فصل: تفسير الآيات رقم (4- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ‏}‏‏.‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ فإن العدة هنالك أريد بها الأقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة‏.‏ وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض، أي في ذلك الوقت‏.‏

والوقف على قوله‏:‏ ‏{‏واللائي لم يحضن‏}‏، أي هن معطوفات على الآيسين‏.‏

واليأس‏:‏ عدم الأمل‏.‏ والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع‏.‏ وهذا السنّ يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك‏.‏ وقد اختُلف في تحديد هذا السنّ بعدد السنين فقيل‏:‏ ستون سنة، وقيل‏:‏ خمس وخمسون، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبّان اليأس‏.‏

والمقصود من الآية بيِّن وهي مخصصة لعموم قوله‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ من سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة‏.‏

وقد خفي مفاد الشرط من قوله‏:‏ إن ارتبتم‏}‏ وما هو متصل به‏.‏ وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلاً بالكلام الذي وقع هو في أثنائه، وإنه ليس متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ في أول هذه السورة خلافاً لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام، ثم خفيَ المراد من هذا الشرط بقوله‏:‏ ‏{‏إن ارتبتم‏}‏‏.‏

وللعلماء فيه طريقتان‏:‏

الطريقة الأولى‏:‏ مشَى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف المتعلق، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القُروء وذوات الحمل، أي في سورة البقرة، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية، ومثله مروي عن مجاهد، وروى الطبري خبراً عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة، فنزلت هذه الآية‏.‏ فجعلوا حرف ‏{‏إنْ‏}‏ بمعنى ‏(‏إذْ‏)‏ وأن الارتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيّنّاه بهذه الآية قال ابن العربي‏:‏ حديث أُبّي غير صحيح‏.‏ وأنا أقول‏:‏ رواه البيهقي في «سننه» والحاكم في «المستدرك» وصَحّحه‏.‏ والطبراني بسنده عن عَمرو بن سالم أن أبَيَّا قال‏:‏ وليس في رواية الطبري ما يدل على إسناد الحديث‏.‏

وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عُمر بن سالم الأنصاري عن أُبي بن كعب وهو منقطع، لأن أبا عثمان لم يلق أُبي بن كعب وأحسب أنه في «مستدرك الحاكم» كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي‏:‏ هو غير صحيح‏.‏

فإن رجال سنده ثقات‏.‏

وفي «أسباب النزول» للواحدي عن قتادة أن خلاد بن النعمان وأبيَّا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن السائل معاذ بن جبل سأل عن عدة الآيسة‏.‏

فالريبة على هذه الطريقة تكون مراداً بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدأ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة ‏{‏فعدتهن ثلاثة أشهر‏}‏‏.‏

والفاء في ‏{‏فعدتهن‏}‏ داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللذان يأتيانها منكم فآذوهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 16‏]‏ ومثله كثير في الكلام‏.‏

والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون ‏{‏إنْ‏}‏ مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة‏.‏

والطريقة الثانية‏:‏ مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الارتياب واحد، وهو حالة المطلقة من المحيض، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير وإسماعيل بن هاد مِن المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى داود الظاهري‏.‏

وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة‏.‏

وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خَبر عن ‏{‏اللاء يئسن‏}‏، أي إن ارتبن هُن وارتبتُم أنتم لأجل ارتيابهن، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليباً ويبقى الشرط على شرطيته‏.‏ والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب‏.‏

وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطاً بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطَدم أصحابُه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلاً فنسب ابنُ لبابة ‏(‏من فقهاء المالكية‏)‏ إلى داود الظاهري أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يُوقَن أنها يائسة‏.‏

قلت ولا تُعرف نسبة هذا إلى داود‏.‏ فإن ابن حزم لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء، قال ابن لبابة‏:‏ وهو شذوذ، وقال ابن لبابة‏:‏ وأمّا ابن بكير وإسماعيلُ بن حمَّاد، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقّن يأسها ملحقةً بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم، وانتظار المراجعة، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه‏.‏

وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها‏:‏ فقال عكرمة وابن زيد وقتادة‏:‏ ليس على المرأة المرتاب في معاودة الحيض إليها عدّة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقاً بظاهر الآية ‏(‏ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبيّن فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة‏)‏، لأن الحمل بعد سنّ اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتَقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية‏.‏

وقال الأكثرون من أهل العلم‏:‏ إن المرتاب في يأسها تمكث تسعة أشهر ‏(‏أي أمدَ الحمللِ المعتادِ‏)‏ فإن لم يظهر بها حمل ابتْدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنةٌ كاملة‏.‏ وأصل ذلك ما رواه سعيد بن المسيب من قضاء عمر بن الخطاب ولم يخالفه أحد من الصحابة، وأخذ به مالك‏.‏ وعن مالك في «المدونة»‏:‏ تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة‏.‏ ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبُّد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها عمر بن الخطاب لعله بالاجتهاد، وهو تقييد للإِطلاق الذي في الآية‏.‏

وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي‏:‏ تعتد المرتاب في يأسها بالأقراء ‏(‏أي تنتظر الدم إلى أن تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة انتظارها على تسعة أشهر‏)‏‏.‏ فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدّت بثلاثة أشهر من يومئذٍ‏.‏ ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام‏:‏ فعدتهن ثلاثة أشهر، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبدٌ، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتدّ‏.‏ إلا أن نعتذر لهم بأن مدة الانتظار لا يتحفز في خِلالها المطلِّق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيُزاد في المدة لأجل ذلك، وفي «تفسير القرطبي»‏:‏ «قال عكرمة وقتادة‏:‏ من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مراراً، وفي الأشهر مرة ‏(‏أي بدون انضباط‏)‏» اه‏.‏ ونقل الطبري مثل هذا الكلام عن الزهري وابن زيد، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية‏.‏ والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها المحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غِبًّا بدون انتظام ثم ينقطع تماماً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللائي لم يحضن‏}‏ عطف على ‏{‏واللائي يئسن‏}‏ والتقدير‏:‏ عدتهن ثلاثة أشهر‏.‏ ويحسن الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏فعدتهن ثلاثة أشهر‏}‏‏.‏

‏{‏يَحِضْنَ وأولات الاحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ‏}‏‏.‏

معطوفة على جملة ‏{‏واللائي لم يحضن‏}‏ فهي إتمام لأحوال العدة المجمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحصوا العدة‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ وتقدير الكلام‏:‏ وأولات الأحمال منهن، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن‏.‏

فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضاً منها بيان لإِجمال الآية التي في سورة البقرة‏.‏

‏{‏وأولات‏}‏ اسم جَمع لذاتتٍ بمعنى‏:‏ صاحبة‏.‏ وذات‏:‏ مؤنث ذو، بمعنى‏:‏ صاحب‏.‏ ولا مفرد ل ‏{‏أولات‏}‏ من لفظه كما لا مفرد للفظ ‏(‏أولو‏)‏ و‏{‏أولات‏}‏ مثل ذوات كما أن أولو مثل ذَوُو‏.‏ ويكتب ‏{‏أولات‏}‏ بواو بعد الهمزة في الرسم تبعاً لكتابة لفظ ‏(‏أولو‏)‏ بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولي في حالة النصب والجر وبين حرف ‏(‏إلى‏)‏‏.‏

وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو المجرور وتركوا التكلف في غيرهما‏.‏ ‏[‏

