع آيات الله تُتْلَى عليه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏اتخذها هزؤا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7 9‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ فكان المقصدُ قولَه ‏{‏ثم جعلناك على شريعة من الأمر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏ ولذلك عطفت الجملة بحرف ‏{‏ثمَّ الدال على التراخي الرتبي، أي على أهمية ما عطف بها‏.‏

ومقتضى ظاهر النظم أن يقع قوله‏:‏ ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب‏}‏ الآيتين بعد قوله‏:‏ ‏{‏جعلناك على شريعة من الأمر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏ فيكونَ دليلاً وحجة له فأخرج النظم على خلاف مقتضى الظاهر فجعلت الحجة تمهيداً قصداً للتشويق لما بعده، وليقع ما بعده معطوفاً ب ‏{‏ثم الدالةِ على أهمية ما بعدها‏.‏

وقد عرف من تورك المشركين على النبي في شأن القرآن ما حكاه الله عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏، فمن أجل ذلك وقع هذا بعد قوله‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفّاك أثيم إلى قوله‏:‏ وإذا عَلم من آياتنا شيئاً اتخذها هزؤا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏، فالجملة معطوفة على تلك الجمل‏.‏

وأدمج في خلالها ما اختلف فيه بنو إسرائيل على ما دعتهم إليه شريعتهم، لما فيه من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة قومه دعوته تنظيراً في أصل الاختلاف دون أسبابه وعوارضه‏.‏

ولما كان في الكلام ما القصد منه التسلية والاعتبار بأحوال الأمم حَسن تأكيد الخبر بلام القسم وحرففِ التحقيق، فمصب هذا التحقيق هو التفريع الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فما اختلفوا حتى جاءهم العلم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 93‏]‏ تأكيداً للمؤمنين بأن الله يقضي بينهم وبين المشركين كشأنه فيما حدث بين بني إسرائيل‏.‏

وقد بُسِط في ذكر النظير في بني إسرائيل من وصف حالهم حينما حدث الاختلاف بينهم، ومن التصريح بالداعي للاختلاف بينهم ما طُوي من مِثللِ بعضِه من حال المشركين حين جاءهم الإسلام فاختلفوا مع أهله إيجازاً في الكلام للاعتماد على ما يفهمه السامعون بطريق المقايسة على أن أكثره قد وقع تفصيله في الآيات السابقة مثل قوله‏:‏ ‏{‏تِلك آيات الله نتلوها عليك بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏ وقوله هذا هدى ‏[‏الجاثية‏:‏ 11‏]‏ فإن ذلك يقابل قولَه هنا ‏{‏ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحُكم والنبوءة‏}‏ ومثل قوله‏:‏ ‏{‏وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏ فإنه يقابل قولَه هنا ‏{‏ورَزقناهم من الطيبات‏}‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏يسمع آيات الله تُتْلَى عليه ثم يُصرّ مستكبراً‏}‏ إلى قوله ‏{‏لهم عذاب مهين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 8، 9‏]‏ فإنه يقابل قوله هنا ‏{‏وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم‏}‏، ومثل قوله‏:‏

‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ فإنه مقابل قوله هنا ‏{‏إن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ التوراة‏.‏

و ‏{‏الحكم‏}‏ يصح أن يكون بمعنى الحِكمة، أي الفهم في الدّين وعلم محاسن الأخلاق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه الحُكم صبيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12‏]‏، يعني يحيى، ويصح أن يكون بمعنى السيادة، أي أنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم ولا تحكمهم أمة أخرى كقوله تعالى و‏{‏جَعلَكم ملوكاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏، و‏{‏النبوءة‏}‏ أن يقوم فيهم أنبياء‏.‏ ومعنى إيتائهم هذه الأمور الثلاثة‏:‏ إيجادها في الأمة وإيجاد القائمين بها لأن نفع ذلك عائد على الأمة جمعاء فكان كل فرد من الأمة كمن أوتي تلك الأمور‏.‏

وأما رزقهم من الطيبات فبأن يسّر لهم امتلاك بلاد الشام التي تفيض لبناً وعسلاً كما في التوراة في وعد إبراهيم والتي تجبى إليها ثمرات الأرضين المجاورة لها وتَرد عليها سلع الأمم المقابلة لها على سواحل البحر فتزخر مراسيها بمختلف الطعام واللباس والفواكه والثمار والزخارف، وذلك بحُسن موقِععِ البلاد من بين المشرق براً والمغرب بحراً‏.‏ و‏{‏الطيبات‏}‏‏:‏ هي التي تطيب عند الناس وتحسن طعْماً ومنظراً ونفعاً وزينة‏.‏ وأما تفضيلهم على العالمين فبأن جمع الله لهم بين استقامة الدّين والخَلق، وبين حكم أنفسهم بأنفسهم، وبث أصول العدل فيهم، وبين حسن العيش والأمن والرخاء، فإن أمماً أخرى كانوا في بحبوحة من العيش ولكن ينقص بعضَها استقامةُ الدّين والخلق، وبعضها عزة حكم النفس وبعضَها الأمن بسبب كثرة الفتن‏.‏