وجعلت عدة المطلقة الحامل منهَّاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولدٍ للمطلِّق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له‏.‏ وضمّ إلى ذلك غرض آخر هو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة، فلما حصل الأهم أُلغي ما عداه رعْياً لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار، على أن وضع الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلاً بالغالب دون النادر، خلافاً لمن قال في المتوفى عنها‏:‏ عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس‏.‏

وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ لأن تلك في وادٍ وهذه في وادٍ، تلك في شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات‏.‏

ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرةً حكمتُه في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولدٍ له إذ له فائدة فيه غيرَ ذلك ‏(‏ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي‏)‏، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بينّاه في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن‏}‏ الخ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏‏.‏

وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحاملَ إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشراً كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك‏.‏

من أجْل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة من وفاة‏.‏

ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم‏:‏ إن عدة الحامل المتوفّى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العامّ المتأخر منهما ينسخ العامّ الآخر وهي طريقة المتقدمين‏.‏

روى أهل الصحيح أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن عليّ بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفّي عنها‏:‏ إن عليها أقصَى الأجلين أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر قال ابن مسعود‏:‏ لَنَزَلَتْ سورة النساء القُصرى أي سورة الطلاق بعد الطولى أي بعد طولى السور وهي البقرة، أي ليست آية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق‏.‏

ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي زوجها سعدُ بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملاً فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة‏.‏ فاستأذنت رسولَ الله في التزوج فقال لها‏:‏ قد حَلَلْتتِ فانكحي إن شئتِ‏.‏ روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم‏.‏ وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفاً‏.‏

واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمُرجح والحنفية جعلوا المتأخِر من العمومين ناسخاً للمتقدم‏.‏ فقوله‏:‏ وأولات الأحمال‏}‏ لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة طلاق أو في عدة وفاة، وقوله‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ تَعمّ كلّ امرأة تركها الميت سواء كانت حاملاً أو غير حامل، لأن ‏{‏أزواجاً‏}‏ نكرة وقعت مفعولَ الصلة وهي ‏{‏يَذرون‏}‏ المشتملة على ضمير المَوصول الذي هو عام فمفعوله تبع له في عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم ‏{‏أولات الأحمال‏}‏ فتعارض العمومان كل من وجه، فآية ‏{‏وأولات الأحمال‏}‏ اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفّى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشراً‏.‏ وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل‏.‏

فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم ‏{‏وأولات الأحمال‏}‏ على عموم ‏{‏ويذرون أزواجاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ أن عموم ‏{‏وأولات الأحمال‏}‏ حاصل بذات اللفظ لأن الموصول مع صلته من صيغ العموم، وأما قوله‏:‏ ‏{‏ويذرون أزواجاً‏}‏ فإن ‏{‏أزواجاً‏}‏ نكرة في سياق الإِثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعاً لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض‏.‏

وثانيها‏:‏ أن الحكم في عموم ‏{‏وأولات الأحمال‏}‏ علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة، فما كان عمومه معلَّلاً بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل‏.‏

وثالثها‏:‏ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدّة سُبَيْعة الأسلمية‏.‏

وذهب الحنفية إلى أن عموم ‏{‏وأولات الأحمال‏}‏ ناسخ لعموم قوله‏:‏ ‏{‏ويذرون أزواجاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ في مقدار ما تعارضا فيه‏.‏

ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضعُ حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها‏.‏

والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفّى عنها إن لم تكن حاملاً ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشر‏.‏

وقال قليل من أهل العلم بالجمع بين الآيتين بما يحقق العمل بهما معاً فأوجبوا على الحامل المتوفّى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر‏.‏

وأجل وضع الحمل، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس‏.‏ وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتَّى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخَر وزيادة فيصير معنى هذه الآية ‏{‏أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ما لم تكن عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفَّيْن يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ما لم تكنَّ حوامل فيزدْن تربّصاً إلى وضع الحمل‏.‏ ولا يجوز تخصيص عموم ‏{‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ بما في آية ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفَّى عنهن، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفّى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عِدة زوجها، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى‏.‏

وفي «صحيح البخاري» «عن محمد بن سيرين قال‏:‏ كنت في حلقة فيها عُظْم من الأنصار ‏(‏أي بالكوفة‏)‏ وفيهم عبد الرحمان بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه فذَكَر آخرَ الأجلين، فحدثتُ حديث عبد الله بن عتبة في شأن سُبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمان لكن عمه ‏(‏أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود‏)‏ كان لا يقول ذلك ‏(‏أي لم يحدثنا به‏)‏ فقلت‏:‏ إني إذن لجَرِيء إن كذبتُ على رجل في جانب الكوفة ‏(‏وكان عبد الله بن عتبة ساكناً بظاهر الكوفة‏)‏ فخرجتُ فلقيت عامراً أو مالك بن عوف فقلت‏:‏ كيف كان قول ابن مسعود في المتوفّى عنها زوجها وهي حامل، فقال‏:‏ قال ابن مسعود‏:‏ أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ‏(‏أي البقرة‏)‏‏.‏

وفي «البخاري» عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال‏:‏ أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس‏:‏ آخرُ الأجلين‏:‏ فقلتُ أنا ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ أنا مع ابن أخي ‏(‏أي مع أبي سلمة‏)‏ فأرسل ابن عباس كريباً إلى أمّ سلمة يسألها فقالت‏:‏ قُتل ‏(‏كذا والتحقيق أنه مات في حجة الوداع‏)‏ زَوج سُبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخُطِبت فأنكحها رسول الله‏.‏ وقد قال بعضهم‏:‏ إن ابن عباس رجع عن قوله‏.‏ ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة‏.‏

‏{‏حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ ‏{‏يُسْراً * ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً‏}‏‏.‏

تكرير للموعظة وهو اعتراض‏.‏ والقول فيه كالقول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ والمقصود موعظة الرجال والنساء على الأخذ بما في هذه الأحكام مما عسى أن يكون فيه مشقة على أحد بأن على كل أن يصبر لذلك امتثالاً لأمر الله فإن الممتثل وهو مسمى المتقي يجعل الله له يسراً فيما لحقه من عسر‏.‏

والأمر‏:‏ الشأن والحال‏.‏ والمقصود‏:‏ يجعل له من أمره العسير في نظره يسراً بقرينة جعل اليسر لأمره‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ للابتداء المجازي المراد به المقارنةُ والملابسة‏.‏

واليسر‏:‏ انتفاء الصعوبة، أي انتفاء المشاقّ والمكروهات‏.‏

والمقصود من هذا تحقيق الوعد باليسر فيما شأنه العسر لحث الأزواج على امتثال ما أمر الله به الزوج من الإِنفاق في مدة العدة ومن المراجعة وترك منزلِه لأجل سكناها إذا كان لا يسعهما وما أمر به المرأة من تربص أمد العدة وعدم الخروج ونحو ذلك‏.‏

والإِشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك أمر الله‏}‏ إلى الأحكام المتقدمة من أول السورة‏.‏ وهذه الجملة معترضة بين المتعاطفتين‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏أمر الله‏}‏‏:‏ حكمه وما شرعه لكم كما قال‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وإنزاله‏:‏ إبلاغه إلى الناس بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق عليه الإِنزال تشبيهاً لشرف معانيه وألفاظه بالشيء الرفيع لأن الشريف يتخيل رفيعاً‏.‏ وهو استعارة كثيرة في القرآن‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏أنزله‏}‏ استعارة مكنية‏.‏

والكلام كناية عن الحث على التهمّم برعايته والعمل به وبعث الناس على التنافس في العلم به إذ قد اعتنى الله بالناس حيث أنزل إليهم ما فيه صلاحهم‏.‏

وأعيد التحريض على العمل بما أمر الله بالوعد بما هو أعظم من الأرزاق وتفريج الكرب وتيسير الصعوبات في الدنيا‏.‏ وذلك هو تكفير للسيئات وتوفير للأجور‏.‏

والجملة معطوفة على الجملة المعترضة فلها حكم الاعتراض‏.‏

وجيء بالوعد من الشرط لتحقيق تعليق الجواب على شرطه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ‏}‏

هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية عتت‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 8‏]‏ الخ تشريع مستأنف فيه بيان لما أُجمل في الآيات السابقة من قوله‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو فارقوهن بمعروف‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ فتتنزّل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل‏.‏ وابتدئ ببيان ما في ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ من إجمال‏.‏

والضمير المنصوب في ‏{‏أسكنوهن‏}‏ عائد إلى النساء المطلقات في قوله‏:‏ ‏{‏إذا طلقتم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلاّ لفظ ‏{‏أولات الأحمال‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، ولكن لم يقل أحد بأن الإِسكان خاص بالمعتدّات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلّهن، وبذلك يشْمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل، لما علمتَه في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ ‏{‏إذا طلقتم النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعاً‏.‏ قال أشهب‏:‏ قال مالك‏:‏ يَخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل‏.‏ وروى ابن نافع قال مالك‏:‏ فأما التي لم تَبِنْ فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اه‏.‏ يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية‏.‏ ولا يريد أنها مستثناة من حكم الآية‏.‏ وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل‏:‏ لا سكنى للمطلقة طلاقاً بائناً‏.‏ ومتمسكهم في ذلك ما روته فاطمة بنت قَيس‏:‏ أن زوجها طلقها ثلاثاً وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة، وأنها رفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها‏:‏ ‏"‏ إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة ‏"‏ وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية فاطمة بنت قيس‏.‏ ولم يقبله عُمر بن الخطاب فقال‏:‏ لا نترك كتاب الله وسنة نبيئنا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شُبّه عليها‏.‏ وأنكرته عائشة على فاطمة بنت قيس فيما ذكرتْه من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم‏.‏

وروي أن عمر «روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للمطلقة البائنة سكنى»‏.‏ ورووا أن قتادة وابن أبي ليلى أخذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ إذ الأمر هو المراجعة، فقصَرا الطلاق في قوله‏:‏ ‏{‏إذا طلقتم النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ فاطمة بنت قيس المذكورة‏.‏

روى مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن الحديث فحدثته فقال مروان‏:‏ لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصْمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قولُ مروان فاطمة بنت قيس فقالت‏:‏ «بيني وبينكم القرآن، قال الله عزّ وجل‏:‏

‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن، إلى قوله‏:‏ لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ قالت‏:‏ هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث» اه‏.‏

ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصراً على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرقق قلوبهما فيرغبا معاً في إعادة المعاشرة بعقد جديد‏.‏ وعلى تسليم اقتصار ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام‏.‏ فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن، وهو قول جمهور العلماء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من حيث سكنتم‏}‏، أي في البيوت التي تسكنونها، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته‏.‏ وهذا تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خَرج المطلق منه وبقيت المطلقة، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ الواقعة في قوله‏:‏ ‏{‏من حيث سكنتم‏}‏ للتبعيض، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من وجدكم‏}‏ بدل مطابق، وهو بيان لقوله‏:‏ ‏{‏من حيث سكنتم‏}‏ فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالباً لمن لم يكن مقتراً على نفسه‏.‏

والوُجد‏:‏ مثلث الواو هو الوسع والطاقة‏.‏ وقرأه الجمهور بضم الواو‏.‏ وقرأه رَوْح عن يعقوب بكسرها‏.‏

‏{‏وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ‏}‏‏.‏

أتبع الأمر بإسكان المطلقات بنهي عن الإِضرار بهن في شيء مدة العدة من ضيق محلّ أو تقتير في الإِنفاق أو مراجعة يعقبها تطليق لتطويل العدة عليهن قصداً للكناية والتشفي كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏ أو للإِلجاء إلى افتدائها من مراجعته بخلع‏.‏

والضارة‏:‏ الإِضرار القوي فكأن المبالغة راجعة إلى النهي لا إلى المنهي عنه، أي هو نهي شديد كالمبالغة في قوله‏:‏ ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ في أنها مبالغة في النفي ومثله كثير في القرآن‏.‏

والمراد بالتضييق‏:‏ التضييق المجازي وهو الحرج والأذى‏.‏

واللام في ‏{‏لتضيقوا عليهن‏}‏ لتعليل الإِضرار وهو قيد جرى على غالب ما يعرض للمطلقين من مقاصد أهل الجاهلية، كما تقرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏ وإلا فإن الإِضرار بالمطلقات منهي عنه وإن لم يكن لقصد التضييق عليهن‏.‏

‏{‏عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ‏}‏‏.‏

ضمير ‏{‏كن‏}‏ يعود إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏أسكنوهن‏}‏ كما هو شأن ترتيب الضمائر، وكما هو مقتضى عطف الجمل، وليس عائداً على خصوص النساء الساكنات لأن الضمير لا يصلح لأن يكون معاداً لضمير آخر‏.‏

وظاهر نظم الآية يقتضي أن الحوامل مستحقات الإِنفاق دون بعض المطلقات أخذاً بمفهوم الشرط، وقد أخذ بذلك الشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى‏.‏

ولكن المفهوم معطل في المطلقات الرجعيات لأن إنفاقهن ثابت بأنهن زوجات‏.‏ ولذلك قال مالك‏:‏ إن ضمير ‏{‏أسكنوهن‏}‏ للمطلقات البوائن كما تقدم‏.‏

ومن لم يأخذ بالمفهوم قالوا‏:‏ الآية تعرضت للحوامل تأكيداً للنفقة عليهن لأن مدة الحمل طويلة فربما سئم المطلق الإِنفاق، فالمقصود من هذه الجملة هو الغاية التي بقوله‏:‏ ‏{‏حتى يضعن حملهن‏}‏ وجعلوا للمطلقة غير ذات الحمل الإِنفاق‏.‏ وبه أخذ أبو حنيفة والثوري‏.‏ ونسب إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما‏.‏

وهذا الذي يرجح هو هذا القول وليس للشرط مفهوم وإنما الشرط مسوق لاستيعاب الإِنفاق جميع أمد الحمل‏.‏

‏{‏حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَھَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ‏}‏‏.‏

لما كان الحمل ينتهي بالوضع انتُقل إلى بيان ما يجب لهن بعد الوضع فإنهن بالوضع يصرن بائنات فتنقطع أحكام الزوجية فكان السامع بحيث لا يدري هل يكون إرضاعها ولدها حقاً عليها كما كان في زمن العصمة أو حقاً على أبيه فيعطيها أجر إرضاعها كما كان يعطيها النفقة لأجل ذلك الولد حين كان حملاً‏.‏ وهذه الآية مخصصة لقوله في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن‏}‏ الآية‏.‏