والمراد ب ‏{‏العالمين‏}‏‏:‏ أمم زمانهم وكل ذلك إخبار عما مضى من شأن بني إسرائيل في عنفوان أمرهم لا عَمَّا آل إليه أمرهم بعد أن اختلفوا واضمحل ملكهم ونسخت شريعتهم‏.‏

و ‏{‏بيّنات‏}‏ صفة نزلت منزلة الجامد، فالبينة‏:‏ الحجة الظاهرة، أي آتيناهم حججاً، أي علمناهم بواسطة كتبهم وبواسطة علمائهم حجج الحق والهدى التي من شأنها أن لا تترك للشك والخطإ إلى نفوسهم سبلاً إلا سدتها‏.‏

و ‏{‏الأمر‏}‏‏:‏ الشأن كما في قوله‏:‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 97‏]‏ والتعريف في ‏{‏الأمر‏}‏ للتعظيم، أي من شؤون عظيمة، أي شأن الأمة وما به قوام نظامها إذْ لم يترك موسى والأنبياء من بعده شيئاً مُهماً من مصالحهم إلا وقد وضحوه وبينوه وحذروا من الالتباس فيه‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله ‏{‏من الأمر‏}‏ بمعنى ‏(‏في‏)‏ الظرفيّة فيحصل من هذا أن معنى ‏{‏وءاتيناهم بينات من الأمر‏}‏‏:‏ علمناهم حججاً وعلوماً في أمر دينهم ونظامهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامة من مخاطر الخطإ والخطل‏.‏ وفُرع على ذلك قولُه ‏{‏فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ تفريعَ إدماج لمناسبته للحالة التي أريد تنظيرها‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ فاختلفوا وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، فحذف المفرَّع لدلالة ما بعده عليه على طريقة الإيجاز إذ المقصود هو التعجيب من حالهم كيف اختلفوا حينَ لا مظنة للاختلاف إذ كان الاختلاف بينهم بعدما جاءهم العلم المعهود بالذكر آنفاً من الكتاب والحُكم والنبوءة والبينات من الأمر، ولو اختلفوا قبل ذلك لكان لهم عذر في الاختلاف وهذا كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وأضلّه الله على علم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذا الكلام كناية عن عدم التعجيب من اختلاف المشركين مع المؤمنين حيث أن المشركين ليسوا على علم ولا هدى ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملطوف به في رسالته‏.‏

والبغي‏:‏ الظلم‏.‏ والمراد‏:‏ أن اختلافهم عن عمد ومكابرة بعضهم لبعض وليس عن غفلة أو تأويل، وهذا الظلم هو ظلم الحسد فإن الحسد من أعظم الظلم، أي فكذلك حال نظرائهم من المشركين ما اختلفوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغياً منهم عليه مع علمهم بصدقه بدلالة إعجاز القرآن لفظاً ومعاني‏.‏

وانتصب ‏{‏بغياً‏}‏ إمّا على المفعول لأجله، وإمّا على الحال بتأويل المصدر باسم الفاعل، وعلى كلا الوجهين فالعامل فيه فعل ‏{‏اختلفوا‏}‏، وإن كان منفياً في اللفظ لأن الاستثناء أبطل النفي إذ ما أريد إلا نفي أن يكون الاختلاف في وقت قبل أن يحثهم العلم فلما استفيد ذلك بالاستثناء صار الاختلاف ثابتاً وما عدا ذلك غير منفي‏.‏

وجملة ‏{‏إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن خبرَهم العجيب يثير سؤالاً في نفس سامعه عن جزاء الله إياهم على فعلهم، وهذا جواب فيه إجمال لتهويل ما سيُقضَى به بينهم في الخير والشر لأن الخلاف يقتضي محقّاً ومبطلاً‏.‏

ونظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بوَّأنا بني إسرائيل مُبَوّأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ في سورة يونس ‏(‏93‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو‏.‏ وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف ‏{‏ثم‏}‏ أهم من مضمون الجملة المعطوففِ عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجةِ على الدليل‏.‏ وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبّيناتتِ من الأمر، فنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابُه وحُكمه وبَيناته أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وتنوين ‏{‏شريعة‏}‏ للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي‏.‏

والشريعة‏:‏ الدين والملة المتَّبعة، مشتقة من الشرع وهو‏:‏ جَعل طريق للسير، وسمي النهج شَرعاً تسميةً بالمصدر‏.‏ وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك، قال الراغب‏:‏ استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء قلتُ‏:‏ ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير‏.‏

و ‏{‏الأمر‏}‏‏:‏ الشأن، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏، فتكون ‏{‏مِن‏}‏ تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفاً ‏{‏وآتيناهم بينات من الأمر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 17‏]‏ لأن إضافة ‏{‏شريعة‏}‏ إلى ‏{‏الأمر‏}‏ تمنع من ذلك‏.‏

وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى، وأنها شريعة عظيمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدَأب في بيانها والدعوة إليها‏.‏ ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله‏:‏ ‏{‏فاتّبعها‏}‏ أي دُم على اتباعها، فالأمر لطلب الدوام مثل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏

وبين قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏}‏ محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر‏.‏ و‏{‏الذين لا يعلمون‏}‏ هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهاه هواه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والأهواء‏:‏ جمع هوى، وهو المحبة والميل‏.‏ والمعنى‏:‏ أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه‏:‏ إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحِينَ يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وفيه أيضاً تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون‏.‏ وعن ابن عباس «أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه» قال البغوي‏:‏ كانوا يقولون له‏:‏ ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك‏.‏

وجملة ‏{‏إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً‏}‏ تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ويتضمن تعليلَ الأمر باتباع شريعة الله فإن كونهم لا يغنون عنه من الله شيئاً يستلزم أن في مخالفة ما أمر الله من اتباع شريعته ما يوقع في غضب الله وعقابه فلا يغني عنه اتباع أهوائهم من عقابه‏.‏

والإغناء‏:‏ جعل الغير غنياً، أي غير محتاج، فالآثم المهدد من قدير غير غنيّ عن الذي يعاقبه ولو حماه من هو كفء لمهدده أو أقدر منه لأغناه عنه وضُمّن فعل الإغناء معنى الدفع فعدّي ب ‏(‏عن‏)‏‏.‏ وانتصب ‏{‏شيئاً‏}‏ على المفعول المطلق، و‏{‏من الله‏}‏ صفة ل ‏{‏شيئاً‏}‏ و‏{‏مِن‏}‏ بمعنى بَدل، أي لن يُغنُوا عنك بدلاً من عذاب الله، أي قليلاً من الإغناء البديل من عقاب الله فالكلام على حذف مضاف، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ في آل عمران ‏(‏10‏)‏‏.‏

وعُطف على هذا التعليل تعليل آخر وهو ‏{‏وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي إنهم ظالمون وأنت لست من الظالمين في شيء فلا يجوز أن تتبعهم في شيء وإنما يتبعهم من هم أولياؤهم‏.‏ وذُيل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله ولي المتقين‏}‏ وهو يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم الله وليُّه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول المتقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

إن كانت الإشارة إلى الكلام المتقدم وما فيه من ضرب المثل بموسى وقومه ومن تفضيل شريعة محمد على شريعة موسى عليهما الصلاة والسلام والأمر بملازمة اتباعها والتحذير من اتباع رغائب الذين لا يعلمون، فهذه الجملة بمنزلة التذييل لما قبلها والتهيئةِ لأغراضها تنبيهاً لما في طيها من عواصمَ عن الشك والباطل بمنزلة قوله تعالى بعد عدة آيات في آخر سورة الأحقاف ‏(‏35‏)‏ ‏{‏بلاغ‏}‏ وقوله في سورة الأنبياء ‏(‏105، 106‏)‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوممٍ عابدين‏}‏ وإن كانت الإشارة إلى القرآن إذ هو حاضر في الأذهان كانت الجملة استئنافاً أعيد بها التنويه بشأن القرآن ومتبعيه والتعريضُ بتحميق الذين أعرضوا عنه، وتكون مفيدة تأكيد قوله آنفاً ‏{‏هذا هدىً والذين كفروا بآيات ربّهم لهم عذابٌ من رجزٍ أليم‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 11‏]‏، وتكون الجملة المتقدمة صريحة في وعيد الذين كفروا بآياته وهذه تعريضاً بأنهم لم يَحْظَواْ بهذه البصائر، وكلا الاحتمالين رشيق، وكل بأن يكون مقصوداً حقيق‏.‏

و ‏{‏بصائر‏}‏‏:‏ جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقائقها، شبهت ببصر العين، وفرق بينهما بصيغة فعلية للمبالغة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أدْعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومَن اتّبعني‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏108‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قال لقد علمتَ ما أنزل هؤلاء إلا ربّ السماوات والأرض بصائر‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏102‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس‏}‏ في سورة القصص ‏(‏43‏)‏‏.‏

ووصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي لأن ذلك سبب البصائر‏.‏ وجمع البصائر‏:‏ إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله‏:‏ للناس‏}‏ لأن لكل أحد بصيرته الخاصة فهي أمر جزئي بالتبع لكَون صاحببِ كل بصيرة جزئياً مشخصاً فناسب أن تُورد جمعاً، فالبصيرة‏:‏ الحاسَّة من الحواس الباطنة، وهذا بخلاف إفراد ‏{‏هدى ورحمة‏}‏ لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏ وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود‏.‏ وإنّما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفراداً وجَماعاتتٍ في الدنيا لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم، وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي‏.‏ وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحَرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة‏.‏

وجُعل البصائر للناس لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته‏.‏

وذكر لفظ ‏(‏قوم‏)‏ للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين‏.‏

والإيقان‏:‏ العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه‏.‏ وحذف متعلقه لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله‏.‏