وأفهم قوله‏:‏ لكم‏}‏ أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإِنفاق والأُم ترضع ولدها في العصمة تبعاً لإِنفاق أبيه عليها عند مالك خلافاً لأبي حنيفة والشافعي، إذ قالا‏:‏ لا يجب الإِرضاع على الأم حتى في العصمة فلما انقطع إنفاق الأب عليها بالبينونة تمحضت إقامة غذاء ابنه عليه فإن أرادت أن ترضعه فهي أحق بذلك، ولها أجل الإِرضاع وإن أبت فعليه أن يطلب ظئراً لابنه فإن كان الطفلُ غير قابل ثديَ غير أمه وجب عليها إرضاعه ووجب على أبيه دفع أجرة رضاعه‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ يجب إرضاع الابن على أمه ولو بعدَ البينونة‏.‏ نقله عند أبُو بكر ابن العربي في «الأحكام» وهو عجيب‏.‏ وهذه الآية أمامه‏.‏

والائتمار‏:‏ التشاور والتداول في النظر‏.‏ وأصله مطاوع أمره لأن المتشاورين يأمر أحدهما الآخر فيأتمر الآخر بما أمره‏.‏ ومنه تسمية مجامع أصحاب الدعوة أو النحلة أو القصد الموحّد مؤتمراً لأنه يقع الاستئمار فيه، أي التشاور وتداول الآراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأتمروا بينكم‏}‏ خطاب للرجال والنساء الواقع بينهم الطلاق ليتشاوروا في أمر إرضاع الأمّ ولدها‏.‏ وما يبذله الأب لها من الأجرة على ذلك‏.‏

وقيدَ الائتمارُ بالمعروف، أي ائتماراً ملابساً لما هو المعروف في مثل حالهم وقومهم، أي معتاد مقبول، فلا يشتَطّ الأب في الشحّ ولا تشتط الأم في الحرص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى‏}‏ عتاب وموعظة للأب والأمّ بأن ينزّل كل منهما نفسه منزلة ما لو اجتُلبت للطفل ظِئر، فلا تسأل الأمُّ أكثر من أجر أمثالها، ولا يشحّ الأب عما يبلغ أجرَ أمثال أمّ الطفل، ولا يسقط حق الأمّ إذا وجد الأب من يرضع له مجاناً لأن الله قال‏:‏ ‏{‏فسترضع له أخرى‏}‏ وإنما يقال‏:‏ أرضعت له، إذا استؤجرت لذلك، كما يقال‏:‏ استرضَع أيضاً، إذا آجر من يرضع له ولده‏.‏ وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم‏}‏ ‏[‏233‏]‏ الآية‏.‏

والتعاسر صدور العسر من الجانبين‏.‏ وهو تفاعل من قولكم‏:‏ عسرتُ فلاناً، إذا أخذته على عسره، ويقال‏:‏ تعاسر البيِّعان إذا لم يتفقا‏.‏

فمعنى تعاسرتم‏}‏ اشتدّ الخلاف بينكم ولم ترجعوا إلى وفاق، أي فلا يبقى الولد بدون رضاعة‏.‏

وسين الاستقبال مستعمل في معنى التأكيد، كقوله‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏.‏ وهذا المعنى ناشئ عن جعل علامة الاستقبال كنايَة عن تجدد ذلك الفعل في أزمنة المستقبل تحقيقاً لتحصيله‏.‏

وهذا الخبر مستعمل كناية أيضاً عن أمر الأب باستئجار ظئر للطفل بقرينة تعليق له‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فسترضع‏}‏‏.‏

فاجتمع فيه ثلاث كنايات‏:‏ كناية عن موعظة الأب، وكناية عن موعظة الأم، وكناية عن أمر الأب بالاسترضاع لولده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

تذييل لما سبق من أحكام الإِنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعمّ ذلك‏.‏ ويعم كل إنفاق يطالَب به المسلم من مفروض ومندوب، أي الإِنفاق على قدر السعة‏.‏

والسَّعة‏:‏ هي الجِدَة من المال أو الرزق‏.‏

والإِنفاق‏:‏ كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يُحتاج إليه‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ هنا ابتدائية لأن الإِنفاق يصدر عن السعة في الإِعتبار، وليست ‏{‏من‏}‏ هذه ك ‏(‏مِن‏)‏ التي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 3‏]‏ لأن النفقة هنا ليست بعضاً من السعة، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون ‏(‏مِن‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فلينفق مما آتاه الله‏}‏ تبعيضية‏.‏

ومعنى ‏{‏قدر عليه رزقه‏}‏ جعل رزقه مقدوراً، أي محدوداً بقدر معين وذلك كناية عن التضييق‏.‏ وضده ‏{‏يرزقون فيها بغير حساب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 40‏]‏، يقال‏:‏ قدر عليه رزقه، إذا قتّره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ وتقدم في سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإِنفاق ومراتبه في التقديم‏.‏ وهذا مُجمَل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط، قال النبي لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان‏:‏ خذي من ماله ما يكفيك وولدَك بالمعروف‏.‏

والمعروف‏:‏ هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة‏.‏

والرزق‏:‏ اسم لما ينتفع به الإِنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل‏.‏ سواء كان أعياناً أو أثماناً‏.‏ ويطلق الرزق كثيراً على الطعام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏‏.‏

ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس والأزمان والبلاد‏.‏ وإنما اختلفوا في التوسع في الإِنفاق في مال المؤسر هل يقضَى عليه بالتوسعة على من يُنفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافاً في أحوال الناس وعوائدهم ولا بدّ من اعتبار حال المنفَق عليه ومعتاده، كالزوجة العالية القَدر‏.‏ وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند‏:‏ «ما يكفيك وولدَك بالمعروف»‏.‏

وجملة ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها‏}‏ تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله‏}‏‏.‏ لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وهي قبل سورة الطلاق‏.‏

والمقصود منه إقناع المنفَق عليه بأن لا يطلب من المنفِق أكثر من مقدُرته‏.‏ ولهذا قال علماؤنا‏:‏ لا يطلَّق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفَق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشظف، أي دون ضر‏.‏

ومما آتاه الله‏}‏ يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان مَن يجب عليه الإِنفاق قادراً على الاكتساب لِينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمِّل له ما ضاق عنه ماله، يجبر على الاكتساب‏.‏

وأما من لا قدرة له على الاكتساب وليس له ما ينفق منه فنفقته أو نفقة من يجب عليه إنفاقُه على مراتبها تكون على بيت مال المسلمين‏.‏ وقد قال عمر بن الخطاب‏:‏ «وأن رب الصريمة ورب الغُنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أينا»، رواه مالك في «الموطأ»‏.‏

وفي عجز الزوج عن إنفاق زوجه إذا طلبت الفراق لعدم النفقة خلاف‏.‏ فمن الفقهاء من رأى ذلك موجباً بينهما بعد أجللِ رجاء يسر الزوج وقُدر بشهرين، وهو قول مالك‏.‏ ومنهم من لم ير التفريق بين الزوجين بذلك وهو قول أبي حنيفة، أي وتنفَق من بيت مال المسلمين‏.‏

والذي يقتضيه النظر أنه إن كان بيت المال قائماً فإن من واجبه نفقة الزوجين المعسرين وإن لم يُتوصل إلى الإِنفاق من بيت المال كان حقاً أن يفرِّق القاضي بينهما ولا يترك المرأة وزوْجها في احتياج‏.‏ ومحل بسط ذلك في مسائل الفقه‏.‏

وجملة ‏{‏سيجعل الله بعد عسر يسراً‏}‏ تكملة للتذييل فإن قوله‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها‏}‏ يناسب مضمون جملة ‏{‏لينفق ذو سعة من سعته‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سيجعل الله‏}‏ الخ تُناسب مضمون ‏{‏ومن قدر عليه رزقه‏}‏ الخ‏.‏ وهذا الكلام خبر مستعمل في بعث الترجّي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال‏.‏ ومعناه‏:‏ عسى أن يجعل الله بعد عُسركم يُسراً لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسراً‏.‏ وهذا الخبر لا يقتضي إلا أنّ من تصرفات الله أن يجعل بعد عسر قوم يسراً لهم، فمن كان في عسر رجَا أن يكون ممن يشمله فضل الله، فيبدل عسره باليسر‏.‏

وليس في هذا الخبر وعْد لكل معسر بأن يصير عُسره يُسراً‏.‏ وقد يكون في المشاهدة ما يخالف ذلك فلا فائدة في التكلف بأن هذا وعد من الله للمسلمين الموحدين يومئذٍ بأن الله سيبدل عسرهم باليسر، أو وعد للمُنفقين الذين يمتثلون لأمر الله ولا يشحّون بشيء مما يسعه مالهم‏.‏ وانظر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن مع العسر يسراً‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ومن بلاغة القرآن الإِتيان ب ‏(‏عسر ويسراً‏)‏ نكرتين غير معرفين باللام لئلا يتوهم من التعريف معنى الاستغراق كما في قوله‏:‏ ‏{‏فإن مع العسر يسراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

لما شُرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاف ولَواحِقه، وكانت كلها تكاليف قد تحجُم بعضُ الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلاً أو تقصيراً رغّب في الامتثال لها بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجاً يُسْراً * وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سيجعل الله بعد عسر يسراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله‏:‏ ‏{‏وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم، لأن الصغير يُثير الجليل، فذكَّر المسلمين ‏(‏وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم‏)‏ بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة، فيلقي بهم ذلك في مَهواة الضلال‏.‏

وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله يا أولي الألباب‏}‏ الآيات‏.‏ فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض‏.‏

و ‏{‏كأيّن‏}‏ اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و‏{‏كأيّن‏}‏ بمعنى ‏(‏كَم‏)‏ الخبرية‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأيّن من نبيء قتل معه ربيون كثير‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏‏.‏

والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم‏.‏

وكأيّن‏}‏ في موضع رفع على الابتداء، وهو مبني‏.‏

وجملة ‏{‏عتت عن أمر ربها‏}‏ في موضع الخبر ل ‏{‏كأيّن‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ الإِخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فُرع عليه من قوله‏:‏ ‏{‏فحاسبناها‏}‏ فالمفرع هو المقصود من الخبر‏.‏

والمراد بالقرية‏:‏ أهلها على حد قوله‏:‏ ‏{‏واسأل القرية التي كنا فيها‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ بقرينة قوله عَقب ذلك ‏{‏أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏ إذ جيء بضمير جمع العقلاء‏.‏

وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضاً بالمشركين من أهل مَكة ومشايعةً لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم‏.‏

والعتوّ ويقال العُتِيّ‏:‏ تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد‏.‏

وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف ‏{‏عن‏}‏‏.‏

والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب، تشبيهاً لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين، وهو الحساب في الدنيا، ولذلك جاء ‏{‏فحاسبناها‏}‏ و‏{‏عذبناها‏}‏ بصيغة الماضي‏.‏

والمعنى‏:‏ فجازيناها على عتوّها جزاءً يكافئ طغيانها‏.‏

والعذاب النُكُر‏:‏ هو عذاب الاستئصال بالغرق، والخسف، والرجم، ونحو ذلك‏.‏

وعطفُ العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإِنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به‏.‏

ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة‏.‏ وشدته قوة المناقشة فيه والانتهارُ على كل سيئة يحاسبون عليها‏.‏

والعذاب‏:‏ عذاب جهنم، ويكون الفعل الماضي مستعملاً في معنى المستقبل تشبيهاً للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والنُكُر بضمتين، وبضم فَسكون‏:‏ ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكاراً شديداً‏.‏

وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوبُ ‏{‏نكُراً‏}‏ بضمتين‏.‏ وقرأه الباقون بسكون الكاف‏.‏ وتقدم في سورة الكهف‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فذاقت وبال أمرها‏}‏ لتفريع ‏{‏فحاسبناها‏}‏ ‏{‏وعذبناها‏}‏‏.‏

والذَّوق‏:‏ هنا الإِحساس مطلقاً، وهو مجاز مرسل‏.‏

والوبيل‏:‏ صفة مشبهة‏.‏ يقال‏:‏ وَبُل ‏(‏بالضم‏)‏‏:‏ المرعى، إذا كان كَلأُه وخيماً ضاراً لما يرعاه‏.‏

والأمر‏:‏ الحال والشأن، وإضافة الوَبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه‏.‏

وعاقبة الأمر‏:‏ آخره وأثره‏.‏ وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏‏.‏

وشبهت عاقبتهم السّوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضَوْا أنفسهم بإعْراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فلما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره‏.‏

وجيء بفعل ‏{‏كان‏}‏ بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليباً‏.‏ وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه‏.‏

وجملة ‏{‏أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏وكان عاقبة أمرها خسراً‏}‏ أو بدلَ بعض من كل‏.‏

والمراد عذاب الآخرة لأن الإِعداد التهيئة وإنما يهيَّأ الشيء الذي لم يحصل‏.‏

وإن جعلتَ الحساب والعذاب المذكورين آنفاً حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفاً فجملة ‏{‏أعد الله لهم عذاباً شديداً‏}‏ استئنافاً لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله‏:‏ ‏{‏فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 30‏]‏‏.‏

‏(‏هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله‏:‏ ‏{‏وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله‏}‏‏.‏

وفي نداء المؤمنين بوصف ‏{‏أولي الألباب‏}‏ إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني، ولأن فوائدها حقيقية دائمة، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏

‏{‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أولي‏}‏ معناه ذوي، وتقدم بيانه عند قوله‏:‏ ‏{‏واللائي يئسن من المحيض‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ آنفاً و‏{‏الذين آمنوا‏}‏ بدل من ‏{‏أولي الألباب‏}‏‏.‏ وهذا الاتباع يومئ إلى أن قبولهم الإِيمان عنوان على رجاحة عقولهم‏.‏ والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإِيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها‏.‏

لله‏.‏

في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏{‏قدءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات لِّيُخْرِجَ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم

والذكر‏:‏ القرآن‏.‏ وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ في سورة ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول بواسطة الملك واستعير له الإِنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة‏.‏

وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم‏.‏

وقوله‏:‏ رسولاً‏}‏ بدل من ‏{‏ذكراً‏}‏ بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمةً وملابسةً فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه، فقد أُعمل فعل ‏{‏أنزل‏}‏ في ‏{‏رسولاً‏}‏ تبعاً لإِعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر‏.‏ وهذا كما أبدل ‏{‏رسول من الله‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 2‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏حتى تأتيهم البينة في سورة البينة ‏(‏1‏)‏‏.‏

والرسول‏:‏ هو محمد‏.‏

وأما تفسير الذكر بجبريل، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال رسولاً‏}‏ منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك، وكذلك تفسير الذكر بجبريل‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏رسولاً‏}‏ مفعولاً لفعل محذوف يدل عليه ‏{‏أنزل الله‏}‏ وتقديره‏:‏ وأرسل إليكم رسولاً، ويكون حذفه إيجازاً إلاّ أن الوجه السابق أبلغ وأوجز‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ‏{‏مبينات‏}‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأه الباقون بكسرها ومَآل القراءتين واحد‏.‏

وجعلت علة إنزال الذكر إخراجَ المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإِيمان والأعمال الصالحات، نظراً لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماماً بشأنهم‏.‏

وليس ذلك بدالّ على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر‏.‏ وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف‏.‏

‏{‏النور وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ‏}‏‏.‏

عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيّد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات‏.‏

و ‏{‏صالحاً‏}‏ نعت لموصوف محذوف دل عليه ‏{‏يعمل‏}‏ أي عملاً صالحاً، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته إياه في سياق النفي‏.‏ فالمعنى‏:‏ ويعمل جميع الصالحات، أي المأمور بها أمراً جازماً بقرينة استقراء أدلة الشريعة‏.‏

وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن‏.‏

وجملة ‏{‏قد أحسن الله له رزقاً‏}‏ حال من الضمير المنصوب في ‏{‏ندخله‏}‏ ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها‏.‏

والرزق‏:‏ كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم، أي رزقاً عظيماً‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ‏{‏ندخله‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله‏:‏ ‏{‏ومن يؤمن بالله‏}‏ وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هو الله‏.‏ وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي، فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله ربكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ إلى هنا، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإِسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يُزاد تعريف الناس بهذا العظيم، ولمَّا صار البساط مِليئاً بذكر اسمه صح حذفه عند الإِخبار عنه إيجازاً وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ في سورة مريم ‏(‏65‏)‏، وكذلك عند قوله‏:‏ صم بكم عمي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مقام إبراهيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏125‏.‏

‏(‏فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذُكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده، فعليهم أن يتقوه، ولا يتعدوا حدوده، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه‏.‏

وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض‏.‏

والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة، وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى في سورة نوح ‏(‏15‏)‏‏:‏ ‏{‏ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً‏}‏

وقوله‏:‏ ومن الأرض مثلهن‏}‏ عطف على ‏{‏سبع سموات‏}‏ وهو يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون المعطوف قوله‏:‏ ‏{‏من الأرض‏}‏ على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف ‏{‏مِن‏}‏ مزيداً للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة ‏{‏من‏}‏ أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيراً في الكلام، وعدمُ الكثرة لا ينافي الفصاحة، والتقدير‏:‏ وخلق الأرض، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏مثلهن‏}‏ حالاً من ‏{‏الأرض‏}‏‏.‏

ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى، أي أن خلْق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة‏.‏

وهذا أظهر ما تُؤَوَّلُ به الآية‏.‏

وفي إفراد لفظ ‏{‏الأرض‏}‏ دون أن يُؤتى به جمعاً كما أُتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون المعطوف ‏{‏مثلهن‏}‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏ومن الأرض‏}‏ بياناً للمثل فمصدق ‏{‏مثلهن‏}‏ هو ‏{‏الأرض‏}‏‏.‏ وتكون ‏{‏مِن‏}‏ بيانية وفيه تقديم البيان على المبيّن، وهو وارد غير نادر‏.‏

فيجوز أن تكون مماثلة في الكُروية، أي مثل واحدة من السماوات، أي مثل كوكب من الكواكب السبعة في كونها تسير حول الشمس مثل الكواكب فيكون ما في الآية من الإِعجاز العلمي الذي قدمنا ذكره في المقدمة العاشرة‏.‏

وجمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا‏:‏ إن الأرض سبع طبقات فمنهم من قال هي سبع طبقات مُنبسطة تفرق بينها البحار‏.‏

وهذا مروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، ومنهم من قال هي سبع طباق بعضُها فوق بعض وهو قول الجمهور‏.‏ وهذا يقرب من قول علماء طبقات الأرض ‏(‏الجيولوجيا‏)‏، من إثبات طبقات أرضية لكنها لا تصل إلى سبع طبقات‏.‏

وفي «الكشاف» «قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه» اه‏.‏ وقد علمت أنها لا دلالة فيها على ذلك‏.‏

وقال المازري في كتابه «المُعلم» على «صحيح مسلم» عند قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشفعة‏:‏ «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه من سبع أرضين يوم القيامة»‏.‏

كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد كتب إليّ بعدَ فراقي له‏:‏ هل وقع في الشرع عما يدل على كون الأرض سبعاً، فكتبت إليه قولُ الله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن‏}‏ وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إليّ يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد‏.‏ وأن الخبر من أخبار الآحاد، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظواهر وأخبارِ الآحاد، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطتُ القول في ذلك وترددتُ في آخر كتابي في احتماللِ ما قال‏.‏ فقطع المجاوبة اه‏.‏

وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله‏:‏ ‏{‏مثلهن‏}‏ راجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم، وأما الحديث فإنه في شأن من شؤون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفاً سبع مرات في الغِلظ والثقل، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة‏.‏ ولو كان المراد طبقات معلومة لقال‏:‏ طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف‏.‏ وكلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري‏.‏

وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله‏:‏ ‏{‏ومن الأرض مثلهن‏}‏ من المماثلة في عدد السبع، فيجوز أن يقال‏:‏ إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحار نسميها القارات ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخَر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقّل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولاً‏.‏ ‏!‏ وهي أن آسيا مع أوروبا قارة، وإفريقيا قارة، وأستراليا قارة، وأميركا الشمالية قارة، وأميركا الجنوبية قارة، وجرولندة في الشمال، والقارة القطبية الجنوبية‏.‏ ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار، وتكون ‏{‏من‏}‏ تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏لم تحرم‏}‏ مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ اللَّه لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاماً بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصداً بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأْنَ عليه لِفرط غيرتهن، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام‏.‏

وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعَى‏.‏

وفعل ‏{‏تحرم‏}‏ مستعمل في معنى‏:‏ تجعل ما أحلّ لك حراماً، أي تحرّمه على نفسك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما حرم إسرائيل على نفسه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏ وقرينتهُ قوله هنا‏:‏ ‏{‏ما أحل الله لك‏}‏‏.‏

وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراماً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال‏:‏ وسِّعْ هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط‏:‏ وسِّعْ طَوْق الجبّة‏.‏

ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حراماً على الناس أو عليك‏.‏ ومن العجيب قول «الكشاف»‏:‏ ليس لأحد أن يُحرّم ما أحلّ الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله إلخ‏.‏

وصيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏لم تحرم‏}‏ لأنه أوقع تحريماً متجدداً‏.‏

فجملة ‏{‏تبتغي‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تحرم‏}‏‏.‏ فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله‏:‏ ‏{‏لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 130‏]‏‏.‏

وفي الإِتيان بالموصول في قوله‏:‏ ‏{‏ما أحل الله لك‏}‏ لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏تبتغي مرضات أزواجك‏}‏ عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيراً وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضاً وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارَض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة‏.‏

وذيل بجملة ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ استئناساً للنبيء صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله‏:‏ ‏{‏عفا الله عنك لما أذنت لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

استئناف بياني بيّن الله به لنبيئه صلى الله عليه وسلم أن له سعة في التحلل مما التزم تحريمه على نفسه، وذلك فيما شرع الله من كفارة اليمين فأفتاه الله بأن يأخذ برخصته في كفارة اليمين المشروعة للأمة كلها ومن آثار حكم هذه الآية ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس بعد أن استحملوه وحلف أن لا يحملهم إذ ليس عنده ما يحملهم عليه، فجاءه ذود من إبل الصدقة فقال لهم‏:‏ «وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير»‏.‏

وافتتاح الخبر بحرف التحقيق لتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من لا يعلم أن الله فرض تَحِلَّة الأيمان بآية الكفارة بناء على أنه لم يأخذ بالرخصة تعظيماً للقَسَم‏.‏ فأعلمه الله أن الأخذ بالكفارة لا تقصير عليه فيه فإن في الكفارة ما يكفي للوفاء بتعظيم اليمين بالله إلى شيء هذا قوله تعالى في قصة أيوب ‏{‏وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ كما ذكرناه في تفسيرها و‏{‏فرض‏}‏ عيَّن ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ فرض له في العطاء والمعنى‏:‏ قد بيَّن الله لكن تحلة أيمانكم‏.‏

واعلم أنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه في تلك الحادثة إلا أنه التزم أن لا يعود لشرب شيء عند بعض أزواجه في غير يوم نوبتها أو كان وعد أن يحرّم مارية على نفسه بدون يمين على الرواية الأخرى‏.‏ كان ذلك غير يمين فكان أمرُ الله إياه بأن يكفر عن يمينه إما لأن ذلك يجري مجرى اليمين لأنه إنما وعد لذلك تطميناً لخاطر أزواجه فهو التزام لهن فكان بذلك ملحقاً باليمين وبذلك أخذ أبو حنيفة ولم يره مالك يميناً ولا نذراً فقال في «الموطأ»‏:‏ ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ‏"‏ أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر مما ليس لله بطاعة إن كلم فلاناً، فليس عليه في ذلك شيء إنْ هو كلّمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة فإن حَلف فقال‏:‏ «والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب فإنما عليه كفارة يمين» اه‏.‏

وقد اختلف هل كفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه تلك‏.‏

فالتحلّة على هذا التفسير عند مالك هي‏:‏ جعل الله ملتزم مثل هذا في حلِّ مننِ التزاممِ ما التزمه‏.‏ أي مُوجب التحلل من يمينه‏.‏

وعند أبي حنيفة‏:‏ هي ما شرعه الله من الخروج من الأيمان بالكفارات وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم صدر منه يمين عند ذلك على أن لا يعود فتحِلَّة اليمين هي الكفارة عند الجميع‏.‏

وجملة ‏{‏والله مولاكم‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏‏.‏ والمولى‏:‏ الولي، وهو الناصر ومتولي تدبير ما أضيف إليه، وهو هنا كناية عن الرؤوف والميسّر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وعطف عليها جملة ‏{‏وهو العليم الحكيم‏}‏ أي العليم بما يصلحكم فيحملكم على الصواب والرشد والسداد وهو الحكيم فيما يشرعه، أي يجري أحكامه على الحكمة‏.‏ وهي إعطاء الأفْعال ما تقتضيه حقائقها دون الأوهام والتخيلات‏.‏

واختلف فقهاء الإِسلام فيمن حرّم على نفسه شيئاً مما أحل الله له على أقوال كثيرة أنهاها القرطبي إلى ثمانية عشر قولاً وبعضها متداخل في بعض باختلاف الشروط والنيات فتؤول إلى سبعة‏.‏

أحدها‏:‏ لا يلزمه شيء سواء كان المحرَّم زوجاً أو غيرها‏.‏ وهو قول الشعبي ومسروق وربيعة من التابعين وقاله أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك‏.‏

الثاني‏:‏ تجب كفارة مثل كفارة اليمين‏.‏ وروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعي والشافعي في أحد قوليه‏.‏ وهذا جار على ظاهر الآية من قوله‏:‏ ‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏‏.‏

الثالث‏:‏ لا يلزمه في غير الزوجة وأما الزوجة فقيل‏:‏ إن كان دخل بها كان التحريم ثلاثاً، وإن لم يدخل بها ينوّ فيما أراد وهو قول الحسن والحكم ومالك في المشهور‏.‏ وقيل هي ثلاث تطليقات دخل بها أم لم يدخل‏.‏ ونسب إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة‏.‏ وقاله ابن أبي ليلى وهو عند عبد الملك بن الماجشون في «المبسوط»‏.‏ وقيل طلقة بائنة‏.‏ ونسب إلى زيد بن ثابت وحماد بن سليمان ونسبه ابن خُويز منداد إلى مالك وهو غير المشهور عنه‏.‏ وقيل‏:‏ طلقة رجعية في الزوجة مطلقاً، ونسب إلى عمر بن الخطاب فيكون قيداً لما روي عنه في القول الثاني‏.‏ وقاله الزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون، وقال الشافعي يعني في أحد قوليه‏:‏ إن نوى الطلاق فعليه ما نوى من أعداده وإلا فَهي واحدة رجعية‏.‏ وقيل‏:‏ هي ثلاث في المدخول بها وواحدة في التي لم يدخل بها دون تنوية‏.‏

الرابع‏:‏ قال أبو حنيفة وأصحابه إن نوى بالحرام الظهار كان ما نوى فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن يكون نوى الثلاث‏.‏ وإن لم ينو شيئاً كانت يميناً وعليه كفارة فإنْ أباها كان مولياً‏.‏

وتحريم النبي صلى الله عليه وسلم سريته مارية على نفسه هو أيضاً من قبيل تحريم أحد شيئاً مما أحلّ الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله‏:‏ ‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏ جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق‏.‏ و‏{‏تحلة‏}‏ تفعِلة مِن حلَّل جعل الفعل حلالاً‏.‏ وأصله تَحْلِلة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبيء صلى الله عليه وسلم بما حرّم على نفسه من جرَّائهما‏.‏

وهو معطوف على جملة ‏{‏يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏ بتقدير واذكر‏.‏

وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمناً بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبن عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب، ومكارم وتنبيه وتحذير‏.‏

فاشتملت هذه الآيات على عشرين معنى من معاني ذلك‏.‏ إحداها ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏إلى بعض أزواجه‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فلما نبأت به‏}‏‏.‏

والثالث‏:‏ ‏{‏وأظهره الله عليه‏}‏‏.‏

الرابع‏:‏ ‏{‏عرف بعضه‏}‏‏.‏

الخامس‏:‏ ‏{‏وأعرض عن بعض‏}‏‏.‏

السادس‏:‏ ‏{‏قالت من أنبأك هذا‏}‏‏.‏

السابع‏:‏ ‏{‏قال نبأني العليم الخبير‏}‏‏.‏

الثامن والتاسع والعاشر‏:‏ ‏{‏إن تتوبا إلى الله إلى فإن الله هو مولاه‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر‏:‏ ‏{‏وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

الرابع عشر والخامس عشر‏:‏ ‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

السادس عشر‏:‏ ‏{‏خيراً منكن‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

‏(‏السابع عشر‏:‏ ‏{‏مسلمات‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ إلخ‏.‏

الثامن عشر‏:‏ ‏{‏سائحات‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

التاسع عشر‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏، وسيأتي بيانها عند تفسير كل آية منها‏.‏

العشرون‏:‏ ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان ‏{‏بعض أزواجه‏}‏ دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعِر به أنها المقصودة باللوم‏.‏

وإنما نبّأها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل‏.‏

والحديث هو ما حصل من اختلاء النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة‏:‏ «هي عليّ حرام ولا تخبري عائشة» وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسرّ إليها‏.‏

والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السرّ غير قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بعض ما أحلّ له‏.‏

ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نَبأتْها حفصة هي عائشة‏.‏ وفي «الصحيح» عن ابن عباس قال‏:‏ مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين مَن اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه‏؟‏ فقال‏:‏ تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها‏.‏

وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه ثم شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله‏.‏

و ‏{‏أسر‏}‏ أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخباراً وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوّه فيقوله صاحبه سرّاً والسرّ ضد الجهر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلم ما تسرون وما تعلنون‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 4‏]‏ فصار ‏{‏أسر‏}‏ يطلق بمعنى الوصاية بعدم الإِفشاء، أي عدم الإِظهار قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏‏.‏

و ‏{‏أسر‏}‏‏:‏ فعل مشتق من السرّ فإن الهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا سرّ، يقال‏:‏ أسرّ في نفسه، إذا كتم سرّه‏.‏ ويقال‏:‏ أسرّ إليه، إذا حدثه بسرّ فكأنه أنهاه إليه، ويقال‏:‏ أسرّ له إذا أسرّ أمراً لأجله، وذلك في إضمار الشر غالباً وأسرّ بكذا، أي أخبر بخبر سرّ، وأسرّ، إذا وضع شيئاً خفياً‏.‏ وفي المثَل «يُسِرّ حَسْواً في ارتغاء»‏.‏

و ‏{‏بعض أزواجه‏}‏ هي حفصة بنت عمر بن الخطاب‏.‏ وعدل عن ذكر اسمها ترفعاً عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما فيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به‏.‏ وكذلك طي تعيين المنبَّأة بالحديث وهي عائشة‏.‏

وذكرت حفصة بعنوان بعض أزواجه للإِشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع سِرّه في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سرّ الرجل زوجهُ‏.‏ وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سرّه لأن واجب المرأة أن تحفظ سرّ زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يجب حفظه‏.‏

وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفاً‏.‏

ونبَّأ‏:‏ بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما‏:‏ أخبر، وقد جمعهما قوله‏:‏ ‏{‏فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير‏}‏‏.‏

وقد قيل‏:‏ السرّ أمانة، أي وإفشاؤه خيانة‏.‏

وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة‏:‏ «جَارية أبي زرع فَما جارية أبي زرع لا تَبث حديثنا تبثيثاً ولا تنفث ميرثنا تنفيثاً»‏.‏

وكلام الحكماء والشعراء في السرّ وحفظه أكثر من أن يحصى‏.‏ وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها‏.‏

ومعنى و‏{‏وأظهره الله عليه‏}‏ أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب‏.‏

استعير الإِظهار إلى الإِطْلاَع لأن إطلاع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على السرّ الذي بين حفصة وعائشة كان غلبةً له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سرّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن علمه بذلك بحال من يغالب غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره فالإِظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار‏.‏ وليس هو من الظهور ضد الخفاء، لأنه لا يتعدى بحرف ‏(‏على‏)‏‏.‏

وضمير ‏{‏عليه‏}‏ عائد إلى الإِنباء المأخوذ من ‏{‏نبأت به‏}‏ أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏نبأت به‏}‏ تقديره‏:‏ أظهره الله على إفشائه‏.‏

وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه، عناية ونصح له‏.‏

وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفاً‏.‏

ومعفول ‏{‏عرف‏}‏ الأولُ محذوف لدلالة الكلام عليه، أي عرفها بعضه، أي بعض ما أطْلعه الله عليه، وأعرض عن تعريفها ببعضه‏.‏ والحديث يحتوي على أشياء‏:‏ اختلاء النبي بسريته مارية، وتحريمها على نفسه، وتناوله العسل في بيت زينب، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك، وربّما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريحهن من ميله إلى مارية‏.‏ وإنما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سرّ زوجها‏.‏

وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها‏.‏

وإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعضَ ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه‏.‏

قال سفيان‏:‏ ما زَال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن‏:‏ ما استقصى كريمٌ قط، وما زاد على المقصود بقلب العتاب من عتاب إلى تقريع‏.‏

وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفاً‏.‏

وقولها‏:‏ ‏{‏من أنبأك هذا‏}‏ يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرّها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين‏.‏

والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجب من علمه بذلك‏.‏

وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سرّ زوجها زَلة خُلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها، فلم تتمالك عن أن تبشر به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سرّ زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإِخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإِخلاص للخلائل‏.‏

وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفاً‏.‏

وإيثار وصفي ‏{‏العليم الخبير‏}‏ هنا دون الاسم العَلَم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علماً وخُبْراً بكل شيء‏.‏

و ‏{‏العليم‏}‏‏:‏ القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دالّ على أكمل العلم، أي العلم المحيط بكل معلوم‏.‏

و ‏{‏الخبير‏}‏‏:‏ أخص من العليم لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يُقال خبرته، أي بلوته وتطلعتُ بواطن أمره، قال ابن بُرَّجان ‏(‏بضم الموحدة وبجيم مشددة‏)‏ في «شرح الأسماء»‏:‏ «الفرق بين الخُبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه وأضِف ذلك إلى تلك الصفة وسَم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حَصَلَتْ فمتى حصلت من موضع الحُضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد‏.‏

وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير‏.‏ وكذلك إن حصَلت من عِلْم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبُور عن باطنه بِبَلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبْر‏.‏ والمسمّى به الخبير» اه‏.‏ وقال الغزالي في «المقصد الأسنى»‏:‏ «العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خِبرة وسمي صاحبها خبيراً اه»‏.‏

فيتضح أن أتباع وصف ‏{‏العليم‏}‏ بوصف ‏{‏الخبير‏}‏ إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السرّ للأخرى‏.‏

وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسول صلى الله عليه وسلم على ما غاب إن شاء قال تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26، 27‏]‏ وتنبيهاً على ما أبطنته من الأمر‏.‏

وهو الأدب السابع من آداب هذه الآيات‏.‏

واعلم أن نبّأ وأنبأ مُترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف‏.‏ وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم‏.‏ والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو‏:‏ نَبأتُ به‏.‏ وقد يحذف حرف الجر فيعدّيان إلى مفعولين، كقوله هنا‏:‏ ‏{‏من أنبأك هذا‏}‏ أي بهذا، وقول الفرزدق‏:‏

نبئت عبد الله بالجو أصبحت *** كراماً مواليها لآماً ما صميمها

حمله سيبويه على حذف الحرف‏.‏

وقد يضمنان معنى‏:‏ اعلم، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة‏:‏

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها *** يهدي إليّ غرائب الأشعار

ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما ب ‏(‏اعلم‏)‏ إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألْحَق الفراء خبّر وأخبر، وألحق الكوفيون حدَّث‏.‏

قال زكريا الأنصاري‏:‏ لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏عرف‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأه الكسائي ‏{‏عَرَف‏}‏ بتخفيف الراء، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم‏.‏ ونحوه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وقول العرب للمسيء‏:‏ لأعرفن لك هذا‏.‏ وقولك‏:‏ لقد عرفت ما صنعت‏.‏